الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«القَوْلُ الجَمِيل» فِي بَيَان الاختلاف حول حديث: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيل»!

القَوْلُ الجَمِيل فِي بَيَان الاختلاف حول حديث: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيل»!

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واتبع هداهم إلى يوم الدِّين، أما بعد:

فإن حديث: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» حديث مشهور، ويُعدّ أصلاً في التحذير من الدنيا، وقصر الأمل، وقد خرّجه الإمام البخاري في «صحيحه»، لكن تكلّم فيه بعض أهل الحديث، وقالوا بأن الحديث يرجع لراو ضعيف، وقد دلّسه الأعمش، وكان مشهوراً بالتدليس!

ومن خلال هذا البحث، سأبيّن - بإذن الله - اختلاف أهل العلم حول هذا الحديث، ثم أرجّح الصواب فيه اعتماداً على الأدلة، والقرائن العلمية.

·       رواية البخاري:

روى الإمام البخاري في «صحيحه»، بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، (8/89) (6416) قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِاللَّهِ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ أَبُو المُنْذِرِ الطُّفَاوِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ».

ورواه العقيلي في كتاب «الضعفاء» (3/239) عن العَبَّاس بن عبدالله بن السِّنْدِيِّ الأنطاكيّ، ومُحَمَّد بن أَيُّوبَ بنِ يَحْيَى بنِ الضُّرَيْسِ الرازيّ.

والبيهقي في «شعب الإيمان» (12/474) (9764) من طريق مُحَمَّد بن مُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمَانَ البَاغَنْدِيّ.

وابن البخاري فخر الدين المقدسي الحنبلي في «مشيخته» [تخريج: جمال الدين ابن الظاهري الحنفي] (3/1661) (990) من طريق عُبَيْداللَّهِ بن عُثْمَانَ بنِ مُحَمَّدٍ العُثْمَانِيّ.

أربعتهم (ابن السندي، وابن الضريس، والباغندي، والعثماني) عن عَلِيّ بن المَدِينِيِّ، به.

وهؤلاء الثلاثة تابعوا البخاري في ذكر ابن المديني تصريح الأعمش بسماعه له من مجاهد: "عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابنِ عُمَرَ".

وغيره يرويه عن الطَّفَاوِيّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بالعنعنة!

رواه ابن أبي عاصم في كتاب «الزهد» (ص: 92) (185). والطبراني في «المعجم الكبير» (12/398) (13470). والبيهقي في «شعب الإيمان» (12/473) (9763) من طريق الحَسَن بن مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ. كلاهما (الطبراني، والحسن) عن يُوسُف بن يَعْقُوبَ القَاضِي. وابن حبان في «روضة العقلاء» (ص: 148) عن الحسن بن سُفْيَانَ الشَّيْبَانِيّ. وأبو نُعيم في «الحلية» (3/301) من طريق عَبْداللهِ بن أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ. أربعتهم (ابن أبي عاصم، ويوسف القاضي، والحسن بن سفيان، وعبدالله بن أحمد) عن مُحَمَّد بن أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيّ.

ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب «قصر الأمل» (ص: 26) (2). والعقيلي في كتاب «الضعفاء» (3/239) عن مُحَمَّد بن عَبْدِاللَّهِ الحَضْرَمِيّ مُطيّن. والطبراني في «المعجم الكبير» (12/398) (13470) عن مُحَمَّد بن السَّرِيِّ بنِ مِهْرَانَ النَّاقِد. وأبو الحسن الخلعي في «الفوائد المنتقاه الحسان الصحاح والغرائب = الخلعيات» [تخريج أحمد بن الحسن الشيرازي، رواية أبي محمد السعدي] (903) من طريق عَبْداللهِ بن أَحْمَد بن إبراهيم الدورقي. كلهم (ابن أبي الدنيا، ومطين، وابن السري، والدورقي) عن عَمْرو بن مُحَمَّدِ بنِ بُكَيْرٍ النَّاقِد.

ورواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (3/242) (677). وابن حبان في «صحيحه» (2/471) (698)، و(5/375) (4580) عن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ بنِ إِسْمَاعِيلَ البُستيّ القاضي. كلاهما (الحكيم، وإسحاق) عن الحَسَنِ بن قَزَعَةَ البصريّ.

ثلاثتهم (المقدّمي، والنّاقد، وابن قزعة) عن مُحَمَّد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ الطَّفَاوِيّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، به.

قال أبو نُعيم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ".

قلت: إن قصد بقوله: "متفق عليه" يعني أخرجه البخاري ومسلم، فهذا وهم! لم يُخرّجه مسلم.

وقال طارق عوض الله في تحقيقه لكتاب ابن رجب «جامع العلوم والحكم» (ص709) في الحاشية: "قوله: «متفق عليه»: يعني اتفاق أصحاب الأعمش على روايته عن الأعمش، وإلا فالحديث لم يخرّجه مسلم"!

قلت: هذا فيه نظر! فالأصل في قول "متفق عليه" = يعني اتفق البخاري ومسلم على تخريجه، وهذا قصد أبي نُعيم في كتابه، ومن تتبع ذلك عنده وجد ذلك، وإذا أراد أن أصحاب الراوي اتفقوا عليه يُصرّح بذلك ويقول: "متفق عليه من حديث فلان...".

ولا توجد أي إشارة إلى أن أبا نُعيم قصد بأن أصحاب الأعمش اتفقوا في روايتهم عنه! فهذا واضح ولا يحتاج لأن يقول في ذلك: "متفق عليه"! والله أعلم.

وهذا الحديث كان يسأل عنه بعض أهل العلم بعض الرواة، فجاء في رواية ابن حبان قال: وقَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ الحَسَنُ بنُ قَزَعَةَ: "مَا سَأَلَنِي يَحْيَى بنُ مَعِينٍ إِلاَّ هَذَا الحَدِيثَ".

وكأن ابن معين - رحمه الله - كان يرى أنّ فيه مشكلة، والله أعلم.

فالحديث رواه هؤلاء الثلاثة (المقدّمي، والنّاقد، وابن قزعة) عن الطفاوي بالعنعنة بين الأعمش ومجاهد، وخالفهم ابن المديني فذكر التحديث بينهما! ولهذا خرّجه البخاري في «صحيحه».

·       اعتراض بعض أهل العلم على البخاري لتخريجه هذا الحديث في «صحيحه»!

وقد ذكر العقيلي «ابن المديني» في كتابه «الضعفاء» (3/235) (1237) قال: "عَلِيُّ بنُ عَبْدِاللَّهِ بنِ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ: جَنَحَ إِلَى ابْنِ أَبِي دؤادٍ وَالجَهْمِيَّةِ، وَحَدِيثُهُ مُسْتَقِيمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ".

وذكره له في «الضعفاء» لا يعني أنه يُضعّفه، وهذا لا يخطر ببال أحد، فابن المديني لا يحتاج إلى توثيق، وهو إمام أئمة العلل، وإنما ذكره لمذهبه، وأنه كان يميل إلى مذهب ابن دؤاد، وكان أجاب - رحمه الله - في فتنة خلق القرآن!

·       ذكر العقيلي لابن المديني في «الضعفاء»!

والعقيلي كغيره ممن صنّف في ضعفاء الرجال يوردون كلّ من تُكلّم فيه، ويذكرون أيضاً المبتدعة، ومن نُسب إلى مذهب ما، ولهذا ذكره العقيلي في كتابه.

وقد صرّح العقيلي بأنه مستقيم الحديث حتى لا يُظنّ أنه يضعفّه.

ولذكاء العقيلي - رحمه الله - وقوة استحضاره ذكر هذا الحديث في ترجمته؛ لأنه لا يُعرف أن ابن المديني أُخذ عليه شيئاً في روايته.

فساق العقيلي هذا الحديث في ترجمته كما رواه البخاري، ثم ساق حديث عَمْرو النَّاقِد من رواية مُطيّن الحضرمي.

ثم قال: وقَالَ الحَضْرَمِيُّ: قَالَ لَنَا عَمْرُو بنُ مُحَمَّدٍ - وَذَكَرَ عَلِيَّ بْنَ المَدِينِيِّ وَقَالَ: "زَعَمَ المَخْذُولُ فِي هَذَا الحَدِيثِ أَنَّهُ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، وَإِنَّمَا يَرْوِيهِ الْأَعْمَشُ، أَخَذَهُ مِنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ".

·       كلام عمرو الناقد في ابن المديني!

قلت: فهذا الكلام في ابن المديني من عمرو الناقد، وإنما العقيلي نقله فقط في ترجمته، وقد تكلّم فيه عمرو بسبب إجابته في مسألة خلق القرآن فسمّاه "مخذولاً" بسبب ذلك = أي أنه بسبب إجابته في هذه المسألة فقد خذل نفسه، وبيّن أنه أخطأ في ذكر السماع في هذا الحديث؛ لأنه هو نفسه سمع الحديث من الطفاوي، ولم يذكر فيه السماع بين الأعمش ومجاهد.

وعمرو (ت 232هـ)، وابن المديني (ت 234هـ) قرينان.

فعمرو الناقد يرى أن هذا الحديث هو حديث لَيْثِ بنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وأخذه عنه الأعمش ثم دلّسه!

·       رأي ابن حبان في الحديث:

وقال ابن حبان في «روضة العقلاء» (ص: 149) بعد أن ساق الرواية المعنعنة: "قد مكثت برهة من الدهر مُتوهماً أَنَّ الأَعْمَشَ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الخَبر مِنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ فَدَلَّسَهُ، حَتَّى رَأَيْتُ عَلِيَّ بنَ المَدِينِيِّ حدَّثَ بهذا الخَبر عَنِ الطُّفَاوِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ: حدثني مجاهد، فعلمت حينئذ أنَّ الخبرَ صحيحٌ لا شك فيه، ولا امتراء في صحته".

قلت: فابن حبان اعتمد على ذكر ابن المديني لصيغة التحديث بين الأعمش ومجاهد لنفي تدليس الأعمش له.

·       رأي ابن رجب الحنبليّ:

وقال الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحِكَم» (3/1123): "هذا الحديث خرَّجه البخاري عن عليِّ بن المديني، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ عبدالرحمن الطفاوي، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثني مجاهد، عن ابن عمر، فذكره، وقد تكلم غيرُ واحد من الحفّاظ في لفظة: «حدثنا مجاهد»، وقالوا: هي غيرُ ثابتة، وأنكروها على ابن المديني وقالوا: لم يسمع الأعمش هذا الحديث من مجاهد، إنما سمعه من ليث بن أبي سُليم عنه، وقد ذكر ذلك العقيليُّ وغيره. وخرَّجه الترمذي من حديث ليثٍ عن مجاهد، وزاد فيه: «وعُدَّ نفسك من أهل القبور»، وزاد في كلام ابن عمر: «فإنَّك لا تدري يا عبدالله ما اسمُك غداً». وخرَّجه ابنُ ماجه، ولم يذكر قولَ ابن عمر. وخرَّج الإمام أحمد، والنَّسائي، من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لُبابة، عن ابن عمر، قال: أخذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال: «اعبدِ الله كأنَّك تراه، وكُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ، أو عابرُ سبيل». وعبدة بن أبي لُبابة أدرك ابنَ عمر، واختلف في سماعه منه".

قلت: لم يبن الحافظ ابن رجب عن رأيه في هذا الحديث، وإنما ذكر أن هناك من أهل العلم من أنكر لفظة «حدثنا مجاهد»، وأنها غير ثابتة، وإنما سمعه الأعمش من ليث بن أبي سليم، ودلّسه. ثم ذكر روايات الحديث الأخرى عن ابن عمر، ولم يُرجّح شيئاً!

·       رأي الحافظ ابن حجر:

وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (11/233): "«قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ» هَكَذَا تَرْجَمَ بِبَعْضِ الخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى ثُبُوتِ رَفْعِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَنَّ مَنْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا قَصَّرَ فِيهِ".

قلت: لا يُعرف أن أحداً رواه موقوفاً! فكلّ من رواه رفعه، ومن منهج الإمام البخاري أنه يستخدم أحياناً جزءاً من الحديث كترجمة دون أن يكون هناك اختلاف في إسناده، والله أعلم.

وأشار العيني إلى قول ابن حجر ولم يتعقبه!

قال في «عمدة القاري» (23/33): "أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «كن فِي الدُّنْيَا» إِلَى آخِره، وَهَذِه تَرْجَمَة بِبَعْض حَدِيث البَاب. قيل: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن حَدِيث الْبَاب مَرْفُوع، وَأَن من رَوَاهُ مَوْقُوفا قصر فِيهِ".

قال ابن حجر في الموضع السابق: "قَوْلُهُ: «عَنِ الْأَعْمَشِ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ» أَنْكَرَ العُقَيْلِيُّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَهِيَ: «حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ»، وَقَالَ: إِنَّمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ بِصِيغَةِ «عَنْ مُجَاهِدٍ»، كَذَلِكَ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْأَعْمَشِ عَنْهُ، وَكَذَا أَصْحَاب الطفَاوِي عَنهُ، وَتفرد ابن المَدِينِيِّ بِالتَّصْرِيحِ، قَالَ: وَلَمْ يَسْمَعْهُ الْأَعْمَشُ مِنْ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سليم عَنهُ، فدلَّسه. وَأخرجه ابن حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ طَرِيقِ الحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِالْعَنْعَنَةِ، وَقَالَ: قَالَ الحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ: مَا سَأَلَنِي يَحْيَى بْنُ معِين إلا عَن هَذَا الحَدِيث. وَأخرجه ابن حِبَّانَ فِي «رَوْضَةِ العُقَلَاءِ» مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ عَنِ الطُّفَاوِيِّ بِالْعَنْعَنَةِ أَيْضًا، وَقَالَ: (مَكَثْتُ مُدَّةً أَظُنُّ أَنَّ الْأَعْمَشَ دَلَّسَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ لَيْثٍ حَتَّى رَأَيْتُ عَلِيَّ بنَ الْمَدِينِيِّ رَوَاهُ عَنِ الطُّفَاوِيِّ فَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ) يُشِيرُ إِلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الَّتِي فِي البَابِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأخرجه ابن عَدِيٍّ فِي «الكَامِلِ» مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَيْثٌ وَأَبُو يَحْيَى ضَعِيفَانِ، وَالعُمْدَةُ عَلَى طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى: أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ ابن عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي الحَدِيثَ الْمَذْكُورَ؛ لِأَنَّ رُوَاتَهُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ اخْتلف فِي سَماع عَبدة من ابن عُمَرَ".

قلت: يرى ابن حجر صحة الحديث عن الأعمش عن مجاهد، وقوّاه برواية عبدة عن ابن عمر، وإن كان اختلف في سماعه من ابن عمر!

ونسبة ابن حجر إنكار العقيلي له وأنه قال: "إِنَّمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ بِصِيغَةِ «عَنْ مُجَاهِدٍ»" فيه نظر! فهذا الإنكار والقول من عمرو الناقد كما بينته آنفاً، وإنما العقيلي ذكر هذا في ترجمة ابن المديني لما بينته من ذكره له في كتابه.

وكأن ابن حجر تنبّه لهذا بعد فنسبه لعمرو الناقد في «النكت الظراف» [المطبوع مع «تحفة الأشراف» (6/28)، فقال: "ووقع عند البخاري: الأعمش: حدثنا مجاهد. وأنكر ذلك عمرو بن محمد الناقد على علي بن المديني، وقال: إنما حدثنا الطفاوي بالعنعنة. أخرجه العقيلي في «الضعفاء»، قال: وإنما نرى الأعمش أخذه عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد. قلت: وللحديث شاهد أخرجه النسائي من رواية عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر".

قلت: يُحتمل أن يكون هذا هو رأي العقيلي أيضاً، وأنه يرى أن الحديث دلّسه الأعمش وإنما سمعه من ليث؛ لأنه لم يتعقب عمرو الناقد في قوله، وهذا هو الظاهر إيراده ذلك في ترجمة ابن المديني، والله أعلم.

·       رأي بعض المعاصرين:

وقد أورد الألباني الحديث في «صحيحته» (3/147) (1157)، وقال: "وقد تكلّم العقيلي في هذا الإسناد وأنكر هذه اللفظة وهي: «حدثني»، وقال: (إنما رواه الأعمش بصيغة «عن مجاهد» كذلك رواه أصحاب الأعمش عنه). قلت: ويؤيده أن الإمام أحمد رواه (2/24) عن سفيان وهو الثوري و(2/41) عن أبي معاوية كلاهما عن ليث عن مجاهد به. وأخرجه ابن عدي في «الكَامِلِ» (73/2 و152/2) من طريق حماد بن شعيب عن أبي يحيى القتات عن مجاهد. قال الحافظ: (ليث وأبو يحيى ضعيفان، والعمدة على طريق الأعمش)، فلم يلتفت إلى كلام العقيلي. والحديث صحيح على كل حال فإن له طريقا أخرى على شرط الشيخين بلفظ: «اعبد الله كأنك تراه»".

قلت: نقل الألباني كل هذا من كلام ابن حجر في «الفتح» وتبعه عليه! وقد بينت أن هذا الكلام لم يقله العقيلي، وإنما هو لعمرو الناقد. وتبع ابن حجر أيضاً في تقويته للحديث.

وقال طارق عوض الله في تحقيقه لكتاب ابن رجب «جامع العلوم والحكم» (ص709) في الحاشية: "كاني أميل إلى أن الخطأ من الطفاوي، وليس من ابن المديني، فلعله كان يضطرب فيه، فيرويه تارة بالعنعنة، وتارة بلفظ التحديث، فإنه لم يكن بالحافظ".

قلت: هذا لا دليل عليه! ومقتضى ذلك أن الطفاوي حدّث به أكثر من مرة! وهذا أيضاً يحتاج لدليل! وإنكار عمرو الناقد على ابن المديني ذلك - وهو قرينه - يوحي بأنهما سمعا الحديث من الطفاوي معاً، وإلا لما كان ينبغي له إنكار ذلك عليه! والذي يظهر لي أنهما سمعا الحديث منه في البصرة، فابن المديني بصري، وعمرو بغدادي، لكنه رحل للبصرة، وسمع من أهلها، وقد نزل الطفاوي بغداد، لكن يظهر أنه لم يُحدّث بهذا الحديث هناك، فقد روى عنه أحمد بن حنبل، وقَالَ: "قدم علينا سنة اثنتين وثمانين ومائة، فسمعنا منه، ولم أسمع منه بالبصرة" = يعني سمع منه في بغداد لما قدم عليهم، ولم يرو أحمد هذا الحديث عنه، ولو كان حدّث الطفاوي به في بغداد لسمعه منه أحمد، وهذا يدلّ على أن عمرو الناقد سمعه منه في البصرة مع ابن المديني، والله أعلم.

وقد تقدم النقل عن ابن حجر ما فهمه من كلام عمرو الناقد عندما أنكر لفظ التحديث على ابن المديني: "وقال: إنما حدثنا الطفاوي بالعنعنة" = وهذا يقتضي أنهما سمعا الحديث من الطفاوي سوية، والله أعلم.

وكنت قديماً ذاكرت هذا الحديث مع أستاذنا أسعد تيم، وذهب إلى أن الأعمش دلّسه عن ليث بن أبي سُليم، واستدل بأن سفيان ووكيع روياه عن ليث، وسفيان كان أعلم بحديث الأعمش من الأعمش نفسه، وهو لا يدلّس عن الأعمش = يعني أنه لو لم يُدلّسه الأعمش لرواه سفيان عنه، لكنه صحح الحديث من رواية الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر، وقال بأن هذه الطريق صحيحة، وطريق البخاري مُدلّسة، ثم قال بأنا لا نقول إن رواية الأوزاعي تقوّي رواية الأعمش؛ لأن الأعمش تبيّن تدليسه له = يعني أن الحديث صحيح من رواية عبدة، هذا حاصل ما قاله الأستاذ! وفيما قاله نظر! وسيأتي الكلام على رواية عبدة عن ابن عمر إن شاء الله.

وصحح الحديث البغوي في «شرح السنة» (14/231) فقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِي المُنْذِرِ الطُّفَاوِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ".

·       حال محمد بن عبدالرحمن الطفاويّ!

ومحمد بن عبدالرحمن الطفاوي صدوق يَهم أحياناً.

قال عباس الدُّوري: سمعتُ يحيى يقول: "محمد بن عبدالرَّحمَن الطُّفَاوي: ليس به بأسٌ".

وقال إِسحاق بن مَنصور، عن يحيى بن مَعين: "محمد بن عبدالرَّحمَن الطُّفَاوي: صالحٌ".

وقال علي بن الحُسَين بن حِبَّان: وجدتُ في كتاب أَبي بخط يده، سُئل أَبو زكريا - يعني يحيى بن مَعين، عن محمد بن عبدالرَّحمَن الطُّفَاوي؟ فقال: "قَدِمَ هاهُنا، لم يكن به بأسٌ، البَصريون يَرضَونَهُ".

وقال أحمد: "كان يُدلِّس".

وقال علي بن المديني: "كان ثقة".

وقال أبو حاتم: "ليس به بأس، صدوق صالح، إلا أنه يهم أحياناً".

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة - وذكر محمد بن عبدالرحمن الطفاوي، فقال: "هو منكر الحديث".

وقال البرذعي: قلتُ - أي: لأبي زرعة -: مُحَمَّد بن عَبدالرحمن الطفاوي؟ قَال: "ينكر، إلا أن أحمد حَدَّثنا عنه".

قلت: عادة ابن أبي حاتم أنه يذكر أقوال أبي زرعة مما سأله إياه البرذعي، وهذا منها، فنقل قوله في الطفاوي: "منكر الحديث"، وعند البرذعي: "ينكر".

وسأل ابن ابي حاتم أبا زرعة في «العلل» (1/401) عن حديث رواه الطُّفَاوي، وبيّن له أنه وهم فيه، ثم سأله عن حاله، فقال: "صَدُوقٌ، إلاَّ أَنَّهُ يَهِمُ أَحْيَانًا".

وقال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (9/309): "وفي «العلل» لابن أبي حاتم: قال أبو زرعة: الطفاوي صدوق إلا أنه يهم أحياناً".

·       وهم لابن أبي حاتم في النقل!

قلت: كأن ابن أبي حاتم وهم في نقله هذا عن أبي زرعة! فإن هذا القول في الطحاوي هو قول أبيه في «الجرح والتعديل»، ولو كان هذا من قول أبي زرعة لنقله أيضاً في «الجرح والتعديل»، وإنما نقل عنه: "منكر الحديث"، وهو الصواب عنه.

·       وهم للذهبي!

وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (4/962): "وقال أبو زُرْعة: مُنْكَر الحديث. وقاله أبو حاتم".

وقال في «الميزان» (3/618): وقال أَبو حاتم: منكر الحديث. وكذا جاء عن أبي زرعة".

قلت: هذا وهم منه، فأبو حاتم لم يقل فيه "منكر الحديث"!

·       وهم لابن حجر!

وقال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (9/309): "وقال أبو حاتم الرازي أيضاً: ضعيف الحديث".

قلت: هذا وهم منه، فأبو حاتم لم يقل فيه: "ضعيف الحديث"! بل قال: "صدوق صالح".

وقال الآجري: سألتُ أَبا داود، عن مُحمد بن عبدالرحمن الطفاوي، فقال: "ليس به بأسٌ".

وقال ابن حبان في «مشاهير علماء الأمصار» (ص: 256) (1283): "محمد بن عبدالرحمن الطفاوي أبو المنذر، من جِلّة أهل البصرة، ممن كان يُغرب".

وذكره في «الثقات» (7/442) وقال: "وَكَانَ يغلو فِي التَّشَيُّع".

وقال الحاكم في «سؤالاته» للدارقطني (ص: 179) (475) قُلْتُ: مُحَمَّد بن عبدالرَّحْمَن الطُّفَاوِيُّ؟ قَالَ: "قد احْتَجَّ به البُخَارِيُّ".

وقال الذهبي في «الميزان»: "شيخ مشهور ثقة. روى عنه أَحمد بن حنبل والناس".

·       وهم لابن عدي!

وذكره ابن عدي في «الكامل» (9/225) وساق له اثني عشر حديثاً غرائب، ثم قال: "وللطفاوي هذا غير ما ذكرت من الحديث، ورواياته عامة عَمَّن رواه أفرادات وغرائب، وكلها مما يحتمل ويُكتب حديثه، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً، وأخرجته في جملة من سُمِّي مُحمد بن عَبدالرحمن لأجل أحاديث أيوب التي ذكرتها التي ينفرد بها، وكل ذلك محتمل لا بأس به".

قلت: قوله: "ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً" عجيب غريب!! فكلام الأئمة المتقدمين فيه كثير كما سبق نقله! فلا أدري كيف فاته هذا! وقد بدأ ترجمته بذكر الأحاديث دون نقله أي قول لأهل العلم فيه، ولهذا قال: "ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً"! فوهم - رحمه الله -.

·       تنبيه!

وقال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (9/309): "وقال ابن حبان عن ابن معين: لم يكن به بأس، البصريون يرضونه".

قلت: ابن حبان هذا ليس بأبي حاتم المعروف صاحب «الصحيح»، و«الثقات»، وإنما هو: الحُسَيْن بن حبان بن عمّار بن واقد صاحب يَحْيَى بن معين، وكان كتابه عن ابن معين عند ابنه عليّ. ومنه ينقل الخطيب في «تاريخه».

وهذا نقله الخطيب في «تاريخه» (3/533) قال: أَخْبَرَنَا أحمد بن محمد بن عبدالله الكاتب، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن حميد المخرمي، قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن الحسين بن حبان، قَالَ: وجدت في كتاب أبي بخط يده: سئل أبو زكريا، - يعني: يحيى بن معين، عن محمد بن عبدالرحمن الطفاوي، فقال: "قدم علينا ههنا، لم يكن به بأس، البصريون يرضونه".

وأقرب الأقوال فيه ما قاله ابن حجر في «التقريب»: "صدوق يَهِمُ"!

·       تعقّب صاحبي «التحرير»!

ولا يُلتفت إلى تعقب صاحبي «تحرير تقريب التهذيب» (3/281) عليه بقولهما: "بل: صدوق حسن الحديث، فقوله: «يهم» لا معنى له بعد أن أنزل إلى مرتبة «الصدوق»، وقد وثقه ابن المديني، وقال ابن معين في رواية، وأبو داود وأبو حاتم وابن عدي: ليس به بأس. زاد أبو حاتم: صدوق صالح إلا أنه يهم أحيانًا. وضعّفه أبو زرعة في رواية، وقال في أخرى: صدوق إلا أنه يهم أحيانًا. وقال الدارقطني مقويًا لأمره: قد احتج به البخاري. وقال الذهبي في «الميزان»: شيخ مشهور ثقة".

قلت: بل له معنى، وقولهما لا معنى له! فالصدوق يوصف بالوهم، فيقال فيه: "صدوق يهم"، وقد استخدم هذا المصطلح الفلاس، والساجي في بعض الرواة.

وها هما نقلا قول أبي حاتم فيه: "صدوق صالح إلا أنه يهم"، وعن أبي زرعة: "صدوق إلا أنه يهم أحياناً"، وهذا مثل قول ابن حجر: "صدوق يهم" لا فرق بينهما، مع التنبيه على أن ما نقل عن أبي زرعة لا يصح عنه!

وانظر إلى تدليسهما بقولهما: "وضعّفه أبو زرعة في رواية"! فإنهما أرادا تخفيف القول فيه بقولهما هذا! والأصل أن ينقلا قوله فيه: "منكر الحديث"! وفرّق كبير بين المصطلحين.

ومن عادتهما أنهما لا ينقلان القوال التي تنقض قولهما! وهذا أيضاً من باب التدليس، وقد نقلت آنفاً كل ما قيل فيه مما يجعل قول ابن حجر فيه هو أقرب الأقوال إلى الصواب.

قال ابن حجر في «مقدمة الفتح» (1/440) بعد أن نقل كلام أهل العلم فيه: "لَهُ فِي البُخَارِيّ ثَلَاثَة أَحَادِيث لَيْسَ فِيهَا شَيْء مِمَّا استنكره ابن عدي: أَحدهمَا: فِي البيُوع عَن أبي الْأَشْعَث عَنْهُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالُوا: «إِن قوماً يأتوننا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي، أذكروا اسْم الله عَلَيْهِ أم لَا، قَالَ: سموا الله عَلَيْهِ وكلوه»، وَتَابعه عِنْده أَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَأُسَامَة بن حَفْص وَغَيرهمَا. ثَانِيهَا: فِي البيُوع أَيْضاً عَن عَليّ بن المَدِينِيّ عَنهُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيث: «أَعْطَيْت جَوَامِع الكَلم»، ثَالِثهَا: فِي الرقَاق عَن عَليّ عَنهُ، عَن الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، عَن ابن عمر حَدِيث: «كن فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيب» الحَدِيث، فَهَذَا الحَدِيث قد تفرد بِهِ الطفَاوِي، وَهُوَ من غرائب الصَّحِيح، وَكَأن البُخَارِيّ لم يُشدد فِيهِ لكَونه من أَحَادِيث التَّرْغِيب والترهيب، وَالله أعلم، ثمَّ وجدت لَهُ فِيهِ مُتَابعًا فِي «نَوَادِر الْأُصُول» للحكيم التِّرْمِذِيّ من طَرِيق مَالك بن سُعير، عَن الْأَعْمَش، وَالله أعلم، وعلق لَهُ غير هَذِه، وروى لَهُ أَصْحَاب السّنَن الثَّلَاثَة".

·       من أوهام الطفاوي!

قلت: كان يهم في بعض الأحاديث ويُخطئ، ومن ذلك:

1- ما ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (1/400) (7) قال: وسألتُ أَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمي، عَنْ محمد بن عبدالرحمن الطُّفَاوي، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عليٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم - فِي الوُضُوء- أَنَّهُ قَالَ: «هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ»؟

قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هَذَا خطأٌ؛ إِنَّمَا هو: الأعمش، عن عبدالملك بْنِ مَيْسَرة، عَنِ النَّزَّال، عَنْ علي، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قلتُ لأَبِي زُرْعَةَ: الوَهَمُ مِمَّن هُوَ؟ قَالَ: مِنَ الطُّفَاوي.

وقال الدارقطني في «العلل» (4/140): "وَاخْتُلِفَ عَنِ الْأَعْمَشِ، فَرَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْأَبَّارُ، وَمُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ سَلَّامُ بنُ سُلَيْمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِالمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ. وَخَالَفَهُمْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ، وَوَهِمَ فِيهِ، رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَلِيٍّ. وَالصَّوَابُ حَدِيثُ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ".

2- ومنها أيضاً ما ذكره ابن أبي حاتم أيضاً في «العلل» (5/13) (1771) قال: وسُئِلَ أَبِي عَنْ حديثِ أَبِي المُنْذِرِ محمدِ بن عبدالرحمن الطُّفَاويِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُروَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ}؛ قَالَ: أمَرَ اللهُ نبيَّهُ أنْ يَأْخُذَ العَفْوَ مِنْ أخلاقِ الناسِ.

وَرَوَاهُ أَبُو معاويةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بنِ كَيْسَانَ؛ قال: سمعتُ عبدالله بْنَ الزُّبَير يقولُ؟

قَالَ أَبِي: "هذا أَشبهُ" - يعني حديث أبي معاوية.

3- ومنه ما ذكره الدارقطني في «العلل» (1/265) (57) - وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: «أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْلِفُ فَيَحْنِثُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ اليَمِينِ» - قال: "هُوَ حَدِيثٌ يَرْوِيهِ هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، عَنْ أَبِي بَكْرٍ.

حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ جَرِيرُ بنُ عَبْدِالْحَمِيدِ، وَأَبُو ضَمْرَةَ، وَشَرِيكٌ، وَابنُ هِشَامِ بْنُ عُرْوَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ كَذَلِكَ.

وَخَالَفَهُمْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَهِمَ فِيهِ.

والقَوْلُ قَوْلُ جَرِيرٍ وَمَنْ تابعه".

4- ومنها أيضاً ما ذكره الدارقطني في «العلل» (6/127) (1026) - وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ بِالْأَعْرَافِ» - قال: "يَرْوِيهِ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:

فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَزَيْدٌ.

وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ هِشَامٍ، مِنْهُمْ: عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَوَكِيعٌ، وَغَيْرُهُمْ، فَقَالُوا: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَوْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، عَنْ هِشَامٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ".

5- ومنها ما ذكره الدارقطني أيضاً في «العلل» (14/164) (3506) - وسئل عن حديث عروة، عن عائشة: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حلف على يمين لم يحنث، حتى نزلت كفارة اليمين، فقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت يميني» - قال: "يَرْوِيهِ هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:

فرواه مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ، عَنْ هِشَامٍ بن عروة، عن أبيه، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ووهم في رفعه.

وخالفه يحيى القطان، ومفضل بن فضالة، والليث بن سعد، وأبو معاوية الضرير، والثوري، والنضر بن شميل، وعمرو بن الحارث، وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي، فرووه عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن أبا بكر كان إذا حلف... وهو الصحيح".

فهذه خمسة أوهام لمحمد بن عبدالرحمن الطفاوي، فهو كما قال أبو حاتم وغيره: "صدوق، وكان يهم أحياناً".

·       محمد بن عبدالرحمن آخر عن الأعمش!

وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/480) (56) قال: وسألتُ أَبِي عَن حديثٍ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ محمد بن عبدالرحمن، عَن الأعمَش، عَنْ يَحْيَى بْنِ الجَزَّار، عن علي؛ قَالَ: كنتُ رجلا مَذَّاءً، فاستَحْيَيْتُ أنْ أسألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأمرتُ المِقْدَادَ بْن الأسود أن يسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟

قَالَ أَبِي: هَذَا خطأٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ؛ إِنَّمَا هُوَ: الأعمَش، عَن مُنْذِر الثوري، عَنِ ابْنِ الحنفيَّة، عَن عَليّ.

قلتُ لأَبِي: مَن محمَّد بن عبدالرحمن هَذَا؟

قَالَ: "لا أعرفُهُ، ولا أعرفُ أحدًا يُقالُ لَهُ: محمَّد بن عبدالرحمن يحدِّثُ عَن الأعمش، ومحمدُ بنُ عبدالرحمن الكوفيُّ هُوَ ابنُ أَبِي لَيْلَى، ولا أعلمُ ابنَ أَبِي لَيْلَى روى عَن الأعمش شَيْئًا".

وقد تعقّبه أبو إسحاق الحويني كما في «نثل النبال بمعجم الرجال» (3/224) (3446) قال: "محمد بن عبدالرحمن: عن الأعمش، وعنه سعيد بن بشير. قال أبو حاتم في «العلل» (رقم 56): "لا أعرفه، ولا أعرف أحدًا يقالُ له: محمد بن عبدالرحمن يُحدِّثُ عن الأعمش. ومحمد بن عبدالرحمن الكوفي هو ابنُ أبي ليلى، ولا أعلمُ ابنَ أبي ليلى روى عن الأعمش شيئًا". انتهى. قلتُ: رضي الله عنك! فقد روى عن الأعمش: محمد بن عبدالرحمن الطُّفاوي، ووقع حديثُه عند البخاريّ في «الرقاق» (11/233) [يعني: حديث «كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل»]. وروى حديثًا آخر عن الأعمش في الوضوء، ذكره ابنُ أبي حاتم في «العلل» (رقم 7)" انتهى.

قلت: نعم، روى محمد بن عبدالرحمن الطفاوي عن الأعمش، وتعميم أبي حاتم فيه نظر! لكن تعقّب الحويني له لا يصح!

فمحمد بن عبدالرحمن هذا ليس هو الطفاوي الذي يروي عن الأعمش، وهو مجهول لا يعرف كما قال أبو حاتم.

فسعيد بن بشير أصله بصري (ت 168هـ) وهو يروي عن محمد بن عبدالرحمن، عن الأعمش، والأعمش من شيوخ سعيد بن بشير، ولا يروي عنه بواسطة!

والطفاوي (ت 187هـ) أي مات بعد سعيد بن بشير بنحو (20) سنة، فلو كان الطفاوي حدّث به عن الأعمش لرواه غيره عنه!

فطبقة سعيد بن بشير أقدم من طبقة الطفاوي، ولهذا لم يخطر ببال ابن حجر أنه هو.

قال في «اللسان» (7/286) (7063): "محمد بن عبدالرحمن عن الأعمش. روى عنه: سعيد بن بشير حديثا إسناده خطأ.

قال أبو حاتم في «العلل»: لا أعرفه، وَلا أعرف أحداً يقال له: محمد بن عبدالرحمن يُحدِّث عَن الأَعمش، وأما محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى الكوفي لا أعرف له رواية عن الأعمش.

قلت: لا أبعد أن يكون هو فإن له معه قصة قال فيها ابن أبي ليلى: الأعمش أستاذنا ومعلمنا، وفي الحصر نظر لأن المذكور بعده يرد عليه" انتهى.

قلت: أستبعد أن يكون ابن أبي ليلى، وليس هو الطفاوي، وسعيد بن بشير ضعيف لا يُحتج به، فلعله أخطأ في هذا الحديث، وهو الظاهر، والله أعلم.

·       هل تفرد الطفاوي بهذا الإسناد؟

والحديث عن الأعمش عن مجاهد معروف من رواية الطفاوي، وقد رُوي عن الأعمش من طريق آخر:

رَوَاهُ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، فِي «نَوَادِرِهِ» (3/242) (678) عَنْ يَحْيَى بنِ حسّانَ النَّخَعِيِّ الكوفيّ.

وابن الأعرابي في «معجمه» (2/505) (979). والقضاعي في «مسند الشهاب» (1/373) (644) من طريق أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ زِيَادٍ. كلاهما (ابن الأعرابي، وأحمد بن محمد) عن أَحْمَد بن عُبَيْدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّخَعِيّ الفريابيّ، عن مُؤَمَّل بن إِهَابٍ. [ورواه الخطابي في كتاب «العزلة» (ص: 39) عن ابن الأعرابي].

وأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ الْآجُرِّيُّ في كتاب «الغرباء» (ص: 31) (20) عن أَبي بَكْرٍ عَبْداللَّهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالحَمِيدِ الوَاسِطِيّ، عن أَحمد بن مُحَمد بن أَبي بَزَّة المُقرِئ مُؤَذِّن المَسْجِدِ الحَرَامِ.

ثلاثتهم (يحيى بن حسان، ومؤمل بن إهاب، وابن أبي بزّة) عن مَالِك بن سُعَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ كَأَنَّكَ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَصْحَابِ الْقُبُورِ».

قال ابن حجر في «إتحاف المهرة» (8/642): "قُلْتُ: وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ الطُّفَاوِيُّ، فَقَدْ رَوَاهُ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، فِي «نَوَادِرِهِ» فِي الأَصْلِ السادس عشر والمائة: عَنْ يَحْيَى بنِ حسّانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ مَالِكِ بنِ سُعَيْرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهِ".

قلت: مالك بن سعير صدوق، لا بأس به، والرواة عنه يحيى بن حسان، ومؤمل لا بأس بهما أيضاً، وابن أبي بزّة ضعيف، لكنه قد تُوبع عليه.

فهذه متابعة جيدة لحديث الطفاوي عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر.

·       رواية أخرى غريبة عن الأعمش!

