الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«تَبديدُ السَّراب» عن الواهم في تضعيف الدارقطني لشيخه «الضَّرَّاب»!

«تَبديدُ السَّراب» عن الواهم في تضعيف الدارقطني لشيخه «الضَّرَّاب»!

هل يقصد الدارقطني تضعيف شيوخه من خلال تضعيفه للإسناد كله في كلامه على بعض الأحاديث في «غرائب مالك»؟!

الحمد لله الذي قسّم العقول والفهوم كما قسّم الأرزاق، والصلاة والسلام على رسوله الذي تحنّ إليه الأشواق، وعلى آله وصحبه أصحاب أولي الفضل في العشي والإشراق، أما بعد:

فإنّ الأصل في طالب العلم أن لا يخوض غمار بحر لا يعرف السباحة في عمقه، لكننا ابتلينا في هذا الزمان بكثير ممن يظنون أنهم يستطيعون الخوض في كل العلوم! وهذه من كبرى سيئات زماننا، والله المستعان.

والأصل أن طالب العلم يبحث عن الحق وِفق الأدلة والبراهين والحجج، ولو خولف فيما يذهب إليه وأن لا يتخذ الأمور شخصية ليدافع عن فهمه المعكوس المنكوس – ربما – عند مخالفه! والله المستعان.

وقد شغلنا بعض الإخوة – هداهم الله - في هذه الأيام والليالي المباركة عن بعض العبادات، لكن كان لا بد من وقفة أخيرة معه مع ما خطته يمينه في آخر دعاويه التي أقامها على المغالطات، والظنون، والأوهام، والتخرصات، والتلبيس والتدليس، والتمسك برأي مظنون، أقام عليه الاتهامات الباطلة، والله المستعان.

وقبل البدء في بيان ما نراه صواباً - إن شاء الله - نُبيّن للقارئ والمُتابع أصل النزاع في المسألة = وهذا هو الأصل: بيان محل النزاع.

فالمسألة تتعلق بالإِمَام المُحَدِّثِ أَبي مُحَمَّدٍ الحَسَن بن إِسْمَاعِيْلَ بنِ مُحَمَّدٍ الضرّاب المِصْرِيّ أحد شيوخ الدارقطني.

ف(المُعترِض) ذهب إلى أن الدارقطني ضعفه! ونازعناه في ذلك، وطالباناه بنصٍ صريحٍ من الدارقطني أنه قال فيه: "ضعيف"!

ومن هنا نبدأ النقاش:

·       1- قلت:

"قال بعضهم: "الحسن بن إسماعيل الضراب، ضعّفه الدارقطني، ولم يبلغ الذهبيَّ خبرُه كما ينبغي كما اعترف بذلك، فحَمَله على أنه ثقة! وهو شيخ للدارقطني، وهو أعرف به، والدارقطنيُّ أيضاً معتدل، وهو مطلع على رواياته، فيُقدَّم قولُه".

قلت: لا يوجد نصّ عن الدارقطني أنه قال بتضعيفه! وإنما أخذه هذا البعض عن الكتاب المعاصر في جمع أقوال الدارقطني: «موسوعة أقوال أبي الحسن الدارقطني في رجال الحديث وعلله» (1/196) (917): "الحسن بن إسماعيل بن محمد بن مروان الغساني، أبو محمد بن الضراب المصري: ضعفه الدَّارَقُطْنِي". وهذا أُخذ من كلام الحافظ ابن حجر بمقتضى بعض كلام الدارقطني في حديث علّق عليه".

فرد (المُعترِض) بقوله:

"نقول للدكتور إننا لم نعتمد صاحب "موسوعة أقوال الإمام الدارقطني..."، بل قلنا في أول منشور لنا في تعقّبه ما نصّه: "أبو محمد الحسن بن إسماعيل الضراب، ضعّفه الدارقطني، وهو من زوائد اللسان لابن حجر (ترجمة 2244)" انتهى، فالظاهرُ أن الدكتور أراد التشنيع علينا بالتقليد، وإيهامَ أننا نجهل مصدر كلام الدارقطني في الضراب، وكل ذلك غير مناسب.

ونزيده مصدرا آخرا نائيا، متقدّما على اللسان، لم يقف عليه هو ولا صاحب الموسوعة، وهو كتاب "تخريج أحاديث الكشاف" لجمال الدين الزيلعي (٣/٣٥٩)" انتهى.

أقول:

يحاول (المُعترِض) صرف القارئ عما قلناه أنه اعتمد تلك الموسوعة! فلا يوجد أحد نص على أن الدارقطني ضعفه إلا في تلك الموسوعة!

وأصحاب تلك الموسوعة أشاروا لكتاب «لسان الميزان»، واعتمدوا قولَ ابن حجر الذي نقله وسننقله مرة أخرى.

فلا انفكاك له من هذا الأمر!

قولك: "ضعفه الدارقطني" لم يقله ابن حجر ولا غيره، بل أصحاب تلك الموسوعة، فلم اللّف والدوران؟!

ثم أراد تحويل القارئ إلى أن هناك مصدراً آخر لكلامه قبل اللسان وهو كتاب الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف، لم نقف عليه ولم يقف عليه صاحب الموسوعة!

قلت: هذا جيد = وظاهره أن الزيلعي أشار إلى تضعيف الدارقطني للضراب! – هو المفهوم، وإلا لما يُحيلنا على ذلك المصدر الذي لم نقف عليه، ووقف عليه هو؟

لكن لمَ لمْ يذكر لنا ما نقله الزيلعي؟

فإن كان نقل الزيلعي مثل نقل ابن حجر في «اللسان» فما الفائدة من الإشارة إليه – وإن كان متقدماً على ابن حجر!

فهذا خارج محل النزاع، فالنقل عن الدارقطني موجود في «اللسان» إلا إذا كان هناك شيء جديد يتعلق بموضوعنا عند الزيلعي!

ولننقل ما قاله الزيلعي:

قال الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (3/359):

"فَحَدِيث أنس رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كِتَابه غرائب مَالك من حَدِيث الْحسن بن اللَّيْث بن حَاجِب ثني أَحْمد بن سُلَيْمَان الْأَسدي قَالَ قَرَأت عَلَى مَالك بن أنس عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن أنس بن مَالك قَالَ سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول (من صَلَّى الْمغرب ثمَّ صَلَّى بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يتَكَلَّم بِشَيْء كتبَتَا فِي عليين فَإِن صَلَّى أَرْبعا كَانَ كَالْمُعَقبِ غَزْوَة بعد غَزْوَة فَإِن صَلَّى ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة بنى لَهُ فِي الْجنَّة قصر من ياقوت فِيهِ من الشّجر وَنور الثَّمر مَالا يُحْصِيه إِلَّا رب وَالْعَالمِينَ) انْتَهَى قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا حَدِيث مَوْضُوع عَلَى مَالك وَمن دونه فِي الْإِسْنَاد ضعفاء انْتَهَى".

قلت: فهل اختلف هذا النقل عن النقل الذي ذكره ابن حجر من كتاب الدارقطني؟

وأين أن الدارقطني ضعّف الضراب في نقل الزيلعي مما أوهمه (المُعترِض) للقارئ بذكره لهذا المصدر!

بل إن الزيلعي طوى ذكر الضراب! ونقل الإسناد من الحسن بن الليث الذي روى هذا الخبر الباطل!

بل إن الذي نقله ابن حجر من قول الدارقطني: "من دون مالك في الإسناد ضعفاء كلهم".

ولم ينقل الزيلعي قوله: «كلهم»! فإما أن تكون هذه الكلمة موجودة في الأصل الذي نقل منه الزيلعي، وحذفها لئلا يظن ظان أن شيخ الدارقطني يدخل في هذا التضعيف! أو أنها لا توجد أصلاً في كلام الدارقطني! وهذا يعني أن ما عند ابن حجر فيه زيادة لفظة «كلهم»! وقد اعتمدها (المُعترِض) لإدخالنا في بعض مسائل الأصول التي فرد بها عضلاته ليبيّن للقارئ أنه ليس بلقمة سائغة في العلم!

وعليه فهل يقبل (المُعترِض) نقل الزيلعي أم نقل ابن حجر؟

والخلاصة أن ما نقله (المُعترِض) لا فائدة له في الرد على كلامنا!

فيبقى الأمر أن قوله: "ضعفه الدارقطني" هو قول أصحاب الموسوعة الآنفة الذكر!

فلم الحيدة بإشغال القارئ بأمور لا دخل لها بهذا الأمر!

الأمر أبسط من ذلك = يستطيع الإنسان أن يقول: نعم، أتبنى هذا الرأي وإن كان رأي فلان أو علان، ومن هنا يبدأ بالتدليل عليه وإثباته.

وهنا مسألة للفائدة:

متى يقول الناقل عن الأئمة: "ضعفه فلان" أو "وثقه فلان"؟

هذه العبارة لا يقولها العالم الناقل إلا استناداً لنص عن ذلك العالم، فالقول: "ضعفه الدارقطني" لا بد أن يكون هناك نصٌّ صريحٌ عن الدارقطني بأنه قال فيه: "ضعيف" أو نحو هذه العبارات من عبارات التضعيف.

وقد ذكر الذهبي في «الميزان»، وابن حجر في «اللسان» عشرات النقول عن الدارقطني، وقالوا: "ضعفه الدارقطني"، وهذا مبني على أن الدارقطني نص على ذلك في تلك التراجم.

ومن تلك التراجم:

-قال الذهبي في «الميزان» (1/120) (470): "أحمد بن علي بن سليمان أبو بكر المروزي عن علي بن حجر. ضعفه الدارقطني، وقال: يضع الحديث".

-وقال (1/148) (578): "أحمد بن محمد بن عيسى السكوني عن أبي يوسف القاضي. ضعفه الدارقطني، وقال متروك الحديث بغدادي".

-وقال ابن حجر في «اللسان» (3/335) (1382): "عبدالله بن محمد بن ربيعة بن قدامة القدامي المصيصي أحد الضعفاء أتى عن مالك بمصائب...

وقد ضعفه الدارقطني في غرائب مالك في مواضع بعبارات مختلفة: مرة قال: ضعيف، ومرة قال: غيره أثبت منه، وقال في موضع منها: حدثني أبو بكر بن أحمد بن جعفر الخداش المصري: حدثنا أحمد بن محمد الحجاج بن رشدين: حدثنا محمد بن الوليد بن أبان: حدثنا عبدالله بن محمد بن ربيعة القدامي - ثقة مأمون صدوق - عن مالك فذكر حديثًا كذا قال، وأظن واصفا بذلك ابن رشدين وهو ضعيف أيضاً، وقال الدارقطني عقب الحديث المذكور: لم يروه عن مالك غير القدامي وهو ضعيف".

-ونقل ابن حجر في «اللسان» (4/366) (1073) كلام الذهبي: "عمرو بن سهل البصري، حدث عنه عبيد الكشوري. ضعفه الدارقطني"، ثم قال: "وقال في غرائب مالك أنه مجهول، روى عن عمر بن أبي سلمة الغفاري، وضعفه في موضع آخر".

وهذا كثير في كتابيهما.

أقول:

وعلى فرض أن الدارقطني ضعّف الضرّاب، فما هو هذا الضعف الذي فيه؟

فلا يخفى على المبتدئ في طلب العلم أن الضعف درجات، فقد يكون الراوي متروكاً، ويقال عنه: ضعفه فلان، أو منكر الحديث، فيقال عنه: ضعفه فلان.

ولفظة: «ضعيف» المجردة هل تعني أنه ليس بالقوي مثلاً، وكيف حكمنا عليه بالضعف؟ هل كان يخطئ في الأسانيد، فيرفع الموقوف، ويصل المرسل، أو يدخل الأسانيد في بعضها، أم يخلط؟! = فكل هذا يصح أن يُقال في فاعله: ضعيف.

فالدارقطني سمع من الضرّاب وروى عنه مع أنه أصغر منه، والدارقطني أرفع من قدراً وأكبر منه، فما وجه الضعف الذي رآه عنده؟

لا يستطيع أحد أن يعرف هذا! لكن أهل العلم ينظرون في القرائن التي تحيط بهذا الراوي حتى يؤيدوا الحكم عليه بالضعف أو يخالفوا قائله!

وقد نقلت ترجمة ابن حجر له في كلامي السابق:

"روى عن الحسن بن رشيق العسكري، وأحمد بن مروان الدينوري، ومُحمد بن بشر العكبري، وسلم بن الفضل الآدمي، وَأبي سعيد بن الأعرابي، ودعلج، وعلي بن عبدالله بن أبي مطر، وعثمان بن محمد السمرقندي، ومُحمد بن إبراهيم بن شعبان الفقيه، ومُحمد بن أبي الزراد العدوي، وخلق كثير.

روى عنه: ولده عبدالعزيز، وأبو سعد الماليني، ورشأ بن نظيف، وعلي بن إبراهيم الحوفي، وإسماعيل بن علي الحسيني، وأحمد بن علي بن هاشم في آخرين.

قال الماليني: ولد سنة ثلاث عشرة وثلاث مِئَة، وولي الختم بدار الضرب، وصنّف كتاباً في الرواة عن مالك، وكتاباً في أخبار مصر، وكتاباً في أخبار المعلمين، وكتاباً في المزاح، وكتاباً في المروءة. ومات في ربيع الآخر سنة اثنين وتسعين وثلاث مِئَة".

فلم يعبأ بهذا (المُعترِض)!

أمثل هذا الإمام المحدث يُضعّف؟

وانظر إلى كلام تلميذه الإِمَام المُحَدِّث أبي سعدٍ المَالِيْنِيّ فيه، وهو من كبار أئمة الحديث الذين رحلوا في طلبه وكان صادقاً ثقة، فلم يذكر فيه أي ضعف = وهذا يعني أنه على الأصل من الثقة عندهم، فذكر ولادته ووفاته، وتوليه الختم بدار الضرب، وبعض مصنفاته.

فالماليني قد خبره، ولم يذكر فيه شيئاً.

وأما الدارقطني فإنه لما نزل مصر لقيه وسمع منه، وروى عنه من بعض كتبه، والظاهر أنه روى عنه من كتابه في الرواة عن مالك في كتابه «غرائب مالك».

وهذا الكتاب من اسمه جمع فيه الدارقطني الأحاديث المنكرة والباطلة التي رُويت عن مالك، ولم يروها أصلاً، وهذا فن اعتنى به بعض أهل العلم كالدارقطني، ومحمد بن المظفر، والخطيب.

فالضراب عنده أحاديث عن مالك بأسانيده استفاد الدارقطني منها في كتابه، ولو كان يراه ضعيفًا لنبّه على ذلك كما يفعل أحياناً في بعض شيوخه.

والضرّاب مشهور عند المصريين فهل يعقل لو كان فيه شيء لا ينقلونه! بل ذكروه في كتب التراجم، واستفادوا من رواياته وكلامه.

فقد ذكر المقريزي – وهو عمدة في المصريين – في «المقفى»: «أبا بكر الأطروش» (2011)، وقال: "وقال الحسن بن إسماعيل الضرّاب: مولده في المحرّم سنة أربع وستّين ومائتين. مصريّ ثقة. توفّي في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة".

فها هو يوثق الرواة، ولم يكن يجلس للتعديل والتجريح إلا الشيوخ الكبار الثقات.

