ردّ كلام د. نور
الدِّين عِتر في أنّ شعبة إنما تكلّم في «محمد بن الزبير الحنظلي» لا في «أبي
الزبير المكي»!
لما ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في «شرح علل الترمذي» في «قسم المختلف
فيه في كثرة الخطأ وقلته»: «أبا الزبير المكيّ»، قال: "إن شعبة ترك حديثه،
وأعتل: بأنه رآه لا يُحسن يصلي، وبأنه رآه يزن ويسترجح في الوزن، وبأن رجلاً أغضبه
فافترى عليه وهو حاضر".
فعلّق نور الدين عِتر على هذا الكلام أثناء تحقيقه لكتاب ابن رجب
بقوله:
"قد ظهر لنا أنّ طعن شعبة هو في راو آخر يَشتبه بأبي الزبير،
وهو: محمد بن الزبير الحنظلي، فقد ورد في «ميزان الاعتدال» ج3 ص247، و«تهذيب
التهذيب» ج9 ص 167 أن شعبة تَرَكه لأنه افترى على رجلٍ أغضبه، ثم أوردوا هذا السبب
بعينه لترك شعبة أبا الزبير المكي، مما يدلُّ على أن سهوٌ ذِهني، وعلى هذا
فالظاهرُ أن بقية مطاعن شعبة إنما قالها في ابنِ الزبيرِ الحنظلي فإنها به أليق،
وبالله التوفيق" انتهى.
قلت:
هذا كلامٌ لا دليل عليه، وقد توهم الدكتور العتر ذلك لاشتراكهما في
اسم «الزبير»! ولم يُبيّن لنا ممن كان هذا السهو الذهني؟!
فكلّ ما نُقل عن شعبة في أبي الزبير المكي بأسانيد صحيحة، فكيف
نضعها كلها في الحنظلي هذا؟! ونقول بأنه سهو ذهني!!
* قال مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ المَدَائِنِيُّ: حَدَّثَنَا
وَرْقَاءُ، قَالَ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: مَا لَكَ تَرَكْتَ حَدِيثَ أَبِي
الزُّبَيْرِ؟ قَالَ: "رَأَيْتُهُ يَزِنُ وَيَسْتَرْجِحُ فِي المِيزَانِ".
* وَقال أَبُو عُمَرَ الحَوْضِيُّ: قِيْلَ لِشُعْبَةَ: لِمَ
تَرَكتَ أَبَا الزُّبَيْرِ؟ قَالَ: "رَأَيْتُهُ يُسِيءُ الصَّلاَةَ،
فَتَرَكتُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ".
* وقال أَحْمَدُ بنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيَّ، يَقُولُ: قَالَ شُعْبَةُ: "لَمْ يَكُنْ فِي
الدُّنْيَا بِشَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَجُلٍ يَقْدِمُ مِنْ مَكَّةَ،
فَأَسْأَلُهُ عَنْ أَبَي الزُّبَيْرِ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ فَسَمِعْتُ مِن أَبِي
الزُّبَيْرِ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ
فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَافْتَرَى عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ:
يَا أَبَا الزُّبَيْرِ تَفْتَرِي عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ قَالَ: إِنَّهُ
أَغْضَبَنِي! قُلْتُ: مَنْ يُغْضِبُكَ تَفْتَرِي عَلَيْهِ، لَا رَوَيْتُ عَنْكَ
حَدِيثًا أَبَدًا".
قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: "فِي صَدْرِي أَرْبَعُمِائَةٍ لِأَبِي
الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُ عَنْكَ حَدِيثًا أَبَدًا".
[ضعفاء العقيلي: (4/130)].
قلت:
أولاً: هذه الحكايات الثلاث التي رواها أصحاب شعبة في أبي الزبير
المكي، فكيف تكون من السهو الذهني الذي قاله العتر؟!
