«بُلغةُ ذَوي الإِنصاف» في حقيقة حديث الاعتكاف: «لا اعتكاف إلا في
المساجد الثلاثة».
بقلم: خالد الحايك.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ،
والصّلاةُ والسلامُ على نبيّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، وصحبه أجمعين،
ومن سارَ على نهجهم إلى يومِ الدِّين، وبعد:
فإِنَّ مِما يُثارُ كلَّ عامٍ
مسألة الاعتكاف في المساجد خلالَ شهر رمضان، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم،
ورُغمَ اختلافهم فيها إلا أنهم لم يُرغموا الناس على ترك الاعتكاف في عامة
المساجد.
وقد ابتلينا - والحمد لله - في
هذا الزمان بطائفة تدَّعي تمسكها بمنهج السلف لا شُغل لهم إلا صدّ الناس عن
العبادة ظنّاً منهم أنهم يطبقون السنّة! ويا ليت شِعري من لا يريد تطبيق سنة النبي
صلى الله عليه وسلم، فكأنهم هم الحاكمون على السُّنّة، وهم الذين بيدهم الأمر
والنهي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد ألّف (عليّ حلبيّ) كتاباً في
الاعتكاف سماه (الإنصاف في أحكام الاعتكاف)، وهو كتاب جمعه من عدّة كتب دون تحرير!
وقد أفاض في مسألة الموضع الذي
يجوز فيه الاعتكاف، وهي المسألة التي عليها النِّقاشُ في هذه الورقات.
وهو في هذه المسألة تبعٌ للألباني
حيث يقول في كتابه ((قيام رمضان)): "وينبغي أن يكون مسجداً جامعاً؛ لكي لا
يضطر للخروج منه لصلاة الجمعة، فإن الخروج لها واجب عليه لقول عائشة في رواية عنها
في حديثها: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع)، ثم وقفت على حديث صحيح صريح يخصص
المساجد المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي،
والمسجد الأقصى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا اعتكاف إلا في المساجد
الثلاثة))، وقد قال به من السلف فيما اطلعت: حذيفة ابن اليمان، وسعيد بن المسيب،
وعطاء، إلا أنه لم يذكر المسجد الأقصى، وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقاً، وخالف
آخرون فقالوا: ولو في مسجد بيته. ولا يخفى أن الأخذ بما وافق الحديث منها هو الذي
ينبغي المصير إليه، والله سبحانه وتعالى أعلم" انتهى.
وقد ذكره أيضاً في ((صحيحته)) رقم
(2786)، ووقعت له بعض الأوهام سأفردها في نهاية الموضوع إن شاء الله تعالى.
وقد قسّمتُ هذا الكتاب إلى ثلاثة
مطالب:
المطلب الأول: كشفُ النّقاب عن طُرق الحديث
رفعاً ووقفاً، وبيان الراجح.
المطلب الثاني: الاختلاف في متن حديث حذيفة،
وبيان حقيقة الشكِّ الذي وقع فيه، وأثره في الفَهم.
المطلب الثالث: مناقشة (عليّ حلبيّ) في تعليقه
على هذا الحديث. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المغالطات
الفاسدة، وبيان نكارة قصة منسوبة للإمام مالك.
المسألة الثانية: الخلط في
الاستدلال بالنصوص، ونسبة أشياء إلى الأئمة دون تحرير.
المسألة الثالثة: تفنيدُ مزاعم
وشبهات سمّاها حلبيّ دفع بها عن حديث حذيفة:
أولاً: إِنكارُ ابن مسعود على حُذيفة.
ثانياً: تقديمُ فَهمِ ابن مسعود
على فَهم حذيفة.
ثالثاً: الشكّ في رواية حذيفة.
رابعاً: أنّ الحديث منسوخ.
خامساً: أن الحديث مضطرب.
سادساً: أن الحديث معارض ومخالف
لحديث عائشة.
·
المطلب الأول: كشفُ النّقاب عن طُرق الحديث رفعاً ووقفاً، وبيان
الراجح:
رُوي الحديث مرفوعاً وموقوفاً على حذيفة - رضي الله عنه -. وطريقة
حلبي تصحيح المرفوع، وعدم الالتفات إلى الموقوف، وكلامه كلّه انطلاقاً من هذا.
·
أولاً: طُرق الحديث المرفوع:
1- رواهُ الطحاويُّ في ((مشكل
الآثار))[1] عن محمّدِ بنِ سِنانٍ
الشَّيْزَريِّ، قالَ: حدَّثنا هشامُ بنُ عَمَّارٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ
عُيينةَ، عن جَامعِ بنِ أبي راشدٍ، عن أَبي وائلٍ، قالَ: قال حذيفة لِعبدالله:
((النَّاسُ عُكوفٌ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى لا تُغير! وقد علمتَ أنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: لا اعْتِكَافَ إِلا فِي
المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ومسجد بيت المقدس)).
قال عبدُالله: ((لعلكَ نسيت
وحَفظوا، أو أخطأتَ وأصابوا)).
2- ورواهُ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ
في ((مُعجم شيوخه))[2] قال: حدَّثنا أبو الفضل: العباسُ
بنُ أحمد الوشَّاء، قال: حدَّثنا محمَّدُ بنُ الفَرجِ، قال: حدَّثنا سفيانُ ابنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ جَامِعِ بن أَبِي رَاشِدٍ، عَن أَبي وَائِلٍ، قالَ: قَالَ
حُذَيْفَةُ لِعَبْدِاللَّهِ: ((عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى لا
يَضرُّ؟ وقد علمتَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:
لا اعْتِكَافَ إِلا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ)).
فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: ((لَعلكَ
نَسِيتَ وَحَفِظُوا، أو أَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا)).
3- ورواه البيهقي في ((السنن
الكبرى))[3] قال: أخبرنا أبو الحسنِ: محمَّدُ
بنُ الحسينِ العّلويُّ، قالَ: أنبأنا أبو نَصرٍ: محمَّدُ بنُ حَمدُويَه بنِ سهلٍ
الغَازي، قالَ: حدَّثنا محمودُ بنُ آدمٍ المروزيُّ، قالَ: حدثنا سفيانُ ابنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ جَامِعِ بن أَبِي رَاشِدٍ، عَن أَبي وَائِلٍ، قالَ: قَالَ
حُذَيْفَةُ لِعَبْدِاللَّهِ – يعني ابنَ مسعودٍ رضي اللهُ عنه-: ((عُكُوفٌ بَيْنَ
دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى، وقد علمتَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: لا اعْتِكَافَ إِلا فِي المسجدِ الحرَام – أو قالَ: إلا
في الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ)).
فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: ((لَعلكَ
نَسِيتَ وَحَفِظُوا، أو أَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا)). - الشك مني-.
4- ورواهُ ابنُ الجوزيّ في
((التحقيق))[4] مِن طريقِ سعيدِ بنِ منصورٍ،
قالَ: حدثنا سفيان، عن جامع بن أبي راشد، عن شقيق بن سلمة، قال: قال حذيفة لابن
مسعود: ((لقد علمت أن رسول الله قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة - أو قال -
مسجد الجماعة)).
·
ثانياً: طُرق الحديث الموقوف:
1- رواهُ عبدُالرَّزاق في
((مصنفه))[5] عن سفيان بنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
جَامِعِ بن أَبِي رَاشِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، يَقُولُ: قَالَ
حُذَيْفَةُ لِعَبْدِاللَّهِ: ((قَوْمٌ عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي
مُوسَى لا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ:"فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا
وَأَخْطَأْتَ، وَحَفِظُوا وَنَسِيتَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لا اعْتِكَافَ إِلا فِي
هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ مَكَّةَ،
وَمَسْجِدِ إِيلِيَاء)).
2- ورواهُ الفَاكهيُّ في ((أخبار
مكة))[6] قال: حدَّثنا سعيدُ بنُ
عبدِالرَّحمن ومحمّدُ بنُ أَبي عُمر، قالا: حدَّثنا سُفيان، عن جامع بن أبي راشد،
عن أبي وائل، قال: إِنَّ حذيفةَ بنَ اليمان رضي الله عنه قال لعبدالله بن مسعود
رضي الله عنه: ((إنَّ ناساً عكوفاً بين دارك ودار أبي موسى وأنت لا تُغير؟ وقد
علمت أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، أو في المساجد الثلاثة: مسجد المدينة
ومسجد بيت المقدس)).
قلتُ: فهؤلاء أربعةٌ (هشامُ بنُ
عمَّار، ومحمدُ بنُ الفرج، ومحمودُ بنُ آدم، وسعيدُ بنُ منصورٍ) رووه عن سفيان
مرفوعاً.
وخالفهم ثلاثةٌ (عبدُالرزاق،
وسعيدُ بنُ عبدِالرحمن، ومحمدُ بن أبي عمر) فرووه عن سفيان موقوفاً.
وقد ذهب بعض أهل العلم المعاصرين[7]
إلى ترجيح رواية عبدالرزاق ومن معه على رواية من رفعوه؛ لأنَّ عبدالرزاق أثبت
منهم.
وهذه طريقةٌ حسنةٌ، لكن يُشكل
عليها أن الذين رفعوه ثقات أيضاً!
والذي أراه أن رواية هشام بن عمار
ليس لها أصل، وقد رواها عنه محمّد بن سنان الشَّيْزَريّ، قال الذهبي: "صاحب
مناكير، يُتأنَّى فيه"[8].
قلت: له تفردات عن الشَّاميين
بروايات مشهورة! ومنها ما رواه الطبراني في ((المعجم الصغير))[9]
عنه عن عبدِالوهاب بن نَجدة الحُوطيِّ، قال: حدَّثنا الوليدُ ابنُ مُسلمٍ، عن
الأَوزاعيِّ، عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: قال رسولُ الله
صلَّى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ أيامٍ العملُ فيهنَّ أفضلُ مِن عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ,
قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ)).
قال الطبرانيُّ: "لَمْ
يَروهِ عن الأَوزاعيِّ إلا الوليدُ، ولا عنهُ إلا الحُوطيّ، تفرد به محمدُ بنُ
سِنانٍ".
قُلتُ: إِنَّ مثله لا يُقبل تفرده
عن هشام بن عمار، وما أظنّ هشاماً حدّث به! ولو صحّت روايته له، فهو فيه كلام
أيضاً، وكان قد تغيّر، وكلّ ما دُفع إليه قرأه، وكلّ ما لُقِّن تلقّن، وحديثه
القديم أصح؛ حيث كان يقرأ من كتابه كما قال أبو حاتم الرازي[10].
وبهذا يتحصّل لنا ثلاثة من الرواة
الثقات (محمد بن الفرج ومحمود بن آدم المروزي وسعيد بن منصور) رفعوه، مقابل ثلاثة
أيضاً من الثقات (عبدالرزاق وسعيد بن عبدالرحمن ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني)
وقفوه.
وقد ذهب الشيخ سليمان العلوان إلى
تضعيف رواية محمد بن الفرج؛ لأن الراوي عنه: العبّاس بن أحمد الوشّاء، وهو رجلٌ
صالحٌ، وكان من الدارسين للقرآن[11]، وقال إِن كلام الخطيب هذا يرفع
عنه جهالة العين فقط، ولا ترفع عنه جهالة الحال.
قلت: وهذا فيه نَظرٌ! فهو صدوقٌ
إن شاء الله، ولحديثه أَصلٌ صحيحٌ.
وأما رواية محمود بن آدم المروزي
فرواها عنه: محمد بن حمدويه وهو ثقة، وكان آخر من روى عنه. ومن أجل هذا صحح روايته
الذهبي.
وقد قال الشيخ العلوان إِن
البخاري لم يخرج لمحمود بن آدم، ولم يوثقه إلا ابن حبان، فمالَ إلى تضعيف روايته!
قلت: وهذا مردود؛ فالبخاري لم
يُخرِّج له؛ لأنه من أقرانه فلم يَحْتَجْ إلى حديثه، وهو ثقة ثبت، ولم يتفرد ابن
حبان بتوثيقه، بل قال ابن أبي حاتم: "وكان ثقة صدوقاً"[12].
وأما رواية
سعيد بن منصور فقد ردّها ابنُ حَزْمٍ، فقال: "قلنا: هذا شك من حذيفة أو ممن
دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال:
لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة لحفظه الله تعالى علينا، ولم يدخل فيه شكاً، فصح
يقيناً أنه عليه السلام لم يقله قط"[13].
قلت: ليس هكذا تُرد الأحاديث!
والشك ليس من حذيفة، وإنما هو إما من سعيد بن منصور، أو من شيخه سفيان.
وسعيد بن منصور من الثقات
الأثبات، وهو رَاوية سفيان بن عُيينة، وهو متابعٌ جيّد لروايتي محمد بن الفرج
ومحمود بن آدم! وتوهيمُهُ في هذا الحديث مدفوع، وإن قال يعقوب الفسوي في سعيد:
"كان إذا رأى في كتابه خطأ لم يرجع عنه"[14].
قلت: قال الحافظُ ابن حجر:
"ثقة مصنف، وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به"[15]،
فجعل عدم رجوعه عما في كتابه؛ لأنه يثق بما فيه.
وعليه، فإن هؤلاء الستة الثقات
اختلفوا على ابن عيينة، فنصفهم رفعه، ونصفهم وقفه، وهذا يعني أن سفيان بن عيينة هو
الذي حدّث به هكذا وهكذا.
قال ابنُ حَجر: "أورد أبو
سعدٍ ابن السمعاني في ترجمة (إسماعيل بن أبي صالح المؤذن) من ((ذيل تاريخ بغداد))
بسندٍ له قويّ إلى عبدالرحمن بن بشر بن الحكم قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت
لابن عيينة: كنت تكتب الحديث وتحدّث اليوم وتزيد في إسناده أو تنقص منه، فقال:
عليك بالسماع الأول، فإني قد سَمِنتُ. وقد ذكرَ أبو مُعِين الرَّازي في زيادة كتاب
الإيمان لأحمد: أنَّ هارون ابن مَعروف قال له: إنَّ ابنَ عيينةَ تغير أمره
بآخره"[16].
قلت: فالزيادة والنقصان في
الإسناد هو ما حَدَّثَ هنا من رفع الموقوف، فكان سفيان يَقفه أحياناً، ويرفعه
أحياناً.
