الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«سبيلُ الرّشاد» إلى حكم تهنئة الكفّار بعيد الميلاد!

«سبيلُ الرّشاد»

إلى حكم تهنئة الكفّار بعيد الميلاد!

وفيه الرد على فتوى بجواز ذلك للأستاذ الدكتور شرف القضاة والدكتور صلاح الخالدي!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الذي منّ علينا بالإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، الموضح لنا سبيل الرشاد الموفقنا للسداد، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى آله، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وبعد:

فإنّ الأمة الإسلامية تعيش مرحلة صعبة! تفرق وتشرذم، ذلة واستكانة، كره وبغض، حسد وحقد!! وقد أثر كل ذلك على أفرادها، وافتتن كثير منهم.

ومن أعظم ما حصل لكثير من أفرادها تقليدهم وتشبههم بأعداء الدِّين من الكفار، والحرص على متابعتهم. وقد أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك محذراً لنا بقوله: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قيل له: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ».

والتشبيه بالشبر والذراع وجحر الضبّ يدل على شدة هذه المتابعة والتقليد!

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحرص أن يكون لهذه الأمة كيانها المستقل لأنها خير الأمم وخاتمتها، وهي التي تحمل راية الدعوة إلى الله وإلى دين الله وهو الإسلام. وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن تكون هذه الأمة مميزة في كل شيء - كما هي مميزة في دينها وشعائرها-: في سلوكها، ومظهرها، وتعاملها، وأخلاقها، ولهذا نهى عن التشبّه بغيرها من الأمم السابقة، وكان يحرص على مخالفتهم في عباداتهم وشعائرهم وأعيادهم.

ومما ابتليت به هذه الأمة هذا الذي حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم فأصبح تقليدهم هو الحضارة والتنوير!! ومن حارب ذلك رُمي بالتخلف والرجعية!! فأصبح الحلال حراماً، والحرام حلالاً!!

وفي كل سنة من التقويم المسيحي يحتفل النصارى بما يسمى "عيد ميلاد المسيح"! ويكون ذلك اليوم يوم عيد عندهم يحتفلون به في الخامس والعشرين من شهر (ديسيمبر) وبعد خمسة أيام يحتفلون برأس السنة الميلادية!! وهذه الاحتفالات التي تمثل أهم عيدين عندهم يحصل فيها من البلايا ما لا يعلمه إلا الله عزّ وجل!! من كفر وارتكاب للمعاصي!!

ولما كانت هذه الأمة تعيش تحت سيطرة أعدائها ولعت في تقليدها، فصار يوم الميلاد ورأس السنة الميلادية عطلة رسمية في كثر من البلدان الإسلامية!! بحجة أن فيها أناس مسيحيون!! وهم يعطلون في أعيادنا، فلم لا نعطل في أعيادهم؟!!

ومع مرور الزمن صارت هذه النظرة إلى هذين اليومين تكتسب رضىً عند كثير من المسلمين، وخاصة أن في ذلك اليومين تعطيل كامل عن العمل!! والمسلم قد مال إلى الكسل في كل شيء، فيعجبه أن يعطل في هذين اليومين وغيرهما، بل يتمنى أن يجلس في البيت وتكون حياته كلها عطل!! والله المستعان.

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تعداه إلى أن كثيراً من المسلمين يحتفلون مع المسيحيين في ذلك اليوم!! يذهبون معهم إلى الفنادق، أو إلى بيوتهم، بحجة أن الإسلام دين رحمة ومحبة ويستوعب غير المسلم، وغير ذلك من تلبيس إبليس عليهم!!!

ومن آثار الصحوة الإسلامية في هذه الأيام حرص بعض أبناء الأمة على محاربة ذلك، فينشرون الوعي بين الناس ويحذرونهم من اللهث وراء هؤلاء في أعيادهم، ولكن الرزية كل الرزية أن تجد بعض الفتاوى من بعض من يعدّ من العلماء أو من الذين يحملون الشهادات الجامعية في الشريعة يجيزون تهنئة هؤلاء المسيحيين في أعيادهم متعللين بأدلة أوهى من بيت العنكبوت! وهذه الفتاوى - وإن اقتصرت - على التهنئة فقط إلا أنها بداية إلى الانخراط في أشياء لا يدرك عواقبها هؤلاء المفتين، والله المستعان.