ورواه أبو عبدالله ابن مَنده في «أماليه» (156) عن عَبْداللَّهِ بن مُحَمَّدِ بنِ الحَارِثِ البُخَارِيّ، عن محمد بن يزيد البخاري، عن المُسيّب بن إسحاق البخاري، عن أفلح بن محمد السلميّ البخاري، عن داود بن نُصير الطائي، قال: حدثنا الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور».

قال ابن منده: "مشهور عن الأعمش، غريب عن داود، لم نكتبه إلا عن عبدالله بن محمد!".

قلت: هذا إسناد بخاريّ غريب! ورواته ليسوا بالمشهورين!

ويروي ابن عدي به حديثاً في «كامله» (6/238) (9469) قال: حَدثنا عَبدالله بن مُحمد بن يعقوب الحارثي ببخارى، قال: حَدثنا مُحمد بن يزيد البُخاري الكلاباذي، قال: حَدثنا المُسَيَّب بن إسحاق، قال: حَدثنا أفلح بن مُحمد بن زُرْعَة السلمي، قال: حَدثنا صالح بن موسى، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلي الله عَليه وسَلم قال: «طلحة في الجنة، فأقبل عُمر علي طلحة يهنئه».

·       رواية لَيْثِ بنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ:

والحديث معروف ومشهور من رواية ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، عن ابن عمر.

رواه وكيع بن الجرّاح في كتاب «الزهد» (ص: 230) (11). وابن المبارك في كتاب «الزهد» (1/5) (13). والترمذي في «جامعه» (4/145) (2333) من طريق أَبي أَحْمَدَ الزبيريّ. والطبراني في «المعجم الكبير» (12/417) (13537) من طريق أَبي نُعَيْمٍ الفضلِ بنِ دُكينٍ. أربعتهم (وكيع، وابن المبارك، وأبو أحمد، وأبو نُعيم) عن سُفْيَانَ الثوريّ الكوفيّ. [رواه أحمد في «مسنده» (8/383) (4764) عن وَكِيع. ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» (12/474) (9765) من طريق عَبْداللهِ بن هَاشِمٍ، عن وَكِيع. ورواه الآجري في «الغرباء» (ص: 30) (19) من طريق مُحَمَّد بن الحَسَنِ البَلْخِيّ، عن ابنِ المُبَارَكِ. ورواه أبو نُعيم في «الحلية» (1/312) عن الطبراني].

ورواه هنّاد بن السَّري في كتاب «الزهد» (1/288) (500). والروياني في «مسنده» (2/412) (1417) عن عَلِيّ بن حَرْبٍ. كلاهما (هنّاد، وعلي) عن مُحَمَّد بن فُضَيْلٍ الكوفيّ.

ورواه أحمد في «مسنده» (9/48) (5002). وابن أبي شيبة في «مصنفه» (19/48) (35445). والروياني في «مسنده» (2/413) (1418) عن مُحَمَّد بن يَحْيَى بنِ ضُرَيْسٍ. والبيهقي في «شعب الإيمان» (12/474) (9765) من طريق عَلِيِّ بنِ حَرْبٍ المَوْصِلِيّ. وأبو مطيع محمد بن عبدالواحد المصري في «أماليه» (29) من طريق أبي عُبيد القاسم بن سلاَّم. كلهم (أحمد، وابن أبي شيبة، وابن الضريس، وعلي بن حرب، وأبو عُبيد) عن أَبي مُعَاوِيَةَ الضّرير الكوفيّ.

ورواه الترمذي في «جامعه» (4/146) (2333) عن أَحْمَد بن عَبْدَةَ الضَّبِّيّ البَصْرِيّ. وابن ماجه في «سننه» (5/232) (4114) عن يَحْيَى بن حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ. وأبو نُعيم في «الحلية» (1/312) من طريق إِسْحَاق بن عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ. وابن البخاري في «مشيخته» (3/1659) (989) من طريق خَالِد بن خِدَاشٍ المُهَلَّبِيّ. أربعتهم (أحمد بن عبدة، ويحيى بن حبيب، والطباع، وابن خداش) عن حَمَّاد بنِ زَيْدٍ البصريّ.

ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (12/418) (13538) عن زَكَرِيَّا بن يَحْيَى السَّاجِيّ، عن مُحَمَّد بن زُنْبُورٍ. والآجري في «الغرباء» (ص: 30) (18) من طريق أَبي بَكْرٍ جَعْفَر بن مُحَمَّدٍ الفِرْيَابِيّ، عن أَبي بَكْرِ بن عَفَّانَ الصُّوفِيّ. كلاهما (ابن زنبور، والصوفي) عن فُضَيْل بن عِيَاضٍ الكوفيّ.

ورواه ابن البخاري في «مشيخته» (3/1662) (991) من طريق علي بن المديني، عن جَرِير بن عَبْدِالحَمِيدِ الكوفيّ.

ورواه الطبراني في «مسند الشاميين» (1/109) (165) من طريق عَمْرو بن عَبْدِالوَاحِدِ، وأَبي خُلَيْدٍ عُتْبَة بن حَمَّادٍ. وفي «المعجم الصغير» (1/59) (63) من طريق أَبي خَالِدٍ عُتْبَة بن حَمَّادٍ. والبيهقي في «الزهد الكبير» (ص: 193) (465) من طريق صَدَقَة بن عَبْدِاللَّهِ السّمين. ثلاثتهم (عمرو، وعتبة، وصدقة) عن عَبْدالرَّحْمَنِ بن ثَابِتِ بنِ ثَوْبَانَ، عَنِ الحَسَنِ بنِ الحُرِّ الكوفيّ. [قال الطبراني: لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الْحَسَنِ بنِ الحُرِّ إِلَّا ابنُ ثَوْبَانَ].

ورواه أبو نُعيم في «الحلية» (1/312) عن حَبِيب بن الحَسَنِ. والبيهقي في «شعب الإيمان» (12/475) (9766) من طريق الحَسَن بن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. كلاهما (حبيب، والحسن) عن يُوسُف بن يَعْقُوب القاضي، عن عَمْرو بن مَرْزُوقٍ، عن، زَائِدَة بن قُدامة الكوفي.

ورواه أبو نُعيم في «الحلية» (1/312). والخلعي في «الفوائد المنتقاه الحسان = الخلعيات» (904) عن أبي العَبَّاس أَحْمَد بن مُحَمَّد بن الحاج الإِشْبِيْلِي. كلاهما (أبو نُعيم، والإشبيلي) عن أَحْمَد بن جَعْفَرِ بنِ حَمْدَانَ البَصْرِيّ، عن عَبْداللهِ بن أَحْمَدَ الدَّوْرَقِيّ، عن أَحْمَد بن يُونُسَ، عن زُهَيْر بنِ مُعاوية أبي خَيثمة الكوفي.

ورواه الخلعي في «الفوائد المنتقاه الحسان = الخلعيات» (905) من طريق أبي زرعة، عن يحيى بن صالح، عن موسى بن أعين الجزريّ.

ورواه أبو مطيع محمد بن عبدالواحد المصري في «أماليه» (29) من طريق أبي عُبيد القاسم بن سلاَّم، عن عمر بن عبدالرحمن الأبَّار الكوفيّ.

ورواه أبو بكر يوسف بن يعقوب ابن البهلول الأنباري في «أماليه» (16) عن الحسن بن عرفة، عن خلف بن خليفة الأشجعيّ الكوفيّ.

ورواه أَبو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّد بنُ مَخْلَدِ بنِ حَفْصٍ العَطَّارِ بن الخَطِيبِ الدُّورِيّ في «المنتقى من حديثه» (191) عن الفَضْل بن العَبَّاسِ، عن الهَيْثَم بن اليَمَانِ أَبي بِشْرٍ، عن عَنْبَسَة بن عَبْدِالوَاحِدِ، عَنْ نُصَيْرِ بنِ أَبِي الأَشْعَثِ الكوفيّ. [قال الدارقطني في «الغرائب والأفراد» كما في «الأطراف» (1/551): تفرد به عنبسة بن عبدالواحد عن نصير].

كلهم (الثوري، وابن فُضيل، وأبو معاوية، وحماد بن زيد، وفُضيل بن عياض، وجرير، والحسن بن الحر، وزائدة، وزهير، وموسى بن أعين، وعمر الأبار، وخلف بن خليفة، ونُصير بن أبي الأشعث) عَنْ لَيْثِ بنِ أبي سُليم الكوفيّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي، أَوْ بِبَعْضِ جَسَدِي، فَقَالَ لِي: «يَا عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ، كُنْ غَرِيبًا، أَوْ عَابِرَ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَك فِي أَهْلِ الْقُبُورِ». قَالَ مُجَاهِدٌ: وَقَالَ لِي عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ: «إذَا أَصْبَحْت فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَك بِالمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْت فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَك بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَمِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، فَإِنَّك لاَ تَدْرِي مَا اسْمُك غَدًا».

هكذا رواه غالب الرواة، وفي لفظ لسفيان الثوري: «أَحِبَّ فِي اللهِ، وَأَبْغِضْ فِي اللهِ، وَوَالِ فِي اللهِ، وَعَادِ فِي اللهِ، فَإِنَّكَ لَا تَنَالُ وِلَايَةَ اللهِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ، حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَصَارَتْ مُوَالَاةُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْزِي عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا». قَالَ: وَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ عُمَرَ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ، فَإِنَّكَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَدًا، قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ: كُنَّ فِي الدُّنْيَا غَرِيبًا أَوْ عَابِرَ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ القُبُورِ».

قال الترمذي: "وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ الأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، نَحْوَهُ".

وقال أبو نُعيم في «الحلية» (3/301): "وَرَوَاهُ لَيْثُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ لَيْثٍ: الحَسَنُ بنُ الحُرِّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وَزَائِدَةُ، وَزُهَيْرٌ، ويَزِيدُ، وَفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَخَالِدٌ الوَاسِطِيُّ".

قلت: الحديث مشهور في الكوفة عن ليث بن أبي سليم، رواه عنه الحفّاظ.

·       رواية أَبِي يَحْيَى القَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ!

ورواه ابن عدي في «الكامل» (5/177) (7504) عن عبدالله بن محمد بن سَلْم المقدسيّ. وأبو بكر الإسماعيلي في «معجم شيوخه» (1/400). كلاهما (ابن سلم، والإسماعيلي) عن مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بنِ سَعِيدٍ الوَاسِطِيّ، عن هَارُونَ بنِ زَيْدِ بنِ أَبِي الزَّرْقَاء، عن أَبِيه، عَنْ حَمَّادِ بنِ شُعَيْبٍ الحِمّانيّ، عَنْ أَبِي يَحْيَى القَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».

قلت: حماد بن شعيب ليس بشيء متروك! وأَبُو يَحْيَى القَتَّاتُ هو: عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ دِينَارٍ الكُوفِيّ، وهو ضعيف لا يُحتج به.

·       رواية أيوب عن مجاهد لهذا الحديث منكرة! لا تصح عن أيوب!

ورواه الدَّارَقُطْنِيُّ في «الغرائب والأفراد» [كما في «الأطراف» (2/512) (8)] عن أبي عَبدالله أَحْمَد بن مُوسَى بنِ إِسْحَاقَ الأَنْصَارِيُّ، عن يَحْيَى بن يُونُسَ بنِ يَحْيَى الشِّيرَازِيّ، عن أَبي سَمُرَة أَحْمَد بن سَلمٍ السُّوَائِيّ، عن حَمَّاد بن زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتَيَانِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بِبَعْضِ جَسَدِي، فَقَالَ: «يَا عَبْدَاللَّهِ، كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، واعْدُدْ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ». قَالَ مُجَاهِدٌ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ: «يَا مُجَاهِدُ، إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ فَإِنَّكَ لا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَدًا».

قال الدارقطني: "هكذا في كتابي: «عن أيوب السِخْتِياني عن مجاهد». وهذا حديث غريب من حديث أبي بكر أيوب بن أبي تميمة السِخْتِياني - واسم أبي تميمة: كيسان- عن مجاهد بن جَبْر، عن ابن عمر، تفرد به أبو سمرة أحمد بن سَلْم السُوَائي - وهو أخو جُنادة بن سلم - عن حماد بن زيد عنه".

ورواه ابن الجوزي في «مشيخته» (ص: 105) من طريق الدارقطني، وقال: "هَذَا مَتْنٌ صَحِيحٌ انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ مُجَاهِدٍ! تَفَرَّدَ بِهِ السُّوَائِيُّ عَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ".

قلت: أحمد هذا منكر الحديث!

قال ابن عدي في «الكامل» (1/387): "أحمد بن سَلم بن خالد بن جابر بن سمرة، أَبو سمرة، كوفي. ليس بالمعروف، وله أحاديث مناكير".

وفي المطبوع: "أحمد بن سالم".

وقال ابن حبان في «المجروحين» (1/140) (65): "أحْمَد بن سَمُرَة أَبُو سَمُرَة، من ولد سَمُرَة بن جُنْدُب، من أهل الكُوفَة. يروي عَن الثِّقَات الأوابد والطامات، لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال".

كذا نسبه ابن حبان، فتعقبّه الدَّارَقُطْنِيّ فقال: "وهم أَبُو حَاتِم فِي نسبه هَذَا إِلَى سَمُرَة، وَإِنَّمَا هُوَ: أَحْمد بن سَلمَ بن خَالِد بن جَابر بن سَمُرَة".

قلت: كأن ابن حبان نسبه إلى جدّه، وهو نفسه قال بأنه من ولد سمرة بن جُندب، فنسبه لجدّه الأعلى "سمرة، أو أنه حصل تحريف أو سبق نظر في كتاب ابن حبان، فيبدو أن عنده: "أحمد بن سلم أبو سمرة" فتحرفت "سمرة" إلى "سلم" أو سبق نظر الناسخ إلى الكنية فكتبها: أحمد بن سمرة".

ويُحتمل أنه أورده هكذا بحسب وقوعه في الحديث الذي رواه له، فقد رواه عن مُحَمَّد بن يَعْقُوبَ الخَطِيب، عن مَعْمَر بن سَهْلٍ الأَهْوَازِيّ، حدثَنَا أَبُو سَمُرَةَ أحْمَد بن سَمُرَة، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلِيٌّ خَيْرُ البَرِيَّةِ».

كذا في طبعة محمود إبراهيم زايد - دار الوعي: "حدثنا أبو سمرة أحمد بن سمرة"، وفي طبعة حمدي عبدالمجيد السلفي – دارالصميعي: "حَدَّثنا أبو سمرة، قال: حَدَّثنا شريك"، بالكنية دون تسميته، فالله أعلم.

وقال الذهبي في «المغني في الضعفاء» (1/39) (292): "أحْمَد بن سَالم أبو سَمُرَة عَن شريك. صَاحب مَنَاكِير وَحْشَة".

وقال في «الميزان» (1/99) (385): "أحمد بن سالم أبو سمرة. كذا سمّاه ابن عدي. وقال: له مناكير".

قلت: والحديث رواه أَحْمَد بن عَبْدَةَ الضَّبِّيّ البَصْرِيّ، ويَحْيَى بن حَبِيبِ بنِ عَرَبِيّ، وإِسْحَاق بن عِيسَى بن الطَّبَّاع، وخَالِد بن خِدَاش المُهَلَّبِيّ. أربعتهم عن حَمَّاد بنِ زَيْدٍ، عن ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، عن ابن عمر.

فلا مدخل لأيوب فيه.

·       السوائي لم يعرفه الحويني!

جاء في «نثل النبال بمعجم الرجال» (1/158) (182) في نقل أقوال الحويني أنه قال: "أحمد بن سالم السوائي: [عن حماد بن زيد]، لم أهتد إلى ترجمة السوائي، فلعله تصحف. وربما يكون هو: أحمد بن سلم السقاء. يروي عن ابن عيينة وهذه الطبقة". [حديث الوزير/ 145ح 94؛ الأربعون الصغرى/72ح 32].

قلت: ليس هو بالسقاء! ولم يتصحّف! وهو: أحمد بن سالم أو سَلْم بن خالد بن جابر بن سمرة، أَبو سمرة السُوَائي، وهو أخو جُنادة بن سَلْم.

·       هل دلّس الأعمش الحديث عن مجاهد؟!

والخلاصة أن الحديث رواه محمد بن عبدالرحمن الطفاوي، ومَالِكُ بن سُعَيْرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عن مجاهد، عن ابن عمر.

وكل الروايات بالعنعنة إلا رواية ابن المديني عن الطفاوي فإنه ذكر فيها التحديث بين الأعمش، ومجاهد.

ورواه جماعة من الحفاظ عن ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، عن ابن عمر.

فالظاهر لمن نظر في هذه الأسانيد يرى أن ليث بن أبي سليم تابع الأعمش عليه عن مجاهد! لكن تقدم قول عمرو الناقد الإنكار على ابن المديني ذكره لصيغة التحديث بين الأعمش ومجاهد، وأن الأعمش لم يسمعه من مجاهد، وإنما سمعه من ليث بن أبي سليم، ودلّسه! والأعمش مشهور بالتدليس عن الضعفاء، فيكون سمع الحديث من ليث ثم أسقطه لضعفه.

وكلّ من روى الحديث عن ليث بن أبي سليم من أهل العراق، وغالبهم من الكوفة، وليث كوفيّ، ومجاهد مكيّ، ولا يوجد هذا الحديث عند أصحابه المكيين، أو في أهل مكة! بل لا يوجد عند أصحاب مجاهد العراقيين!

ومن أشهر أصحاب مجاهد: عمرو بن دينار المكيّ، وعَبْداللهِ بن أَبِي نَجِيحٍ المكيّ، وعبدالله بن عون البصري، وأيوب السختياني البصري، والحكم بن عُتيبة الكوفيّ، ومنصور بن المعتمر الكوفي وهو من أثبت الناس في مجاهد، وكان من طبقة الأعمش. فأين هؤلاء عن حديث مجاهد هذا؟ وقد أكثر البخاري ومسلم من التخريج لابن أبي نجيح ومنصور عن مجاهد، وهذا الحديث ليس عندهما!

ومعروف عند أهل العلم أن الأعمش كان يُدلّس عن ليث، وهما من طبقة واحدة، وتوفيا في سنة واحدة (148هـ)، وليث كان يروي المنكرات عن مجاهد! وهو متفق على ضعفه.

ولا يبعد أن يكون الأعمش أو ليث أخذا الحديث من أبي يحيى القتات (ت 130هـ)، وهو ضعيف، يروي عن مجاهد عن ابن عمر المنكرات أيضاً!

والحديث يرويه القتّات، ويرويه عنه - كما تقدم - حماد بن شعيب، وحماد ضعيف متروك، لكن لا يبعد أن يكون سمع الحديث من أبي يحيى القتات، ومنه أخذه الأعمش وليث!

ومعلومٌ أن الأعمش يُدلّس عن أبي يحيى القتات، وعن ليث بن أبي سليم.

وهناك أحاديث اتفق القتّات وليث في روايتها عن مجاهد عن ابن عمر! كالحديث الذي روياه عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُتْبَعَ جِنَازَةٌ مَعَهَا رَانَّةٌ».

فلا يبعد أن يكون ليث أخذه من أبي يحيى القتّات! والله أعلم.

والذي تميل إليه النفس أن الأعمش لم يسمع هذا الحديث من مجاهد، وإنما سمعه من ليث أو القتات، ثم دلّسه! فالحديث لا يُعرف عن ثقة لا في مكة ولا في الكوفة إلا ما جاء من حديث الأعمش! ولو كان مجاهد بن جبر حدّث به عن ابن عمر لسمعه كبار أصحابه المكيين والكوفيين والبصريين.

فشهرة هذا الحديث عن ليث بن أبي سُليم في الكوفة يعني معرفته به، ولا يكون الأعمش إلا أخذه منه كما صرّح بذلك عمرو الناقد، وهو أقرب وأعلم من غيره بهذا؛ لأنه حدّث به عن الطفاوي عن الأعمش، وأنكر على ابن المديني ذكره لصيغة التحديث بين الأعمش ومجاهد، وأنه وهم في ذلك!

وتخريج البخاري له في «الصحيح» اعتماداً على رواية شيخه ابن المديني التي فيها تصريح الأعمش بسماعه من مجاهد! وثبوت هذا التصريح فيه نظر! والراجح عدمه.

·       هل سمع الأعمش من مجاهد؟!

وقد تكلّم بعض أهل العلم في سماع الأعمش من مجاهد!

قال الدارقطني في «العلل» (8/234): "وَقِيلَ: إِنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُجَاهِدٍ".

قلت: لا يُعرف أن أحداً من أهل العلم نفى سماع الأعمش من مجاهد، وإنما اختلفوا في حجم سماعه منه.

وقول الدارقطني فيه إشارة إلى رد من قال بأنه لم يسمع من مجاهد؛ لأنه قاله بصيغة التمريض "قيل"!

ويُحتمل أنه قصد بهذا القول الحديث الذي كان يتكلم عليه في كتابه، فإنه عرض للاختلاف فيه، ثم قال: "وَرَوَاهُ وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ. وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُجَاهِدٍ".

فيُحتمل أنه قصد هذا الحديث بعينه، والله أعلم.

وقد ثبت أن مجاهداً نزل الكوفة وحدّث بها، لكن كان ذلك في آخر عمره.

قال العجلي في «الثقات» (2/265) (1686): "مُجَاهِد أَبُو الحجَّاج مكيّ، تَابِعِيّ، ثِقَة، سكن الكُوفَة بِآخِرهِ".

قلت: وهذا يعني أنه حدّث في الكوفة، فلا يُقبل إلا ما حدّث به الثقات عنه هناك ولم يكونوا من أهل التدليس إلا إذا صرّحوا بالسماع منه، وأن لا يشتهر الحديث عن مجاهد عن الضعفاء!

وفي «تاريخ ابن أبي خيثمة»: "قال مجاهد: لو كان بي قوة لاختلفت إلى هذا - يعني الأعمش". [إكمال تهذيب الكمال (6/94)].

روى الفَضْلُ بنُ مُوسَى السّينَاني، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُجَاهِدٍ، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ تَبِعَنِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: "لَوْ كَانَتْ بِي قُوَّةٌ لَاخْتَلَفْتُ إِلَى هَذَا - يَعْنِي الْأَعْمَشَ". [مسند ابن الجعد (ص: 123) (763)، وتاريخ ابن معين - رواية ابن مُحرز (1/149)].

وقال ابنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: كُنْتُ آتِي مُجَاهِدًا، فَيَقُولُ: "لَوْ كُنْتُ أُطِيقُ المَشْيَ لَجِئْتُكَ". [مسند ابن الجعد (ص: 128) (805)، وتاريخ بغداد (10/5)].

قلت: هذا يدلّ على لقي الأعمش لمجاهد وسماعه منه، بل وفي هذا ثناء على الأعمش من مجاهد، ويدلّ أيضاً على أن مجاهداً كان ضعيف البدن لما نزل الكوفة، ومن كانت هذه حاله لا يُحدّث كثيراً.

وروى جماعة عن الأَعْمَش، قال: "كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ مُجَاهِداً، ازْدَرَيْتُهُ مُتَبَذِّلاً، كَأَنَّهُ خَرْبَنْدَجٌ ضَلَّ حِمَارَهُ، وَهُوَ مُغْتَمٌّ".

وفي رواية: "كَأَنَّهُ خَرْبَنْدَجٌ، فَإِذَا تَكَلَّمَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ".

وفي رواية: "خربندة" وهي فارسية معناها: "حارس الحمار أو مؤجره".

وزاد بعضهم: "كَانَ مُجَاهِدٌ كَأَنَّهُ حَمَّالٌ، فَإِذَا نَطَقَ، خَرَجَ مِنْ فِيْهِ اللُّؤْلُؤُ".

وروى ابنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: "كُنَّا نَأْتِي مُجَاهِدًا فَنَمُرُّ عَلَى أَبِي صَالِحٍ - باذام - وَعِنْدَهُ بَضْعَةَ عَشَرَ غُلَامًا مَا نَرَى أَنَّ عِنْدَهُ شَيْئًا".

فلا شك أن الأعمش سمع من مجاهد، لكن لم يسمع منه كثيراً، بل أحاديث معدودة؛ لأن الأعمش لما سكن مجاهد الكوفة كان قد تشبّع بحديث أهل بلده، فمجاهد يُعدّ من صغار شيوخه.

قال ابن طهمان: سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: "الأَعْمَش سمع من مُجَاهِد، وكل شَيْء يَرْوِي عنه «لَمْ يَسْمَعْ»، إنما مُرْسَلةٌ مُدَلَّسَةٌ". [من كلام يحيى بن معين في الرجال - رواية يزيد بن الهيثم بن طهمان الدقاق: 59].

وعلّق محقق الكتاب د. أحمد نور سيف على هذا بقوله: "هكذا في الأصل. وفيه سقط. ففي التهذيب: لا يثبت منها إلا ما قال: سمعت، ولعل العبارة هكذا: وكل شيء يروي عنه لم يسمعه إلا ما قال سمعت".

قلت: لا يوجد سقط، وما في «التهذيب» ليس كلام ابن معين! وإنما هو كلام ابن المديني.

قال يعقوب بن شيبة في «مسنده»: "ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلا أحاديث يسيرة. قلت لعلي بن المديني: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: لا يثبت منها إلا ما قال: «سمعت»، هي نحو من عشرة، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبي يحيى القتّات". [تهذيب التهذيب (4/225)].

وعبارة ابن معين واضحة، فهو أثبت سماع الأَعْمَش من مُجَاهِد، ثم قال: وكلّ شَيْء يَرْوِيه عنه ولا يذكر فيه السماع، فهو مُرْسَل مُدَلَّس.

وقد نقل بشار معروف عبارة ابن معين بشكل مختلف في تعليقه على «تهذيب الكمال» (12/83) في الحاشية، فقال: "وَقَال ابن طهمان عن يحيى: الأعمش لم يسمع من مجاهد، وكل شيء يروي عنه لم يسمع إلا ما قال «سمعت»، إنما مرسلة مدلسة (سؤالاته، رقم 59)".

فزاد في النص «لا» فصار كلام ابن معين في نفي سماع الأعمش من مجاهد ابتداءً! ثم أضاف: "إلا ما قال: سمعت"! فخلط في النص، والأصل لا مشكلة فيه.

وقال أبو حاتم - وهو يُبين علة حديث سأله عنه ابنه في «العلل» (5/471) -: "وأنا أخشى ألا يكون سمع هذا الأعمَشُ مِنْ مُجَاهِدٍ، إنَّ الأعمَشَ قليلُ السَّمَاعِ مِنْ مُجَاهِدٍ، وعامَّةُ مَا يَرْوِي عَنْ مجاهدٍ مُدَلَّسٌ".

قال عبدالله بن أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (1/255) (364): قلت لأبي، أَحَادِيث الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد، عَمَّن هِيَ؟ قَالَ: قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش: قَالَ رجل للأعمش، مِمَّن سمعته فِي شَيْء رَوَاهُ عَن مُجَاهِد؟ قَالَ: "مر كزاز مر" - بِالفَارِسِيَّةِ = حَدَّثَنِيهِ لَيْث عَن مُجَاهِد.

ونقله مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (6/92) فقال: "وفي كتاب عبدالله بن أحمد عن أبيه وقال له: أحاديث الأعمش عن مجاهد عمن هي؟ قال: قال أبو بكر بن عياش عنه: حدثنيه ليث عن مجاهد".

وتبعه ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (4/225) فقال: "وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه في أحاديث الأعمش عن مجاهد: قال أبو بكر بن عياش عنه: حدّثنيه ليث عن مجاهد".

قلت: فهذا تصريح من الأعمش أنه كان يُدلّس حديث مجاهد الذي سمعه من ليث بن أبي سُليم.

قال يحيى بن سعيد القطان: "كتبت عن الأعمش أحاديث عن مجاهد كلها ملزقة، لم يسمعها".

وقال الباجي في «التعديل والتجريح» (1/306): "وأَحَادِيث الْأَعْمَش عَن مجاهد يسيرَة، بَعْضهَا مسموع، وَبَعضهَا فِيهِ تَدْلِيس".

·       عدد الأحاديث التي سمعها الأعمش من مجاهد:

فسماع الأعمش من مجاهد يسير جداً، وقد تكلّم الأئمة على عددها.

- فقال هُشيم ووكيع: سمع الأعمش من مجاهد أربعة أحاديث فقط.

وقال ابن معين: سمع منه أربعة أحاديث أو خمسة.

روى الترمذي في «العلل الكبير» (ص: 388) عن حُسَيْنِ بنِ مَهْدِيٍّ البَصْرِيّ، عن عَبْدالرَّزَّاقِ، قال: أَخْبَرَنَا ابنُ المُبَارَكِ، قَالَ: قُلْتُ لِهُشَيْمٍ: مَا لَكَ تُدَلِّسُ وَقَدْ سَمِعْتَ؟ قَالَ: كَانَ كَبِيرَاكَ يُدَلِّسَانِ - وَذَكَرَ الْأَعْمَشَ وَالثَّوْرِيَّ. وَذَكَرَ أَنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُجَاهِدٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.

وروى ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (1/224) عن علي بن الحسن الهسنجاني قال: سمعت محمد بن بشار يقول: سمعت وكيعاً يقول: "لم يسمع الأعمش من مجاهد إلا أربعة أحاديث".

وقال عباس الدُّوري في «تاريخ ابن معين» (3/327) (1570): سمعتُ يحيى، يقول: "إِنما سمعَ الأَعمش من مُجَاهِد أربعة أَحاديث، أَو خمسة".

وقال علي بن المديني: "روى عنه أربعة أحاديث". [إكمال تهذيب الكمال (6/98)].

- وقال يعقوب بن شيبة: سمع الأعمش من مجاهد خمسة أحاديث.

وقال ابن معين: سمع منه أربعة أحاديث أو خمسة.

نقل مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (6/92): وقال يعقوب بن شيبة في «مسنده»: "ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلا أحاديث يسيرة خمسة أو نحوها".

- وقال ابن المديني، ويحيى القطان، وابن مهدي: سمع الأعمش من مجاهد ستة أو سبعة أحاديث.

قال ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (2/853): وحكى الكرابيسي أنه سمع علي بن المديني يقول: "لم يصح عندنا سماع الأعمش من مجاهد إلا نحواً من ستة أو سبعة".

قال علي: "وكذلك سمعت يحيى وعبدالرحمن يقولان في الأعمش".

- وقال وكيع: سمع الأعمش من مجاهد سبعة أو ثمانية أحاديث.

روى ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (1/227) عن محمد بن إبراهيم بن شعيب، عن عمرو بن عليّ الفلاّس، قال: سمعت وكيعاً يقول: "كنا نتتبع ما سمع الأعمش من مجاهد، فإذا هي سبعة أو ثمانية - ثم حدّثنا بها".

قلت: عناية وكيع وغيره من طلبة الحديث بتتبع ما سمعه الأعمش من مجاهد؛ لأنهم يعرفون أنه لم يسمع منه إلا أحاديث يسيرة، وهو معروف بالتدليس، ونصّه على عدد هذه الأحاديث التي سمعها من مجاهد وسماعهم لها منه يعني أن ما سواها مما لم يسمعه من مجاهد، فدلّسه عن الضعفاء، وهذا في الأحاديث المرفوعة لا من يرويه عنه من موقوفات.

وهذا يعني أن وكيعاً إذا روى الحديث عن الأعمش عن مجاهد وفيه التصريح بالسماع فهو مما سمعه الأعمش من مجاهد.

وهذا الحديث لم يروه وكيع عن الأعمش عن مجاهد، وإنما رواه عن سفيان الثوري، عَنْ لَيْثِ بنِ أبي سُليم، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ.

ولو أنه سمعه من الأعمش، وكان الأعمش سمعه من مجاهد، لكان هذا أعلى له إسناداً.

- وقال علي بن المديني: سمع الأعمش من مجاهد نحو من عشرة أحاديث.

قال يعقوب بن شيبة: قلت لعلي بن المديني: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: "لا يثبت منها إلا ما قال: «سمعت»، هي نحو من عشرة، وإنما أحاديثه عن مجاهد عن أبي يحيى القتات وحكيم بن جبير وهؤلاء". [«إكمال تهذيب الكمال» (6/92)].

قلت: ها هي أقوال أئمة النقد يصرحون أن الأعمش سمع من قتادة ما بين أربعة إلى عشرة فقط! فأقوالهم قريبة جداً من بعضهم.

وخالفهم الحافظ البارع الشَّاذَكُوْنِيُّ (ت 234هـ)، والإمام البخاري.

قال الترمذي في «العلل الكبير» (ص: 388): قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: يَقُولُونَ: لَمْ يَسْمَعِ الْأَعْمَشُ مِنْ مُجَاهِدٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ! قَالَ: "رِيحٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لَقَدْ عَدَدْتُ لَهُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ يَقُولُ فِيهَا: حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ".

وقال ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (2/853): "وكذا نقل الكرابيسي عن الشاذكوني أن الأعمش سمع من مجاهد أقل من ثلاثين حديثاً".

قلت: البخاريّ - رحمه الله - ضعّف قول من قال بأن الأعمش لم يرو عن مجاهد إلا أربعة أحاديث أو نحوها! وهو بذلك يخالف جميع الأئمة النقاد! ومخالفته لهم لأنه يقول: "عددت له أحاديث كثيرة نحواً من ثلاثين أو أقل أو أكثر يقول فيها: حدثنا مجاهد"!

ولو فتشنا الكتب كلها لن نجد هذا العدد الذي ذكره البخاري مما صرّح فيه الأعمش سماعه له من مجاهد!

والجمع بين أقوال الأئمة النقاد، وقول البخاري أن النقاد أرادوا المرفوع من الحديث، وأدخل البخاري في ذلك الموقوفات، والأعمش يروي عن مجاهد أيضاً عشرات الموقوفات والآثار وقلّما يذكر السماع فيها!

وربما أن البخاري لم يدخل الموقوفات في ذلك، وإنما اقتصر على المرفوعات، وهذا أولى؛ لأن ذكر العدد الأقل كأربعة أحاديث أو خمسة وحتى عشرة لا شك أنهم يعنون به المرفوع، وهو يقصد المرفوع لا المرفوع والموقوف، والسؤال للأئمة عادة يكون عن المرفوع لا الموقوف إذ العناية الأولى به، والله أعلم.

ويُحتمل أن الإمام البخاري عدّ هذه الأحاديث التي فيها التصريح بالسماع، ثم بعد ذلك تبيّن له أن هذه التصريحات ربما هي أخطاء من الرواة، ولا تصح في الروايات، ولهذا لم يُخرّج في «صحيحه» إلا خمسة أحاديث - كما سيأتي بيانه -، وهذا يؤيد قول من عدّها كذلك، فلو أنه بقي على رأيه في ذلك لخرّج كثيراً منها في «صحيحه»، وقد نبّهت في غير هذا الموضع على أن ما ينقله الترمذي عن البخاري كان مما سمعه منه قديماً، وقد تغيّر رأيه في كثير مما قاله للترمذي. والله أعلم.

وقد أشار البخاري في إحدى تراجمه في «التاريخ الكبير» إلى رواية لوكيع عن الأعمش ذكر فيها سماع الأعمش من مجاهد، وأشار إلى أن هناك من رواه عن الأعمش عن ليث بن أبي سُليم عن مجاهد.

قال في «التاريخ الكبير» (3/470) (1565): "سَعِيد بن خازم أَبُو عَبْدالرَّحْمَن، عَنِ الأعمش، عَنْ ليث، عَنْ مجاهد: كَانَ مع سُلَيْمَان... قاله عليّ: حدثنا أَبُو أَحْمَد الزبيري سَمِعَ سَعِيداً.

وقال وكيع عَنِ الأعمش: سَمِعت مجاهداً".

قلت: قد يظن من ينظر لهذه الترجمة أن الأعمش يرويه عن ليث عن مجاهد، ورواية وكيع عنه عن مجاهد مدلّسة! والذي يظهر لي أن البخاري أراد التنبيه على أن الصواب في هذا رواية وكيع، ورواية سعيد هذا فيها نظر! وهو أصلاً فيه جهالة، فلا نحكم لروايته على رواية وكيع، والله أعلم.

والخلاصة أن الأعمش سمع من مجاهد أحاديث قليلة جداً ما بين أربعة وعشرة أحاديث، وقول وكيع أنها سبعة أو ثمانية هو الأقرب للصواب؛ لأنه صرّح بأنهم تتبعوا ما سمع الأعمش من مجاهد، فإذا هي سبعة أو ثمانية - ثم حدّثهم الأعمش بها، والله أعلم.

وعلى كل حال: فما يرويه الأعمش عن مجاهد لا بدّ فيه من بيان السماع، وإلا رُدّ بتدليسه ما لم تكن هناك قرينة تدلّ على أنه سمعه من مجاهد.

والخلاف بين أهل العلم في صحة سماع الأعمش لحديث «كن في الدنيا كأنك غريب» من مجاهد.

قال ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (2/853): "ومما اختلف في سماع الأعمش له من مجاهد حديث ابن عمر: «كن في الدنيا كانك غريب»، والبخاري يرى أنه سمعه الأعمش من مجاهد، وخرّجه في «صحيحه» كذلك، وأنكر ذلك جماعة، وقد ذكرناه في كتاب الزهد".

وقد بيّنت أن القرائن تدلّ على أن الأعمش لم يسمعه من مجاهد، وإنما دلّسه عنه.

وقد ثبت أن الأعمش يُدلّس عن مجاهد.

روى عليّ بن الجعد في «مسنده» (ص: 129) (814) عن ابنِ زَنْجُوَيْهِ. وابن عدي في «الكامل» (9/9) (14375) من طريق أحمد بن سعد بن أبي مريم. كلاهما عن نُعَيْم بن حَمَّادٍ، قال: حدثنا عِيسَى بنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ إِلَى سَنَتَيْنِ».

فَقِيلَ لِلْأَعْمَشِ: سَمِعْتَهُ مِنْ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ: "لا، حَدَّثَنِي لَيْثُ بنُ أَبِي سُلَيْمٍ. تَرَى ذَهَبَ كِسَائِي هَذَا".

وجاء في بعض الآثار أن الأعمش كان يُبين أنه لم يسمعها من مجاهد.

روى وكيعٌ في «الزهد» (ص: 285) (62) قال: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ سَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} [الأنعام: 22] قَالَ: الحَشْرُ: «المَوْتُ».

·       الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم للأعمش عن مجاهد:

وقد خرّج البخاري ومسلم للأعمش عن مجاهد أحاديث قليلة جداً مما يدلّ على صحة أقوال أئمة النقد أنه لم يسمع منه إلا أحاديث يسيرة ما بين الأربعة والعشرة أحاديث.

وهذه الأحاديث هي:

1- روى البخاري في «صحيحه» (1/53) (218)، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ خَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا مِثْلَهُ: «يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ».

ثم أخرجه في موضع آخر (2/95) (1361) قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، به. وهو: محمد بن خَازم الضرير.

ثم خرجه أيضاً (2/99) (1378) قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، بنحوه.

ثم خرّجه في موضع آخر (8/17) (6052) قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، به.

وأخرجه مسلم في «صحيحه» (1/240) (292) قال: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ الْآخَرَانِ - حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ»، قَالَ فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».

قال: حَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالوَاحِدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ الْآخَرُ لَا يَسْتَنْزِهُ عَنِ الْبَوْلِ - أَوْ مِنَ الْبَوْلِ -.

