هل هناك إجماعٌ
على وجوب «صدقة الفطر»!
وحديث قَيْس بن
سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ: «أَمَرَنَا بِزَكَاةِ الفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ
الزَّكَاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ
يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ».
مِن المعلوم عند الناس أن هناك إجماع على فرضية «صدقة الفطر»،
والأحاديث في ذلك في «الصحيحين»، وغيرهما.
وهناك من أهل العلم من يقول بأن «صدقة الفطر» ليست بواجبة، وأن
فرضيتها قد نُسخت، ومن هؤلاء: إِبْرَاهِيمُ بن إسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ المُتكلّم
(ت 218هـ)، وَأَبو بَكْرٍ عبدالرحمن بنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ المتكلّم المُعتزلي
شيخ إبراهيم بن عُلية، وكلاهما من الفقهاء.
وهؤلاء من أهل البدع، ومن أهل العلم من لم يَعتد بخلافهم.
ففي قوله تعالى في قصة موسى: {قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: (26)]
قال الشوكاني في «فتح القدير» (4/195): "أَيِ: اسْتَأْجِرْهُ لِيَرْعَى لَنَا
الغَنَمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ
مَشْرُوعَةً. وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى جَوَازِهَا وَمَشْرُوعِيَّتِهَا جَمِيعُ
عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْأَصَمَّ فَإِنَّهُ عَنْ سَمَاعِ أَدِلَّتِهَا
أَصَمٌّ".
لكن ابن حزم يعتد بخلاف أهل البدع، فإذا خالفوا انتقض الإجماع!
ومَال إلى ذلك ابن حجر.
قال ابن حزم في «مراتب الإجماع»: "ولسنا نخرج من جملَة
العلمَاء من ثبتَتْ عَدَالَته وبحثه عَن حُدُود الفتيا وإن كَانَ مُخَالفاً
لنحلتنا، بل نعتد بِخِلَافِهِ كَسَائِر العلمَاء وَلَا فرق كعمرو بن عُبيد،
وَمُحَمّد بن إسحاق، وَقَتَادَة بن دَعامة السدُوسِي، وشَبابة بن سوّار، وَالحسن
بن حييّ، وَجَابِر بن زيد، ونظرائهم، وإن كَانَ فيهم القدري والشيعي والإباضي
والمرجىء؛ لأَنهم كَانُوا أهل علم وَفضل وَخير واجتهاد رَحِمهم الله، وَغلط
هَؤُلَاءِ بِمَا خالفونا فِيهِ كغلط سَائِر العلمَاء فِي التَّحْرِيم والتحليل
وَلَا فرق".
قلت: والإجماع قد انخرم بغير هؤلاء، فقد نُقل عن أَشْهَبَ أَنَّهَا
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أهل الظَّاهِر، وابن اللَّبَّانِ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ.
قال العيني في «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (9/108): "ثمَّ
اعْلَم أَن العلمَاء اخْتلفُوا فِي صَدَقَة الفطر: هَل هِيَ فرض أَو وَاجِبَة أَو
سنة أَو فعل خير مَنْدُوب إِلَيْهِ؟ فَقَالَت طَائِفَة: هِيَ فرض وهم الثَّلَاثَة
المذكورون هُنَا: الشَّافِعِي، وَمَالك وَأحمد، وَقَالَ أَصْحَابنَا: هِيَ
وَاجِبَة، وَقَالَت طَائِفَة: هِيَ سنة، وَهُوَ قَول مَالك فِي رِوَايَة ذكرهَا
صَاحب الذَّخِيرَة، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ فعل خير قد كَانَت وَاجِبَة ثمَّ نسخت".
وأشار إلى هذا الاختلاف ابن حزم في «مراتب الإجماع»، قال: "وَوجدنَا
الإجماع يقتسم طرفِي الأقوال فِي الْأَغْلَب وَالْأَكْثَر من المسَائِل وَبَين
هذَيْن الطَّرفَيْنِ وسائط فِيهَا كثر التَّنَازُع، وَفِي بحرها سبح المخالفون،
فأحد الطَّرفَيْنِ هُوَ: مَا اتفق جَمِيع العلمَاء على وُجُوبه أَو على تَحْرِيمه
أَو على أَنه مُبَاح لَا حرَام وَلَا وَاجِب فسمينا هَذَا الْقسم: الإجماع
اللَّازِم.