·       فتوى د. شرف القضاة وموافقة د. صلاح الخالدي له:

منذ يومين أرسل إليّ بعض الإخوة فتوى للأستاذ الدكتور شرف القضاة - أستاذ الحديث في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية - تحت عنوان: "تهنئة المسيحيين بأعيادهم"، وهذا نصّها:

"يكثر السؤال في هذه الأيام عن حكم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، وللجواب عن ذلك أقول: إن الأصل في هذا الإباحة، ولم يرد ما ينهى عن ذلك. وكل ما سمعته أو قرأته لمن يحرمون هذه التهنئة أن في التهنئة إقراراً لهم على دينهم الذي نعتقد أنه محرف. ولكن الصحيح أنه لا يوجد في التهنئة أي إقرار، لما يلي:

1- لأننا لا نَعُدُّ تهنئتهم لنا بأعيادنا إقرارا منهم بأن الإسلام هو الصحيح، فالمسلم لا يقصد بالتهنئة إقراراً على الدين، ولا هم يفهمون منا ذلك.

2- لأن الله تعالى أمرنا بمعاملتهم بالحسنى، فقال تعالى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ انْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا الَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} والبر هو الخير عموما، فقد أمرنا الله تعالى بمعاملتهم بالخير كله، فتكون معاملتهم بالخير ليست جائزة فقط بل هي مستحبة، فكيف يحرم بعد ذلك تهنئتهم بنحو قولك: كل عام وأنتم بخير، فإننا لا شك نحب لهم الخير، وقد أمرنا الله بذلك.

3- لأن الله تعالى شرع لنا التحالف معهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة المنورة.

4- لأن الله تعالى شرع لنا زيارتهم في بيوتهم واستقبالهم في بيوتنا، والأكل من طعامهم، بل والزواج منهم، مع ما في الزواج من مودة ورحمة، ولا يقال: إن في ذلك كله نوعا من الإقرار لهم بأن دينهم هو الحق، فكيف يجوز ذلك كله ولا تجوز تهنئتهم!!! 22/12/2011".

وقد سئِل الدكتور صلاح الخالدي - أستاذ التفسير في الجامعة الإسلامية العالمية - عن هذه الفتوى فأيدها في كلمة مسجلة له على صفحته في (الفيسبوك)! وكان مما قال: "إن الدكتور شرف من العلماء وأهل العلم العاملين وأن له محبين كثر... وهذه المسالة لم يأت فيها نصر صريح لا من القرآن والسنة، فهو حسب القاعدة الأصولية: الأصل في الأشياء الإباحة.. ونحن نحترم العلماء السابقين وما صدر منهم هو اجتهاد، ومن خالف في ذلك فعليه أن يأتينا بنص صريح على حرمة التهنئة".

أقول مُستعيناً بالله:

كون الأستاذ الدكتور فلان أو فلان يحمل شهادة جامعية في التخصص الشرعي وأن له محبين كثر لا يعني أن ما يقوله هو الصحيح!!

وسنناقش كلام الأستاذين فيما يأتي إن شاء الله.

·       من أفتى بجواز تهنئة الكفّار في زماننا هذا:

وممن أفتى بجواز التهنئة - وما أظن الأساتذة إلا تبع لهم - في هذا العصر: الدكتور يوسف القرضاوي حيث يرى أن تغير الأوضاع العالمية، هو الذي جعلني أخالف شيخ الإسلام ابن تيمية في تحريمه تهنئة النصارى وغيرهم بأعيادهم، وأجيز ذلك إذا كانوا مسالمين للمسلمين، وخصوصاً من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة، والرفقاء في العمل ونحوها، وهو من البر الذي لم ينهنا الله عنه. بل يحبه كما يحب الإقساط إليهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة. ولا سيّما إذا كانوا هم يهنئون المسلمون بأعيادهم، والله تعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].

وممن أجاز ذلك أيضاً الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد - أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر، مع ضوابط شرعية كأن لا تحتوي التهنئة على مخالفات شرعية كتقديم الخمور هدية.

ومنهم الأستاذ الدكتور محمد السيد دسوقي - أستاذ الشريعة بجامعة قطر، وقد أجازها من باب حسن الجوار.

وممن أجازها قبلهم: محمد رشيد رضا حيث رأى أن زيارة غير المسلم وتهنئته بالعيد جائزة مستشهداً بأن النبي صلى الله عليه وسلم عاد غلاماً يهودياً، ودعاه للإسلام فأسلم.

