سلسلة فهم أقوال
أهل النَّقد (35).
قولُهم: «فُلان لَمْ
يكن بِجَيِّدِ العُقْدة»، وقولهم: «فُلان هو العُقْدة»!
قال أبو عبيد الآجري: سألت أبا دَاوُد عَن الحَسَن بن أَبِي جَعْفر،
فَقَالَ: "لَمْ يكن بِجَيِّدِ العُقْدة" [سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي
داود: (ص: 280) (393). وتحرّفت في «إكمال تهذيب الكمال» (4/72) إلى: "لم
يكن بجيد العقيدة"!].
قلت: المعنى أنه لم يكن يُحسِن أَخذ الحديث!
وهذا المصطلح مأخوذٌ من «عُقْدَةِ الحَبْلِ» التي تدلّ على
الإِحكام = ومعنى ذلك أنه لم يُحكم أخذ الحديث، فهو كان سيء الأخذ من المشايخ، بل
كان يُكتب له الحديث.
قال يعقوب بن سفيان الفسوي: سمعتُ سُلَيْمَانَ بنَ حَرْبٍ، قَالَ: "كُنْتُ
أَجْلِسُ إِلَى مُبَارَكِ بنِ فَضَالَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ يُحَدِّثُنَا
وَأَكْتُبُ، وكان الحسن بن أبي جعفر الجُفري يَجْلِسُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ
لِي: يَا غُلَامُ انْظُرْ مَا يُكْتَبُ مِنْ مُبَارَكِ بنِ فَضَالَةَ فَاجْمَعْهُ
وَاكْتُبْهُ لِي. قَالَ: فَكُنْتُ أَجْمَعُ مَا يُحدِّثُ به فِي الجَمْعِ
فَأَكْتُبُهُ وَأَحْمِلُهُ إِلَيْهِ". [المعرفة والتاريخ: (3/46)].
وقال صاحب كتاب «شفاء العليل بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل»
(1/36): "قولهم: «فلان هو العقدة» جاء هذا اللفظ في اللغة على عدة معان، أنسبها
لما ههنا: الولاية على البلد، كما في «ترتيب القاموس» (3/270). ووجه المدح بذلك
أنه أمير، يُسمع له ويُطاع وتهاب مخالفته...، وقد قال مُهنا: سألت أحمد عن عفان
وأبي نُعيم؟ فقال: «هما العُقدة». وقد سبق قول أحمد ومدحه لأبي نُعيم، وهو القائل:
كان يعرف في حديثه الصدق (8/272-273) «تهذيب التهذيب»" انتهى.
قلت: نعم، من المعاني اللغوية للعُقدة: الولاية، فيُقال: أَصحابُ
العُقْدة = يَعْنِي الأُمراء الذين عُقدت لهم الولاية، لكن هذا لا ينطبق على
المعنى عند أهل الحديث في قولهم: «فلان هو العقدة»! ولا يستقيم كذلك هذا المعنى
على ما ذكره عن أحمد في عفّان وأبي نُعيم! ولا أحد يشك في صدقهما وتثبتهما في
الحديث.
وأصل الكلمة في اللغة: (عَقَدَ): العَيْنُ وَالقَافُ وَالدَّالُ
أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى شَدٍّ وَشِدَّةِ وُثُوقٍ. [مقاييس اللغة: (4/86)].
وَقَالَ ابنُ الأَنباري: "فِي قَوْلِهِمْ لِفُلَانٍ عُقْدة،
العُقْدَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الحَائِطُ الكَثِيرُ النَّخْلِ. وَيُقَالُ للقَرْية
الْكَثِيرَةِ النَّخْلِ: عُقْدة، وكأَنّ الرَّجُلَ إِذا اتَّخَذَ ذَلِكَ فَقَدْ
أَحكم أَمره عِنْدَ نَفْسِهِ وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ، ثُمَّ صَيَّرُوا كُلَّ شَيْءٍ
يَسْتَوْثِقُ الرَّجُلُ بِهِ لِنَفْسِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ عُقْدة". [الزاهر
في معاني كلمات الناس: (2/85) (599)].
فالعُقْدَةُ مِنَ الشَّجَرِ: "مَا اجْتَمَعَ وَثَبَتَ
أَصْلُهُ".
والنصّ المنقول عن أحمد في عَفَّانَ بنِ مُسْلِمِ البَصْرِيّ
الصَّفَّار (ت 220هـ)، وأَبي نُعَيْمٍ الفَضْل بنِ دُكَيْنٍ الكُوْفِيِّ المُلاَئِيِّ
(ت 219هـ) قد رُوي عنه نصاً آخر عن مهنا أيضاً يكشف المعنى الذي أراده الإمام
أحمد.
فالمشهور في الكتب: قَال مهنا: سألت أَحْمَد عَنْ عفان، وأبي نُعيم،
فَقَالَ: "هما العقدة".
وَقَال أيضاً: سألت أَحْمَد بن حنبل عَنْ عفان، وأبي نعيم،
فَقَالَ: "ذهبا محمودين".
وجمعهما في «بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم» (ص:
126): قَال مهنا: سألت أَحْمَد عَنْ عفان، وأبي نعيم، فقال: "هما العُقدة، وذَهَبَا
مَحْمُودَيْنِ".
وقصد الإمام أحمد أنهما العقدة = أي أصل الثبات في مسألة الامتحان
بخلق القرآن، وقد ذهبا لامتحانهما وهما مَحمودين في ذلك = أي حمدهما النّاس على
ثباتهما في تلك الفتنة.
