الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«مُرْجِئَة المُعْتَزِلَة».

«مُرْجِئَة المُعْتَزِلَة».

أشار الإمام الذهبي إلى هذا المصطلح في كتابه «سير أعلام النبلاء» (18/128) في ترجمة العلامة شيخ العربية «ابن بُرهان العُكبريّ»، قال: "وَكَانَ يَمِيْلُ إِلَى مَذْهَب مُرْجِئَة المُعْتَزِلَة، وَيَعتقد أَنَّ الكُفَّار لاَ يُخلَّدُوْنَ فِي النَّارِ".

قلت: الذي وصفه بهذا هو أبو الوفاء ابن عقيل الحنبليّ كما نقله عنه ابن الجوزي في «المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم» (14/391) قال: "وقال ابن عقيل: كان ابن برهان يختار مذهب مرجئة المعتزلة، وينفي الخلود في حقّ الكفار، ويقول: دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه له مع ما قد وصف به نفسه من الرحمة، وهذا إنما يوجد في الشاهد لما يعتري الغضبان من طلب الانتقام وهذا يستحيل في حقه...".

قلت: ابن برهان أخذ الكلام من شيوخ المعتزلة، وقد وافقهم في أشياء، وهو يختار أشياء من مذهبهم.

قال ابن ماكولا في «الإكمال» (1/247): "قرأ الفقه على مذهب أبي حنيفة، والكلام على أبي الحسين البصري وغيره، وتقدم فيه وفي النحو ومعاني القرآن، وصار صاحب اختيار في الكلام".

وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (4/427): "عبدالواحد بن علي بن برهان العكبري شيخ العربية: فيه إعتزال بيّن في مسائل عدة".

بل قد نسبه ابن الجوزي للمعتزلة، فقال في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (16/132): "عبدالواحد بن علي الأسدي وهو ابن برهان، وكان الأسدي معتزلياً...".

فهذا المصطلح «مرجئة المعتزلة» يعني أنه كان على إرجاء المعتزلة، وابن برهان وافق المعتزلة في أشياء، وفي المعتزلة من يقول ببعض مسائل الإرجاء، فهؤلاء يسموا «مرجئة المعتزلة»، كما يُقال في بعض الفقهاء «مرجئة الفقهاء» فهم ليسوا على مذهب الإرجاء في جميع أصوله، وإنما قد وافقوا المرجئة في بعض المسائل، فميزهم العلماء بهذا الاسم.

وكذلك كلّ الفرق، فيهم من يخالف بعض مسائل المذهب فينسب بتركيب مركّب إلى فرقة أخرى لتمييز ما عنده من اعتقادات.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يشير إلى مثل ذلك في كلامه، كقوله: "وَالشِّيعَة مُرْجِئِهِم وَغَيْر مُرْجِئِهِمْ"، وكقوله: "فَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ: جهميتهم وَغَيْرُ جهميتهم"، وهكذا.

فالشيعة أصولهم معروفة، ولكن عند بعضهم إرجاء في بعض المسائل، والمرجئة أصولهم كذلك معروفة، ولكن هناك من وافق الجهمية في بعض الاعتقادات، فأطلق عليهم: "جهمية المرجئة"، وهكذا.

وعليه فإن ابن برهان قد وافق بعض ما عند المعتزلة، وموافقته لما عليه مرجئيهم، وقد بيّن ابن عقيل المقصود بذلك في المسألة التي ذكرها وهي أنه ينفي الخلود في حقّ الكفار.

ولكن المرجئة لا يقولون بنفي خلود الكفار في النار، ولا كذلك المعتزلة، وإنما بعض المعتزلة، وهذا فيه شبه من مذهب المرجئة في مسألة إرجاء الأشياء إلى الله عز وجل، فلما اختاروا هذا الرأي شابهوا المعتزلة في الأصل لا في المسألة، فصاروا: "مرجئة المعتزلة".

فالموافقة لمذهب المرجئة قد يكون في أصل يشبه آخر، أو في مسألة معينة، كما كان عليه بعض الفقهاء، فالعلامة الإمام فقيه العراق أبو إسماعيل حماد بن أبي سليمان كان من مرجئة الفقهاء في مسألة الإيمان.

قال معمر: "كنا نأتي أبا إسحاق، فيقول: من أين جئتم؟ فنقول: من عند حماد، فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة! فكنا إذا دخلنا على حماد قال: من أين جئتم؟ قلنا: من عند أبي إسحاق، قال: الزموا الشيخ فإنه يوشك أن يطفى. قال: فمات حماد قبله".

قال معمر: قلت لحماد، كنت رأساً وكنت إماماً في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعاً! قال: "إني أن أكون تابعاً في الحق خير من أن أكون رأساً في الباطل".

