من هو «الدّاخلي»
- شيخ الإِمام البخاريّ؟
قَالَ مُحَمَّد بن أَبِي حَاتِمٍ ورّاق الإمام البخاري: قُلْتُ
لأَبِي عَبْدِاللهِ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ أَمرِكَ؟
قَالَ: أُلْهِمْتُ حِفْظَ الحَدِيْثِ وَأَنَا فِي الكُتَّابِ.
فَقُلْتُ: كم كَانَ سِنُّكَ؟
فَقَالَ: عشرُ سِنِيْنَ، أَوْ أَقَلّ، ثُمَّ خرجْتُ مِنَ
الكُتَّابِ بَعْد العشرِ، فَجَعَلْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى (الدَّاخلِيِّ) وَغَيْرِهِ،
فَقَالَ يَوْماً فِيْمَا كَانَ يَقْرَأُ لِلنَّاسِ: سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ لَمْ
يَرْوِ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ.
فَانْتَهَرنِي، فَقُلْتُ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى الأَصْلِ فَدَخَلَ
فنظَرَ فِيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ هُوَ يَا غُلاَمُ؟
قُلْتُ: هُوَ الزُّبَيْرُ بنُ عَدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ،
فَأَخَذَ القلمَ مِنِّي، وَأَحْكَمَ كِتَابَهُ، وَقَالَ: صدقْتَ.
فَقِيْلَ لِلْبُخَارِيِّ: ابْنُ كَمْ كُنْتَ حِيْنَ رددتَ
عَلَيْهِ؟
قَالَ: ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا طَعَنْتُ فِي
سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، كُنْتُ قَدْ حفظتُ كتبَ ابْنِ المُبَارَكِ وَوَكِيْعٍ،
وَعرفتُ كَلاَمَ هَؤُلاَءِ، ثُمَّ خرجْتُ مَعَ أُمِّي وَأَخِي أَحْمَدَ إِلَى
مَكَّةَ، فَلَمَّا حَجَجْتُ رَجَعَ أَخِي بِهَا! وَتخلَّفْتُ فِي طلبِ الحَدِيْثِ.
وقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللهِ يَقُوْلُ: "كَانَ
شَيْخٌ يَمُرُّ بِنَا فِي مَجْلِسِ (الدَّاخلِيِّ)، فَأُخْبِرُهُ بِالأَحَادِيْثِ
الصَّحِيْحَةِ مِمَّا يُعرِضُ عَلَيَّ، وَأُخْبِرُهُ بِقَولِهِم، فَإِذَا هُوَ
يَقُوْلُ لِي يَوْماً: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ رئِيسُنَا فِي أَبو جَاد".
كذا في «سير أعلام النبلاء»!
وأبو جاد: هو أول ما يُعلّم الصبي من الكتابة وحساب الجمل: أبو
جاد، هَوَّاز، حُطِّي، كَلَمُون، سَعْفَاص، قَرَشَت.
قَالَ قُطرُب: هُوَ أَبو جاد، وإِنّما حُذفت وَاوه وأَلفه؛
لأَنّه وُضِعَ لدلَالَة المتعلّم، فكُرِه التَّطويلُ والتّكرار وإِعادة المِثْل
مرّتين، فَكَتَبُوا: أَبجد، بِغَيْر واوٍ وَلَا أَلف، لأَنّ الأَلف فِي أَبجد
وَالْوَاو فِي هوّز قد عُرِفَت صُورتُهما، وكل مَا مَثِّل من الْحُرُوف استُغنِيَ
عَن إِعادَتْه. [تاج العروس: (7/402)].
وقالوا: الكلام فِي القَدَرِ أَبُو جَادٍ الزَّنْدَقَةَ = يعني
أول الزندقة.
فكأن المقصود هو تقديم البخاري في هذا العلم، فهو الأول فيه.