قلت: هذا الحديث رواه البخاري من طريق أبي معاوية الضرير، ووكيع، وجرير، عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، ورواية أبي معاوية وجرير بالعنعنة، ورواية وكيع ذكر فيها السماع، وعلى هذا اعتمد البخاري في تخريج الحديث في «صحيحه»، وقد سبق كلام وكيع في تتبع ما صرّح فيه الأعمش سماعه من مجاهد، وهذا منها.

وقد أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/456) (12164) قال: حدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الآخَرُ، فَكَانَ لاَ يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ».

قال ابن أبي شيبة: "وَلَمْ يَقُلْ أَبُو مُعَاوِيَةَ: «سَمِعْت مُجَاهِدًا»".

ثم رواه (7/460) (12171) قال: حدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، به.

ثم قال: حدَّثَنَا وَكِيعٌ، حدَّثَنَا الأَعْمَشُ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ، إِلاَّ أَنَّ وَكِيعًا، قَالَ: «فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ».

وكذا نبّه الإمام أحمد على مسألة السماع لما خرّج الحديث في «مسنده» (3/441) (1980) قال: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ - المَعْنَى وَاحِدٌ -، قَالَا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، - قَالَ وَكِيعٌ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فذكره.

وأما مسلمٌ فاكتفى بتخريج رواية وكيع التي فيها ذكر السماع، ولم يخرّج الروايات الأخرى.

واكتفى أيضاً الترمذي بتخريج رواية وكيع في «جامعه» (1/126) (70) قال: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، وَقُتَيْبَةُ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَال: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يُحَدِّثُ، عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، به.

·       تخريج البخاري لرواية منصور التي خالف فيها الأعمش!

وقد أخرج البخاري أيضًا في «صحيحه» هذا الحديث من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس، وليس فيه "عن طاوس"!

رواه (1/53) (216) من حديث جَرِير بن عبدالحميد. ورواه في موضع آخر (8/17) (6055) من حديث عَبِيدَة بن حُمَيْدٍ أَبي عَبْدِالرَّحْمَنِ.

كلاهما عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ المَدِينَةِ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ: «يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا بِكِسْرَتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ، فَجَعَلَ كِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا، وَكِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا، فَقَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».

وتابعهما أيضاً شَيبان بن عبدالرحمن النحوي كما هو عند أحمد في «مسنده» (3/443) (1981)، وإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانٍ كما هو عند الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (ص: 108) (213).

فهؤلاء أربعة (جرير، وعَبيدة، وشيبان، وإبراهيم) رووه عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، دون ذكر "طاوس"!

قال الترمذي في «العلل الكبير» (ص: 42) (36): سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ»؟

فَقَالَ: "الْأَعْمَشُ يَقُولُ: عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْصُورٌ يَقُولُ: عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يَذْكُرُ فِيهِ: عَنْ طَاوُسٍ".

قُلْتُ: أَيُّهُمَا أَصَحُّ؟ قَالَ: "حَدِيثُ الْأَعْمَشِ".

قلت: وبناء على ترجيح البخاري هذا أخرج الترمذي الحديث من طريق وكيع، ثم قال: "وَرَوَى مَنْصُورٌ هَذَا الحَدِيثَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ طَاوُوسٍ، وَرِوَايَةُ الأَعْمَشِ أَصَحُّ. وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بنَ أَبَانَ البَلْخِيَّ مُسْتَمْلِي وَكِيعٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ وَكِيعًا، يَقُولُ: الأَعْمَشُ أَحْفَظُ لِإِسْنَادِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مَنْصُورٍ".

قلت: ما ذكره الترمذي عن البخاري من ترجيحه لرواية الأعمش يناقض فعل البخاري في «صحيحه»، وهو تخريجه للحديث من طريق الأعمش، ومن طريق منصور!

قال ابن حجر في «الفتح» (1/317): "مُجاهد هُوَ: ابن جبر صَاحب ابن عَبَّاسٍ، وَقَدْ سَمِعَ الكَثِيرَ مِنْهُ، وَاشْتُهِرَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ، لَكِنْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِد، فَأدْخل بَينه وَبَين ابن عَبَّاسٍ طَاوُسًا كَمَا أَخْرَجَهُ المُؤَلِّفُ بَعْدَ قَلِيلٍ، وَإِخْرَاجُهُ لَهُ عَلَى الوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي صِحَّتَهُمَا عِنْدَهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مُجَاهِدًا سَمِعَهُ مِنْ طَاوُسٍ عَن ابن عَبَّاس، ثمَّ سَمعه من ابن عَبَّاسٍ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوِ العَكْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي سِيَاقِهِ عَنْ طَاوُسٍ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي رِوَايَته عَن ابن عَبَّاس، وَصرح ابن حِبَّانَ بِصِحَّةِ الطَّرِيقَيْنِ مَعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ أَصَحُّ".

قلت: نعم، البخاري يرى صحة الطريقين لتخريجهما في «صحيحه»، وهذا الذي قاله ابن حجر يُحتمل أنه سمعه مرة بواسطة، ومرة بدون واسطة، ويُحتمل أن مجاهداً نفسه كان يرويه على الوجهين، يرويه مرة عن طاوس عن ابن عباس، وأحياناً يرويه مباشرة عن ابن عباس، فضبطه الأعمش كما رواه، وكذا ضبطه منصور كما رواه، وعليه فلا وجه للترجيح هنا بين الأعمش ومنصور.

على أن الأئمة النقاد رجّحوا عموماً بينهما عند الاختلاف، وغالبهم على تقديم رواية منصور على الأعمش، وخاصة في إبراهيم، واحتجاج الترمذي بقول وكيع: "الأَعْمَشُ أَحْفَظُ لِإِسْنَادِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مَنْصُورٍ" هنا لا يتجّه؛ لأن الحديث ليس عن إبراهيم، وإنما عن مجاهد! ففي احتجاج الترمذي بهذا القول هنا فيه نظر!

ثم إن الأمر هنا متعلق برواية الأعمش عن مجاهد، وهل سمع منه هذا الحديث؟

جاء التصريح بسماعه له منه في حديث وكيع، ولهذا خرّجه البخاري وباقي الأئمة، ورواية منصور متابعة لرواية الأعمش عن مجاهد، مع الاختلاف بينهما في ذكر "طاوس".

وما نقله الترمذي عن البخاري في ترجيحه لرواية الأعمش كان قديماً منه، والظاهر أن اجتهاده تغيّر في ذلك، فأخرج الحديثين في «صحيحه»، وكلاهما صحيح. ورواية مجاهد عن ابن عباس متصلة فهو صاحبه وسمع منه الكثير.

وقد توبع وكيع في روايته عن الأعمش.

تابعه عَبْدُالوَاحِدِ بنُ زِيَادٍ، عن الْأَعْمَش، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كما رواه الدارمي في «سننه» (1/573) (766)، وعبد بن حميد في «مسنده» [كما في المنتخب منه (ص: 210)]، وأبو عوانة في «مستخرجه» (1/168) (496).

وقد رُوي أيضاً عن الأعمش عن مجاهد مثل رواية منصور عن مجاهد دون ذكر "طاوس".

رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (4/369) (2768) عن شُعْبَة، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بنحوه.

ورواه ابن حبان في «صحيحه» (7/399) (3129) من طريق ابن أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، به.

قال ابن حبان: "سمع هذا الخبر مجاهد عن ابن عباس، وسمعه عن طاوس عن ابن عباس فالطريقان جميعاً محفوظان".

ورواه الآجري في «الشريعة» (3/1280) (849) من طريق زِيَاد بن عَبْدِاللَّهِ البَكَّائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، وَالْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فذكره.

ورُوي عن مجاهد عن ابن عباس من طريق آخر:

رواه عبدالملك بن حبيب في كتاب «وصف الفردوس» (ص: 103) (296) عن مُطرِّف، عن أبي حازم، عن سهيل بن أبي صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله.

فثبت من ذلك أن مجاهداً كان يُحدّث به على الوجهين، وكلاهما صحيح، ولهذا أخرجهما البخاري في «صحيحه»، ولا وجه لترجيح رواية منصور على لأعمش أو رواية الأعمش عن منصور، فكلاهما ضبط ما سمعه من مجاهد.

والعجيب أن بعض الأئمة كالترمذي ذهب مذهب الترجيح دون تحقيق الروايات الأخرى! وهو نقل ترجيح البخاري، ثم أعرض عن تصرف البخاري في تخريجه لكلا الحديثين!

وقد أخرج البزار في «مسنده» (11/123) (4846) رواية وكيع، ثم رواية جرير، وقال: "ولم يذكر طاووس بَيْنَ مُجَاهِدٍ، وَابن عَبَّاسٍ".

ثم ساق رواية عَمْرو بن دِينار، عَن طاووس، وَلَمْ يَقُلْ: "عَن ابنِ عَبَّاسٍ".

ثم قال: "وذكرنا حديث عَمْرو، عَن طاووس لِئَلا يَقُولَ قَائِلٌ إِنَّهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَبَيْنَا أَنَّهُ لَيْسَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ولاَ نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنِ الأَعْمَشِ، عَن مُجاهد، عَن طاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إلاَّ وَكِيعٌ".

وقال النسائي في «سننه» (1/28) بعد أن ساق رواية وكيع: "خَالَفَهُ مَنْصُورٌ، رَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَذْكُرُ طَاوُسًا".

وهذا الحديث مما انتقده الدارقطني على الشيخين في «الإلزامات والتتبع» (ص: 334) (178) قال: "وَأَخْرَجَا جَمِيعًا - يَعْنِي البُخَارِيّ وَمُسلمًا - حَدِيث الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، عَن طَاوس، عَن ابن عَبَّاس - يَعْنِي فِي قصَّة القبرين، وَأَن أَحدهمَا كَانَ لَا يستبرئ من بَوْله. قَالَ: وَقد خَالفه مَنْصُور، فَقَالَ: عَن مُجَاهِد، عَن ابن عَبَّاس، وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيث مَنْصُور على إِسْقَاطه طاوساً".

قال ابن حجر في «مقدمة الفتح» (1/350) في الأحاديث المنتقدة على الصحيحين بعد أن ذكر كلام الدارقطني: "وهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي «الطَّهَارَة» عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، وَفِي «الْأَدَب» عَن مُحَمَّد بن سَلام، عَن عبيدة بن حميد، كِلَاهُمَا عَن مَنْصُور بِهِ، وَرَوَاهُ من طَرِيق أُخْرَى من حَدِيث الْأَعْمَش، وَأخرجه بَاقِي الْأَئِمَّة السِّتَّة من حَدِيث الْأَعْمَش أَيْضاً، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضاً، وَالنَّسَائِيّ، وابن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مَنْصُور أَيْضاً، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرجه: «رَوَاهُ مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن ابن عَبَّاس، وَحَدِيث الْأَعْمَش أصح» - يَعْنِي المتضمن للزِّيَادَة. قلت: وَهَذَا فِي التَّحْقِيق لَيْسَ بعلة؛ لِأَن مُجَاهدًا لم يُوصف بالتدليس، وسماعه من ابن عَبَّاس صَحِيح فِي جملَة من الْأَحَادِيث، وَمَنْصُور عِنْدهم أتقن من الْأَعْمَش مَعَ أَن الْأَعْمَش أَيْضاً من الْحفاظ، فَالْحَدِيث كَيْفَمَا دَار دَار على ثِقَة، والإسناد كَيْفَمَا دَار كَانَ مُتَّصِلاً، فَمثل هَذَا لَا يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث إِذا لم يكن رَاوِيه مدلساً، وَقد أَكثر الشَّيْخَانِ من تَخْرِيج مثل هَذَا، وَلم يستوعب الدَّارَقُطْنِيّ انتقاده، وَالله المُوفق".

وقال البيهقي في «إثبات عذاب القبر» (ص: 87): "وَرَوَاهُ مَنْصُورُ بنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ الْأَعْمَشِ أَصَحُّ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِيمَا حَكَى عَنْهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ".

قلت: البخاري رجّح ذلك قديماً، ثم تغير رأيه كما هو ظاهر تصرفه في «صحيحه»، وكلا الوجهين محفوظ عن مجاهد.

قال الحافظ مغلطاي في «شرح سنن ابن ماجه» (ص: 154): "هذا حديث اجتمع على تخريجه الأئمة الستة في كتبهم، وقال الترمذي: «حديث صحيح، وروى منصور هذا الحديث عن مجاهد عن ابن عباس، ولم يذكر فيه طاوساً، ورواية الأعمش أصح»، وكذا ذكره البخاري في كتاب «العلل» وخالف! وأبى ذلك في «جامعه الصحيح»، فذكر حديث منصور أثر حديث الأعمش؛ فيحتاج إلى تأويل ذلك بأن يكون ظهر له ترجيحه بوجه من الوجوه، وأظن ذلك؛ لأن شعبة روى عن الأعمش كما رواه منصور. ذكر ذلك أبو موسى المديني في كتاب «الترغيب» من حديث أبي داود الطيالسي: حدثنا شعبة به، ولفظه: «أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس، وأما الآخر فكان صاحب نميمة»، وقال آخره: كذا قال عن الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس، والمحفوظ من حديث الأعمش عن مجاهد عن طاوس، وفي حديث الأعمش عند الإسماعيلي من طريق شعبة عنه: حدثنا مجاهد. قال شعبة: وأخبرني به منصور مثلَ إسناد سليمان وحديثه، فلم أنكره منه، فهذا الأعمش رواه كما رواه منصور؛ فظهر بذلك ترجيح حديث على غيره، وأما أبو حاتم البستي فذكر في صحيحه الحديثين جمعياً، وقال: سمع مجاهد هذا الخبر عن ابن عباس، وسمعه عن طاوس؛ فالطريقان جمعياً محفوظان، ففي هذا شفاء للنفس وإزالة للبس بتصريحه بسماع مجاهد هذا الحديث من ابن عباس - رضي الله عنهما - ولولا ذلك لكان لقائل أن يقول إن مجاهداً مدلس، فلو عدى عنه ذلك أو صرّح بالسماع كنّا نقول: رواه عنهما، وأما ما في هذه الحالة فنجزم بالانقطاع، وعلى تقدير صحة ذلك لم يكن حديث الأعمش أصح، إنما يكونا صحيحين" انتهى.

2- روى البخاري في «صحيحه» (2/104) (1393) عن آدَمَ بنِ أَبِي إِيَاسٍ. و(8/107) (6516) عن عَلِيّ بن الجَعْدِ. كلاهما عن شُعْبَة، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا».

قال البخاري في الموضع الأول: "ورَوَاهُ عَبْدُاللَّهِ بنُ عَبْدِالقُدُّوسِ، عَنِ الأَعْمَشِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ الأَعْمَشِ. تَابَعَهُ عَلِيُّ بنُ الجَعْدِ، وَابْنُ عَرْعَرَةَ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ".

قلت: أخرج البخاري هذا الحديث عن الأعمش عن مجاهد بالعنعنة؛ لأنه من رواية شعبة عن الأعمش، وشعبة لا يروي عن الأعمش إلا ما صرّح فيه بالسماع.

قال شعبة: "كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة".

قال ابن حجر معلقاً على مقولة شعبة هذه: "هذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة أنها إذا جاءت من طريق شعبة دلّت على السماع ولو كانت معنعنة".

والحديث مشهور عن شعبة عن الأعمش، رواه عنه جماعة. وهو مما سمعه الأعمش من مجاهد.

·       هل سمع مجاهد من عائشة؟

والعجيب أن هذا الحديث يرويه شعبة، وهو قد أنكر سماع مجاهد من عائشة! فعلى رأي شعبة الحديث منقطع!

وسماع مجاهد من عائشة نفاه جهابذة أهل النقد، مثل: شُعْبَةُ، وَيَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القطّان، وَيَحْيَى بن معِين، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ.

قال صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وحنبل بن إسحاق، عن عَلِيّ بن المَدِينِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ القَطَّانَ يَقُولُ: "سَمِعْتُ شُعْبَةُ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدا سمع من عَائِشَة". [المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 203) (749)، تاريخ دمشق (57/30)].

وقال عبدالله بن أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (1/508) (1187): قَالَ أَبِي: قَالَ يَحْيَى: "أَنْكَرَهُ عَلَيَّ شُعْبَةَ" - يَعْنِي حَدِيث عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا - يَعْنِي بِعُسٍّ - فَحَزَرْتُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ أَوْ تِسْعَةً أَوْ عَشْرَةً» هَذَا فِي حَدِيثِ مُوسَى الْجُهَنِيِّ عَنْ مُجَاهِد".

وقال أيضاً في موضع آخر (2/94) (1673): قَالَ أبي: "كَانَ شُعْبَة يُنكر أَن يكون مُجَاهِد سمع من عَائِشَة"، وَقَالَ يحيى بن سعيد فِي حَدِيثِ مُوسَى الْجُهَنِيِّ عَنْ مُجَاهِد: «أخرجت إِلَيْنَا عَائِشَة أَو حَدَّثتنِي عَائِشَة»، قَالَ يحيى بن سعيد: "فَحدثت بِهِ شُعْبَة، فَأنْكر أَن يكون مُجَاهِد سمع من عَائِشَة".

وقال المَيْمُونِيّ: قَالَ لي أَبُو عبدالله عَن يحيى بن سعيد فِي حَدِيث شُعْبَة: "لَيْسَ بِشَيْء عَن مُجَاهِد، قَالَ: سَمِعت عَائِشَة، وَأنكر أَن يكون سمع من عَائِشَة".

وقال الغلاّبي: "وكان شعبة ينكر مجاهداً سمع عائشة". [تاريخ دمشق (57/30)].

قلت: وهذا الحديث الذي أنكر شعبة أن يكون مجاهد سمعه من عائشة رواه أحمد في «مسنده» (40/292) (24248) عن يَحْيَى القطان.

وأبو عُبيد القاسم بن سلام في كتاب «الأموال» (ص: 619) (1580) عن شَرِيك القاضي.

والنسائي في «السنن الكبرى» (1/162) (225) من طريق يَحْيَى بن زَكَرِيَّا.

والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/48) (3144) من طريق يَعْلَى بن عُبَيْدٍ.

كلهم عَنْ مُوسَى الجُهَنِيِّ قَالَ: جَاءُوا بِعُسٍّ فِي رَمَضَانَ، فَحَزَرْتُهُ ثَمَانِيَةَ أَوْ تِسْعَةَ أَوْ عَشْرَةَ أَرْطَالٍ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا».

قلت: موسى الجُهنيّ الكوفيّ وثقه يحيى القطان، وأحمد، وابن معين، والنسائي. وقال العجلي: "ثقة في عداد الشيوخ". وقال أبو زرعة: "صالح". وقال أبو حاتم: "لا بأس به".

وقال الذهبي في «الميزان» (4/209) (8887): "موسى بن عبدالله الجهني، من ثقات الكوفيين وعبادهم. حدث عنه شعبة، والقطان. ووثقه أحمد، وابن معين، وما ذكرته إلا لأن عبدالرحمن بن خراش الحافظ قال في «تاريخه»: حدثنا بُندار، عن يحيى بن سعيد القطان، عن موسى الجهني، عن مجاهد، قال: أخرجت إلينا عائشة إناء، فقالت: «في هذا كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم».

قال ابن خراش: ليس بصحيح، لم يسمع منها شيئًا.

قلت: قد صح سماع مجاهد منها" انتهى.

قلت: تفرد موسى بهذا الحديث عن مجاهد غريب جداً! ولهذا استنكره شعبة وغيره، وهو - وإن كان ثقة - إلا أن تفرده عن مجاهد فيه نظر، ولم يثبت عند شعبة سماع مجاهد من عائشة فاستنكره!

وروى العَبَّاسُ بن مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ في «تاريخ ابن معين» (3/100) (411) قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِينٍ - وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ - فَقَالَ: "كَانَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ يُنْكِرُهُ".

وقال في موضع آخر (4/175) (3803): سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِينٍ يقَوُل: قَالَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطَّان: "لَمْ يَسْمَعْ مُجَاهِدُ منْ عَائِشَةَ".

وقال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص: 204) (752)، وفي «الجرح والتعديل» (8/319): سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِينٍ يَقُولُ: "لَمْ يَسْمَعْ مُجَاهِدٌ مِنْ عَائِشَة".

وقال في «المراسيل» (ص: 205) (758): سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "مُجَاهِدُ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلٌ".

وقال في «الجرح والتعديل» (8/319): سمعت أبي يقول: "وروى عن عائشة مرسل، ولم يسمع منها".

وقال عبدالرحمن بن يوسف بن سعيد بن خِراش: "أحاديث مجاهد عن عائشة مرسلة". [تاريخ دمشق لابن عساكر (57/30)].

فالذين أنكروا سماع مجاهد من عائشة جماعة: شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، والبرديجي، وابن خِراش.

وأثبت سماعه منها: عليّ بن المديني، والبخاري، ومسلم، والكُلاباذي، وابن حِبّان، والرشيد العطّار، والضياء المقدسي، والعلائي، والذهبي، والزيلعي، ومُغلطاي، وابن حجر.

والبخاري عادة يتبع شيخه ابن المديني في مسائل السماعات، ومسلم والآخرون يتبعون البخاري في هذا.

قال مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (11/77): "وفي قول المزي: قال أبو حاتم وابن معين: لم يسمع من عائشة، مقتصراً على ذلك، قصورٌ كثيرٌ؛ وذلك أن هذا قد قاله جماعة؛ البَرديجي، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل في آخرين.

وأبى ذلك آخرون، منهم: محمد بن إسماعيل البخاري، فإنه ذكر عنه حديثي عائشة، فذكر حديثاً، وفي موضع آخر: سمعنا استنان عائشة - رضي الله عنها -، فذكر لها قول ابن عمر في العمرة.

وقال الكَلاباذي: سمع عائشة.

وقال عليّ بن المديني في «العلل الكبير»: لا أُنكر أن يكون مجاهد لقي جماعة من الصحابة، وروى عن طائفة منهم، وقد سمع من عائشة.

وفي «التمييز» للنسائي - بسندٍ صحيحٍ -: حدثنا محمد بن عُبيد: حدثنا يحيى بن زكريا، عن موسى بن عبدالله الجهني قال: أُتي مجاهد بقدح حزرته ثمانية أرطال، فقال: حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يغتسل من مثل هذا».

وقال ابن حبان: ماتت عائشة سنة سبع وخمسين، وولد مجاهد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، فيدلك هذا على أن من زعم أن مجاهداً لم يسمع من عائشة كان واهماً في ذلك".

وقال الرشيد العطّار في «غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة» (ص: 69) مُعلقاً على حديث أخرجه لمجاهد عن عائشة: «حضت بسرف...»: "قلت: وفي اتصال هذا نظر؛ فإن جماعة من أئمة أهل النقل أنكروا سماع مجاهد من عائشة، منهم شعبة، ويحيى القطان، ويحيى بن معين وغيرهم، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: مجاهد عن عائشة مرسل. انتهى.

والعذر لمسلم كما بيّناه في غير موضع من هذا الكتاب، وهو اعتبار التعاصر، وجواز السماع وإمكانه، ما لم يقم دليل بيِّن على خلاف ذلك، ولا خلاف في إدراك مجاهد بن جبر لعائشة ومعاصرته لها.

ومع هذا فقد أخرج مسلم معنى هذا الحديث، من رواية طاوس عن عائشة بإسناد لا أعلم خلافاً في اتصاله، وقدمه على حديث مجاهد هذا، والله - عز وجل - أعلم.

وقد أخرج البخاري ومسلم حديثاً غير هذا لمجاهد عن عائشة، من رواية منصور عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، والناس يصلّون الضحى، الحديث بكماله، وفيه: «وسمعنا استنان عائشة فقال عروة: ألا تسمعين يا أم المؤمنين إلى ما يقول أبو عبدالرحمن» الحديث.

قلت: وفي ظاهر لفظ هذا الحديث ما يدلّ على سماع مجاهد من عائشة، ولهذا أخرجه البخاري، ولو لم يكن عنده كذلك لما أخرجه؛ لأنه يشترط اللقاء وسماع الراوي ممن روى عنه مرة واحدة فصاعداً. والله أعلم.

وقد أخرج النسائي في «سننه» من رواية موسى الجهني، عن مجاهد، قال: «أتى مجاهد بقدح حزرته ثمانية أرطال، فقال: حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا».

قلت: وهذا أيضاً يدلّ على سماعه منها، والله - عزّ وجلّ - أعلم" انتهى.

وقال الضياء المقدسي في «المختارة» (2/337): "قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ مُجَاهِدٌ قَدْ أَدْرَكَ عَلِيًّا وَقَدِ اتَّفَقَ رِوَايَةُ أَيُّوبَ وَوُهَيْبٍ عَنْهُ: «خَرَجَ عَلَيْنَا عَلِيٌّ»، فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنَ النَّافِي، وَذَلِكَ أَنَّ البُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا لَمَّا ثَبَتَ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَلْتَفِتَا إِلَى قَوْلِ مَنْ نَفَى سَمَاعَهُ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ".

وقال العلائي في «جامع التحصيل» (ص: 273) بعد أن ساق قول من نفى سماعه منها: "قلت: وحديثه عنها في الصحيحين، وقد صرّح في غير حديث بسماعه منها".

وقال الذهبي في «السير» (4/451): "قَالَ ابنُ المَدِيْنِيِّ: سَمِعَ مُجَاهِدٌ مِنْ عَائِشَةَ. وقَالَ يَحْيَى القَطَّانُ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا.

قُلْتُ: بَلَى، قَدْ سَمِعَ مِنْهَا شَيْئاً يَسِيْراً".

وقال الزيلعي في «نصب الراية» (3/94): "وَاعْلَمْ أَنَّ سَمَاعَ مُجَاهِدٍ مِنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَنْكَرَهُ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ، وَيَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ، وَشُعْبَةُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ البُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ سَمَاعُهُ مِنْهَا، وَأَخْرَجَا لَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَحَادِيثَ فِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْهَا، نَحْوُ مَا رَوَاهُ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «دَخَلْت أَنَا، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ المَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ الضُّحَى فِي الْمَسْجِدِ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: يَا أَبَا عبدالرحمن اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَرْبَعُ عُمَرَ: إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُكَذِّبَهُ، وَنَرُدَّ عَلَيْهِ، وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ فِي الحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَلَا تَسْمَعِينَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إلَى مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ؟ فَقَالَتْ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرَ: إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ» انْتَهَى. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «الحَجِّ»، وَالْبُخَارِيُّ فِي «المَغَازِي» - فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ - فِي «بَابِ عُمْرَةِ القَضَاءِ»، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ كَذَلِكَ لَمَا أَخْرَجَهُ، لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ اللِّقَاءَ، وَسَمَاعَ الرَّاوِي مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَصَاعِدًا، وَلَا خِلَافَ فِي إدْرَاكِ مُجَاهِدٍ لِعَائِشَةَ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ ابن أبي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «حِضْت بِسَرِفَ، فَطَهُرْت بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجْزِئُ عَنْك طَوَافُك بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجَّتِك»، انْتَهَى. وَمُسْلِمٌ إنَّمَا يَعْتَبِرُ التَّعَاصُرَ، وَإِمْكَانَ السَّمَاعِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنْ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ لَا خِلَافَ فِي اتِّصَالِهِ.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ، قَالَ: أُتِيَ مُجَاهِدٌ بِقَدَحٍ حَزَرْتُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، فَقَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا» انْتَهَى. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي سَمَاعِهِ مِنْهَا.

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ وَالْأَرْبَعِينَ، مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُجَاهِدًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ كَانَ وَاهِمًا، مَاتَتْ عَائِشَةُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَوُلِدَ مُجَاهِدٌ فِي سَنَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ» انْتَهَى كَلَامُهُ.

وقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي «كِتَابِهِ»: ذَكَرَ الدُّورِيُّ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ، قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ يُنْكِرُ سماع مجاهد من عَائِشَةَ، وَقَالَ الْقَطَّانُ: كَانَ شُعْبَةُ يُنْكِرُهُ أَيْضًا، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي «العِلَلِ»، وَذَكَرَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ شُعْبَةُ يُنْكِرُهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: رَوَى عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ سَمَاعُ مُجَاهِدٍ مِنْ عَائِشَةَ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ نَفَاهُ" انتهى.

وقال ابن حجر في «الفتح» (1/413): "قَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَمْ يَسْمَعْ مُجَاهِدٌ مِنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ فَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ مِنْهَا عِنْدَ البُخَارِيِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَثْبَتَهُ عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ نَفَاهُ".

قلت: فهذا الاختلاف بين جهابذة أهل النقد والعلل في مسألة سماع مجاهد من عائشة.

فالأصل عند كثير منهم أن مجاهداً لم يسمع من عائشة، وحجة من قال بسماعه منها هو ما قاله مُجَاهِدٌ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ المَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي المَسْجِدِ صَلاَةَ الضُّحَى، قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلاَتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَمُ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ.

قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ فِي الحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ يَا أُمَّاهُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ أَلاَ تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ؟ قَالَتْ: مَا يَقُولُ؟: قَالَ: يَقُولُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ»، قَالَتْ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً، إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ».

أخرجه البخاري في «صحيحه» (3/2) (1775) عن قُتَيْبَة. و(5/142) (4253) عن عُثْمَان بن أَبِي شَيْبَةَ.

ومسلمٌ في «صحيحه» (2/917) (1255) عن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ ابن راهويه.

ثلاثتهم (قتيبة، وعثمان، وابن راهويه) عن جَرِير بن عبدالحميد، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، به.

فهنا يُخبر مجاهد أنه سمع من عائشة هذا الحوار الذي دار بينها وبين عروة وابن عمر، وهذا هو حجة من أثبت سماعه منها.

لكن سماعه من عائشة هذا لا يعني أنه سمع الحديث منها! فالظاهر أن من نفى سماعه منها لا يثبتون أنه سمع شيئاً آخر منها فيما ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويُستبعد أن لا يعرف شعبة، ولا القطان، ولا ابن معين، وغيرهم هذه القصة! فلا شك أنهم يعرفونها، لكن كلامهم عن سماعه منها الحديث كما سمع منها أهل الحديث ممن كان يسألها ويسمع منها.

نعم، هو أدركها، وسمع هذه القصة التي حصلت بينها وبين عروة وابن عمر، لكن لا يوجد ما يثبت أنه سمع منها شيئاً مباشرة!

وعلى قلّة ما رُوي عنه عنها إلا أنه لم يأت التصريح بسماعه منها إلا في حديث موسى الجُهنيّ، وقد ردّه أهل النقد لغرابته أصلاً عن مجاهد!

وقد أخرج البخاري حديثاً آخر غير حديث سبّ الأموات، وأخرج مسلم حديثاً آخر.

·       حديث آخر لمجاهد عن عائشة عند البخاري! واضطراب إبراهيم بن نافع فيه!

روى البخاري في «صحيحه» (1/69) (312) قال: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا».

ورواه أبو داود في «سننه» (1/268) (358) عن محمَّد بن كثير العبدي، قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع، عَنِ الحَسَنِ بنِ مُسْلِمِ بنِ يَنَّاقٍ يَذكُرُ عن مُجاهِدٍ، قال: قالت عائشةُ: «ما كانَ لإحدانا إلا ثوبٌ واحدٌ تَحيض فيه، فإذا أصابَه شيءٌ مِن دَمٍ بَلَّتهُ بَريقِها، ثمَّ قَصَعَتهُ برِيقِه».

كذا اختلفوا على إبراهيم بن نافع فيه!

قال ابن رجب في «فتح الباري» (2/83): "فخالف في إسناده: حيث جعل: «الحسن» - وَهوَ: ابن مسلم - بدل: «ابن أبي نجيح»، وفي متنه: حيث قالَ: «قصعته» بالقاف. وكذا خرجه الإسماعيلي مِن حديث أبي حذيفة، عن إبراهيم، إلا أنَّهُ قالَ: «قصعته بظفرها». وكأنه يشير إلى أن هَذهِ الرواية أصح مِن رواية البخاري".

وقال ابن حجر في «فتح الباري» (1/413): "طَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ دَعْوَى الِانْقِطَاعِ، وَمِنْ جِهَةِ دَعْوَى الِاضْطِرَابِ! فَأَمَّا الِانْقِطَاعُ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ يَسْمَعْ مُجَاهِدٌ مِنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ، فَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ مِنْهَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَثْبَتَهُ عَلِيُّ بنُ الْمَدِينِيِّ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ نَفَاهُ. وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ فَلِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ لَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ نَافِعٍ، عَن الْحسن بن مُسلم بدل ابن أَبِي نَجِيحٍ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَا يُوجِبُ الِاضْطِرَابَ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بنَ نَافِعٍ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَأَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَحْفَظُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخِ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ، وَقَدْ تَابَعَ أَبَا نُعَيْمٍ: خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو حُذَيْفَةَ، وَالنُّعْمَانُ بنُ عَبْدِالسَّلَامِ فَرَجَحَتْ رِوَايَتُهُ، وَالرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي الرِّوَايَةِ الراجحة، وَالله أعلم".

قلت: يُستبعد أن يكون إبراهيم سمعه من شيخين عن مجاهد! وينفرد بذلك!

فالذي يظهر أن إبراهيم بن نافع المكي - وهو ثقة - كان يضطرب في إسناده! وقد خولف فيه!

رواه عَبْدُالرَّزَّاقِ في «مصنفه» (1/320) (1229).

وأبو داود في «سننه» (1/272) (364) عن عبدالله بن محمد النُّفَيليّ.

والدارمي في «سننه» (1/685) (1049) عن مُحَمَّد بن يُوسُفَ.

ثلاثتهم عَنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ لِإِحْدَانَا الدِّرْعُ فِيهِ تَحِيضُ، وَفِيهِ تُجْنِبُ، ثُمَّ تَرَى فِيهِ الْقَطْرَةَ مِنْ دَمِ حَيْضَتِهَا، فَتَقْصَعُهُ بِرِيقِهَا»

فهذا ابن عيينة خالف إبراهيم فيه ورواه عن ابن أبي نَجيح، عن عطاء، عن عائشة.

وهذا يُبيّن اضطراب إبراهيم في روايته، فهو رواه عن ابن أبي نجيح في رواية إلا أنه رواه عن مجاهد، ورواية سفيان أصح، وهو أوثق وأتقن من إبراهيم، ورواه على وجه واحد، وأما إبراهيم فرواه على وجهين، وهذا يؤكد وهمه فيه!

قال البيهقي في «السنن الكبرى» (2/567): "والمَشْهُورُ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَقَدْ رَوَاهُ خَلَّادُ بنُ يَحْيَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فَهُوَ صَحِيحٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا".

قلت: لا دليل على صحته من الوجهين، والأقرب للصواب أن إبراهيم اضطرب فيه، ورواية سفيان أصح، والله أعلم.

·       حديث آخر لمجاهد عن عائشة عند مسلم! خولف فيه إبراهيم بن نافع!

روى مسلمٌ في «صحيحه» (2/880) (1211): حَدَّثَنِي حَسَنُ بنُ عَلِيٍّ الحُلْوَانِيُّ، قال: حَدَّثَنَا زَيْدُ بنُ الحُبَابِ، قال: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بنُ نَافِعٍ، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُاللهِ بنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ فقالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ، عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ».

ورواه أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُاللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ الفَاكِهِيُّ في «فوائده» (ص: 341) (145). [ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/172) (9419) عن أَبي عَبْدِاللهِ الحَافِظ، وأَبي مُحَمَّدٍ عَبْداللهِ بن يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيّ، عن الفَاكِهِيّ].

وأبو عوانة في «مستخرجه» (2/286) (3162) عن أَبي يَحْيَى عَبْداللَّهِ بن أَحْمَدَ بنِ أَبِي مَسَرَّةَ.

والدارقطني في «سننه» (3/304) (2626) من طريق أَبي نُعَيْمٍ، وَعُثْمَان بن عُمَرَ.

كلهم (الفاكهي، وابن أبي مسرة، وأبو نعيم، وعثمان) عن خَلَّاد بن يَحْيَى، عن إِبْرَاهِيم بن نَافِعٍ، به.

قلت: كذا تفرد به إبراهيم بن نافع بهذا الإسناد! وخالفه ابن عيينة، وهو أتقن منه.

رواه الشافعي في «مسنده» (1/391) (1006).

والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/200) (3919) من طريق أَسَد بن مُوسَى، ويَعْقُوب بن حُمَيْدٍ.

والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/281) (9809) من طريق ابن أَبِي عُمَرَ.

كلهم (الشافعي، وأسد، ويعقوب، وابن أبي عمر) عن سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ، عن ابن أبي نُجيْحٍ، عن عَطَاءٍ، عن عائشة: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم قال لها: «طوافُكِ بالبيتِ وبين الصفا والمروةِ يكفيكِ لِحَجتكِ وعُمرتكِ».

[ورواه أبو داود في «سننه» (3/276) (1897) عن الربيع بن سليمانَ المُرَادِيّ المؤذِّن. وأبو نُعيم في «الحلية» (9/157) من طريق أَبي ثَوْرٍ. كلاهما عن الشافعي]

قال الذهبي في «السير» (10/62): "هَذَا حَدِيْثٌ صَالِحُ الإِسْنَادِ".

قلت: هذا إسناد صحيح، وهو أولى من رواية إبراهيم بن نافع. والذي أراه أن إبراهيم بن نافع أخطأ في إسناده، والصواب: عن عطاء عن عائشة، لا عن مجاهد عن عائشة، والله أعلم.

ويبدو أن إبراهيم كان يضطرب فيما يرويه عن ابن أبي نجيح! فيروي أحاديثه عن عطاء عن عائشة يجعلها عن مجاهد عن عائشة!

ومما يؤيد هذا ما رواه عَبْدُاللهِ بنُ المُبَارَكِ في «الزهد» (258) قال: حدثَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: «لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ لَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنِ لِلْخَرَابِ وَلِدْ لِلْفَنَاءِ».

فها هو إبراهيم يقول في حديثه هنا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أو غيره على الشك، وهذا يدلّ على أنه لم يُحكم ضبط حديثه عن ابن أبي نجيح، والله أعلم.

والعجيب أن ابن عيينة قد خالف إبراهيم في هذه الأحاديث، وابن عيينة نفسه يقول عن إبراهيم: "كَانَ حَافِظًا"! ويقول ابنُ مَهْدِيٍّ: "كَانَ أَوْثَقَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ".

قلت: كونه كان حافظاً لا يعني أنه لم يكن يُخطئ! وقد روى عنه سفيان، وكانت وفاته ما بين سنة (161 - 170هـ)، وعمّر سفيان بعده ومات سنة (198هـ)، وسفيان كان من أحفظ الناس.

وقد روى سفيان عن ابن أبي نجيح ودلّس عنه، وكان سفيان يُدلس لكن لا يُدلس إلا عن ثقة.

قال عبدالله بن أحمد في «العلل» (3/58) (5137): حدثني أبي قال: حدثنا شعيب بن حرب قال: حدثنا سفيان بن عيينة بحديث عن ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ في الهَدي، قَالَ: «رُكُوبُ يَوْمَيْنِ، وَمَشْيُ يَوْمَيْنِ».

قال شعيبُ: فقلت لسفيان، سمعته من ابن أبي نجيح، فقال: فأنت ممن سمعته؟

قال شعيب: فقلت له: سمعتُه من إبراهيم بن نافع عن، ابن أبي نجيح.