ثانياً: هذا شعبة يقول: "لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا بِشَيْءٍ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَجُلٍ يَقْدِمُ مِنْ مَكَّةَ، فَأَسْأَلُهُ عَنْ أَبَي
الزُّبَيْرِ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ فَسَمِعْتُ مِن أَبِي الزُّبَيْرِ...".
فهو يتكلّم عن أبي الزبير المكي، ومحمد بن الزبير الحنظلي بصري!
فكيف يكون كلام شعبة هذا في البصري؟!
ثالثاً: ها هو شعبة أيضاً يقول في القصة: "فِي صَدْرِي
أَرْبَعُمِائَةٍ لِأَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُ
عَنْكَ حَدِيثًا أَبَدًا".
فكيف نجعل هذا في محمد بن الزبير الحنظلي الذي لا نكاد نجد له إلا
حديثين!
قال ابن عدي في خاتمة ترجمته بعد أن ذكر له حديثين: "وحديثه قليل،
والذي يرويه غرائب وإفرادات".
رابعاً: أبو الزبير المكي مختلف فيه عند أهل العلم، لكن محمد بن
الزبير الحنظلي متفق على ضعفه، بل هو متروك الحديث! وليس مشهوراً مثل أبي الزبير
المكي!
خامساً: طبقة أبي الزبير المكي أعلى من طبقة محمد بن الزبير الحنظلي،
فأبو الزبير في عِداد شيوخ الحنظلي هذا، فأبو الزبير توفي سنة (128هـ)، ومُحَمَّدُ
بنُ الزُّبَيْرِ الحَنْظَلِيُّ البَصْرِيُّ من الطبقة التي كانت وفاتهم بين سنة (141
– 150هـ).
وهو تقريباً من أقران شعبة، فشعبة توفي سنة (160هـ).
سادساً: النصّ الذي ذُكر عن شعبة في محمد بن الزبير الحنظلي وقع
فيه تحريفٌ شنيعٌّ!!!
رواه ابن عدي في «الكامل» في ترجمة «محمد بن الزبير الحنظلي» قال: حَدثنا
السَّاجي، قال: ذَكر حَوْثرَة بن مُحَمَّدٍ: حَدثنا أَبو داود، قال: قلتُ لشُعبَة:
ما لك لا تُحدِّث عن «مُحمد بن الزبير الحنظلي»؟ قال: "مرَّ به رجلٌ فافترى
عليه، فقلت: هذا من مِثلك كبير، فقال: إنه أغاظني".
ونقل هذا ابن عساكر في «تاريخه» في ترجمة «الحنظلي» من طريق ابن
عدي.
ونقل الدارقطني في «تعليقاته على المجروحين» أن إِبْرَاهِيم بن
أَحْمد ابن شاقلا قال: "وَكَانَ شُعْبَة لَا يَرضاه".
والظاهر أنه اعتمد في هذا على ما في حكاية حَوْثرَة.
أقول:
حَوْثرَة بن مُحَمَّدٍ المِنْقَرِيّ البصري ثقة وقد سمع من أبي
داود الطيالسي، وهو يروي هذه الحكاية عنه، والحكاية المتقدمة في أبي الزبير المكي
يرويها الطيالسي عن شعبة، فيستحيل أن تكون حكايتين! فالمصدر واحد.
ويؤيد ذلك أن هؤلاء الأئمة من التلاميذ كأبي داود الطيالسي يعرفون
كيف يسألون شيوخهم النقاد، فالذي كان عليه الإشكال عندهم هو أبو الزبير المكي، وقد
انتشر كلام شعبة فيه، فسأله الطيالسي عن تركه للرواية عنه.
وأما محمد بن الزبير الحنظلي فأي داع يجعل الطيالسي يسأل شعبة
عنه؟! وهو متروك الحديث!!
فرواية أَحْمَدَ بنِ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيّ المتقدمة عن أبي داود
الطيالسي مفصّلة، ورواية حوثرة عنه مختصرة.