فالأصل أنه ثقة ما لم يتبين لنا سببٌ لضعفهِ! فكيف ولم يوجد سببٌ ليضعّفه هذا (المعترض)!

·       2- قلت:

بعد أن لَعب (المُعترِض) بعقل القارئ وصرفه عن أصل المسألة ليواري نقله عن تلك الموسوعة، رجع فقال:

"لم يدّع أحد أن الدارقطني قال: "الحسن بن إسماعيل الضراب ضعيف" بهذه الهيئة، بل قلنا: "ضعّفه الدارقطني". وهذا صحيح لا غبار عليه، قال الحافظ ابن حجر في اللسان: "وسيأتي في ترجمة الحسن بن الليث ما يقتضي أن الدارقطني ضَعَّف الضَّرَّاب المذكور، وقد روى عنه الدارقطني وهو أكبر منه سنا وقدرا".

وقال في اللسان في ترجمة الحسن بن الليث بن حاجب في إسنادٍ فيه الضراب: "قال الدارقطني: مَن دون مالك في الإسناد ضعفاء كلهم".

قلتُ: فهذا صريح في تضعيفه لهم جميعا، وهذا عام مؤكَّد، وقد اختلفوا في جواز تخصيصه، وتفريعا على الجواز فلا بد من الوثيقة في ذلك، ومما يقويه أيضا أن أفراده مذكورة كلها.

وقد عُلم أن مدلول العام كلية أي أنه محكوم فيه على كل فرد مطابقة، إثباتا أو سلبا (الضراب ضعيف، وفلان ضعيف...)، وعليه فلا إشكال إن قال قائل: ضعّفه الدارقطني، أو قال: "قال الدارقطني: ضعيف".

وقد قال ابن حجر في اللسان (٣/٥٠٤، و٤/٤٣٥) في زكريا بن يحيى بن الحارث النسوي: "قال الدارقطني ضعيف مجهول" اعتمادا على حُكم أبي الحسم [كذا! وهو خطأ طباعي، والصواب: الحسن] على سلسلة وقع فيها بقوله: "وكل من دون مالك ضعفاء مجهولون".

هذا ولم يقْدِر الدكتور على دَفْعِ دلالة هذا العام على ضعف الضراب، لكن قال بعبارة فاترة: "والمفهوم من شيخه إلى مالك يعني الحسن الضراب..."، ثم سلك بعد ذلك سبيل التمحُّل" انتهى.

أقول:

أولاً: إذا كان الدارقطني لم يقل عنه: "ضعيف" بهذه الهيئة، فلم النقاش إذن؟!

هذا يعني أنك تُقرّ أن الدارقطني لم يقل فيه هذا القول، وإنما هذا ما فُهم من كلام ابن حجر، وقد نقلناه في منشورنا السابق، فلا أدري لم تُعيده؟!

ثم أدخلنا (المُعترِض) في مسألة أصولية لا علاقة لها هنا بموضوعنا! فأقوال أهل الجرح والتعديل لا تخضع للمسائل الأصولية والاختلاف فيها عند أهلها.

والعجيب أنه نقل الخلاف عند الأصوليين في جواز تخصيص العام ثم فرّع على الجواز لنصرة رأيه! وهذا من أضعف الأدلة! فيستطيع كل واحد أن يُفرّع على ما يراه مناسباً لنصرة رأيه، مع أن المخالف لا يعتد بهذا التفريع أصلاً!

وابن حجر نفسه لم يتعرض لتطويع المسائل الأصولية في هذا، ومع أنه ذكر المقتضى لكلام الدارقطني إلا أنه لم يجزم بذلك! وكنت أتوقع أن يخوض (المُعترِض) في مسألة المقتضى عند الأصوليين! لكنه لم يفعل!

ثانياً: قد نقلنا آنفاً عن الزيلعي ما نقله عن الدارقطني مما أشار إليه (المُعترِض) دون نقل كلامه، فتبيّن لنا أن لفظة «كلهم» لم ينقلها عن الدارقطني! فهنا يجب أن نتأكد من وجودها في كلام الدارقطني أم لا! فلعل بعضهم زادها كما نقل ابن حجر! وقد أشرنا فيما سبق إذا كان الزيلعي نفسه حذفها!

وعموماً فعدم وجودها في نقل الزيلعي يقضي على كليات (المُعترِض) حتى يثبت لنا هذه الكلمة عن الدارقطني! ولو أثبتها فلا دلالة فيها لما ذهب إليه من أنه "لا إشكال إن قال قائل: ضعّفه الدارقطني، أو قال: قال الدارقطني: ضعيف"!!!

فالأصل كما بيناه أن قولهم: "ضعفه الدارقطني" مبني على قول صريح له في ذلك لا على الاحتمالات والظنون!

فلا زال الأخ (المُعترِض) يراوغ ويحيد عن أصل النزاع = وهو إثبات نسبة الضعف للدارقطني!

ثالثاً: وأما تقوية (المُعترِض) كلامه بقوله: "وقد قال ابن حجر في اللسان (٣/٥٠٤، و٤/٤٣٥) في زكريا بن يحيى بن الحارث النسوي: "قال الدارقطني ضعيف مجهول" اعتمادا على حُكم أبي الحسم [كذا! وهو خطأ طباعي، والصواب: الحسن] على سلسلة وقع فيها بقوله: "وكل من دون مالك ضعفاء مجهولون" – فهذا لا علاقة له بموضوعنا!

فنحن نتحدث عن شيوخ الدارقطني لا عمّن هم في بعض الأسانيد وضعفهم كهذا الراوي! فهو بنص الدارقطني نعم ضعيف، وهذا الضعف هو الجهالة، فهو مجهول = والمجهول ضعيف، فنقول فيه: "ضعفه الدارقطني، وقال: مجهول".

فما شأن هذا بموضوعنا؟!

وكنت في المنشور السابق قلت بأن كل من هم فوق شيخ الضراب إلى مالك نقول فيهم أن الدارقطني ضعفهم، ولا نخالف في ذلك؛ وقد أخفى (المُعترِض) هذا، ولم يظهره فأتى بكلام أنا أصلاً نقلته أيضاً في المنشور السابق.

قلت: "*وأخرج أيضاً في «غرائب مالك» قال: أخبرنا أبو أحمد عبدالله بن إسحاق بن يعقوب الجرجاني - قدم علينا - من كتابه، قال: حَدَّثَنا علي بن مزداد الجرجاني الصائغ، قال: حَدَّثَنا زكريا بن الحارث أبو يحيى النسوي، قال: حَدَّثَنا مالك، عَن حُمَيد، عَن أَنس قال: جاء علي ومعه ناقة... الحديث. وفيه: «ومن كثر حرصه اشتد همه».

قال الدارقطني: "هذا باطل، وكلّ من دون مالك ضعفاء مجهولون". [لسان الميزان: ترجمة «عبدالله بن إسحاق بن يعقوب الجرجاني»].

قلت: وهذا يقتضي أن شيخه عبدالله بن إسحاق مجهول ضعيف! وهذا ما فهمه الذهبي فذكره في «الميزان» (2/392) (4211) وقال: "كتب عنه الدارقطني، وأشار إلى ضعفه!

وهذا فيه نظر! فهو ليس بمجهول للدارقطني!" انتهى كلامي.

فسبب الضعف هنا أنه مجهول كما فُهم من كلام الدارقطني!

فنقول: الدارقطني يروي عن شيخه هذا ويصفه بالجهالة = وهي سبب الضعف، وليس سبب الضعف أنه يُخطئ ونحو ذلك، وهنا نقول تنزلاً عند هذا الفهم:

هذه الجهالة، هل جهالة عينية؟

هذا لا يقوله أحد عاقل! فكيف يجهل عينه وهو شيخه!

إذن تكون الجهالة: جهالة حال!

فهل جَهِل الدارقطني حاله؟

وكيف يروي عنه وهو يجهل حاله؟

جهالة الحال تخرج من ناقد لا يعرف شيئاً عن بعض الرواة، ولا يعرفون إلا في بعض الأسانيد، فكيف نثبت أن الدارقطني جهل حال شيخه؟

هل يُعقل هذا؟

نعم، مستند (المُعترِض) قول الذهبي بحسب كلام الدارقطني على الإسناد، وهو مردود كما ذكرت، بل يلزمه أن يضعف الضراب لا أن يوثقه!

إذن كيف يقع الذهبي في هذا؟

أقول: من كان مثل الذهبي وابن حجر – رحمهما الله – في التتبع والتصنيف يحصل لهم مثل هذه الأخطاء وهذه الأوهام؛ لأنهم كانوا يشتغلون على تصنيفات كثيرة، وبعض ذلك غير محرر، ولهذا نجد لهم بعض التنافضات وعدم التحريرات في بعض الكتب، بل هم أنفسهم يناقضون أقوالهم في بعض كتبهم.

ففهم الذهبي هذا ليس بحجة، ولو كان حيّاً وراجعناه وعرضنا عليه هذا فلا أظن أنه سيقول بجهالة حال شيخ الدارقطني!

رابعاً: وأما قوله تعقيباً على المثال الذي ذكره: "هذا ولم يقْدِر الدكتور على دَفْعِ دلالة هذا العام على ضعف الضراب، لكن قال بعبارة فاترة: "والمفهوم من شيخه إلى مالك يعني الحسن الضراب..."، ثم سلك بعد ذلك سبيل التمحُّل" انتهى.

أقول: بل عبارتك سَمجة – واسمح لنا بهذا -! فاثبت العرش ثم انقش!

وها قد رجع لمسألة دلالة العام! – سبحان الله! هل هذه الحجة عندك ونحن ننازعك أصلاً في هذه الدلالة في هذا الموضوع!

وأي سبيل التمحل هذا الذي سلكناه؟!

ما سلكنا إلا سبيل أهل العلم في النقد وفهم الكلام ووضعها في نصابها، لا التعلق بلفظ يحتمل، ورددناه بالأدلة! فالله المستعان.

وهذا كلامي في ذلك قبل أن أسوق الأدلة على ما ذهبت إليه:

قلت:

"والذي قاله ابن حجر في ترجمة «الحسن بن الليث بن حاجب» (3/109) (2381) أنه روى عن أحمد بن سليمان الأسدي عن مالك خبراً باطلاً.

وهو، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس - رفعه: «من صلى المغرب، ثم صلى بعدها ركعتين قبل أن يتلكم كتب في عليين...» الحديث.

وعنه: رزق الله بن يوسف الإسكندراني من رواية الحسن بن إسماعيل الضراب، عَن عَلِيّ بن عبدالله بن أبي مطر، عن رزق الله.

قال الدارقطني: "مَن دون مالك في الإسناد ضعفاء كلهم".

قلت: فالدارقطني قال بأن من دون مالك في هذا الإسناد كلهم ضعفاء = والمفهوم من شيخه إلى مالك يعني: الحسن الضراب، عن علي بن أبي مطر، عن رزق الله، عن الحسن بن الليث، عن أحمد بن سليمان الأسدي!

أما أحمد بن سليمان فقد ساق له ابن حجر في ترجمة «الحسن بن الليث» حديثاً آخر له عن مالك، عَن الزُّهْرِيّ، عَن علي بن الحسين عن الحسين بن علي، عَن أبيه - رفعه: «كل مسكر خمر وثلاثة غضب الله عليهم...» الحديث.

ثم نقل عن الدارقطني أنه قال: "هذا حديث منكرٌ، وأحمد متروك".

وأما رزق الله بن يوسف الإسكندراني، فذكره ابن حجر في «اللسان» (3/471) (3145) بهذه الرواية، ثم قال: "ضعفه الدارقطني".

وأما علي بن عبدالله بن أبي مطر الإسكندراني، فقد قال فيه الذهبي: "صدوق مشهور. قد ذكره النباتي أبو العباس في تذييله لكونه ذكر في سند ضعف وهذا لا يضره".

وقال ابن حجر في «اللسان» (5/553) (5423): "وقد قال الدارقطني في «غرائب مالك»: إنه ضعيف. وَأورَدَ له خبراً باطلاً".

وأحال على هذا الخبر الذي رواه الضراب.

قلت: فانظر إلى جزم ابن حجر بنسبة التضعيف لهم كلهم عن الدارقطني إلا في الضراب، فإنه قال بأن مقتضى كلام الدارقطني أنه يضعفه! فلم يجزم بذلك".

فهل هذا السبيل سبيل التمحّل؟!

نعوذ بالله من الهوى!

وانظر لزاماً ترجمة «الدرقطني» في «تنكيل المعلمي» (164)، وكيف عالج بعض أقوال الدارقطني في بعض الرواة، وختم ذلم بقوله: "قولهم: «شيوخي كلهم ثقات» أو «شيوخ فلان كلهم ثقات» لا يلزم من هذا أن كل واحد منهم بحيث يستحق أن يقال له بمفرده على الإطلاق «هو ثقة» وإنما إذا ذكروا الرجل في جملة من أطلقوا عليهم ثقات فاللازم أنه ثقة في الجملة أي له حظ من الثقة وقد تقدم في القواعد أنهم ربما يتجوزون في كلمة «ثقة» فيطلقونها على من هو صالح في دينه وإن كان ضعيف الحديث أو نحو ذلك. وهكذا قد يذكرون الرجل في الجملة من أطلقوا أنهم ضعفاء وإنما اللازم أن له خطأ ما من الضعف كما تجدهم يذكرون في كتب الضعفاء كثيرا من الثقات الذين تكلم فيهم أيسر كلام".

ثم ليس من منهج الدارقطني أنه يضعف بعض شيوخه بمثل هذه السلاسل التي جاءت في كتابه، ويكون قد وثّق بعضهم خارج الكتاب!

·       3- ثمّ بدأ (المُعترِض) بعرض ما سماه الأخطاء المنهجية الفادحة!

قال: "الخطأ المنهجي الأول: استخلاص الدكتور القواعد الكلية من أمثلة يسيرة مثالين أو ثلاثة، وهذا خطأ فادح فـ"استنتاج الكليات من الجزئيات يَعْتَمِد كثرتها، لتنتفيَ الخصوصية، ويؤخذ بالقدر المشترك".

والاستقراءُ الناقص ليس بحُجة إلا إن كثُرت الجزئيات كثرةً يحصُل معها ظن عموم الحكم، على حد قوله في المراقي: "وهو في البعض إلى الظن انتسبْ / يُسْمى لحوق الفرد بالذي غلَبْ".

وعليه فاستخلاصُ كون الدارقطني حين يُضعف كل رواة إسناد ما، فشيخُه مُستثنى من ذلك التضعيف بهذه الأمثلة القليلة التي ذكر الشيخ مردود رأسا، هذا مع مخالفته لظاهر كلام أبي الحسن كل مرة!

ونحن نتبرّع للدكتور بمثال آخر فاته من شيوخ الدارقطني الثقات، الذين وقعوا في سلاسل ضعّفها (سهل بن إسماعيل الثغري)" انتهى.

أقول:

هذه القاعدة التي ذكرها صحيحة ولا نخالفه فيها! والمشكلة أنه يظن أنه بإقحامه هذه المسائل الأصولية في الحديث يكون قد نقض كلامنا! لكن هيهات!

وكان ينبغي عليه أن يخرم هذا الذي ذكرناه عن الدارقطني في عدم دخول شيوخه في التضعيف الذي يذكره في سلاسل بعض الأسانيد كان ينبغي له أن يأتينا بمثال يخرم هذا!