فقال سفيان: وأنا سمعتُه من إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح.

فهذا الأثر رواه سفيان عن ابن أبي نجيح، ولم يسمعه منه، وإنما رواه عن إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، لكن لما رواه دلّسه.

والأحاديث السابقة التي اختلف فيها إبراهيم وسفيان على ابن أبي نجيح لا علاقة لها بتدليس سفيان هنا؛ لأن إبراهيم يرويها عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عائشة، وسفيان يرويها عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن عائشة.

فمن يرى أن ابن أبي نجيح رواها عن مجاهد وعطاء، فيقبلهما، لكن أن ينفرد ابن أبي نجيح بها عنهما فهذا فيه بعد مع القول بأن مجاهداً لم يسمع من عائشة! ولو صحت عن مجاهد عن عائشة، فهي مرسلة.

والأقرب للصواب هو ترجيح حديث ابن عيينة على إبراهيم، والله أعلم.

فهذه ثلاثة أحاديث أخرجها البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن مجاهد عن عائشة، وقد وهم إبراهيم بن نافع في حديثين منها!

والقصة التي رواها مجاهد من حوار بين ابن عمر وعروة وعائشة هي حجة من قال بسماع مجلهد من عائشة، وحقيقة هي لا تدلّ على أنه سمع من عائشة الحديث، وإنما كان حاضراً لذلك الحوار.

وقد يُستدل أيضاً بسماع مجاهد من عائشة بما رواه خُصَيْفٌ الجزري، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: جَاءَتْ عَائِشَةُ فَدَخَلَتِ الْبَيْتَ فِي سِتَارِهِ وَمَعَهَا نِسْوَةٌ فَأَغْلَقَتِ الحَجَبَةُ الْبَيْتَ دُونَ النِّسَاءِ فَجَعَلْنَ يُنَادِينَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَسَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: «عَلَيْكُنَّ بِالْحِجْرِ فَإِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ».

رواه الأزرقي في «أخبار مكة» (1/315) من طريق سَعِيد بن مَنْصُورٍ، قال: حَدَّثَنَا عَتَّابٌ، عَنْ خُصَيْفٍ، به.

قال الخلال في كتاب «السنة» (1/223) (364): وَأَخْبَرَنِي عَبْدُالمَلِكِ المَيْمُونِيُّ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ - يعني: أحمد بن حنبل - فِي حَدِيثِ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، سَمِعْتُ صَوْتَ عَائِشَةَ تَقُولُ لِلنِّسَاءِ: «عَلَيْكُنَّ بِالْحِجْرِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ»، قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: "هَذَا يُثْبِتُ سَمَاعَهُ مِنْهَا".

فقد يُفهم أن أحمد يُثبت سماعه من عائشة بهذا الحديث! لكن هذا فيه نظر! فالظاهر أن أحمد ساق هذا مساق الذكر لا التقرير! كيف وهو ينقل عن يحيى القطان أنه لم يسمع منها، وكذا نقل عن شعبة.

وهذا الذي أخبر به مجاهد أنه سمع صوت عائشة لا يخرج عن القصة آنفة الذكر في سماع مجاهد للحوار الذي دار بينها وبين ابن عمر وعروة، وهي عمدة من أثبت السماع لمجاهد من عائشة.

فحضور مجلس يسمع فيه الشخص بعض الأمور يختلف عن الجلوس في مجلس يسمع من الشيخ وهو يُحدّث.

ثم إن هذا الحديث ضعيفٌ لا يُحتج به!

فخُصيف هذا ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما.

وقال يحيى القطان: "كنا نجتنب خصيفاً".

وقال أبو حاتم: "تُكلِّم في سوء حفظه".

وعتّاب بن بشير الجزري ضعيفٌ أيضاً!

قال ابن المديني: "كان أصحابنا يضعفونه"، وقال: "ضربنا على حديثه".

وقال النسائي: "ليس بذاك في الحديث".

وقال أحمد: "أرجوا ألا يكون به بأس، أتى عن خصيف بمناكير أراها من قبل خصيف". وروى عبدالله بن أحمد عن أبيه قال: "عتاب بن بشير كذا وكذا، قال: عبدالله الذي يقول فيه أبي كذا وكذا - يحرك يده".

قلت: فهذا من مناكير خصيف بحسب كلام الإمام أحمد، فكيف يعتمد الإمام أحمد على هذا في إثبات السماع؟!

وعموماً... لو صح أن الإمام أحمد أثبت سماع مجاهد من عائشة، فنحن نتبع ما قاله الجهابذة ممن أنكر السماع كشعبة، والقطان، وابن معين.

فالصواب أن مجاهداً لم يسمع من عائشة.

وقد خرّج البزار في مسنده (12) حديثاً عن مجاهد عن عائشة، منها واحد عند البخاري في سب الأموات، والبقية لا تصح عن مجاهد، وهي من رواية الضعفاء، وقد بيّن البزار ضعف غالبها.

وقد روى الفاكهي في «فوائده» (ص: 259) (93).

والبزار في «مسنده» (18/234) (252) عن عبدالأعلى بن زيد.

كلاهما (الفاكهي، وعبدالأعلى) عن خَلَّاد بن يَحْيَى، قالَ: حَدَّثَنا إبراهيم بن نافع، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ عائشة - رضي الله عنها -: «أن صفية حاضت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحابستنا؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها قد طافت بالبيت حين أفاضت قال: فلتنفر إذاً».

قال البزار: "ولا نعلم روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عائشة إلا هذا الحديث".

قلت: قول البزار هذا فيه إشارة إلى تضعيفه للحديثين السابقين اللذين رواهما إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عائشة! وقد تبيّن لنا أن إبراهيم وهم فيهما، وبذا يصح قول البزار - رحمه الله -.

وهذا الحديث تفرد به إبراهيم بن نافع بهذا الإسناد! وهو محفوظ من طرق عن الفاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، عن عائشة.

وحديث شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عائشة في النهي عن سبّ الأموات سمعه الأعمش من مجاهد، لكن لم يصرح مجاهد أنه سمعه من عائشة، ولا يُعرف عنه أنه يُدلّس، لكن لا يُستبعد أنه أرسله، فربما سمعه من بعضهم فأرسله.

وقد رواه ابن حبان من طريق الأعمش، وفيه قصة فيها نظر!

رواه في «صحيحه» (7/290) (3021) قال: أَخْبَرَنَا الحَسَنُ بنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بنُ عُمَرَ بنِ أَبَانَ الجعفيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو زبيد عَبْثَر بن القاسم، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةَ: مَا فَعَلَ يَزِيدُ بنُ قَيْسٍ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ؟ قَالُوا: قَدْ مَات، قَالَتْ: فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فَقَالُوا لَهَا: مَا لَكَ لَعَنْتِيهِ ثُمَّ قُلْتِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؟ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا».

قَالَ ابن حِبّان: "مَاتَتْ عَائِشَةُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَوُلِدَ مُجَاهِدٌ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَدَلَكَ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُجَاهِدًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ كَانَ وَاهِمًا فِي قوله ذلك".

قلت: هذا إسناد صحيح، والقصة غريبة! ورُوي عن الأعمش من غير هذه الطريق أيضاً.

أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ «أَخْبَارِ البَصْرَةِ» عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَزِيدَ الرِّفَاعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، مُجَاهِدٍ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا فَعَلَ يَزِيدُ الْأَرْحبيُّ لَعَنَهُ اللَّهُ، قَالُوا: مَاتَ، قَالَتْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، قَالُوا: مَا هَذَا، فَذَكَرَتِ الحَدِيثَ.

ذكره الحافظ في «الفتح» (3/259) ثم قال: "وأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ: إِنَّ عَلِيًّا بَعَثَ يَزِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْأَرْحبيِّ فِي أَيَّامِ الجَمَلِ بِرِسَالَةٍ فَلَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا، فَبَلَغَهَا أَنَّهُ عَابَ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَكَانَتْ تَلْعَنُهُ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهَا مَوْتُهُ نَهَتْ عَنْ لَعْنِهِ، وَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ الله نَهَانَا عَن سبّ الْأَمْوَات، وَصَححهُ ابن حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ بِالقِصَّةِ".

قلت: يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَرْحَبِيُّ وَلَّاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَصْبَهَانَ وَالرَّيَّ وهَمَذَانَ. [تاريخ أصبهان لأبي نُعيم الأصبهاني (2/321)].

وهذه القصة مُستغربة عن عائشة - رضي الله عنها -!

ورُويت من طرق أخرى عَنْ مَسْرُوقٍ عنها، وكل طرقها واهية.

رواها الطبراني في كتاب «الدعاء» (ص: 572) (2067) قال: حَدَّثَنَا صَالِحُ بنُ مُقَاتِلِ بْنِ صَالِحٍ الخُتَّلِيُّ، قال: حدثنا أَبِي، قال: حدثنا أَبُو هَمَّامٍ مُحَمَّدُ بنُ الزِّبْرِقَانِ، قال: حدثنا بَحْرُ بْنُ كُنَيْزٍ، عَنْ أَبَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا فَعَلَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَرْحَبِيُّ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ فَقُلْتُ: مَاتَ، فَقَالَتْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: فِيمَ لَعَنْتِيهِ وَفِيمَ اسْتَغْفَرْتِ؟ قَالَتْ: «لَعَنْتُهُ لِأَنَّهُ كَانَ نَمَّامًا بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَكَذَبَ عَلَيَّ، وَقَالَ مَا لَمْ أَقُلْ، وَاسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ وَتُبْتُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ نَسُبَّ أَمْوَاتَنَا».

قلت: هذا إسناد منكر! بَحْرُ بنُ كُنَيْزٍ السَّقَّاءُ أَبُو الفَضْلِ البَاهِلِيُّ: ليس بشيء، متروك الحديث، وقد اتهمه ابن الجَوْزِيّ بِالوَضْعِ.

ورواها أيضاً الخطيب في «تلخيص المتشابه في الرسم» (1/291) من طريق عَمْرو بن عَبْدِالمَلِكِ بنِ سَلْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بنُ عَيَّاشِ بنِ عَمْرٍو العَامِرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقِ بنِ الأَجْدَعِ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا فَعَلَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ قُلْتُ: مَاتَ، قَالَتْ: رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنَّمَا «نُهِينَا عَنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ».

قلت: هذا إسناد مجهول! عمرو بن عبدالملك، وعبدالله بن عياش، وأبوه مجاهيل.

وذكر الدارقطني هذا الحديث في «الغرائب والأفراد» [كما في الأطراف (5/534) (6321)] وقال: "تفرد بِهِ مجاعَة بن الزبير، عَن أبان بن عَيَّاش، عَن سليم بن قيس الْأَشْعَرِيّ، عَن مَسْرُوق، عن عائشة".

قلت: وهذا إسناد منكر! مُجَّاعَةُ بنُ الزُّبَيْرِ البَصْرِيُّ: ضعيف، لا يُحتج به. وأبان بن عيّاش: ليس بشيء!

ورواها أيضاً الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (ص: 55) (89) عن إِبْرَاهِيم بن هَانِئٍ، عن نُعَيْم بن حَمَّادٍ، عن عَبْدالعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ المِصْرِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ قُلْتُ: تُوُفِّيَ. قَالَتْ: رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: وَكَيْفَ هَذَا؟ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ».

قلت: الدراوردي فيه ضعف، وأَبُو شَيْبَة المِصْرِي هو: يَحْيَى بن عَبْدالرَّحْمَنِ الكناني، ويُقال: الْكِنْدِيّ من أهل الصدق لكن بينه وبين مسروق مفاوز! والحديث مُعضل!

والخلاصة أن هذا الحديث لا يصح عن مسروق عن عائشة، وصحّ عن الأعمش، عن مجاهد، عن عائشة، والقصة فيه منكرة! وهو منقطع بين مجاهد وعائشة، والله أعلم.

·       أحاديث أخرى رُويت عن مجاهد عن عائشة!

وقد رُويت أحاديث أخرى عن مجاهد عن عائشة، ولا تصح عنه، وقد ذكر أصحاب كتب الغرائب الكثير منها؛ لأنها غريبة من حديث مجاهد عن عائشة كما فعل الطبراني في «المعجم الأوسط»، وأبو نُعيم في «الحلية»، وغيرهما.

فهي لا تصح أصلاً عن مجاهد، وأسانيدها ضعيفة من رواية أمثال ليث بن أبي سُليم، ويزيد بن أبي زياد، وغيرهما! أو هي معلولة الأسانيد.

ومن ذلك ما رواه أحمد في «مسنده» (41/307) (24798) قال: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَدْنَاهُ وَقَرَّبَ مَجْلِسَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ تَكُ تَشْكُو هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ، أَوْ شَرِّ النَّاسِ، الَّذِينَ إِنَّمَا يُكْرَمُونَ اتِّقَاءَ شَرِّهِمْ».

قال شعيب الأرنؤوط ورفاقه في التعليق على هذه الرواية: "حديث صحيح، شريك - وهو ابن عبدالله النَّخعي القاضي، وإن يكن سيِّئَ الحفظ - متابع، والأعمش - وإن يكن كما قال أبو حاتم في «العلل» 2/210 قليلَ السماع من مجاهد، وعامَّةُ ما يروي عن مجاهد مدلَّس، وكما ذكر ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 1/241 بإسناده إلى يحيى بن سعيد قال: كتبت عن الأعمش أحاديث عن مجاهد كلها ملزقة لم يسمعها - متابع أيضاً.

وأخرجه أبو داود (4793) من طريق أسود بن عامر، بهذا الإسناد. وعنده «اتّقاء ألسنتهم» بدل: «اتقاء شرِّهم».

وأخرجه أبو يعلى (4618) عن بشر بن الوليد، عن شريك، به.

وأخرجه ابن راهويه (834) و(1198) و(1793)، وأبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» 1/215 من طريق ليث، عن مجاهد، به" انتهى.

وساق شعيب الأرنؤوط الكلام بحروفه في تعليقه على «سنن أبي داود» (7/171) (4793).

قلت: لا أدري من الذي تابع شريكا عليه بحسب قولهم إنه توبع؟ فمن الذي تابعه؟

وقد قال الطبراني في «المعجم الأوسط» (4/220): "لَمْ يَرْوِ هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الْأَعْمَشِ إِلَّا شَرِيكٌ".

وعدّوا رواية ليث متابعة للأعمش! وفي رواية البزار في «مسنده» (18/233) (250) عن الفضل بن سهل، عن الأسود بن عامر، قالَ: حَدَّثَنا شريك، عن الأعمش وليث، عن مجاهد، عن عائشة، به.

فجمع شريك بين الأعمش وليث!

قال البزار: "وهذا الحديث قد روي عن عائشة رضي الله عنها من وجوه، ولا نَعْلَمُ رَوَاهُ عن الأعمش، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها إلا شريك".

قلت: شريك سيء الحفظ فلا يُعتمد في هذه الرواية، وجمعه بين الأعمش وليث دليل على وهمه فيه! والحديث معروف عن ليث عن مجاهد، وهذه قرينة على وهم شريك في ذكره للأعمش!

ولو صحت روايته عن الأعمش عن مجاهد لكان ذلك من تدليسات الأعمش عن ليث؛ لأن الحديث حديث ليث بن أبي سُليم.

والحديث الصحيح عن عائشة ما رواه عُرْوَة بن الزُّبَيْرِ عنها أَنَّها أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، أَوِ ابْنُ العَشِيرَةِ» فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الكَلاَمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الكَلاَمَ؟ قَالَ: «أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ، أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ».

·       وهمٌ للحاكم!

أخرج الحاكم في «المستدرك» (1/541) حديث سفيان الثوري، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ المُغِيرَةَ بن شُعبة في النهي عن سبّ الأموات، ثم قال: "إِنَّمَا اتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا»".

قلت: وهذا وهم منه - رحمه الله -! فإن مسلماً لم يُخرّج هذا الحديث، وقد تفرد به البخاري.

وحديث المغيرة فيه اختلاف على سفيان، ولا يصح.

3- روى البخاري في «صحيحه» (7/80) (5444) قال: حَدَّثَنَا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ»، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ التَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ النَّخْلَةُ».

قلت: خرّجه البخاري لذكر الأعمش سماعه له من مجاهد.

وقد خرّجه أيضاً من حديث زُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً، تَكُونُ مِثْلَ المُسْلِمِ، وَهِيَ النَّخْلَةُ».

4- روى البخاري في «صحيحه» (1/172) (865) قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بنُ مُوسَى، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى المَسْجِدِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ». تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم.

قلت: ساق حديث شعبة عن الأعمش عن مجاهد متابعة، ورواية شعبة عن الأعمش يعني أن الأعمش صرّح بسماعه له من مجاهد.

وقد رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (3/410) (2006).

وأحمد في «مسنده» (9/62) (5021) عن مُحَمَّد بن جَعْفَرٍ غُنْدر.

والسرّاج في «مسنده» (ص: 259) (792) من طريق خَالِد بن الحَارِثِ.

والطبراني في «المعجم الكبير» (12/399) (13472) من طريق عَمْرو بن مَرْزُوقٍ.

كلهم (الطيالسي، وغندر، وخالد، وعمرو) عن شُعْبَة، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ المَسَاجِدَ بِاللَّيْلِ» فَقَالَ ابْنُهُ: بَلَى، وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا، فَرَفَعَ يَدَهُ فَلَطَمَهُ، فَقَالَ: "أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ هَذَا"!.

ورواه أحمد في «مسنده» (10/387) (6296) عن ابْنُ نُمَيْرٍ. ومسلمٌ في «صحيحه» (10/387) (442) من طريق أَبي مُعَاوِيَةَ وعِيسَى بن يُونُسَ. والسراج في «مسنده» (ص: 259) (791) من طريق أَبي مُعَاوِيَةَ وَجَرِير وَعَبْدالرَّحْمَن بنِ مَغْرَاءَ. كلهم عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ.

قَالَ عَبْدُالرَّحْمَن بن مَغراء: "حدثنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا".

5- روى البخاري في «صحيحه» (8/6) (5991) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ، قال: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، والحَسَنِ بنِ عَمْرٍو، وَفِطْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَمرو: - قَالَ سُفْيَانُ: لَمْ يَرْفَعْهُ الأَعْمَشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَفَعَهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».

ورواه أبو داود في «سننه» (3/122) (1697) عن ابن كثيرِ، به.

ورواه أبو نُعيم في «الحلية» (3/301) من طريق مُحَمَّد بن مُحَمَّدِ بنِ حِبَّانَ، عن مُحَمَّد بن كَثِيرٍ، به.

قال بو نُعيم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا عَنْ زَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ، وَرَوَاهُ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضِ عَنْ فِطْرٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ".

فهذا الحديث يرويه سفيان الثوري عن ثلاثة: الأعمش، والحسن بن عمرو والحَسَنِ بنِ عَمْرٍو الفُقَيْمِيّ، وفطر بن خليفة، ثلاثتهم عن مجاهد، عن عبدالله بن عَمرو. لكن الأعمش وقفه على عبدالله بن عمرو، ورفعه الحسن وفطر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر في «الفتح» (10/423): "وَقَوْلُهُ: «لَمْ يَرْفَعْهُ الْأَعْمَشُ وَرَفْعُهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ» هَذَا هُوَ المَحْفُوظُ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الفِرْيَابِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الحَسَنِ بنِ عَمْرٍو وَحْدَهُ مَرْفُوعًا، ومِنْ رِوَايَةِ مُؤَمِّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الحَسَنِ بنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا، وَعَنِ الْأَعْمَشِ مَرْفُوعًا، وَتَابَعَهُ أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بنُ طَارِقٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَلَى رَفْعِ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَخَالَفَهُ عَبْدُالرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ فَرَفَعَ رِوَايَةَ الحَسَنِ بنِ عَمْرٍو، وَهُوَ المُعْتَمَدُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ رِوَايَةَ فِطْرِ بنِ خَلِيفَةَ مَرْفُوعَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ عَنْ فِطْرٍ وَبَشِيرِ أبي إِسْمَاعِيلَ كِلَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِهِ عَنْ فِطْرٍ مَرْفُوعًا، وَزَادَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: «إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ، وَلَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ» الحَدِيثَ".

وقال البزار في «مسنده» (6/361): "وَهَذَا الحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ".

وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (5/470) (2119): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ الحَسَنُ بْنُ عَمرو الفُقَيْمِي، وفِطْرٌ، والأعمَش، كلُّهم عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عبدالله بن عمرو - رَفَعَهُ فِطْرٌ والحَسَن، وَلَمْ يرفعْهُ الأعمَش - قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الوَاصِلَ مَنْ يُقْطَعُ فَيَصِلُهَا»؟

قَالَ أَبِي: "الأعمَشُ أحفظُهم، والحديثُ يَحتملُ أن يكونَ مرفوعًا، وأنا أخشى ألا يكون سمع هذا الأعمَشُ مِنْ مُجَاهِدٍ، إنَّ الأعمَشَ قليلُ السَّمَاعِ مِنْ مُجَاهِدٍ، وعامَّةُ مَا يَرْوِي عَنْ مجاهدٍ مُدَلَّسٌ".

قلت: كأن أبا حاتم مال إلى تدليس الأعمش له؛ لأنه لم يرفعه! ولم يذكر الأعمش فيه سماعه له من مجاهد!

لكن البخاريّ خرّجه؛ لأن الحسن وفطر قد تابعا الأعمش عليه، وقد رفعا الحديث عن مجاهد، فنظر إلى روايتهما وخرّج الحديث.

وقد تابعهما أيضاً على رفعه: بَشِيرُ بنُ سلمَانَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الكوفي كما عند الترمذي في «جامعه» وغيره.

ورُوي أيضاً عن زُبيد عن مجاهد مرفوعاً أيضاً.

رواه الخليلي في «الإرشاد في معرفة علماء الحديث» (1/437) من طريق سَلَمَة بْن الفَضْلِ، عن سُفْيَان الثَّوْرِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، به، مرفوعاً.

قال الخليلي: "لَمْ يَرْوِهِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ زُبَيْدٍ إِلَّا سَلَمَةُ، وَرَوَاهُ أَصْحَابُ سُفْيَانَ عَنْهُ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الفُقَيْمِيِّ، وَفِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ".

قلت: أراد تعليل رواية سلمة بن الفضل، وأنه لا يحفظ أن زبيداً رواه عن مجاهد، فقد خالف سلمة فيه أصحاب سفيان.

وقال أبو نُعيم في «الحلية» (8/129): "وَرَوَاهُ أَيْضًا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ".

ورواية حرملة أخرجها الطبراني في «المعجم الكبير» [جـ 13، 14 (ص: 434) (14280)] عن عبدالله بن موسى بن أبي عثمان الأَنْماطي، عن موسى بن محمَّد بن حَيَّان البصري، عن بِشْر بن المُفَضَّل، عن عبدالرحمن بن حَرْمَلَة المدني، [عن مجاهد]، عن عبدالله بن عَمرو، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ، ولَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ، ولَكِنَّ الوَاصِلَ إِذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَهَا».

وقد سقط من المطبوع: «عن مجاهد»!

فالذي يظهر لي أن الرفع محفوظ عن مجاهد، وربما كان يُحدّث به مرفوعاً، وموقوفاً، فضبطه الأعمش عنه موقوفاً، والله أعلم.

ويُروى بمعناه من كلام عبدالله بن عمرو أو من كلام أبيه!

روى ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (31/269) في ترجمة «عبدالله بن عمرو بن العاص» من طريق يزيد بن هارون، عن الجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، قال: قال عبدالله بن عمرو بن العاص لأخواله حيّ من عنزة، يُقال لهم بنو فلان: «يا بني أُمّي، إنه ليس الواصل الذي يصل من وصله، ويقطع من قطعه، وليس الحليم الذي يحلم عنه عمن يحلم عنه، ويجهل على من يجهل، قالوا: فمن ذاك؟ قال: ذاك المنصف، ولكن الواصل الذي يصل من وصله، ويصل من قطعه، وليس الحليم الذي يحلم عن من يحلم عنه، ويجهل على من يجهل عليه، قالوا: فما ذاك؟ قال: ذاك المنصف، إنما الحليم الذي يحلم عمن يحلم عنه، ويحلم عمن يجهل عليه».

قال ابن عساكر: "أم عبدالله بن عمرو: ريطة بنت منبه بن الحجاج السهمية، فأخواله: بنو سهم من قريش، فأما بنو عنزة فهم أخوال أبيه عمرو بن العاص، وهذا الكلام محفوظ من كلام عمرو بن العاص، وسيأتي في ترجمته على الصواب، ولكن هذا وقع في هذه الرواية فأوردتها هنا على ما رُويت".

قلت: فانظر كيف صحح ابن عساكر صاحب الرواية من خلال النسب، ففي الرواية أنه خاطب أخواله من بني عنزة، وعبدالله أخواله من بني سهم لا من بني عنزة، ووالده عمرو هو الذي أخواله من بني عنزة، فالحديث حديثه لا حديث ابنه عبدالله.

ثم ساق الحديث في ترجمة «عمرو بن العاص» (46/187) من طريق علي بن عاصم، عن الجريري، عن أبي السليل، قال: قال عمرو بن العاص: «ليس الحليم من يحلم عمن يحلم عنه، ويجاهل من جاهله، ولكن الحليم من يحلم عمن يحلم عنه، ويحلم من جاهله».

وهذا الاختلاف إنما هو من الجُريري سعيد بن إياس، وكان قد اختلط بأخرة.

وأَبُو السَّلِيلِ هو: ضُرَيْبُ بنُ نُقَيْرٍ - وقِيلَ: ابنُ نُفَيْرٍ، بِالفَاءِ - الجُرَيْرِيُّ البَصْرِيُّ، وكانت وفاته ما بين سنة (101 - 110هـ)، ولا أظنه سمع من عمرو بن العاص (ت 43هـ)، والله أعلم.

6- روى مسلمٌ في «صحيحه» (4/2158) (2800) قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ بنُ مُعَاذٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: «انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلْقَتَيْنِ، فَسَتَرَ الجَبَلُ فِلْقَةً، وَكَانَتْ فِلْقَةٌ فَوْقَ الجَبَلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمَّ اشْهَدْ».

وحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. [ح] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِإِسْنَادِ ابْنِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ: فَقَالَ «اشْهَدُوا، اشْهَدُوا».

قلت: وهذا قد تكفل لنا شعبة بسماع الأعمش له من مجاهد.

والعجيب أن البخاري لم يُخرّجه!

والحديث مشهور عن شعبة، رواه عنه جماعة من أصحابه. وخرّجه الترمذي في «جامعه» (5/251) (3288) من طريق الطيالسي، عن شعبة.

وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".

والحديث مشهور ومحفوظ أيضاً عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعيّ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بن مسعود.

أخرجه البخاري في «صحيحه» في عدة مواضع: (5/49) (3869)، و(3871)، و(6/142) (4864).

وأخرجه مسلم أيضاً في «صحيحه» من عدة طرق: (4/2158) (2800).

وأخرجه البخاري أيضاً (4/206) (3636)، و6/142) (4865) من حديث سفيان بن عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.

·       خطأ في «المستدرك»!

وقد أشار الحاكم في «المستدرك» إلى حديث عبدالله بن عمر، لكن جاء في المطبوع قوله: "وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو"!

ثم ساقه (2/513) (3759) عن أَبي العَبَّاسِ مُحَمَّد بن يَعْقُوبَ، عن إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوقٍ البَصْرِيّ، عن أَبي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ، عن شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] قَالَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انْشَقَّ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ فِلْقَةٌ مِنْ دُونِ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ خَلْفَ الْجَبَلِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ».

كذا فيه: «عَبْداللَّه بن عَمْرو»! وهو مصحّف، والصواب: «عَبْداللَّه بن عُمَر».

·       خلاصة:

فهذه خمسة أحاديث خرّجها البخاري ومسلم مما ثبت سماع الأعمش لها من مجاهد، بالإضافة لحديث «كن في الدنيا كأنك غريب» الذي خرّجه البخاري.

أخرج البخاري منها أربعة مسندة، وواحد متابعة، وآخر موقوفاً، وأخرج مسلم حديثين اتفق مع البخاري في أحدهما، والآخر متابعة.

وهذا العدد يوافق العدد الذي ذكره أئمة النقد في المُجمل، ويؤكد أن البخاري - رحمه الله - لما ردّ قولهم كان ذلك قبل أن يتبيّن له صحة قولهم، والله أعلم.

والذي يترجّح عندي أن حديث: «كن في الدنيا كأنك غريب» لم يسمعه الأعمش من مجاهد، وإنما أخذه من ليث بن أبي سُليم أو أبي يحيى القتّات، وكلاهما ضعيف، فدلّسه. والحديث لا يُشبه كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

·       رواية عَبْدَة بن أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ ابنِ عُمَرَ:

وهناك متابعة لمجاهد فيه، رواه عَبْدَةُ بنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ.

رواه أحمد في «مسنده» (10/297) (6156). وأبو نُعيم في «الحلية» (6/115) عن سُلَيْمَان بن أَحْمَدَ الطبراني، عن أَحْمَد بن عَبْدِالوَهَّابِ بنِ نَجْدَةَ الحَوْطِيّ. كلاهما (أحمد، والحوطي) عن أَبي المُغِيرَةِ عبدالقدوس بن حجاج الخَوْلاني.

ورواه النسائي في «السنن الكبرى» (10/389) (11803) عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ الرَّقيّ. وأبو نُعيم في «الحلية» (6/115) عن الطبراني، عن عَبْداللهِ بن مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بنِ أَبِي مَرْيَمَ. والآجري في «الغرباء» (ص: 32) (21) من طريق أَبي العَبَّاسِ أَحْمَد بن مُوسَى بنِ زنْجَوَيْهِ القَطَّان، عن إِبْرَاهِيم بن الوَلِيدِ الطَّبَرَانِيّ القُرَشِيّ. ثلاثتهم (ابن ميمون، وابن أبي مريم، وإبراهيم) عن مُحَمَّد بن يُوسُفَ الفِرْيَابِيّ.

كلاهما (أبو المغيرة، والفريابيّ) عن الْأَوْزَاعِيّ، عن عَبْدَة بن أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي، فقالَ: «اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَكُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».

قلت: هذا الحديث جعله بعض أهل العلم شاهداً لحديث الأعمش السابق مع الكلام في سماع عبدة من ابن عمر، كما فعل ابن حجر في «الفتح»، وغيره.

وأورده الألباني في «صحيحته» (3/460) (1473)، وقال: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين"! وذكر كلام ابن حجر في الاختلاف في سماع عبدة من ابن عمر، ولم يلتفت إليه، وذكر كلام أبي نُعيم الآتي ذكره.

·       تعقيب على كلام لشعيب ورفاقه!

قال شعيب الأرنؤوط ورفاقه في تعليقهم على «مسند أحمد» (10/297) عند الكلام على هذا الحديث: "وأشار المزي في «تحفة الأشراف» 5/481 إلى أنه عند النسائي في «الكبرى» (الرقائق)، وليس هو في مطبوع النسائي".

قلت: بل هو في «الكبرى» في «كِتَاب الرَّقَائِقِ» كما مرّ في التخريج. والعجب من شعيب فإنه أشرف على تحقيق كتاب النسائي والحديث فيه، وطبع في السنة نفسها التي طبع فيه مسند أحمد (1421هـ / 2001م).

·       تعقيب على كلام أبي نُعيم!

قال أبو نُعيم الأصبهاني في الموضع السابق (6/115) بعد أن روى حديث الفريابي: "رَوَاهُ الفِرْيَابِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، مِثْلَهُ".

قلت: لا يُعرف أن الأوزاعي روى هذا الحديث عن مجاهد! فإن صحّ كلام أبي نُعيم فيكون الفريابي تفرد به عن الأوزاعي بهذا الإسناد، ولم يُتابع عليه!!!

والأوزاعي لا يروي عن مجاهد، ولم يسمع منه، ولما مات مجاهد كان الأوزاعي صغيراً، فالأوزاعي ولد سنة (88هـ)، ومات مجاهد ما بين سنة (101 - 104هـ).

ومجاهد قدم الشام على سليمان بن عبدالملك، وكان قد بُوْيِعَ بَعْدَ أَخِيْهِ الوَلِيْدِ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ، ومات سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِيْنَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ: عُمَرُ بنُ عَبْدِالعَزِيْزِ، وقدم مجاهد الشام مرة أخرى على عمر بن عبدالعزيز وشهد وفاته سنة (99هـ).

وسنّ الأوزاعي حينها لم يكن سنّ سماع كما هي العادة عند الشاميين، وكانوا يتأخرون في طلب الحديث، ولا يُعرف أن الأوزاعي روى عن مجاهد.

فلعل الإسناد الذي ذكره أبو نُعيم إلى الفريابي فيه مشكلة كأن يكون رواه بعض المتكلَّم فيهم، أو وقع فيه تصحيف أو تحريف، أو غير ذلك؛ لأن الفريابي يرويه عن الأوزاعي، عن عبدة، عن ابن عمر، لا عن الأوزاعي، عن مجاهد، عن ابن عمر!

·       هل سمع عَبدة بن أبي لبابة من ابن عمر؟!

وقد اختلف أهل العلم في سماع عبدة من ابن عمر، فأثبته البخاري، ومسلم، وأبو أحمد الحاكم، وأبو نُعيم الأصبهاني، وغيرهم، ونفاه أبو حاتم، وابن عبدالهادي، وابن مَنده، والعلائي، وهو مقتضى كلام الإمام أحمد.

قال البخاري في «التاريخ الكبير» (6/114) (1877): "عبدة بْن أَبِي لبابة أَبُو القاسم الدمشقي، مولى لبْني غاضرة من أسد. سمع ابن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والقاسم بْن مخيمرة، روى عَنْهُ الثوري".

وتبعه مسلمٌ، فقال في «الكنى والأسماء» (2/688) (2778): "أبو القاسم عبدة بن أبي لبابة: سمع ابن عمر، والقاسم بن مخيمرة، وأبا سلمة. روى عنه: الثوري، والأوزاعي".

وقال أبو أحمد الحاكم: "أبو القاسم عبدة بن أبي لبابة الأسدي، الكوفي، سكن دمشق... سمع ابن عمر، وأبا سلمة بن عبدالرحمن الزهري، والقاسم بن مخيمرة الهمداني. روى عنه: الأوزاعي، وأبو خالد بن جريج وأبو الحكم الحسن بن الحر". [تاريخه دمشق (37/385)].

وقال أبو نُعيم في «الحلية» (6/114): "أَدْرَكَ عَبْدَةُ: عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ، وَسَمِعَ مِنْهُ".

وقال في جمعه لـ «مسند أبي حنيفة» (ص: 207): "سَمِعَ مِنَ ابنِ عُمَرَ، وَأَبِي وَائِلٍ، وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ".

وقد أثبت أبو حاتم له رؤية ابن عمر فقط.

قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص: 136) (490): سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "عَبْدَةُ بنُ أَبِي لُبَابَةَ رَأَى ابن عُمَرَ رُؤْيَةً".

وقد أعلّ هذا الحديث الذي رواه بعدم السماع.

قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (5/110) (1845): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ الفِرْيابي، عَنْ الأَوْزاعي، عَنْ عَبْدَةَ بنِ أَبِي لُبَابة، عَنِ ابْنَ عُمَرَ؛ قَالَ: «أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ جَسَدي فَقَالَ: اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وكُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»؟

قَالَ أَبِي: "لا أعلَمُ رَوَى هَذَا الحديثَ عَنِ الأَوْزاعي غَيْر الفِرْيابي، ولا أدري ما هو! وعَبْدَةُ رأى ابنَ عُمَرَ رؤية".

·       تعقب على أبي حاتم!

قلت: لم يتفرد الفريابي به، بل تابعه أبو المغيرة كما سبق بيانه في التخريج. وظاهر كلام أبي حاتم تعليله للحديث بالانقطاع بين عبدة وابن عمر، فهو قد أدركه ورآه، لكنه لم يسمع منه، وهذا مدلول قوله: "رأى ابن عمر رؤية" = يعني لم يسمع منه.

·       هل لقي عبدة ابن عمر في الشام؟

وروى الميموني عن أحمد بن حنبل قال: "عبدة بن أبي لبابة من أهل الكوفة، ولقي ابن عمر بالشام". [تاريخ دمشق (37/384)].

قلت: لو كان عبدة سمع منه لما كانت عبارة أحمد هكذا في اللقاء فقط، فقوله: "ولقي ابن عمر بالشام" = يعني رآه رؤية.

وكان قدوم عبدة للشام في إمارة عبدالملك بن مروان (ت 86هـ).

قال أبو زرعة في ذكر نفر قدموا الشام في إمارة عبدالملك وذويه، فذكرهم وفيهم: أبو القاسم عبدة بن أبي لبابة. [تاريخ دمشق (37/382)].

وقد بُويِعَ له بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ فِي خِلافَةِ ابنِ الزُّبَيْرِ، وصار أميراً عَلَى مِصْرَ وَالشَّامِ في شهر رمضان سنة خمس وستين بعد وفاة والده، وبقي ابنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بَاقِي البِلادِ مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ، ثُمَّ غَلَبَ عَبْدُالمَلِكِ عَلَى العِرَاقِ، وَمَا وَالاهَا فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَبَعْدَ سَنَةٍ قُتِلَ ابنُ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَوْسَقَ الأَمْرُ لِعَبْدِالمَلِكِ، واجتمع الناس على بيعته سنة ثلاث وسبعين حين قتل ابن الزبير، وخِلافَتُهُ المُجْمَعُ عَلَيْهَا مِنْ وَسَطِ سَنَةِ ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ.

وابن عمر نزل الشام عدة مرات، لكن كلامنا عن نزوله الذي لقيه فيه عبدة، فإن قلنا بأن عبدة نزل الشام في إمارة عبدالملك = يعني لما بويع سنة (65هـ)، فيكون قد لقي ابن عمر ما بين سنة (65هـ) إلى سنة (73هـ)؛ لأن ابن عمر توفي سنة (73هـ)، ولم أجد نصاً فيه متى نزل ابن عمر الشام في إمارة عبدالملك!

ويُحتمل أن المقصود في إمارته أي يوم اجتمع عليه الناس سنة (73) فيكون لقي ابن عمر في السنة التي توفي فيها! لكن هذا مستبعد لأمرين:

الأول: أن ابن عمر كان عمره (87) سَنَة آنذاك، وهو شيخ كبير لا يقوى على السفر الطويل للشام.

الثاني: أنه لما استتب الأمر لعبدالملك كتب إليه ابن عمر بالبيعة. [تاريخ دمشق: (37/132)].

والذي أراه أن عبدة لم يلق ابن عمر في الشام! وما قاله الإمام أحمد أنه لقيه هناك فيه نظر!

وقد روى عبدالرزاق في «مصنفه» (3/218) (5396) عَنْ مُحَمَّدِ بنِ رَاشِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ بنُ أَبِي لُبَابَةَ قَالَ: «دَخَلْتُ المَسْجِدَ وَصَلَّيْتُ مَعَ ابنِ عُمَرَ العَصْرَ، ثُمَّ جَلَسَ، وَحَلَّقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ نَحْوَ القَاصِّ قَالَ: ثُمَّ أَفَاضَ بِالحَدِيثِ قَالَ: فَرَفَعَ القَاصُّ يَدَهُ يَدْعُو، فَلَمْ يَرْفَعِ ابْنُ عُمَرَ يَدَهُ».