وقد يُشكل على هذا أنه قال: "في أبو جاد" والأصل
"في أبي جاد"! وحينها لا يستقيم لوجود حرف الجر «في»! فيُحتمل أن حرف
الجر زائد في النص، والله أعلم.
ويُحتمل أن الصواب: "يَا أَبَا عَبْدِاللهِ رئِيسُنَا فِي آبوجَاد"
أو قريباً من هذا الرسم، فيكون "آبوجاد" اسم تلك المنطقة في بُخارى،
والله أعلم.
وقصة البخاري مع شيخه (الداخلي) رواها الخطيب في «تاريخه» (2/324)
عن أبي النجيب عبدالغفار بن عبدالواحد الأرموي، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن إبراهيم
بن أحمد الأصبهاني، قَالَ: أَخْبَرَنِي أحمد بن علي الفارسي، قَالَ: حدثنا أحمد بن
عبدالله بن محمد، قَالَ: سمعت جدي محمد بن يوسف بن مطر الفربري، يقول: حَدَّثَنَا
أبو جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق النحوي.
وابن عساكر في «تاريخه» (52/57) من طريق الخطيب.
والذهبي في «السير» (12/392) من طريق مُحَمَّد بن طَاهِرٍ
الحَافِظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ عَلِيِّ بنِ خَلَفٍ، قال: أَخْبَرَنَا
أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مِهْرَوَيْهِ الفَارِسِيُّ
المُؤَدِّبُ، قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ مَرْو لزيَارَةِ أَبِي عَبْدِاللهِ
السُّلَمِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِاللهِ بنِ
مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ بنِ مَطَرٍ الفِرَبْرِيّ، به.
وابن حجر في «تغليق التعليق» (5/386) من طريق طَاهِر بن
مُحَمَّد بن طَاهِر، عَن أَحْمد بن عَليّ بن خلف، به.
فهكذا جاء اسم شيخ البخاري: (الدّاخلي)، ولم يعرفه أهل العلم،
ولم يُعلّق عليه أحد قبل الحافظ ابن حجر، فإنه قال في «تغليق التعليق» (5/387) -
بعد أن أورد القصة -: "قلت: الداخلي المَذْكُور لم أَقف على اسْمه، وَلم يذكر
ابن السَّمْعَانِيّ، وَلَا الرشاطي هَذِه النِّسْبَة، وأظن أَنَّهَا نِسْبَة إِلَى
المَدِينَة الدَّاخِلَة بنيسابور".
وبقي الأمر هكذا حتى قال عبدالفتاح أبو غدة في رسالته «تحقيق
الصحيحين واسم جامع الترمذي» (ص: 14): "لم أقف على اسم (الداخلي) ولا ترجمته،
وقد بحثت عنه منذ أكثر من ثلاثين سنة، فما تركت كتاباً وصل إلى يدي وظننت أن فيه
احتمال وجوده فيه، إلا تصفحته وفحصته.
وليس في هذا الاسم تحريف، فهكذا هو (الداخلي) بخط الإمام قارئ
(الهداية)، وفي نسخته من (هدي الساري) التي كتبتها بخطه، وقرأها على المؤلف شيخه
الحافظ ابن حجر، وذكرت مكانها ووصفها في تعليقي على كتاب (قواعد في علوم الحديث)
لشيخنا أحمد التهواني - رحمه الله تعالى -.
والداخلي من شيوخ البخاري في نشأته، ولم أجد له ترجمة في المظان
التي رجعت إليها، ولم يذكره السمعاني في (الأنساب)، وظاهر سياق العبارة هنا أنه من
شيوخه في بخارى التي نشأ بها، وقد ترجح عندي أنه منسوب إلى (مدينة بخارى الداخلة)
التي هي داخل السور الثاني الأصغر، المحيط به السور الأول الأكبر، كما فهمته من
(معجم البلدان) عند ذكر (بخارى) (353:1)، وعند ذكر مدينة (مرو) (79:5)"
انتهى.