والطرف الثَّانِي هُوَ: مَا اتّفق جَمِيع العلمَاء على أَن من فعله
أَو اجتنبه فقد أدّى مَا عَلَيْهِ من فعل أَو اجْتِنَاب أَو لم يَأْثَم فسمينا
هَذَا القسم: الإجماع المجازي عبارَة اشتققناها لكل صنف من صفته الخَاصَّة بِهِ
ليقرب بهَا التفاهم بَين المعلم والمتعلم والمناظرين على سَبِيل طلب الحَقِيقَة إن
شَاءَ الله وَمَا توفيقنا إلا بِاللَّه.
وَبَين هذَيْن الطَّرفَيْنِ أَشْيَاء قَالَ بعض الْعلمَاء: هِيَ
حرَام، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم: لَيست حَرَامًا، لَكِنَّهَا حَلَال، وَقَالَ قوم
مِنْهُم: هِيَ وَاجِبَة، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم: لَيست بواجبة لَكِنَّهَا
مُبَاحَة وكرهها بَعضهم واستحبها بَعضهم.
فَهَذِهِ مسَائِل من الأحكام والعبادات لَا سَبِيل إلى وجود
مُسَمّى الإجماع لَا فِي جوامعها وَلَا فِي أفرادها.
وَنحن ممثلون مِنْهَا مِثَالاً، وَذَلِكَ: مثل زَكَاة الفطر، فَإِن
قوماً قَالُوا: هِيَ فرض، وَقوم قَالُوا: لَيست فرضاً، وَقَالَ قوم: هِيَ
مَنْسُوخَة" انتهى.
وقال ابن رُشد في «بداية المجتهد» (1/223): "فأما زكاة الفطر،
فإن الجمهور على أنها فرض، وذهب بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أنها سنة، وبه
قال أهل العراق.
وقال قوم: هي منسوخة بالزكاة وسبب اختلافهم: تعارض الآثار في ذلك،
وذلك بأنه ثبت من حديث عبدالله بن عمر أنه قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
زكاة الفطر على الناس من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر، أو عبد،
ذكر، أو أنثى من المسلمين».
وظاهر هذا يقتضي الوجوب على مذهب من يقلد الصاحب في فهم الوجوب أو
الندب من أمره عليه الصلاة والسلام إذا لم يحد لنا لفظه.
وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الأعرابي
المشهور، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا
إلا أن تطوع»، فذهب الجمهور إلى أن هذه الزكاة داخلة تحت الزكاة المفروضة، وذهب
الغير إلى أنها غير داخلة".
وقال ابن عبدالبر في «التمهيد» (14/321): "اخْتَلَفُوا في
زكاة الفطر هَلْ هِيَ فَرْضٌ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ أَوْ فِعْلُ خَيْرٍ
مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ! فَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى
أَنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ فَرْضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ ابنُ عُمَرَ، وَقَالَ قَائِلُونَ هِيَ سَنَةٌ مُؤَكَّدَةٌ،
وَلَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ فِعْلُ خَيْرٍ وَقَدْ كَانَتْ
وَاجِبَةً ثُمَّ نُسِخَتْ، روي هذا القول عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ".
ثم قال: "وَذَكَرَ أَبُو التَّمَّامِ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ:
زَكَاةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ العِلْمِ كُلُّهُمْ إِلَّا
بَعْضَ أَهْلِ العِرَاقِ فَإِنَّهُ قَالَ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. واخْتَلَفَ
المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فَرْضٌ وَاجِبٌ،
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ: أَصْبَغُ بنُ الفَرَجِ، وَكَذَلِكَ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ فِيهَا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَالْآخِرُ: أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ،
وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ".
قلت: واستدل لمن لا يراها فرضاً أو أنها منسوخة بما رواه قَيْسُ بنُ
سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَلَمَّا
نَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ،
وَأَمَرَنَا بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ
فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ».
وفي رواية: «أُمِرْنَا بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
رَمَضَانُ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ، وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ
وَكُنَّا نَصُومُهُ، وَأُمِرْنَا بِنِصْفِ صَاعٍ كُلُّ إِنْسَانٍ حُرٍّ وَعَبْدٍ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، أَو ذَكَرٍ أَو أُنْثَى، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ
نُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ، وَكُنَّا نُخْرِجُهُ».