قلت: فهذا النص الصريح في أن عبدة رأى ابن عمر، وصلى معه، وقوله: "دخلت المسجد" = ربما يعني به المسجد الحرام، فيكون قد رآه بمكة، وقاصّ مكة آنذاك هو: عُبيد بن عُمير، وكان أول من قصّ على عهد عمر بن الخطاب، وكان يُقال له: قاصّ أهل مكة. وكان قاضياً لابن الزبير.

قال أحمد بن صالح العجلي: "مكي تَابِعِيّ ثِقَة، وَكَانَ قاص أهل مَكَّة فِي زَمَانه، وَهُوَ من كبار التَّابِعين، وَكَانَ بليغاً فصيحاً، كَانَ ابن عمر يجلس إليه وَيَقُول: لله در أبي قَتَادَة، مَاذَا يَأْتِي بِهِ".

فلقاء عبدة بابن عمر كان في مكة في المسجد الحرام، والمعروف أن ابن عمر لم يكن يُحدّث كثيراً في السفر كما أخبر بعض أصحابه، وأن منهم من صحبة سنة لم يسمعه يُحدّث إلا بحديث واحد.

فلقاؤه بابن عمر كان قبل سنة (68هـ)؛ لأن عُبيد بن عُمير مات قبل ابن عمر سنة ثمان وستين.

ويُحتمل أنه لقيه في المدينة، فيكون المقصود بالمسجد = المسجد النبوي، وربما يكون هذا هو الأقوى؛ لأنه ذُكر في النص أن أصحابه التفوا حوله، وأعطى ظهره للقاص، ولو كان القاص عبيد بن عمير لما فعل ذلك ابن عمر معه؛ لأنه كان يُجلّ عبيد بن عمير ويجلس يسمع القصص له.

روى عبدالرزاق في «مصنفه» (3/218) (5395) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدِ ابنِ عُمَرَ، وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، وَعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ يَقُصُّ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «خَلُّوا بَيْنَنَا، وَبَيْنَ مُذَكِّرِنَا».

وروى الحسين المروزي في «زوائده على الزهد» (1/411) (1166) عن هُشَيْم، عن أَبي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ، وَهُوَ عِنْدَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ يَقُصُّ، فَرَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ عَيْنَاهُ تُهْرَاقَانِ دَمْعًا».

وروى أبو داود الطيالسي في «مسنده» (3/344) (1911) عن المَسْعُودِيّ، عن مُحَمَّد بن عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: بَيْنَمَا عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ وَابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَيْرٍ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَشَاةٍ بَيْنَ رَبْضَيْنِ، إِذَا أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا، وَإِنْ أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا قَالَ: «بَيْنَ غَنَمَيْنِ»، فَاخْتَلَفَا فِي غَنَمَيْنِ وَرَبْضَيْنِ فَاخْتَلَطَ ابنُ عُمَرَ، وَقَالَ: "لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَقُلْ".

وكأن ابن عمر لم يكن يسمع لقاص غير عبيد بن عمير.

روى ابن شبّة في «تاريخ المدينة» (1/13) (30) عن أحمد بن عيسى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن نافع: «أن ابن عمر - رضي الله عنهما - لم يكن يجلس إلى القاص، إلا أنه زحم يوماً، وكثر الناس فإذا هو بموسى بن يسار يقصّ فاستمع له، فلما فرغ قال ابن عمر: هكذا يتكلم».

وكان القصّاص قد انتشروا في ذلك الوقت وخاصة في المدينة، فكان ابن أَبِي السَّائِبِ قَاصِّ أَهْلِ المَدِينَةِ زمن عائشة، ومسلم بن جندب الهذلي كان قاص أهل المدينة (ت 106هـ)، وشيبة بن نصاح القارئ قاص أهل المدينة، وسعيد بن حسان المخزومي المكي قاص أهل مكة.

بل كان ابن عمر احياناً يستعدي على بعض هؤلاء القصاص.

روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» (5/291) (26195) عن شبابة بن سوار، عن شعبة، عن عقبة بن حريث، قال: سمعت ابن عمر، وجاء رجل قاص وجلس في مجلسه، فقال ابن عمر: «قم من مجلسنا»، فأبى أن يقوم، فأرسل ابن عمر إلى صاحب الشرط: "أقم القاص"، فبعث إليه فأقامه.

وما جاء في النص أيضاً من أن القاص رفع يديه في الدعاء، ولم يرفع ابن عمر يديه فيه دلالة أيضاً على عدم رضا ابن عمر لذلك القاصّ! وكان القاص بعد أن ينتهي من قصصه يدعو أمام الناس.

روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» (5/291) (26201) عن ابن مهدي، عن سفيان، عن سلمة، عن أبي الدرداء، جار لسلمة قال: قلت لعائشة وقال لها رجل: آتي القاص يدعو لي؟ فقالت: «لأن تدعو لنفسك خير من أن يدعو لك القاص».

والخلاصة أن لقاء عبدة ابن أبي لبابة بابن عمر لم يكن بالشام، وإنما كان في الحجاز، والأقرب أنه لقيه في المدينة، والله أعلم.

وقال أبو عبدالله بن مَنده في «فتح الباب في الكنى والألقاب» (ص: 30) (59): "أَبُو الْقَاسِم: عَبدة بن أبي لبَابَة الْأَسدي، كُوفِي، سكن دمشق. حدّث عَن: عبدالله بن عمر، وَلَا يَصح". - أي لا يصح سماعه منه.

وقال ابن عبدالهادي في «المحرر» (1/183): "عَبْدَة َبنَ أَبي لُبَابَةَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، بَلْ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِهِ، إِنَّمَا رَآهُ رُؤْيَةً".

وقال العلائي في «جامع التحصيل» (ص: 231) (481): "عبدة بن أبي لبابة: قال أبو حاتم: رأى ابن عمر رؤية، ولم يسمع من أم سلمة، بينهما رجل. قلت: أخرج له مسلم عن عمر - رضي الله عنه -، والظاهر أنه مرسل إذا كان لم يدرك ابن عمر وأم سلمة، والله أعلم".

فتعقبّه أبو زرعة ابن العراقي في «تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل» (ص: 215) فقال: "قلت: لَيْسَ فِي كَلَام أبي حَاتِم أنه لم يدركهما، فَلَعَلَّهُ أدركهما، وأدرك عمر فَاكْتفى مُسلم فِي إِخْرَاج حَدِيثه عَنهُ بالمعاصرة على قَاعِدَته. وَقَالَ المُنْذِرِيّ: لَا نَعْرِف لَهُ سَمَاعاً من عمر، وَإِنَّمَا سمع من عبدالله بن عمر، وَيُقَال: رأى ابْن عمر رُؤْيَة، وَكَذَا ذكر المزي فِي التَّهْذِيب: إن رِوَايَته عَن عمر مُرْسلَة مَعَ رقمه عَلَيْهَا عَلامَة مُسلم".

وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (3/1124): "وعبدة بن أبي لُبابة أدرك ابنَ عمر، واختلف في سماعه منه".

قلت: فهذه أقوال أهل العلم في سماع عبدة بن أبي لبابة من ابن عمر، فنفاها غالبهم، وأثبتها البخاري، وكأنه - رحمه الله - أثبت ذلك لوجود ذكر السماع في أثر رواه عن ابن عمر.

روى عبدالرزاق في «مصنفه» (3/338) (5872) عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: «فِي {ص} سَجْدَةٌ».

ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (1/370) (4256) عن سُفْيَانَ بن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدَةَ وَصَدَقَةَ، سَمِعَا ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: «فِي {ص} سَجْدَةٌ».

قلت: وهذا غريب عن ابن عمر! ولا يُعرف عنه عند أصحابه!

والأغرب أن يروي ابن عيينة هذا عن عبدة وصدقة أنهما سمعا ابن عمر!!

وصدقة هو: ابن يسار الجزريّ، وهو ثقة، سمع من ابن عمر، وخرّج له مسلم حديثاً واحداً فقط متابعة في الذي يمر بين يدي المصلي، والأمر بقتاله؛ لأن معه القرين = أي الشيطان.

·       متى لقي ابن عيينة عبدة بن أبي لبابة؟

وابن عيينة سمع من عبدة، ومن صدقة، وقد جالس عبدة سنة (123هـ)، وقال: "رأيت عبدة بن أبي لبابة أبيض الرأس واللحية".

وسمع منه بعض الآثار، ولهذا قال الذهبي في «الكاشف» (1/677): "آخر أصحابه ابن عيينة".

قلت: عبدة مات ما بين سنة (123 - 130)، ومال الذهبي أنه توفي في حدود سنة (127هـ)، والميل إلى أنه مات في السنة التي لقيه فيها ابن عيينة (123هـ)؛ لأنه آخر أصحابه، والله أعلم.

وقد روى أبو طاهر المخلّص في «المخلصيات» (2/160) (257) عن يحيى ابن صاعد، عن محمد بن زيادِ بنِ الربيعِ الزياديّ، عن سفيان بن عيينةَ قالَ: "رأيتُ عبدَالكريمِ - يعني الجزري - سنةَ ثلاثٍ وعشرينَ ومئةٍ فكنتُ مَعه، فجاءَ إلى عبدةَ بنِ أبي لبابةَ فسألَه، فقالَ: أخبرني عاصمُ بنُ عُبيدِاللهِ، فذهَبْنا إلى عاصمِ بنِ عُبيدِاللهِ، فحدَّثنا عن عبدِاللهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ، عن أبيه، عن عمرَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ، فإنَّ مُتابعةً بينَهما تَنفي الفقرَ كما يَنفي الكيرُ خَبثَ الحديدِ»".

قالَ سفيانُ: "وربَّما زادَ كلمةً: «ويزيدُ في العُمُرِ»".

وكان ربما حدّث بالأثر أو الحديث أكثر من مرة.

قال سُفْيَانُ: حدثنا عَبْدَةُ بنُ أَبِي لُبَابَةَ حَفِظْنَاهُ مِنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. [«مسند الحميدي» (1/156) (18)].

·       خطأ شنيع لابن حبان في كتابيه «الثقات»، و«مشاهير الأمصار»! نتج عن تحريف!!

قال ابن حبان في «الثقات» (5/145) (4288): "عَبْدة بن أبي لبَابَة... رَوَى عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ، وجالسه ابن عُيَيْنَة ثَلَاثًا وَعشْرين سنة".

وقال في «مشاهير علماء الأمصار» (ص: 187): "عبدة بن أبي لبابة... مولده بالكوفة، وقد جالسه ابن عيينة ثلاثاً وعشرين سنة".

ونقله مغلطاي في ترجمته من «إكمال تهذيب الكمال» (8/391) ولم يتعقبّه!

قال: "وذكره ابن خلفون وابن حبان في كتاب الثقات، زاد ابن حبان: جالسه ابن عيينة ثلاثاً وعشرين سنة"!

وقد نبّه على غلط ابن حبان الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب»، ونقله عنه المعلمي اليماني أثناء تعليقه على ثقات ابن حبان.

والصواب ما رواه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/114) عن علي بن المديني، عَنِ ابن عيينة، قال: "جالست عبدة سنة ثلاث وعشرين ومائة".

فسفيان جالس عبدة سنة (123هـ) لا أنه جالسه (23) سنة!! فيستحيل أنه جالسه هذه المدة الطويلة!! لأنه بناء على كلام ابن حبان يكون ابن عيينة جالسه قبل أن يولد!!!

فسُفْيَان ولد سنة سبع ومئة (107هـ)، وكان عمره (16) سنة لما رأى عبدة وجالسه، وهو إنما رآه لما كان عبدة كبيراً في السن.

روى عبدالرحمن بن يونس المستملي أبو مسلم تلميذ ابن عيينة في «تاريخه» عن سفيان قال: "رأيت عبدة بن أبي لبابة أبيض الرأس واللحية".

فعندما سمع ابن عيينة من عبدة كان صغيراً، فيحتمل أنه لم يضبط الأثر الذي رواه عنه! ومما يزيدنا غرابة أنه جمع معه صدقة في رواية الأثر! وهذه مظنة الوهم، والله أعلم.

وروى هذا الأثر عن ابن عيينة محمد بن الحسن الشيباني في «الحجة على أهل المدينة» (1/109) وقال: "وقَالَ أهل المَدِينَة: لَيْسَ فِي {ص} سَجْدَة".

ونقله لهذا الأثر مستغرباً رأي أهل المدينة بما رواه ابن عيينة عن ابن عمر أنه قال في {ص} سجدة.

ويُحتمل أن عبدة سمع هذا الأثر من ابن عمر لما رآه في المسجد وصلّى معه - بحسب القصة التي مرت آنفاً -، وسماعه لهذا الأثر لا يعني أنه سمع منه غيره!

وهذا الأثر لا يُعرف عن ابن عمر، ولا يوجد عند أصحابه، وقد روى البخاري في «صحيحه» (6/57) (4632) من طريق سُلَيْمَان الأَحْوَلُ: أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي ص سَجْدَةٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، ثُمَّ تَلاَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84] إِلَى قَوْلِهِ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

فهذا مجاهد صاحب ابن عمر يروي هذا عن ابن عباس، وهو محفوظ عنه. ولو كان عبدة سمع شيئاً من ابن عمر لما روى عنه بواسطة! بل إن روايته عنه بواسطة فيها دلالة على أنه لم يسمع منه، والله أعلم.

وقد يكون ابن عيينة لم يضبط مسألة السماع، فيكون عبدة رواه عن ابن عمر دون ذكر السماع، ولما رواه مرة أخرى جمع معه صدقة، وذكر السماع أيضاً، فالأمر فيه غرابة!

وروى سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ في «سننه» (7/182) (1842) عن سُفْيَان، عَنْ عَبْدَةَ بنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ زِرّ بن حُبَيْشٍ: «أَنَّ عَبْدَاللهِ كَانَ لَا يَسْجُدُ فِي {ص}». [رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (9/145) (8721) عن محمد بن علي الصائغ، عن سعيد بن منصور].

ورواه أيضاً (1841) عن حماد بن زيد.

ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (3/400) (4300) عن أَبي بَكْرِ بن عَيَّاشٍ.

والطبراني في «المعجم الكبير» (9/144) (8718) من طريق مِسعَر.

ثلاثتهم (حماد، وأبو بكر، ومسعر) عَنْ عَاصِم، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِاللهِ: «أَنَّهُ كَانَ لا يَسْجُدُ فِي {ص} وَيَقُولُ: تَوْبَةُ نَبِيٍّ».

قلت: فكأن عبدة - رحمه الله - كان عنده في هذا الباب آراء الصحابة، وكان فقيهاً، وإن صحت روايته في هذا عن ابن عمر فلا نستطيع الجزم بأنه سمع ذلك منه؛ لأن الأصل أنه لم يسمع منه، وكان يرسل عن الصحابة، وورود السماع في هذا الأثر فيه نظر، والله أعلم.

·       الأحاديث المرفوعة التي رُويت عن عبدة بن أبي لُبابة عن ابن عمر!

وقد تتبعت الأحاديث التي رُويت عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر، فلم أجد إلا ثلاثة أحاديث واهية! وما يرويه عبدة عن ابن عمر على قلته إنما يرويه عنه بواسطة.

أما الحديث الأول:

عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ بنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا خَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ العِبَادِ يُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا، حَوَّلَهَا مِنْهُمْ، وَجَعَلَهَا فِي غَيْرِهِمْ».

رواه ابن أبي الدنيا في «قضاء الحوائج» (ص: 23) (5).

والطبراني في «المعجم الأوسط» (5/228) (5162) عن مُحَمَّد بن الحُسَيْنِ الْأَنْمَاطِيّ.

وأبو نُعيم في «الحلية» (6/115)، و(10/215)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/129)، وقاضي المارستان في «مشيخته» (3/1344) من طريق أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الطُّوسِيّ الصُّوفِيّ.

والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/129) من طريق جَعْفَر بن مُحَمَّدِ بْنِ كَزَالٍ الطُّوسِيّ.

وابن العديم في «بغية الطلب في تاريخ حلب» (9/4290) من طريق أحمد بن علي بن سعيد القاضي المروزي.

كلهم (ابن أبي الدنيا، والأنماطي، وابن مسروق، والطوسي، والمروزي)، عن مُحَمَّد بنُ حَسَّانَ السَّمْتِيّ، عن عَبْداللَّهِ بن زَيْدٍ أَبي عُثْمَانَ الحِمْصِيّ، عن الْأَوْزَاعِيّ، به.

قال الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَّا عَبْدُاللَّهِ بنُ زَيْدٍ الحِمْصِيُّ".

وقال أبو نُعيم: "تَفَرَّدَ أبو عثمان عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بنُ يُونُسَ الضَّبِّيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، وَسَمَّاهُ: مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى".

قلت: هذا إسناد منكر!

تفرد به محمَّدِ بنِ حسَّانَ السَّمْتيِّ عن أبي عثمان الحمصي الكلبي!

ومحمد السمتي: ليس بالقويِّ، يروي عن الضعفاء.

وأبو عثمان ضعّفه الأزدي.

وروى حديثاً آخر عن الأَوْزَاعِيّ، عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي: «لَنْ تَهْلِكَ الأُمَّةُ وَإِنْ كَانَتْ ضَالَّةٌ، إِذَا كَانَتِ الأَئِمَّةُ هَادِيَةً مَهْدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ الأُمَّةُ إِذَا كَانَتْ ضَالَّةٌ مُسِيئَةٌ إِذَا كَانَتِ الأَئِمَّةُ هَادِيَةً مَهْدِيَّةً».

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ حَسَّانٍ: "قَالَ لِي يَحْيَى بنُ مَعِينٍ: مَا طَنَّ هَذَانِ الحَدِيثَانِ بِأُذُنِي إِلا مِنْكَ، قُلْتُ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي خَالِدٍ يَزِيدَ بنِ هَارُونَ فَجَاءَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَسَأَلَهُ يَزِيدُ عَنْ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ".

قلت: وهذا أيضاً حديث منكر! ويحيى مع سعة علمه وحديثه لم يسمع بهما إلا من رواية السمتي عن عبدالله بن زيد أبي عثمان هذا، وسؤال يزيد بن هارون له عن هذين الحديثين لا يعني قبولهما! وإنما سؤاله للتعجب والاستغراب!

وعبدالله بن زيد هذا منكر الحديث.

وقد أشار أبو نُعيم إلى أن أحْمَد بن يُونُسَ بنِ المُسَيِّبِ الضَّبِّيّ رواه وسماه: مُعَاوِيَة بن يَحْيَى أَبي عُثْمَانَ، عن الْأَوْزَاعِيّ، مِثْلَهُ.

ورواه تمّام في «فوائده» (1/74) (162)، وابن عساكر في «تاريخه» (59/294) من طريق أَبي غَسَّانَ مَالِك بن يَحْيَى السوسي!، عن مُعَاوِيَة بن يَحْيَى الشَّامِيّ أَبي عُثْمَانَ، عن الْأَوْزَاعِيّ، به.

قَالَ مُعَاوِيَةُ بنُ يَحْيَى: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الحَدِيثِ يَزِيدَ بنِ هَارُونَ، فَقَالَ: "لَوْ ذَهَبَ إِنْسَانٌ فِي هَذَا الحَدِيثِ إِلَى خُرَاسَانَ لَكَانَ قَلِيلًا".

وفي رواية: قال معاوية: فذكر ذلك ليزيد بن هارون، فقال: "لو رحل رجل في هذا إلى كذا لما بطلت رحلته".

قلت: هذا منكر أيضاً! ومعاوية بن يحيى منكر الحديث.

ترجم له ابن عساكر في «تاريخه» (59/296) وأورد له هذا الحديث، ثم ساق بسنده إلى أبي أحمد الحاكم، قال: "أبو عثمان: معاوية بن يحيى الشامي، يروي عن الأوزاعي، روى عنه: أبو غسان مالك بن يحيى السوسي: منكر الحديث".

وله بعض الأحاديث الأخرى يرويها عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن ابن عمر! وهي منكرة!

ولاحظ قوله في آخر الحديث مع يزيد بن هارون، وكلام السمتي في الحديث السابق عندما كان عند يزيد بن هارون فجاء أبو عثمان عبدالله بن زيد!

فالأقرب أن أبا عثمان عبدالله بن يزيد الحمصي هو أبو عثمان معاوية بن يحيى الشامي، وكأن الرواة كانوا ربما يُدلسون اسمه، أو أنه عرف بأكثر من اسم، وحديثه منكر!

وقد رُوي الحديث من طريق آخر غريب!

رواه أبو عمرو البحتري النيسابوري فِي كتاب «الأربعين» قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بنِ سَهْلٍ، قال: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن محمد بْنِ نصر اللَّبَّادُ، قال: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قال: حَدَّثَنِي الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا عَنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمِ». [ذكره ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (1/76)].

ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» (10/117) (7256) عن أَبي عَبْدِاللهِ الحَافِظ الحاكم النيسابوريّ، عن أَبي الحَسَنِ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَهْلَوَيْهِ المُزَكِّي، به.

ثم رواه عن أَبي عَبْدِاللهِ الحَافِظ، قال: حدثنا أَبُو الحَسَنِ بْنُ هَانِئٍ، - لَفْظًا مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ - قال: حدثنا جَدِّي أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: حدثنا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

ثم قال: "وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ مُعَاوِيَةَ بنِ يحيى الشَّامِيِّ، وَأَبِي عُثْمَانَ عَبْدِاللهِ بْنِ زَيْدٍ الحِمْصِيِّ الْكَلْبِيِّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَدْ قِيلَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُطِيعٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ".

قلت: هذا منكر عن الإمام أحمد! ولا يُعرف عنه إلا من حديث أَحْمَد بن محمد بن نصر اللباد الفقيه النَّيْسَابوريّ، وكان شيخ أهل الرأي ببلده ورئيسهم (ت 280هـ)، ولا يُعرف في أصحاب أحمد، وإنما ذكره من ذكره في أصحابه من أجل هذه الرواية، ويُستغرب أن يكون مثل هذا في أصحاب أحمد!

وقد بيّن البيهقي الاختلاف في الرواية عنه، وكذا في الرواية عن معاوية بن يحيى الشامي بذكر "عن نافع"، وهذا سلوك للجادة، ولا يصح! والرواية كلها منكرة لا تصح من أي طريق!

·       وهم للبيهقي!

وقد أخطأ البيهقي في قوله: "عن أَبِي مُطِيعٍ مُعَاوِيَةَ بنِ يحيى الشَّامِيِّ"! فمعاوية بن يحيى هذا جاءت تسميته في الروايات: بـ "أَبي عُثْمَانَ مُعَاوِيَة بن يَحْيَى الشَّامِيّ".

وأبو مُطيع هذا آخر، وهو: معاوية بن يحيى، الدِّمَشقي، الأَطرَابُلُسي.

ترجم له ابن عساكر في «تاريخه» (59/289) (7533)، وهو يروي عن: أبي الزناد، وبَحير بن سعد، وأرطاة بن المنذر، وأبي يحيى سعيد بن أبي أيوب الخزاعي المصري، وغيرهم. وروى عنه: بقية بن الوليد، ومحمد بن المبارك الصوري، وهشام بن عمار، ورِشدين بن سعد، والوليد بن مسلم، وغيرهم. وهو ضعيف.

·       تعقّب الحويني وطريقته في كتابه «تنبيه الهاجد»!

وقد ذكر الحويني هذا الحديث في كتابه «تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النظر في كتب الأماجد» (2/471) (578) قال: "وأخرج الطبرانيُّ في «الأوسط» [5162] قال: حدثنا محمد ابن الحسين الأنماطيُّ، قال: نا محمد بن حسان السمتي، قال نا عبدالله بن زيد الحمصيُّ، قال: نا الأوزاعيُّ، عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر مرفوعًا: «إن لله عبادًا اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإِذا منعوها نزعها منهم، فحَّولها إِلى غيرهم».

ثم قال: "وأخرجه ابن أبي الدنيا في «قضاء الحوائج»، وأبو نعيم في «الحلية» [6/115 و10/215]، والخطيب في «تاريخه» [9/459] من طريق محمد ابن حسان به.

قال الطبرانيُّ: "لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي إِلا عبد الله بن زيد الحمصيّ".

وقال أبو نعيم: عبدالله بن زيد الكلبيُّ؛ تفرَّد عن الأوزاعيّ بهذا الحديث".

قُلْتُ: رضي الله عنكما!

فلم يتفرَّد عبدالله بن زيد به عن الأوزاعيِّ، فتابعه اثنان ممن وقفت عليهما:

الأول: الوليد بن مسلم.

أخرجه البيهقيُّ في «الشعب» [ج13/ رقم 7256] قال: أخبرنا أبو عبدالله الحاكم - هو صاحبُ المستدرك -. خرجه أبو عمرو البحيري النيسابوري في «كتاب الأربعين» - كما في «طبقات الحنابلة» [1/76] لابن أبي يعلى قالا: حدثنا أحمد بن محمد بن سهل بن سهلويه، حدثنا أبو نصر أحمد بن محمد بن نصر اللَّباد، حدثنا أحمد ابن حنبل، حدثني الوليُد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر مرفوعًا فذكره.

وصرَّح الوليد بن مسلم بالتحديث من الأوزاعي عند أبي عمرو البحيري. وابن اللباد ما عرفت من حاله شيئًا. وكذلك ابن سهلويه. ولم يصرح الوليد في كل الإِسناد بالتحديث.

الثاني: معاوية بن يحيى الشامي أبو عثمان.

أخرجه تمام الرازي في «الفوائد» [1285]، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» [2/276]، وفي «الحلية» [6/116]، وابنُ عساكر في «تاريخ دمشق» (ج16/ ق 788].

ولما رواه أبو نعيم في «الحلية» من الطريق الأول من طريق محمد بن حسان، قال: حدثنا عبد الله أبو عثمان الحمصي عن الأوزاعيّ به، قال: "أبو عثمان، هو عبدالله بن زيد الكلبي... ورواه أحمد بن يونس الضبي، عن أبي عثمان وسمَّاه معاوية بن يحيى".

قُلْتُ: لم يتفرَّد أحمد بن يونس بهذه التسمية، فتابعه أبو غسان مالك بن يحيى عند تمَّام، وكلام أبي نعيم يشعر أن الرجل واحد واختلفوا في اسمه واتفقوا في كنيته. والصواب أنهما اثنان واتفقا في الكنية حسبُ. وليس هو معاوية بن يحيى الأطرابلسي أو الصدفي، فقد أفرده ابنُ عساكر بترجمةٍ عن هذين، ونقل عن أبي أحمد الحاكم قال: "منكرُ الحديث".

وللحديث شواهد أخرى لا تصح. وتسامح المنذري فقال في «الترغيب» [3/191]: "ولو قيل بتحسين سنده لكان ممكنًا" اهـ" انتهى كلامه.

قلت: هذه طريقة الحويني في كتابه «تنبيه الهاجد» فإنه يعمد إلى كتب الأفراد والغرائب ككتاب الطبراني «المعجم الأوسط»، وكتاب البزار «المسند المعلل» ويأتي بمثل هذه الأحاديث، ثم يستدرك عليهم بعدم تفرد الرواة بهذه الأحاديث التي نصوا على تفردهم بها!

ونحن لا نقول بأن كل ما قالوه في مسألة الأفراد يصح، وقد يُستدرك عليهم في هذا، إلا أن الاستدراك عليهم بمثل هذه الأحاديث الباطلة والمنكرة لا يجوز! فهم يعرفون مثل هذه المتابعات، إلا أنها لا تصح لإخراج تلك الأحاديث من تفردات من تفرد بها!

فالحديث هنا حديث عبدالله بن زيد الكلبي، وهو فعلا قد تفرد به عن الأوزاعي = بمعنى أنه قد ثبتت روايته لهذا الحديث عن الأوزاعي.

وأما متابعة الوليد بن مسلم فهي منكرة عنه! بل وعن الإمام أحمد! فلو صحت إلى الوليد لصحّ الاستدراك على الطبراني وأبي نُعيم، لكن هذه الرواية لم يروها لا أحمد، ولا الوليد بن مسلم، فكيف نجزم بصحتها إلى الوليد ثم نرد قول من قال بتفرد عبدالله بن زيد بها عن الأوزاعي؟!

وكذا الرواية الأخرى = رواية معاوية بن يحيى الشامي! فأبو نُعيم يرى أنه هو نفسه عبدالله بن زيد الحمصي؛ لأن الحديث حديثه، واستبعاد الحويني لذلك فيه نظر! فالحديث واحد، وصاحبه له الكنية نفسها، وكلاهما ذكر في حديثهما يزيد بن هارون.

فالذي يظهر لي أنهما واحد، فأبو عثمان عبدالله بن زيد الحمصي حدّث عنه بهذا الحديث: مُحَمَّدُ بنُ حَسَّانٍ السَّمْتِيُّ البغداديُّ، وأبو عثمان معاوية بن يحيى الشامي حدث عنه بهذا الحديث: مالك بن يحيى السوسي - ذكره ابن يونس في تاريخ الغرباء الذين قدموا مصر، وقال: من سكان الكوفة، قدم إلى مصر وأقام بها -. وكذلك حدّث به عنه: أحمد بن يونس الضبي، وهو بغدادي، نزل أصبهان.

فكلاهما شامي، وكلاهما كنيته أبو عثمان، وحدثا بالحديث في العراق، وفي كلا الروايتين ذكر يزيد بن هارون، وكلاهما يروي أيضاً عن الأوزاعي عن حسّان بن عطية، وهذا كله يدلّ على أنهما واحد كما مال إليه أبو نُعيم؛ لأن الحديث لا يعرف إلا عن أبي عثمان هذا!

فهذه طريقة الحويني العجيبة الغريبة في كتابه هذا! يستدرك على هؤلاء الأئمة في عشرات الأحاديث بروايات واهية ومنكرة وباطلة! أفيعقل أنه فاتهم كل هذا؟! ويكأنهم لا يعرفون التفرد، ولا يعرفون الحديث؟!!! فالله المستعان.

وإنما كان سبب تأليف الحويني لهذا الكتاب: الذبّ عن شيخه الألباني في أن الأئمة من قبله كانوا يخطؤون، فهو كذلك يخطئ! وفي نظري أن هذه طريقة سقيمة في الذب بمثل هذا، وجرّ علينا الويلات في هذا الكتاب، وأساء لهؤلاء الأئمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وعلى كل الأحوال فالحديث منكر، ولا يصح عن الأوزاعي بهذا الإسناد!

وأما الحديث الثاني:

رواه ابن شاهين في كتاب «الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك» (ص: 20) (41) عن الحَسَن بن حَبِيبِ بنِ عَبْدِالمَلِكِ، عن مَالِك بن يَحْيَى أَبي غَسَّانَ، قَالَ: أخبرنا أَبُو عُثْمَانَ مُعَاوِيَةُ بنُ يَحْيَى الشَّامِيُّ، قال: أخبرنا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ أَوْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ - شَكَّ أَبُو عُثْمَانَ - عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ، عِنْدَ وُضُوئِهِ فَإِنْ هُوَ تَمَّمَ، قَالَ: تَمَّمْتَ أَتَمَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ هُوَ قَصَّرَ، قَالَ: قَصَّرْتَ قَصَّرَ اللَّهُ عَنْكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ قَابِضٌ بِحُجْزَتِهِ، فَإِنْ هُوَ تَوَاضَعَ نَهَضَ، وَإِنْ هُوَ تَكَبَّرَ حَطَّ».

قلت: وهذا منكر باطل! تفرد به أبو عثمان معاوية بن يحيى الشامي، وهو منكر الحديث.

وأما الحديث الثالث:

عن إِبْرَاهِيم بن يَزِيدَ الخُوزِيِّ، عَنْ عُبْدَةَ بنِ أَبِي لُبَابَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مُتَابَعَتَهُمَا لَتَنْفِي الْفَقْرَ، وَالذُّنُوبَ عَنِ الْعَبْدِ، كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الحَدِيدِ».

رواه ابن عدي في «الكامل» (1/516) (1365)، وابن المقرئ في «حديثه» (ص: 156) (15)، وابن الأعرابي في «معجمه» (2/737) (1498)، وابن عساكر في «تاريخه» (37/381) كلهم من طرق عن سَلَمَةَ بنِ عَبْدِالمَلِكِ العَوْصِيّ.

ورواه الفاكهي في «أخبار مكة» (1/405) (870) من طريق عُثْمَانَ بنِ سَاجٍ.

كلاهما (العوصي، وابن ساج) عن إِبْرَاهِيم بن يَزِيدَ الخُوزي المكي، به.

وهذا إسناد منكر! الخوزي ليس بشيء متروك الحديث.

وسئل الدارقطني عن هذا الحديث في «العلل» (13/190) (3080) فقال: "اختلف فيه على عبدة: فرواه إبراهيم بن يزيد المكي، عن عبدة، عَنِ ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.

وروى ابن عيينة، عن عبدة؛ أنه سمعه من عَاصِمِ بنِ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بن عامر بن ربيعة، عن أبيه".

وروى الدارقطني في «العلل» (2/130) بإسناده إلى علي بن المديني، قال: حدثنا سُفْيَانُ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَالكَرِيمِ الجَزَرِيَّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ جَاءَ إِلَى عَبْدَةَ بنِ أَبِي لُبَابَةَ، وَأَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا رَأَيْتُ عَبْدَالكَرِيمَ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا الحَدِيثَ - يَعْنِي: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ»؟ فَقَالَ عَبْدَةُ: حَدَّثَنِيهِ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ فَحَجَّ عَاصِمٌ، فَأَتَيْنَاهُ فَسَأَلْنَاهُ فَحَدَّثَنَا بِهِ، وَزَادَ فِيهِ: «وَيَزِيدَانِ فِي العُمْرِ»".

وكان عَاصِمُ بنُ عُبَيْدِاللَّهِ بنِ عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، ولَمْ يَكُنْ بِالحَافِظِ، يَضْطَرِبُ فِيهِ، كما بيّنه الدارقطني في «العلل» (2/127) (159).

والخلاصة أنه لا يصح أن عبدة بن أبي لبابة سمع من ابن عمر أيّ حديث! وإنما يروي عنه بواسطة.

وقد أثبت البخاري سماعه منه، فلزمه إخراج حديثه هذا في «صحيحه»، لكنه لم يخرّجه، وأخرج له عن مجاهد حديثاً بواسطة.

·       رواية عبدة عن ابن عمر بواسطة:

ورواية عبدة عن ابن عمر بواسطة، ولو كان سمع منه لما روى عنه بالواسطة!

روى البخاري في «صحيحه» (5/57) (3899)، و(5/152) (4311) عن إِسْحَاق بن يَزِيدَ الدِّمَشْقِيّ، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدِ بنِ جَبْرٍ المَكِّيِّ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَانَ يَقُولُ: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ».

وروى أَبُو الحَسَنِ أَحْمَدُ بنُ سُلَيْمَانَ بنِ أَيُّوبَ بنِ حَذْلَمٍ القَاضِي في «جزء من حديث الأوزاعي» (43) عن يَزِيد بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ، عن هِشَام بن إِسْمَاعِيلَ، عن إسماعيل بن سَمَاعَةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى ابنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ».

فكيف لرجل مثل عبدة يلقى ابن عمر - وهو من هو - ولا يسمع منه إلا حديث «كن في الدنيا»؟! وأين أصحاب ابن عمر الملازمين له عن هذا الحديث الذي تستهويه النفوس لمّا حدّث به؟!! وهذا يؤيد من قال بأنه رآه فقط، ولم يسمع منه شيئاً.

وعليه فيمكن أن نؤصل لقاعدة: "مَن قيل إنه لقي صحابياً ورآه رؤية، ثم تفرد عنه بحديث أو اثنين دون أصحابه الملازمين له، فاعلم أنه لم يسمع منه شيئاً، وما يرويه عنه مرسل".

والذي يظهر لي أن عبدة ربما سمع الحديث من ابن أخته الحسن بن الحر، وعبدة هو خال الحسن بن الحر، وكانا شَرِيكين، والحديث رواه الحسن بن الحر عَنْ لَيْثِ بنِ أبي سُليم الكوفيّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ.

فربما سمع عبدة الحديث منه، فلما حدّث به ساقه مباشرة عن ابن عمر، وربما يكون سمعه في الكوفة من ليث، فلما حدّث به لم يسق من حدّثه به، وذلك أنه كان عابداً زاهداً، وقد روى عنه الأوزاعي مواعظ كثيرة من أقواله كما في ترجمته من «الحلية»، وهذا الحديث من المواعظ التي كان يعنى بها عبدة.

وقد روى ابن وهب في «جامعه» (ص: 239) (159) عن الْأَوْزَاعِيّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا تَرَاءَا الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ فَمَشَى أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، ثُمَّ ضَحِكَ إِلَيْهِ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ. قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ. قَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]».

ورواه الطبري في «تفسيره» (11/258) من طريق الوَلِيد بن مسلم، و(11/259) من طريق أَيُّوب بن سُوَيْدٍ الرمليّ. وأبو نُعيم في «الحلية» من طريق عمر بن عَبْدِالوَاحِدِ السلميّ. كلهم (الوليد، وأيوب، وعمر) عن أَبي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيّ، به.

وفي بعض الروايات: "عن عَبْدَة بن أَبِي لبَابَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ - وَلَقِيتُهُ فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ...". وفي آخره: "فَعَرَفْتُ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنِّي".

وفي رواية: "قَالَ: فَكَانَ مُجَاهِدٌ أَفْقَهَ مِنِّي".

قلت: فهذه المواعظ والحكم كان يُحبها عبدة لزهده وورعه، وكان يرويها، وانظر إلى قوله عن مجاهد: "ولقيته فأخذ بيدي"، وما جاء في الرواية عنه في حديث «كن في الدنيا»: "عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي"، وفي رواية: "أخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي".

فما فعله مجاهد مع عبدة من أخذه بيده يُشبه ما ورد في حديث عبدة عن ابن عمر من أخذه صلى الله عليه وسلم بمنكب ابن عمر، وهذا يكون عندما يحتاج الناصح أن يتنبه المنصوح له لتكون حواسه كلها معه عند الاستماع لكلامه.

وقد يقول قائل: ربما هذا يدلّ على صحة رواية عبدة عن ابن عمر بهذا الأسلوب؟

فأقول: ليس بالضرورة؛ لأن الأصل إثبات السند أولاً، وأن عبدة سمعه من ابن عمر، ثم ثانياً: إن الأحاديث المرسلة فيها هذا الأسلوب الذي تبعه النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً؛ لأنه أدعى لقبول مثل هذه المراسيل التي تُنسب له صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

·       عبدة بن أبي لبابة وإرسال الحديث!

وكان عبدة يرسل الحديث أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة.

روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» (13/87) (25932) عن وَكِيعٌ، قَالَ: حدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بنِ أَبِي لُبَابَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ قَلِيلَ مَنْ آذَى الجَارِ».

ورواه ابن الأعرابي في «معجمه» (1/205) (361) عن مُحَمَّد بن عُبَيْدٍ. والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (379) و(586) عن بَنَان بن سُلَيْمَانَ الدَّقَّاق. والطبراني في «مكارم الأخلاق» (239) عن مُحَمَّد بن عُثْمَانَ بنِ أَبِي شَيْبَةَ، عن أَبِيه.