وكنت قد كتبت في بعض بحوثي عن هذه القصة للبخاري مع شيخه (الدَّاخلي) وأنه ردّ عليه في خطأ له وهو
يُحدِّث وهو ابن إحدى عشرة سنة، وقلت: "والداخلي هذا لم يعرفه أهل العلم، وأظنه محرّفا من: (المسندي) - ورسمهما
قريب جداً- وهو: مَوْلاَه مِنْ فَوْقِ عَبْدِاللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللهِ
بنِ جَعْفَرِ بنِ اليَمَانِ الجُعْفِيِّ، وقد سمع منه، والله أعلم".
ولما نشرت هذا علّق الأخ الحبيب الأريب صاحب الأدب الرفيع (محمد أمين
بلجوهري الجزائري) فقال:
"أظن أنه الحسن بن محمد المروزي من مدينة الداخلة التي بمرو،
وقد ذكر البخاري في تلك القصة أنه يروي عن سفيان بن عيينة، فيكون هو الذي ترجمه
ابن حبان في الثقات (8/175) بقوله: «الحسن بن محمد المروزي من مدينة الداخلة قال:
سمعت ابن عيينة يقول: جاءنا من خراسان رجلان: ابن المبارك وإبراهيم الصائغ. روى
عنه: مُحَمَّد بن عَبْدِاللَّهِ بن قُهْزَادَ، وأهل بلده».
وقد ترجم البخاري في التاريخ الكبير (2/306) لمن اسمه الحسن بن محمد
المروزي وذكر أنه يروي عن عبدالله بن بريدة وسمع منه نُعيم بن حماد.
وقد ترجم ابن حبان لهذا أيضا في الثقات (6/167) وذكر نفس ما ذكره البخاري،
ويبدو أنه من شيوخ البخاري في الصبا الذين لم يكثر عنهم، والله أعلم" انتهى.
قلت:
أولاً: جاء في قصة البخاري أن سفيان روى ذلك الحديث عن الزبير بن عدي
الكوفي (ت 131هـ)، وسفيان الذي يروي عن الزبير المعروف أنه الثوري لا ابن عيينة.
وحديث الثوري عن
الزبير في «صحيح
البخاري» وغيره من الكتب.
فكأنه بسبب هذا
ذهب بعض الباحثين إلى أن سفيان هنا هو: الثوري، وكان الشيخ يُحدّث من «جامع سفيان الثوري»!
فهذا مُحتمل، ويُحتمل أنه ابن عيينة، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أنه (المسندي)
كما سيأتي بيانه – إن شاء الله -.
ثانياً: ذكر الأخ للترجمة التي ذكرها البخاري في «تاريخه» موهمة! فلعله
يُفهم من ذلك أنه هو نفسه الذي يروي عن ابن عيينة!
فإن كان الأخ قصد ذلك فلا يستقيم؛ لأن ابن حبان قد ذكر كل واحد في طبقة
مختلفة، والذي ذكره البخاري أقدم طبقة من الآخر، فإنه يروي عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ
بُرَيْدَة الذي توفي سنة (105هـ)، فلا يمكن أن يكون هو الذي يروي عن ابن
عيينة أو شيخ الإمام البخاري!
ثالثاً: اغتر الأخ بقول ابن حبان: "من مدينة الداخلة التي بمرو"!
= يعني النسبة لذلك: (الداخلي)! وهذا ليس بصحيح!
ولا بدّ هنا من بيان قصد ابن حبان وغيره عندما يقولون: "من المدينة
الداخلة"!
فالمدن قديماً كانت تُبنى ثم يبنى لها أسوار، وفيها قِلاع، ثم يبنى
خلف هذه الأسوار بعض البيوت عندما يتوسع البنيان، فتصبح بجانب هذه الأسوار قرى، ثم
تكبر، فيطلق على المدينة الأصل: (المدينة الداخلة)، والتي خارج سورها: (المدينة
الخارجة)، فكلّ مدينة كبيرة تسمى: المدينة الداخلة، وما خارج أسوارها تابع لها
ولهذا ينسبون أهلها فيقولون: المروزي، من المدينة الداخلة = فهو مروزي ولا
ينسبونه: (داخلي).