·
تخريج الحديث، والكلام عليه:
أخرجه عبدالرزاق في «مصنفه» (3/322) (5801).
وأحمد في «مسنده» (39/259) (23840) عن يَزِيدَ بنِ هَارُونَ.
والبزار في «مسنده» (9/198) (3746) عن عَمْرِو بنِ عَلِيٍّ
الفلاّس، عن يَحْيَى القطان.
وابن زنجويه في «الأموال» (3/1239) (2363) عن حُمَيْدٍ، عن مُحَمَّدِ
بنِ يُوسُفَ الفِريابيّ.
والطبراني في «المعجم الكبير» (18/349) (887) عن عَلِيِّ بنِ
عَبْدِالعَزِيزِ البغوي، عن أَبي نُعَيْمٍ الفضلِ بنِ دُكينٍ.
والبيهقي في «السنن الكبير» (4/269) (7671) من طريق أَبي أَحْمَدَ
مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ، عن يَعْلَى بنِ عُبَيْدٍ.
وأحمد في «مسنده» (39/262) (23843). وابن أبي شيبة في «مصنفه»
(6/229) (9458) [وعنه: أبو يعلى في «مسنده» (3/24) (1434)]. والطبري في «تهذيب
الآثار - مسند عمر» (1/381) (636) عن أَبي كُرَيْبٍ، وابنِ وَكِيعٍ. وابن خزيمة في
«صحيحه» (2/1152) (2394)، والحاكم في «المستدرك» (1/568) (1491) من طريق مُحَمَّدِ
بنِ عَبْدِاللَّهِ الحَضْرَمِيّ مُطيّن، كلاهما (ابن خزيمة، ومُطيّن) عن جَعْفَرِ
بنِ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبِيّ. والنسائي في «السنن الكبرى» (3/39) (2298) عن مُحَمَّدِ
بنِ عَبْدِاللهِ بنِ المُبَارَكِ المخرميّ. وابن ماجه في «سننه» (3/40) (1828) عن عَلِيِّ
بنِ مُحَمَّدٍ الطنافسيّ. كلهم (أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو كُريب، وابن وكيع،
وجعفر الثعلبي، ومحمد بن عبدالله المخرمي، وعليّ بن محمد الطنافسي) عن وَكِيعٍ.
كلهم (عبدالرزاق، ويزيد بن هارون، ويحيى القطان، والفريابي، وأَبُو
نُعَيْمٍ، ويَعْلَى بن عُبَيْدٍ، ووكيع) عن سفيانَ الثَّوْرِيِّ.
وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/74) (3281) عن ابنِ
مَرْزُوقٍ، عن رَوْحِ بنِ عُبَادَةَ، عن شُعْبَةَ.
كلاهما (الثوري، وشعبة) عَنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ الكوفيّ،
قَالَ: حَدَّثَنِي القَاسِمُ بنُ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ عَرِيب بنِ
حُمَيْدٍ الهَمْدَانِيِّ، قَالَ: سَأَلْنَا سَعْدَ بنَ قَيْسِ بنِ عُبَادَ عَنْ
صَدَقَةِ الفِطْرِ، فَذكره.
كذا رواه سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ، عن القَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ،
عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الهَمْدَانِيِّ، عن سَعْدِ بنِ قَيْسِ بنِ عُبَادَة.
وخالفه الحَكَمُ بنُ عُتَيْبَةَ، فرواه عَنِ القَاسِمِ بنِ
مُخَيْمِرَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيلَ أَبي مَيْسَرَةَ الهَمْدَانِيّ، عَنْ
قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ.
أخرجه أَبُو دَاوُدَ الطيالسي في «مسنده» (2/536) (1307).
والبزار في «مسنده» (9/198) (3745)، والطبري في «تهذيب الآثار -
مسند عمر» (1/381) (638) كلاهما (البزار، والطبري) عن مُحَمَّدِ بنِ المُثَنَّى، عن
مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ غُندر.
وابن أبي خيثمة في «تاريخه» (1/391) (1473) عن أَبي عُبَيْدٍ،
والطبري في «تهذيب الآثار - مسند عمر» (1/382) (639) عن عَلِيِّ بنِ سَهْلٍ
الرَّمْلِيّ، كلاهما (أبو عبيد، والرملي) عن حَجَّاجِ بنِ مُحَمَّدٍ الأَعْوَر.