وحتى لو فاتنا بعض الأمثلة، فهي منسجمة مع ما ذكرنا من هذه القاعدة، وهذا ما تحصلنا عليه من أمثلة قليلة نقلها أهل العلم من كتابه «غرائب مالك»، فالأمر هنا متجه إلى هذا الكتاب، والكتاب ليس بين أيدينا، وهذه الأمثلة تدل على ما ذكرنا فهو بمثابة الاستقراء الكامل مما وجدناه من نقل عنه، فلا يكون هناك مخالفة لما ذكره الأخ!

بل هو مطالب بأن يرد على هذه الأمثلة، لا أن يُدخل القارئ فيما ادّعاه بأنها مخالفات منهجية! ولو أن أهل الأصول طبّقوا قواعدهم على أهل الحديث وكلامهم لزادوا الطين بلّة! بل وهل دمّر فهم الحديث إلا إقحام أهل الأصول فيه، والله المستعان.

وأما المثال الذي تبرع به لنا عن شيخ الدارقطني: "سهل بن إسماعيل الثغري"، فهو يؤيد ما ذكرناه، ويُشكر عليه.

فقد جاء ذكره في ترجمة «صالح بن عبدالله القيرواني» (3/174) (700) قال: "أخرج الخطيب في «الرواة عن مالك» من طريق أبي الفتح الأزدي، قال: حدثنا سهل بن إسماعيل الطرسوسي - كهلٌ كان يسمع معنا -: حدثنا عمر بن محمد بن رزق الله - بتلعكبرا -، قال: حدثنا الفضل بن صالح بن عبدالله القيرواني، قال: حدثنا أبي، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما – رفعه: «لا تقوم الساعة حتى تخرج الظعنة من الحيرة بغير جوار». قال الخطيب: «عمر ضعيف، وصالح وابنه مجهولان». وأخرج الدارقطني هذا في «الرواة عن مالك» عن سهل هذا وكنّاه: أبا صالح، ووصفه بأنه قاضي طرسوس، وأخرجه في «غرائب مالك» فقال فيه: الثغري: حدثنا عمر بن محمد بن رزق الله الخطيب - بتلعكبراء -، وقال في آخره: «لا يصح ومن دون مالك ضعفاء». قلت: فدخل في ظاهر هذا العبارة: صالح وابنه والخطيب وسهل، والله أعلم، وسيأتي للفضل حديث آخر في ترجمته".

وذكر في ترجمة «الفضل بن صالح القيرواني» (4/443) (1355) قال: "حدّث بمصر سنة ثلاث وتسعين ومائتين عن عبدالله بن وهب، وحدّث أيضاً عن أبيه بخبر تقدم في ترجمة أبيه، رواهما عنه: عمر بن محمد بن رزق الله الخطيب. فأما الأول فتقدم في ترجمة صالح، والخطيب قال: «عمر ضعيف، والفضل وصالح مجهولان». وأما الثاني: فهو عن ابن وهب، عن مالك والليث، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - رفعه: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب». قال الدارقطني في الأول: «من دون مالك ضعفاء»، وقال في الثاني: «هذا باطلٌ»".

قلت: فانظر إلى عبارة ابن حجر مُعقباً على قول الدارقطني: "فدخل في ظاهر هذا العبارة: صالح وابنه والخطيب وسهل، والله أعلم".

وهنا أيضاً لم يجزم ابن حجر، وكأنه بسبب هذا لم يفرده بترجمة في كتابه؛ لأنه ثقة، ذكره الخطيب في «تاريخه» (10/175) (4688)، وقال: "وكان ثقة".

وحتى لو جزم ابن حجر بذلك، فهو مردود!

فهذا المثال والأمثلة التي ذكرناها تبين لنا ما أصّلناه عن الدارقطني أنه إذا ذكر هذه العبارات بتضعيف ما دون مالك في الإسناد أن شيوخه لا يدخلون في ذلك.

وإخضاع (المُعترِض) هذه لخطأ منهجي حقيقة أمر مُضحك – غفر الله الله وهداه للحق -. فما دمّر علم الحديث إلا إقحام أهل الأصول فيه ما لا يمشي على قواعدهم، فعلم الحديث أعمق من هذه القواعد!

·       4- ثمّ أتحفنا (المُعترِض) بأربعة تُحف في بيان هذا الخطأ المنهجي المُدّعى!

قال: "ثم نُتْحِفه الآن بأربع تُحَف:

*الأولى: الدارقطني قد أسند في «غرائب مالك» أحاديث عن بعض شيوخه ثم ضعّفهم:

-فقال عقب إسناده لحديث عن محمد بن أحمد بن علي ابن محرم: (وهذا باطل لا يصح، وشيخنا ضعيف)، ينظر اللسان (٦/٥٢٣).

-وقال عقب إسناده لحديث عن شيخه القاضي عبدالله بن أحمد بن ربيعة بن زبر: (الواقعي ضعيف، وشيخُنا ضعيف)، ينظر اللسان (٤/٤٢٦).

-وأخرج عن إسماعيل بن علي الخزاعي في «غرائب مالك»، ثم قال: "لم يكن مرضيا"، ينظر اللسان (٢/١٤٩).

-وأخرج عن محمد بن علي بن إسماعيل الأُبُلِّي، وقال: ضعيف. ينظر اللسان (٥/٩١).

-وأخرج عن عبد الرحمن بن جعفر البَرْذَعي وضعّفه.

-وأخرج عن عبدالله بن إسحاق الجرجاني حديثاً، وقال: "كل من دون مالك ضعفاء" واعتمد ذلك الذهبي وجعله إشارة لتضعيف شيخ الدارقطني! ينظر الميزان (١/٢٤٣)" انتهى.

أقول:

سبحانك ربّي، ما هذا الخلط؟!

فما شأن من روى عنهم الدارقطني في كتابه «غرائب مالك» من شيوخه وضعّفهم في مسألتنا، وهي أنه يُضعّف ما دون مالك في الإسناد، فهل يدخل في ذلك شيوخه؟

فمن روى عنهم ونص على تضعيفهم فهم خارج محل النزاع! وهذا عجيب من هذا (المُعترِض) الأصولي!

وكنت قد ذكرت في منشوري السابق:

"والخلاصة أن الدارقطني إذا ضعّف الإسناد كله في إسناد ما في «غرائب مالك» لا يدخل في هذا شيوخه، إلا إذا ضعّفهم صراحة أو نُقل عنه ذلك في بعض كتبه".

فلم غض (المُعترِض) الطرف عن هذا؟!

والمثال الأخير هو الذي ينطبق فقط على موضوعنا، وكنت قد ذكرته أيضاً في منشوري السابق، ورددت قول الذهبي!

قلت:

"*وأخرج أيضاً في «غرائب مالك» قال: أخبرنا أبو أحمد عبدالله بن إسحاق بن يعقوب الجرجاني - قدم علينا - من كتابه، قال: حَدَّثَنا علي بن مزداد الجرجاني الصائغ، قال: حَدَّثَنا زكريا بن الحارث أبو يحيى النسوي، قال: حَدَّثَنا مالك، عَن حُمَيد، عَن أَنس قال: جاء علي ومعه ناقة... الحديث. وفيه: «ومن كثر حرصه اشتد همه».

قال الدارقطني: "هذا باطل، وكلّ من دون مالك ضعفاء مجهولون". [لسان الميزان: ترجمة «عبدالله بن إسحاق بن يعقوب الجرجاني» (4/435) (4161)].

قلت: وهذا يقتضي أن شيخه عبدالله بن إسحاق مجهول ضعيف! وهذا ما فهمه الذهبي فذكره في «الميزان» (2/392) (4211) وقال: "كتب عنه الدارقطني، وأشار إلى ضعفه"!

وهذا فيه نظر! فهو ليس بمجهول للدارقطني!".

فالدارقطني إذا أورد الحديث عن شيخ ما وضعفه فقد وضع عهدة الحديث عليه.

فمثلاً في المثال الأول:

قال الذهبي في «الميزان»: "محمد بن أحمد بن علي بن المحرم. من كبار شيوخ أبي نعيم الحافظ. روى عنه الدارقطني وضعفه. وقال البرقاني: لا بأس به. وقال ابن أَبِي الفوارس: لم يكن عندهم بذاك هو ضعيف".

وقال ابن حجر في «اللسان»: "وقد أورد الدارقطني في «غرائب مالك» عنه، عَن عَبدالله بن أحمد الدورقي، عن إسحاق الفروي، عن مالك، عن سمي، عَن أبي صالح، عَن عَلِيّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - خبرًا منكرًا في عائد المريض، وقال: هذا باطل، لا يصح، وشيخنا ضعيف".

فالظاهر هنا أنه جعل العهدة على شيخه الذي ضعفه، ولهذا صح قول الذهبي: "روى عنه الدارقطني وضعفه".

فما شأن هذا بموضوعنا؟!

والمثال الثاني أين (المُعترِض) مما قاله الدارقطني عن أبي محمد ابن زبر هذا!

قال الخطيب: حدثني الصوري: سمعت عبدالغني بن سعيد يقول: سمعت الدارقطني يقول: "دخلت على أبي محمد بن زبر وأنا إذ ذاك حَدَثٌ وبين يديه كاتب له وهو يملي عليه بالحديث من جزء والمتن من آخر، وظنَ أني لا أتنبه على هذا".

فهذا كذاب! ولهذا قال مسلمة بن قاسم: "كان ضعيفاً يزن بكذب. وسمعت بعض أصحاب الحديث يقول: كان كذاباً".

والحاصل أن هؤلاء الذين ذكرهم (المُعترِض) خارج محل النزاع، وهذا منه حشو ليخادع القارئ الذي هو أصلاً بعيد عن أصل المسألة!

·       5- ثمّ ذكر التحفة الثانية:

قال: "*التحفة الثانية: أخرج الدارقطني في "غرائب مالك" حديثا عن سهل بن إسماعيل الطرسوسي الثغري عن عمر بن محمد بن رزق الله الخطيب عن الفضل بن صالح القيرواني عن أبيه عن مالك... ثم قال: "ومن دون مالك ضعفاء".

فعلّق ابن حجر: "فدخل في ظاهر هذه العبارة صالح وابنه، والخطيب، وسهل"، ينظر اللسان (٤/٢٨٩).

قلت: وسهلٌ هو شيخ الدارقطني في الإسناد، وثّقه الخطيب البغدادي، ومع ذلك حَكَم ابن حجر بأن الدارقطني يُضعّفه، كما حكم بذلك في راوينا الضراب، وهذا بخلاف استقراء الشيخ الذي لم يستوف شروط القبول، وخالف الظواهر وفهومَ الحُفّاظ -كابن حجر- بلا دليل!".

أقول:

قد تكلمت على هذا في النقطة الثالثة وقلت بأن ابن حجر لم يجزم بهذا! ولم يفرد له ترجمة! ولازم ذلك أن يفعل ذلك!

ولا زال (المُعترِض) يتمسك بأن الدارقطني ضعّف الضراب بكلمة ابن حجر المتنازع عليها!

وأين مخالفتي للاستقراء الذي لم يستوف شروط القبول؟

(المُعترِض) – هداه الله – يفترض الأشياء في عقله ثم يبني عليها!

وأين مخالفتنا للظواهر وفهوم الحفاظ؟

فظاهر الكلام كل له فهم فيه، ونؤكد وأكدت مراراً أن كلام ابن حجر ليس فيه جزم، وحتى لو خالفناه هل هذا دليل عند (المُعترِض)؟

فلا زال أهل العلم يختلفون في مثل هذه الأمور، ففهم الواحد ليس بدليل على نقض فهم الآخر!

وإنما نسلك سبيل الترجيح بالقرائن أو نبيّن خلاف هذا الفهم بالأدلة والقرائن أيضاً.

وقد نقلت في المنشور السابق قولاً لابن حجر يخالف قول الدارقطني في الضراب إن كان (المُعترِض) يرى أن ابن حجر ذهب إلى تضعيفه بناء على قول الدارقطني!

قلت في حديث ذكرته:

أخرجه الدارقطني أيضًا عن الحسن بن إسماعيل الضراب، عن سعيد بن عثمان بن السكن، عن سليمان بن يزيد القزويني، عن عقبة مثله. وهذا الإسناد لا بأس به إلى عقبة. فالحمل فيه عليه".

قلت: فها هو ابن حجر يقول بأن إسناد الدارقطني عن الحسن الضراب لا بأس به إلى عقبة.

وهذا يعني أن الضراب لا بأس به، فكيف يناقض ابن حجر نفسه إذا كان يرى ضعف الضراب؟

ومن المؤسف أن من منهج (المُعترِض) أنه يُعرض عن أشياء قلناها تنسف كلامه! وهذا ليس بمنهج سوي عند أهل العلم!

فالأصل ذكر كل شيء والرد عليه!

·       6- ثمّ ذكر التحفة الثالثة:

قال: "*التحفة الثالثة: أدخل العراقي في "ذيل الميزان" الحسن بن محمد السَّكُوني، وهو من شيوخ الدارقطني، أدخله فيه لحكم الدارقطني على سلسلة هو فيها بالضعف!

قال الحافظ العراقي: "روى الدارقطني في "غرائب مالك" عنه عن محمد بن إدريس الأصبهاني..... عن مالك...... ثم قال: باطل بهذا الإسناد، ومن دون مالك ضعفاء" انتهى من الذيل (ص٨٠)".

أقول:

نعم، الظاهر أن العراقي ذكره فهماً من كلام الدارقطني، ونقله ابن حجر في «اللسان» عن العراقي، ولم يتعقبه بشيء.

وعلى هذا كان ينبغي له ذكر رواة آخرين في كتابه استناداً لأقوال الدارقطني هذه، فكان ينبغي له ذكر "سهل الثغري" الذي جاء ذكره في نقطة (3)، وإنما ذكر (617): "الفضل بن صَالح بن عبدالله القيرواني"، ولم يعرِّج على ذكر سهل!

وفهم العراقي هذا أو فهم الذهبي أو ابن حجر في رواة أفراد هكذا لا يُلزمنا في نسبة تضعيف الدارقطني لشيوخه؛ لعدم جزم بعضهم بذلك، وإلزامهم برواة آخرين كان ينبغي عليهم ذكرهم استناداً إلى أقوال الدارقطني التي فهموا منها تضعيف شيوخه!

واستناداً إلى ذكر (المُعترِض) للقواعد الأصولية، ففهم هؤلاء العلماء كان ينبغي أن يصدق على كل الرواة لا على بعض الأفراد!

·       7- ثمّ ذكر التحفة الرابعة:

قال: "*التحفة الرابعة: أدخل الذهبي في الميزان شيخ الدارقطني عبدَالله بن إسحاق الجرجاني كما مر، وذلك لحُكم الدارقطني على رجال إسنادٍ هو فيه بأنهم ضعفاء كلهم، واعتبر ذلك إشارة من الدارقطني لضعفه، وسيأتي مزيد بحث في أخطاء الدكتور حول الجرجاني هذا!

فهؤلاء الأئمة الحفاظ الثلاثة (الذهبي، والعراقي، وابن حجر) يخالفون قاعدة الدكتور واستقراءه، على أنها واهية في الأصل!" انتهى.

أقول:

التكرار يعيب الباحث! فلا زال (المُعترِض) يُكرر ذكر الأمثلة مع أن مقصودها واحد وهذا معيب! والأصل إذا لزم التكرار أن يكون لفائدة.