قَال حنبل بن إسحاق: سمعت أَبَا عَبداللَّهِ يَقُوْلُ: "شَيْخَانِ
كَانَ النَّاسُ يَتَكَلَّمُوْنَ فِيْهِمَا، وَيَذْكُرُونَهُمَا، وَكُنَّا نَلْقَى
مِنَ النَّاسِ فِي أَمرِهِمَا مَا اللهُ بِهِ عَلِيْمُ، قَامَا للهِ بِأَمرٍ لَمْ
يَقُمْ بِهِ كَبِيْرُ أَحَدٍ: عَفَّانُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ".
قال الحَافِظ أَبُو بَكْر الخطيب مُعقباً: "قلت: يعني أَبُو
عبداللَّه بذلك امتناعهما من الإجابة إلى القول بخلق القرآن عند امتحانهما، وكان
امتحان أبي نعيم بالكوفة". [تاريخ بغداد: (14/307)].
ورَوَى المَرُّوْذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: "إِنَّمَا
رَفَعَ اللهُ عَفَّانَ وَأَبَا نُعَيْمِ بِالصِّدْقِ، حَتَّى نَوَّهَ
بِذِكْرِهِمَا"، وَقَالَ: "ذَهَبَا مَحْمُودَيْنِ".
وَذُكِرَ عِنْدَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "قَامَ
فِي أَمْرِ الامْتِحَانِ بِمَا لَمْ يُقِمْ بِهِ غَيْرُهُ، عَافَاهُ اللَّهِ".
[المنتخب من العلل للخلال: (ص: 350)].
وقَالَ حَنْبَلُ بنُ إِسحاقَ: حَضَرْتُ أَبَا عَبْدِاللهِ وَابنَ
مَعِيْنٍ عِنْدَ عَفَّانَ، بَعْدَ مَا دَعَاهُ إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ
لِلْمِحْنَةِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ امْتَحَنَ مِنَ النَّاسِ عَفَّانَ، فَسَأَلَهُ
يَحْيَى مِنَ الغَدِ بَعْدَ مَا امْتُحِنَ، وَأَبُو عَبْدِاللهِ حَاضِرٌ وَنَحْنُ
مَعَهُ، فَقَالَ: أَخْبِرْنَا بِمَا قَالَ لَكَ إِسْحَاقُ؟
قَالَ: يَا أَبَا زَكَرِيَّا، لَمْ أُسَوِّدْ وَجْهَكَ، وَلاَ
وُجُوْهَ أَصْحَابِكَ، إِنِّيْ لَمْ أُجِبْ.
فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ كَانَ؟
قَالَ: دَعَانِي، وَقَرَأَ عَلَيَّ الكِتَابَ الَّذِي كَتَبَ بِهِ
المَأْمُوْنُ مِنَ الجَزِيْرَةِ، فَإِذَا فِيْهِ: امْتَحِنْ عَفَّانَ، وَادْعُهُ
إِلَى أَنْ يَقُوْلَ: القُرْآنُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقِرَّهُ
عَلَى أَمْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْكَ إِلَى مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ،
فَاقْطَعْ عَنْهُ الَّذِي يُجْرَى عَلَيْهِ - وَكَانَ المَأْمُوْنُ يُجْرِي عَلَى
عَفَّانَ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَ مائَةِ دِرْهَمٍ -.
فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيَّ الكِتَابَ، قَالَ لِي إِسْحَاقُ: مَا
تَقُوْلُ؟
فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} حَتَّى خَتَمْتُهَا.
فَقُلْتُ: أَمَخْلُوْقٌ هَذَا؟
فَقَالَ: يَا شَيْخُ! إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ يَقُوْلُ:
إِنَّكَ إِنْ لَمْ تُجِبْهُ إِلَى الَّذِي يَدْعُوكَ إِلَيْهِ، يَقْطَعْ عَنْكَ
مَا يُجرِي عَلَيْكَ.
فَقُلْتُ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُم وَمَا تُوْعَدُوْنَ}
[الذَّارِيَاتُ:22].
فَسَكَتَ عَنِّي، وَانْصَرَفْتُ.
فَسُرَّ بِذَلِكَ أَبُو عَبْدِاللهِ، وَيَحْيَى، ومَن حَضر من
أصحابهما". [تاريخ بغداد: 14/201)].
وقَالَ أَبُو العَبَّاسِ السَّرَّاجُ مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ الثقفيُّ،
قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن يونس الكُدَيْمِيّ، قَالَ: لَمَّا أُدخِلَ أَبُو نُعَيْمٍ
عَلَى الوَالِي لِيَمْتَحِنَهُ، وثَمَّ ابن أبي حَنيفة، وأحمد بن يُوْنُس، وَأَبُو
غَسَّانَ، وَعداد، فَأَوَّلُ مَنِ امتُحِنَ ابن أبي حَنيفة، فَأَجَابَ، ثُمَّ
عَطَفَ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ، فَقَالَ: قَدْ أجَابَ هَذَا، فَمَا تَقُوْلُ؟ فَقَالَ:
وَاللهِ مَا زِلْتُ أتَّهِمُ جَدَّهُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي
يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَدّ هَذا يَقُوْلُ: لاَ بَأْسَ أَنْ ترمَى
الجَمْرَة بِالقَوَارِيْرِ. أَدْرَكْتُ الكُوْفَةَ وَبِهَا أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِ
مائَةِ شَيْخٍ، الأَعْمَشُ فَمَنْ دُوْنَهُ يَقُوْلُوْنَ: القُرْآنُ كَلاَمُ
اللهِ، وَعُنُقِي أَهْوَنُ مِنْ زِرِّي هَذَا. فَقَامَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بنُ
يُوْنُسَ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ - وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَحْنَاءُ - وَقَالَ: جَزَاكَ
اللهُ مِنْ شَيْخٍ خَيْراً". [تاريخ بغداد: (14/307)].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكتب: د. خالد الحايك
9 شوّال 1444هـ
شاركنا تعليقك