والطبري في «تهذيب الآثار - مسند عمر» (1/381) (637) عن ابنِ
وَكِيعٍ، عن أَبِيه.
والنسائي في «السنن الكبرى» (3/38) (2297) عن إِسْمَاعِيلَ بنِ مَسْعُودٍ
البَصْرِيّ، عن يَزِيدَ بنِ زُرَيْعٍ.
والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/75) (3282) عن عَلِيِّ بنِ
شَيْبَةَ. وفي «شرح مشكل الآثار» (6/36) (2258) عن بَكَّارِ بنِ قُتَيْبَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ
بنِ مَرْزُوقٍ، وَعَلِيِّ بنِ شَيْبَةَ، جَميعاً عن رَوْحِ بنِ عُبَادَةَ.
والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/75) (3283) عن ابنِ مَرْزُوقٍ،
عن سَعِيدِ بنِ عَامِرٍ.
والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (6/36) (2260) عن بَكَّارٍ، عن وَهْبِ
بنِ جَرِيرٍ.
كلهم (الطيالسي، وغُندر، وحجاج، ووكيع، ويزيد بن زريع، وروحٌ،
وسعيد بن عامر، ووهب بن جرير) عن شُعْبَةَ.
وأخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (18/349) (888) عن مُعَاذِ بنِ
المُثَنَّى، عن مُسَدَّدٍ، عن حُصَيْنِ بنِ نَمِرٍ، عن محمدِ بنِ عبدالرحمن بنِ
أَبِي لَيْلَى.
كلاهما (شعبة، وابن أبي ليلى) عَنِ الحَكَمِ بنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ
القَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ قَيْسِ بنِ
سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ.
وخالفهما مَنْصُورُ بن المعتمر فرواه عَنِ الحَكَمِ، عَنْ قَيْسِ
بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ!
أخرجه أَبُو العَبَّاسِ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقُوبَ الأًصم في «حديثه
- الجزء الثالث» (53) عن مُحَمَّدِ بنِ عُبَيْدِاللَّهِ بنِ المُنَادِي، عن أَبي
بَدْرٍ، عن زَائِدَة بنِ قُدامة، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ قَيْسِ بنِ
سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ.
وأخرجه البيهقي في «الخلافيات» (4/446) (3440) عن أَبي
عَبْدِاللَّهِ الحَافِظ الحاكم النيسابوري، عن أَبي العَبَّاسِ الأصمّ.
قال البيهقي: "هَذَا مُرْسَلٌ، الحَكَمُ لَمْ يُدْرِكْ قَيْسَ
بنَ سَعْدٍ، وَرَوَاهُ القَاسِمُ بنُ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ
الهَمْدَانِيِّ، عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ المِقْدَارِ".
قلت: قصّر فيه منصور، ورواية شعبة وابن أبي ليلى أولى، ويُحتمل أن
الاختلاف من الحكم نفسه، كان يصله أحياناً، ويقصر به أحياناً، والله أعلم.
قال الحاكم - بعد أن روى حديث ابن عمر في صدقة الفطر، ثم حديث قيس
- قال في حديث قيس: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ،
وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُهُ بِإِزَاءِ حَدِيثِ أَبِي عَمَّارٍ،
فَإِنَّهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا عَلَى الوُجُوبِ".
وقَالَ البيهقي: "وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ
فَرْضِهَا؛ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضٍ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ آخَرَ، وَقَدْ أَجْمَعَ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الفِطْرِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي
تَسْمِيَتِهَا فَرْضًا فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا".
وقد رجّح النسائي رواية الحكم، فقال كما في «السنن الصغرى» (5/49)
- بعد أن ساق الروايتين -: "وَسَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ خَالَفَ الحَكَمَ فِي
إِسْنَادِهِ، وَالحَكَمُ أَثْبَتُ مِنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ".
قلت: كلاهما من الثقات الأثبات، ولا أرى وجهاً لترجيح الحكم على
سلمة، بل قَال عَبْدالرَّحْمَنِ بن مهدي: "لم يكن بالكوفة أثبت من أربعة:
مَنْصُور، وأبي حصين، وسلمة بن كهيل، وعَمْرو بن مرة".
فلم يذكر الحكم بن عتيبة، وذكر فيهم سلمة = ومقتضى ذلك ترجيح سلمة
على الحكم.