ولهذا لا نجد هذه النسبة في الكتب وخاصة في كتب الأنساب التي
عنيت بهذا، وإنما نجد مثلاً: "نزيل نيسابور في المدينة الداخلة"، و"المدينة
الداخلة بمرو"، و"المدينة الداخلة بنسف".
وغالب مدن خُراسان كان فيها حصون كبيرة، وكان يطلق عليها: «قُهُنْدز» فينسبون بعضهم إليها، وهي المدينة
الداخلة المسورة.
قال ياقوت الحموي: "القهندز: هُوَ اسمُ جِنسٍ لكلِّ حِصنٍ
فِي وَسَطِ المدينةِ العُظْمَى، وقَلَّما يَخْلُو بلدٌ من خُراسانَ وَمَا وراءَ
النهرِ من قُهُنْدُز".
قال السمعاني في «الأنساب» (10/523) (3336) في نسبة: «القُهُنْدزي»: "بضم القاف والهاء، وسكون النون، والدال
المهملة، وفي آخرها الزاي، هذه النسبة إلى قهندز بلادشتى، وهي المدينة الداخلة
المسورة، فأما قهندز بخارى وهي المدينة الداخلة فيما أظن، وقال قائلهم:
لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم // ولا بخارا حتى ينفخ الصور
والمشهور بهذه النسبة: أبو عبدالرحمن محمد بن هارون الأنصاري
القهندزي، من أهل بخارى".
وهكذا يُقال في المدينة الداخلة في بخارى كما فهمه أبو غدة
وتقدم ذكره، فقد قال ياقوت الحموي في «معجم البلدان» (1/353): "فأما بخارى، واسمها:
بومجكث، فهي مدينة على أرض مستوية وبناؤها خشب مشبّك، ويحيط بهذا البناء من القصور
والبساتين والمحالّ والسكك المفترشة والقرى المتصلة سور يكون اثني عشر فرسخاً في
مثلها، يجمع هذه القصور والأبنية والقرى والقصبة، فلا ترى في خلال ذلك قفاراً ولا
خراباً، ومن دون هذا السور على خاص القصبة وما يتصل بها من القصور والمساكن
والمحالّ والبساتين التي تعدّ من القصبة، ويسكنها أهل القصبة شتاء وصيفاً سور آخر
نحو فرسخ في مثله، ولها مدينة داخل هذا السور يحيط بها سور حصين، ولها قهندز
خارج المدينة متصل بها ومقداره مدينة صغيرة، وفيه قلعة بها مسكن ولاة
خراسان من آل سامان، ولها ربض ومسجد الجامع على باب القهندز، وليس بخراسان وما
وراء النهر مدينة أشد اشتباكا من بخارى ولا أكثر أهلا على قدرها".
والقصة التي ذكرها أهل العلم للبخاري مع شيخه هذا من كِتَابِ
(شمَائِلِ البُخَارِيِّ) الذي جمعه أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ
البُخَارِيُّ، وَرَّاقُ أَبِي عَبْدِاللهِ، وَهُوَ جزءٌ ضخمٌ كما قال الذهبي.
ويبدو لي أن أهل العلم قبل أن ينقل الخطيب هذه القصة في ترجمة
الإمام البخاري من «تاريخ بغداد» لم تكن عندهم مشكلة فيمن هو شيخ البخاري هذا، ولم
يُشر أحد من أهل العلم من هو!
وإنما ذهبت إلى أنه مُحرّف؛ لأن هذا الشيخ كان معروفاً في بلد
البخاري، فإنه قال: "فَجَعَلْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى (الدَّاخلِيِّ) وَغَيْرِهِ"،
وقال: "فِي مَجْلِسِ (الدَّاخلِيِّ)".