قال الإمام الذهبي معلقاً على هذا في «سير أعلام النبلاء» (5/233): "قلت: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئاً إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: (الإيمان إقرار باللسان ويقين في القلب)، والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: (لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض)، نسأل الله العافية".

وقال ابن تيمية: "وَأَنْكَرَ حَمَّادُ بنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ وَدُخُولَ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ؛ وَهَؤُلَاءِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي - إمَامُ أَهْلِ الْكُوفَةِ شَيْخُ حَمَّادِ بنِ أَبِي سُلَيْمَانَ - وَأَمْثَالُهُ؛ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابنِ مَسْعُودٍ: كعلقمة وَالْأَسْوَدِ؛ فَكَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُخَالَفَةً لِلْمُرْجِئَةِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ؛ لَكِنَّ حَمَّادَ بنَ أَبِي سُلَيْمَانَ خَالَفَ سَلَفَهُ؛ وَاتَّبَعَهُ مَنْ اتَّبَعَهُ وَدَخَلَ فِي هذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. ثُمَّ إنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ اشْتَدَّ إنْكَارُهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَبْدِيعُهُمْ وَتَغْلِيظُ الْقَوْلِ فِيهِمْ؛ وَلَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُمْ نَطَقَ بِتَكْفِيرِهِمْ؛ بل هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ فِي ذَلِكَ؛ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ: عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةِ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ تَكْفِيرًا لِهَؤُلَاءِ؛ أَوْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَنَازَعِ فِي تَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا؛ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ إنَّمَا هُوَ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُشَبِّهَةِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحْمَد "الْخَوَارِجَ" وَلَا "الْقَدَرِيَّةَ" إذَا أَقَرُّوا بِالْعِلْمِ؛ وَأَنْكَرُوا خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَعُمُومَ الْمَشِيئَةِ؛ لَكِنْ حُكِيَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا " الْمُرْجِئَةُ " فَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ؛ مَعَ أَنَّ أَحْمَد لَمْ يُكَفِّرْ أَعْيَانَ الْجَهْمِيَّة وَلَا كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ جهمي كَفَّرَهُ وَلَا كُلَّ مَنْ وَافَقَ الْجَهْمِيَّة فِي بَعْضِ بِدَعِهِمْ".

وقال أيضاً: "دخلَ فِي «إرْجَاءِ الْفُقَهَاءِ» جَمَاعَةٌ هُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَهْلُ عِلْمٍ وَدِينٍ. وَلِهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ أَحَدًا مِنْ "مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ" بَلْ جَعَلُوا هذَا مِنْ بِدَعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ لَا مِنْ بِدَعِ الْعَقَائِدِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا لَفْظِيٌّ لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمُطَابِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ فَصَارَ ذَلِكَ الْخَطَأُ الْيَسِيرُ فِي اللَّفْظِ سَبَبًا لِخَطَأِ عَظِيمٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ فَلِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِي ذَمِّ "الْإِرْجَاءِ" حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: لَفِتْنَتُهِمْ - يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ - أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الأزارقة. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا اُبْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْإِرْجَاءِ. وَقَالَ الأوزاعي: كَانَ يَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيرٍ وقتادة يَقُولَانِ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ. وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي - وَذَكَرَ الْمُرْجِئَةَ فَقَالَ -: هُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ حَسْبُك بِالرَّافِضَةِ خُبْثًا وَلَكِنَّ الْمُرْجِئَةَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: تَرَكَتْ الْمُرْجِئَةُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ ثَوْبِ سابري. وَقَالَ قتادة: إنَّمَا حَدَثَ الْإِرْجَاءُ بَعْدَ فِتْنَةِ فِرْقَةِ ابنِ الْأَشْعَثِ. وَسُئِلَ مَيْمُونُ بنُ مهران عَنْ كَلَامِ "الْمُرْجِئَةِ" فَقَالَ: أَنَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ لِذَرِّ الهمداني: أَلَا تَسْتَحِي مِنْ رَأْيٍ أَنْتَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَقَالَ أَيُّوبُ السختياني: أَنَا أَكْبَرُ مِنْ دِينِ الْمُرْجِئَةِ، إنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَسَنُ. وَقَالَ زاذان: أَتَيْنَا الْحَسَنَ بنَ مُحَمَّدٍ فَقُلْنَا: مَا هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي وَضَعْت؟ وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ كِتَابَ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عُمَر لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مُتّ قَبْلَ أَنْ أُخْرِجَ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ أَضَعَ هذَا الْكِتَابَ فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي اسْمِ مُحَدِّثٍ؛ وَلَا كَالْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ إذْ كانت أَحْكَامُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ".

وكتب: خالد الحايك

3/3/2012م.

 

شاركنا تعليقك