ثم إن الاختلاف بينهما يسير، فأبو عمّار، وعَمْرو بن شُرَحْبِيلَ
كلاهما ثقة، وقد يكون القَاسِم بن مُخَيْمِرَةَ سمع الحديث من كليهما.
·
ترجمة أبي عمّار وحاله:
فأبو عمّار هو: عَرِيب - بفتح أوله، وكسر الراء، بعدها تحتانية، ثم
موحدة -، ابن حُميد الهمداني الكوفيّ، روى عن علي بن أبي طالب، وحذيفة،
وَعَمَّارٍ، وَقَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، وعمرو بن شرحبيل، وغيرهم. روى عنه:
أبو إسحاق السبيعيّ الهمداني، وطلحة بن مصرِّف، والأعمش وغيرهم.
قال ابن أبي خيثمة: سألت أحمد بن حنبل ويحيى بن معين عن أبي عمار،
فقالا: "اسمه: عريب بن حميد، وهو كوفي ثقة". [الجرح والتعديل لابن أبي
حاتم: (7/32)].
وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/283) (4854): "عريب بن حميد بن
عمار الهَمدَانِي، من أهل الكُوفَة، يَرْوِي المَرَاسِيل. رَوَى عَنْهُ: أَبُو
إِسْحَاق السبيعِي، وَالقَاسِم بن مخيمرة. كُنْيَتُهُ: أَبُو عمّار الفائشي".
قلت: حديثه قليل، ولم أجده روى حديثاً مرسلاً!
وقال ابن حجر في «التقريب» (4573): "كوفي ثقة".
وذكره الذهبي في «تاريخه» (2/900) (144) في طبقة من مات ما بين سنة
(71 - 80]، ثم أعاده في الطبقة التي تليها (2/980) (108) فيمن مات ما بين سنة (81
- 90).
فالذهبي مُتردد في أي طبقة هو، فأورده في كلا الطبقتين.
وقد قال المزي في نسبته: "الدُّهْنِيُّ الهَمْدَانِيُّ"!
فتعقبه مغلطاي في «إكماله» (9/235) فقال: "وأما قوله:
«الهمداني الدهني» فوهمٌ لا شك فيه، أنَّى يجتمع دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن
الغَوْث بن النَبْت بن مالك بن زَيْدِ بنِ كَهْلانَ مع هَمْدَان بن مالك بن زيد بن
أَوْسَلَةَ بن رَبيعةَ بن الخَيَارِ بنِ مَالِكِ بنِ زيدِ بنِ كَهلان؟ وإن قلنا:
تصحفت عليه الدُّهني بالضم من الدِّهني بالكسر، فكذلك أيضاً لأن المكسور الدال في
الأزد، وفي غافق، وفي عبد القيس.
وذكره أيضاً عمران بن محمد بن عمران الهمداني في الطبقة الأولى من
رجال همدان النازلين بالكوفة، ونسبه فائشياً كما ذكره أبو حاتم ابن حبان، وهو
الصواب، والله تعالى أعلم" انتهى.
قلت: الفَائِشي، أو الفَايِشي - بِفَتْح الفَاء وَسُكُون الْألف
وَكسر اليَاء المُثَنَّاة من تحهتها وَفِي آخرهَا شين مُعْجمَة - نِسْبَة إِلَى
فايش.
قَالَ السمعاني في «الأنساب» (10/144): "وظني أَنه بطن من
هَمدَان، ينْسب إِلَيْهِ خلق كثير، مِنْهُم: أَبُو بكر عبدالرَّحْمَن بن يزِيد
الفايشي الهَمدَانِي، كُوفِي يروي عَن عَليّ. روى عَنهُ: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي.
قتل يَوْم الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ".
قال ابن الأثير في «اللباب في تهذيب الأنساب» (2/410): "قلت:
هُوَ من هَمدَان لَا شكّ فِيهِ، وَهُوَ: فايش بن الجابر بن عبدالله بن قادم بن زيد
بن عريب بن جشم بن حاشد بن جشم بن حيران بن نوف ابن هَمدَان".
·
ترجمة عمرو بن شُرحبيل وحاله:
وعَمْرُو بنُ شُرَحْبِيلَ أَبُو مَيْسَرَةَ الهَمْدَانِيُّ
الكُوْفِيُّ. حَدَّثَ عَنْ: عُمَرَ - مرسل -، وَعَلِيٍّ، وَابنِ مَسْعُوْدٍ،
وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ إِمَامَ مَسْجِدِ بَنِي وَادْعَةَ، وكان مِنَ العُبَّادِ
الأَوْلِيَاءِ.
حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو وَائِلٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالقَاسِمُ بنُ
مُخَيْمَرَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السبيعي الهمداني، وَمُحَمَّدُ بنُ المُنْتَشِرِ،
وأبو عمّار الهمداني، ومسروق بن الأجدع الهمداني - وهو من أقرانهما - وغيرهم، وَكَانَ
مِنْ أَفْضَلِ أَصْحَابِ عَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُودٍ، وشهد صفين مع علي - رضي الله
عنه -، وأخرج له الجماعة إلا ابن ماجه.
وثّقه ابن معين وغيره.
مات سنة اثنتين أو ثلاث وستين.
وذكره البخاري في فصل «من مات ما بين السبعين إلى الثمانين».
والراوي عنهما: القَاسِمُ بنُ مُخَيْمِرَةَ كوفي همداني أيضاً، وهو
ثقة.
وقيس بن سعد بن عُبادة كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأَمِيرِ،
وقد صَحِبَ عليّا، وشهد معه مشاهده، وتوفي سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة ستين في آخر
خلافة معاوية بالمدينة.
·
الحكم على الحديث:
والخلاصة أن الحديث صحيح لا علّة فيه، وإسناده همدانيون ثقات، وفيه
تصريح التابعي بسماعه من قيس بسؤاله أو سؤال غيره عن صدقة الفطر.
وقد روى ابن زنجويه في «الأموال» (3/1240) (2364) قال: أَخْبَرَنَا
أَبُو نُعَيْمٍ الفضلُ بن دُكَينٍ، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بنُ طَلْحَةَ بنِ
مُصرِّف، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَتِ الفِطْرَةُ قَبْلَ أَنْ
تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ نُؤْمَرْ وَلَمْ نُنْهَ
عَنْهُ، وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَفْعَلُوهَا».
·
تضعيف النووي للحديث!
وقد ضعّف النووي هذا الحديث بجهالة حال أبي عمّار! فقال في «المجموع
شرح المهذب» (6/104): "فَهَذَا الحَدِيثُ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي عَمَّارٍ،
وَلَا يُعْلَمُ حَالُهُ فِي الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَإِنْ صَحَّ فَجَوَابُهُ
أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُ الفِطْرَةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْأَمْرُ بِهِ
وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِسْقَاطِهَا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ وُجُوبِهَا، وَقَوْلُهُ:
«لَمْ يَأْمُرْنَا» لَا أَثَرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ سَبَقَ وَلَا حَاجَةَ إلَى
تَكْرَارِهِ. قَالَ البَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ
صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهَا ابنُ الْمُنْذِرِ فِي
الْأَشْرَافِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الرِّوَايَةِ عَنْ ابنِ عُلَيَّةَ
وَالْأَصَمِّ وَإِنْ كَانَ الْأَصَمُّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ".
قلت: أبو عمار ثقة كما مر بيان حاله.
·
كلام ابن حجر في نقض الإجماع
المزعوم!
قال البخاري في «صحيحه»: "«بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْرِ»، وَرَأَى
أَبُو العَالِيَةِ، وَعَطَاءٌ، وَابنُ سِيرِينَ: «صَدَقَةَ الفِطْرِ فَرِيضَةً»".
قال ابن حجر في «الفتح» (3/367): "وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ
الْبُخَارِيُّ عَلَى ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِمْ صَرَّحُوا
بِفَرْضِيَّتِهَا، وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ ابن المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ
عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ الحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ بِالوُجُوبِ دُونَ الفَرْضِ عَلَى
قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّفْرِقَةِ، وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ مَعَ ذَلِكَ نَظَرٌ؛
لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بنَ عُلَيَّةَ وَأَبَا بَكْرِ بنَ كَيْسَانَ الْأَصَمَّ
قَالَا: إِنَّ وُجُوبَهَا نُسِخَ! وَاسْتُدِلَّ لَهُمَا بِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ
وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الفِطْرِ قَبْلَ أَنْ
تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ
يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ»، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا
مَجْهُولًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ
لِاحْتِمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضٍ لَا
يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضٍ آخَرَ. وَنَقَلَ المَالِكِيَّةُ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهَا
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أهل الظَّاهِر، وابن اللَّبَّانِ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: «فَرَضَ» فِي الحَدِيث بِمَعْنى قدر".