والذي حصل أنه وقع تحريف شنيع في الحكاية التي نقلها ابن عدي!
والصواب:
ذَكر حَوْثرَة بن مُحَمَّدٍ: حَدثنا أَبو داود، قال: قلتُ لشُعبَة:
ما لك لا تُحدِّث عن «مُحمد أبي الزبير المكي»؟ قال: "مرَّ به رجلٌ فافترى
عليه، فقلت: هذا من مِثلك كبير، فقال: إنه أغاظني".
فتحرّف «مُحمد أبي الزبير المكي» إلى «مُحمد بن الزبير الحنظلي»!
صارت «أبي»: «بن»!
وصارت «المكي»: «الحنظلي»!
فوافق هذا التحريف اسم «محمد بن الزبير الحنظلي» فذكر ابن عدي
الحكاية في ترجمته، وتبعه عليه ابن عساكر، والذهبي، وابن حجر!
ويبدو أن التحريف في أصل القصة، ولم يقع من ابن عدي؛ لأن ابن شاقلا
وهو من أقران ابن عدي نقل عن شعبة أنه لم يرض «محمد بن الزبير الحنظلي» معتمداً
على هذه الحكاية.
فالصواب أن كلام شعبة في «أبي الزبير المكي» لا في «محمد بن الزبير
الحنظلي».
والله أعلم وأحكم.
*طُرفة:
ذكرني قول د. العتر هنا لحلّ إشكال كلام شعبة في أبي الزبير فيما
حدَث بيني وبين أستاذنا د. محمد بن محمد الشريف المصري الأزهري في مادة مناهج المحدثين
أيام دراسة الدكتوراه في جامعة اليرموك.
وكان الكتاب المقرر في هذه المادة كتاب: «مناهج المحدثين» لمؤلفيه:
د. أمين القضاة، ود. عامر صبري.
وكانا أثناء الترجمة للإمام البخاري قد تعرضا لمحنته في مسألة خلق
القرآن، فخلصا إلى أنه حصل خلط للناس في ذلك، وأن الذي حاك له هذه المؤامرة هو
الأمير خالد بن أحمد الذهلي، ولم يحصل له شيء بهذا الخصوص مع محمد بن يحيى الذهلي
فخلط الناس بينهما!
فكان أستاذنا الشريف مُعجباً بهذا الرأي، فاعترضت عليه وناقشته في
ذلك! وأنه رأي عليل لا يحمل الدليل! وهما من خلطا في ذلك! فقال لي - وكان مُهذباً
طيباً رقيق الكلمة، بسيط العلم -:
"خلاص يا شيخ خالد... اسكت.. دا يحللنا مشكلة، ويبرئ محمد بن
يحيى الذهلي من ذلك"!
فسكت إكراماً له.
والله المستعان.
*وهذا نص كلامهما:
قالا (ص: 32) تحت عنوان: «محنته ووفاته»:
"تنقل معظم كتب التواريخ والتراجم أن البخاري قد امتحن بسبب
اتهامه بالقول بخلق القرآن، وتشير أكثرها إلى أن الذي دبّر ذلك هو المحدث محمد بن
يحيى الذهلي.
والذي يبدو لنا أن هذه المسألة (خلق القرآن) كانت منتشرة آنذاك بين
مدعي العلم ومحبي ترويج الفتن، ورواد الغرائب - وهم كثر في كل عصر - فسأله أحدهم
عن القول بخلق القرآن، فأجابه البخاري عن أمر آخر، حيث قال: (أفعالنا مخلوقة،
وألفاظنا من أفعالنا). فأشاع أؤلئك المغرضون أن البخاري يقول بخلق القرآن.