فهذا الشيخ له مجلس وهو معروف مشهور عندهم، فكيف لشيخ مشهور ومن
شيوخ البخاري يصبح مجهولاً لا يعرف! وكيف لا يترجم له البخاري، وإن كان من شيوخه
الأوائل!
بل كان لزاماً على أبي عبدالله أن يترجم له في تاريخه وهو مشهور
عندهم، وكان له مجلس في الحديث يحضر عنده الطلبة، ويمر الناس عليه!
ثم إن قول البخاري لوراقه: "فجعلت اختلف إلى (الداخلي)
وغيره" = يعني أن وراقه يعرف من هو، ولهذا لم يسأله عنه.
ونلاحظ أن البخاري ذكره هو، ولم يذكر غيره الذين كان يحضر
البخاري مجالسهم وهو ابن (11) سنة.
وعادة أهل البلد أنهم يطلبون العلم على شيوخ بلدهم المشهورين، وكون
البخاري كان يختلف إليه يدلّ على شهرته ومكانته في بلده.
فما المانع أن يكون هو (المسندي) المشهور شيخ الإمام البخاري في
بُخارى!
وقد ذكر الذهبي في ترجمة البخاري في "ذِكْرُ تسمِيَة
شُيوخِهِ وَأَصْحَابِهِ": "سَمِعَ بِبُخَارَى قَبْلَ أَنْ يرتحلَ مِنْ:
مَوْلاَه مِنْ فَوْقِ: عَبْدِاللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ جَعْفَرِ
بنِ اليَمَانِ الجُعْفِيِّ المُسْنديِّ".
وكان جدّ والد الإمام البخاري أسلم على يدي يَمان البخاري والي
بخارى، ويمان هذا هو أبو جدّ عبدالله بن محمد المسندي الجعفي، وعبدالله بن محمد هو
ابن جعفر بن يمان البخاري الجعفي، والبخاري قيل له: جعفي لأن أبا جده أسلم على يدي
أبي جد عبدالله المسندي، ويمان جعفي فنسب إليه لأنه مولاه من فوق.
وعبدالله قيل له: (مسندي)؛ لأنه كان يطلب (المسند) من حداثته.
فالمسندي مسند ومحدث كبير في بخارى وجده هو واليها، وجد والد البخاري
أسلم على يديه، فهذا لا شك يجعله أول ما يطلب الحديث يطلبه على هذا المسندي الذي
هو شيخ البلد، وجده والي البلد.
وقد ترجم له في «تاريخه» فقال: "عَبْداللَّه بن مُحَمَّد بن عَبْداللَّه بن جَعْفَر
أَبُو جَعْفَر الجعفي.
سَمِعَ ابن عيينة، مات سنة تسع وعشرين ومائتين لثلاث ليال بقين
من ذي القعدة يوم الخميس أول النهار، المُسندي البخاري".
ويروي عنه في «تاريخه» ويقول: "قال لي المُسندي"، وهذا يدلّ على أن البخاري في
تلك القصة عندما قال (الداخلي) سماه بما هو مشهور به، وهو (المسندي) قد تحرّف إلى
(الداخلي).
وقد ذكر البخاري هنا أنه سمع من "ابن عيينة"، والحديث الذي رواه
شيخه الذي قيل عنه (الداخلي) يرويه عن (سفيان) ولم ينسبه! وكأنه ابن عيينة.
وشيخه أخطأ في الحديث فقال: "عن أبي الزبير"؛ لأن ابن عيينة يروي
عن أبي الزبير.
وكذلك الثوري يروي عن أبي الزبير، لكن الأقرب أن سفيان في الرواية هو: ابن
عيينة، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من التصحيف، والمسندي يروي عن ابن عيينة، ولو كان
الشيخ يروي من كتاب سفيان، لقال: هكذا هو كتاب الثوري، وإنما رجع إلى أصل كتابه
هو، فوجد الحديث فيه كما قال البخاري: عن سفيان، عن الزبير، عن إبراهيم.