والشيخ مصطفى الزرقا أجازها من باب المجاملة وحسن العشرة. قال: "إنّ تهنئةَ الشّخص المُسلِم لمعارِفه النّصارَى بعيدِ ميلاد المَسيح ـ عليه الصّلاة والسلام ـ هي في نظري من قَبيل المُجاملة لهم والمحاسَنة في معاشرتهم".

وأجاز الشيخ أحمد الشرباصي مشاركة النصارى في أعياد الميلاد بشرط ألا يكون على حساب دينه.

وأجاز ذلك عبدالله بن بية نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وطالب المسلمين بأن تتسع صدورهم في المسائل الخلافية!!!

·       مناقشة الأدلة:

·       أولاً: دليل" الأصل في الأشياء الإباحة":

هذه القاعدة الأصولية لها تعبيرات عند أهل الأصول، ومنها: "الأشياء على الإباحة حتى يرد الشرع بالمنع" أو: "الأصل في الأشياء الحل".

ولكن هناك ألفاظ لأهل العلم تدل على أن هناك خلافا فيها، ومن ذلك:

قول الرازي: "الأصل في الأفعال الإباحة أو الحظر"، وقول النووي: "أصل الأشياء على الإباحة أو التحريم"، وقول الزركشي: "الأصل في الأشياء الإباحة أو التحريم أو الوقف".

حتى قال ابن نُجيم: "هل الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على عدم الإباحة، أو التحريم حتى يدل الدليل على الإباحة؟"

وهناك خلاف عند أهل الأصول في المراد بالأصل في هذه القاعدة: القاعدة الكلية أم الراجح أم المستصحب؟!!

وكذلك الاختلاف في المراد بالإباحة؟! والأكثر على أنها: "ما صرح فيه الشارع بالتسوية بين الفعل والترك" مثل قوله صلى الله عليه وسلم للمسافر: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر".

قال الآمدي في تعريف الإباحة: "والأقرب في ذلك أن يقال: هو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل".

ومن يجيز تهنئة الكفار بأعيادهم نظر إلى سكوت الشارع عن هذا الأمر، وهو لا شك داخل في الإباحة.

واعلم أيضاً أن هناك خلافاً بين أهل الأصول في: "أن الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع الإباحة أم الحظر؟" فمنهم من رجح الأول ومنهم من رجح الثاني، وتوقف قوم في ذلك.

وهذه المسألة لها ثمرة في المسكوت عنه بعد ورود الشرع.

يقول البغدادي (ت429هـ): "فائدة هذه المسألة تظهر في حادثة تقع ليس فيها نص ولا إجماع ولا قياس، فيكون الحكم فيها عند جمهور أصحابنا الوقف مع نفي المدح والذم عمن اعتقد فيها حظراً أو إباحة أو وقفاً، ويكون حكمها الحظر عند القائل به".

وكذلك اختلف الأصوليين في حكم الأشياء المسكوت عنها بعد ورود الشرع؟ فذهب بعضهم إلى الإباحة وبعضهم إلى الحظر، ومنهم من فصّل: فقال بعضهم: إن الأصل في الأموال الإباحة، وفي الأنفس والأطراف الحرمة، ومنهم من قال: إن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع. ومنهم من توقف.

وهناك قواعد متفرعة عن هذه القاعدة منها ما يختص بالأقوال، ومنا ما يختص بالأفعال، ومنها ما يختص بالنفع والضرر، ومنها ما يتعلق بالعادات، ومنها ما يتعلق بالعقود.

وقد وضع أهل الأصول ضوابط لهذه القواعد ولم يطلقوها، كقاعدة: "الأصل في العبادات التوقيف"، وقاعدة: "الأصل في الأموال التحريم"، وغير ذلك.

وبناء على هذا فالأصل في التعامل مع أهل الشرك والكفر هو الحظر إلا ما أباحه الشارع.

والشارع حدد ذلك في أمور معدودة فقط، وليست التهنئة في كل شيء كما يقول كثير من الناس!!

فلم نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم هنأهم بمواليدهم!

ولم نجده هنأهم بأفراحهم؟

وإنما كان تعامله فقط في إطعام جائعهم وحسن جواره، وعيادة مريضهم، وما عدا ذلك فيدخل في دائرة الحظر؛ لأن الأصل في التعامل معهم الحظر ما لم يأت دليل يدل على إباحة بعض ما في دائرة الحظر.