ثلاثتهم (محمد بن عبيد، وبنان، وعثمان بن أبي شيبة) عن عُبَيْداللَّهِ بن مُوسَى العبسيّ الكوفيّ، عن الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللِّحَافِ فَدَخَلَتْ شَاةٌ لِجَارٍ لَنَا فَأَخَذَتْ قُرْصًا مِنْ تَحْتِ دَنٍّ لَنَا فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَأَخَذْتُهُ مِنْ بَيْنِ لَحْيَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تُعَنِّفِيهَا إِنَّهُ لَا قَلِيلَ مِنْ أَذَى الجَارِ».

·       عبدة بن أبي لبابة عن أمّ سلمة مرسل!

قلت: فها هو عبدة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً مختصراً كما في رواية وكيع، ورواه عن أمّ سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يسمع من أمّ سلمة، فكلاهما مرسل!

قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص: 136) (491): قَالَ أَبِي: "عَبْدَةُ بنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ «فِي الشَّاةِ»، لَمْ يَسْمَعْ عَبْدَةُ مِنْ أَمِّ سَلَمَةَ، بَيْنَهُمَا رَجُلٌ".

·       خلاصة نفيسة للجورقاني حول رواية عبدة بن أبي لبابة:

وفي حديث ذكره الجورقاني في «الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير» (2/105) عن الْأَوْزَاعِيّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ صَوْتٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ...» الحديث بطوله.

قال - وهو يُبيّن علل هذه الرواية -: "والْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: إِرْسَالُ عَبْدَةِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ فَيْرُوزَ، وَعَبَدَةُ بنُ أَبِي لُبَابَةَ كُوفِيٌّ، انْتَقَلَ إِلَى فِلَسْطِينَ، كَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ عَنِ الصَّحَابَةِ، يُرْسِلُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٍ، وَأَبِي مُوسَى وَسُرَاقَةَ، وَفَيْرُوزَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، كُلِّ هَؤُلَاءِ رِوَايَتُهُ عَنْهُمْ عَلَى الْإِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ لِقًي أَوْ سَمَاعٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَقِيَ ابنَ عُمَرَ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ، فَأَمَّا سَمَاعُهُ إِذَا صَحَّ وَأُسْنِدَ، وَهُوَ عَنِ التَّابِعِينَ مِثْلُ أَبِي وَائِلٍ، وَمَسُروقٍ، وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ، وَسَعِيدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، ووَارِدٍ، وَالحَكَمِ، وَنَافِعٍ، وَغَيْرِهِمْ".

قلت: لله درّ الجورقاني، فإنه أفاد وأجاد في تلخيص ما يتعلق بروايات عبدة - رحمه الله تعالى -، وكلامه هذا نفيسٌ جداً.

فهو يرسل عن الصحابة، وسماعه عن التابعين عن الصحابة.

·       رواية عبدة عن عمر مرسلة!

وقد أرسل عبدة عن عمر - رضي الله عنه -.

روى مسلمٌ في «صحيحه» (1/299) (399) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ، قال: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ».

وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلَفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا».

·       لا اعتراض على مسلم في تخريجه لهذا الحديث المرسل!

قال أبو عليّ الغسّاني في «تقييد المهمل وتمييز المشكل» (3/809): "هكذا أتى إسناد هذا الحديث عنده: «أن عمر» مرسلاً، وفي نسخة ابن الحذّاء: «عن عبدة: أن عبدالله بن عمر بن الخطاب»، وهو وهم، والصواب: «أن عمر»، وكذلك في نسخة أبي زكريا الأشعري عن ابن ماهان، قال: وكذلك روي عن أبي أحمد الجلودي.

ثم ذكر مسلم بعد هذا عن الأوزاعي، عن قتادة عن أنسٍ قال: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين».

وهذا هو المقصود في الباب، وهو حديث متصلٌ".

قلت: يعني أن مسلماً أراد الاحتجاج بالشطر الثاني من الحديث، ولم يرد حديث عبدة، لكنه ساقه كاملاً؛ لأن من منهجه أنه لا يختصر الروايات، فساقه كما هو، وقصد أن الأوزاعي روى عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بإسناد محمد بن مهران، عن الوليد بن مسلم، فأراد هذا من الحديث، وساق قبله حديث شُعْبَة، عن قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]».

ثم قال بعد أن ساق حديث الأوزاعي: حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، قال: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قال: أَخْبَرَنِي، إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ ذَلِكَ.

فلا يُعترض على مسلم في تخريجه لحديث عبدة؛ لأنه ليس مقصوده في هذا الباب.

قال النووي في «شرحه على مسلم» (4/112): "والمقصود أنه عَطْفَ قَوْلِهِ «وَعَنْ قَتَادَةَ» عَلَى قَوْلِهِ «عَنْ عَبْدَةَ»، وَإِنَّمَا فَعَلَ مُسْلِمٌ هَذَا؛ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ هَكَذَا فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ، وَمَقْصُودُهُ الثَّانِي الْمُتَّصِلُ دُونَ الْأَوَّلِ المُرْسَلِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، وَغَيْرِهِ، وَلَا إِنْكَارَ فِي هَذَا كُلِّهِ".

قلت: لكن حديث عبدة هذا عن عمر يبقى منقطع؛ لأنه لم يدرك عمر - رضي الله عنه -.

قال الرشيد العطّار في «غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة» (ص: 73): "وفي رواية عبدة عن عمر نظر، والصحيح أنه مرسل، وإنما احتج مسلم بحديث قتادة عن أنس. والله أعلم".

وقال العلائي في «جامع التحصيل» (ص: 231): "أخرج له مسلم عن عمر رضي الله عنه، والظاهر أنه مرسل، إذا كان لم يدرك ابن عمر وأم سلمة، والله أعلم".

وقال ابن عبدالهادي في «تنقيح التحقيق» (2/150): "وهو منقطع، فإنَّ عَبْدَة - وهو ابن أبي لُبابة - لم يدرك عمر، وإنَّما رواه مسلم؛ لأنَّه سمعه مع حديث غيره، فرواهما جميعًا، وإن لم يكن هذا على شرطه.

وقال الدَّارَقُطْنِيُّ: رواه إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عمر، وكذلك رواه يحيى بن أيوب، عن عمر بن شيبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر من قوله، وهو الصواب.

وقد رواه الإمام أحمد من رواية علقمة والأسود وأبي وائل وغيرهم عن عمر".

وقال في «المحرر في الحديث» (ص: 152): "ذَكرَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحهِ»؛ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ من غَيرهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِهِ، فَإِنَّ عَبْدَة َبنَ أَبي لُبَابَةَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، بَلْ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِهِ، إِنَّمَا رَآهُ رُؤْيَةً".

وقال ابن كثير في «مسند الفاروق» (1/215): "فعَبدة بن أبي لُبَابة لم يُدرك عمرَ بن الخطاب، وإنما لقي ابنَه عبدالله بن عمر، كما قاله الإمام أحمد بن حنبل، وهو من ثقات المسلمين وأئمَّتهم. وهذا الأثر ثابت عن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - من غير وجه، كما رواه الدارقطني من طرق، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود قال: كان عمرُ - رضي الله عنه- إذا افتتح الصلاةَ قال: «سبحانك اللهمَّ وبحمدك، وتبارك اسمُك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرُك»، يُسْمِعُنا ذلك ويُعلِّمُنا.

وقال الحسن بن عرفة: حدثنا هشيم، عن عبدالله بن عَون، عن إبراهيم، عن علقمة: أنَّه انطلَقَ إلى عمرَ بن الخطاب، قال: فرأيتُهُ قال حين افتتح الصلاةَ: «سبحانك اللهمَّ وبحمدك، وتبارك اسمُك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرُك».

وهذه أسانيد صحيحة، والله أعلم" انتهى.

وقال الذهبي في «الكاشف» في ترجمة «عبدة» (1/677): "تابعي جليل، لقي ابن عمر وجماعة، وله في مسلم عن عمر نفسه، وهذا منقطع".

وقال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (1/561): "وَفِي إسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ".

فعبدة كان يرسل عن عمر، وكأن أحياناً يُصرّح بذلك كما في الحديث الذي ذكره السيوطي في «الجامع الكبير» (16/472) (2/3188): "عن عَبْدَة بنِ أَبِى لُبَابَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ مَرَّ فِى المَسجِدِ وَرَجُلٌ قَائمٌ يُصلِّى عَلَيْه طَيْلَسانٌ ومُزرَّر بالدِّيبَاجِ، فَقامَ إلَى جَنْبهِ فَقَالَ: طَوِّلْ ما شِئتَ فَمَا أَنَا بِبَارح حَتَّى تَنْصَرِفَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِك الرَّجُلُ انْصَرَفَ إلَيْهِ، قال: أَرنِى ثَوْبَكَ؛ فَأخَذَه فَقَطَع مَا عَلَيْه فيهِ مِنْ أَزْرَارِ الدِّيبَاجِ وقَالَ: دُونَكَ ثَوْبَكَ".

وعزاه لابن جرير الطبري.

ويروي عبدة عن عمر بواسطة رجلين كما في الحديث الذي رواه الطبري في «تهذيب الآثار - مسند ابن عباس» (1/358) (612) عن ابن المُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنِ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ قَبْلَ الرُّكُوعِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ» و«اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ».

فلا يثبت لعبدة سماع من أي صحابيّ، وكان يرسل عنهم.

وعليه فإن حديث «كُنَّ فِي الدُّنْيَا غَرِيبًا أَوْ عَابِرَ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» مرسل لعدّة قرائن:

الأولى: رأى عبدة ابن عمر في المسجد، ولم يثبت أنه سمع منه أو أن ابن عمر حدّث بهذا الحديث في أيّ مكان، ولم يروه أصحابه الملازمين له.

الثانية: أن عبدة يروي عن ابن عمر بواسطة.

الثالثة: لم يثبت أن عبدة سمع من أيّ صحابي، وروايته عن التابعين، وكان كثير الإرسال.

الرابعة: عناية عبدة بأحاديث الزهد؛ لأنه كان زاهداً عابداً.

الخامسة: شهرة الحديث عن ليث بن أبي سُليم الضعيف!

السادسة: رواية الحسن بن الحر للحديث عن ليث بن أبي سليم، والحسن كان شريكاً لعبدة وهو خاله.

والملاحظ أن الحديث كوفيّ من كلا الطريقين: الأعمش، وعبدة، ولا أشك أن أصلهما واحد.

·       سقط من مطبوع كتاب «المراسيل» لابن أبي حاتم! لم يتنبه له بشار عواد!

علّق بشار عواد في ترجمة «عبدة بن أبي لبابة» من «تهذيب الكمال» (18/545): "(2) وَقَال أبو حاتم: رأى عُمَر رؤية. وَقَال: لم يسمع من أم سلمة..." ا.هـ

والصواب "رأى [ابن] عمر.."، سقطت لفظة "بن".

وهي على الصواب كما نقلها العلائي من كتاب ابن أبي حاتم في «جامع التحصيل في أحكام المراسيل» (ص: 58): "[481] عبدة بن أبي لبابة، قال أبو حاتم: رأى بن عمر رؤية، ولم يسمع من أم سلمة بينهما رجل. قلت: أخرج له مسلم عن عمر رضي الله عنه، والظاهر أنه مرسل إذا كان لم يدرك بن عمر وأم سلمة، والله أعلم".

وهي على الصواب كذلك في «علل ابن أبي حاتم» (5/111) عن أبيه، قال: "وعَبْدَةُ رأى ابنَ عُمَرَ رؤية".

·       تصحيفٌ عجيبٌ في «سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود السجستاني»!!

جاء في مخطوطة «سؤالات الآجري» وهي من رواية المسند الحافظ أبي طاهر السِّلَفي:

[سمعت أبا دَاوُد يَقُول: "عَبْدَة بن أَبِي لبابة لَمْ يسمع منه مِسْعَر"]!

وهي واضحة في المخطوط هكذا، وهي كذلك في مطبوعة محمد العمري، وعبدالعليم البستوي!

وهذا تصحيف عجيب!

والصواب: "... لم يسمع مِنْ ابن عُمر".

وهذا الذي يقتضيه النص، إذ الخلاف في سماع عبدة من ابن عمر، ولا علاقة لمسعر بالموضوع. والرسم قريب: "منه مسعر"، "من ابن عمر"!

والعجيب أن كلا المحققين ترجما لمسعر وذكرا أن وفاته كانت سنة 155هـ، وهو تقريباً من أقران عَبْدَة بن أَبِي لُبَابَةَ الذي كانت وفاته بين سنة [121 - 130هـ]، وهذا يدلّ على أن ذكر مسعر هنا في هذه السؤالات غير صحيح!

ولا أدري هل هذا التصحيف فات الأئمة من قبل؛ لأنهم لم يذكروا كلام أبي داود في ترجمة عبدة! وخاصة الحافظ مُغلطاي، والحافظ ابن حجر، فلهما عناية بسؤالات الآجري لأبي داود.

فهذه فائدة عزيزة تُضاف إلى ترجمة عبدة بن أبي لبابة - رحمه الله تعالى-.

·       اعتماد بشار معروف هذا النص المصحّف، وإيراده في ترجمة «مِسعر» من «تهذيب الكمال»!

وقد نقل بشار معروف في تعليقه على ترجمة «مسعر» من «تهذيب الكمال» (27/468) في الحاشية قال: "وقَال الآجري: سمعت أَبَا داود يَقُول: عبدة بن أَبي لبابة لم يسمع منه مسعر: (سؤالاته: 3/97). وَقَال الآجري أيضاً: سمعت أبا داود يقول: قال شعبة كان قد أخذ عليهم الوهم غير مسعر. قال أبو داود: ومسعر قد خولف في أشياء (سؤالاته: 5/الورقة 44)" انتهى.

قلت: هذا النص مُصحّفٌ كما بيّنت آنفاً ولا علاقة لمسعر به، والله أعلم.

·       شواهد الحديث:

وقد رُوي الحديث من طرق أخرى:

·       حديث عَبْدِاللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ:

رواه عبدالله بن المبارك في كتاب «الزهد» - زوائد نُعيم بن حمّاد عنه - (2/54).

وأبو داود الطيالسي في «مسنده» (1/221) (275) - ومن طريقه: البزار في «مسنده» (4/337) (1533)، وابن ماجه في «سننه» (5/229) (4109)، وأبو نُعيم الأصبهاني في «الحلية» (2/102)، و(4/234)، والرَّامَهُرْمُزِيُّ في كتاب «الأمثال» (ص: 57) - [ورواه البيهقي في «دلائل النبوة» (1/337) من طريق أبي الشيخ الأصبهاني، عن يونس بن حبيب، عن الطيالسي].

ووكيع بن الجرّاح في «الزهد» (64) - وعنه: أحمد في «مسنده» (7/259) (4208)، وأَبو خَيْثَمَةَ [رواه ابن أبي الدنيا في «قصر الأمل» (126) عنه]، والحُسَيْنُ بن مُحَمَّدِ بنِ أَبِي المَعْشَرِ المَدِينِيُّ [رواه تمّام في «فوائده» (1/358) (912) عن خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عنه]، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (19/47) (35444) - وعنه: أبو يعلى في «مسنده» (8/416) (4998)، وابن أبي عاصم في «الزهد» (183)، وعن ابن أبي عاصم: أبو الشيخ الأصبهاني في «أمثال الحديث» (297)].

وهنّاد بن السَّري في «الزهد» (2/382) عن يُونُسَ بنِ بُكَيْرٍ الكوفيّ.

وأحمد في «مسنده» (6/241) (3709)، وفي «الزهد» (64). وابن أبي شيبة في «مسنده» [كما عند أبي الشيخ الأصبهاني في «أخلاق النبي» (4/190) (855)]. وأبو يعلى الموصلي في «مسنده» (9/148) (5229)، و(9/195) (5292) عن أَبي خَيْثَمَةَ. والشاشي في «مسنده» (1/355) (340) عن عِيسَى بن أَحْمَدَ العَسْقَلَانِيّ. وأبو الشيخ في «أخلاق النبيّ» (3/35) (500) من طريق أَحْمَدَ الدَّوْرَقِيّ. وقوام السنة أبو القاسم الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (2/202) (1434) من طريق إِبْرَاهِيم بن عَبْدِاللَّهِ بنِ سُلَيْمَانَ السَّعْدِيّ. ستتهم (أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو خيثمة، وعيسى العسقلاني، وأحمد الدورقي، وإبراهيم السعدي) عن يَزِيدَ بن هَارونَ الواسطي.

وابن سعد في «الطبقات» (1/361) عن يَحْيَى بن عَبَّادٍ الضُّبَعِي، وأبي النَّضر هَاشِم بن القَاسِمِ البغداديّ.

والترمذي في «جامعه» (4/166) (2377) عن مُوسَى بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ الكِنْدِيّ. والشاشي في «مسنده» (1/355) (341)، والبغوي في «شرح السنة» (14/235) (4034) من طريق أَبي عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّد بن عَقِيلِ بنِ الأَزْهَرِ الْبَجَلِيّ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (13/46) (9930) من طريق أَبي العَبَّاسِ مُحَمَّدِ بن يَعْقُوبَ الأصم، ثلاثتهم (الشاشي، والأصم، وابن الأزهر) عن الحَسَنِ بنِ عَلِيِّ بنِ عَفَّانَ العَامِرِيّ. كلاهما (موسى الكندي، والعامري) عن زَيْدِ بنِ الحُبَابِ العُكْلي.

والطبراني في «المعجم الكبير» (9/122) (9307) عن هَاشِمِ بن مَرْثَدٍ. وَالقَاضِي يُوْسُفُ بنُ القَاسِمِ المَيَانَجِيُّ في «أماليه» (13) عن عُبيد بن شريك. وأبو نُعيم في «الحلية» (4/234) من طريق أَبي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيّ. كلهم (هاشم، وعبيد، وأبو زرعة) عن آدَم بن أبي إِيَاسٍ العَسقلاني.

وأَبُو الحَسَنِ الإِخْمِيمِيُّ في «الفوائد المنتقاة» - انْتِقَاء: عَبْدالغَنِيِّ بن سَعِيدِ بنِ عَلِيٍّ الأَزْدِيّ الحَافِظِ – (7) من طريق رَبِيع بن سُلَيْمَانَ، عن أَسَد بن مُوسَى أَسَدِ السُّنَّةِ.

وابن بشران في «أماليه - الجزء الثاني» (1555) من طريق مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَمَّارٍ، عن المُعَافَى بنِ عِمْرَانَ الموصليّ.

والحاكم في «المستدرك» (4/345) (7859) من طريق مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ بنِ حَبِيبٍ، عن جَعْفَرُ بن عَوْنٍ الكوفيّ.

كلهم (ابن المبارك، وأبو داود الطيالسي، ووكيع، ويُونُس بن بُكَيْرٍ، ويزيد بن هارون، ويَحْيَى بن عَبَّادٍ، وَهَاشِم بن القَاسِمِ، وزيد بن الحُباب، وآدم بن أبي إياس، وأسد بن موسى، والمُعافى بن عمران، وجعفر بن عون) عن عبدالرحمن بن عبدالله المَسْعُودِيّ، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعيّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَنَا اتَّخَذْنَا لَكَ فِرَاشًا يَقِيكَ مِنَ الحَصِيرِ؟، فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرْكَهَا».

وقد صححه الترمذي، واستغربه كثيرٌ من الأئمة!

قال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي البَاب عَنِ ابنِ عُمَرَ، وَابنِ عَبَّاسٍ".

وقال البزار: "وَهَذَا الحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ إِلَّا الْمَسْعُودِيُّ، وَلَا رَوَى عَمْرُو بنُ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ إِلَّا هَذَا الحَدِيثَ".

وقال الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ إِلَّا الْمَسْعُودِيُّ".

وقال أبو نُعيم الأصبهاني: "لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا إِلَّا المَسْعُودِيُّ".

وقال أيضاً: "غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو وَإِبْرَاهِيمَ، تَفَرَّدَ بِهِ المَسْعُودِيُّ".

وقال ابن حبان في «المجروحين» (1/238): "وَهَذَا خَبَرٌ مَا رَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيم إلا المَسْعُودِيُّ، فَإِنَّهُ رَوَاه عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّة عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَالمَسْعُودِيِّ لَا تَقُومُ الحُجَّةُ بِرِوَايَتِهِ".

وقال عَبْدالغَنِيِّ بن سَعِيدٍ الأَزْدِيّ الحَافِظ: "وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بنِ يَزِيدَ، مَا عَلِمْتُ أَسْنَدَهُ عَنْهُ إِلا المَسْعُودِيَّ".

وقال الذهبي في «تاريخه» (1/765): "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ قَرِيبٌ مِنَ الصِّحَّةِ".

وهذا غرييب منه! فهو يقول عن المسعودي: "سيء الحفظ" [ميزان الاعتدال: (2/574)]، ويقول عنه أيضاً: "لَيْسَ بِحُجَّةٍ" [سير أعلام النبلاء: (1/129)].

وقال في ترجمته من «السير» (7/95): "وَحَدِيْثُه فِي حَدِّ الحَسَنِ"!

وذكره الألباني في «صحيحته» (1/800) (438)!

قلت: هذا حديثٌ مُنكرٌ! لم يروه عن عَمْرِو بنِ مُرَّةَ إِلَّا المَسْعُودِيُّ! وتفرده عن عمرو بن مرة لا يُحتمل!

وقد وثّقه بعض أهل العلم، وهو من أهل الصدق، لكنه كان سيء الحفظ.

قال البَرذَعي في «سؤالاته لأبي زرعة» (2/420): قلت: أحاديث المسعودي عن شيوخه، غير القاسم، وعون؟ قال: "أحاديثه عن غير القاسم، وعون، مضطربة يهم كثيراً".

وقال أبو داود: "كان المسعودي يُخطىء في الحديث" [سؤالات الآجري لأبي داود: (502)].

وقد قال أهل العلم بأنه اختلط بأخرة.

قال أبو حاتم الرازي: "تغير بأخرة قبل موته بسنة أو بسنتين" [الجرح والتعديل: (5/251)].

وقال ابن حبان: "وَكَانَ المَسْعُودِيّ صَدُوقًا إِلَّا أَنه اخْتَلَط فِي آخر عمره اختلاطاً شَدِيداً حَتَّى ذهب عقله، وَكَانَ يُحدِّث بِمَا يَجِيئهُ، فَحمل فاختلط حَدِيثه القَدِيم بحَديثه الْأَخير، وَلم يتَمَيَّز، فَاسْتحقَّ التّرْك" [المجروحون: (2/48)].

وقال العقيلي: "تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فِي حَدِيثِهِ اضْطِرَابٌ" [الضعفاء: (2/336)].

وقال ابن حجر: "صدوقٌ اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط" [تقريب التهذيب: (3919)].

قلت: حاصل كلام أهل العلم فيه أن بعضهم تكلم في حفظه، واتفقوا على أنه اختلط بأخرة، فمن سمع منه قديماً من أهل الكوفة والبصرة فسماعه منه جيد، ومن سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط؛ لأنه في آخر عمره نزل بغداد وحدّث بها، واختلط ومات فيها.

قال ابن سعد: "مات ببغداد. وكان ثقة كثير الحديث إلا أنه اختلط في آخر عمره، ورواية المتقدمين عنه صحيحة" [الطبقات: (6/346)].

وقَالَ ابن معين: "أَنْكَرُوا المَسْعُودِيّ بعد موت أبي جَعْفَر".

وقال أيضاً: "من سمع من المسعودي في زمان أبي جعفر فهو صحيح السماع، ومن سمع منه في زمان المهدي فليس بشيء".

قلت: مات أبو جعفر المنصور سنة (158هـ).

وقال أحمد: "المَسْعُودِيّ صَالح الحَدِيث، وَمن أَخذ عَنهُ أَولاً فَهُوَ صَالح الْأَخْذ" [العلل ومعرفة الرجال - رواية المروذي: (37)].

وقال يعقوب بن شيبة: "والمسعودي ثقة صدوق، وقد كان تغير بأخرة".

وقال ابن خراش: "المسعودي صدوق اختلط بأخرة" [تاريخ بغداد: (11/480)].

وقال العِجلي: "عبدالرحمن المسعودي كوفي ثقة، إلا أنه تغير بأخرة، ومن سمع منه قديماً فهو أصلح".

وقال ابن عمار: "المسعودي من قبل أن يختلط كان ثبتاً، ومن سمع منه ببغداد فسماعه ضعيف" [تاريخ بغداد: (11/480)].

وقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِاللهِ بنِ نُمَيْرٍ: "المَسْعُوْدِيُّ كان ثِقَة، فلما كان بِأَخَرَةٍ اخْتُلِطَ. سمع منه: عبدالرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون أحاديث مختلطة، وما روى عنه الشيوخ فهو مستقيم" [الجرح والتعديل: (1/322)، و(5/251)].

وقال أحمد: "سَماع وَكِيع من المَسْعُودِيّ بِالكُوفَةِ قَدِيماً، وَأَبُو نُعيم أَيْضاً، وَإِنَّمَا اخْتَلَط المَسْعُودِيّ بِبَغْدَاد، وَمن سمع مِنْهُ بِالبَصْرَةِ والكوفة فسماعه جيّد" [العلل ومعرفة الرجال: (1/325)].

وقال أيضاً: "كلّ من سمع المَسْعُودِيّ بِالكُوفَةِ فَهُوَ جيد مثل وَكِيع وَأبي نُعيم، وَأما يزِيد بن هَارُون وحجاج، وَمن سمع مِنْهُ بِبَغْدَاد وَهُوَ فِي الِاخْتِلَاط إِلَّا من سمع مِنْهُ بِالكُوفَةِ" [العلل ومعرفة الرجال: (3/50)].

قال ابن رجب مُعلقاً: "يعني أن سماع من سمعه منه بالكوفة صحيح، ومن سمع منه ببغداد كيزيد بن هارون وحجاج فهو بعد الاختلاط" [شرح علل الترمذي: (2/747)].

وقال أحمد: "وَسَمَاعُ يَزِيدَ مَنِ المَسْعُودِيِّ بِأَخَرَةٍ" [المنتخب من العلل – ط. الفاروق: (ص: 219)].

وقال: "سماع عاصم وأبي النضر وهؤلاء من المسعودي بعدما اختلط، إلا أنهم احتملوا السماع منه فسمعوا" [تاريخ بغداد: (11/480)].

وقال ابن حبان في «الثقات» (7/568): "سَماع أبي دَاوُد - يعني: الطيالسي - من المَسْعُودِيّ كَانَ بعد أَن اخْتَلَط".

وقال ابن رجب: "وممن كتب عنه قبل أن يختلط: سلم بن قتيبة، وكتب عنه أبو داود بعد الاختلاط" [شرح علل الترمذي: (2/748)].

وقال الأبناسي في «الشذا الفيّاح من علوم ابن الصلاح» (2/758): "وقد سمع من المسعودي بعد الاختلاط: عاصم بن علي، وأبو النضر هاشم بن القاسم، وعبدالرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وحجاج بن محمد بن الأعور، وأبو داود الطيالسي، وعلي بن الجعد".

ثم قال: "تُقبل رواية كلّ من سمع منه بالكوفة والبصرة قبل أن يقدم بغداد، كأمية بن خالد، وبشر بن المفضل، وجعفر بن عون، وخالد بن الحارث، وسفيان بن حبيب، وسفيان الثوري، وأبو قتيبة سلم بن قتيبة، وطلق بن غنام، وعبدالله بن رجاء الغداني، وعثمان بن عمر بن فارس، وعمرو بن مرزوق، وعمرو بن الهيثم، والقاسم بن معن بن عبدالرحمن، ومعاذ بن معاذ العنبري، والنضر بن شميل، ويزيد بن زريع".

ثم قال: "وقال عثمان بن عمر بن فارس: "كتبنا عن المسعودي وأبو داود جرو يلعب بالتراب".

ثم قال: "وأما علي بن الجعد فإن سماعه منه أيضاً في بغداد، فإن علي بن الجعد إنما قدم البصرة سنة ست وخمسين ومائة، والمسعودي يومئذ ببغداد".

قلت: وابن المبارك سمع من المسعودي قديماً؛ لأن خرج للعراق سنة (141هـ).

قال عَبَدان بن عثمان: "خرج عبدالله إلى العراق أول شيء سنة إحدى وأربعين ومائة" [تاريخ دمشق: (32/477)].

وأما سماع آدم بن أبي إياس منه، فالظاهر أنه سمع منه قديماً أيضاً؛ فإن آدم أصله من خراسان، ونشأ ببغداد، وبها طلب العلم، وكتب عن شيوخها، ثم رحل إلى الكوفة والبصرة والحجاز والشام، ولقي الشيوخ وسمع منهم، واستوطن عسقلان فعرف بالعسقلاني.

وأما زيد بن الحباب فالظاهر أنه سمع منه متأخراً؛ لأنه طلب العلم بعد الخمسين ومائة [تاريخ الذهبي: (5/75)].

وأما المعافى بن عمران فالظاهر أيضاً أنه سمع منه ببغداد قديماً؛ لأن المعافى دخل بغداد عدة مرات، ومولده كان بعد العشرين ومائة [تاريخ الذهبي: (4/976)].

وكان سبب اختلاط المسعودي فيما رواه ابن معين عن أبي النضر هاشم بن القاسم: أن ابنه وقع في بئر فتكسر فيها فخرج فمات فاختلط حين رآه. [تاريخ دمشق: (35/23)].

ورُوي عن أبي النضر أيضًا أن اختلاطه كان في عزاء ابنه لما جاءه الخبر أن غلاماً له سرق من ماله!

ذكر الوليد بن أبان الكرابيسي عن أبي النضر هاشم بن القاسم، قال: "إني لأعرف اليوم الذي اختلط فيه المسعودي، كنا عنده - وهو يُعَزَّى في ابن له إذ جاءه إنسان فقال له: إن غلامك أخذ عشرة آلاف من مالك وهرب، ففزع وقام ودخل إلى منزله، ثم خرج إلينا، وقد اختلط، رأينا فيه الاختلاط". [الجرح والتعديل: (5/251)].

روى العقيلي في «الضعفاء» (2/336) من طريق صَالِح بن أحمد بن حنبل، عن عَلِيّ بن المديني، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَ بنَ مُعَاذٍ العنبريّ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا المَسْعُودِيُّ قَدْمَتَيْنِ البَصْرَةَ يُمْلِي عَلَيْنَا إِمْلَاءً.

قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ المَسْعُودِيَّ بِبَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَمَا أُنْكِرُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، فَجَعَلَ يُمْلِي عَلَيَّ ثُمَّ أَذِنَ لِي فِي بَيْتِهِ وَمَعِي عَبْدُاللَّهِ بنُ عُثْمَانَ، مَا نُنْكِرُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.

قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَيْهِ قَدْمَةً أُخْرَى مَعَ عَبْدِاللَّهِ بنِ حَسَنٍ.

فَقُلْتُ لِمُعَاذٍ: سَنَةَ كَمْ؟

قَالَ: سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ.

فَقَالَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ لِمُعَاذٍ - وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ -: خَرَجْتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ سُفْيَانُ؟

فَقَالَ مُعَاذٌ: قَبْلَ سُفْيَانَ بِسَنَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: دَخَلَ عَلَيْهِ فَذَهَبَ بِبَعْضِ مَتَاعِهِ فَأَنْكَرُوهُ آنَذَاكَ.

قَالَ مُعَاذٌ: فَتَلَقَّانَا يَوْمًا فَسَأَلْتُهُ عَنْ حَدِيثِ لِلْقَاسِمِ فَأَنْكَرَهُ! وَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي"، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَهُ بِكِتَابِ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: كَيْفَ هو فِي كِتَابِكَ؟ قَالَ: "عَنْ عَلْقَمَةَ"، قَالَ: وَجَعَلَ يُلَاحِظُ كِتَابَهُ.

قَالَ مُعَاذٌ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا حَدَّثْتَنَاهُ عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ؟ قَالَ: "فَهُوَ عَنْ عَلْقَمَةَ".

فَقَالَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ - وَهُوَ إِلَى جَنْبِ مُعَاذٍ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ -: "آخِرُ مَا لَقِيتُ الْمَسْعُودِيَّ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ لَقِيتُهُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بنُ عُثْمَانَ ذَاكَ العَامَ مَعِي، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ يَحْيَى: وَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ".

قلت: يُستفاد من هذا الذي ذكره معاذ العنبري:

أولاً: أن المسعودي قدم البصرة مرتين، وكان يملي عليهم، وكان سبب قدومه البيعة لأبي جعفر في المرة الأولى سنة (136هـ) - وكان عُمر معاذ العنبري آنذاك (17) سنة؛ لأنه ولد سنة (119هـ) -، وللمهدي في الثانية سنة (158هـ)، وقد سمع منه معاذ في كلا المرتين.

قال صالح بن أحمد بن حنبل: قال علي بن المديني: سمعت معاذ بن معاذ قال: قلت لشعبة، تنهى الناس عن الحسن بن عمارة، وتأمرنا بالمسعودي وقد قدم في البيعة؟ فقال: أنت ههنا بعد!

قال معاذ: وقدم في البيعة مرتين.

قال ابن أبي حاتم مُعقباً على ذلك: "لا يضر المسعودي قدومه لأخذ البيعة للسلطان مع صدقه في الرواية" [الجرح والتعديل: (3/27)].

وروى إسماعيل بن إسحاق قال: سمعت علي بن المديني قال: وسمعت معاذ بن معاذ، قال: "قدم علينا المسعودي في بيعة - يعني: المهدي -، قال: فقلت لشعبة، تنهانا عن الحسن بن عمارة وتأمرنا بالمسعودي، وقد قَدِمَ فيما قَدِمَ! فقال: أنت ها هنا بعد - يعني: كأنه للحديث والبيت" [تاريخ دمشق: (35/14)].

قلت: فهذا الذي دار بين معاذ بن معاذ وشعبة كان لما جاء المسعودي البصرة لبيعة المهدي سنة (158هـ)، ولما قدم حينها أمرهم شعبة بالذهاب إليه والسماع منه.

روى أَبو القَاسِمِ البَغَوِيُّ في «الجعديات» (1932) قال: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيِّ بنِ المَدِينِيِّ، قال: سَمِعْتُ مُعَاذَ بنَ مُعَاذٍ، قَالَ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: تَنْهَى النَّاسَ عَنِ الحَسَنِ بنِ عُمَارَةَ وَتَأْمُرُنَا بِالْمَسْعُودِيِّ، وَقَدْ قَدِمَ فِي البَيْعَةِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: «أَنْتَ هَاهُنَا بَعْدُ».

قَالَ مُعَاذٌ: «وَقَدِمَ عَلَيْنَا المَسْعُودِيُّ مَرَّتَيْنِ يُمْلِي عَلَيْنَا إِمْلَاءً، ثُمَّ لَقِيتُهُ بِبَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَمَا أُنْكِرُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَجَعَلَ يُمْلِي عَلَيَّ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا أَنْكَرَهُ عَلَى المَسْعُودِيُّ».

رواه الخطيب في «تاريخه» (11/480) من طريق أَبي بَكْرٍ أَحْمَدَ بنِ إِبْرَاهِيمَ بنِ الحَسَنِ بنِ شَاذَانَ، وأَبي القَاسِمِ عُبَيْدِاللَّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ بنِ حَبَابَةَ البَزَّازِ. وابن عساكر في «تاريخه» (35/14) من طريق أَبي القَاسِمِ عِيسَى بنِ عَلِيِّ بنِ عِيسَى. ثلاثتهم عن أَبي القَاسِمِ عَبْدِاللَّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ البَغَوِيِّ، به.

ثانياً: أن المسعودي قدم بغداد سنة (154هـ) وسمع منه معاذ هناك، ولم يُنكر عليه شيئاً.

وهذا يدفع من قال من أهل العلم أن من سمع منه في بغداد بعد الاختلاط! وإنما قيل إنه اختلط في آخر عمره في بغداد.

وعليه فيجب معرفة من سمع منه في بغداد في سنة (154هـ)، ومن سمع منه قبل وفاته بسنة أو سنتين!

وشعبة سمع من المسعودي في بغداد سنة (154هـ) في السنة التي لقيه فيها معاذ هناك؛ لأن شعبة مات سنة (160هـ) قبل المسعودي.

روى الخطيب في «تاريخه» (11/480) من طريق مثنى بن معاذ العنبري، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: رأيت شعبة ببغداد يسأل عن منزل المسعودي، قلت: يا أبا بِسطام، ما تريد منه؟ قَالَ: أريد أن أسأله عن حديث أَبِي فَاخِتَةَ.

قلت: أَبو فَاخِتَةَ مَوْلَى جَعْدَةَ بنِ هُبَيْرَةَ المَخْزُومِيّ، واسمه: سَعِيد بن عِلَاقة الهاشمي الكوفي، ويروي المَسْعُودِيّ، عَنْ عَوْنِ بنِ عَبْدِاللهِ، عَنْه.

وروى ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/251) من طريق أبي داود الطيالسي، قال: قال رجلٌ لشعبة: تروي عن المسعودي؟

قال: ما شأنه؟

قال: هو مع هؤلاء! - يعني: مع السلاطين، وكان يَخدِمُ الدَّوْلَةَ، وَلَهُ صُوْرَةٌ عندهم = أي: منزلة -.

قال: هو صدوق، اذهب فاسمع منه.

فلما قدم شعبة بغداد أتى بكتب المسعودي فسمع منه سنة (154هـ).

وروى ابن عساكر في «تاريخه» (35/23) من طريق ابن أبي خيثمة، قال: أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال: "كان المسعودي ببغداد، فكتب إليه أبو سعيد الرَّانِي كتاباً يعظه فيه ويوبخه! فقال: ما لأبي سعيد جزاء إلا أن يضرب كتابه، يا غلام هات السوط، اضرب هذا الكتاب سبعين سوطاً، فضربه بالسوط حتى قطعه".

وذكر هذه الحكاية الكعبي في «قبول الأخبار ومعرفة الرجال» (1/155) وفيه: "ما لأبي سعيد حدًا".

وأبو سعيد هذا، هو: الوليد بن كثير، كَانَ أَبُو سَعِيدٍ يُمَارِي أَهْلَ الكُوفَةِ وَيُفَضِّلُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَهَجَاهُ رجل من أهل الْكُوفَة ولقبه شرشير، والرّاني أظنها محرّفة من "المدني"؛ لأنه من المدينة، وتفصيل ذلك في كتابي الكبير على التاريخ الكبير.

ثالثاً: قدم معاذ بن معاذ على المسعودي بغداد مرة أخرى سنة (161هـ) = وهذا يعني أن وفاته لم تكن سنة (160) كما قال سليمان بن حرب، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن حبان! وإنما بعد ذلك.

وأرخ يعقوب بن شيبة وفاته سنة (165هـ)، وهذا الذي أميل إليه.

رابعاً: خرج معاذ بن معاذ من بغداد قبل قدوم سفيان إليها بسنة - وهو ابن عيينة، وليس بالثوري؛ لأن الثوري مات سنة (161هـ) -.