وكأن رواية ابن عيينة عن الزبير بن عدي نادرة إن كان سمع منه، فإن ابن
عيينة خرج من مكة إلى الكوفة سنة (126هـ)، والزبير بن عدي مات سنة (131هـ).
لكن يبدو أنه لم
يسمع منه؛ لأن الزبير كان قاضياً في الرّيّ ومات هناك، فلا أظن أن ابن عيينة سمع منه!
وقد روى الخطيب
أيضاً في ترجمة البخاري من «تاريخ بغداد» بإسناده إلى أبي سعيد بن بكر
بن منير، قال: سمعت محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، يقول: "كنت
عند أبي حفصٍ أحمد بن حفص أسمع كتاب الجامع - جامع سفيان -، في كتاب
والدي، فمر أبو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر، فراجعته فقال الثانية كذلك،
فراجعته الثانية فقال كذلك، فراجعته الثالثة فسكت سويعة، ثم قَالَ: من هذا؟ قالوا:
هذا ابن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبة، فقال أبو حفص: هو كما قَالَ، واحفظوا؛ فإن
هذا يوماً يصير رجلاً".
فهذه الحكاية
تفسر الحكاية السابقة التي رواها ورّاق البخاري، وأن ذاك الشيخ كان يقرأ من «جامع سفيان» وحينها يستقيم الأمر؛ لأن
الثوري هو من يروي عن الزبير بن عدي.
فيكون (الداخلي)
هذا هو الفَقِيْهُ، العَلاَّمَةُ، شَيْخُ مَا وَرَاءِ
النَّهْرِ، أَبُو حَفْصٍ أَحْمَدُ بنُ حَفْصٍ البُخَارِيُّ، الحَنَفِيُّ، فَقِيْهُ
المَشْرِقِ، وكان صاحباً لإسماعيل والد الإمام البخاري.
وقد نبّه إلى هذا
د. خلدون الأحدب في كتابه «الإمام البخاري وجامعه الصحيح – نظرات وتحقيقات في السيرة والمنهج» (ص: 105).
ونقل عن كتاب «تاريخ بخارى» لأبي بكر محمد بن جعفر النَّرْشَخِيّ (ت348هـ) وهو يتكلم عن أبواب
ومحال مدينة (بخارى) الداخلة: «باب حَقْرَة» وكان أبو حفص الكبير يقيم بتلك المحلّة، وكانوا يسمون تلك
المحلة «باب حَقرة» = أي «باب طريق الحق»؛ لأن الناس كانوا يحملون الفتاوى هناك
إلى أبي حفص، وقد سمّوا الفتوى: «الحق»، ولهذا سموه «حقرة» أي: «طريق الحق».
فصاحب الحكاية هو أبو حفص البخاري الحنفي، لكن لا تزال عندي مشكلة في نسبة البخاري
له بـ «الداخلي»! فليس من منهجهم النسبة إلى المدينة الداخلة في أي بلد! وكان
الأولى نسبته للمحلة التي كان يسكن فيها.
فربما لأنه كان حنفياً ومشهوراً بصحبة محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي
حنيفة كان يشتهر بـ «الحنفي»، فيجوز أن تتحرف إلى «الداخلي»، والله أعلم.
ومن الغريب أن البخاري لم يترجم له في «تاريخه»! وكأنه لم يكن عنده من
الحديث الشيء الكثير؛ لأنه كان فقيهاً، والكتاب الذي كان يُحدّث منه هو نسخة والد
الإمام البخاري من «جامع سفيان الثوري»، فالله أعلم.
والحمد لله أولاً
وآخراً.
وكتب: د. خالد
الحايك.
الثالث من محرم
الحرام سنة 1446هـ.
شاركنا تعليقك