فإذا ثبت ذلك فإما أن نتوقف في
حديثه هذا ونردّه، وإما أن نأتي بمرجِّح خارجيّ. والذي أراه صواباً هو الموقوف؛
لقرائن:
1- أنّ الذين رووا الوقف عنه ممن
سمع منه قديماً، وهو نفسه قال: "عليك بالسماع الأول"، كما سبق نقله.
فعبدالرزاق (126-211هـ) ممن سمع
من ابن عُيينة قديماً. وقد حدَّثَ ابن عُيينة عنه[17].
ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني
الحافظ كان أحمد يُوصي بالكتابة عنه، وقال محمد بن يحيى: "اختلفت إلى ابن
عيينة ثمانية عشر سنة"، وقال: "حَججت سبعين حجة ماشياً"[18].
وسعيد بن عبدالرحمن المخزومي ثقة،
وقد قال مَسلمة بن القاسم الأندلسيُّ القرطبيُّ في ((كتاب الصلة))[19]:
"سعيد بن عبدالرحمن بن سعيد بن حسان... أخبرنا عنه غير واحد، وهو ثقةٌ في ابن
عيينة"[20].
2- ما رواهُ ابنُ أبي شَيبةَ في
((مصنفه)) [21] عن وكيع.
وعبدُالرَّزَّاق في ((مصنفه))[22].
والطبراني في ((المعجم الكبير))[23]
مِن طريق أبي نُعيمٍ.
ثلاثتهم عَن سُفيانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخعيِّ، قَالَ:
جَاءَ حُذَيْفَةُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ، فَقَالَ: ((أَلا أُعَجِّبُكَ مِنْ نَاسٍ
عُكُوفٍ بَيْنَ دَارِكَ، وَبَيْنَ دَارِ الأَشْعَرِيِّ – يعني المسجد -؟ فَقَالَ
عَبْدُاللَّهِ: فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا، وَأَخْطَأْتَ. فقَالَ حُذَيْفَةُ: مَا
أُبَالِي أَفِيهِ أَعْتَكِفُ أَمْ فِي سُوقِكُمْ هَذِهِ، وَإِنَّمَا الاعْتِكَافُ
فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ
الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)). وَكَانَ الَّذِينَ اعْتَكَفُوا فَعَابَ
عَلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ الأَكْبَرِ.
ورواهُ الطبراني[24]
أيضاً عن عَلِيِّ بنِ عَبْدِالْعَزِيزِ البغويِّ، قالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ابن
الْمِنْهَالِ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ – هو ابن
أرطأة -، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ الأَعْوَرِ – هو ابن إياس الشيبانيّ -، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: ((أَنَّ حُذَيْفَةَ، قَالَ لابْنِ مَسْعُودٍ: أَلا
تَعْجَبْ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
مُعْتَكِفُونَ! فَقَالَ: لَعَلَّهُمْ أَصَابُوا، وَأَخْطَأْتَ)).
ورواه أيضاً عن عَلِيٍّ، قال:
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بن الْمِنْهَالِ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ – هو
الوضّاح اليشْكريّ -، عَنْ مُغِيرَةَ – هو ابن مِقْسم -، عَنْ إِبْرَاهِيمَ:
((أَنَّ حُذَيْفَةَ، قَالَ لابْنِ مَسْعُودٍ: أَلا تَعْجَبْ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ
دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ! قَالَ:
فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا، وَأَخْطَأْتَ أَوْ حَفِظُوا، وَنَسِيتَ. قَالَ: أَمَّا
أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لا اعْتِكَافَ إِلا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ)).
قلت: فهذا الحديث يَشهد للحديث
الموقوف الذي رواهُ ابنُ عُيينةَ.
ولا يُعترض عليه بأنه مُنقطع؛
لأنَّ إِبراهيم لم يُدرك ابن مسعود!
نعم، لم يلقَ إبراهيم أحداً من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة، ولكنه لم يسمع منها، فإنه دخل عليها
وهو صغير.
وقد روى الترمذي من طريق شعبة عن
الأعمش قال: قلت لإبراهيم النخعي: أَسْنِدْ لي عن ابن مسعود؟ فقال: "إذا
حدثتكم عن رجلٍ عن عبدالله بن مسعود فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبدالله فهو عن
غير واحد عن عبدالله"[25].
وقال الحافظ أبو سعيد العلائي:
"هو مكثرٌ من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله، وخصّ البيهقي ذلك بما
أرسله عن ابن مسعود"[26].
·
المطلب الثاني: الاختلاف في متن حديث حذيفة، وبيان حقيقة الشكِّ
الذي وقع فيه، وأثره في الفَهم:
وهذا الاختلاف في موضعين:
الموضع الأول:
في رواية محمد بن الفرج
وعبدالرزاق: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبيّ صلى
الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس)).
وفي رواية محمود بن آدم: ((لا
اعتكاف إلا في المسجد الحرام - أو قال: إلا في المساجد الثلاثة)).
وفي رواية سعيد بن منصور:
((المساجد الثلاثة - أو قال - مسجد الجماعة)).
وفي رواية سعيد بن عبدالرحمن
ومحمد بن يحيى: ((المسجد الحرام، أو في المساجد الثلاثة: مسجد المدينة ومسجد بيت
المقدس)).
وفي رواية واصل الأحدب عن إبراهيم
النخعي: ((المساجد الثلاثة)).
وفي رواية مغيرة بن مِقسم عن
إبراهيم: ((مسجد جماعة)).
قلت: أَكثر الروايات على ذكر
المساجد الثلاثة، وكأنه هو المحفوظ، وعلى كلِّ حَالٍ فإن كان هو المحفوظ أو أي لفظ
آخر، فإننا رجّحنا أن هذا من اجتهاد حذيفة، فلا يَضرّ إذا كان رأيه المساجد
الثلاثة أو المسجد الحرام، وإذا كان رأيه: ((مسجد جماعة))، فيعني: أنه قصد الناس
الذين يعتكفون بين الدارين، وليسوا هم داخل المسجد، والله أعلم.
الموضع الثاني:
جاء في رواية محمد بن الفرج
ومحمود بن آدم: قال عبدالله: ((لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا)).
وفي رواية عبدالرزاق: فقال له
عبدالله: ((فلعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت))!
وفي رواية واصل الأحدب وعبدالملك
الأعور عن إبراهيم النخعي: قال عبدالله: ((لعلهم أصابوا وأخطأت)).
وفي رواية مغيرة عن إبراهيم: قال
عبدالله: ((فلعلهم أصابوا وأخطأت أو حفظوا ونسيت)).
قلت: أما في حديث ابن عيينة فإنه
بالشك دون خلاف، وما ذُكر في رواية عبدالرزاق في المطبوع بواو العطف فلا يصح، وكأنه
من النُّسخ أو من الطباعة، والصواب أنه بالشك كما في رواية الآخرين.
وهذا الشك إنما هو من سفيان
أيضاً، ولا يمكن أن نقول بأن ابن مسعود قاله؛ لأنه لا يتجه لُغوياً، وهو إنما قال
عبارة واحدة فقط.
والذي أرجّحه أنه قال: ((لعلك
أخطأت وأصابوا))، ويؤيده ما عند واصل وعبدالملك عن إبراهيم حيث إنهما ذكرا هذه
العبارة فقط دون الشك.
وما جاء في رواية مغيرة عند
إبراهيم يؤيد ما عند ابن عيينة، ولكن رواية اثنين من الثقات الملازمين لإبراهيم
تقضي على هذه الرواية.
وعبارة: ((لعلك أخطأت وأصابوا))
تتوافق مع اجتهاد حذيفة في هذه المسألة، وليس كذلك عبارة: ((لعلك نسيت وحفظوا))؛
لأن هذه الأخيرة تتوافق مع المرفوع من الحديث، ومن هنا جاء شك ابن عيينة فيه، فلو
كان الحديث مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فحينئذ لا مجال للخطأ والإصابة
فيه، وإنما هو الحفظ أو النسيان، والاجتهاد لا مجال فيه للحفظ والنسيان، وإنما هو
الإصابة أو الخطأ، والله أعلم.
·
المطلب الثالث: مناقشة (عليّ حلبيّ) في تعليقه على هذا الحديث:
·
المسألة الأولى:
المغالطات الفاسدة، وبيان نكارة قصة منسوبة للإمام مالك:
نقل (حلبي) مذاهب أهل العلم في هذه المسألة، وذكر قول الجصاص في ((أحكام
القرآن)): "وظاهر قوله {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} يبيح
الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ، ومن اقتصر به على بعضها، فعليه بإقامة
الدلالة. وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه. كما أن تخصيص من خصَّه بمساجد
الأنبياء لما لم يكن عليه دليلٌ سقط اعتباره"!! إلى أن قال: ".. فغير
جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه على تخصيصها".
قال حلبي (ص29) معقباً على هذا: "قلت: رحم الله الإمام الشافعي القائل:
((وليس يُخالف الحديثُ القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبين ما
أراد: خاصاً وعاماً، وناسخاً ومنسوخاً، ثم يلزم الناس ما سُنَّ بفرض الله، فمَنْ
قَبِلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قَبِلَ)).
ولقد وَرَدَ – ولله الحمد والمنة
– حديثٌ نبويٌّ مرفوع صحيحٌ يخصص الآية المذكورة، ويحلُّ النّزاع الذي أوردناه بين
أهل العلم لعدم وقوفهم على حديث يخصص الآية كما قالوا!
ولقد قال الإمام الشافعي - رحمه
الله -: ((ما من أحد إلا وتذهب عليه سنةٌ لرسول الله وتعزُب عنه، فمهما قلت من
قول: أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقولُ
ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي)).
وهذا هو المنهج العملي لسائر
الأئمة - رحمهم الله -؛ فقد قال ابن وهب: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين
في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك عليه الناس، قال: فتركته حتى خفَّ الناس، فقلت له: عندنا
في ذلك سنة! فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليثُ بن سعدٍ، وابنُ لَهيعة، وعَمرو بن
الحارث، عن يَزيد بن عَمرو المعافري، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ،
عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ القرشيّ، قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْلُكُ بِخِنْصَرِهِ ما بينَ أَصَابِعَ
رِجْلَيْهِ)). فقال: إنّ هذا الحديث حسنٌ، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته
بعد ذلك يُسألُ، فيأمر بتخليل الأصابع.
قلتُ: وهكذا الأمر عندنا اليوم في
مسألة الموضع الذي يجوز فيه الاعتكاف:
أ- ليس الناس على ذلك!.
ب- عندنا في ذلك سنّة!.
ج- الحديث فيها حسنٌ بل صحيحٌ!.
د- لم يسمع به الناسُ، إلا
قريباً!.
فهل هذا يجعلهم يردّون حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم لمخالفته ما ألفوه، أم أنهم يقبلون حديثه صلى الله عليه
وسلم ولو خالف عاداتهم وما هم فيه؟؟
نأخذ الجوابَ من سيرة العلماء
وسلوكهم، فقد روى الإمام الشافعي – رحمه الله– يوماً حديثاً، وقال: إنه صحيح، فقال
له قائل: أتقول به، يا أبا عبدالله؟ فاضطرب الشافعيّ وقال: يا هذا! أرأيتني خارجاً
من كنيسة؟! أرأيت في وسطي زناراً؟ أروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا آخذ به!!؟
وفي رواية أخرى قال: متى ما رويتُ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب!
فليس من شكٍّ أبداً أن كلّ منصف
طالب حقٍّ إذا وقف على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده، ولم يعارض
بشيء ثابت، يجب عليه وجوباً أكيداً أن يأخذ به، ولو قال عنه الناس مهما قالوا!!
فهل هو معاملته مع الناس؟؟ أم مع ربِّ الناس سبحانه؟؟
فإذا كان الأمر كذلك، فلا يلتفت
إلى أقاويل المتقوّلين، ولا إلى تُرَّهات الزاعمين طالما أن معه السنة النبوية
المشرفة!". انتهى كلامه.
قلتُ: هذه طريقةٌ سقيمةٌ قائمة
على المغالطات الفاسدة، والجهل بعلم الحديث، وتفصيل ذلك في الآتي:
1- لا يجوز نقل كلام الأئمة ثم
التعريض بهم! وكأنهم لا يعرفون أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف
القرآن!
فـ (حلبي) نقل كلام ابن رشد
والنووي والجصاص، ثم أتى بكلام الشافعي النفيس ولكنه لا يصلح في هذا المقام، وهذه
طريقة خبيثة منه يحاول فيها الالتفاف على القارئ لإقناعه أن كلامه هو الصواب!!!،
فإذا ما قرأ القارئ كلام الشافعي سلّم له وأذعن لرأي حلبيّ، ولكن السؤال هو: هل
ينفع الاستدلال بكلام الشافعي في هذا المقام؟! والجواب واضحٌ وبيّن.
ثُم إن هؤلاء الأئمة إذا ثبتت
السنة عنه صلى الله عليه وسلم لا يتأخرون عن الأخذ بها، إلا إذا كان هناك سبب متجه
عندهم، وكم من حديث صحيح رواه الأئمة ولم يعملوا به، وليس هذا مقام تفصيله، بل
محلّه كتب الأصوليين والمذاهب.
2- دعواه بأن حلّ النّزاع بين
المختلفين في هذه المسألة هو هذا الحديث الذي صححه، وتصريحه بأنهم لم يقفوا عليه،
فيه تناقض عجيب!! فكيف يكون هناك نزاعٌ بينهم وهم لم يقفوا على هذا الحديث؟! وأصل
النّزاع هو هذا الحديث، وهم يعرفونه قطعاً بخلاف ما ادّعاه حلبيّ، ولكنهم ضعّفوه.
3- استدلاله بكلام الشافعي في أن
هؤلاء الأئمة فاتتهم هذه السنة لا يصلح هنا؛ لأنهم لم يعدوها سنّة؛ ولم تصح عندهم،
والحديث عندهم، ولكنهم لا يعدونه صحيحاً، كما تقدّم آنفاً.
4- المنهج العملي للأئمة سليمٌ،
ولا غبار عليه، ولكن الاستدلال بما روي عن ابن وهب مع الإمام مالك لا يصح؛ وكان
يتجه الاستدلال به على المنهج لو صح! أما وقد ثبت عدم صحته فلا يجوز الاستدلال به
في هذا المقام.