يعني إذا كان معاذ دخل بغداد هذه القدمة سنة (161هـ) وبقي قليلا فيها أو نحو سنة، فيكون خرج منها سنة (162هـ)، وسفيان قدم بغداد بعد خروجه بسنة = يعني دخل سفيان بغداد سنة (163هـ)، فدَخَلَ عَلى المسعودي، فَذَهَبَ بِبَعْضِ مَتَاعِهِ فَأَنْكَرُوهُ آنَذَاكَ = يعني كان قد اختلط في ذلك الوقت.

ويُفسّر هذا ما رواه العقيلي في «الضعفاء» (2/336) من طريق أَبي النَّضْرِ هاشم بن القاسم، قَالَ: قال سُفْيَانُ - يعني: ابن عيينة - لِلْمَسْعُودِيِّ - وَرَأَى عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةً سَوْدَاءَ -، فَقَالَ لَهُ: "لَوْ كُنْتَ تَنْقُلُ الحَصْبَاءَ مِنَ الحِيرَةِ إِلَى الكُوفَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ".

قلت: وهذا يخالف ما سبق نقله عن أبي النضر أنه قال إنه يعرف اليوم الذي اختلط فيه المسعودي، وذكر أن غلاماً له سرق منه مالاً كثيراً، فاختلط بسبب ذلك! وحقيقة هذا بعيد، والله أعلم.

وروى ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/251) عن أحمد بن عثمان بن حكيم الأزدي، قال: قَالَ لي أَبُو نُعَيْمٍ: لو رَأَيترجلاً فِي قَبَاءٍ أَسْوَدَ وَشَاشِيَّةٍ، وَفِي وَسطِه خِنْجَرٌ، ولا أعلم إلا قال: مكتوبٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِبياض: {فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ}، كنت تكتب عنه؟ قلت: لا، قال: "فقد رأيت المسعودي في هذه الحالة".

قال ابن أبي حاتم: "هذا بعد الاختلاط".

ورواه العقيلي في «الضعفاء» (2/336) عن مُحَمَّد بن عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عِمْرَانَ بنِ زِيَادٍ الضَّبِّيُّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو نُعَيْمٍ - وَسَأَلْتُهُ عَنْ حَدِيث المَسْعُودِيِّ -: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَيْهِ قُبَاءٌ أَسْوَدُ وَشَاشِيَةٌ وَفِي وَسَطِهِ خِنْجَرٌ، كُنْتَ تَكْتُبُ عَنْهُ؟ ثُمَّ قَالَ: "رَأَيْتُ الْمَسْعُودِيَّ هَكَذَا، وَمَكْتُوبٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِبَيَاضٍ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137]".

وروى أيضاً من طريق الهَيْثَم بنِ جَمِيلٍ البغدادي، قَالَ: "رَأَيْتُ المَسْعُودِيَّ وَعَلَيْهِ قِبَاءَتَانِ بِكَنْدَ، وَعَلَيْهِ سَيْفٌ، وَفِي وَسَطِهِ خِنْجَرٌ، وَعَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ طُولُهَا أَكْبَرُ مِنْ ذِرَاعٍ، عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مَنْصُورُ".

فَتَوَقَّفَ أُنَاسٌ فِي الأَخْذِ عَنْهُ لِذَلِكَ، والله أعلم.

وعليه فمن قال بأن المسعودي اختلط قبل سنة (163هـ) فهو خطأ! وذلك أنهم اعتمدوا أنه مات سنة (160هـ) وليس كذلك.

روى العقيلي في «الضعفاء» (2/336) عن عَمْرٍو الفلاّس، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: "رَأَيْتُ المَسْعُودِيَّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَكَتَبْتُ عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَرَأَيْتُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَالذَّرُ يَدْخُلُ فِي أُذُنِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ يَكْتُبُ عَنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَطْمَعُ أَنْ تُحَدِّثَ عَنْهُ وَأَنَا حَيٌّ؟".

قلت: تبعاً لقول أبي قتيبة وهو سَلم بن قتيبة البصري قالوا بأن المسعودي اختلط سنة (157هـ)، وكان أبو داود الطيالسي يكتب عنه، ولهذا قالوا سمع منه الطيالسي في حال اختلاطه! وهذا فيه نظر! فقد أثبتنا أنه اختلط بعد سنة (163هـ)، وكون الذّر - صغار النَّمل - يدخل في أذنه لا يدلّ على الاختلاط، وهو كان حينها شيخاً كبيراً قد جاوز (75) سنة؛ لأنه وُلِدَ: فِي خِلاَفَةِ عَبْدِالمَلِكِ بنِ مَرْوَانَ، بَعْدَ الثَّمَانِيْنَ.

وكلام أبي قتيبة الأخير لأبي داود الطيالسي: "أتطمع أن تحدّث عنه وأنا حيّ" يدفع ذلك؛ لأن أبا قتيبة سمع منه قبل الطيالسي بسنوات = فهو أكثر حديثاً منه، والناس سيقصدونه هو لسماع حديث المسعودي لا من سمع منه متأخراً = فلا تطمع أن تُحدّث عنه وأنا حيّ.

ولو كان المسعودي مختلطا حينها لما قال أبو قتيبة هذا، ولصرّح بذلك، وإنما أقصى ما يدلّ عليه كلامه أنه كان كبيراً في السنّ، ولم يكن مختلطاً حينها.

روى الخطيب في «تاريخه» (11/480) من طريق مُحَمَّد بن عبداللَّه النيسابوري الحافظ، قَالَ: قرأت بخط مُحَمَّد بن يَحْيَى - يعني: الذهلي -: قلت لأبي الوليد: سمع عبدالرحمن من المسعودي بمكة شيئًا يسيرًا؟ قَالَ: "نعم".

قلت: وأبو داود سمع منه ببغداد؟ قَالَ: "نعم".

قلت: وكم كان بين قدومه مكة وبغداد؟ قَالَ: "أكثر من سنة وسنتين".

قلت: أبو داود سمع من المسعودي ببغداد سنة (157هـ)، ثم نزل مكة بعدها بسنة أو سنتين وسمع فيها شيئاً يسيراً، وقد أخبر يحيى القطان أنه لقيه في مكة سنة (158هـ) يعني بعد خروجه من بغداد بسنة، فمن دخل مكة للسماع لا يكون مختلطاً حينها.

فإذا كان قد اختلط بعد سنة (163هـ) أو (164هـ) وكان اختلاطه قبل وفاته بسنة أو سنتين = فهذا يعني أن وفاته كانت سنة (165هـ) كما قال يعقوب بن شيبة، وهو الصواب إن شاء الله.

خامساً: لقي يَحْيَى بن سَعِيدٍ القطان المَسْعُودِيَّ سَنَةَ (147 أو 148هـ)، ثُمَّ لَقِيهُ بِمَكَّةَ سَنَةَ (158هـ) وَكَانَ معه عَبْدُاللَّهِ بن عُثْمَانَ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ، وَلَمْ يسْأَلْهُ يحىي عَنْ شَيْءٍ.

وهذا يُبيّن لنا ما رواه عَمْرو بن عَليّ الفلاس، قَالَ: سَمِعت يحيى بن سعيد يَقُول: "رَأَيْت المَسْعُودِيّ سنة رَآهُ عبدالرَّحْمَن، فَلم ُأكَلِّمهُ" [ضعفاء العقيلي: (2/336)].

يعني رآه عبدالرحمن سنة (158هـ) وكان مع يحيى القطان في مكة.

سادساً: ما ذكره مُعَاذٌ يُبيّن لنا أن حفظه كان قد اختلف، وهذه المسألة في حديثه، لا أن المشكلة أنه اختلط.

قال عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ الفلاس: سَمِعْتُ مُعَاذَ بنَ مُعَاذٍ، يَقُولُ: "رَأَيْتُ المَسْعُودِيَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ يُطَالِعُ الكِتَابَ - يَعْنِي: أَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ" [ضعفاء العقيلي: (2/336)].

فتغير حفظه ورجوعه للكتاب لا علاقة له بالاختلاط، وهذا كان سنة (154هـ).

وقد ذكر معاذٌ شيئاً أنكره على المسعودي يدلّ على سوء حفظه آنذاك.

سَأَلهُ معاذ عَنْ حَدِيثِ لِلْقَاسِمِ فَأَنْكَرَهُ! وَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي".

قَالَ معاذ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَهُ بِكِتَابِ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: كَيْفَ هو فِي كِتَابِكَ؟ قَالَ: "عَنْ عَلْقَمَةَ"، قَالَ: وَجَعَلَ يُلَاحِظُ كِتَابَهُ - أي الكتاب الذي جاء به الرجل -.

قَالَ مُعَاذٌ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا حَدَّثْتَنَاهُ عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ؟ قَالَ: "فَهُوَ عَنْ عَلْقَمَةَ".

قلت: وهذا يدلّ على أنه عندما حدّث بحديثنا الذي نتكلم عليه حدّث به من حفظه، ووهم فيه! وهو عن عمرو بن مرة أيضاً!

فكأن هذه الأحاديث التي يرويها عن عمرو بن مرة عن إبراهيم ليس فيها: "عن علقمة"! وتبع فيها ما قاله ذلك الرجل في كتابه! فجعلها "عن علقمة"!

ويُحتمل أنه وهم في إسنادها أصلاً لما حدّ بها!

والحديث رَوَاهُ ابن المبارك، وأبو داود الطيالسي، ووكيع، ويُونُس بن بُكَيْرٍ، ويزيد بن هارون، ويَحْيَى بن عَبَّادٍ، وَهَاشِم بن القَاسِمِ، وزيد بن الحُباب، وآدم بن أبي إياس، وأسد بن موسى، والمُعافى بن عمران، وجعفر بن عون) عن عبدالرحمن بن عبدالله المَسْعُودِيّ، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعيّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ.

ورواه عنه أيضاً: عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُوْسَى بنِ أَبِي المُخْتَارِ بَاذَامَ العَبْسِيُّ الكوفيّ، وأَبُو قَطَنٍ عَمْرُو بنُ الهَيْثَمِ البصري كما قال الدارقطني في «العلل» (5/163).

فوكيع، ويونس بن بُكير، وجعفر بن عون، وعُبيدالله بن موسى من أهل الكوفة ممن سمعوا منه قديماً، وأبو قطن سمع منه قديماً في البصرة، وابن المبارك، وآدم بن أبي إياس، والمعافى الظاهر أنهم سمعوا منه قديماً أيضاً، والبقية سمعوا منه متأخراً.

فمن جعل الضابط في حديثه أن من سمع منه في الكوفة والبصرة فحديثه عنه صحيحن ومن سمع منه ببغداد ففي حال اختلاطه = فهذا يعني أنه حدّث بهذا الحديث قديماً، وحدث به متأخراً، ولهذا صحح بعض أهل العلم حديثه!

فهذا الحديث رواه عنه من سمع منه قبل الاختلاط المُدّعى وبعده، وهناك أحاديث أخرى في الكتب رواها عنه من سمع منه قبل الاختلاط وبعده.

والصواب أن مسألة الاختلاط لا علاقة لها بحديثه، فكل من قيل عنهم أنهم سمعوا منه في حالة اختلاطه إنما بنى أهل العلم ذلك على أنه مات سنة (160هـ) واختلط قبلها بسنة أو سنتين، وبعضهم سمعوا منه لما قدم بغداد سنة (158هـ) واستقر بها إلى أن مات.

والصحيح أن وفاته كانت سنة (165هـ)، ورأى منه ابن عيينة بعض الاختلاط بهيئة الملابس التي كان يلبسها، ومن سمع منه قبل ذلك كالطيالسي وغيره سمعوا منه قبل ظهور بوادر هذا الاختلاط!

والذي يتعلق بحديثه أنه كان يهم في حديثه بسبب سوء حفظه من سنة (154هـ) لما قدم بغداد، وسمع منه شعبة حينها.

وهذا الحديث بالإسناد نفسه الذي أنكره عليه معاذ بن معاذ وجعل فيه: "عن علقمة"!

قال الدارقطني: "المسعوديُّ إذا حدَّث عن أبي إسحاقَ، وعَمرو بنِ مُرَّةَ، والأعمشِ، فإنَّه يَغلَطُ، وإذا حدَّث عن مَعْنٍ، والقاسمِ، وعَونٍ، فهو صحيحٌ؛ وهؤلاء هم أهلُ بيتِه" [سؤالات السلمي: (277)].

قلت: وهذا الحديث يرويه عن عمرو بن مرة!

والذي أميل إليه أن أصل حديث المسعودي هو حديث الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر (حديث الباب)، أخطأ فيه المسعودي فرواه بهذه الجادة عن عمرو بن مرة التي عنده فيها أحاديث كثيرة!

وربما كان عنده ما يُشبه هذا عن ابن مسعود من قوله، فوهم في إسناده أيضاً، فأدخل الإسناد المشهور عنده على متن حديث ليس لابن مسعود، لكن عنده ما يُشبهه عنه!

روى ابنُ المُبَارَكِ في كتاب «الزهد» (1/199) (567) قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ المَسْعُودِيُّ، عَنِ القَاسِمِ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ: «لَوَدِدْتُ أَنِّي مِنَ الدُّنْيَا فَرْدٌ كَالرَّاكِبِ الرَّائِحِ الغَادِي».

وقد سُئِلَ الدارقطني عن هذا الحديث في «العلل» (5/163) (795) فَقَالَ: "يَرْوِيهِ المَسْعُودِيُّ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:

فَرَوَاهُ وَكِيعٌ، وَيَزِيدُ بنُ هَارُونَ، وَابنُ المُبَارَكِ، وَآدَمُ بنُ أَبِي إِيَاسٍ، وَيُونُسُ بنُ بُكَيْرٍ، وَهَاشِمُ بنُ القَاسِمِ، وَأَبُو قَطَنٍ، وَالمُعَافَى بنُ عِمْرَانَ، عَنِ المَسْعُودِيِّ، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ.

وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بنُ عَبْدِاللَّهِ العَبْسِيُّ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بنِ مُوسَى، عَنِ المَسْعُودِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ.

وَحَدِيثُ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ أَصَحُّ".

ثم قال: "وقال أَحمَد بن حازم الغِفاريُّ: عَن عُبيدالله بن مُوسَى، عن المَسعودي، مِثل قَول وَكيع، ومَن تابَعَهُ".

قلت: لا يقصد الدارقطني تصحيح حديث المسعودي عن عمرو بن مرة، وإنما رجّح حديث الجماعة عنه على حديث عبيدالله بن موسى عن المسعودي بالإسناد الآخر من رواية إبراهيم العبسي، ثم بيّن أن المحفوظ من رواية عبيدالله بن موسى عن المسعودي كما رواه الجماعة.

وقد وَهِمَ فيه إِبْرَاهِيم بن عَبْدِاللَّهِ العَبْسِيّ الكُوْفِيّ القَصَّار على عُبَيْدِاللَّهِ بن موسى، وَهُوَ صَدُوْقٌ، جَائِزُ الحَدِيْثِ.

فيبقى الحديث من تفرد المسعودي، وكان يُخطئ في حديثه، ويخالف غيره، بل كان يخالف عمرو بن مرة الذي روى عنه هذا الحديث!

·       مخالفة المسعودي لعمرو بن مرة في حديث!

سُئِلَ الدارقطني في «العلل» (5/15) (682) عَنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالَ: "يَرْوِيهِ عَوْنُ بنُ عَبْدِاللَّهِ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:

فَرَوَاهُ المَسْعُودِيُّ، عَنْ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ.

وَخَالَفَهُ عَمْرُو بنُ مُرَّةَ، فَرَوَاهُ عَنْ عَوْنِ بنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ الْأَسْوَدِ، أَوْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ «أَبَا فَاخِتَةَ».

وَقَوْلُ المَسْعُودِيِّ أَصَحُّ.

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ محمد السواق، قال: حدثنا أَحْمَدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ البُوشَنْجِيُّ - لَا بَأْسَ بِهِ -: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ المَسْعُودِيِّ، عَنْ عَوْنِ بنِ عَبْدِاللَّهِ بنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسِنُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، لَا تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ. قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَلِّمْنَا؟ قَالَ: قُولُوا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَاتَكَ وَبَرَكَاتَكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَليِنَ، وَإِمَامِ المُتَّقِينَ، وَخَاتِمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الخَيْرِ، وَقَائِدِ الخَيْرِ، وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ. اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتُ على إبراهيم وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».

وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، عَنِ المَسْعُودِيِّ، وَهُوَ غريبٌ عنه.

حدثنا أبو سهل بن زياد، قال: حدثنا المَعْمَرِيُّ أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حدثنا زُهَيْرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بِهَذَا لَيْسَ غَيْرَ المَعْمَرِيِّ قَالَ.

وَحَدَّثَنَا أَبُو بكر الشافعي، قال: حدثنا إسحاق الحربي، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ عَوْنِ بنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ الْأَسْوَدِ، أَوْ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا صَلَّيْتُمْ الْحَدِيثَ" انتهى.

قلت: فهذا الحديث مما اختلف فيه المسعودي، وعمرو بن مرة، وكأن الدارقطني رجح رواية المسعودي لأن الراوي عن وكيعٌ، وهو ممن سمع من قبل الاختلاط!

والصواب ترجيح رواية الثوري عن عمرو بن مرة، وهذا الحديث مما لم يضبطه المسعودي، فزاد فيه «عن أبي فاختة»! ولعل هذا هو الحديث الذي جاء شعبة يسأل عن بيت المسعودي ببغداد لما نزل فيها سنة (154هـ) ليسأله عنه، والله أعلم.

وقد يعترض مُعترض على أن أهل العلم قالوا بأن حديثه عن عون صحيح، وهذا منها؟ وربما رجّح الدارقطني روايته؛ لأنها عن عون؟

قال الدوري في «تاريخ ابن معين - روايته» (3/429) (2105): سَمِعت يحيى يَقُول: "المَسْعُودِيّ أَحَادِيثه عَن الْأَعْمَش مَقْلُوبَة، وَعَن عبدالملك بن عُمَيْر أَيْضاً، وَحَدِيثه عَن عون، وَعَن القَاسِم صِحَاح، وَأما عَن أَبي حُصَيْن وَعَاصِم فَلَيْسَ بِشَيْء، إِنَّمَا أَحَادِيثه الصِّحَاح عَن القَاسِم، وَعَن عون".

وروى العقيلي في «الضعفاء» (2/336) عن مُحَمَّد بن عُثْمَانَ بنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِينٍ، سُئِلَ عَنِ المَسْعُودِيِّ، فَقَالَ: "كَانَ ثِقَةً، وَكَانَ يَغْلَطُ فِيمَا يُحَدِّثُ عَنْ عَاصِمِ بنِ بَهْدَلَةَ، وَسَلَمَةَ - يَعْنِي: ابنَ كُهَيْلٍ -، وَكَانَ صَحِيحَ الرِّوَايَةِ فِيمَا يُحَدِّثُ عَنِ القَاسِمِ، وَمَعْنٍ".

وقال ابن الغلابي: قال يحيى: "المسعودي ثقة، ويغلط في حديث عاصم بن بهدلة، وسلمة بن كهيل، ويصح ما روى عن القاسم، ومعن".

وقال يعقوب بن شيبة: حدثني عبدالله بن شعيب قال: قُرئ على يحيى بن معين: "المسعودي ثقة، وقد كان يغلط فيما يروي عن عاصم وسلمة والأعمش والصغار، يخطئ في ذلك، ويصحح له ماروى عن القاسم ومعن وشيوخه الكبار".

وقال عبدالله بن علي بن عبدالله المديني: وسألته - يعني أباه عن المسعودي؟ فقال: "ثقة، وقد كان يغلط فيما روى عن عاصم بن بهدلة، ويصحح فيما روى عن القاسم ومعن" [تاريخ دمشق: (35/18)].

وقال البَرذعي في «سؤالاته لأبي زرعة» (2/420): قلت: أحاديث المسعودي عن شيوخه غير القاسم، وعون؟ قال: "أحاديثه عن غير القاسم، وعون، مضطربة يَهم كثيراً".

وقال السلمي في «سؤالاته للدارقطني» (277): وقال الدارقطني: "المسعوديُّ إذا حدَّث عن أبي إسحاقَ، وعَمرو بنِ مُرَّةَ، والأعمشِ، فإنَّه يَغلَطُ، وإذا حدَّث عن مَعْنٍ، والقاسمِ، وعَونٍ، فهو صحيحٌ؛ وهؤلاء هم أهلُ بيتِه".

قلت: تصحيح حديثه عن معن، والقاسم ابني عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، وعون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود صحيح في الجملة، لكن هذا لا يعني أنه لا يُخطئ في حديثه عنهم مُطلقاً! فكما أنه يَهم في حديثه عن غير هؤلاء، فإنه يَهم في حديثهم أيضاً، لكن ليس مثل روايته عن غيرهم، فهو أعلم بالحديث المختص بآل بيته، ولهذا قال مِسْعَرٌ: "مَا أَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ بِعِلْمِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مِنَ المَسْعُوْدِيِّ" [التاريخ الكبير: (5/314)، الجرح والتعديل: (5/250)].

وهذا واضح وجليّ في ترجمة «عبدالله بن مسعود» في «طبقات ابن سعد».

وكثير مما يرويه عَنِ القَاسِمِ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ من الأخبار، كأَوَّل مَنْ أَفْشَى القُرْآنَ بِمَكَّةَ مِنْ فِيَّ رَسُولِ الله: ابن مسعود، وأَوَّل مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: سَعْد بن مَالِكٍ، وأَوَّل مَنْ أَذَّنَ: بِلال، وأَوَّل مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ: عَمَّار بن يَاسِرٍ، وأَوَّل مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: مِهْجَع مَوْلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وغير ذلك.

·       اختلاف المسعودي مع غيره في حديث عمرو بن مرة!

والمسعودي لم يكن يتقن حديث عمرو بن مرة، وكان بعض الحفاظ يخالفونه في حديثه عنه!

ومن ذلك:

ما رواه أَبو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ في «مسنده» (1/460) (567) - ومن طريقه: الطبري في «تفسيره» (2/621)، وأبو داود في «سننه» (1/381) (507)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1/417) (478) -.

وأحمد في «مسنده» (36/436) (22124). والحاكم في «المستدرك» (2/301) (3085) من طريق الحَارِثِ بن أَبِي أُسَامَةَ. كلاهما (أحمد، والحارث) عن أَبي النَّضْرِ هَاشِمِ بنِ القَاسِمِ.

وأحمد في «مسنده» (36/436) (22124). وأبو داود في «سننه» (1/381) (507) عن نصر بن المُهاجر. وابن خزيمة في «صحيحه» (1/197) (381) عن زِيَاد بن أَيُّوبَ. وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/304) (1622) عن أَحْمَدَ بن سِنَانٍ. والشاشي في «مسنده» (3/259) (1363) من طريق أبي خيثمة. كلهم (أحمد، ونصر بن المهاجر، وزياد بن أيوب، وأحمد بن سنان، وأبو خيثمة) عن يَزِيد بن هَارُونَ.

والطبري في «تفسيره» (3/158)، و(3/161)، و(3/234) من طريق يُونُسَ بنِ بُكَيْرٍ.

والشاشي في «مسنده» (3/259) (1362)، (1363) من طريق عَلِيِّ بنِ المَدينيِّ.

والطبراني في «المعجم الكبير» (20/132) (270) من طريق آدَمَ بن أَبِي إِيَاسٍ.

وابن خزيمة في «صحيحه» (1/197) (381). والطبراني في «المعجم الكبير» (20/132) (270) عن مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى المَرْوَزِيّ. والطبراني في «المعجم الكبير» (20/132) (270)، والبيهقي في «السنن الكبير» (1/576) (1838)، و(1/618) (1976)، و(4/336) (7895) من طريق يَحْيَى بنِ مَنْصُورٍ القَاضِي، كلاهما (الطبراني، ويَحْيَى بن مَنْصُورٍ) عن أَبي بَكْرٍ عُمَرَ بن حَفْصٍ السَّدُوسِيّ. ثلاثتهم (ابن خزيمة، ومحمد بن يحيى المروزي، وعمر بن حفص السدوسي) عن عَاصِمِ بنِ عَلِيٍّ.

كلهم (أبو داود الطيالسي، ويزيد بن هارون، ويونس بن بُكير، وعلي بن المديني، وآدم بن أبي إياس، وعاصم بن علي، وأبو النضر) عن المَسْعُودِيّ، عَنْ عَمْرِو بنِ مَرَّةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، قَالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، فَأَمَّا أَحْوَالُ الصَّلَاةِ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ المَدِينَةَ فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكِ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] فَحَوَّلَهُ إِلَى البَيْتِ، فَكَانَ هَذَا حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِلصَّلَاةِ فَيُؤْذِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى نَقَسُوا أَوْ كَادُوا يَنْقُسُونَ، ثُم إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُاللَّهِ بنُ زَيْدٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ نَائِمًا لَصَدَقْتُ، بَيْنَا أَنَا بَيْنَ الرَّاقِدِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ رَأَيْتُ شَخْصًا عَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ قَامَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَمْهَلَ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي أَذَانِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّمْهَا بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِهَا»، فَعَلَّمَهَا بِلَالًا. فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ بِهَا بِلَالٌ، وَجَاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَطَافَ بِي مِثْلُ الَّذِي أَطَافَ بِعَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْلَةَ وَلَكِنْ سَبَقَنِي، وَكَانُوا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا سُبِقُوا سَأَلُوا كَمْ؟ فَيُشِيرُونَ بِأَصَابِعِهُمْ، وَاحِدَةٍ، ثِنْتَيْنِ، ثَلَاثٍ، فَيَقْضُونَ ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ وَقَدْ سُبِقَ بَعْضَ الصَّلَاةِ فَجَلَسَ وَقَالَ: لَا أَجِدُهُ عَلَى حَالٍ إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَضَيْتُ مَا سَبَقَنِي، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَامَ مُعَاذٌ فَقَضَى مَا سُبِقَ بِهِ بَعْدَمَا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَهَكَذَا فَافْعَلُوا»، وَأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَصَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى رَمَضَانَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَنَزَلَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إِلَى قَوْلِهِ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184]، فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ أَوْجَبَ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَثَبَّتَ الطَّعَامَ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ قَالَ: وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ صِرْمَةُ ظَلَّ يَعْمَلُ صَائِمًا حَتَّى أَمْسَى فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ: فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَهَدَ جَهْدًا شَدِيدًا قَالَ: «مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَهَدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ فَجِئْتُ حِينَ جِئْتُ، فَأَلْقَيْتُ نَفْسِي فَنِمْتُ، وَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صَائِمًا. قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ جَارِيَةٍ أَوْ مِنْ حُرَّةٍ بَعْدَ مَا نَامَ، وَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إِلَى قَوْلِهِ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَقَالَ يَزِيدُ فَصَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ إِلَى رَمَضَانَ.

قال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".

وقال البيهقي: "هَذَا مُرْسَلٌ، عَبْدُالرَّحْمَنِ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ".

وخالفه شُعْبَة بن الحَجَّاجِ، فرَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ زَيْدٍ، وَلَا عَنْ مُعَاذٍ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا مِنْهُمْ.

رواه الطبري في «تفسيره» (3/162) عن مُحَمَّدِ بنِ المُثَنَّى، عن أَبي دَاوُدَ الطيالسي.

والطبري في «تفسيره» (3/159)، و(3/162). وأبو داود في «سننه» (1/378) (506). كلاهما عن مُحَمَّدِ بنِ المُثَنَّى. وابن خزيمة في «صحيحه» (1/199) (383) عن مُحمّدِ بنِ بشّارٍ بُنْدَارٍ. كلاهما (ابن المثنى، وبُندار) عن مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ غُندرٍ.

وأبو داود في «سننه» (1/378) (506)  عن عَمْرِو بنِ مَرْزُوقٍ.

والبيهقي في «السنن الكبير» (4/336) (8529) من طريق عُبَيْدِاللَّهِ بنِ مُعَاذٍ، عن أَبِيه.

كلهم (الطيالسي، وغُندر، وعمروبن مرزوق، ومعاذ العنبري) عن شُعْبَة، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَالصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، فَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ أَعْجَبَنِي أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةً حَتَّى لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبُثَّ رِجَالًا فِي الدُّورِ فَيُؤْذِنُونَ النَّاسَ بِحِينِ الصَّلَاةِ» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.

وفي بعض الروايات: عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَمَرَهُمْ.

قَالَ مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى: "قَوْلُهُ: «قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا»: يُرِيدُ ابنَ أَبِي لَيْلَى، كَأَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى القَائِلُ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا".

وفي رواية مُحَمَّد بن جَعْفَرٍ: وَقَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنِي بِهَذَا حُصَيْنٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. قَالَ شُعْبَةُ: وَقَدْ سَمِعَتْهُ مِنْ حُصَيْنٍ، عَنِ ابنِ أَبِي لَيْلَى.

وقد رواه الْأَعْمَش، عن عَمْرو بن مُرَّةَ، عن عَبْدالرَّحْمَنِ بن أَبِي لَيْلَى، بمثل حديث شعبة.

وهناك اختلافات أخرى في الحديث ذكرها ابن خزيمة في «صحيحه» (1/197)، و«علل الدارقطني» (6/59) (976).

ولعل الوهم دخل على المسعودي بذكره «عن معاذ»؛ لأن ذكر معاذٍ جاء في الحديث، فظنّ أنه عنه لما حدّث به، والله أعلم.

·       من أخطاء المسعودي في حديثه القديم!

ومن أخطاء المسعودي في حديثه القديم:

قال ابن أبي خيثمة: حدثنا أبو نُعيمٍ، وعاصم بن علي، قالا: حدثنا المسعودي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة».

قال يحيى: "إنما هو: زيد العمي، ليس هو يزيد الرقاشي" [قبول الأخبار: (1/410)].

قلت: فهذا الحديث رواه عنه أبو نُعيم الفضل بن دُكين وهو ممن سمع منه قديماً في الكوفة، ورواه عنه أيضاً: عاصم بن علي وهو ممن قالوا أنه سمع منه في بغداد في حال اختلاطه!

وقد بيّن ابن معين أن المسعودي أخطأ فيه! فقال: "عن يزيد الرقاشي"، وإنما هو: "عن زيد العمي"!

وهذا يدلّ على أنه كان في حفظه شيء من قديم! وإن كان عنده كتب، فيكون الخطأ في كتبه، والله أعلم.

·       متابعة لعمرو بن مُرّة!

ورواه ابن جُميعٍ الصيداوي في «معجم شيوخه» (ص: 173) قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ - بِحَلَبَ -، قال: حَدَّثَنَا الفَضْلُ بنُ العَبَّاسِ البَغْدَادِيُّ، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ عَبْدِالحَمِيدِ، قال: حَدَّثَنَا سُعَيْرُ بنُ الخِمْسِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثٍ قَبْلَهُ، قَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَجُلٍ قَالَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ وَتَرْكَهَا».

قلت: تفرد به يحيى بن عبدالحميد وهو: الحِمّاني، وهو ضعيفٌ عند أكثر النقاد، وقد اتّهمه بعضهم كأحمد، ابن نُمير، فلا يُحتج بحديثه.

·       متابعة أخرى لعمرو بن مُرّة!

ورواه الدارقطني في «العلل» (5/163). وأبو نُعيم في «الحلية» (4/234) عن نَازُوك بن عَبْدِاللهِ. كلاهما (الدارقطني، ونازوك) عن ابنِ صَاعِدٍ.

وابن عدي في «الكامل» (3/533) (5121) عن عَلِيِّ بن العَبَّاسِ بنِ الوَلِيدِ البَجَلِيّ أَبي الحَسَنِ المَقَانِعِيِّ الكُوفِيّ.

كلاهما (ابن صاعد، وعلي المقانعي) عن مُحَمَّدِ بنِ عُمَارَةَ بنِ صُبَيْحٍ الأسدي الكوفيّ.

وابن عدي في «الكامل» (3/533) (5121) من طريق مُحمد بن عَمرو بن حماد الأزدي.

وابن حبان في «المجروحين» (1/238) (215) من طريق جَعْفَرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ العَلَوِيّ.

ثلاثتهم (ابن صبيح، ومحمد بن عمرو، وجعفر العلوي) عن حَسَنِ بن الحُسَيْنِ العُرَنِيّ، عَنْ جَرِيرِ بنِ عَبْدِالحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بنحوه.

ووقع في كتاب ابن عدي: "جرير بن حازم"! وهو خطأ!

قال ابنُ صَاعِدٍ: "غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، مَا سَمِعْنَاهُ إِلَّا مِنْهُ".

وقال أبو نُعيمٍ: "وَهُوَ غَرِيبٌ!".

وقال ابن عدي: "وَهَذَا الحَدِيثُ لا أَعْرِفُهُ إِلا مِنْ رِوَايَةِ الحَسَنِ بنِ الحسين العرني هذا".

وقال الدارقطني في «الغرائب والأفراد» [كما في «الأطراف» (4/105) (3722)]: "تَفَرَّدَ بهِ حسن العرني عن جرير عن الأعمش".

وقال ابن حبان: "الحسن بن الحُسَيْن شيخٌ من أهل الكُوفَة، يَرْوِي عَن جَرِير بن عَبْدالحميد والكوفيين المقلوبات".

ثم قال: "فَأَمَّا جَرِيرُ بنُ عَبْدِالحَمِيدِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِهِ، وَالرَّاوِي عَنْهُ هَذَا الحَدِيثَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا فِيهِ بِالوَضْعِ أَوِ القَلْبِ".

قلت: الحسني العُرني هذا مُنكر الحديث!

قال أبو حاتم: "لم يكن بصدوق عندهم، كان من رؤساء الشيعة" [الجرح والتعديل: (3/6)].

وقال ابن عدي: "روى أحاديث مناكير"، ثم أورد له بعض هذه المناكير، وهذا الحديث أولها، ثم قال: "وللحسن بن الحسين أحاديث كثيرة، ولا يُشبه حديثه حديث الثقات".

فالحديث موضوعٌ على جرير بن عبدالحميد، ويُحتمل أن العرني هذا قلبه على هذا الإسناد وهماً كما قال ابن حبان، والله أعلم.

·       إسنادٌ آخر عن ابنِ مَسْعُودٍ!

ورواه ابن أبي عاصم في «الزهد» (181) - وعنه: أبو الشيخ الأصبهاني في «أخلاق النبي» (4/187) (854) - عن الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ الحُلْوَانِيّ.

والطبراني في «المعجم الكبير» (10/162) (10327) عن أَبي الزِّنْبَاعِ رَوْحِ بنِ الفَرَجِ المِصْرِيّ.

والبيهقي في «شُعب الإيمان» (13/45) (9928) من طريق الحَسَنِ بنِ سُفْيَانَ.

ثلاثتهم (الحسن بن علي، وأبو الزنباع، والحسن بن سفيان) عن أَبي سَعِيدٍ يَحْيَى بنِ سُلَيْمَانَ الجُعْفِيّ، قال: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بنُ عُثْمَانَ الجُعْفِيُّ - مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ -، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي أَبُو مُسْلِمٍ عُبَيْدُاللَّهِ بنُ سَعِيدٍ صَاحِبُ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُرْفَةٍ كَأَنَّهَا بَيْتُ حَمَامٍ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى حَصِيرٍ وَقَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكَ يَا عَبْدَاللَّهِ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، فَقَالَ لِي: «لَا تَبْكِ يَا عَبْدَاللَّهِ، فَإِنَّ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ، وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا؟ وَمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».

ورواه ابنُ أَبِي الدُّنْيَا في «الزهد» (341)، وفي «ذم الدنيا» (362) عن صَالِحِ بن مَالِكٍ أبي عبدالله الخُوَارزميّ نزيل بغداد، عن عُبَيْدِاللهِ أبي مُسْلِمٍ العِجْلِيّ قَائِدِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُاللهِ بنُ مَسْعُودٍ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ، غَيْرَ أَنَّهُ، قَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَكَ الْآخِرَةَ، مَا أَنَا إِلَّا كَمَثَلِ رَجُلٍ مَرَّ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَمَّا أَبْرَدَ ارْتَحَلَ وَذَهَبَ».

كذا اختلف فيه على قائد الأعمش على وجهين:

رواه عَمْرُو بنُ عُثْمَانَ الجُعْفِيُّ الكوفي، عنه، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ ابنِ مَسْعُودٍ.

وخالفه صَالِح بن مَالِكٍ، فرواه عنه، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عن ابن مَسْعُودٍ!

والاختلاف من عُبَيْداللَّهِ بن سَعِيدٍ قَائِد الْأَعْمَشِ، وهو ضعيفٌ لا يُحتج به! وهذا حديث باطل بهذا الإسناد!

قال البخاري: "فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ" [ضعفاء العقيلي: (3/120)].

وقال أبو داود: "عنده أحاديث موضوعة" [سؤالات الآجري لأبي داود: (125)].

وأورد له العقيلي حديثاً منكراً، ثم قال: "وَلَا يُتَابَعُ عَلَى هَذَا، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ وَهْمٌ كَثِيرٌ" [الضعفاء: (3/121)].

وذكره ابن حبان في «الثقات» (7/147) (9402) وقال: "يُخطىء".

وقال ابن حبان في «المجروحين» (1/238): هَذَا الخَبَرِ مِنْ حَدِيثِ قَائِدِ الأَعْمَشِ، وَعُبَيْدُاللَّهِ بنُ سَعِيدٍ قَائِدُ الأَعْمَشِ كثير الخَطَأ فاشح الْوَهم، ينْفَرد عَن الْأَعْمَش وينفرد بِمَا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ".

·       حديث ابنِ عَبَّاسٍ:

ورواه أحمد في «مسنده» (4/473) (2744)، وفي «الزهد» (73) - ومن طريقه: الضياء المقدسي في «المختارة» (12/295) (326) - عن عَبْدالصَّمَدِ بن عبدِالوارث، وَأَبي سَعِيدٍ مولى بني هاشم، وَعَفَّان بن مُسلمٍ الصفّار.

وابن أبي الدنيا في «ذمّ الدنيا» (134)، وفي «قصر الأمل» (127)، وفي «الزهد» (79) - ومن طريقه: البيهقي في «شعب الإيمان» (3/48) (1378)، و(13/48) (9932) -. وابن حبان في «صحيحه» (14/265) (6352)، وفي «المجروحين» (3/87) (1150)، وأبو الشيخ الأصبهاني في «أمثال الحديث» (298) كلاهما (ابن حبان، وأبو الشيخ) عن عَبْدِاللَّهِ بن مُحَمَّدِ بنِ قَحْطَبَةَ. وأبو نُعيم في «الحلية» (3/342) من طريق مُوسَى بنِ هَارُونَ. وابن عساكر في «تاريخه» (71/311) من طريق أبي الحسن علي بن عبدالحميد الغضائري. أربعتهم (ابن أبي الدنيا، وابن قَحطبة، ومُوسَى بن هَارُونَ، والغضائري) عن عَبْداللَّهِ بن مُعَاوِيَةَ الجُمَحِيّ.

وعبد بن حميد في «مسنده» - طبعة: صبحي السامرائي - (599). وحماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد في «تركة النبي» (ص: 53). وابن أبي عاصم في «الزهد» (182) عن أَبي مَسْعُودٍ الرَّازي أَحْمَدَ بنِ الفُرَاتِ. والطبراني في «المعجم الكبير» (11/327) (11898) - ومن طريقه: الضياء المقدسي في «المختارة» (12/294) (325) - عن عَلِيّ بن عَبْدِالعَزِيزِ البَغوي. والخطيب في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (2/421) من طريق يَحْيَى بنِ مُطرِّفٍ. خمستهم (عبد بن حميد، وحماد بن إسحاق، وأبو مسعود، وعلي بن عبدالعزيز، ويحيى بن مُطرّف) عن مُحَمَّد بن الفَضْلِ عَارِمٍ أَبي النُّعْمَانِ السَّدُوسِيّ.