وقد ذكرت فعل الذهبي في المنشور السابق وفي هذا المنشور، فلا داعي لإعادة الكلام.

وأما أن هؤلاء الحفاظ الثلاثة يخالفون قاعدتي بل هم يخالفون أنفسهم! وهذا يُعدّ من باب التناقض عندهم!

وحتى لو لم يكن عندهم تناقض في هذا، فأخالفهم؛ لأن الأدلة بالأمثلة التي قدمتها من أصل كلام الدارقطني تخالفهم.

وأما وصف قاعدتي بأنها واهية في الأصل فانقضها بالأدلة حتى تصل إلى نتيجة مُدعمة بالحجة لا بالكلام العاطفي الذي يقرر النتيجة التي استقرت في ذهنك!

فالأصل الدفاع عن هؤلاء الشيوخ لا الاستماتة في تضعيفهم! والله المستعان.

وأنبّه هنا إلى خلل منهجي عند (المُعترِض)، فإنه يحتج بكلام هؤلاء الأئمة الثلاثة عند موافقة رأيه، ويرد كلامهم الذي يخالف رأيه!

فالذهبي أورد شيخاً من شيوخ الدارقطني في الضعفاء بحسب كلام الدارقطني، مع أنه كان محترزاً فقال: "أشار الدارقطني" ولم يقل: "ضعفه الدارقطني"، فاحتج (المُعترِض) بهذا، لكن لما لم يورد الذهبي الضراب في الضعفاء – وهو ينقل من كتاب الدارقطني في غرائب مالك – ووثق الضراب لم يرتض (المُعترِض) منه هذا التوثيق فرده بتمحل كما سيأتي بيانه.

وأما العراقي فكذلك أورد شيخاً للدارقطني في كتابه بحسب كلام الدارقطني في تضعيف سلسلة ذلك الحديث، ولكنه لما ذكر شيخه ابن رُميحٍ أجرى كلام الدارقطني في السلسلة إلا شيخه؛ لأنه وثقه في مكان آخر، فقبل (المُعترِض) الأول، ورد الثاني!

وأما ابن حجر فكان حذراً فلم يجزم في المواضع الثلاثة بتضعيف الدارقطني لشيوخه بحسب كلامه، ولهذا لا ينبغي له أن ينقل عن ابن حجر أنه يرى ضعفهم!

·       8- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي الثاني:

قال: "*الخطأ المنهجي الثاني: جَمْعُ الدكتور بين المفترق!

ساق الدكتور مثاليْن ذكر فيهما الدارقطني شيخيْن له وضعّف كل السلسلة، وكان وثّق ذين الشيخين في موطن آخر.

وليس هذا مثل حال شيخه الضرّاب الذي هو محل البحث، فإنه لم يوثقه في موطن آخر البتة.

ومعلوم أن اختلاف قول الناقد في الراوي الواحد كثيرٌ فاش، فإمَّا سلكنا سبيل الجميع في المثالين، أو صِرْنا للترجيح.

أما في حالتنا فلا يجوز دفْعُ تضعيف الدارقطني للضَّرَّاب وليس ثمة نقْلٌ آخر عنه في توثيقه!

وهذا خلل منهجي في المساواة بين من اختلفت أقوال الناقد الواحد فيهم ظاهرا، ومن لم يكن له فيهم إلا قول واحد" انتهى.

أقول:

بل هذا خلل منهجي عندك! ويبدو أنك لا تعرف معنى جمع المفترق عند المحدثين!

نحن لسنا بين أقوال مختلفة للناقد الواحد في الراوي نفسه! بل نخالفك أن يكون عنده قولا آخر! وإنما نحاكمك إلى ما استقر عندك من أن الدارقطني ضعف شيوخه بهذا الكلام الذي يذكره في هذه السلاسل.

فالياموري، وابن رُميح قد ضعفهم الدارقطني – بحسب رأيك – في تلك الأسانيد، وقد وثقهم في أماكن أخرى!

فكيف نتعامل معهما؟

تنزلاً أنه ضعفهما في مكان، ووثقهما في مكان آخر، فما العمل؟ أنت قلت: نسلك سبيل الجمع أو صرنا للترجيح، فهات اجمع أو رجّح مع بيان الدليل؟!

والإشكال عندك أنك تسير على قناعة أن الدارقطني ضعّف هؤلاء، وهذا ما نخالفك فيه وأن هذا الكلام الذي يسوقه في هذه السلاسل يُستثنى منه شيوخه، ولهذا أتينا بهذه الأمثلة لبيان أنه لا يقصد الضراب في ذلك الإسناد، فليس الأمر كما تصورت أنه خلل في المنهج! بل هذا خلل في الفهم عندك!

والغريب أنك غضضت الطرف عن الأمثلة الأخرى التي فيها أيضاً ما يؤيد أن الدارقطني لا يقصد شيوخه في هذا الكلام، وإلا قل لي – بربك – كيف يروي عن شيخ له ويضعفه بقوله: "مجهول"!!! ألا يعرف الدارقطني حاله، وهو شيخه؟!

فالخلل المنهجي الفادح عندك أنك تأتي إلى قواعد وتسقطها بحسب ما تريد!

ونُهديك (تُحفة) – على رأيك – تأتي على كلامك هذا:

فشيخ الدارقطني أَحمد بن محمد بن إسحاق المعروف بالياموري هو أحد المثالين اللذين أشرت إليهما وأنه وثقه في مكان آخر = يعني ضعفه في تلك السلسلة التي نقد فيها إسناد حديثه.

ذكر العراقي في «ذيل الميزان» (427) قال: "سعيد بن مُحَمَّد بن الْأَصْبَغ: ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ، فَقَالَ فِي «غرائب مَالك»: حَدثنِي أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق: حدثَنَا مُحَمَّد بن سهل بن الحسن العَطَّار: حدثَنَا سعيد بن مُحَمَّد بن الْأَصْبَغ: حدثَنَا حبيب: حدثَنَا ابن أبي ذِئْب وَمَالك، عَن نَافِع، عَن ابن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَلا يعجبكم إِسْلَام الرجل حَتَّى تنظروا عقدَة عقله»، ثمَّ قَالَ: "بَاطِل، وَمُحَمّد بن سهل وَمن فَوْقه إِلَى مَالك ضعفاء".

فهنا لم يذكر شيخه الياموري في سلسلة الضعف، فهل هذا يعني أنه وثقه هنا، وفي تلك السلسلة ضعّفه؟!

أظنّ لا يقول بهذا عاقل!

فالدارقطني في كتابه «غرائب مالك» يتفنن في عبارته، فأحياناً يُضعّف شيخه وينص على ذلك، وأحياناً يذكر سلسلة الضعف فيفهم القارئ منها أنه يدخل فيها شيخه وليس كذلك؛ لأنه كما هنا في المثال الأخير أورده في إسناد آخر وضعف من فوقه، وقد وثق بعضهم في أماكن أخرى، وأحياناً يشير إلى التضعيف ممن هم فوق شيخه، فلا بد من جمع هذه العبارات وكيفية سياقها حتى نخرج بنتيجة وهي أن شيوخ الدارقطني إذا لم يتكلم عليهم أو يستثنيهم صراحة فهم على الأصل من أنهم ثقات عنده = ليسوا بضعفاء.

هذه طريقة أهل الحديث في التعامل مع كلام النقاد لا أن يخضعوها للتمسك برأي استقر في الذهن ولقواعد متوهمة!

·       9- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي الثالث:

قال: "*الخطأ المنهجي الثالث: يرى الدكتور أن كل من اختلف قول الدارقطني فيهم بأنْ ضعّف السلسلة كلها في موطن، ثم وثّق أحد رواتها في موطن آخر، فالعملُ على التوثيق ضربة لازب.

وهذا غير لازم، فيحتمل أنه قد اختلف قولُه في أولئك الرواة، وهو احتمال قريب، ويحتمل أيضا انفكاك جهتيْ الضعف والتوثيق، ولذلك عدة نظائر، فينبغي النظر في القرائن، ولا يتسّع المقام لبسط هذه المسألة.

هذا مع أن الجمع أو الترجيح مفروضان فقط عند ظهور التعارض بين قوليْ إمام معين، وليس في راوينا بحمد الله اختلاف عن الدارقطني".

أقول:

رجعنا إلى أن الأخ (المُعترِض) – هداه الله – يُخضع كل القواعد التي ذكرها وأنها من الخلل المنهجي لرأيه في أن الدارقطني ضعّف شيوخه! ونحن ننازعه في هذا؛ لأنه لم ينص صراحة على ذلك في شيوخه، بل وتردد العلماء الذين احتج بهم في ذلك كالذهبي وابن حجر – كما سبق بيانه -!

ثم هو في هذا يفتري عليّ!

فأين كلامي أنه إذا اختلف قول الناقد في الراوي، فضعفه في مكان، ووثقه في مكان، فإني أرى العمل على التوثيق؟!!

فلا أدري من أين جاء بهذا من كلامي؟

بل إن الذي أذهب إليه في هذه المسألة العمل بالتضعيف؛ لأنه يبعد أن يكون الناقد ضعّف شيخاً ثم وثّقه، لكن في الغالب أن بعضهم يوثق بعض الرواة، ثم لما يتبيّن لهم ضعفهم يضعفونهم.

ومسألة الاحتمالات التي قالها بناءً على رأيه الخيالي هذا تبقى احتمالات، ويا ليته بسط لنا المسألة، وعدم الاعتذار بأن المقام لا يتسّع لبسطها! فهو يحاججنا بالقواعد الأصولية، فأين: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟!

ثم رجع إلى مسألة الجمع عند اختلاف الناقد في الراوي الواحد وسحب ذلك على أن هذا لا يدخل في الراوي الذي نتكلم عليه وهو: الضراب! = فرجعنا إلى اعتقاده في أن الدارقطني ضعف شيوخه هؤلاء! ولا يفهم أننا ننازعه في فهمه! وإنما أتينا بهذه الأمثلة لنبيّن أنه لا يدخل شيوخه في كلامه على تلك السلاسل.

فأين قواعدك الأصولية عند الاختلاف بين العلماء؟!

·       10- ثمّ ذكر بعض التنبيهات:

قال: "*-تنبيه: احتج الدكتور بكلام العراقي على أن الدارقطني لم يقصد في حكمه على سلسلة فيها شيخُه ابنُ رُميح تضعيفَه، واستدل العراقي على ذلك بأنه قد وثقه في موطن آخر، وهذا رأي للعراقي، وهو محتمل، وليس فيه أكثر من تخصيص العام بدليل منفصل، وهو خلاف ما نحن فيه، فليس ثمة أي اختلاف على الدارقطني في الحكم على الحسن بن إسماعيل الضراب، فلا يجوز تخصيص العام المؤكد بالأوهام.

-تنبيه آخر مُهم: العراقي لم يجزم بأن الدارقطني لم يُرِد تضعيف شيخه ابنِ رميح حيث ضعّف السلسلة، بل قام عنده تردُّد ما، قال: "وكأن الدارقطني أراد بذلك من عدا شيخه؛ فإنه وثق أحمد بن محمد بن رميح في غير هذا الموضع، وإن كان قد ضعفه أبو زرعة الكشي، وأبو نعيم، وقد ذَكر في الميزان ابنَ رميحٍ هذا" انتهى من ذيل الميزان (ص ٢١١).

فتأمّل قوله: "وإن كان قد ضعفه أبو زرعة الكشي...".

ثم لو كان الدارقطني يستثني شيوخه من الحكم ضرورةً، كما يقول الدكتور لما احتاج العراقيُّ للتدليل على أن شيخ أبي الحسن غير مقصود! وقد مر معنا في النقطة الرابعة إدخال العراقي بعض شيوخ الدارقطني في ذيله لمكان حكم أبي الحسن بالضعف على أسانيدَ مشتملة عليهم!" انتهى.

أقول:

أولاً: كما قلت مراراً: المُعارض يحاكم الكلام لما استقر عنده من تضعيف الدارقطني لشيوخه = وهذا هو محل النزاع معه، وعند التعارض نتبع القرائن.

وأما الاستدلال بقول العراقي فلم أصبح الآن قول العراقي محتمل وعندما تحتج أنت به يكون هو الحق في الخلاف نفسه؟

هذه ازدواجية في المنهجية وخلل كبير!!

واستدلال العراقي بأنه استثنى شيخه؛ لأن العراقي يعرف أنه وثقه في موطن آخر من كتابه، فلا يمكن أن يكون الدارقطني تناقض في هذا على فرض أنه ضعفه في المكان الذي أنت مُصمم على ضعفه فيه، ومن هنا أتينا بكلام العراقي كقرينة لا كدليل مستقل على أصل الموضوع؛ لأننا نتكلم على أنه هل يدخل شيوخه في كلامه على تلك السلاسل أم لا؟

وأي عاقل إذا عرف أن الدارقطني وثق بعض شيوخه في أماكن أخرى سيقول بأنه يستحيل أن يكون قصدهم بالتضعيف في تلك السلاسل، ومن هنا يجوز لنا أن نستدل بأنه شيوخه الآخرين خرجوا من ذلك؛ لأننا إذا قلنا بأنه ضعّف كل شيوخه في تلك السلاسل = فهذا يعني أنه ضعفهم في مكان، ووثقهم في مكان كما هو رأي (المُعترِض) الذي بنى عليه تخصيص العام! وليس كذلك! فلا يجوز الاحتجاج بمثل هذه القواعد الأصولية في محل نزاعنا الحديثي.

ثم هل يعقل أن أبا الحسن – وقد ذكر الخطيب كلامه في شيخه الياموري – هل يعقل أنه ضعفه في هذه السلاسل التي يُصرّ (المُعترِض) أنه قصد التضعيف فيها؟!

وعلى فرض صحة قول (المُعترِض)، لم لم يُشير الخطيب – ومن هو الخطيب؟ أعرف الناس بالدارقطني وكتبه ومنهجه وأحواله – إلى هذا الرأي الذي يتبناه (المُعترِض) من تضعيف أبي الحسن لشيخه الياموري، ويحلّ لنا الإشكال؟!!

ثانياً: العجيب أن (المُعترِض) في تنبيهه الثاني يقول: "العراقي لم يجزم بأن الدارقطني لم يُرِد تضعيف شيخه ابنِ رميح حيث ضعّف السلسلة، بل قام عنده تردُّد ما... فتأمّل قوله: وإن كان قد ضعفه أبو زرعة الكشي..."!!

فلم هنا أخذت بتردد العراقي – تنزلاً بصحة رأيك في هذا – ولا تأخذ بقول ابن حجر الذي ليس فيه تصريح بتضعيف الدارقطني للضراب!

هل هذا منهج سوي؟

ثم من قال لك بأن كلمة: "كأن" التي يستخدمها أهل الحديث ونقاده تعني التردد؟!

هذا كلام من لا يعرف ولا يخبر أقوال أهل العلم! والمشكلة أن (المُعترِض) يُفرد لنا عضلاته في المسائل الأصولية، وهنا اللغوية – ويكأننا لا نعرفها – وتطويع رأيه من خلالها ليسيطر على القارئ وينبهر بذلك!

فأهل العلل عندما يعللون بعض الروايات ويقولون: "كأن هذا أشبه"، أو: "كأن هذا شبه موضوع" هل يحمل هذا على التردد عندهم؟!