فمسألة التهنئة ليست مسكوتاً عنها كما ذهب هؤلاء الذين يفتون في جواز التهنئة! وإنما حكمها هو الحظر، وقد كان اليهود في المجتمع الإسلامي، وقد خالط الصحابة والتابعون بعد ذلك المجتمعات النصرانية فلم نجد عن أي واحد منهم أنه هنأهم بأعيادهم أو شاركهم فيها، وإنما اقتصر الأمر على ما استثني من أفعال فعلها النبي صلى الله عليه وسلم.

وأهل العلم لم يختلفوا في مسالة التهنئة، ولهذا لا نجد لها ذكراً عندهم، وهذا اتفاق على عدم جوازها، وإنما اختلفوا في مسألة التعزية فقط، بين مبيح ومحرم.

وعليه فلا يجوز استخدام هذه القاعدة الأصولية في مثل هذا الحكم؛ لأن هذه القاعدة لها قيود تتقيد بها.

فالأصل في التعامل مع أهل الكفر هو الحظر إلا ما استثناه الشارع الحكيم من نحو عيادة مريضهم أو تعزيتهم - على خلاف بين أهل العلم في ذلك -، وجواز التعامل التجاري وغير ذلك.

·       عياد المريض الكافر:

ذهب أهل العلم إلى جواز عيادة المريض الكافر لما أخرجه البخاري «صحيحه» عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».

ففي هذا الحديث - كما يقول العيني - "جواز عيادة أهل الذمة ولا سيما إذا كان الذمي جاراً له لأن فيه إظهار محاسن الإسلام وزيادة التآلف بهم ليرغبوا في الإسلام".

فالأصل في عيادة الكافر هي من أجل الدعوة إلى الإسلام لأن الإنسان قد يموت من مرضه؛ ولهذا كان يخشى صلى الله عليه وسلم أن تفلت منه هذه الروح وتدخل النار، ولهذا لما مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ في مرضه الذي توفي منه، قال له «يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ».

ثم إن مسألة عيادة المريض الكافر فيها تذكير للمسلم بمنة الله عليه أن جعله مسلماً فإذا مات مات على الإسلام بخلاف هؤلاء الذين يموتون على الكفر.

وعَن عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَعُودُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، يَقُولُ: كَيْفَ أَصبْحَتْ؟ وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ فَإِذَا خَرَجَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُ، وَأَرِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، وَاكْفِهِمْ مُؤْنَتَهُ».

وقد اختلف أهل العلم في عيادة الكافر، فمنهم من قصرها على من كان بينه وبين المريض الكافر قرابة، ومنهم من أطلق ذلك، وأيا كان الصواب فإن هذا يدلّ على عدم اختلافهم في مسألة التهنئة.

·       تعزية الكفّار:

وكذلك فيما يتعلق بالتعزية للكفار، فإننا لم نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد عزاهم، ولهذا كانت المسألة خلافية عند الفقهاء، ومن استحبها من باب تأليف قلوبهم للدخول في الإسلام اقتصر على ألفاظ معينة فيها.

فكان ابن جُرَيْجٍ وَالثَّوْرِيّ، يَقُولَانِ: "يُعَزِّي الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ يَقُولُ: لِلَّهِ السُّلْطَانُ وَالْعَظَمَةُ، عِشْ يَا ابْنَ آدَمَ مَا عِشْتَ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ".

وفي التعزية لهؤلاء أيضاً تذكير للمسلم أن منّ الله عليه بالإسلام.

فالمقام في عيادة المريض الكافر وتعزيتهم مقام مختلف تماماً عن مقام التهنئة الذي هو من باب إدخال السرور فيما يتعلق بما يؤمنون به.

·       ثانياً: مسألة الإقرار على الدّين:

يقول هؤلاء المفتين من (مدرسة التنوير الحديثة) إن تهنئتهم ليس فيها إقرار على دينهم المحرّف!

فالتهنئة في اللغة من "هنأ"، يُقال: هَنُؤَ الطعامُ يَهْنُؤُ هَناءةً، أي صار هنيئاً.

والتهنِئَةُ: خلاف التعزيةِ. وتقول: هنأته بالولاية تهنئة وتهنيئاً.

و(هَنأ) فلَانا بِالْأَمر تهنئة خاطبه راجياً أَن يكون هَذَا الْأَمر مبعث سرُور لَهُ وَقَالَ لَهُ ليهنئك هَذَا الْأَمر.

وفي «معجم اللغة العربية المعاصرة»: "هنَّأ فلانًا بالنّجاح ونحوه - هنَّأ فلانَا على النّجاح ونحوه: دعا له بما يَسُرُّه، أو رجا أن يكون نجاحُه مبعث سروره، عكسه عزّاه".