قلت: أشار ابن حجر إلى أن الحديث تُعقّب بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ
رَاوِيًا مَجْهُولًا، ولم يذكر المتعقّب، وهذا مردود، فرجاله معروفون مشهورون،
وابن حجر قد ثبت الحديث وصححه، فإنه قال قبل هذا: "وَثَبت عِنْد أَحْمد، وابن
خُزَيْمَة أَيْضًا، وَالنَّسَائِيّ، وابن مَاجَهْ، وَالحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ
قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ
ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا
وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ»، إِسْنَاده صَحِيح رِجَاله رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَبَا
عَمَّارٍ الرَّاوِي لَهُ عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ وَهُوَ كُوفِيٌّ اسْمُهُ: عَريب -
بِالمُهْمَلَةِ المفتوحة - بن حُميد، وَقد وَثَّقَهُ أَحْمد وابن مَعِينٍ، وَهُوَ
دَالٌّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ صَدَقَةِ الفِطْرِ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ".
وقال العيني تعقيباً على نقل ابن المنذر للإجماع: "قلت: فِيهِ
نظر لما ذكرنَا من الِاخْتِلَاف فِيهَا".
·
قول الإمام أحمد: "وَأَنَا
مَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ، وَقَيْسُ بنُ سَعْدٍ يَدْفَعُ
أَنَّهَا فَرْضٌ"!
وقال الطوفي الحنبلي في «شرح مختصر الروضة» (1/277) - وهو يتحدث عن
الفرض والواجب -: "قُلْتُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: هِيَ
وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَهَا،
وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهُ بَيْنَ الفَرْضِ وَالوَاجِبِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
المَرُّوذِيِّ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الفِطْرِ»، وَأَنَا مَا أَجْتَرِئُ أَنْ
أَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ، وَقَيْسُ بنُ سَعْدٍ يَدْفَعُ أَنَّهَا فَرْضٌ، وَهَذَا
فَرْقٌ مِنْهُ بَيْنَهُمَا".
قلت: أحمد لا يُفرِّق بين الواجب والفرض، وكأنه كان يرى وجوب
وفرضية صدقة الفطر لحديث ابن عمر، ثم لم يجترئ أن يقول إنها فرض لحديث قيس بن سعد،
ولو كان يُفرّق بين الفرض والواجب لما اتجه احتجاجه بحديث قيس؛ لأنه ليس فيه ما
يدل على الفرض أو الواجب الدائم، بل يدلّ صراحة على عدمه، وهو عدم استمرار فرضيته!
وحديث قيس لا يُعارض حديث ابن عمر ولا الأحاديث الأخرى في صدقة الفطر،
ففيه إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم = يعني فرض عليهم كما في حديث ابن عمر،
وهذا يدفع تأويل من أوّل الفرض هنا بمعنى التقدير! لكنه بيّن في حديثه أن هذا
الفرض أو الأمر كان قبل فرض الزكاة، فلما فُرضت الزكاة لم يأمرهم ولم ينههم، ثم
أخبر إنهم كانوا يخرجونها كما كانوا قبل فرض الزكاة، وهذا يؤيد ما جاء عن الصحابة
من إخراجها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلفاء.
وقيس كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعترض على ما
قاله في حديثه إنه ربما فهم هذا! وهذا الفهم ليس مُلزماً! وإنما هو يُخبر عن حالة
عايشها.
وإنما فرض النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة عندما كان كثير من
المسلمين من الفقراء، ولم يكن هناك تعامل واسع بالدراهم أو توفر الكثير منها، فكان
التركيز على ما هو موجود من قوت الناس، ففرضها لسدّ حاجات الفقراء.
فإن كان هناك من يرى سُنية صدقة الفطر فلا حرج حينها بإخراجها
نقداً.
والقصد من هذا هو بيان الاختلاف بين أهل العلم في مشروعية صدقة
الفطر، والبحث فيها يطول، وقد رد بعض أهل العلم على من لا يرى وجوبها، وسنزيد ذلك
بياناً بإذن الله في وقت لاحق.
والحمد لله أولاً وآخراً.
وكتب: د. خالد الحايك.
28 رمضان 1444هـ.
شاركنا تعليقك