وقد دلّس حلبيّ ولبّس بجزمه في
هذه القصة أنها حدثت مع ابن وهب فنسبها له، ولم يذكر إسنادها مُسلِّماً بها
وملبّساً على طلبة العلم!
وهذه القصة من رواية أحمد بن
عبدالرَّحمن ابن أخي ابن وهب عن عمّه، وقد تفرد بها! والحديث لم يروه الليث ولا
عمرو بن الحارث! وهو محفوظ من حديث ابن لهيعة، ولهذا قال الترمذي بعد أن رواه من
حديث ابن لهيعة: "لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".
وقد رواهُ الإمام أحمد في
((مسنده))[27] عن مُوسَى بنِ دَاوُدَ.
ورواهُ أبو داود في ((السنن))[28]
والترمذي في ((الجامع))[29] كلاهما عن قُتَيْبَةَ ابنِ
سَعِيدٍ.
ورواهُ ابن ماجه في ((السنن))[30]
عن مُحَمَّدِ بنِ الْمُصَفَّى الْحِمْصِيِّ عن مُحَمَّدِ ابنِ حِمْيَرٍ.
ورواهُ البزَّارُ في ((مسنده)) [31]
عن محمد بن يحيى القطعي عن بِشر بن عمر.
ورواه الطبراني في ((المعجم
الكبير))[32] قال: حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُوسَى،
قال: حدَّثنا أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، [ح] وَحَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ
بن دَاوُدَ، قال: حدثنا أَسَدُ ابن مُوسَى.
كلّهم (موسى وقتيبة ومحمد بن حمير
وبشر بن عمر والمقرئ وأسد) عن عبدِالله ابنِ لَهِيعَةَ، قالَ: حدَّثنا يَزِيدُ بن
عَمْرٍو الْمَعَافِرِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنِ
الْمُسْتَوْرِدِ بن شَدَّادٍ، قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ خَلَّلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ)).
بل إن المحفوظ من رواية ابن وهب
عن ابن لهيعة فقط.
رواهُ الطَّحاويُّ في ((شرح معاني
الآثار))[33] عن ابن أبي عقيل، ورواهُ البيهقي
في ((السنن الكبرى))[34] من طريق محمَّد بن عبدِالله بن
عبدِالحكم وبَحر ابن نصر، ثلاثتهم عن ابن وهبٍ، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو
المعافري، قال: سمعت أبا عبدالرحمن الحبلي يقول: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه)).
قال أبو عيسى الترمذي: "هذا
حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".
وقال البزار: "وهذا الحديث
لا نعلم أحداً يرويه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد عن المستورد".
وبهذا يتبيّن لنا أن ابن أخي ابن
وهب خلط فيه، وزاد في إسناده: الليث بن سعد وعمرو بن الحارث! وزاد عليه هذه القصة
الباطلة عن الإمام مالك!
وابن أخي ابن وهب متكلّم فيه،
وكان قد اختلط وكان يُدخَل عليه[35].
قال النسائيُّ: "أحمد بن
عبدالرحمن بن أخي ابن وهب: كذاب"[36].
وقال ابن حِبَّان: "وكان
يحدِّث بالأشياء المستقيمة قديماً حيث كتب عنه ابن خزيمة وذووه، ثم جعل يأتي عن
عمّه بما لا أصل له، كأن الأرض أخرجت له أفلاذ كبدها"[37].
وقال ابنُ عَدي: "رأيت شيوخ
أهل مصر الذين لحقتهم مُجمعين على ضعفه، ومن كتب عنه من الغرباء غير أهل بلده لا
يمتنعون من الرواية عنه، وحدّثوا عنه، منهم: أبو زرعة الرازي وأبو حاتم فمن
دونهما"[38].
قلت: له مناكير عن عمّه، ومنها
أشياء تفرد بها، وأشياء خالف فيها غيره، فلا يُعتمد أبداً. ولم يصل إلى درجة أنه
يتعمد الكذب، وكأن النسائي لما رأى ما يحدّث به من منكرات مخالفاً لغيره أطلق عليه
هذا الوصف. قال أبو سعيد ابن يُونُس: "ولا تقوم بحديثه حُجة"[39].
قلت: وابن يونس هو المعتمد في أهل
مصر.
وعموماً فهذه القصة باطلة، ولا
تصح نسبتها إلى الإمام مالك، ولهذا أخرجها الإمام الدارقطني في ((غرائب مالك))،
وهو كتاب جمع فيه الدارقطني ما رُوي عن الإمام مالك ولا يصح عنه في مُجمله.
وأما قول ابن حجر في ((التلخيص))[40]:
"وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه الليث بن سعد وعمرو بن الحارث، أخرجه
البيهقي وأبو بشر الدولابي والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة،
وصححه ابن القطان"، فهو مما لم يحرره ابن حجر، ومشى فيه على ظاهر الإسناد
تبعاً لابن القطان الفاسي!
5- تشبيهه هذه القصة بحديث
الاعتكاف الذي صححه لا يستقيم بعد أن عرفنا عدم صحتها.
فقوله: "ليس الناس على
ذلك"؛ لأن هذا هو الصواب، لا أن الناس لا يعرفون هذه السنة، ولو صحت قصة ابن
وهب مع مالك ما أظنه يذهب إلى هذا الحديث ويترك عمل أهل المدينة الذين لا يعرفون
هذا الحديث، ونحن نعلم ارتكاز الإمام مالك على عمل أهل المدينة في مسائل الفقه.
ولعل مُتوهماً يتوهم أن الإمام
مالك يردّ السنّة، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإمام مالكاً له منهجه الخاص في هذه
المسائل، وهو اتباع عمل أهل المدينة، وقد وهم ابن أبي حاتم في ترجمته لهذه القصة
بقوله: (باب ما ذكر من اتباع مالك لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزوعه عن
فتواه عندما حدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه)!
فالإمام مالك من أشد الناس
اتباعاً لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل أهل المدينة عنده هو اتباع هذه
الآثار، فلا تصلح هذه القصة لهذه الترجمة؛ بل إن هذه الترجمة لا ينبغي أن تذكر؛
لأنّ كلّ فتاوى الإمام رحمه الله اتباع للآثار كما ذكرت.
6- قوله: "عندنا في ذلك
سنة"! أيّ سنة هذه التي كانت غائبة إلى أن جاء (حلبي) فدلّ الناس عليها؟!
وما أشبه فعله هذا بقوله لدى ردّه
على الدكتور سلمان العودة لكونهِ أثنى على كتاب سيّد قطب - رحمه الله - ((في ظلال
القرآن)).
قال حلبي في كُتيبه ((حقّ كلمة
الإمام الألباني في سيّد قطب)) (ص6) شاتماً الدكتورَ العودة: "أقول: فهل يعي
الدكتور سلمان (!) مال هذا الهذيان؟! وهل (لم يشعر قرّاء القرآن - طيلة هذه
الدّهور - بأن القرآن ليس كتاباً نزل لبيئة خاصة في المكان والزمان) إلا بعد سيد
قطب، و ((ظلاله))؟! وما حكم الشرع الحكيم فيمن لم يعتقد (هداية القرآن للناس أجمعين؛
أياً كان زمانهم، أو مكانهم) - ولو حيناً من الدهر!-؟! أمِنْ أجل (سيّد قطب)،
والدفاع الحزبي - أو الفكري!- عنه: نهدر جهود الأمة - عبر القرون - في صيانة كتاب
الله؟! وتعريفهم بهديه وهداه؟!" انتهى كلامه.
7- قوله: "الحديث فيها حسن؛
بل صحيح"! اغتر فيه بما جاء منسوباً إلى الإمام مالك: "إن هذا الحديث
حسن"!! فنسأل (حلبي): ما معنى: الحديث حسن؟ وهل هو حكمٌ على الحديث من الإمام
مالك؟ وهل كان من عادة الأئمة في عصر الإمام مالك أن يقولوا عن بعض الأحاديث: هو
حديث حسن؟
أقول: إن نسبة هذا الكلام لمالك
لهو دليل على بطلان القصة؛ لأنهم لم يكونوا يقولون مثل هذا الكلام في هذه
الأحاديث!
ولو كان كذلك عند الإمام مالك،
فَلِمَ لَمْ يُحدّث به في موطئه، وكم من راوٍ قد روى الموطأ حتى قريباً من موت
الإمام مالك - رحمه الله – ولم نجد هذه السنة عندهم!!
8- قوله: "لم يسمع به الناس
إلا قريباً"، فيه إيهام أن هذه سنة، وكان الناس قد تركوها مع علمهم على مر
العصور أنها سنة صحيحة!!
وكَمْ مِنْ حديث صححه حلبيّ
وأمثاله ممن تطفَّلُوا على هذا العلم الشريف فاتهموا الناس أنهم قد تركوا السنن،
وأنهم خالفوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! سبحانك ربنا هذا بهتانٌ عظيمٌ.
9- إيهامه أن الناس ردّوا هذا
الحديث الذي صححه لمخالفته ما ألفوه! وهذا إيهام باطل مردودٌ عليه! فمن ردّه
حجّتهُ أنه لم يصح عنده، لا أنه ردّه لكونه مخالفاً لما ألفه!
وانظر كيف يستغل (حلبي) إحساس
الناس وحبهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أم أنهم يقبلون حديثه
صلى الله عليه وسلم ولو خالف عاداتهم وما هم فيه؟"
قلت: فكفى التلاعب بأحاسيس
المسلمين، وادّعاء الوصاية على السنّة؛ فإن كلّ مسلم حقّ حريص على اقتفاء السنة
المطهرة، وإذا ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم فلن تجد من يقدم عادته على السنة
الصحيحة إذا بيّنت له بعلمٍ وحلمٍ.
10- الجواب الذي أتى به للسؤال
الذي طرحه من خلال قصة الشافعي ليس في محله! وهذا إما أنه يدلّ على جهل حلبي! أو
أنه يُخادِع قرّائه؛ فقصة الشافعي مع هذا الرجل ليست في حديثٍ مختلف في صحته
وضعفه، بخلاف حديثنا هذا!
11- تقريره في نهاية الكلام:
"فإذا كان الأمر كذلك، فلا يلتفت إلى أقاويل المتقولين، ولا إلى ترهات
الزاعمين طالما أن معه السنة النبوية المشرفة!"
قلت: أين أدب أهل العلم في مناقشة
غيرهم؟ وهل كان أهل العلم يقولون بأن كلام الواحد منهم هو الحقّ وكلام غيره أقاويل
وترّهات؟!
والله لو كانت هذه هي السنة لما
تأخر عنها ابن مسعود عندما تناقش مع حذيفة فيها كما سبق بيانه، ولله الحمد.
المسألة الثانية: الخلط في الاستدلال بالنصوص، ونسبة أشياء إلى
الأئمة دون تحرير:
قال حلبيّ: "أقولُ: أما الحديث النبويّ المخصِّص للآية الكريمة فهو ما
رواه البيهقي في ((سننه)) (4/316)، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (4/20)، والذهبي
في ((سير أعلام النبلاء)) (15/81) كلّهم من طريق سفيان بن عُيينة، عن جامع بن أبي
راشد، عن أبي وائل، قال: قال حذيفة لعبدالله [يعني: ابن مسعود]: عكوفٌ بين دارك،
ودار أبي موسى لا يضرُّ!؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا
اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة))!
فقال عبدالله: لعلك نسيت وحفظوا،
أو أخطأت وأصابوا!!
قال الحافظ الذهبي بعد روايته
الحديث: صحيحٌ غريبٌ عال. [قال حلبي في الحاشية: وهو في ذلك مثل الحديث الذي رواه
الستة عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: ((إنما الأعمال بالنيات...)) فهو صحيحٌ لا مطعن
في إسناده، غريبٌ لم يثبت إلا من طريق عمر بن الخطاب، وهذا الحديث يزيد عليه بأنه
عال، أما ذاك فليس كذلك، إذ يرويه عددٌ من التابعين بعضهم عن بعض، بخلاف هذا
الحديث].
قلت – أي حلبي -: وإسناده على شرط
البخاري.
وقد عمل بعض السلف بهذا الحديث،
فقد روى ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) (3/91)، وابن حزم (5/194) بسند صحيح عن سعيد بن
المسيب أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبيّ. [قال حلبي في الحاشية: وإن تعجب فعجب
قول الإمام النووي - رحمه الله - في ((المجموع)) (6/483): ((وما أظن أن هذا يصح
عنه))! قلت: الظنُّ لا يغني من الحقّ شيئاً، فقد صحّ، ولله الحمد. وقال أبو زرعة
العراقي في ((طرح التثريب)) (4/171) عن أثر سعيد هذا: ((وهو بمعنى الذي قبله)).
قلت: يريد أن المساجد الثلاثة هي مساجد أنبياء].
وروى عبدالرزاق في ((مصنفه))
(8019) عن عطاء بسند صحيح قال: لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة.
قلت – أي حلبي -: وهو لا يخرج عن
معنى ما أوردته قبلُ، وقد قال ابن حزم (5/194): وقد صحَّ عن عطاء أن الجوار هو
الاعتكاف.
ولقد ذكر ابن وهب - كما تقدم في
الخبر عنه (ص28) - أن الإمام مالكاً - رحمه الله - قد رجع يأمرُ بتخليل الأصابع
بعد أن أفتى بعدمه!! إذ لما وصله الحديث لم يلتفت لقول أحد كائناً من كان، بل سارع
- بعد أن ثبت له حُسنُ الحديث - إلى الأمر بما يقتضيه.
وهكذا نحن - ولله الحمد - كنّا
نقول كما يقول كثير من أهل العلم: بجواز الاعتكاف في كل مسجد، معتمدين على عموم
الآية الكريمة! حتى عرفنا هذا الحديث الصحيح، وتثبتنا من صحته، ولم نر شيئاً
يعارضه فصرنا نفتي بما يقتضيه الحديث، ويمليه علينا الاقتداء بأئمة السنة، وعلماء
السلف". انتهى كلامه.
قلت:
1- تخصيص حلبي الآية بالحديث كان
يتجه لو كان الحديث صحيحاً! أما وأهل العلم يضعفونه فكيف يخصص الضعيف الآية؟!