الجواب: قطعاً لا، بل هم بهذه العبارة يرجحون الأشبه هذا، وإنما هي عبارة فيها نوع من الذوق.

وأما قوله: "لو كان الدارقطني يستثني شيوخه من الحكم ضرورةً، كما يقول الدكتور لما احتاج العراقيُّ للتدليل على أن شيخ أبي الحسن غير مقصود! وقد مر معنا في النقطة الرابعة إدخال العراقي بعض شيوخ الدارقطني في ذيله لمكان حكم أبي الحسن بالضعف على أسانيدَ مشتملة عليهم!" فهذا لا يلزمني لأني لا أتبنى رأي العراقي، ولا رأي الذهبي في إدخال مثل هؤلاء في الضعفاء بناء على كلام الدارقطني!

فلا زلنا في الخلاف نفسه!

·       11- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي الرابع:

قال: "*الخطأ المنهجي الرابع "تصوُّر" الدكتور أن كل حديث فيه عدة ضعفاء، فيجب أن تُعْصب الجناية بهم جميعا! وهذا مخالف لما عليه القوم، فأحيانا يتردّدون، وأُحيانا أخرى تُعصب الجناية بأحد أفراد السلسلة لقرائنَ، كأن يكون شديد الضعف، أو وضاعا ونحو ذلك، ولكل خطإ وزنه، وبعضُ تلك الأخطاء لا يحتمل أن تكون من بعض الضعفاء! وهذا باب دقيق، وربما عبروا عن ذلك بـ "عدم الاحتمال".

-قال العقيلي في ترجمة "إسحاق بن بشر الكاهلي: كان ببغداد، منكر الحديث.

ثم أخرج من طريقه عن أبي مَعْشر عن نافع عن ابن عمر حديثا طويلا منكرا، ثم قال: "هذا حديث ليس له أصل، ولا يحتمل أبو معشر مثل هذا الحديث، وإن كان فيه لين، والحملُ فيه على إسحاق".

-وقال ابن عدي في الكامل في ترجمة (عمرو بن خليف): "حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة، حدثنا عمرو بن خليف، حدثنا أيوب بن سويد، عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة، فرأيت فيها ذئبا، فقلت: أذئب في الجنة؟ فقال إني أكلت ابن شرطي، قال ابن عباس: هذا وقد أكل ابنه، فلو أكله رُفِع في عليّين...".

ثم علّق ابن عدي: "وهذا الحديث بهذا الإسناد وبغير هذا الإسناد باطل، لم يروه غير عمرو بن خليف، وأيوبُ بن سويد وإن كان فيه ضعف، فلا يحتمل هذا كله".

*إذا تقرر هذا عُلم أن الدارقطني إنما عصب تلك المنكرات بعمر بن الربيع الذي رماه القرّاب بالكذب، لشدة ضعفه، فلذلك لم يحتَجْ أن يذكُر ضَعْف الضرّاب حين اجتمعا في الإسناد، كما أغفل ذِكْره حين عصَب جناية حديثٍ بشيخه أحمد بن مروان الدِّينَوَري لكونه وضاعا عنده" انتهى.

أقول:

سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!

من أين فهم (المُعترِض) أني أتصور أن كل حديث فيه عدة ضعفاء فيجب أن تُعْصب الجناية بهم جميعا؟!!

المصيبة أن (المُعترِض) يفهم شيئاً ثم يُحاكمنا لفهمه المعوّج!

فكلامي كان عن منهج الدارقطني في كتابه، فهو عندما يذكر هذا القول: "ومن دون مالك ضعفاء" ونحو ذلك، فهو هنا يضعف هؤلاء الرواة، ومنهم شيوخه – بحسب رأي (المُعترِض) - = فهذا منهجه، فقلت بأنه كان يروي عن شيخه الضراب أحاديث، ويعصب الجناية بشيخ الضراب أو غيره ولا يضعف الضراب وكان بإمكانه أن يقول كما قال في تلك السلاسل = ومن دون فلان ضعفاء، فيدخل في ذلك شيخه الضراب – بحسب رأي (المُعترِض) -، أما وأنه لم يفعل هذا فهذه قرينة أن شيخه الضراب ليس بضعيف؛ لأنه لم يعصب به شيئاً كما فعل في تلك السلاسل – وتضعيفه بحسب رأي (المُعترِض) -!

لكن المصيبة أن (المُعترِض) لا يفهم الكلام والسياق!

وهنا ناقض نفسه!

والأصل في تعصيب الجناية أن تعصب بأقرب راو ضعيف للشيخ، وعلى فرض أن الضراب ضعيف كان ينبغي تعصيب الجناية به كما في الأمثلة التي أتى بها من عند العقيلي وابن عدي كذلك!

وأما قوله بـ "أن الدارقطني إنما عصب تلك المنكرات بعمر بن الربيع الذي رماه القرّاب بالكذب، لشدة ضعفه، فلذلك لم يحتَجْ أن يذكُر ضَعْف الضرّاب حين اجتمعا في الإسناد، كما أغفل ذِكْره حين عصَب جناية حديثٍ بشيخه أحمد بن مروان الدِّينَوَري لكونه وضاعا عنده" فكلام ليس بصحيح!!

فنحن لا نتكلم عن رمي القراب له بالكذب! فهل رماه الدارقطني بالكذب؟ أو هل اعتمد الدارقطني على قول القراب؟! – وهو بعيد جداً؛ لأن القراب مات بعد الدارقطني بسنوات -؟

لم يزد الدارقطني على أنه قال عن الحديث: "ضعيف" وقال: "في السند عمر بن الربيع بن سليمان أبو طالب الخشاب". ولهذا أورده ابن حجر في كتابه، وقال: "ضعفه الدارقطني".

فهل ضعفه عند الدارقطني مثل ضعف الضراب – تنزلاً أنه ضعفه كما يرى (المُعترِض) -؟!

منهجياً لا يجوز لك أن تنسب تعصيب الدارقطني الجناية بعمر بن الربيع بكلام القراب أو غيره فيه؟!

فالمنهج السوي أن تنسب بحسب الكلام الناقد!

فعمر ضعفه الدارقطني صراحة، والضراب ضعفه الدارقطني أيضاً بحسب رأيك، فهل الأصل تعصيب الجناية بالضراب أم بعمر هذا؟

وبحسب منهج (المُعترِض) لا بد من تعصيب الجناية بالضراب لا بعمر بن الربيع؛ لأن هناك من وثق عمر كما نقل ابن حجر عن مسلمة بن قاسم، قال: "تكلّم فيه قوم، ووثقه آخرون وكان كثير الحديث".

وقال ابن حجر في ترجمة «عمر بن الربيع»: "وأورد له ابن عساكر في «غرائب مالك» من طريق الحسين بن علي بن محمد بن إسحاق الحلبي: حدثنا أبو طالب عمر بن الربيع الخشاب: حدثنا علي بن أيوب الكعبي من ولد كعب بن مالك: حدثني محمد بن يحيى الزهري أبو غزية: حدثني عبدالوهاب بن موسى: حدثني مالك، عَن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن... عن عائشة قالت: «حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه ثم إنه طفر فنزل، وقال: يا حميراء استمسكي، فاستندت إلى جنب البعير فمكث عني طويلاً، ثم عاد إليّ وهو فرح مبتسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك، ثم إنك عدت وأنت فرح، ففيم ذا يا رسول الله؟ قال: مررت بقبر أمي آمنة فسألت الله أن يحييها فأحياها فآمنت بي وردها الله».

قال ابن عساكر: «هذا حديث منكرٌ من حديث عبدالوهاب بن موسى الزهري المدني عن مالك، والكعبي مجهول، والحلبي صاحب غرائب، وَلا يعرف لأبي الزناد رواية عن هشام، وهشام لم يدرك عائشة، فلعله سقط من كتابي: «عن أبيه». انتهى.

ولم يُنبه على عمر بن الربيع، وَلا على محمد بن يحيى وهما أولى أن يلصق بهما هذا الحديث من الكعبي، وَغيره، وقد تقدم ذلك في عبدالوهاب بن موسى، وفيه إثبات قوله: «عَن أبيه» التي ظن أنها سقطت فهو كما ظن، وبالله التوفيق".

قلت: فابن حجر يرى أن إلصاق التهمة أولى أن تكون بعمر بن الربيع أو محمد بن يحيى!

لكن الدارقطني لم يلصقه بعمر بن الربيع.

فإنه ساقه في ترجمة «عبدالوهاب» (4/91) وذكر أن الدارقطني رواه في «غرائب مالك»، وقال في روايته عن أبي الزناد بعد فراغ أحاديث مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب في قصة: "ويروي عن مالك، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - حديثان منكران باطلان"، فذكر ما سيأتي في ترجمة «علي بن محمد الكعبي» إلى أن قال: "وهذا كذبٌ على مالك، والحمل فيه على أبي غزية، والمتهم به هو، أو من حدث عنه، وعبد الوهاب بن موسى ليس به بأس".

وذكر ابن حجر في ترجمة «محمد بن يحيى أبي غزية» (5/420): "ورماه الدارقطني بالوضع"، ثم ساق له الحديث، ونقل قول الدارقطني: والحمل فيه على أبي غزية... وتقدم له حديث في ترجمة عبدالوهاب بن موسى صرّح الدارقطني فيه بأنه باطل، وتردد في واضعه بين محمد بن يحيى هذا أو الراوي عنه علي الكعبي".

والخلاصة أن تعصيب الجناية الأصل تكون بأقرب راوي ضعيف للمصنف، لكن بعض أهل العلم يعصبون الجناية بمن عرف بالكذب أو الوضع ونحو ذلك، وقد يترددون كما ظهر من كلام الدارقطني.

والذي يهمنا هنا الأسانيد التي ذكرها الدارقطني عن شيخه الضراب عن عمر بن الربيع، فقد عصب الجناية فيها بعمر بن الربيع وضعفه، ولم يتكلم على الضراب، مع أنه في غير هذه المواضع يقول: "ومن دون فلان ضعفاء"، وكونه لم يتكلم على الضراب = فهذا يعني أنه لا يضعفه.

وإن أبى (المُعترِض) إلا أن يتمسك برأيه في تضعيف الدارقطني لشيخه الضراب، فالأولى أن يعصب الدارقطني الجناية في تلك الأحاديث به لا بعمر بن الربيع.

وأما اتهام الدارقطني للدينوري بالوضع فهذه مسألة أخرى نُحررها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

·       12- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي الخامس:

قال: "*الخطأ المنهجي الخامس عند الدكتور هو إلزامه الدارقطنيَّ بذكر كل الضعفاء في كل إسناد، وهذا غير لازم، وإنما هو بحسب النشاط، أو خفاء ضعف الراوي أحيانا، أو كون الجناية معصوبة به... إلخ".

أقول:

هذا مضحك – والله -!

أنا أتكلم على طريقته في الكلام وهي مستقيمة، ولا ألزمه، بل ألزمك أنت بحسب رأيك، والمشكلة أنك تسقط الأخطاء المنهجية على كلام أنت لا تفهمه!

فأين إلزامي للدارقطني؟!

أنا أقول: لو كان الدارقطني يُضعّف شيوخه الذين حولهم النزاع لكانت طريقته واحدة كما بيّنا.

ثم هل بيان الضعيف في الإسناد يكون بحسب النشاط؟ = يعني لا يستطيع مثل الدارقطني أن يقول: فلان ضعيف، وفلان ضعيف؛ لأنه لا ينشط لذلك؟!

ثم هل خفي على الدارقطني ضعف شيخه أو بعض الرواة في الأسانيد التي يسوقها؟!

·       13- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي السادس:

قال: "*الخطأ المنهجي السادس عند الدكتور هو عدم تحرير مصطلحات الأئمة!

قال الدكتور الحايك حفظه الله: "*وأخرج في «غرائب مالك» قال: حدثنا الحسن بن محمد بن علي الحراني.... ثم قال -أي الدارقطني: موضوع، ومن دون عبدالله بن نافع مجهول".

ثم علّق الدكتور بقوله: "مقتضى هذا أن شيخه محمد بن الحسن الحراني مجهول! وهذا لا يُعقل! فكيف يروي عنه ويُجهله، وقد روى عنه في سننه حديثا" انتهى.

*قلت: ظاهر كلام الدكتور أن الدارقطني لا يمكن أن يرويَ عن الحراني وهو مجهول العين عنده! وهذا الخطأ إنما نتج عن إغفاله معرفة كون المتقدمين إنما يطلقون الجهالة بغير قيد، فتارة يريدون جهالة العين، وأخرى يريدون جهالة الحال، وربما أرادوا الجهالتين معا!

بل حتى المتأخرون يطلقون أحيانا الجهالة بلا قيد، ويريدون جهالة الحال لا العين.

*قال الإمام الذهبي رحمه الله في الموقظة (ص٧٩): "وقولهم: مجهول، لا يلزم منه جهالة عينه، فإن جهل عينه وحاله، فأولى ألا يحتجوا به".

*تصويب: تحرّف اسم الراوي: "الحسين بن محمد الحراني" إلى "الحسن بن محمد" في طبعة لسان الميزان، فلم يتمكن الدكتور من معرفته ولا الوقوف على توثيقٍ له!

وهو ثقة، وثَّقه ابن أبي الفوارس، وابن الحَمَّامي، وكتب الناس عنه بانتخاب الدارقطني.

وهذا الانتخاب العام للناس يدل على أن الشيخ ثقة أو متماسك عند أبي الحسن، وهذا مخصص منفصل، ويمكن فيه أيضا أن يكون مجهول الحال بمعنى أن له غرائب ومنكرات، وأحاديثَ صحيحة، فيكون عند الدارقطني نوْعُ توقُّفٍ فيه، وإنما انتقى المحفوظ من حديثه، وعلى هذا الاحتمال الثاني لا تخصيص في حكم الدارقطني على السلسلة كلها بالضعف" انتهى.

أقول:

بل هذا خطأ عندك في عدم تحرير الفهم – هداك الله -!

فإن لم يكن الحايك يعرف تحرير مصطلح الجهالة فمن يعرفه إذن! ورسالته الدكتوراة عن المجهول وما يتعلق به!

وقولك: "ظاهر كلام الدكتور أن الدارقطني لا يمكن أن يرويَ عن الحراني وهو مجهول العين عنده" يدل على صعوبة عندك في الفهم! فأنا أتكلم على جهالة الحال وانظر إلى ضبطي لكلمة: "ويُجهّله" = أي جهالة حال!

وأما جهالة العين فمفروغ منها؛ لأن عينه معروفة، وإلا كيف يروي عن إنسان عينه ليست معروفة! الله المستعان.

وأما بالنسبة للتحريف الذي صوّبه (المُعترِض):

فأولاً: كان ينبغي الإشارة إلى اسمه كاملاً، فنحن نتحدث عن "محمد بن الحسن بن علي الحراني"، وقول (المُعترِض): "تحرّف اسم الراوي: "الحسين بن محمد الحراني" إلى "الحسن بن محمد" في طبعة لسان الميزان" – يظن القارئ أن اسمه: "الحسن بن محمد" وليس كذلك!

ثانياً: قوله: "فلم يتمكن الدكتور من معرفته ولا الوقوف على توثيقٍ له" – وإن كان فيه نوع غمز – فلا يعيب الإنسان إن فاته شيء مع أني لم أقصد التحرير في هذا الموضع وكان التركيز على قول الدارقطني في شيخه ولفظه الذي أطلقه في الإسناد.

