الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

حبُّ الوطن.. مفهومٌ مغلوط..!!

حبُّ الوطن.. مفهومٌ مغلوط..!!

الوطن: المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحل سكناه.

وقد فطر الله عزّ وجلّ الخليقة على حبّ الوطن والسكن.

وقد أفصح ابن الرومي عن السبب في حبّ الأوطان:

ولي وطنٌ آليت أن لا أبيعه ... ولا أن أرى غيري له الدهر مالكا

عهدت به شرخ الشباب ونعمةً ... كنعمة قومٍ أصبحوا في ظلالكا

فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسدٌ إن بان غودر هالكا

وَحَبَّبَ أوْطانَ الرِجالِ إلَيْهِمُ ... مآرِبُ قَضّاها الشَبابث هُنالِكا

إذا ذَكَروا أَوْطانَهُمْ ذَكَّرْتُهمُ ... عُهودَ الصِبا فيها فَحَنّوا لِذالكا

فالإنسان لا ينسى المكان الذي ترعرع فيه، وقضى فيه شبابه مع أصحابه وأحبابه، فهو أبداً يحن إليه إذا ما سافر عنه.

فها هو سيّد الخلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وَقَفَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ – في سوق مكة – َقَالَ: ((عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)).

ولَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، قَالَتْ عائشة: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ:

وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنَّةٍ

وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ)).

فكان بلال وغيره من الصحابة رضي الله عنهم يحنون إلى مكة لما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه، ثم حبب الله إليهم المدينة فصاروا يحنون إليها إذا خرجوا منها للجهاد أو الحج والعمرة، وغير ذلك.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته، وإن كانت دابة حركها.

قال الحافظ ابن حجر: "فيه دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".

وعن إبراهيم بن أدهم - رحمه الله - قال: ما عالجت شيئاً أشدّ من منازعة النفس للوطن.

وقال عبدالملك بن قريب الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحببه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه.

وقيل لأعرابي: كيف تصبرون على جفاء البادية وضيق العيش؟ قال: لولا أن الله تعالى أقنع بعض العباد بشر البلاد ما وسع خير البلاد جميع العباد.

وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن.

وقالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة وإلى مسقط رأسها تواقة.

وسمع أبو دلف رجلاً ينشد:

ألقى بكل بلادٍ إن حللت بها ... ناساً بناسٍ وإخواناً بإخوان

فقال: هذا ألأم بيت قالته العرب لقلة حنينه إلى ألافه.

وقال حفص الطائي: رأيت جارية تقود عنزاً، فقلت: يا جارية أي البلاد أحب إليك؟ فقالت:

أحب بلاد الله ما بين منعجٍ ... إلي وسلمى أن تصوب سحابها

بلادٌ بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها

وقال محمد بن عبدالله بن ظاهر:

يا جبَلَ السماق سُقياً لكا ... ما فعل الظّبي الذي حلكا

فارقتَ أوطانك لأنه ... فارقك الخِل ولا ملكا

فأي أوطانِك أبكي دما ... ماءك أو طينك أو ظلكا

أو نفحات منك تأتي إذا ... دمعُ الندى تحتَ الدجى بلّكا

قال الزبير بن بكَّار: كانت ظبية تحت محمد بن أبي بكر بن مِسور، وكانت ذات مال ولا مال له، فخرج يطلب الرّزق فلما كان في موضع يُقال له: بلكثة، انصرف راجعاً فدخل إليها فقالت: الخير رجعت فقال شعراً:

بينما نحنُ بالبلاكثِ فالقاع سراعاً والعيسُ تهوي هَوّيا

خطرتْ خطرة على القلبِ من ذكراكِ وهناً فما استَطَعْتُ مُضِيا

ولو أن ما أهدَين لي كان شربةَ ... ببطن اللوى من وطب راع شفانيا

وأنشد أبو بكر بن دريد قال: أنشدني عمران الكلابي لرجل من قومه قال شعراً:

يحن إلى الرمل اليماني صبابةً ... وهذا لعمري لو رضيتُ كثيبُ

فأين الأراك الدّوح والسدر والغَضا ... ومستنجز عما يحب قريبُ

هناك تغنينا الحمامَ ويجتني ... جنا اللهو يحلو لي لنا ويطيبُ

وقال أعرابي:

أيا أثلاثِ القاع من بين توضحٍ ... حنيني إلى أظلالِكُن طويلُ

ويا أثلاثِ القاع قد مل صاحبي ... ثوائي فهل في ظلَكن مقيلُ

ويا أثلاث القاعِ ظاهر ما بدا ... على ما بقلبي شاهد ودليلُ

ويا أثلاث القاعِ قلبي موكل ... يكن وجدوى خَيْركن قليلُ

ألا هَلْ إلى شَمَّ الخزامى ونظرة ... إلى قرقري حتى الممات سبيلُ

وقال أعرابيٌ:

ألا حبَّذا والله لو تعلمانِه ... ظلالكما يا أيها الطَّللانِ

وماءكما العذب الذي لو شربتُهُ ... وبي صالبُ الحمى إذاً لشفاني

والشعر في الحنين إلى الوطن كثير جداً.