2- احتج حلبي بحكم الذهبي على
الحديث المرفوع بأنه صحيح غريب عال، وشبهه بحديث الأعمال بالنيات! وهذا منه
مُستنكرٌ عجيبٌ! فحديث الاعتكاف إن سَلِم له تصحيح الذهبي له، فإن غير الذهبي
يخالفه في حكمه، وسيتبيّن لنا لم حكم عليه الذهبي بهذا فيما بعد إن شاء الله تعالى،
وأما حديث النيات فلا مخالف في تصحيحه. وقول الذهبي بأنه: "عال"، لا
مدخل له في الحكم على الحديث، وإنما يعني أنه وقع له بعلو فقط، وهذا العلو كان
يتطلبه أهل العلم المتأخرين.
3- كيف يكون على شرط الإمام
البخاري، وهو مختلفٌ في إسناده؟! بل إن البخاري لا يرى صحة هذا الحديث كما سيأتي
بيانه، ثم أيّ إسناد من هذه الأسانيد هو الذي على شرط البخاري؟
4- قوله بأن بعض السلف عملوا بهذا
الحديث فيه نظر؛ لأن من ذكرهم من السلف - وهم اثنان فقط: سعيد بن المسيب وعطاء،
وهو تبع في هذا للشيخ الألباني كما تقدم نقل كلامه[41]،
بل إنه سرق معظم كلامه من الصحيحة (2786)
ولم ينبه على ذلك ولا أحال عليه! - لم يأت أنهم عملوا بهذا الحديث، وظاهر ما نقل
عنهم أنه ذلك اجتهاد منهما، ويؤكد هذا أن عطاءاً لم يذكر مسجد بيت المقدس، فكيف
يقول بأن بعض السلف عمل بهذا الحديث؟!
5- مساواته لرواية ابن أبي شيبة
وابن حزم لا تصح! - وإنما هذا هو كلام الشيخ الألباني في الصحيحة فسرقه ووقع في
الخطأ[42] - لأن هناك خلاف في كلا
الروايتين! ثم إن ابن حزم لم يرو هذه الرواية حتى يقول حلبي: "فقد روى...
وابن حزم.."! وإنما ابن حزم قال: "كما روينا من طريق
عبدالرزاق..."، والرواية عند عبدالرزاق في ((مصنفه))[43]
عن معمر، عن قتادة - أحسبه عن ابن المسيب، قال: "لا اعتكاف إلا في مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم".
وكان ينبغي لحلبي - لو كان يُحكم
صنعة هذا الفنّ - أن يرجع إلى مصنف عبدالرزاق، لا أن ينسب الرواية إلى ابن حزم!!
ثُم إن ابن حزم قال بعد أن ذكر
رواية عبدالرزاق وما فيها من شك: "إن لم يكن قول سعيد فهو قول قتادة لا شك في
أحدهما".
وعلى هذا فيحتمل أن يكون هذا
قولاً لقتادة!
ورواه ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) [44]
عن أبي داود الطيالسي عن همام عن قتادة عن ابن المسيب قال: "لا اعتكاف إلا في
مسجد نبيّ".
وهذا اختلاف في المتن لم يذكره
حلبي؛ فرواية معمر ذكرت فقط مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، بينما رواية همام
أدخلت كلّ مساجد الأنبياء!!
هذا وقد رجّح الحافظ ابن حجر
رواية مَعمر، فقال - وهو يتحدّث عن موضع الاعتكاف: "وخصّه حذيفة بن اليمان
بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة"[45].
قلت: إنَّ قول ابن حجر:
"وخصه حذيفة" يعني ترجيحه لحديث حذيفة الموقوف على الموصول، فليعلم حلبي
ذلك.
6- وأمَّا ما نسبه إلى عطاء فلا
يعدو كونه رأياً له، وقد كان له رأي موافق لجمهور أهل العلم، ثم غيّره، وما مِنْ
علاقة له بحديث حذيفة.
روى عبدالرزاق في ((مصنفه))[46]
عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، قال: "لا جِوار إلا في مسجد جامع". ثم قال:
"لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة".
قالَ ابنُ جُريجٍ: وقالَ عَمرو
بنُ دِينارٍ: "ما أراه أن يجاور في مسجد الكوفة والبصرة".
ثُمَّ روى عبدُالرزاق عن ابنِ
جُريج قال: قلتُ لعطاء: أَرأيت لو أن إِنساناً من أهل هذه المياه نذر جِواراً سميت
له الظَّهْرَان وعُسْفَان في مسجدهم؟ قال: "يقضيه إذا جعله عليه في ذلك
المسجد". قلت: نذر جواراً في مسجد مِنى؟ قال: "فليجاور فيه، فإن له
شأناً". قلت: أيجعل بناءه ثَمَّ بمنى في الدار؟ قال: "لا، من أجل عتب
الباب". قلت: ففي مسجدنا إذاً مثل ذلك؟ قال: "لا، إنما ذلك العتب للدار،
وليس كهيئة مسجدنا هذا". ثم قال بعد: "لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد
المدينة". قال: "وإن أهل البصرة ليجاورون في مسجدهم حتى أن أحدهم ليجاور
مسجده في بيته".
ثُمَّ روى عبدُالرَّزاق عن ابن
جريج قال: قلت لعطاء؟ فمسجد إِيلياء؟ قال: "لا يجاور إلا في مسجد مكة ومسجد
المدينة".
قلت: هكذا كانت آراء عطاء: مسجد
جامع، ثم مسجد مكة ومسجد المدينة، ولا بأس بمسجد منى، ولا جوار في مسجد إيلياء.
فإذا كان عطاء لا يرى الجوار في
مسجد إيلياء، فلا ينفع حلبي نقل كلام أبي زرعة العراقي: "وهو بمعنى الذي
قبله"، قال حلبي: "قلت: يريد أن المساجد الثلاثة هي مساجد أنبياء"!
نعم لا ينفعه هذا؛ لأن عطاءاً لا يرى الجوار في المسجد الثالث.
وكذلك فليسكن عَجب حلبي!!! من
النووي عندما ظن أن هذا القول لم يصح عن عطاء! فردّ عليه حلبي بسوء أدب! والنووي
إنما ظن ذلك؛ لأن عطاء له عدة آراء في المسألة كما بينت، ولا حرج عليه - رحمه الله
- في ذلك.
وقد روى الفاكهي في ((أخبار مكة))[47]
عن ميمون بن الحكم الصنعانيّ قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ جُعْشُمٍ، عن ابنِ جريجٍ،
قال: قلت له - يعني عطاء-: فامرؤٌ نَذرَ جواراً في مسجد خَيْفِ مِنى، أتوجبه أم لا
من أجل أنه مسجد غير جامع إلا أيام منى قط، أم أن بمكة؟ قال: "بل
يوفيه"، ثم قال بعد: "لا جوار إلا في مسجدين: مسجد مكة ومسجد
المدينة".
قال ابن جريج: قلت له: فنذر
جواراً على رؤوس هذه الجبال، جبال مكة، أيقضي عنه أن يجاور في المسجد؟ قال:
"نعم، المسجد خيرٌ وأَطْهر". قلت له: وكذلك في كلِّ أرض إن نوى الإنسان
جواراً في جبالها: أمسجدها أحبّ إليك أن يجعل فيه جواره؟ قال: "نعم".
ثُمَّ أخبرني عند ذلك قال: "نذرت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها جواراً في
جَوف ثَبِيرٍ مما يلي منى"، قلت: نعم فقد جاورت. قال: أجل وقد كان عبدالرحمن
بن أبي بكر رضي الله عنه نهاها عن ذلك عن أن تجاور، ثم أراه منعها خشية أن يتخذ
ذلك سنة. قال: فقالت عائشة رضي الله عنها حاجة كانت في نفسي.
قالَ ابنُ جُرَيجٍ: فَرَّقَ لي
عطاء بين جوار القروي والبدوي، فقال: "أما القروي إذا نذر الجوار هجر بيته،
وهجر الزوج، وصام. وأما البدوي الذي ليس من أهل مكة فإذا نذر الجوار كانت مكة كلها
حينئذ مجاوراً له في أي نواحي مكة شاء، وفي أي بيوتها شاء، ولم يصم، وأصاب أهله إن
شاء".
قلت: إنَّ هذه آراء منقولة عن
عطاء – رحمه الله – وقد استحب الجوار في مسجد مكة ومسجد المدينة لمجيء الفضل
فيهما.
وروى عبدُالرزاق في ((مصنفه))[48]
عن ابن جريج، عن عطاء، قال: "زعم أنّ الخير من المساجد أحبّ إليه أن يجاور
فيه الإنسان، وإن كان نذر جواراً بغيره"، - يعني: أن الخير من المساجد ما جاء
فيه الفضل: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد إيلياء.
وروى أيضاً عن ابن جريج قال: قلت
لعطاء: أرأيت لو أن إنساناً نذر جواراً في بيت المقدس، أيقضي عنه مسجد النبي صلى
الله عليه وسلم بالمدينة؟ قال: نعم. قال ابن جريج: ويأبى عمرو بن دينار ذلك.
7- ذِكْرُ حلبي لِخبر ابن وهب
المتقدم عن مالك في رجوعه إلى تخليل الأصابع لا ينفعه هنا؛ لأن القصة لم تصح كما
أثبت فيما سبق.
8- أما قوله عن حديث حذيفة:
"وتثبتنا من صحته، ولم نجد شيئاً يعارضه فصرنا نفتي بما يقتضيه الحديث ويمليه
علينا الاقتداء بأئمة السنة، وعلماء السلف"، ففيه تمويه وطعن في علماء السنة.
وكيف تثبّتَ (حلبيّ) من صحته، وما
هو إلا مُقلدٌ للألباني في تصحيحه! وقد سرقَ كلامه، ولكنه وَلدٌ عَاقٌّ لم
يُوثّق عنه إلا فقرة واحدة (بتصرف) - بحسب قوله -!!
وأنت يا حلبي لم تثبت مَنْ مِن أئمة
السنة وعلماء السلف عَمل بهذا الحديث أبداً!! ولن تستطيع.
فتبقى الآية: {وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} على عمومها تضم كلّ مسجد.
وأين أنت من فَهمِ تراجم الإمام
البخاريّ حيث قال في ((صحيحه))[49] في (كتاب الاعتكاف): "باب
الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى: {وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلا تَقربُوها كَذلكَ يُبيِّن اللهُ آياته لِلنَّاسِ لعلهُمْ يَتقون}".
أتظنّ يا (حلبي) أن البخاريّ -
إمام الدنيا في الحديث - لا يعرف حديث حذيفة الذي صححته أنت؟!
قال ابن حجر في ((الفتح))[50]:
"والاعتكاف في المساجد كلها، أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون
مسجد. (قوله: لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} الآية، ووجه
الدلالة من الآية: أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به؛ لأنّ
الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا
يكون إلا فيها".
وقال العيني في ((العمدة))[51]:
"الاعتكافُ يصحُّ في كلِّ مسجدٍ. رُوي ذلك عن النّخعيّ، وأبي سلمة، والشعبي،
وهو قول أبي حنيفة، والثوريّ، والشافعي في الجديد، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور،
وداود، وهو قول مالك في الموطأ، وهو قول الجمهور، والبخاري أيضاً حيث استدل بعموم
الآية في سائر المساجد. وقال صاحب الهِداية: الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة.
وعن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: أنه لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه الصلوات
الخمس. وقال الزُّهريُّ والحكمُ وحماد: هو مخصوص بالمساجد التي يجمع فيها. وفي
الذخيرة للمالكية: قال مالك: يعتكف في المسجد سواء أقيم فيه الجماعة أم لا. وفي
المنتقى عن أبي يوسف: الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والنفل
يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة. وفي الينابيع: لا يجوز الاعتكاف الواجب إلا في
مسجد له إمام ومؤذن معلوم يصلى فيه خمس صلوات، ورواه الحسن عن أبي حنيفة. ثُم أفضل
الاعتكاف ما كان في المسجد الحرام، ثُم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثُم في
بيت المقدس، ثُم في المسجد الجامع، ثُم في المساجد التي يكثر أهلها ويعظم. وقال
النووي: ويصح في سطح المسجد ورحبته كقولنا لأنهما من المسجد".
قلت: فهل هؤلاء الذين ذكرهم
العيني من السلف وأئمة السنة لا يعرفون هذا الحديث يا حلبي، وأنت ببراعتك عرفت
السنة؟!!
المسألة الثالثة: تفنيدُ مزاعم وشبهات سَمّاها حلبيّ دفع بها عن
حديث حذيفة:
أولاً: إنكار ابن مسعود على حذيفة:
أ- قال حلبي تحت عنوان: (شبهات): "وقد أورد البعض شبهات على
حديث حذيفة، نوردها ونورد الجواب عنها:
الأولى: أنَّ ابن مسعود أنكر على
حذيفة قولَه بقولِه: ((لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا))!
فالجواب: أن هذا ليس نصّاً في
تخطئة حذيفة، إذ ((لعل)) في لغة العرب تفيد الترجي، وهو توقعُ أمر ممكن، والتوقع
نوعٌ من أنواع الاحتمالات! وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، كما يقول علماء
الأصول!" انتهى.
قلت:
1- هذه التي ذكرها حلبي لا تُسمى
شبهات؛ لأن الشبهات شيء مذموم والورع اجتنابها كما في حديث النعمان بن بشير: ((فمن
اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعِرضه))، وإنما هي إشكالات، وهي موجودة في كثير
من الأحاديث.
ولم يذكر لنا حلبي مَن صاحب هذه
الشبهات أم هي (شبهات!) افتراضية من عنده؟!
2- اختار حلبي معنى (لعل) الذي في
الحديث أنها للترجي، وهذا منه: إما جهلٌ باللغة، وإما تدليسٌ وتلبيسٌ على القارئ
لنصرة مذهبه!!
نعم، لعل تأتي بمعنى الترجي، ولكن
ليس هنا! ثُمّ ما معنى الترجي الواقع هنا؟! هل معنى كلام ابن مسعود يقع على
الترجي؟! وما هو الذي يرتجيه من حذيفة؟! فهل يقصد: أرجو أن تكون نسيت، وهم قد
حفظوا، أو أرجو أن تكون أخطأت، وهم قد أصابوا؟! هل يظنّ بابن مسعود هذا الفهم؟!!