وقد وقع أيضاً في «الميزان»، و«ذيله»، وكذا في «سنن الدارقطني»: "محمد بن الحسن بن علي الحراني".

فربما يكون آخر غير الذي ذكره الخطيب في «تاريخه» (3/34): " محمد بن الحسين بن علي الحراني" والذي انتخب عليه الدارقطني؟! – مع أن الأقوى أنه هو؛ لأن حديث الدارقطني عنه في «السنن» عن مُحَمَّدِ بن الحَسَنِ بنِ قُتَيْبَةَ، وقد ذكر الخطيب في ترجمته أنه حدّث عن محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني.

ثالثاً: نشكر (المُعترِض) على هذا التصويب؛ لأنه حجة لنا لا له! فهذا يلزم الذهبي، وابن حجر، والعراقي أن يذكروه ممن ضعفهم الدارقطني!

ثم العجب كيف يخالف (المُعترِض) منهجه فأين توثيق الدارقطني له حتى يجعل هذا التوثيق مخصص منفصل!!

ثم هل الانتخاب على شيخ ما يدل على أنه ثقة أو متماسك كما ادعى (المُعترِض)؟

على العكس! فقد يكون الشيخ ضعيفاً، فينتخب عليه العالم كأبي الحسن ما وجد من صحيح حديثه في نسخه، وهذا معروف عند أهل هذا الشأن.

بل إن (المُعترِض) لما تخبط في شأن شيخ الدارقطني هذا حمل جهالة الحال على أن له غرائب ومنكرات، وأحاديث صحيحة! ثم زعم أنه نوع توقف فيه عند الدارقطني وانتفى المحفوظ من حديثه!

لكن استدرك على نفسه ونفى التخصيص على الاحتمال الثاني الذي لا يدل على ثقته عند الدارقطني!

والحاصل عند (المُعترِض) أنه إن كان ثقة عند الدارقطني فيكون التوثيق تخصيص للتضعيف، وإن لم يكن فيكون ضعيفاً بجهالة الحال بحسب كلام الدارقطني في السلسلة!

ولاحظوا كيف حاول (المُعترِض) الهروب من تجهيل الدارقطني لحاله – على فرض أنه قصد شيخه – إلى أن له (غرائب ومنكرات وصحاح)! فهل بربكم مر بكم هذا المعنى من قبل! – إن هذا لشيء عُجاب!

فها هم الضعفاء عندهم أحاديث صحيحة، ومنكرات، وغرائب، بل وبعض الثقات عندهم هذا = فهل يصح أن نقول في الواحد منهم: "مجهول الحال"؟!

سبحان الله.

·       14- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي السابع:

قال: "*الخطأ المنهجي السابع: دَفْعُ أقوال أئمة النقد الحُفاظ بلا مستند!

ذكر الشيخ إيرادَ الذهبيِّ عبدَالله بن إسحاق الجرجاني في الميزان، وقولَه: "كتب عنه الدارقطني وأشار إلى ضعفه".

ثم تعقّبه بقوله: "وهذا يقتضي أن شيخه عبدالله بن إسحاق مجهول ضعيف، وهذا ما فهمه الذهبي فذكره في الميزان، وقال: (كتب عنه الدارقطني، وأشار لضعفه)، وهذا فيه نظر! فهو ليس بمجهول للدارقطني!" انتهى.

قلت: الدكتور هنا أيضا يرى أن قول الدارقطني مجهول يقصد به جهالة العين ضربة لازب!! وقد مضى في النقطة السابقة وجه غلط الدكتور في مثل هذا!

وقد غلط هنا أيضا في مسألتين أخريين:

*المسألة الأولى: ألفاظ الجرح أو التعديل المركبة لها دلالتها، فالاجتزاء بأحد أجزاء المركب خطأ لا ريب فيه! وعبدُ الله بن إسحاق الجرجاني هو من الغرباء الذين وردوا بغداد أو مصر، فكتب عنه الدارقطني من كتابه حديثا باطلا، حَكَم على رواته أنهم ضعفاء مجهولون حيث قال عقب إخراجه في غرائب مالك: "هذا باطل، وكل من دون مالك ضعفاء مجهولون".

ومعنى قول الدارقطني هذا أن عبد الله بن إسحاق مجهول روى ما لا يتابع عليه (حديثا باطلا).

*المسألة الثانية: لا يلزم مِن وجود متابعة وقف عليها الذهبي، وابنُ حجر عند الخطيب أن يكون الدارقطني وقف عليها، وهو ذو دأَب في جمع المفاريد، ومع ذلك لم يذكر متابعة لشيخه!

بل حكم على السلسة كلها بالضعف، فمَن زعم أنه استثنى فردا منها فعليه الدليل" انتهى.

أقول:

أولاً: إطلاقه: القول: "دَفْعُ أقوال أئمة النقد الحُفاظ بلا مستند!" هذه كبيرة – والله! ولا أدري هل يعِي معناها؟!

فهذا اتهام باطل نعوذ بالله أن نرد أقوال أئمة النقل دون أدلة وقرائن! والإشكال أن (المُعترِض) لا يريد أن يفهم أن هناك محل للنزاع بيننا وبينه في أصل المسألة! فهو لأن هؤلاء الأئمة أوردوا شيخين للدارقطني في كتابيهما صارت المسألة محسومة عنده، وأن من خالف ذلك فقد خالف الأئمة دون مستند!

فليتق الله هذا الأخ وأمثاله من مثل هذه الأمور!

على أن أقوال الأئمة هي أقوال في النهاية وقد اختلف العلماء في كثير من الرواة فخالف بعضهم، حتى الذهبي وابن حجر ردوا أقوال غيرهم من الأئمة المتقدمين، ولم يقل أحد عنهم بأنهم ردوا أقوالهم دون مستند!

ثانياً: رجع (المُعترِض) يفتري علينا بأني أرى أن لفظ "مجهول" هنا هو جهالة العين! فكيف يكون مجهول العين والدارقطني يقول في روايته: "قدم علينا - من كتابه"! وقد بينت أن (المُعترِض) أتي من سوء فهمه كما في النقطة السابقة.

ثم قوله: "الدكتور هنا أيضا يرى أن قول الدارقطني مجهول" فيه افتراء آخر! فأنا لا أرى أن الدارقطني قال "مجهول" في شيخه! وأما في الآخرين فنعم.

ولنبسط المسألة للقارئ:

روى الدارقطني عن أبي أحمد عبدالله بن إسحاق بن يعقوب الجرجاني، عن علي بن مزداد الجرجاني الصائغ، عن زكريا بن الحارث أبي يحيى النسوي، عن مالك.

قال الدارقطني: "كلّ من دون مالك ضعفاء مجهولون".

وهذا يعني أن: عبدالله بن إسحاق، وعلي بن مزداد، وزكريا بن الحارث: ضعفاء مجهولون!

وظاهر الكلام أن سبب تضعيف الدارقطني لهم؛ لأنهم مجهولون، والأصل بالجهالة هنا جهالة الحال ما لم يكن هناك قرينة تدل على قصده جهالة العين، وقد بينا أنه لا يمكن أن يكون قصد ذلك على الأقل في شيخه على اعتبار أنه جهله كما يذهب إليه (المُعترِض).

وذكر الذهبي في «الميزان» (2/79) (2899): "زكريا بن يحيى بن الحارث. عن مالك، خراساني. ضعفه الدارقطني".

وقال ابن حجر في «اللسان» (2/478) (1925): "زكريا بن الحارث النسوي" [كذا! النسوي، وعند الخطيب: الكسائي على ما يأتي] وقال: "قال الدارقطني: ضعيف مجهول، هكذا أوروده الدارقطني في ترجمة حميد من غرائب مالك، وهو زكريا بن يحيى بن الحارث النسوي نسب لجده وسيأتي".

ثم أعاده (2/489) (1955) فقال: "زكريا بن يحيى بن الحارث عن مالك خراساني، ضعفه الدارقطني. أبو أحمد محمد بن محمد بن يوسف الجرجاني وعبدالله بن يوسف الآبندوني قالا: حدثنا علي بن محمد الصائغ - أحد الضعفاء -: حدثنا زكريا بن يحيى النسائي: حدثنا مالك".

فذكر متابعة لشيخ الدارقطني، وقال في موضع آخر (3/259): "قلت: وأخرجه الخطيب في الرواة عن مالك من وجهين عن علي بن محمد الصائغ، وهو علي بن يزداد المذكور، فبرئ عبدالله بن إسحاق من عهدته، وقد تقدم ذلك قي زكريا بن يحيى بن الحارث ونسب في رواية الدارقطني إلى جده، والله أعلم".

وذكر في «الميزان»: "علي بن مزداد الجرجاني عن رجل عن مالك بخبر باطل، وهاه الدارقطني".

قال ابن حجر في «اللسان» (4/262) (721): "وقد تقدمت في ترجمة علي بن محمد الجرجاني الصائغ أنه هو، وإنما المصنف كرره وهماً، ثم أعاده بترجمة ثالثة، فقال: علي بن يزداد، وجعل أول اسم أبيه ياء، وقال: هو شيخ ابن عدي متهم، وروى عن الثقات أوابد".

فعلي بن مزداد، وزكريا بن الحارث ضعفهما الدارقطني بقوله في السلسلة: "ضعفاء مجهولون" = فهو يجهل حالهما.

وأما شيخه فلا يجهل حاله، ويبعد أن يروي عنه وهو يجهل حاله، وإدخال الذهبي له في كتابه بحسب كلام الدارقطني هو فهم له نعارضه فيه مع أنه قال: "أشار الدارقطني إلى ضعفه" = فهو لم يجزم بذلك = يعني الأمر محتمل.

وقد دفع ابن حجر التهمة عنه في هذا الحديث بذكر من تابعه عن علي الصائغ، وعلي هو المتهم!

ثالثاً: أما تغليطي في المسألة الأولى المتعلقة بألفاظ الجرج أو التعديل المركبة فهذه من توهمات (المُعترِض)! ومنهجه أنه يتوهم الأشياء في الخصم ثم يحاسبه عليه!

وكما ذكرت مراراً الأخ (المُعترِض) أُتي من سوء فهمه لهذا العلم الشريف!

فبنى هذا الغلط على اجتزاء لفظ الجرح المركب وأن له دلالة في تركيبه، فلا يجوز اجتزاء أحد أجزائه!

وهذا في قول الدارقطني: "ضعفاء مجهولون"، وفي كل واحد منهم: "ضعيف مجهول"!

ولا أدري أين اجتزأت أحد هذا اللفظ المركب؟

وعبارتي قد نقلها هو نفسه، وهي: "قلت: وهذا يقتضي أن شيخه عبدالله بن إسحاق مجهول ضعيف! وهذا ما فهمه الذهبي فذكره في «الميزان» (2/392) (4211) وقال: "كتب عنه الدارقطني، وأشار إلى ضعفه"!

فقلت: "مجهول ضعيف" = وهذا لفظ مركب!

بل إن الذي اجتزأ اللفظ الذهبي، فقال: "أشار – أي الدارقطني – إلى ضعفه".

وكذا ابن حجر فقال: "زكريا بن يحيى بن الحارث عن مالك خراساني، ضعفه الدارقطني".

فهذا اللفظ المركب: "ضعيف مجهول" معناه أن سبب تضعيف الدارقطني له أنه "مجهول"، فيصح أن نقول عنه: "ضعيف" وسبب ضعفه الجهالة، ويجوز أن نقول: "ضعيف"؛ لأن الجهالة تضعيف.

فما شأن الألفاظ المركبة ودلالاتها هنا!

والأخ هداه الله يحفظ بعض القواعد ويريد أن يعارض بها الخصم لدحض كلامه على رأي المثل السائر «عنزة ولو طارت»!!!

ثالثاً: قوله: "وعبدُالله بن إسحاق الجرجاني هو من الغرباء الذين وردوا بغداد أو مصر، فكتب عنه الدارقطني من كتابه حديثا باطلا، حَكَم على رواته أنهم ضعفاء مجهولون" – فيه إيحاء إلى أنه يرى جهالة حال هذا الراوي ولأنه غريب لم يخبر الدارقطني حاله! وإثبات ذلك دونه خرط القتاد!

رابعاً: وقوله: "قدم إلينا" وفسرها (المُعترِض): "ورد بغداد أو مصر" مخالف لما هو مفهوم النص، فالدارقطني بغدادي، وقوله: "قدم علينا" أي بغداد، فالذي يقول هذه الكلمة من كان في بلده ويقدم عليهم شيخ من خارج بلدهم، ولو كان ورد عليهم مصر، فلا يقول: "قدم علينا"؛ لأن مصر ليست بلده، ونزلها للسماع فيها، ولو كان كذلك لقال: حدثنا بمصر، أو لقيته بمصر، ونحو ذلك.

وعليه يكون هذا الراوي على شرط الخطيب في «تاريخه».

خامساً: وإن تعجب فعجب تفسير (المُعترِض) قول الدارقطني: "أن عبد الله بن إسحاق مجهول روى ما لا يتابع عليه (حديثا باطلا)"!!!

فمن أين عرف أن الدارقطني قصد هذا المعنى؟!

فإن كان هذا هو المعنى فقد زالت التهمة عمن هم فوق عبدالله بن إسحاق، أليس كذلك؟ وعليه فلا يكون لقول الدارقطني فيهما: "ضعيف مجهول" معنى؛ لأنه علّق الأمر بشيخه كما قال (المُعترِض)!

فالأَولى تعليق التهمة به؛ لأنه مجهول، وروى حديثاً لم يتابع عليه! = فهم عجيب غريب!

سادساً: وحتى لا يُعترض على (المُعترِض) في فهمه المتقدم عن الدارقطني أتى بما سماه أني غلط في مسألة أخرى: "وهي الثانية": "لا يلزم مِن وجود متابعة وقف عليها الذهبي، وابنُ حجر عند الخطيب أن يكون الدارقطني وقف عليها، وهو ذو دأَب في جمع المفاريد، ومع ذلك لم يذكر متابعة لشيخه!

بل حكم على السلسة كلها بالضعف، فمَن زعم أنه استثنى فردا منها فعليه الدليل"!!!

سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم! فانا لم أتعرض في كلامي للمتابعة لا من قريب ولا من بعيد في منشوري السابق! فكيف ينسبني إلى الغلط في هذا؟

هل لأني لا أرى جهالة حال شيخ الدارقطني؟!

إن كان كذلك، فهذه مسألة أخرى لا علاقة لها بعدم اللزوم الذي ذكره حول المتابعة!

نعم، لا يوجد ما يدلّ على أن الدارقطني وقف على متابعة لشيخه، لكن في الوقت نفسه لا نستطيع أن نجزم أنه لم يقف على تلك المتابعات، وهو ذو دأب في جمع المفاريد كما قال (المُعترِض)، لكن لا يلزم منه أن يذكرها في هذا الموضع! فكما أنك تلزم ولا تلزم ونحن كذلك نلزمك ولا نلزم!

ومع هذا ذكر الذهبي وابن حجر لهذه المتابعات لا شك أنها تدفع الجهالة (جهالة الحال حتى لا يخرج علينا ويقول إني قصدت جهالى العين!) عن شيخ الدارقطني = يعني روايته مستقيمة.

وتنزلاً عند قول (المُعترِض) في المعنى الذي ذكره عن الدارقطني فيكون كلام الدارقطني مردود بهاتين المتابعتين!