فالتهنئة تدل على السرور والرضا، إذن أليس في تهنئتهم بعيدهم هذا سرور من المهني بما عندهم من عقائد باطلة في نظرتهم إلى الله وأنه هو عيسى!!

أم أن هذه التهنئة هي من باب المصلحة والتعايش الذي يتغنى به كثير من التنويريين!!

إن الضعف الذي تعيشه الأمة لا يعني بحال أن نتنازل عن عقيدتنا من باب (التعايش) الذي ينادي به بعض أهل العلم!!

فالتعايش مع غير المسلم لا ننكره، ولكن لا بد أن يكون الأمر كله لله، وهؤلاء أن يكونوا بين المسلمين صاغرين أذلة كما قال الله عز وجل، لا أن تكون هذه الشرذمة القليلة هي التي تتحكم في مقدرات الأمة، ولها الأمر!

إن إظهار الفرح والسرور بأعياد هؤلاء هو بداية الميل لحبهم، ومن قال عكس ذلك فالشيطان يلبّس عليه، فالنار تبدأ من مستصغر الشرر، وما زال المسلم يتقرب إليهم بالمودة حتى يحب ما يفعلون، ثم يرضاه، ثم الله عليم بما سيفعل بعد ذلك.

وها هي الحركات الإسلامية تتهافت إلى تهنئة النصارى وحضور ما يسمى بـ "القدّاس" في كنائسهم! فيقفون معهم جنباً إلى جنب وهم يكذبون على الله ويمجدون الإله "عيسى"! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباَ.

·       ثالثاً: دليل تحالف النبيّ صلى الله عليه وسلم معهم:

سبحان الله! الذي يتكلم في هذا محسوب على أهل الحديث! افلا يعلم أن هذا التحالف كان في بداية تكوين الدولة الإسلامية، ولم يكن هناك قوة للمسلمين بعد!

والذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك - أي التحالف - بيان مذهب القوم في الخيانة، وإلا فهو نبي يوحى إليه، ويعرف من هم اليهود، ولكن لا بد أن يكون ذلك ظاهراً للعيان، فكتبت وثيقة التحالف، وما أن أخذت حيز التنفيذ حتى نقضوها، ثم توالت خيانة القوم حتى أجلاهم ، وقال في وصيته قبل موته بأربعة أيام: «أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ» ولم يكن هناك من المشركين إلا اليهود.

ثم إن هذا التحالف كان في الدفاع عن المدينة من الأعداء، وليس من مقتضياته أن يكون هناك تزاور وتهنئة بالأعياد وغير ذلك!

فعلى المجيزين أن يأتونا هم بدليل صريح ونص واضح على فتواهم، لا أن يطالبوا من لا يجيز بذلك؛ لأن الأصل في التعامل معهم هو الحظر، فمعتقدهم باطل، وحقدهم ظاهر، واستثني من الأصل ما جاء الدليل على استثناءه كما في عيادة مريضهم، والاختلاف في التعزية ومقصد ذلك.

فمن حاد عن هذا الأصل فعليه أن يأتينا بالدليل الناصع، وإلا فينبغي عليه أن لا يخوض في مثل هذه الأمور المسلّمة عند الأمة وعلمائها.

·       رابعاً: الاستدلال بالآية الكريمة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}:

قلت: إن مما يحزن هو أن الدكتور صلاح الخالدي من أهل التفسير! فكيف يوافق الدكتور شرف على استدلاله والآية بخلاف ما ذهب إليه!!

فقد نزعوا هذه الآية عن سياقها!

يقول سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

فهذه الآية جاءت بعد بيان الأسوة والقدوة في إبراهيم وتبرأه من قومه ووالده ممن كانوا يعبدون الأصنام، ثم استثنت الآيات حالة واحدة هي دليل هؤلاء القوم، مع الاختلاف عند أهل العلم في هذه الآية.

قال الطبري - شيخ المفسرين -: "يقول تعالى ذكره: قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم والذين معه في هذه الأمور التي ذكرناها من مباينة الكفار ومعاداتهم، وترك موالاتهم إلا في قول إبراهيم لأبيه {لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فإنه لا أسوة لكم فيه في ذلك، لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدوّ الله؛ فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه. يقول تعالى ذكره: فكذلك أنتم أيها المؤمنون بالله، فتبرّءوا من أعداء الله من المشركين به ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده ويتبرّءوا عن عبادة ما سواه وأظهروا لهم العداوة والبغضاء".