قال الإمامُ أبو منصورٍ
الأَزهريُّ: عل ولعل حرفان وضعا للترجي في قول النحويين، وقال يونس في قول الله
تعالى: {فلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} و {فلعلك تارك بعض ما يُوحى إليك} قال:
معناه: كأنك فاعلٌ ذلك إن لم يؤمنوا.
قال: ولعل لها مواضع في كلام
العرب، من ذلك: قوله تعالى {لعلكم تذكرون} و {لعلكم تتقون} و {لعله يتذكر}، قال:
معناها: كي، كقولك: إبعث إليّ بدابتك لَعلي أركبها، بمعنى كي.
قال: وتقول: انطلق بنا لعلنا
نتحدث، أي كي نتحدث.
وقال ابن الأنباري:
- لعل تكون ترجياً.
- وتكون بمعنى: كي.
- وتكون ظناً، كقولك: لعلي أحج
العام، معناه أظنني سأحج.
- وتكون بمعنى: عسى، تقول: لعل
عبدالله أن يقوم، معناه عسى.
- وتكون بمعنى: الاستفهام، كقولك:
لعلك تشتمني، فإنما قيل معناه: هل تشتمني.
وقال الإمام أبو إسحاق
الثَّعلبيُّ المفسر في تفسيره المشهور عند ذكر تفسير قول الله تعالى: {وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: في لعلّ ست لغات: لَعَلْ وعَلْ
ولَعن وعَن ورَغَنّ ولَعَا، ولها ستة أوجه هي من الله تعالى واجبة ومن الناس على
معان: تكون بمعنى الاستفهام، كقول القائل: لعلك فعلت ذلك مستفهماً، وتكون بمعنى
الظن، يقول: قام فلان، فيقال: لعل ذلك بمعنى أظن وأرى ذلك، وتكون بمعنى الإيجاب
بمعنى ما أخلقه، كقولك: وقد وجبت الصلاة، فيقال لعل ذلك، أي: ما أخلقه، وتكون
بمعنى الترجي والتمني، كقولك: لعل الله تعالى أن يرزقني مالاً، وتكون بمعنى عسى
يكون ما يراد، كقوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ}، وتكون بمعنى كي على
الجزاء، كقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}،
أي: لكي يفقهون[52].
قلت: فهل بعد كلّ هذا يُوافق حلبي
على قوله: إنها للترجي، والترجي هو توقع أمر ممكن، والتوقع نوع من أنواع
الاحتمالات، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال كما يقول علماء الأصول؟!
فقول ابن مسعود لا يمكن أن يكون
بمعنى الترجي والتمني الذي اختاره حلبي! وهو هنا بمعنى إما الاستفهام، أي: لعلك
أخطأت ذلك مستفهماً، أو يكون بمعنى الظن، يقول: أظن وأرى أنك أخطأت وأصابوا.
ب- قال حلبي: "ثم هذا الاحتمال قسمه ابن مسعود إلى وجهين:
1- نسيان أو خطأ حذيفة.
2- حفظ أو صواب القوم المعتكفين.
فما هو المرجِّح لأحد هذين
الاحتمالين؟
ليس من شكٍّ أن المرجح هو الحجة
والدليل! فمن هو صاحب الحجة؟ أهو حذيفة الذي جزم بنسبة الحديث لرسول الله صلى الله
عليه وسلم دونما تردد أو شك؟ أم ابن مسعود الذي وضع احتمالات وتوقعات ليس فيها شيء
نبوي مجزومٌ به؟!
((وابن مسعود رضي الله عنه كان
يعلم - وهو يردُّ على حذيفة - أن أصحابه المعتكفين كانوا وفرة وجماعة، وأن حذيفة
فردٌ واحدٌ، لكنه علم في قرارة نفسه - بدليل شكّه وتردده - أن حذيفة حفظ، وهو لم
يحفظ، وأن جماعة المعتكفين لا يُعوَّلُ عليهم في ذلك كما يعوَّل على حذيفة، وإلا
لرجع إليهم بالسؤال عن اعتكافهم)).
ثُم وجهٌ آخر في الجواب عن هذه
الشبهة: هو أن قول ابن مسعود رضي الله عنه في ردّه على حذيفة ليس نصّاً في تخطئة
حذيفة في روايته للفظ الحديث، إنما قد خطَّأه في فهم الحديث واستدلاله به على
العكوف الذي أنكره حذيفة، بدليل قول حذيفة له: ((وقد علمتَ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم...)). ثم ذكره، فابن مسعود يعلم الحديث – كما قال له حذيفة – ووافقه
ابنُ مسعود، لكنَّه يُخالف حُذيفة في فهمه!". انتهى كلامه.
وقال في الحاشية: "فيكون رضي الله عنه قد فهمه بمعنى: ((لا اعتكاف كاملاً إلا
في المساجد الثلاثة))، فلا مجال لفهمه فهماً آخر يُغاير ظاهره سوى هذا الفهم!!
ولكنه – حقّاً – فهمٌ منقوضٌ من الناحية اللغوية، إذ من المتفق عليه أن الأصل في
الكلام الظاهر، ولا يدفع الظاهر إلا بدليل، ولا دليل هنا يُخرج نفي جنس الاعتكاف
عن أي مسجد ويحصره بالمساجد الثلاثة عن ظاهر هذا اللفظ، إذ معنى ((لا)) هنا: أنها
نافية للجنس، أي: جنس الاعتكاف بالكلية، ووجود ((إلا)) بعدها يحصر هذا النفي
المطلق ويخصُّه بالمساجد الثلاثة الواردة في الحديث. فيبقى الحديث على دلالته
العربية الصريحة الموافقة لظاهره دون ورود ما ينقله عن هذا الظاهر، والحمد لله
الذي بنعمته تتم الصالحات".
وقال في حاشية أخرى: "وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (4/36) تعليقاً
على الرواية الموقوفة المتقدم ذكرها: ((ولو كان ثَمَّ حديثٌ عن النبي صلى الله
عليه وسلم ما خالفه)) يعني: ابن مسعود! قلت: فثبوت الحديث مرفوعاً يؤكد أن ابن
مسعود ما خالفه إلا من حيث الفهم، كما أسلفت بيانه" انتهى.
قلت: في كلام حلبي هذا جملة من
المغالطات و(الشبهات! - على رأيه -) والتعريض بعبدالله بن مسعود رضي الله عنه في
فهمه للغة!!
1- تأكيد حلبي على أن كلام ابن
مسعود هو احتمال قد بيّنت وهاءه فيما سبق، وهو ليس كذلك.
2- هناك شكٌّ في الرواية لم يَعرض
له حلبي وكثيرٌ ممن تعرض للكلام على هذا الحديث، وقد سبق بيانه في المطلب الثاني،
ولله الحمد.
3- قوله بأن حذيفة جزم بنسبة
الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دونما تردد أو شك، وابن مسعود وضع
احتمالات!! هذا الكلام فيه اتّهام لابن مسعود أنه يعارض حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالاحتمالات! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم! فالصحابي رضي الله عنه إذا سمع
الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينقاد إليه لا أنه يضع
الاحتمالات اللهمَّ إلا إذا كان عنده هو حديث مرفوع آخر، وإلا فلا يظن بابن مسعود
هذا.
وقد تبيّن لنا بالدليل القاطع أن
الصواب في هذا الحديث عدم نسبة الرفع إليه صلى الله عليه وسلم، وعندها تسقط
(احتمالات) حلبي هذه!
4- وأما ما نقله حلبي عن شيخنا
أبي مالك محمد شقرة من كتابه ((إرشاد الساري)): "وابن مسعود كان
يعلم..." إلخ، إنما بناه الشيخ - حفظه الله - على صحة الرواية المرفوعة، وقد
تبيّن عدم صحتها.
ثُمّ إن الفرضية بأن عبدالله قد
شك وتردد، وعلم بأن حذيفة حفظ وهو لم يحفظ، وأن جماعة المعتكفين لا يعوّل عليهم في
ذلك كما يعوّل على حذيفة، وإلا لرجع إليهم بالسؤال عن اعتكافهم، فيه نظر؛ لأن عبدالله
لم يشك ولم يتردد كما بينته سابقاً، وأن عبدالله إنما اقتصر على عبارة واحدة فقط،
وهي أن حذيفة أخطأ، وهم أصابوا.
ثُمّ إن جماعة المعتكفين هؤلاء
إنما فيهم كثير من الصحابة، فكيف لا يُعول عليهم، ويعول على حذيفة وحده؟!
وأما أنه لو كان يعول عليهم لرجع
إليهم بالسؤال فكان هذا يتجه لو كان حديث حذيفة مرفوعاً! أَمَا وقد تبيّن أنه من
اجتهاد حذيفة، فلا داعي للرجوع إليهم؛ لأن الجميع يعرف أن الاعتكاف جائز في كلّ
المساجد على أصله عندهم، ولهذا لم يَحْتَجْ إلى الرجوع إليهم؛ لأن ما طرحه حذيفة
هو من اجتهاده.
5- وأما الوجه الآخر الذي أتى به
حلبي للرد على هذه الشبهة فهو ردّ (الشيخ الألباني)، ولم يُشر إلى ذلك!
والأدهى والأمر أن (حلبي) ارتضى
هذا الجواب في متن كلامه، ثُم ردّه في الحاشية، وكلامه في ردّه إنما هو ردّ وتعريض
(بفَهمِ شيخه الألباني)!!!
قال الألباني في ((صحيحته)) رقم
(2786): "وقول ابن مسعود ليس نصاً في تخطئته لحذيفة في روايته للفظ الحديث،
بل لعله خطّأه في استدلاله به على العكوف الذي أنكره حذيفة؛ لاحتمال أن يكون معنى
الحديث عند ابن مسعود: لا اعتكاف كاملاً، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان
لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)). والله أعلم" انتهى.
فَسرَقَ حلبيّ هذا الوجه واحتج
به، ثم ردّه في الحاشية بأن هذا الفهم منقوض لغوياً!!
قال: "ثُم وجهٌ آخر في
الجواب عن هذه الشبهة: هو أن قول ابن مسعود رضي الله عنه في ردّه على حذيفة ليس
نصّاً في تخطئة حذيفة في روايته للفظ الحديث، إنما قد خطَّأه في فهم الحديث
واستدلاله به على العكوف الذي أنكره حذيفة، بدليل قول حذيفة له: ((وقد علمتَ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم...)). ثم ذكره، فابن مسعود يعلم الحديث – كما قال له
حذيفة – ووافقه ابنُ مسعود، لكنَّه يُخالف حُذيفة في فهمه!" انتهى.
وقال في الحاشية: "فيكون رضي
الله عنه قد فهمه بمعنى: ((لا اعتكاف كاملاً إلا في المساجد الثلاثة))، فلا مجال
لفهمه فهماً آخر يُغاير ظاهره سوى هذا الفهم!! ولكنه – حقّاً – فهمٌ منقوضٌ من
الناحية اللغوية، إذ من المتفق عليه أن الأصل في الكلام الظاهر، ولا يدفع الظاهر
إلا بدليل، ولا دليل هنا يُخرج نفي جنس الاعتكاف عن أي مسجد ويحصره بالمساجد
الثلاثة عن ظاهر هذا اللفظ، إذ معنى ((لا)) هنا: أنها نافية للجنس، أي: جنس
الاعتكاف بالكلية، ووجود ((إلا)) بعدها يحصر هذا النفي المطلق ويخصُّه بالمساجد
الثلاثة الواردة في الحديث. فيبقى الحديث على دلالته العربية الصريحة الموافقة
لظاهره دون ورود ما ينقله عن هذا الظاهر، والحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات".
قلت: فانظر - يرحمك الله - إلى تقريره
لجواب شيخه الألباني دون الإشارة إلى أنه هو صاحبه! ثُمّ رده! فإذا كان هذا منقوضاً
لغوياً، فلم أتيت به يا حلبي وقررته واعتبرته وجهاً آخر في الرد على هذه الشبهة؟!!
ثُم إنّ كلام (حلبي) هذا (تعريضٌ)
واضح بعربية شيخه الألباني وبفهمه اللغوي! من خلال حشده معنى: "لا"،
ووجود: "إلا"، وقوله في خاتمة كلامه: "فيبقى الحديث على دلالته
العربية الصريحة الموافقة لظاهره، دون ورود ما ينقله عن هذا الظاهر، والحمد لله
الذي بنعمته تتم الصالحات"!!
وهناك تهمة ملصقة بشيخه الألباني
بأن لغته العربية ليست بذاك المستوى بسبب أعجميته!! فلمَ يا (حلبي) تُعرّض به
هكذا؟!
وعلى العموم فإن الألباني قد أخطأ
في حمله تخطئة عبدالله لحذيفة على الفهم والاستدلال؛ لأن الحديث الذي احتج به الألباني:
((لا إيمان...)) يختلف عن حديثنا هذا؛ لأن الأخير قد سمّى المساجد التي يكون فيها
الاعتكاف وقد حصرها فيها، بعكس الحديث الأول.
وإن تعجب فعجب قول حلبي في
الحاشية الثانية: "وقال الشوكاني... قلت: فثبوت الحديث مرفوعاً يؤكد أن ابن
مسعود ما خالفه إلا من حيث الفهم كما أسلفت بيانه".!!
ففي الحاشية السابقة ردّ على شيخه
الألباني هذا الفهم ونقضه! ثم جاء في الحاشية التالية ونَصَر هذا الفهم!! سبحان
الله!! فهل يعي (حلبي) ما يقول وما يكتب؟!!
ثانياً: تقديم فهم ابن مسعود على فهم حذيفة:
قال حلبي: "فإن قيل: أليس ابن مسعود أفقه من حذيفة؟ فينبغي تقديمُ فهمه
على فهمه!
فالجوابُ أن يُقال: ليس شكٌّ
[كذا! وهو خطأ، والصواب: شكّاً] أن ابن مسعود أفقه؛ ولكن هذا لا يغضُّ من فهم
حذيفة ودقة حفظه! كيف لا؟ وهو ((صاحب السر)) كما وصفه الحافظ الذهبي في ((سير
أعلام النبلاء)) (2/361) ووصفه أيضاً بأنه ((من نُجباء أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم))!
ثم إنه من المعروف أن ليس شرط
الفقيه أن يصيب في كل مسألة، خاصة إذا كان ظاهر النص يخالف فقهَه وفَهْمَهُ!