والمقصود من هذا أن الحنين يكون إلى الأرض التي ولد فيها الإنسان وله فيها ذكريات جميلة أو أحباب لا يستطيع أن ينساهم.

وقد تغيّر مفهوم الوطن في زماننا هذا، فمن أرض ولد فيها الإنسان إلى أرض أوسع من ذلك رسمها الاستعمار الذي قسّم البلاد الإسلامية إلى دويلات، فزرع بين شعوبها الكراهية والبغضاء!

فصارت النسبة إلى الأوطان من باب الإقليمية المقيتة والعنصرية المنتنة!! فظهرت تلك الدعوات: "الــ... أولاً"، وعند أولئك: "الـ... أولاً"! وهكذا.

فأصبح الانتماء والولاء لهذه الحدود التي خطها المستعمر! فالمسلم لا يهتم لغيره من المسلمين؛ لأنه يعتبر أن حبّ الوطن قائم على أرضه فقط!!

ولهذا وجدنا الكثير من المقالات التي تدعو لهذا وتكرّس هذا المفهوم المغلوط! ومنها ما قرأته مؤخراً لمفتي أحد البلاد، ومقاله انتشر على شبكة الانترنت، وهو في حقيقته ملفق من عدة مقالات، فإذا كان هذا المقال الذي لا يتعدى الصفحة الواحدة هذا حاله، فكيف بمن يؤصل لهذا في أكثر من ذلك؟!!

وقد أدرك بعض أهل العلم هذا المفهوم المغلوط عند الكلام على الحديث المكذوب على النبيّ صلى الله عليه وسلم: "حبّ الوطن من الإيمان"!!!

 يقول محمد جمال الدّين القاسمي في ((قواعد التحديث)) (ص152-155) وهو يتحدث عن الحديث الموضوع: "ورأيت لبعض فضلاء العصر مقالة غرّاء في هذا الموضوع لا بأس بإيرادها تعزيزاً للمقام. قال - رعاه الله -: الحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله زوراً وبهتاناً، وهو أشد خطراً على الدِّين وأنكى ضرراً بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين؛ لأنه يطرف الملة الحنيفية عن صراطها المستقيم ويقذف بها في غياهب الضلالات حتى ينكر الرجل أخاه والولد أباه، وتطير الأمة شعاعاً وتتفرق بداداً بداداً لالتباس الفضيلة وأفول شمس الهداية وانشعاب الأهواء وتباين الآراء...

ثم قال: الغرض إحياء السنة وإماتة البدعة، ودرء المطاعن الأجنبية بشيء ليس من ديننا، وذلك بالوقوف على طائفة من الأحاديث الموضوعة التي يستدل بها الناس على عقيدة أو حكم أو فضيلة أو النهي عن رذيلة، ليتميز الخبيث من الطيب، ويبتعد حَملةُ القرآن، وخطباء المنابر، ووُعَّاظ المساجد، من رواة الأكاذيب المضادة للشرع والعقل باسم الدين وهم لا يشعرون. وفي مقدمة ذلك الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة والخاصة في احتجاجهم وأمرهم ونهيهم، فإن ضررها عظيم وخطبها جسيم، وذلك كحديث: ((حب الوطن من الإيمان)) الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا الحث على تفرق الجامعة الإسلامية، التي نُنشد ضالتها الآن! فإنه يقضي بتفضيل مسلمي مصر مثلاً على من سواهم، وإن من في الشام يُفضل إخوته هناك على غيرهم، وهكذا، وهو الانحلال بعينه، والتفرق المنهي عنه، والله يقول: {إنما المؤمنون إخوة} ولم يقيد الأُخُوة بمكان، ويقول: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} وأقل ما فيه: تفويت فضيلة الإيثار".

قلت: فلله درّ هذا الإمام، فكأنه - رحمه الله - كان يستشرف مستقبل المسلمين، فالذي خشيه قد حصل فعلاً، فصار مفهوم حب الوطن مفهوماً إقليمياً عنصرياً!!