والحاكم في «المستدرك» (4/344) (7858) من طريق مُوسَى بن إِسْمَاعِيلَ التبوذكي.

كلهم (عَبْدالصَّمَدِ بن عبدِالوارث، وَأَبو سَعِيدٍ مولى بني هاشم، وَعَفَّان بن مُسلمٍ، وعبدالله الجُمحي، وعارمٌ، وموسى التبوذكي) عن ثَابِتِ بنِ يَزِيدَ الأَحول البصري، عن هِلَالِ بن خَبَّابٍ العَبدي البصري، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: «مَالِي وَلِلدُّنْيَا، وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَالِي، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».

قال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَشَاهِدُهُ حَدِيثُ عَبْدِاللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ".

وقال أبو نُعيم: "هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، رَوَاهُ ابنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ غَرِيبٌ! تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ هِلَالٌ".

وصححه ابن حبان، ثم استكره في «المجروحين».

وصححه الضياء المقدسي.

وذكره الألباني في «صحيحته» (1/800) (439)!

قلت: تفرد به هلال بن خباب عن عكرمة! ولم يُتابع عليه!

وهلال هذا وثقه جماعة من أهل العلم كعفّان بن مسلم، وابن مَعِيْن، وأحمد، وأبي حاتم الرازي، ومُحَمَّد بن عَبداللَّهِ بن عمّار الموصلي، والمفضل بن غسان الغلابي، وابن شاهين.

وذكره ابنُ حِبَّان فِي كتاب «الثقات» (7/574) (11535)، وَقَال: "يُخطئ ويُخَالف".

وكان قد اختلط آخر عمره.

قال أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي الْأَسْوَدِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، قَالَ: "أَتَيْتُ هِلَالَ بنَ خَبَّابٍ وَكانَ قَدْ تَغَيَّرَ قبلَ موته" [التاريخ الكبير: (8/210)، الجرح والتعديل: (9/75)، ضعفء العقيلي: (4/347)].

وقد ردّ ابن معين هذا!

قَال إِبْرَاهِيم بن عَبداللَّهِ بن الجُنيد في «سؤالاته لابن معين» (311): سَأَلْتُ يَحْيَى بن مَعِيْنٍ، عن هِلاَل بن خَبَّاب، وقُلْتُ: إن يَحْيَى القَطَّان يزعم أنه تَغَيَّر قبل أن يموت واخْتَلَطَ؟ فَقَالَ يَحْيَى: "لا، ما اخْتَلَطَ ولا تَغَيَّر".

قُلْتُ لِيَحْيَى: فثِقَةٌ هو؟ قَالَ: "ثِقَةٌ مَأْمُون".

قلت: نعم، هو ثقة ومأمون، لكن القطان يُخبر عمّا رآه، فقد دخل عليه وكان قد اختلط، فكيف يرد ابن معين هذا دون بيّنة!

قال العقيلي في «الضعفاء» (4/347): "فِي حَدِيثِهِ وَهْمٌ وَتَغَيَّرَ بِآخِرَةٍ".

وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (3/90): "ثِقَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ تَغَيَّرَ، عَمِلَ فِيهِ السِّنُّ".

وقال الساجي: في حديثه وهم، تغير بأخرة" [إكمال تهذيب الكمال: (12/174)].

وأعاده ابن حبان في «المجروحين» (3/87) (1150)، وقال: "كَانَ مِمَّن اخْتَلَط فِي آخر عُمره، فَكَانَ يُحدِّث بالشَّيْء على التَّوَهُّم، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد، وَأما فِيمَا وَافق الثِّقَات فَإِن احْتج بِهِ مُحْتَج أَرْجُو أَن لَا يجرح فِي فعله ذَلِك".

ثم ذكر له هذا الحديث، وحديثاً آخر عن عِكْرِمَة عَن ابن عَبَّاسٍ أيضاً مُستنكراً لها.

وأورده ابن عدي في «الكامل» (10/364)، وأورد له بعض الأحاديث، وحديثاً بإسناد حديثنا هذا، ثم قال: "وبهذا الإسناد روى ثابت بن يزيد، عن هلال، عن عِكرمَة، عن ابن عباس أحاديث غير هذا الحديث".

ثم قال: "ولهلال بن خباب غير ما ذكرت، وأرجو أنه لا بأس به".

قلت: هو صدوقٌ، وفي حديثه وهم، وقد اختلط، والقول قول القطان أنه اختلط وتغيّر قبل موته، فإذا لم نعرف من روى عنه قبل الاختلاط وبعده، فنتوقف في حديثه، فإذا توبع قبلناه، وإذا تفرد رددناه.

وهلال من أهل الكُوفَة قد انْتقل إِلَى البَصْرَة وسكنها كما قال ابن حبان، وسكن المدائن أيضاً، ومات بها.

وقد ذكره بحشل في «تاريخ واسط» في أهلها = فكأن أصله من واسط، ثم سكن الكوفة، ثم البصرة، ثم المدائن.

والرواة عنه منهم واسطيون كأبي عوانة الوضاح اليشكري، وعبّاد بن العوام، وهُشيم بن بشير، ومنهم كوفيون كأسماعيل بن زكريا، وسفيان الثوري، ومِسعر بن كِدام، ويونس بن أبي إسحاق، ومنهم بصريون كثابت بن يزيد، وسكين بن عبدالعزيز، وعَبْدالوَاحِدِ بن زياد، وأبي رَوح عَون بن مُوسى، ومنهم مدائنيون كأَبي الحَسَنِ عَلِيّ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ أَبِي سَيْفٍ الأَخْبَارِيّ، وفضيل بن منبوذ.

ومما يدل على أنه توفي في المدائن أن أبا الحسن المدائني وُلد سنة (132هـ)، وهلال توفي سنة (144هـ)، فكان عمر أبي الحسن (12) أو (13) سنة لما سمع منه في المدائن = يعني سمع منه في آخر عمره.

وكان مختلطاً لما نزل المدائن، واختلاطه كان في البصرة؛ لأن يحيى القطان دخل عليه هناك ورأى تغيره واختلاطه، وثَابِت بن يَزِيْدَ سمع منه في حال اختلاطه في البصرة، ولم يكن يزيد صغيراً لما سمع منه؛ لأنه توفي سنة (169هـ)، وهذا يدلّ على أنه كان مختلطاً لما سمع منه، والله أعلم.

·       خلاصة وفوائد:

1- خرّج الإمام البخاري في «صحيحه» الحديث المشهور: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» عليّ بن المديني، عن مُحَمَّد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيّ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ، مرفوعاً.

وقد ذكر ابن المديني تصريح الأعمش بسماعه من مجاهد!

وخالفه: محمد بن أبي بكر المقدّمي، وعمرو النّاقد، والحسن بن قزعة، فرووه عن مُحَمَّد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ الطَّفَاوِيّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، بالعنعنة.

وقد ردّ عمرو الناقد ذكر ابن المديني للتحديث في الرواية وأنكره عليه! وصرّح بأن هذا الحديث هو حديث لَيْثِ بنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وأخذه عنه الأعمش ثم دلّسه!

2- إيراد العقيلي لعليّ بن المديني في كتابه «الضعفاء» من أجل ما نُسب إليه من بدعة التجهم، ولم يورده لضعفه، بل صرح بأنه مستقيم الحديث، ولم يجد له خطأ فيه إلا ما ذكره هنا في هذا الحديث من التصريح بسماع الأعمش له من مجاهد!

3- كان ابن حبّان يرى أن هذا الحديث أخذه الأعمش من ليث بن أبي سُليم ثم دلّسه، ثم قال بصحته لورود صيغة التحديث في رواية علي بن المديني.

4- عرض ابن رجب لكلام بعض النقاد أن ما جاء في رواية ابن المديني: «حدثنا مجاهد» غيرُ ثابتة، وإنكارهم لها، ولم يُفصح عن رأيه في ذلك.

5- رأى ابن حجر أن ترجمة البخاري ببعض الخبر: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ» إِشَارَةً إِلَى ثُبُوتِ رَفْعِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَنَّ مَنْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا قَصَّرَ فِيهِ! وتبعه على ذلك العيني، وفي ذلك نظر؛ لأنه لا يُعرف أن أحداً رواه موقوفاً! فكلّ من رواه رفعه.

6- ما جاء في رواية ابن المديني: «حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ» بيّن ابن حجر في «الفتح» أن العقيلي أنكرها، والحقيقة أن العقيلي نقل ذلك عن عمرو الناقد، ثم نسب ابن حجر ذلك للناقد على الصواب في «النكت الظراف»، وصحح ابن حجر حديث الأعمش عن مجاهد، وقوّاه برواية عبدة عن ابن عمر، وإن كان اختلف في سماعه من ابن عمر!

7- ذهب بعض المعاصرين إلى أن ما جاء في إسناد ابن المديني: «حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ» ربما يكون من الطفاوي، وكان يضطرب فيه، فيرويه تارة بالعنعنة، وتارة بلفظ التحديث، فإنه لم يكن بالحافظ! وهذا لا دليل عليه! ومقتضى ذلك أن الطفاوي حدّث به أكثر من مرة! وهذا أيضاً يحتاج لدليل! وإنكار عمرو الناقد على ابن المديني ذلك - وهو قرينه - يدلّ على أنهما سمعا الحديث من الطفاوي معاً.

8- محمد بن عبدالرحمن الطفاوي صدوق يَهم أحياناً، وقد وجدت له خمسة أوهام نبّه عليها أئمة العلل، وخرّج له البخاري ثلاثة أحاديث قد توبع عليها، وهذا الحديث تابعه عليه: مالك بن سُعير، وهو صدوقٌ لا بأس به.

9- ذكر ابن عدي الطفاوي في «الكامل»، وساق له اثني عشر حديثاً غرائب، وأشار إلى إفراداته وغرائبه، ثم قال: "ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً"! وهذا عجيب منه! فكلام الأئمة المتقدمين فيه كثير، ولا أدري كيف فاته هذا! وقد بدأ ترجمته بذكر الأحاديث دون نقله أي قول لأهل العلم فيه كعادته؛ لأنه صرّح في آخر ترجمته بأنه لم أر للمتقدمين فيه كلاماً! فوهم - رحمه الله -.

10- الحديث معروف ومشهور في الكوفة من رواية: ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، عن ابن عمر.

رواه عن ليث جماعة كبيرة منهم: الثوري، وابن فُضيل، وأبو معاوية، وحماد بن زيد، وفُضيل بن عياض، وجرير، والحسن بن الحر، وزائدة، وزهير، وموسى بن أعين، وعمر الأبّار، وخلف بن خليفة، ونُصير بن أبي الأشعث، وخالد الوَاسِطِيّ.

وهناك زيادات في بعض الطرق على ما أخرجه البخاري وغيره فِي المُوَالَاةِ والمُعَادَاةِ.

وليث ضعيف، مُخلّط، مُضطرب الحديث، لا يُحتج به.

والراجح أن الأعمش سمع الحديث من ليث، ثم دلّسه، وهو مشهور بالتدليس عن الضعفاء، وما جاء في إسناد ابن المديني: «الأعمش حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ» وهمٌ منه - رحمه الله -.

وكلّ من روى الحديث عن ليث بن أبي سليم من أهل العراق، وغالبهم من الكوفة، وليث كوفيّ، ومجاهد مكيّ، ولا يوجد هذا الحديث عند أصحابه المكيين، أو حتى عند أهل مكة! بل لا يوجد عند أصحاب مجاهد العراقيين!

11- الحديث يرويه أيضاً أبو يحيى القتّات - وهو ضعيف، يروي عن مجاهد المنكرات-، ويرويه عنه: حماد بن شعيب، وهو ضعيف متروك، لكن لا يبعد أن يكون الأعمش سمع الحديث من أبي يحيى القتات، ومنه أخذه الأعمش وليث! ومعلومٌ أن الأعمش يُدلّس عن أبي يحيى القتات، وعن ليث بن أبي سليم.

12- أميل إلى أن الأعمش لم يسمع هذا الحديث من مجاهد، وإنما سمعه من ليث أو أبي يحيى القتات، ثم دلّسه! فالحديث لا يُعرف عن ثقة لا في مكة ولا في الكوفة إلا ما جاء من حديث الأعمش! ولو كان مجاهد بن جبر حدّث به عن ابن عمر لسمعه كبار أصحابه المكيين والكوفيين والبصريين، وشهرة الحديث عن ليث بن أبي سُليم في الكوفة يعني معرفته به، ولا يكون الأعمش إلا أخذه منه كما صرّح بذلك عمرو الناقد، وهو أقرب وأعلم من غيره بهذا؛ لأنه حدّث به عن الطفاوي عن الأعمش، وأنكر على ابن المديني ذكره لصيغة التحديث بين الأعمش ومجاهد، وأنه وهم في ذلك!

وتخريج البخاري له في «الصحيح» اعتماداً على رواية شيخه ابن المديني التي فيها تصريح الأعمش بسماعه من مجاهد! وثبوت هذا التصريح فيه نظر! والراجح عدمه.

13- تكلّم بعض أهل العلم في سماع الأعمش من مجاهد، ولا يُعرف أن أحداً من أهل العلم نفى سماعه منه، وإنما اختلفوا في حجم سماعه منه.

14- ثبت أن مجاهداً نزل الكوفة وحدّث بها في آخر عمره، فلا يُقبل إلا ما حدّث به الثقات عنه هناك، ولم يكونوا من أهل التدليس إلا إذا صرّحوا بالسماع منه، وأن لا يشتهر الحديث عن مجاهد عن الضعفاء!

15- لا شك أن الأعمش سمع من مجاهد، لكن لم يسمع منه كثيراً، بل أحاديث معدودة؛ لأن الأعمش لما سكن مجاهد الكوفة كان قد تشبّع بحديث أهل بلده، فمجاهد يُعدّ من صغار شيوخه، وكلّ شَيْء يَرْوِيه عنه ولا يذكر فيه السماع، فهو مُرْسَل مُدَلَّس.

وقد صرّح الأعمش نفسه أنه كان يروي عن ليث عن مجاهد، وكان يروي عن مجاهد مباشرة بإسقاطه ليث بن أبي سُليم لضعفه.

16- اختلف الأئمة في عدد الأحاديث التي سمعها الأعمش من مجاهد:

فقال هُشيم ووكيع: سمع منه أربعة أحاديث فقط.

وقال ابن معين: سمع منه أربعة أحاديث أو خمسة.

وقال يعقوب بن شيبة: سمع منه خمسة أحاديث.

وقال ابن معين: سمع منه أربعة أحاديث أو خمسة.

وقال ابن المديني، ويحيى القطان، وابن مهدي: سمع منه ستة أو سبعة أحاديث.

وقال وكيع: سمع منه سبعة أو ثمانية أحاديث.

وقال علي بن المديني: سمع منه نحو من عشرة أحاديث.

وهذه كلها ما بين (4 - 10) أحاديث فقط.

وخالفهم الشَّاذَكُوْنِيُّ، والإمام البخاري، وقالا بأنه سمع نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ حديثاً.

17- ضعّف البخاري قول من قال بأن الأعمش لم يرو عن مجاهد إلا أربعة أحاديث أو نحوها! وهو بذلك يخالف جميع الأئمة النقاد! والعدد الذي صرّح به البخاري مما سمعه الأعمش من مجاهد لا يوجد في الكتب المتوفرة بين أيدينا! فيحتمل أن النقاد أرادوا المرفوع من الحديث، وأدخل البخاري في ذلك الموقوفات، والأعمش يروي عن مجاهد أيضاً عشرات الموقوفات والآثار وقلّما يذكر السماع فيها! وربما أن البخاري لم يدخل الموقوفات في ذلك، وإنما اقتصر على المرفوعات، وهذا أولى؛ لأن ذكر العدد الأقل كأربعة أحاديث أو خمسة وحتى عشرة لا شك أنهم يعنون به المرفوع، وهو يقصد المرفوع لا المرفوع والموقوف، والسؤال للأئمة عادة يكون عن المرفوع لا الموقوف إذ العناية الأولى به.

ويُحتمل أن الإمام البخاري عدّ هذه الأحاديث التي فيها التصريح بالسماع، ثم بعد ذلك تبيّن له أن هذه التصريحات ربما هي أخطاء من الرواة، ولا تصح في الروايات، ولهذا لم يُخرّج في «صحيحه» إلا خمسة أحاديث لأعمش عن مجاهد، وهذا يؤيد قول من عدّها كذلك، فلو أنه بقي على رأيه في ذلك لخرّج كثيراً منها في «صحيحه»، وما ينقله الترمذي عن البخاري كان مما سمعه منه قديماً، وقد تغيّر رأيه في كثير مما قاله للترمذي بحسب استقرائي لذلك.

18- سمع الأعمش من مجاهد أحاديث قليلة جداً ما بين أربعة وعشرة أحاديث، وقول وكيع أنها سبعة أو ثمانية هو الأقرب للصواب؛ لأنه صرّح بأنهم تتبعوا ما سمع الأعمش من مجاهد، فإذا هي سبعة أو ثمانية - ثم حدّثهم الأعمش بها، وما يرويه الأعمش عن مجاهد سواءاً مرفوعاً كان أم موقوفاً لا بدّ من بيان السماع فيه، وإلا رُدّ بتدليسه.

19- خرّج البخاري في «صحيحه» ستة أحاديث مما سمعه الأعمش من مجاهد: أربعة منها مسندة مرفوعة، وواحداً متابعة، وآخر موقوفاً.

وخرّج مسلم له حديثين فقط: واحد في الأصول اتفق فيه مع البخاري، وآخر في المتابعات.

وهذا العدد يوافق العدد الذي ذكره أئمة النقد في مُجمل أقوالهم، ويؤكد أن البخاري - رحمه الله - لما ردّ قولهم كان ذلك قبل أن يتبيّن له صحة قولهم، والله أعلم.

20- خرج البخاري في «صحيحه» حديث الأَعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».

وقد صرّح الأعمش بسماعه له من مجاهد في رواية وكيع.

وخرّجه مسلمٌ أيضاً في «صحيحه»، وكذا الترمذي في «جامعه»، واقتصرا على رواية وكيع فقط التي فيها ذكر السماع.

وقد أخرج البخاري أيضًا في «صحيحه» هذا الحديث من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس، وليس فيه "عن طاوس"، وهو يرى صحة الطريقين ولهذا أخرجهما في «صحيحه»، فيُحتمل أنه سمعه مرة بواسطة، ومرة بدون واسطة، ويُحتمل أن مجاهداً نفسه كان يرويه على الوجهين، يرويه مرة عن طاوس عن ابن عباس، وأحياناً يرويه مباشرة عن ابن عباس، فضبطه الأعمش كما رواه، وكذا ضبطه منصور كما رواه، وعليه فلا وجه للترجيح هنا بين الأعمش ومنصور؛ لأنه عند الترجيح بينهما عند الاختلاف فيُقدّم منصور على الأعمش.

وقد وهم من ذهب للترجيح بينهما كالترمذي الذي نقل عن البخاري ترجيحه لرواية الأعمش، وغفل عن تصرف البخاري في تخريجه لكلا الحديثين! وهذا من البخاري تغير في الاجتهاد حيث كان يرى ترجيح رواية الأعمش، ثم تبيّن له صحة الوجهين.

21- خرّج البخاري في «صحيحه» حديث الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ»، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ التَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ النَّخْلَةُ».

وقد صرّح الأعمش بسماعه له من مجاهد.

22- خرّج البخاري في «صحيحه» (2/104) (1393) حديث الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا».

وهذا الحديث رُوي عن الأعمش عن مجاهد بالعنعنة، لكن قد سمعه منه؛ لأنه من رواية شعبة عن الأعمش، وشعبة لا يروي عن الأعمش إلا ما صرّح فيه بالسماع، وقد قال: "كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة".

23- ذكر البخاري في «صحيحه» حديث الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم، متابعة لحديث: حَنْظَلَةَ بن أبي سفيان، عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى المَسْجِدِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ».

ولم يسق البخاري لفظه.

والحديث رواه جماعة عن شُعْبَة، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ المَسَاجِدَ بِاللَّيْلِ» فَقَالَ ابْنُهُ: بَلَى، وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا، فَرَفَعَ يَدَهُ فَلَطَمَهُ، فَقَالَ: "أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ هَذَا"!.

فهو مما سمعه الأعمش من مجاهد لرواية شعبة له. وجاء في رواية عَبْدالرَّحْمَن بن مَغراء: "حدثنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا".

24- خرّج البخاري في «صحيحه» حديث سُفْيَان الثوريّ، عَنِ الأَعْمَشِ، والحَسَنِ بنِ عَمْرٍو، وَفِطْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَمرو: - قَالَ سُفْيَانُ: لَمْ يَرْفَعْهُ الأَعْمَشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَفَعَهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».

وهذا الحديث رفعه الحسن بن عمرو الفُقيمي، وفطر بن خليفة، عن مجاهد، ووقفه الأعمش عن مجاهد.

ومال أبو حاتم الرازي إلى تدليس الأعمش له؛ لأنه لم يرفعه! ولم يذكر الأعمش فيه سماعه له من مجاهد!

لكن البخاريّ خرّجه؛ لأن الحسن وفطر قد تابعا الأعمش عليه، وقد رفعا الحديث عن مجاهد، فنظر إلى روايتهما وخرّج الحديث، وتابعهما أيضاً على رفعه: بَشِيرُ بنُ سلمَانَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الكوفي.

وربما كان مجاهد يُحدّث به مرفوعاً، وموقوفاً، فضبطه الأعمش عنه موقوفاً، وغيره ضبطه مرفوعاً، فأدّى كل واحد كما سمع.

25- خرّج مسلمٌ في «صحيحه» حديث شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: «انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلْقَتَيْنِ، فَسَتَرَ الجَبَلُ فِلْقَةً، وَكَانَتْ فِلْقَةٌ فَوْقَ الجَبَلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمَّ اشْهَدْ».

أخرجه مسلم في المتابعات، وهو مما سمعه الأعمش من مجاهد.

26- اختلف أهل العلم في سماع مجاهد من عائشة - رضي الله عنها -:

فأنكره: شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، والبَرديجي، وابن خِراش.

وأثبته: عليّ بن المديني، والبخاري، ومسلم، والكَلاباذي، وابن حِبّان، والرشيد العطّار، والضياء المقدسي، والعلائي، والذهبي، والزيلعي، ومُغلطاي، وابن حجر.

27- حجة من أثبت سماع مجاهد من عائشة: ما قاله مُجَاهِدٍ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ المَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي المَسْجِدِ صَلاَةَ الضُّحَى، قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلاَتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَمُ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ.

قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ فِي الحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ يَا أُمَّاهُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ أَلاَ تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ؟ قَالَتْ: مَا يَقُولُ؟: قَالَ: يَقُولُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ»، قَالَتْ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً، إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ».

فهذا مجاهد يُخبر أنه سمع هذا الحوار الذي دار بينها وبين عروة وابن عمر، لكن سماعه لما دار بين عائشة وعروة لا يعني أنه سمع الحديث منها! فالظاهر أن من نفى سماعه منها لا يثبتون أنه سمع شيئاً آخر منها فيما ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُستبعد أن لا يعرف شعبة، ولا القطان، ولا ابن معين، ولا أحمد، وغيرهم هذه القصة! فلا شك أنهم يعرفونها، لكن كلامهم عن سماعه منها الحديث كما سمع منها أهل الحديث ممن كان يسألها ويسمع منها.

فمجاهد قد أدركها، وسمع هذه القصة التي حصلت بينها وبين عروة وابن عمر، لكن لا يوجد ما يثبت أنه سمع منها شيئاً مباشرة!

وعلى قلّة ما رُوي عنه عنها إلا أنه لم يأت التصريح بسماعه منها إلا في حديث مُوسَى الجُهَنِيِّ قَالَ: جَاءُوا بِعُسٍّ فِي رَمَضَانَ، فَحَزَرْتُهُ ثَمَانِيَةَ أَوْ تِسْعَةَ أَوْ عَشْرَةَ أَرْطَالٍ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا».

وموسى صدوق، وثقه غير واحد، وقد تفرد به عن مجاهد! وهو غريب جداً! ولهذا استنكره شعبة وغيره، وتفرده عن مجاهد فيه نظر، ولم يثبت عند شعبة سماع مجاهد من عائشة فاستنكره!

والراجح أن مجاهداً لم يسمع من عائشة.

والحديث الذي رواه عتّاب الجزري، عن خُصَيْفٍ الجزري، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: جَاءَتْ عَائِشَةُ فَدَخَلَتِ الْبَيْتَ فِي سِتَارِهِ وَمَعَهَا نِسْوَةٌ فَأَغْلَقَتِ الحَجَبَةُ الْبَيْتَ دُونَ النِّسَاءِ فَجَعَلْنَ يُنَادِينَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَسَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: «عَلَيْكُنَّ بِالْحِجْرِ فَإِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ»، ضعيفٌ جداً.

فعتاب، وخصيف ضعيفان، وكان خصيف يروي عن مجاهد المناكير كما قال الإمام أحمد.

وما نقله الميموني عن أحمد من أنه قال في هذا الحديث: "هذا يثبت سماعه منها" قاله في مساق الذكر لا التقرير، ولو صح أن أحمد يثبت سماعه من عائشة حقيقة، فهذا الحديث ليس فيه دلالة على سماعه منها، وإنما سمعها تقول لتلك النسوة = يعني هو لم يجلس ويسمع منها أحاديث، وهو مثل سماعه للحوار الذي جرى بينها وبين ابن عمر.

28- خرّج البزار في مسنده (12) حديثاً عن مجاهد عن عائشة، منها واحد عند البخاري في سب الأموات، والبقية لا تصح عن مجاهد، وهي من رواية الضعفاء، وقد بيّن البزار ضعف غالبها.

29- أخرج البخاري في «صحيحيه» حديثين لمجاهد عن عائشة، وأخرج مسلم حديثاً واحداً فقط، وكلها بالعنعنة، ولم يثبت فيها سماع مجاهد لها من عائشة.

30- خرّج البخاري في «صحيحه» حديث شُعْبَة، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا».

وهذا لا علّة له إلا عدم سماع مجاهد من عائشة.

ورواه أبو زبيد عَبْثَر بن القاسم، ومُحَمَّد بن فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةَ: مَا فَعَلَ يَزِيدُ بنُ قَيْسٍ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ؟ قَالُوا: قَدْ مَات، قَالَتْ: فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فَقَالُوا لَهَا: مَا لَكَ لَعَنْتِيهِ ثُمَّ قُلْتِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؟ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا».

وهذه قصة منكرة! ويَزِيدُ بنُ قَيْسٍ الْأَرْحَبِيُّ وَلَّاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَصْبَهَانَ وَالرَّيَّ وهَمَذَانَ.

ورُويت القصة من طرق أخرى عَنْ مَسْرُوقٍ عن عائشة، وكلّ طرقها واهية.

31- خرّج البخاري في «صحيحه» حديث أبي نُعيم الفضل بن دُكين، عن إِبْرَاهِيم بن نَافِعٍ المكيّ، عَنِ ابنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا».

وخالفه محمَّد بن كثير العبدي، فرواه عن إبراهيم بن نافع، عَنِ الحَسَنِ بنِ مُسْلِمِ بنِ يَنَّاقٍ، عن مُجاهِدٍ، عن عائشة.

وحمل ابن حجر ذلك عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بنَ نَافِعٍ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخَيْنِ! وفيه نظر! إذ كيف ينفرد عن شيخين بنفس الحديث عن مجاهد عن عائشة!

والراجح أنّ إبراهيم بن نافع كان يضطرب في إسناده! وقد خولف فيه! رواه سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وهو الصواب؛ لأن ابن عُيينة أوثق وأتقن من إبراهيم، ورواه على وجهٍ واحد.

32- خرّج مسلمٌ في «صحيحه» (2/880) (1211) حديث إِبْرَاهِيم بن نَافِعٍ، عن عَبْداللهِ بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ فقالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ، عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ».

وقد تفرد به إبراهيم بن نافع بهذا الإسناد! وخالفه ابن عيينة، وهو أتقن منه، فرواه عن ابن أبي نُجيْحٍ، عن عَطَاءٍ، عن عائشة، وهو الصواب.

33- كان إبراهيم بن نافع المكي يضطرب فيما يرويه عن ابن أبي نجيح! فيروي أحاديثه عن عطاء عن عائشة فيجعلها عن مجاهد عن عائشة!

34- روى الْأَوْزَاعِيّ، عن عَبْدَة بن أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي، فقالَ: «اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَكُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».

وهذه الرواية جعلها بعض أهل العلم متابعة لرواية الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر، وقد أعلّها أبو حاتم بعدم سماع عبدة من ابن عمر، وهو إنما رآه رؤية فقط.

35- الأوزاعي لا يروي عن مجاهد، ولم يسمع منه، ولما مات مجاهد كان الأوزاعي صغيراً، فالأوزاعي ولد سنة (88هـ)، ومات مجاهد ما بين سنة (101 - 104هـ)، وقدم مجاهد الشام على سليمان بن عبدالملك، وكان قد بُوْيِعَ بَعْدَ أَخِيْهِ الوَلِيْدِ سَنَةَ (96هـ)، ومات سَنَةَ (99هـ)، وَصَلَّى عَلَيْهِ: عُمَرُ بنُ عَبْدِالعَزِيْزِ، وقدم مجاهد الشام مرة أخرى على عمر بن عبدالعزيز وشهد وفاته سنة (99هـ)، وسنّ الأوزاعي حينها لم يكن سنّ سماع كما هي العادة عند الشاميين، وكانوا يتأخرون في طلب الحديث، ولا يُعرف أن الأوزاعي روى عن مجاهد.

36- اختلف أهل العلم في سماع عبدة بن أبي لُبابة من ابن عمر، فأثبته البخاري، ومسلم، وأبو أحمد الحاكم، وأبو نُعيم الأصبهاني، وغيرهم، ونفاه أبو حاتم الرازي، وابن عبدالهادي، وابن مَنده، والعلائي، وهو مقتضى كلام الإمام أحمد.

37- قال أحمد بن حنبل: إن عبدة بن أبي لبابة لقي ابن عمر بالشام! وهذا خطأ! والصواب أنه لقيه في الحجاز: في مكة أو المدينة، والأقرب في المدينة.

38- الأحاديث التي رُويت عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر غير هذا الحديث ثلاثة أحاديث، وهي واهية منكرة!

39- لا يصح أن عبدة بن أبي لبابة سمع من ابن عمر، وإنما رآه رؤية في المسجد وصلى معه، ولم يسمع منه شيئاً، وهو إنما يروي عنه بواسطة، فحديثه عنه مرسل.

وقد أثبت البخاري سماعه منه، فيلزمه إخراج حديثه هذا في «صحيحه»، لكنه لم يخرّجه، وأخرج له عن مجاهد حديثاً بواسطة.

40- ورد سماع عبدة من ابن عمر في أثر واحد رواه ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: «فِي {ص} سَجْدَةٌ»، ورواه مرة عَنْ عَبْدَةَ وَصَدَقَةَ، سَمِعَا ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: «فِي {ص} سَجْدَةٌ».

وهذا غريب عن ابن عمر! ولا يُعرف عنه عند أصحابه!

وابن عيينة سمع من عبدة، ومن صدقة بن يسار، وقد جالس عبدة سنة (123هـ)، وقال: "رأيت عبدة بن أبي لبابة أبيض الرأس واللحية"، وسمع منه بعض الآثار، ولهذا قال الذهبي في: "آخر أصحابه ابن عيينة".

وعبدة مات ما بين سنة (123 - 130)، ومال الذهبي أنه توفي في حدود سنة (127هـ)، والميل إلى أنه مات في السنة التي لقيه فيها ابن عيينة (123هـ)؛ لأنه آخر أصحابه، فعندما سمع ابن عيينة من عبدة كان صغيراً، فيحتمل أنه لم يضبط الأثر الذي رواه عنه! ومما يزيده غرابة أنه جمع معه صدقة في رواية الأثر! وهذه مظنة الوهم، والله أعلم.

ولو ثبت هذا السماع في هذا الأثر، فلا يثبت أنه سمع حديث «كن في الدنيا غريب» من ابن عمر؛ لأنه كان يرسل عن الصحابة عموماً، ومن المستبعد أن يسمع منه حديثاً واحداً فقط، ولا يعرفه أصحاب ابن عمر!

41- مَن قيل إنه لقي صحابياً ورآه رؤية، ثم تفرد عنه بحديث أو اثنين دون أصحابه الملازمين له، فاعلم أنه لم يسمع منه شيئاً، وما يرويه عنه مرسل.

42- يُحتمل أن عبدة ربما سمع الحديث من ابن أخته الحسن بن الحر، وعبدة هو خال الحسن بن الحر، وكانا شَرِيكين، والحديث رواه الحسن بن الحر عَنْ لَيْثِ بنِ أبي سُليم الكوفيّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، فربما سمع عبدة الحديث منه، فلما حدّث به ساقه مباشرة عن ابن عمر، وربما يكون سمعه في الكوفة من ليث، فلما حدّث به لم يسق من حدّثه به، وذلك أنه كان عابداً زاهداً، وقد روى عنه الأوزاعي مواعظ كثيرة من أقواله كما في ترجمته من «الحلية»، وهذا الحديث من المواعظ التي كان يعنى بها عبدة.

43- كان عبدة يرسل الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، ولم يسمع منهم، وهُوَ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ عَنِ الصَّحَابَةِ، يُرْسِلُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٍ، وَأَبِي مُوسَى وَسُرَاقَةَ، وَفَيْرُوزَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، كُلِّ هَؤُلَاءِ رِوَايَتُهُ عَنْهُمْ عَلَى الْإِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ لِقًي أَوْ سَمَاعٍ، وقد سمع من التَّابِعِينَ مِثْلُ أَبِي وَائِلٍ، وَمَسُروقٍ، وَزِرِّ بنِ حُبَيْشٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ، وَسَعِيدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، ووَارِدٍ، وَالحَكَمِ، وَنَافِعٍ، وَغَيْرِهِمْ".

44- أرسل عبدة عن عمر، وروى حديثه عنه مسلمٌ في «صحيحه» من طريق الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ».

قال: وعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلَفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا».

ولا يُنكر على مسلم تخريج هذا الحديث المنقطع؛ لأنه لم يسقه للاحتجاج به، وإنما ساقه للاحتجاج بما رواه الأوزاعي، عن قتادة، عن أنس في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وساقه بعد حديث شُعْبَة، عن قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.

45- ذكر ابن حبان في «الثقات»، وفي «مشاهير علماء الأمصار»: أن عبدة جالس ابن عُيَيْنَة ثَلَاثًا وَعشْرين سنة! وهذا وهم شنيع!

والصواب أن ابن عيينة، قال: "جالست عبدة سنة ثلاث وعشرين ومائة".

46- جاء في مخطوطة «سؤالات الآجري» من رواية المسند الحافظ أبي طاهر السِّلَفي: [سمعت أبا دَاوُد يَقُول: "عَبْدَة بن أَبِي لبابة لَمْ يسمع منه مِسْعَر"]! وهذا تصحيف عجيب! والصواب: "... لم يسمع مِنْ ابن عُمر".

وهذا الذي يقتضيه النص، إذ الخلاف في سماع عبدة من ابن عمر، ولا علاقة لمسعر بالموضوع. والرسم قريب: "منه مسعر"، "من ابن عمر"!

47- حديث «كُنَّ فِي الدُّنْيَا غَرِيبًا أَوْ عَابِرَ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» مرسل لعدّة قرائن:

الأولى: رأى عبدة ابن عمر في المسجد، ولم يثبت أنه سمع منه أو أن ابن عمر حدّث بهذا الحديث في أيّ مكان، ولم يروه أصحابه الملازمين له.

الثانية: أن عبدة يروي عن ابن عمر بواسطة.

الثالثة: لم يثبت أن عبدة سمع من أيّ صحابي، وروايته عن التابعين، وكان كثير الإرسال.

الرابعة: عناية عبدة بأحاديث الزهد؛ لأنه كان زاهداً عابداً.

الخامسة: شهرة الحديث عن ليث بن أبي سُليم الضعيف!

السادسة: رواية الحسن بن الحر للحديث عن ليث بن أبي سليم، والحسن كان شريكاً لعبدة وهو خاله.

والملاحظ أن الحديث كوفيّ من كلا الطريقين: الأعمش، وعبدة، ولا أشك أن أصلهما واحد.

48- للحديث شاهد من حديث ابن مسعود، وابن عباس، وكلاهما ضعيف.

49- حديث ابن مسعود رواه جماعة عن عبدالرحمن بن عبدالله المَسْعُودِيّ، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعيّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَنَا اتَّخَذْنَا لَكَ فِرَاشًا يَقِيكَ مِنَ الحَصِيرِ؟، فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرْكَهَا».

وقد صححه الترمذي، واستغربه كثيرٌ من الأئمة كالبزار، والطبراني، وأبي نُعيم الأصبهاني، وعبدالغني بن سعيد الحافظ، واستنكره ابن حبان!

والمسعودي وثّقه بعض أهل العلم، وهو من أهل الصدق، لكنه كان سيء الحفظ، وقد اختلط في آخر عمره.

50- اتفق أهل العلم على أن المسعودي مات سنة (160هـ) إلا يعقوب بن شيبة، فإنه قال توفي سنة (165هـ)، والراجح ما قاله يعقوب.

51- ضعّف أهل العلم من سمع من المسعودي في بغداد قبل موته بسنة أو سنتين؛ لأنه كان قد اختلط حينها! وهذا لا يصح؛ لأن هؤلاء سمعوا منه قبل سنة (158هـ)، ولم يكن حينها قد اختلط، فاختلاطه كان بعد سنة (163هـ).

52- المسعوديُّ كان إذا حدَّث عن أبي إسحاقَ، وعَمرو بنِ مُرَّةَ، والأعمشِ، فإنَّه يَغلَطُ، وإذا حدَّث عن مَعْنٍ، والقاسمِ، وعَونٍ، فهو صحيحٌ؛ وهؤلاء هم أهلُ بيتِه، وهو أعلم بحديثهم، وليس معنى ذلك أنه لا يَهم في حديثهم مطلقاً!

53- حديث ابن عباس رواه جماعة عن ثَابِتِ بنِ يَزِيدَ الأَحول البصري، عن هِلَالِ بن خَبَّابٍ العَبدي البصري، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: «مَالِي وَلِلدُّنْيَا، وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَالِي، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».

وقد صححه الحاكم، وابن حبان، والضياء المقدسي، ثم استنكره ابن حبان في «الضعفاء»!

والحديث تفرد به هلال بن خباب عن عكرمة، وهو صدوق إلا أنه يَهم، وكان قد اختلط، وثابت سمع منه في حال اختلاطه، فلا يُحتج بحديثه.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وكان الانتهاء من مراجعته في اليوم التاسع والعشرين من شهر الله الحرام لسنة 1442 من الهجرة النبوية.

وكتب: د. أبو صهيب خالد الحايك.

شاركنا تعليقك