زد على ذلك أننا لسنا مُتعبّدين
بفهم أحد كائناً من كان، سواءٌ أكان ابن مسعود أم غيره، إنما تُعُبِّدنا بنصِّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه!
ومما يؤيد هذا من سيرة الصحابة ما
رواه البخاري (346)، ومسلم (368) أن شقيق بن سلمة قال: ((كنت جالساً مع عبدالله بن
مسعود، وأبي موسى، فقال أبو موسى: أرأيت يا أبا عبدالرحمن لو أن رجلاً أجنب فلم
يجد الماء شهراً! كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبدالله: لا يتيمم، وإن لم يجد الماء
شهراً، فقال أبو موسى: فكيف تصنعُ بقول عمّار حين قال له النبي صلى الله عليه
وسلم: ((كان يكفيك)) قال: ألم ترَ عمر لم يقنع بذلك؟ فقال أبو موسى: فدعنا من قول
عمار، كيف تصنع بهذه الآية {فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيباً} [المائدة: 6]؟.
فما دَرَى عبدالله ما يقول، فقال: إنا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا بَرَدَ على
أحدهم الماءُ أن يدعهُ ويتيمَّم! فقلت لشقيق: فإنما كره عبدالله لهذا؟ قال: نعم)).
قلت: فهل نترك الآية وحديث عمّار
لفهم ابن مسعود ورأيه؟؟ لذا فقد قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/457):
((وأما ابنُ مسعود فلا عذر له في التوقف عن قبول حديث عمّار)).
وكذا نقول هنا: لا عُذرَ لابن
مسعود رضي الله عنه في عدم قبول حديث حذيفة! لكنه اجتهادٌ منه رضي الله عنه، له
عليه أجرٌ واحدٌ إن شاء الله!
والحق الذي لا محيدَ عنه أن ظاهر
الحديث هو الأولى بالأخذ والأحرى بالاتباع؛ ولا مجال - ألبتة - لفهمه فهماً آخر
يقيِّده، أو يخصصه دونما دليل أو برهان، فقد قيل: ((الألفاظُ قوالبُ المعاني))
والمعنى في الحديث ظاهرٌ جداً في لفظه، بَيِّنٌ جداً في معناه، ومما يزيدُهُ جلاءً
ووضوحاً عمل بعض السلف به كما تقدم.
فإن قيل: فلماذا سكت حذيفة عن
جواب ابن مسعود؟ قلت: لأن الحجة النبوية - لا شك - قارعةٌ التوقع والاحتمال، فلم
يبق - إذن - لهما مجال في ذهن حذيفة، وهو الذي حفظ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبلَّغ ما حفظه! فكيف يجيب على توقُّع هو جازمٌ بخلافه؟! فمجرّد إصراره وحرصه
على رواية الحديث لأكبرُ جواب وأبلغ رد!" انتهى كلامه.
قلت: لا أدري ما الذي حَشر أنف (حلبي)
بين صحابيين كبيرين، يوجّه كلامهما! ويصحح! وينتقد! ويُعرِّض! ويعطي لأحدهما أجراً
على الاجتهاد! و.. و..؟!
1- المسألة ليست مسألة المفاضلة
بين الصحابة في الفهم، ولا مدخل لفهم ابن مسعود فيها كما صوّرها حلبي!! وإنما هو
فهمٌ لحذيفة من حديث: ((لا تشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد))، ففهم حذيفة منه
أن الاعتكاف يكون في هذه المساجد الثلاثة لأفضليتها.
2- الحديث لم يصح مرفوعاً! ولو
صحّ مرفوعاً لما ناقش فيه ابن مسعود.
3- قول حلبي: "إننا لسنا
متعبدين بفهم أحد كائناً من كان، سواء أكان ابن مسعود أم غيره، إنما نحن تعبدنا
بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه"، صحيح في الجملة، وإن كنا
نعارض سوء أدبه مع الصحابة بهذا الإطلاق!!
وهذا النص ليس بثابت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فلم تلزمنا بفهم حذيفة؟! ألأنه صحيح عندك؟ وهو عند غيرك ليس
بصحيح، بل هو معلول، وهو من اجتهاد حذيفة وفهمه، فلا يُلزمنا فهمه كما جزمت أنت!
قال الشوكاني في ((نيل الأوطار))[53]:
"قال عبدالله: (فلعلهم أصابوا وأخطأت) فهذا يدلّ على أنه لم يستدل على ذلك
بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أن عبدالله يخالفه، ويجوز الاعتكاف في
كلّ مسجد، ولو كان ثَمَّ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خالفه... وقد استشهد
بعضهم لحديث حذيفة بحديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مرفوعاً بلفظ: ((لا تُشدُّ
الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى))، وهو
مُتفقٌ عليه، ولكن ليس فيه ما يشهد لحديث حذيفة؛ لأن أفضلية المساجد الثلاثة
واختصاصها بشد الرّحال إليها لا تستلزم اختصاصها بالاعتكاف. وقد حكى في ((الفتح))
عن حذيفة: أن الاعتكاف يختص بالمساجد الثلاثة، ولم يذكر هذا الحديث".
4- ما أورده حلبي من قصة ابن
مسعود مع أبي موسى لتأييد مذهبه ليس في محله!! فشتان بين قصة حذيفة مع ابن مسعود،
وقصة ابن مسعود مع أبي موسى.
فقصة حذيفة مع ابن مسعود لم يثبت
فيها أن الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان كذلك لدافع عنه حذيفة
كما دافع أبو موسى عن حديث عمار المرفوع في الحديث الذي أورده حلبي!
ولو كان مرفوعاً لما سكت عنه
حذيفة، وتعليل حلبي لهذا السكوت واهٍ جداً، وليس قائماً على حجة مقنعة، بل هي
اضطرابات نفسية عنده!! وأين إصرار حذيفة (المزعوم) وحرصه على رواية الحديث إذ لم
يثبت أنه رفعه؟!!
بل إن سكوته لهو أكبر دليل على
أنه من اجتهاده وأنه ليس بكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلا لدافع عنه ولبيّن
لابن مسعود أنه سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك.
5- ابن مسعود إنما لم يلتفت إلى
رواية عمّار؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يقنع بها، فله سلف في ذلك.
قال ابن حجر في ((فتح الباري))[54]:
"وأفادت رواية سليمان بن حرب أن عمر أيضاً كان قد أجنب فلهذا خالف اجتهاده
اجتهاد عمّار".
وروى مسلم في ((صحيحه))[55]
من حديث يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، عَن شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي
الْحَكَمُ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ
أَبِيهِ: ((أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ
مَاءً؟ فَقَالَ: لَا تُصَلِّ. فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ
مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي
التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ، ثُمَّ تَنْفُخَ،
ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ. فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا
عَمَّارُ. قَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ)).
قَالَ الْحَكَمُ: وَحَدَّثَنِيهِ
ابْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ مِثْلَ حَدِيثِ ذَرٍّ قَالَ:
وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ عَنْ ذَرٍّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرَ
الْحَكَمُ، فَقَالَ عُمَرُ: ((نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ)).
قلت: فهل هذه المسألة التي اختلف
فيها عمر وعمّار مثل مسألة حذيفة مع ابن مسعود؟!
وابن مسعود إنما تبع عمر في رأيه.
وعمر لم يتذكر القصة التي ذكرها عمّار فقال له ما قال، ومع ذلك لم يمنعه من
التحديث به لقوله: ((نوليك ما توليت))، أي: لا يلزم من كوني لا أتذكره أن لا يكون
حقاً في نفس الأمر، فليس لي منعك من التحديث به.
وهذه القصة حُجّةٌ على حلبي، لا
حُجة له، بصرف النظر عمّن معه الحق! وهي إنما تدلّ على أن الصحابة كانوا يتحاورون
فيما بينهم، ويأتون بالأحاديث المرفوعة في استدلالتهم، ولكن في قصة حذيفة لم يحاور
ابن مسعود ولم يأتيه بشيء مرفوع، وسكت عندما قال له: ((لعلك أخطأت وأصابوا))!
6- ثُمّ إن هذه القصة إنما وضّح
فيها ابن مسعود سبب كراهيته لذلك، وهي تساهل الناس في ترك استعمال الماء والتيممم!
وقد ذكر ابن حجر في ((فتح الباري)) أن ابن مسعود رجع عن هذه الفتوى في الموضع نفسه
الذي ذكره حلبي، فقال: "وأما ابن مسعود فلا عذر له في التوقف عن قبول حديث
عمار، فلهذا جاء عنه أنه رجع عن الفتيا بذلك كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد فيه
انقطاع عنه"[56].
7- قوله: "والحق الذي لا
محيد عنه..."! هو حقّ في نظره! لا في نظر غيره! وحلبيّ دائم الافتراء في
نظائر هذا! فهو دائم القول في آرائه: "والحق، ولا حق سواه"! فالحق
دائماً معه! {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}
[مريم: 78]، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:
111].
أيّ حقّ هذا الذي لا مَحيد عنه،
وهو حديث لم يثبت رفعه؟!! وأي فهم آخر قيّده؟! وأي مخصص خصصه؟! ولم نجد أحداً
قيّده أو خصصه؟!
8- وأما ما يتعلق بعمل بعض السلف
به! فليس بصحيح كما بينته آنفاً!
ثالثاً: الشكّ في رواية حذيفة:
قال حلبي: "الشبهة الثانية: أنه قد شك حذيفة، أو مَنْ دونه في رواية
الحديث، فقال بعد ذكره المساجد الثلاثة: ... أو قال: ((مسجد جماعة))، فهذا شكٌّ،
ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكٍّ!!.
فالجواب: ((معذورٌ من وقع له هذا
الشك! إذ لم يقف على رواية الجماعة عن ابن عيينة به مرفوعاً دون أي شك، وهم:
1- محمد بن الفرج، عند الإسماعيلي
في ((معجمه)) (رقم: 332).
2- محمود بن آدم المروزي، عند
البيهقي والذهبي.
3- هشام بن عمار، عند الطحاوي.
وكلّهم رواةٌ محتجٌّ بهم، وهشام
بن عمار صدوقٌ، كبر فصار يتلقن، لكن موافقته للراويين قبله دليلٌ على أنه حفظه.
فاتِّفاق هؤلاء الرواة على رواية
الحديث دون الشك المذكور في الرواية عند المعترض دليلٌ على مرجوحيتها، والله
أعلم)). [حاشية: مختصراً من سلسلة الأحاديث الصحيحة، (رقم: 2786) بتصرف] انتهى.
قلت:
1- هناك شك في غير هذه الرواية
كما سبق بيانه:
ففي رواية محمود بن آدم: ((لا
اعتكاف إلا في المسجد الحرام - أو قال: إلا في المساجد الثلاثة)).
وفي رواية سعيد بن منصور:
((المساجد الثلاثة - أو قال - مسجد الجماعة)). ويؤيده ما عند مغيرة بن مِقسم عن
إبراهيم: ((مسجد جماعة)).
وفي رواية سعيد بن عبدالرحمن
ومحمد بن يحيى: ((المسجد الحرام، أو في المساجد الثلاثة: مسجد المدينة ومسجد بيت
المقدس)).
ونَقلُ حلبي عن الألباني رواية
محمود بن آدم مع روايتي محمد بن الفرج وهشام بن عمار يوهم أنه لا شك فيها، والصواب
أن فيها شك أيضاً. وهذا الشك مؤثر في الرواية، وإن رجحنا أن المحفوظ ذكر: المساجد
الثلاثة.
2- ذكره لرواية هشام بن عمار وأنه
حفظها فيه نظر! فقد بينت أنه لا يعتمد على الراوي عنه.
3- كان الأولى بحلبي أن يستشهد
برواية عبدالرزاق؛ لأنها لا شكّ فيها! ولكنه أعرض عن ذلك؛ لأنه هنا نقل في رد
الشبهة كلام الشيخ الألباني![57] وكان بإمكانه أن يضيف عليه رواية
عبدالرزاق، ولكنه لم يفعل!!
رابعاً: أنّ الحديث منسوخ:
قال حلبي: "الشبهة الثالثة: أن الحديث منسوخ، كما قاله الإمام الطحاوي
في ((مشكل الآثار)) (4/20)!
فالجواب: هذه دعوى بلا برهان،
وقولٌ بلا دليل، إذ ((لا يستدلُّ على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، أو بوقت على أن أحدهما بعد الآخر، فيُعلم أن الآخر هو الناسخ أو
بقول مَنْ سمع الحديث، أو الإجماع)).
وهذا أمر متفقٌ عليه بين
الأصوليين، وإلا لأدّعى كلُّ إنسان نسخَ أي آية أو خبر شاء، وهذا من أنكر
الأشياء!! فهل مِنْ دليل على ذلك الزعم؟!" انتهى.
قلت: هذه الدعوى تلقّفها (حلبي) من شيخه
الألباني، وتبعه عليها! وهي دعوى غير صحيحة، وكلام الطحاوي في ((مشكل الآثار)) لم
يُرد به (النسخ) الاصطلاحي المعروف عند الأصوليين – والذي بيّنه حلبي -! وإنما قصد
المعنى اللغوي للنسخ، وهو الإزالة.
والواجب على من يتعقّب أهل العلم
أن يكون عنده وعي ودراية بكلامهم، لا أن يطلق الكلام هكذا على عواهنه.
فالطحاوي ذَكرَ (باب بيان مُشكل
ما رُوي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
المساجد التي لا يجوز الاعتكاف إلا فيها)، ثم ساق الحديث، ثم قال: "فتأملنا
هذا الحديث، فوجدنا فيه إخبار حذيفة ابنَ مسعود أنه قد عَلِم ما ذكره له عن النبيّ
صلى الله عليه وسلم، وتَركَ ابن مسعود إنكارَ ذلك عليه، وجوابَه إيّاه بما أجابه
به في ذلك من قوله: «لعلهم حفظوا» نَسخَ ما قد ذكرته من ذلك، وأصابوا فيما قد
فعلوا، وكان ظاهر القرآن يدلّ على ذلك وهو قوله عز وجل: {ولا تباشروهن وأنتم
عاكفون في المساجد}، فعمَّ المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه من الاعتكاف في
مساجد بلدانهم، إما مساجد الجماعات التي تقام فيها الجمعات، وإما هي وما سواها من
المساجد التي لها الأئمة والمؤذنون على ما قاله أهل العلم في ذلك، والله عز وجل
نسأله التوفيق".