قال الشيخ الألباني في ((سلسلته الضعيفة)) تحت حديث رقم (36) ((حبّ الوطن من الإيمان)): "ومعناه غير مستقيم إذ إن حب الوطن كحب النفس والمال ونحوه، كل ذلك غريزي في الإنسان لا يمدح بحبه ولا هو من لوازم الإيمان، ألا ترى أن الناس كلهم مشتركون في هذا الحبّ، لا فرق في ذلك بين مؤمنهم وكافرهم؟".

وقال الصغاني عن هذا الحديث: "موضوع"، وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)): "لم أقف عليه، ومعناه صحيح".

فتعقّبه القاري وردّه متعجباً! وقال: "لا تلازم بين حبّ الوطن وبين الإيمان"، قال: ورد أيضاً بقوله تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم} الآية، فإنها دلت على حبهم وطنهم مع عدم تلبسهم بالإيمان، إذ ضمير عليهم للمنافقين، لكن انتصر له – أي للسخاوي- بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان انتهى، كذا نقله القاري ثم عقبه بقوله: ولا يخفى أن معنى الحديث حب الوطن من علامة الإيمان، وهي لا تكون إلا إذا كان الحب مختصاً بالمؤمن، فإذا وجد فيه وفي غيره لا يصلح أن يكون علامة.

قال العجلوني: قوله ومعناه صحيح نظراً إلى قوله تعالى حكاية عن المؤمنين: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا} فصحت معارضته بقوله تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن أقتلوا} الآية. الأظهر في معنى الحديث إن صح مبناه أن يُحمل على أن المراد بالوطن الجنة، فإنها المسكن الأول لأبينا آدم على خلاف فيه أنه خلق فيها أو أدخل بعدما تكمل وأتم، أو المراد به مكة فإنها أم القرى وقبلة العالم، أو الرجوع إلى الله تعالى على طريقة الصوفية فإنه المبدأ والمعاد كما يشير إليه قوله تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى}، أو المراد به الوطن المتعارف، ولكن بشرط أن يكون سبب حبه صلة أرحامه أو إحسانه إلى أهل بلده من فقرائه وأيتامه، ثم التحقيق أنه لا يلزم من كون الشيء علامة له اختصاصه به مطلقاً، بل يكفي غالباً، ألا ترى إلى حديث: ((حسن العهد من الإيمان))، و((حب العرب من الإيمان))، مع أنهما يوجدان في أهل الكفران، انتهى. ثم رجّح العجلوني أن المراد به مكة.

قلت: طالما أن هذا الحديث موضوع، فلا حاجة إلى تأويله وبيان المراد منه.

فالأصل في المسلم أن يحبّ كل أرض مسلمة وكلّ أهلها، ولا يقصر حبه على الأرض التي ولد فيها أو يعيش فيها، فإن ذلك يدفعه إلى الكره والحقد والغلّ لغيره.

فمفهوم حب الأوطان والحنين إليها أمر جبليّ للإنسان، ولكن لا يقوده ذلك إلى تفرقة الأمة وجماعة المسلمين بما انتشر من تفضيل بعض الدول على بعض مما زاد الحنق بين المسلمين.

هذا واعلم أيها المسلم أن أهل العلم والحكمة ذكروا لحب الوطن مساوئاً! من باب "المحاسن والأضداد".

قال بعض حكماء الفلاسفة: اطلبوا الرزق في البعد فإنكم إن لم تكسبوا مالاً غنمتم عقلاً كثيراً.

وقال آخر: لا يألف الوطن إلا ضيق العطن.

وقيل: لا توحشنك الغربة إذا آنستك النعمة.

وقيل: الفقير في الأهل مصروم، والغني في الغربة موصول.

وقيل: لا تستوحش من الغربة إذا أنست مصروماً.

وقيل: أوحش قومك ما كان في إيحاشهم أنسك، واهجر وطنك ما نبت عنه نفسك. وأنشد بعضهم:

لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلاً بأهل وجيراناً بجيران

وقال آخر:

نبت بك الدار فسر آمنا ... فللفتى حيث انتهى دار

فحذار حذار أيها النّاس من الإسراف في مفهوم "حبّ الوطن" بالمعنى الإقليمي العنصري، وليكن حبك لجميع أرض المسلمين.

والمؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر كما قال صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.

اللهم اجعلنا متحابين في جلالك يا الله.

وكتب: خالد الحايك.

10/5/2011

شاركنا تعليقك