ونلاحظ أن شيخ الدارقطني حدثهم من كتابه، فوجود الكتاب معه مظنة الثقة والضبط، ولا يبعد أن يكون الدارقطني اطلع على كتابه كما كانت عادته مع المشايخ، والله أعلم.

وقد ترجم السهمي له في «تاريخ جرجان» (454) برواية الدارقطني عنه، وساق له هذا الحديث الذي رواه عنه الدارقطني.

·       15- ثمّ ذكر تنبيهاً:

قال: "*تنبيه: ذكر ابن حجر متابِعَيْن لعبد الله بن إسحاق:

-أحدهما: الآبَنْدُوني عبدُ الله بن إبراهيم بن يوسف الجُرْجاني رفيقُ ابن عدي الحافظ، وهو ثقة محدث كبير، من شيوخ الدارقطني، وقد رحل إلى بغداد سنة خمسين وثلاثمائة، وبقي بها إلى أن مات سنة ثمان وستين، واجتمع هو والدراقطني بها نحوا من سبع سنين قبل خروج هذا الأخير إلى مصر سنة سبع وخمسين، وعليه فيحتمل أن ثمة وهَما على الآبندوني من البرقاني أو أبي العلاء الواسطي، وهما واسطة الخطيب إليه، وإن لم يذكرهما ابن حجر في إسناده، والبغداديون كانوا يلقنون الثقات والحفاظ فيتلقنون كما نبّه على ذلك الحافظ عبدان الأهوازي، وابنُ عدي، بل العراقيون عموما يلقنون الشيوخ، كما فعلوا بالإمام الليث بن سعد، وحاولوا ابن مهدي فتفطّن، وكاد يروج عليه البهرج، وما قصة البخاري ببعيد.

هذا تأويلٌ، أو لعل الدارقطني قد فاته هذا، لأن الآبندوني هو من صغار شيوخه، وأي الاحتمالين رجّحتَ، فالدراقطني لم يشعر بهذه المتابعة، وربما فاته من الطرق في "غرائب مالك"، ينظر اللسان (٧/٥٥٣).

-الثاني: أبو أحمد محمد بن محمد بن يوسف الجرجاني، حدّث بالصحيح عن الفربري، وقال أبو نعيم: "ضعفوه"، وقال الخطيب: "لم أر أحدا من شيوخنا البغداديّين يُحدّث عنه"، فهذه المتابعة فيها كلام، وأيضا لا تُعرف الواسطة بينه وبين الخطيب في ذلك الحديث" انتهى.

أقول:

عجيبٌ أمر (المُعترِض)! يُحاول تضعيف رواية من تابع شيخ الدارقطني على حديثه!

فبدأ بتأويل غريب عجيب! وافترض وهماً خيالياً على الآبندوني من البرقاني أو أبي العلاء الواسطي!

والمصيبة تكمن في ذكره لمسألة التلقين عند البغداديين = يعني أن البرقاني أو أبا العلاء لقنوا هذه الرواية! وهذه كبيرة! ولا أدري من أين جاء بهذه المُخيلة الواسعة؟!

ثم من قال بأن الواسطة بين الخطيب وبينه: البرقاني أو أبو العلاء الواسطي؟

ف(المُعترِض) ذكر البرقاني وأبي العلاء الواسطي واسطة الخطيب لعبدالله بن إبراهيم بن يوسف الآبَنْدُوني راوي هذه المتابعة؛ لأن الخطيب قال في ترجمته إنهما حدثاه عنه! وهذا محتمل، لكن فيه نظر على ما نذكره بعد.

فهو ينعى علينا أشياء نأتي بها من خلال أدلة – وإن كان يخالفنا فيها – ثم هو يأتي بأمور عظيمة في حق بعض الأئمة دون أدنى قرينة!!! ويرد الرواية بهذا الظن والاحتمالات دون أدلة! فكما قال (المُعترِض) في حقنا: "الخطأ المنهجي السابع: دَفْعُ أقوال أئمة النقد الحُفاظ بلا مستند!" – وهو افتراء!

نقول في حقه: "الخطأ المنهجي...: رد الروايات الصحيحة عن الأئمة الثقات بلا مستند من خلال الاحتمالات والتخرصات!".

وعلى رأي (المُعترِض) هذا فإن الذي لا تعجبه رواية عن شيوخ بغداد عرض لمسألة التلقين عندهم وردها! والله المستعان.

ثم نزل (المُعترِض) لاحتمال آخر، وهو: "لعل الدارقطني قد فاته هذا، لأن الآبندوني هو من صغار شيوخه"!

ومن قال بأن الدارقطني وقف على هذه الرواية؟! مع احتمال أنه قد يكون وقف عليها فإنه كان يقرأ من أصول الآبَنْدُوني وينتقي من حديثه.

قال الحاكم في "«تاريخ نيسابور»: "نزل – أي: الآبندوني - نيسابور في كهولته غير مرّة، ثمّ جاءنا فأقام بنيسابور في سَنَة سبع أو ثمان وأربعين وثلاثمائة، وحدث، ثمّ خرج إلى جرجان، وخرج إلى بَغْدَاد سَنَة خمسين وثلاثمائة، ولم يخرج منها إلى أنّ مات بها، فإني دخلت بَغْدَاد في الكرَّة الثّالثة سَنَة سبع وستين وثلاثمائة، وهو بها وقد ضعف وهو ابن أربع وسبعين سَنَة، وكان أبو الحسن الدَّارقُطْنِي ينتقي عليه من مسند الحسن بن سفيان، ولا يقرأ إِلَّا له وحده ولغيره بعد الجهد، فقرأت عليه شيئًا من كتاب «المجروحين» لأبي بشر الدولابي، وعرضت عليه الباقي بحضرة شَيْخنا أبي الحسن، وكان أبو القاسم أحد أركان الحديث، ورفيق أبي أحْمَد بن عدي الحافظ بالشام ومصر وكثير السماع، فارقته في رجب من سَنَة ثمان وستين وثلاثمائة".

وقول الحاكم أنه دخل بغداد في المرة الثالثة سنة (367هـ) وكان الدارقطني حينها ينتقي على الآبندوني، وقرأ عليه الحاكم شيئاً من كتاب «المجروحين» لأبي بشر الدولابي، وعرض الباقي بحضرة الدارقطني يُبيّن وهم (المُعترِض) في قوله: "من شيوخ الدارقطني، وقد رحل إلى بغداد سنة خمسين وثلاثمائة، وبقي بها إلى أن مات سنة ثمان وستين، واجتمع هو والدراقطني بها نحوا من سبع سنين قبل خروج هذا الأخير إلى مصر سنة سبع وخمسين"!

فقول (المُعترِض) إن الآبندوني اجتمع مع الدارقطني نحوا من سبع سنين وهم! فالدارقطني كان في بغداد ينتقي عليه سنة (367هـ).

وأما متابعة أبي أحمد الجرجاني فضعفها (المُعترِض) بقول أبي نعيم: "ضعفوه"، وقول الخطيب: "لم أر أحدا من شيوخنا البغداديّين يُحدّث عنه"، وبأن الواسطة بينه وبين الخطيب في ذلك الحديث لا تُعرف!

وهذا عجيب أيضاً منه!

أما ما نقله عن أبي نعيم، فقول أبي نعيم: "ضعفوه" مُجمل، ولم يذكر من ضعفه، وليس هو من ضعفه! ومثله يُقبل في المتابعات.

وأما الواسطة فالعجيب أن (المُعترِض) يقول بأننا لا نعرف الواسطة بينه وبين الخطيب في حين أنه قال بأن الواسطة بين الخطيب والآبندوني: البرقاني أو أبو العلاء الواسطي! والخطيب روى الحديث عنهما بنفس الواسطة.

قال ابن حجر: "أبو أحمد محمد بن محمد بن يوسف الجرجاني وعبدالله بن يوسف الآبندوني قالا: حدثنا علي بن محمد الصائغ...".

يعني أن واسطة الخطيب إليها واحدة، فكيف يثبت الواسطة في الآبندوني، وينفيه في أبي أحمد الجرجاني؟!!

فظاهر ما ذكره ابن حجر من الرواية التي رواها الخطيب أن الواسطة واحدة، ولا يمكن أن يكون البرقاني أو أبو العلاء؛ لأن الخطيب قال بأن شيوخه البغداديين لم يرووا عن أبي أحمد الجرجاني.

ولنخبره بالواسطة، فهو: أبو نُعيم الأصبهاني الحافظ.

فقد ذكر الخطيب في «تاريخه» (4/362) في ترجمة «أبي أحمد القاضي الجرجاني» (1550) بعد أن قال: "ولم يحدثنا عنه أحد من شيوخنا البغداديين"، قال: "لكن حَدَّثَنَا عنه أبو نعيم الأصبهاني، ومحمد بن الحسن الأهوازي".

ثم ساق هذا الحديث له، قال: أخبرنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَكِّيِّ بنِ يُوسُفَ الجُرْجَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ، بِجُرْجَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ الْكِسَائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَاقَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا هَذِهِ النَّاقَةُ؟".

قَالَ: حَمَلَنِي عَلَيْهَا عُثْمَانُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَلِيُّ اتَّقِ الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ كَثُرَ شَيْئُهُ كَثُرَ شُغُلُهُ، وَمَنْ كَثُرَ شُغُلُهُ اشْتَدَّ حِرْصُهُ، وَمَنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ كَثُرَ هَمُّهُ، وَنَسِيَ رَبَّهُ فَمَا ظَنُّكَ يَا عَلِيُّ بِمَنْ نَسِيَ رَبَّهُ؟".

قال الخطيب: "هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بِإِسْنَادِهِ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ الصَّائِغُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَهُوَ مَجْهُولٌ".

وقد ساقه الخطيب أيضاً في «الرواة عن مالك»، فقد قال ابن حجر في «اللسان» في ترجمة «علي بن محمد الصائغ» (4/254) (691): "وروى الخطيب في ترجمة أبي أحمد الجرجاني من تاريخه، وفي الرواة عن مالك عن أبي نعيم، عن الجرجاني: حدثنا علي بن محمد الصائغ: حدثنا زكريا بن يحيى بن الحارث الكسائي: حدثنا مالك...".

فقد عرفنا الواسطة وهو الحافظ الثقة أبو نعيم الأصبهاني، وهو يروي عن الآبندوني أيضاً، فواسطة الخطيب بينهما هو.

فالمتابعات لشيخ الدارقطني صحيحة، والحمد لله.

·       16- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي الثامن:

قال: "*الخطأ المنهجي الثامن هو عدم التوقُّف في المواطن المشكلة!

قال حفظه الله: "*وأخرج أيضاً في «غرائب مالك» عَن أبي بكر الشافعي وأحمد بن محمد بن إسحاق كلاهما، عَن مُحَمد بن سهل العطار، عن أحمد بن عيسى الكندي المؤدب، عن عثمان بن عبدالله النصيبي، عن مالك، عن هشام، عَن أبيه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول كيف حبك لي؟ قال: «كعقدة الحبل»، قالت: فكنت أقول له كيف العقدة؟ فيقول: «على حالها».

ثم قال: "هذا باطلٌ ومن بين مالك وشيخنا ضعفاء كلهم سوى الشافعي". [لسان الميزان: ترجمة «أحمد بن عيسى ابن الوشاء التنيسي» (1/571) (698)].

قلت: استثنى هنا شيخه أبا بكر الشافعي، فهل هذا يعني أن شيخه أحمد بن إسحاق ضعيف؟!

هذا لا يقوله عاقل، وقد وثقه كما سبق النقل عنه" انتهى كلامه.

*قلت: الدارقطني قال: "ومن بين مالك وشيخنا ضعفاء كلهم سوى الشافعي"، فالشافعي ليس بين الدراقطني وشيخه، بل هو شيخه بعينه، فلماذا استُثني؟! هذا من جهة.

ومِن أخرى: لو سلّمنا جدلا فهْم الدكتور للنقل القَلِق، فلا يعدو كونه تخصيصا بالدليل المنفصل! والبحثُ هو حيث لا مُعارضَ ولا دليل!" انتهى.

أقول:

هذا موطن قلق بالنسبة لك! فيمكنك أنت التوقف فيه!

ثم من قال لك بأن من لم يتوقف في موطن قلق اتهم بأنه ارتكب خطأً منهجياً كما تدعي!!

والكلام واضح في الكلام عن شيخه أحمد بن إسحاق، وهو قد روى الحديث مثلما رواه شيخه الآخر أبو بكر الشافعي.

فالدارقطني روى الحديث عنهما عن محمد بن سهل العطار، ثم حكم الدارقطني بأن ما بين مالك وشيخه كلهم ضعفاء إلا الشافعي = يعني إلا شيخه الشافعي فهو ثقة.

ولا شك أن أحمد بن إسحاق شيخه الآخر يوازي شيخه الشافعي = فطالما أنه اسثنى شيخه الشافعي من الضعف، فلا شك أنه يستثني كذلك شيخه أحمد بن إسحاق؛ ولأنه ثقة عنده فلم يذكره.

وعلى رأي (المُعترِض) فهو ضعيف، وخصصه بالدليل المنفصل لتوثيق الدارقطني له في موضع آخر، ثم قال بأن البحث حيث لا معارض ولا دليل = وهذه حيدة!

فدعنا من المخصص الذي هلكتنا به! – ومن أقبح المناهج إخضاع كلام أهل الحديث للقواعد الأصولية - فنحن نتعامل مع كتاب اسمه «غرائب مالك»، فالأصل أن نستمد طريقة الدارقطني منه من خلال كلامه، وما نجده من كلام آخر في ششيوخه خارج هذا الكتاب نستخدمه لتقوية التدليل الذي وقفنا عليه من خلال طريقته أنه يستثني شيوخه من كلامه في السلاسل التي يتكلم عليها في بعض الأحاديث، مع تصريحه بتضعيف بعض شيوخه، وإلصاق التهمة بغيرهم في بعض المواضع = فهذه كلها قرائن قوية تدعم ما ذهبنا إليه، والحمد لله.

·       17- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي التاسع:

قال: "*الخطأ المنهجي التاسع: لا منافاة بين سَعة الرواية والضعف كما أوهم الدكتور في آخر مقاله، فلم يكن أحد بمصر أكثر رواية مِن ابن لَهيعة، وحاله معروف، وقُل مثل ذلك في قيس بن الربِيع، والحِمّاني، والشَّاذَكُوني، والكُدَيْمي، وابن الجِعابي، وابن عُقْدة، والبَرْبَري، وابن دِحية.... إلخ" انتهى.

أقول:

أي خطأ منهجي هذا يا مسكين!

فالضراب يختلف عمن ذكرتهم هنا! فهؤلاء حالهم معروفة كما ذكرت، وكلام أهل العلم فيهم تملأ الكتب، والضراب لا يوجد فيه أي كلام لأهل العلم، فاستدللنا بكثرة روايته وسعة علمه وانتشار حديثه، ومكانته في بلده على أنه ثقة، فكم من مسند متأخر لا يوجد فيه كلام يثني عليهم الحافظ الذهبي لما يترجم لهم في «سيره».

فنحن على هذا الأصل في مثل هؤلاء المحدثين المعروفين لأهل العلم بسعة الرواية وتصدرهم للتعليم، ورحلة الناس إليهم، حتى يتبين لنا خلاف ذلك، ولهذا أثنى عليه الذهبي في الترجمة له.