قلت: فقوله: "نسخ ما قد
ذكرته من ذلك وأصابوا فيما فعلوا"، يعني: أزال ما قد توهمته من نقلك عنه صلى
الله عليه وسلم - بحسب الرواية المرفوعة التي أوردها الطحاوي -، وهم قد أصابوا في
ذلك؛ لأن الأصل هو الاعتكاف في المساجد كلها.
وقول الطحاوي لا يدلّ بحال من
الأحوال على إرادته للمعنى الاصطلاحي للنسخ! وكيف يخفى المعنى الاصطلاحي عليه وقد
بنى كثيراً من مسائل كتابه هذا عليه.
وقد تتبعت كتابه هذا فوجدته
دائماً يذكر الأحاديث المتعارضة وعندما يذكر النسخ فإنه يأتي بالناسخ والمنسوخ
ووقت ذلك إن وجده، وأما حديثنا هذا فهل يدعي الطحاوي النسخ دون أن يأتي بالناسخ أو
وقت ذلك؟! وكأن حلبي – وقبله الشيخ الألباني - توهم ذلك فلما وجد أنه ذكر الآية
ظنّ أن الطحاوي يرى أن الحديث نُسخ بالآية، وهذا فهم - إن اعتقده - فهو فهمٌ سقيم،
ولا يستقيم!!
ذكر الطحاوي: (باب بيان مُشكل ما
روي عنه عليه الصلاة والسلام من نهيه عن الحلف بغير الله تعالى، ومن ما روي عنه من
حلفه بغيره تعالى، وما نُسخ من ضده منه)، ثم ساق الأحاديث، ثم قال: "فكان في
هذه الآثار الثابتة إباحة ما قد جاء النهي عنه في الأول، فقال قائل من أهل الجهل
بوجوه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا تضاد شديد. فكان جوابنا له في ذلك:
أن ذلك لا تضاد فيه، ولكن فيه معنيان مختلفان كان أحدهما في وقت، وكان الآخر في
وقت آخر، وكان الآخر منهما ناسخاً للأول منهما، وذلك غير منكر إذ كان كتاب الله
تعالى فيه ما قد نسخ غيره مما فيه، ثم طلبنا الناسخ منهما للآخر ما هو؟ فوجدنا
صالح بن شعيب بن أبان البصري أخبرنا قال: حدثنا مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن
المسعودي، حدثني معبد بن خالد، عن عبدالله بن يسار، عن قتيلة بنت صيفي الجهنية
قالت: أتى حبرٌ من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: نعم
القوم أنتم لولا أنكم تشركون، فقال: «سبحان الله» قال: إنكم تقولون إذا حلفتم:
والكعبة. قال: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم قال: «إنه قد قال لمن
حلف فليحلف برب الكعبة». فكان في هذا الحديث ذكر سبب النهي من رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى، وكان في ذلك ما قد دلّ على أن المتأخر من
المعنيين المختلفين اللذين ذكرناهما في هذا الباب هو النهي عن الحلف بغير الله
تعالى لا الإباحة له فبان بحمد الله بما ذكرنا خلاف ما توهم هذا الجاهل، والله
نسأله التوفيق".
قلت: وبعد هذا: أيُقال إن الطحاوي
زعم النسخ؟! وأقول كما قال: "فبان بحمد الله بما ذكرنا خلاف ما توهم هذا
الجاهل، والله نسأله التوفيق".
خامساً: أن الحديث مضطرب:
قال حلبي: "الشبهة الرابعة: أن الحديث مضطرب!!
قلت: وهذه دعوى جريئةٌ باطلةٌ،
يُنكرها أهل العلم بالأسانيد والأخبار! وهاك ما قد يخطر ببال المنكر المعترض مورد
الشبهة في إثبات دعواه:
الأول: أن الحديث رُوي مرفوعاً
وموقوفاً كلاهما عن حذيفة، فهذا يردّ الرواية؟!
قلت: تقدَّم فيما مضى أنَّ الذين
رَوَوْه مرفوعاً ثلاثة، والذي رواه موقوفاً واحدٌ فقط، وهو عبدالرزاق، عن ابن
عيينة به موقوفاً...
وخبر عبدالرزاق - وقد تفرّد به -
لا يُعارض خبر الثلاثة الثقات الذين جزموا برفعه.
هذا وَجهٌ.
ووجهٌ آخر وهو أن الرفع زيادةٌ
على الوقف، وهو من ثقات فيجب قبوله.
قال النووي في رسالته ((ما تمسُّ
إليه حاجة القاري لصحيح الإمام البخاري)) (ص71- بتحقيقي): ((إذا روى بعضُ الثقات
الحديثَ متصلاً وبعضهم مرسلاً، أو بعضهم مرفوعاً وبعضهم موقوفاً، أو وصله هو، أو
رفعه في وقت وأرسله أو وقفه في وقت، فالصحيح الذي عليه الفقهاء وأهل الأصول،
ومحققو المحدّثين أنه يحكم بالوصل والرفع؛ لأنه زيادة ثقة)).
الاعتراض الثاني: أن الاضطراب
واقعٌ فيما رواه حذيفة نفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!
1- فمرة روى مرفوعاً: ((كل مسجد
له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح)).
2- ومرة روى: ((لا اعتكاف إلا في
المساجد الثلاثة)).
3- ومرة شكَّ، فزاد: ((أو في مسجد
جامع)).
فالجواب: أن الحديث الأول، رواه
الدارقطني (2/200) وقال عنه ابن حزم في ((المحلى)) (5/196): ((هذه سوأةٌ لا يشتغل
بها ذو فهم، جُويبرٌ هالكٌ، والضحاكُ ضعيفٌ، ولم يدرك حذيفة)).
قلت: فمثله لا يفرح به!
أما الحديث الثاني فصحيحٌ بلا ريب
كما تقدم.
أما الشك في الحديث الثالث فهو
مرجوحٌ كما تقدم جوابه في ((الشبهة الثانية))!
فلم يسلم إلا الحديث الثاني، وهو
((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)) وهو صحيحٌ مرفوعٌ لم يعارض بأثر أو خبر، ولم
يقو أمامه رأي أو فهم فعليه المعتمد، وبه العمل، والله وحده الموفِّقُ)) انتهى.
وقال في الحاشية: "وقد حاول الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على ((سير أعلام
النبلاء)) (15/81) أن يقضي على النِّزاع في المسألة، فقال: ((وقد انفرد حذيفة
بتخصيص الاعتكاف في المساجد الثلاثة، والجمهور على جوازه في أي مسجد من المساجد)).
قلت: وهذا قولٌ غير صحيح، إذ حذيفة معه سنة مروية صحيحة، والجمهورُ فماذا؟ ليس
معهم سوى عموم الآية، وهو مُخصَّص بهذا الحديث النبوي الصحيح، فهو المعتمد الحقّ
إن شاء الله تعالى". انتهى.
قلت:
1- قال حلبيّ - على لسان المعترض
القائل بالاضطراب - إن وجه الاضطراب هو رواية الحديث مرفوعاً وموقوفاً على حذيفة؟!
فهل الاضطراب من الراوي نفسه أم من الرواة عنه؟!
وقد بيّنت أن الاضطراب من ابن
عيينة، وكونه اضطرب فيه لا يعني أننا طعنا فيه، وفي علمه، بل هو جبلٌ من جبال
الحديث وأئمة الدِّين، ولكنه بشرٌ يصيب ويخطئ، وهو نفسه كان يقول لأصحابه عليكم
بالسماع الأول كما ذكرت آنفاً.
ولكن حلبي - كعادته - في تهويل
الأمور قال بأن "هذه دعوى جريئة باطلة ينكرها أهل العلم بالأسانيد
والأخبار"!
روى الترمذي في ((العلل))[58]
قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه،
عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في
العيدين والجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية}، وربما اجتمعا
في يوم فيقرأ بهما)).
قال: سألت محمداً عن هذا الحديث،
فقال: "هو حديثٌ صحيحٌ، وكان ابن عيينة يروي هذا الحديث عن إبراهيم بن محمد
بن المنتشر فيضطرب في روايته، قال مرة: حبيب بن سالم عن أبيه عن النعمان بن بشير،
وهو وهم، والصحيح: حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير".
2- قوله: "إن الذي رواه
موقوفاً واحدٌ فقط"! غير صحيح، فقد بيّنت فيما سبق أن ثلاثة رووه موقوفاً.
3- هَبْ أن عبدالرزاق تفرد
بروايته موقوفاً، فإن روايته تُرجح على رواية الثلاثة الآخرين؛ لأنه أوثق منهم
وأثبت، وهذا الذي يجري عليه أهل النقد، فبطل الوجه الأول عند (حلبي)!
4- إن مسألة الزيادة من الثقة
مقبولة ليست على إطلاقها! فلأهل النقد قرائن يرجّحون بها الزيادات أو عدم قبولها.
وما نقله (حلبي) عن النووي لا
يُسعفه؛ لأن الإمام النووي رأيه في هذه المسألة معروف، وتطبيق ذلك في شرحه لكتاب
مسلم يدلّ عليه! ونسبته هذا الرأي لمحققي المحدثين وهم الذين صنّفوا في ((مصطلح
الحديث))، غير أنَّ الأئمة النقاد المتقدمين لا يقولون بذلك كما بيّنه ابن رجب
الحنبلي في ((شرح علل الترمذي)).
5- ما ذكره في الاعتراض الثاني من
نسبة الاضطراب في المتن إلى حذيفة لم يقل به أحد! وإنما أشار ابن حزم - كما تقدم -
أن حذيفة أو من هو دونه شك في الرواية، والشك ليس اضطراباً في الغالب.
وقد نبهت إلى شك آخر في المتن -
فيما سبق - لم يذكره (حلبي)!
6- قوله: "لم يسلم إلا
الحديث الثاني.. وبه العمل"! قول لا يصح! فإما أن نحكم على الحديث بالاضطراب،
أو نقول بأنه موقوف على حذيفة، وهو اجتهاد منه، ولا يلزم به أحد.
ومن هنا فكلام شعيب الأرنؤوط الذي
ردّه حلبي هو الصحيح؛ وقد أشرت فيما سبق أن الحافظ ابن حجر جزم بنسبة ذلك إلى
حذيفة.
7- قوله: "حذيفة معه سنة
مروية صحيحة، والجمهور فماذا؟" قولٌ ساقطٌ! فلو كان مع حذيفة سنة لما تركها
ابن مسعود، وقد علمت أن المرفوع عن حذيفة لا يصح! ثُم ما هذا التهكم على الجمهور
بقوله: والجمهورُ فماذا؟
والله لو صحّ رفع الحديث عن حذيفة
لما تركه الجمهور.
سادساً: أن الحديث معارض ومخالف لحديث عائشة:
قال حلبي: "الشبهة الخامسة: أنه معارضٌ ومخالفٌ لحديث عائشة: ((ولا
اعتكاف إلا في مسجد جامع))!
والجواب: أن لا مخالفة أو معارضة؛
بل هو تخصيصٌ أيضاً، إذْ واضحٌ جليٌّ أن حديث عائشة أعمُّ من حديث حذيفة فيجري
العمل على المخصِّص له، ومما يؤكد هذا ويثبته أن حديث حذيفة أصرح بالرفع من حديث
عائشة الذي هو في حكم المرفوع، أما حديث حذيفة فهو مرفوعٌ صراحةً.
وهذا من وجوه الترجيح عند أهل
العلم" انتهى.
وقال في الحاشية: "ولا يوجد سوى ما ذكرت مما يُخالفُ حديثَ حذيفة، إلا بعض
الآثار الموقوفة والمقطوعة، وفي عدد منها ضعفٌ!!" انتهى.
قلت:
1- حديث حذيفة موقوف أيضاً.
2- قول عائشة الذي نقله حلبيّ
مختلفٌ فيه: هل هو قولها أم قول غيرها؟
والحديث رواه أبو داود في
((سننه))[59] قال: حدثنا وهب بن بقية، قال:
أخبرنا خالد، عن عبدالرحمن – يعني: ابن إسحاق -، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:
أنها قالت: ((السُّنّة على المعتكف: أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس
امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بدّ منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا
اعتكاف إلا في مسجد جامع)).
قال أبو داود: "غير
عبدالرحمن لا يقول فيه: (قالت: السنة)".
قال أبو داود: "جعله قول
عائشة".
قلت: وهذا أيضاً ليس من قول
عائشة!
قال البيهقي في ((السنن الكبرى))[60]:
"قد ذهب كثيرٌ من الحفاظ إلى أن هذا الكلام من قول من دون عائشة، وأن من
أدرجه في الحديث وهم فيه! فقد رواه سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن عروة قال:
المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضاً ولا يجيب دعوة ولا اعتكاف إلا بصيام ولا
اعتكاف إلا في مسجد جماعة. وعن ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال:
المعتكف لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة".
قلت: والراجح أن هذا ليس من قول
عائشة، وإنما هو من قول عروة.
3- إشارة حلبي إلى الآثار الموقوفة
والمقطوعة وأن في عدد منها ضعف! فيه إشارة إلى أنه اطّلع عليها كلّها! وفيه
مبالغة؛ لأن كثيراً منها صحيح أو حسن، وقد ذكر ابن أبي شيبة في ((مصنفه))[61]:
(باب من اعتكف في مسجد قومه ومن فعله)، وروى ذلك عن: أبي قِلابة، وسعيد بن جُبير،
وهمام بن الحارث، وإبراهيم النخعي، وأبي سلمة، وأبي الأحوص، وعامر الشعبي.
ثُم ذكر باب (من قال: لا اعتكاف
إلا في مسجد يجمع فيه)، وروى ذلك عن: علي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود،
والزهري، والحكم، وحماد، وأبي جعفر، وعروة بن الزبير.
وذكر عبدالرزاق في ((مصنفه))[62]:
(باب لا جوار إلا في مسجد جماعة)، وروى ذلك عن: سعيد بن المسيب، وعلي بن أبي طالب،
والحسن البصري، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة، وإبراهيم، وسعيد بن جبير، وأبي
الأحوص، والزهري.