ونعتقد أن ما يُنسب إلى الذهلي من تدبير مؤامرة ضده، هو أمر لا أصل
له، ومما يؤكد ذلك، ما ذكره ابن حجر في رواية عن الإمام مسلم بن الحجاج، وهو أعرف
الناس بذلك، قال: لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور، ما رأيت والياً ولا عالماً،
فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به، فاستقبلوه من مرحلتين من البلد، أو ثلاث. وقال
محمد بن يحيى (وهو شيخ مسلم أيضاً) في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل
غداً فليستقبله، فإني مستقبله. قال: فاستقبله محمد بن يحيى، وعامة علماء نيسابور،
ودخل البلد، فنزل دار البخاريين، فقال لنا محمد بن يحيى: لا تسألوه عن شيء من
الكلام، فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه، وقع بيننا وبينه، وشمت بنا كل ناصبي،
ورافضي، وجهمي، ومرجئ بخراسان. قال: فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل، حتى امتلأت
الدار والسطوح. فلما كان اليوم الثاني أو الثالث من قدومه، قام إليه رجل فسأله عن
اللفظ بالقرآن، فقال: (أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا) قال: فوقع بين الناس
اختلاف. فقال بعضهم: (قال: لفظي بالقرآن مخلوق)، وقال بعضهم لم يقل. فوقع بينهم في
ذلك اختلاف، حتى قام بعضهم على بعض، قال: فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم.
وكان قبل ذلك قد حاول أمير بخارى (خالد بن يحيى الذهلي) أن يفرق
الناس عنه، فحاك ضده مؤامرة، اتهمه بالقول بخلق القرآن. ويبدو أن هذا هو الذي وقع.
فخلط الناس بين خالد الذهلي أمير بخارى، ومحمد بن يحيى الذهلي عالم نيسابور
ومحدثها" انتهى كلامهما.
قلت: هذا الكلام سقيم عقيم! وخلط عجيب بين أمور واضحة ذكرها أهل
العلم بالأسانيد فيما حدث بين محمد بن يحيى الذهلي والبخاري، وبين ما حدث بينه
وبين الأمير خالد بن يحيى الذهلي!
والعجيب أنهما نقلا ما قاله مسلم من كتاب ابن حجر في مقدمة شرحه
وأعرضا عما ذكره ابن حجر بعد في إثبات ما وقع بين البخاري والذهلي في هذه المسألة!
فقد نقل ابن حجر عن الحَاكِم أنه قال: "وَلما وَقع بَين
البُخَارِيّ وَبَين الذهلي فِي مَسْأَلَة اللَّفْظ انْقَطع النَّاس عَن
البُخَارِيّ إِلَّا مُسلم بن الحجَّاج، وَأحمد بن سَلمَة. قَالَ الذهلي: أَلا من
قَالَ بِاللَّفْظِ فَلَا يحل لَهُ أَن يحضر مَجْلِسنَا، فَأخذ مُسلم رِدَاءَهُ
فَوق عمَامَته، وَقَامَ على رُؤُوس النَّاس فَبعث إِلَى الذهلي جَمِيع مَا كَانَ
كتبه عَنهُ على ظهر جمال".
قال ابن حجر: "قلت: وَقد أنصف مُسلم فَلم يُحدِّث فِي كِتَابه
عَن هَذَا وَلَا عَن هَذَا".
والعجيب أيضاً أنهما يتحدثان عن منهج الإمام البخاري في «صحيحه»
ويقولان هذا الكلام! وقد بيّن الحافظ ابن حجر في شرحه أن البخاري عندما حدّث عن
شيخه «محمد» وأهمله إنما هو: محمد بن يحيى الذهلي، وأهمله لما حدث بينهما في مسألة
القول.
وقد فصّلت فيما حدث بين البخاري وشيخه الذهلي، وبين البخاري
والأمير خالد الذهلي في بحثي: «هل انتهى الإمام مسلم من تصنيف «صحيحه» قبل لقائه
بالإمام البخاري؟! وهل الإمام مسلم أوّل من ألّف الصحيح وليس البخاري؟!»
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكتب: د. خالد الحايك.
20 شوّال 1444 هـ.
شاركنا تعليقك