ومن هنا نحن ننازع (المُعترِض) في تضعيف الدارقطني له!

·       17- ثمّ ذكر الخطأ المنهجي العاشر:

قال: "*الخطأ المنهجي العاشر: عدم تنبُّهه لإمكان اجتماع الغرابة مع الشهرة في إسناد واحد!

قال الدكتور حفظه الله: (وقال ابن حجر في «اللسان» في ترجمة «زكريا الساجي الإمام الحافظ» (3/520) (3233): "ووجدت له حديثاً غريباً ذكره أبو محمد الحسن بن إسماعيل الضراب في «فوائده» التي أملاها، قال: حَدَّثَنَا أبو بكر محمد بن الحارث الفهري، قال: حَدَّثَنَا زكريا الساجي بالبصرة، قال: حَدَّثَنَا عبدالله بن هارون بن أبي علقمة الفروي، قال: حَدَّثَنَا عبدالله بن نافع، قال: حَدَّثَنَا عبدالعزيز بن محمد الدرواردي، عن عُبَيدالله بن عمر، عن نافع، عَنِ ابن عمر، قال: «خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فلما كان بالسقيا لقيه الحجاج بن علاط السلمي...».

قال الساجي: كتب عني هذا الحديث: البزار، وعبدان، وأبو داود، وَغيرهم من المحدثين.

قال الضراب: وهذا حديث الساجي الذي كان يُسأل عنه".

قلت: وهذا يدلّ على ثقة الضراب وسعة علمه وروايته). انتهى كلامه.

*قلت: الحديث غريب تفرّد به الساجي، لكنه اشتهر بعد ذلك فرواه عنه الأئمة البزار، وعبدان، وأبو داود - وهو شيخُ الساجي- وغيرهم، وعليه فليس في هذا دلالة على سَعة رواية الضَّرَّاب! والمقصود بالبحث هنا هو ذات الدليل الذي استدل به الشيخ فحسب.

وإنما قَصَد ابنُ حجر بالغرابة الغرابةَ المتنية، والإسنادية من جهة التفرد الطبقي الذي وقع في عدة طبقات، وليس قصده غرابته من جهة تفرد الضرّاب به كما ظن الدكتور حفظه الله!" انتهى.

أقول:

غريب وعجيب أمر هذا (المُعترِض)! يفهم كما يشاء ثم يُعقّب بحسب فهمه!

أليس هذا من أكبر الأخطاء المنهجية التي يقع فيها الباحث؟!!

بل إن هذا يدلّ على عدم استيعاب (المُعترِض) للكلام وفهمه في سياقه!

فما دخل الغرابة هنا في رفعنا لمكانة الضراب؟!!

وإنما أتيت بهذا للاستدلال على سعة رواية الضراب لإملائه هذا الحديث في «الفوائد» التي أملاها.

ومعروف أن الإملاء في العصور المتأخرة كان من مزايا الشيوخ، بل يُرحل إلى بعضهم في تلك الفوائد، مع اعتناء التلاميذ بهذه الفوائد، وما علق عنه الدارقطني إلا من كتبه التي تحوي الكثير من الفوائد.

·       18- ثمّ ختم كلامه بتعليقه على توثيق الذهبي له:

قال: "وأما ما ختم به من ترجيح حُكم الذهبي، فليس هو بصحيح لعدة أسباب:

-السبب الأول: الدارقطني أقدم طبقة من الذهبي، وأمْكَنُ في علميْ العلل والجرح والتعديل.

-السبب الثاني: للدارقطني مزيد عناية بالأفراد والعلل، وقد صنف فيهما جميعا.

-السبب الثالث: الدارقطني تلميذٌ للضرّاب فهو أعلم بحاله، وعليه فيُقدَّم قوله عند التعارض.

-السبب الرابع: لم يبلغ الذهبي تضعيف الدارقطني لشيخه الضراب.

-السبب الرابع: صرّح الذهبي بأن أخبار الضراب لم تبلغه كما ينبغي، وقدّر أنه ثقة حيث لم يبلغه عنه شيء من الجرح أو التعديل، مع أنه ذو رواية.

-السبب الخامس: لم يذكره الذهبي في الميزان وهو على شرطه، حتى إن كان هو يرى توثيقه، وهذا دليل على أنه قد فاته تضعيف الدارقطني له، ولا غرابة في ذلك، لأنه تضعيف في غير مظنته، فليس هو في ضعفاء أبي الحسن، ولا في سؤالات تلامذته كالحاكم، والسهمي، والسلمي...

-السبب السادس: الذهبي استند في تقويته إلى قرينة، وهي رواية إمام كالدارقطني عنه مع أنه أكبر سنا وأغزر علما، فهذه آية قبوله، مع ضميمة عدم جرحه، وكثرة روايته!

قال في تاريخ الإسلام: "وقد روى عنه الدارقطني مع تقدُّمه".

وفي السير: حديث عنه ابنه عبد العزيز.... والدارقطني- وهو أكبر منه.-

ولو وقف الذهبي على تضعيف الدارقطني له لأوْدَعه ميزانه ولليّنه كما فعل بغيره!

-السبب السابع: المتأخرون عندهم نوع تساهل في إطلاق اسم "الثقة" على كل من لم يجرّح، مع ارتفاع الجهالة عنه، وهو المستور عند الذهبي، وهذه درجة الضراب عنده، غير أنه قد قويَ قلبه على إطلاق "الثقة" عليه لِما أشرنا إليه في النقطة السابقة، فإذا زالت العلة -وهي توثيق الدارقطني له- زال الحكم.

-السبب الثامن: الدارقطني معتدل كما قرّروه، فينبغي أخذ أحكامه على ظاهرها، وليس هو ممن يُسرف في الجرح.

هذا آخر ما أردت بيانه، والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا" انتهى.

أقول:

هذا كله حشوٌ، ولا فائدة منه، ولا يقوم على دليل واحد! وإنما يقوم على مُسلّمة عند (المُعترِض) وهي "أن الدارقطني ضعّف الضراب"!!

فهو حسم محل النزاع ومشى عليه، فأي مناقشة علمية معه؟!!

ولا زلنا نطالبه بدليل صريح أن الدارقطني ضعّف شيخه الضرّاب!

ومع هذا نناقش ما ظنه أنها أسباباً في رد حكم الذهبي بتوثيق الضراب!

والمشكلة أنه هنا رفض حكم الذهبي، وقبله واستخدمه ضدنا عندما وافق رأيه! وهذه ازدواجية وخلل منهجي فادح على حد تعبيره!

أولاً: نعم، الدارقطني أقدم بطبقات من الذهبي وأمكن في علمي الجرح والتعديل، وله مزيد عناية بالأفؤاد والعلل، لكن أين قول الدارقطني في تضعيف الضراب لنحسم الخلاف؟!

ثانياً: نعم، الدارقطني تلميذ الضراب، وهو أعلم بحاله من الذهبي، ولو كان هناك تصريح منه بتضعيفه لحسن أن يُقدّم رأيه على الذهبي!

ثالثاً: كيف لم يبلغ الذهبي تضعيف شيخه الضراب؛ لأنه حقيقة لم يضعفه! فاثبت العرش ثن انقش.

رابعاً: نعم، أخبار الضراب لم تبلغ الذهبي كما فِي النَّفْسِ بحسب تعبيره، وهذا لا يعني أنه لم يبلغه شيئاً مطلقاً عنه، بل إن ما بلغه عنه جعله يقول فيه: "وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ ثِقَةٌ، صَاحِبُ حَدِيْثٍ، وَمَعْرِفَتُهُ مُتَوسِّطَةٌ".

وهذا كافٍ في الحكم على راوٍ من تلك الطبقة التي لا توجد فيها أخبار كثيرة عن أمثال الضراب.

خامساً: نعم، الضراب على شرط الذهبي؛ لأنه ذكر شيخاً للدارقطني في «ميزانه» بحسب قول الدارقطني في سلسلة من سلاسل أسانيده، وقد نبهت على أن الذهبي تحترز في ذلك فقال: "أشار الدارقطني أنه ضعيف"!

فيحتمل أنه فاته كما قال (المُعترِض)، ويحتمل أنه لم يفته، ورأى كلام الدارقطني فيه، فلم يره تضعيفاً، والله أعلم.

سادساً: ما ذكره (المُعترِض) من قرينة للذهبي في تقوية الضراب ضرب من الخرص والظن!

وقوله بأن الذهبي لو وقف الذهبي على تضعيف الدارقطني له لأوْدَعه ميزانه ولليّنه كما فعل بغيره! أيضاً ضرب من الخرص والظن!

والمصيبة أن (المُعترِض) لا يزال يقرر أن الدارقطني ضعفه!!!

سابعاً: مسألة التساهل في إطلاق الثقة عند المتأخرين لا علاقة لها هنا بالضراب، وإنما هذه في الطبقات التي بعد الضراب.

ثامناً: نعم، الدارقطني معتدل، والذهبي أيضاً معتدل، وأين تضعيف الدارقطني له؟!!

وأختم بالتنبيه على بعض الأخطاء المنهجية الفادحة التي سلكها الأخ في مقاله:

أولاً: عدم فهم محل النزاع وتكثير الكلام بغير طائل!

زعم (المعترض) أن الدارقطني ضعف الضرّاب، ولما بيّنا له خلاف ذلك، وأنّ شيوخ الدارقطني في كتابه «غرائب مالك» خاصة، مستثنون من الضعف؛ إلا أن ينص هو على ضعفهم، أما إذا سكت عن شيخه فأمره محمول عنده على التوثيق. فأتى هذا (المعترض) وضرب أمثلةً يزعم أنه ينقض به قولنا، وهي خارج محل النزاع معه! إما لأن الناقد لا يجزم بالحكم وإنما يحترز في نسبة التضعيف للدارقطني، أو يكون الراوي المضعّف ليسوا من شيوخ الدارقطني!

ثانياً: حسم محل النزاع دون أدلة وبراهين!

حسم (المعترض) محل النزاع لنفسه دون دليل أو حجة بل ولا قرينة ولا ضميمة تؤيده، ورد كلام الخصم بناء على حسمه ذلك! وعلى هذا بنى كل مقاله وردوده!

ثالثاً: إحداث مصطلحات وفروقات لا وجود لها عند النقاد!

اعتمد (المعترض) على مصدر معاصر وسيط قام بجمع أقوال الدارقطني في الرجال تحت عنوان: «موسوعة أقوال أبي الحسن الدارقطني في الرجال»، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في اللسان: إن تضعيف الضرّاب هو مقتضى كلام الدارقطني، فتصرف أصحاب الموسوعة بعبارة الحافظ وقالوا: «ضعّفه الدارقطني» هكذا!! بما يُفهم منه أنّ الدارقطني نصّ على ذلك بصريح العبارة! لا أنَّ ابن حجر فهمه من مقتضى كلامه ولازمه!

فجاء هذا (المعترض) فنقل كلام أصحاب الموسوعة بحروفه من غير أن يعزو إليه، ثم لما طولب بذكر مصدره قال بأنه أحال إلى ابن حجر في اللسان! مع أن ابن حجر لم يقل: ضعفه الدارقطني! بل قال: هذا مقتضى كلام الدارقطني. ومن المفترض أن (المعترض) ممن يدرك الفرق بين التعبيرين! ثم أتى بمصدر آخر لا ينفعه!

ثم تمحّل فزعم أنه لم يدع أحد أن الدارقطني قال: الضراب ضعيف! بهذه الهيئة، بل قلنا: ضعّفه الدارقطني! ثم قال: وهذا صحيح لا غبار عليه!

يعني: أن عبارة: ضعّفه الدارقطني، مغايرة لقال الدارقطني: ضعيف! وهكذا يتعنت هذا (المعترض) بإحداث مصطلحات وفروقات لا وجود لها عند النقاد!! لأن المفهوم من قولك: ضعفه الدارقطني أنه نصّ على تضعيفه، هذا هو المستعمل عندهم في أقوالهم ومصطلحاتهم! وما يُستفاد من تضعيف الناقد للراوي بغير تنصيص لا ينسبون إليه أنه ضعفه إلا بشيء من التجوز، وإلا فالغالب أنهم يحترزون في ذلك، مثل قولهم: هذا مقتضى كلامه، أو أشار إلى تضعيفه، ونحو ذلك.

رابعاً: إخضاع كلام نقاد الحديث لقواعد أصول الفقه في فهم وتفسير النصوص، وحمل كلام الدارقطني على التعميم بمعناه عند الأصوليين!

اللجوء إلى كلام الأصوليين لتفسير نصوص أهل النقد خطأ؛ لأن لنقاد الحديث مصطلحاتهم ومناهجهم الخاصة في النقد والتعبير، وينبغي البحث عن مرادهم والكشف عن مصطلحاتهم النقدية من خلال تصرفاتهم وجمع أقوالهم في التراجم المتشابهة، وضم النظير إلى النظير.

فإذا تبين أن الدارقطني استعمل هذا التعبير في تراجم أخرى ولم يرد به التعميم، بدليل تنصيصه على توثيق بعض رجال الإسناد في مواضع أخرى من كتبه، فهذا كاف في إبطال ما زعمه هذا (المعترض) من وجوب حمل هذا التركيب على التعميم؛ لأنه منتقض بتصرف الدارقطني نفسه!

ولا يُقال: هذا قد خرج من عموم الحكم بالضعف بتنصيص الدارقطني نفسه، فيبقى من لم يوثقه في موضع آخر داخلًا في التعميم مشمولًا بالضعف. وهذا خطأ آخر عند المعترض فرّعه عن الخطأ الأول؛ لأن الناقد قد يتسامح في العبارة فيطلق كلامًا يُفهم من ظاهره حكمًا عامًا على جميع رجالالإسناد ولا يكون كذلك، اعتمادًا على فهم أهل هذا الشأن.

وعليه: فقد يطلق الدارقطني الضعف على رجال الإسناد مع عدم إرادة التعميم، اكتفاء بمعرفة أهل الشأن وفهمهم ومعرفتهم بأحوال رجال الإسناد.

والشاهد: أن النقاد يتسامحون في عباراتهم معتمدين على معرفة أهل الشأن غير مبالين بمثل هذه التعنتات التي يتمحلها هذا (المعترض)!

خامساً: ضعف استيعابه لتصرف الدارقطني في كتابه!

لما نقضنا فهمَه لعبارة الدارقطني وضربنا أمثلةً من واقع كلام الدارقطني تدل على أنه لا يريد بعبارته تلك تعميم حكم الضعف على شيخه أيضًا، بدليل أنه وثق شيخه في موضع آخر مع أنه كان مشمولا بالتضعيف، زعم المعترض أن هذا التصرف يدل على اختلاف قول الدارقطني في الراوي الواحد! وجعل ذلك خللاً منهجيًا عندنا! وما الخلل إلا عنده هو! وليس مثل هذا الموضع يقال فيه: اختلف قول الناقد في الراوي؛ لأنه لا يُسلّم له أصلاً هذا الاختلاف! فأثبت أولاً أن الدارقطني يريد بهذه العبارة تضعيف شيخه، لتصح لك دعواك أنه اختلف قوله فوثقه في موضع آخر!

والله المستعان.

والحمد لله أولاً وآخراً.

وكتب: خالد الحايك.

25 رمضان 1445هـ.

شاركنا تعليقك