وروى ابن الجوزي في ((التحقيق))
من طريق محمد بن أيوب، قال: حدثنا مسلم ابن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا
قتادة: أنّ ابن عباس والحسن قالا: ((لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة)).
وقال ابن عباس: ((إن أبغض الأمور
إلى الله البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور))[63].
وهذا الأخير رواه البيهقي في
((السنن الكبرى))[64] من طريق شَريك، عن ليث، عن يحيى
بن أبي كثير، عن علي الأزدي، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((إن أبغض الأمور إلى
الله البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور)).
فهل نخالف كلّ هؤلاء الأئمة من
الصحابة والتابعين ونتمسك برواية مختلفٌ في ثبوتها!!
وقد أجمع أهل العلم على أن محل
الاعتكاف في كلّ مسجد، ولا يختص بالمساجد الثلاثة:
قال الإمام مالك في ((الموطأ))[65]:
"الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كلّ مسجد يُجمع
فيه".
وقال ابن عبدالبر في
((الاستذكار))[66]: "وأجمعوا أن الاعتكاف لا
يكون إلا في مسجد؛ لقوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد}.
فذهب قومٌ إلى أن الآية خرجت على
نوع من المساجد، وإن كان لفظه العموم، فقالوا: (لا اعتكاف إلا في مسجد نبي،
كالكعبة أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو بيت المقدس) لا غير! ورُوي هذا
القول عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب، ومن حجتهما أن الآية نزلت على النبي
صلى الله عليه وسلم، وهو معتكف في مسجده، وكان القصد والإشارة إلى نوع ذلك المسجد
مما بناه نبيّ.
وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في
مسجد تجمع فيه الجمعة؛ لأن الإشارة في الآيات عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد.
رُوي هذا القول عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وبه قال عروة بن الزبير والحكم بن
عيينة وحماد والزهري وأبو جعفر محمد بن علي، وهو أحد قولي مالك.
وقال آخرون: الاعتكاف في كل مسجد
جائز.
رُوي عن سعيد بن جبير وأبي قلابة
وإبراهيم النخعي وهمام بن الحارث وأبي سلمة بن عبدالرحمن وأبي الأحوص والشعبي، وهو
قول الشافعي وأبي حنيفة والثوري، وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن عُلية، وداود
والطبري، وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد".
وقال ابن حزم في ((المحلَّى))[67]:
"والاعتكاف جائزٌ في كلّ مسجد جمعت فيه الجمعة أو لم تجمع، كان مسقفاً أو
مكشوفاً، فإن كان لا يصلى فيه جماعة، ولا له إمام لزمه فرض الخروج لكلّ صلاة إلى
المسجد تصلى فيه جماعة، إلا أن يبعد منه بُعداً يكون عليه فيه حرج، فلا يلزمه،
وأما المرأة التي لا يلزمها فرض الجماعة فتعتكف فيه.
ولا يجوز الاعتكاف في رحبة المسجد
إلا أن تكون منه، ولا يجوز للمرأة ولا للرجل أن يعتكفا أو أحدهما في مسجد داره،
برهان ذلك قول الله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} فعمَّ الله تعالى ولم يخص،
فإن قيل: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جعلت لي الأرض مسجداً
وطهوراً))، قلنا: نعم، بمعنى: أنه تجوز الصلاة فيها، وإلا فقد جاء النص والإجماع
بأن البول والغائط جائز فيما عدا المسجد، فصح أنه ليس لما عدا المسجد حكم المسجد،
فصح أن لا طاعة في إقامة في غير المسجد، فصح أن لا اعتكاف إلا في مسجد، وهذا يوجب
ما قلنا.
وقد اختلف الناس في هذا: فقالت
طائفة: لا اعتكاف إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم... وقالت طائفة: لا اعتكاف
إلا في مسجد جماعة... وصحَّ عن إبراهيم وسعيد بن جبير وأبي قلابة إباحة الاعتكاف
في المساجد التي لا تصلى فيها الجمعة، وهو قولنا؛ لأن كل مسجد بني للصلاة فإقامة
الصلاة فيه جائزة فهو مسجد جماعة.
وقالت طائفة: الاعتكاف جائز في
كلّ مسجد، ويعتكف الرجل في مسجد بيته، روينا ذلك عن عبدالرزاق عن إسرائيل عن رجلٍ
عن الشعبي قال: (لا بأس أن يعتكف الرجل في مسجد بيته)، وقال إبراهيم وأبو حنيفة:
(تعتكف المرأة في مسجد بيتها).
أما من حَدَّ مسجد المدينة وحده،
أو مسجد مكة ومسجد المدينة، أو المساجد الثلاثة أو المسجد الجامع، فأقوالٌ لا دليل
على صحتها، فلا معنى لها، وهو تخصيصٌ لقول الله تعالى {وأنتم عاكفون في
المساجد}..." انتهى.
قلت: فهل هؤلاء الأئمة من الصحابة
والتابعين لا يعرفون حديث حذيفة المرفوع حتى جاء (حلبي) فصححه لنا، وزعم أنه
الحقّ، وهو السنة؟! فالاعتكاف في كلّ المساجد معروف
عند أهل العلم، ولا يُعرف له مخالف إلا ما رُوي من قول حذيفة فقط!
·
أوهام الألباني في كلامه على حديث حذيفة في ((سلسلته الصحيحة)) رقم
(2786).
قد أشرت مراراً أن (حلبيّ) اعتمد
على كلام شيخه الألباني في هذا الحديث، وما تقدم من نقد لكلام (حلبي) يشمل نقد كلام
الألباني أيضاً.
وهذه أوهام أخرى وقعت له أثناء
كلامه على هذا الحديث:
1- اعتمد الألباني على رواية الإسماعيلي
من طريق محمود بن آدم - وقد تصحف في الصحيحة إلى محمد - عن ابن عيينة.
قال: "وهذا إسنادٌ صحيح على
شرط الشيخين"!
قلت: كيف يكون على شرط الشيخين
ولم يخرجا لمحمود بن آدم؟! بل لم يخرّج له أصحاب السنن كذلك، وهو - وإن كان صدوقاً
- إلا أن ترك الأئمة له يدلّ على عدم الاعتماد على روايته إلا إذا توبع.
2- ذكر الألباني أن الفاكهي أخرج
الحديث في ((أخبار مكة)) عن سعيد بن عبدالرحمن ومحمد بن أبي عمر عن سفيان مرفوعاً،
ثم قال: "فاتفاق هؤلاء الثقات الخمسة على رفع الحديث دون أي تردد فيه؛ لبرهان
قاطع على أن الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم...".
قلت: رواية الفاكهي عن سعيد وابن
أبي عمر عن سفيان موقوفة، وليست مرفوعة كما قال! وقد بيّنت ذلك سابقاً.
وكأن (حلبي) عَرَف ذلك، ولهذا لم
يُشر إلى هاتين الروايتين، ولو كانتا مرفوعتين فَلِم أغفلهما (حلبي)؛ ألأنهما لا
تؤيدان مذهبه! هل هذه هي الأمانة العلمية؟!
3- قال الألباني إن سعيد بن منصور
شك في رفعه، وهذا غير صحيح! فسعيد ابن منصور شك في لفظه، ولم يشك في رفعه.
4- تعقب الألباني شعيباً الأرنؤوط
في تعليقه على رواية الذهبي في ((السير)): "وقد انفرد حذيفة بتخصيص الاعتكاف
في المساجد الثلاثة"!
قال الألباني: "وهذا يبطله
قول ابن المسيب المذكور فتنبه... فلا تغتر بمن لا غيرة له على حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يخالف، والله عزّ وجلّ يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} [النور: 63]".
قلت: كيف يبطله، والمحفوظ من حديث
ابن المسيب: ((لا اعتكاف إلا في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم))، وقد بيّنت ذلك
فيما سبق.
وهكذا كانت طريقة الألباني = كانت
اتهاماته جاهزة لمن يخالفه!! وكأنه هو الوحيد الذي عنده غَيرة على حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم! فالله المستعان.
والحمدُ للهِ أولاً وآخراً.
وكتب: د. خالد الحايك.
1/3/1430هـ.
الحواشي:
[1] مُشكل الآثار: (4/20).
[2]
معجم شيوخ الإسماعيلي: (3/720)
[3] السنن الكبرى: (4/316).
[4] التحقيق في أحاديث الخلاف: (2/109)، رقم (1181). وكأنه رواه من سنن
سعيد بن منصور.
[5] مصنف عبدالرزاق: (4/348). ورواه الطبراني في ((المعجم الكبير))
(9/350) رقم (9511) عن إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبدالرزاق، به.
[6] أخبار مكة: (2/149).
[7] مثل الشيخ سليمان العلوان كما في كلام له على شبكة الانترنت في
((ملتقى أهل الحديث)).
[8] ميزان الاعتدال: (6/180).
[9] المعجم الصغير: (2/121).
[10] انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: (9/66)، ميزان الاعتدال
للذهبي: (7/86).
[11]
تاريخ بغداد: (12/151).
[12]
الجرح والتعديل: (8/290).
[13]
الْمُحلّى: (5/195).
[14] المعرفة
والتاريخ: (2/130).
[15]
تقريب التهذيب: (ص241).
[16]
تهذيب التهذيب: (4/106). قلت: وقد أثبت بعض كِبار أهل العلم أن سفيان بن عُيينة قد
تغير بأخرة، ولكن تغيره غير فاحشٍ، وهو مقصورٌ على الزيادة والنقص في الإسناد، وقد
حققت هذه المسألة في بحثٍ خاصٍ تحت عنوان: (عِلل حديث سفيان بن عُيينة)، ولله
الحمد والمنّة. وقول سفيان: "إني قد سمنت" يعني كثر لحمه وشحمه، وهو
كناية عن الكِبَر في السنّ. وقد وهم بعض الباحثين المعاصرين بقوله:
"سئمت" من السآمة!! وهارون بن معروف المروزي البغدادي الحافظ الثقة من
أصحاب ابن عيينة، وهو أدرى الناس به.
[17]
تاريخ ابن عساكر: (36/161)، وسير أعلام النبلاء: (9/564).
[18]
تهذيب التهذيب: (9/457).
[19]
هو كتابٌ في الرِّجال شرط فيه أن لا يذكر إلا من أغفله البخاري في تاريخه، وهو
كثير الفوائد في مجلد واحد، قاله ابن حجر (لسان الميزان: 6/35). قلت: والنقول عنه
في كتب الرّجال المتأخرة كثيرة.
[20]
تهذيب التهذيب: (4/49).
[21]
مصنف ابن أبي شيبة: (2/337).
[22]
مصنف عبدالرزاق: (4/348). ورواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (9/301) عن الدبري
عن عبدالرزاق، به.
[23]
المعجم الكبير: (9/301).
[24]
المعجم الكبير: (9/301).
[25]
تهذيب الكمال: (2/239)، وسير أعلام النبلاء: (4/527).
[26]
تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل: (ص20)، وانظر: تهذيب التهذيب: (1/155).
[27]
مسند أحمد: (4/229).
[28]
سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب غسل الرجلين، (1/37).
[29]
جامع الترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع، (1/57).
[30]
سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب تخليل الأصابع، (1/152).
[31]
مسند البزار: (8/390).
[32]
المعجم الكبير: (20/306).
[33]
شرح معاني الآثار: (1/36).
[34]
السنن الكبرى: (1/76).
[35]
انظر: كتاب المجروحين لابن حبّان: (1/165).
[36]
كتاب الضعفاء: (ص23).
[37]
كتاب المجروحين: (1/149).
[38]
الكامل في ضعفاء الرّجال: (1/184).
[39]
تهذيب التهذيب: (1/48).
[40]
التلخيص الحبير: (1/94).
[41]
قال الشيخ الألباني في كتاب ((قيام رمضان)): "وقد قال به من السف فيما اطلعت
عليه: حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب وعطاء".
[42]
قال الشيخ الألباني في ((الصحيحة)) رقم (2786) (ص670): "أخرجه ابن أبي شيبة
وابن حزم بسند صحيح عنه...".
[43]
مصنف عبدالرزاق: (4/346).
[44]
مصنف ابن أبي شيبة: (2/337).
[45]
فتح الباري: (4/272).
[46]
مصنف عبدالرزاق: (4/349).
[47]
أخبار مكة: (2/149).
[48]
مصنف عبدالرزاق: (4/351).
[49]
صحيح البخاري: (2/713).
[50]
فتح الباري: (4/271).
[51]
عُمدة القاري: (11/142).
[52]
مختصر مما نقله النووي في كتاب ((تهذيب الأسماء)) (3/222).
[53]
نيل الأوطار: (4/360).
[54]
فتح الباري: (1/445).
[55] صحيح
مسلم: (1/280).
[56] فتح
الباري: (1/457).
[57] قال
الشيخ الألباني: "ذكره عنه ابن حزم في ((المحلى)) (5/195)، ثم رد الحديث بهذا
الشك. وهو معذور لأنه لم يقف على رواية الجماعة عن ابن عيينة مرفوعاً دون أي شك،
وهم:
1- محمد بن
الفرج، عند الإسماعيلي.
2- محمود بن
آدم المروزي، عند البيهقي.
3- هشام بن
عمار، عند الطحاوي.
وكلهم ثقات،
وهذه تراجمهم نقلاً من ((التقريب)):
1- وهو القرشي
مولاهم البغدادي، صدوق من شيوخ مسلم.
2- صدوق من
شيوخ البخاري فيما ذكر ابن عدي.
3- صدوق مقرىء
كبر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح، من شيوخ البخاري أيضاً.
قلت: فموافقته
للثقتين اللذين قبله دليل على أنه قد حفظه، فلا يضرهم من تردد في رفعه أو أوقفه،
لأن الرفع زيادة من ثقات يجب قبولها..".
[58] علل الترمذي: (1/92).
[59]
سنن أبي داود، كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض، (2/333) رقم (2473).
[60]
السنن الكبرى: (4/321).
[61] مصنف
ابن أبي شيبة: (2/336).
[62]
مصنف عبدالرزاق: (4/346).
[63] تنقيح
التحقيق: (2/372).
[64] السنن
الكبرى: (4/316).
[65]
الموطأ: (1/313).
[66]
الاستذكار: (3/385).
[67] المحلى:
(5/193).
شاركنا تعليقك