قال: "يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل إبراهيم خليله والذين معه: يا ربَّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا بك فجحدوا وحدانيتك، وعبدوا غيرك، بأن تسلطهم علينا، فيروا أنهم على حقّ، وأنا على باطل، فتجعلنا بذلك فتنة لهم".

قال: "وقوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) يقول تعالى ذكره: ومن يتول عما أمره الله به وندبه إليه منكم ومن غيركم، فأعرض عنه وأدبر مستكبرًا، ووالى أعداء الله، وألقى إليهم بالمودّة، فإن الله هو الغنيّ عن إيمانه به، وطاعته إياه، وعن جميع خلقه، الحميد عند أهل المعرفة بأياديه، وآلائه عندهم".

ثم يبين تأويل قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: "يقول تعالى ذكره: عسى الله أيها المؤمنون أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم من أعدائي من مشركي قريش مودّة، ففعل الله ذلك بهم، بأن أسلم كثير منهم، فصاروا لهم أولياء وأحزابًا".

ثم يبين تأويل قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}: "يقول تعالى ذكره: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) من أهل مكة (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) يقول: وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم، وبرّكم بهم".

وهذه الآية فيها خلاف عند أهل التفسير فكما يستدل بها المخالف يستدل الآخر بغير ما استدل به!

وفِيها أَقوال: أحدها: أَن المُرَاد مِنْهُ قوم كَانُوا على عهد النَّبِي من الْكفَّار من خُزَاعَة، وَهِي مُدْلِج وَغَيرهم. ومنها: أنهم الَّذِينَ آمَنُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، قاله مجاهد.

ومنها: أَن هَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت بِآيَة السَّيْف، قَاله قَتَادَة وَغَيره.

قال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: (الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصصْ به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهيّ عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح. قد بين صحة ما قلنا في ذلك، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها.

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يقول: إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم، فيبرّون من برّهم، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم".

وَمعنى: {أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم} أَي: تحسنوا إِلَيْهِم، وتستعملوا الْعدْل مَعَهم أَي: الْمُكَافَأَة. قال الزجاج: "أي: وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد".

قلت: فليس في هذا كله عند هؤلاء الأئمة دخول التهنئة في أعيادهم، وإنما هو الوفاء بعهودهم وعدم ظلمهم.

·       خامساً: تهنئتهم لنا بأعيادنا:

لم يطلب أحد منهم بتهنئتنا بأعيادنا! وبالتالي فهذا ليس فيه أي دليل على أننا ينبغي أن نرد إليهم الجميل ونهنئهم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن بدأهم بالسلام، ولكن إذا هم بدأونا فعلمنا كيف نرد عليهم، فإذا كان هذا في مسألة مثل هذه، فكيف في مسألة تتعلق بالكفر والإيمان فيما يتعلق بإدخال الفرح والسرور على قلوبهم فيما يتعلق بتثليثهم الباطل!!

يقول المراغي في "تفسيره" في قول الله عز وجل: {ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ}: "أي إنكم تحبون هؤلاء الكفار الذين هم أشد الناس عداوة لكم، ولا يقصرون في إفساد أمركم، وتمنّي عنتكم، ويظهرون لكم العداوة والغش، ويتربصون بكم ريب المنون، فكيف بكم توادونهم وتواصلونهم؟ وحب المؤمنين لهم- وهم على تلك الشاكلة- من أقوى البراهين على أن هذا الدين دين رحمة وتساهل، لا يمكن أن يتصور ما هو أعظم منه في ذلك. {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ} أي إنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من الكتب، سواء منها ما نزل عليكم وما نزل عليهم، فليس في نفوسكم جحد لبعض الكتب الإلهية، ولا للنبيين الذين جاءوا بها، حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب- أما هم فيجحدون بعض الكتب وينكرون بعض النبيين. وخلاصة هذا: إنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم، فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم، كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحرى ببغضهم، ومع هذا تحبونهم ولا يحبونكم".

·       سادساً: المسألة خلافية!

من قال من أهل العلم في هذا الزمان أن مسألة تهنئة الكفار في أعيادهم خلافية فقد افترى على أهل العلم!! وعليه أن يأتينا بالدليل!

بل هم متفقون على حرمة ذلك.

·       سابعاً: عيدهم من الزور:

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}.

قال أئمة المفسرين من التابعين (مجاهد، وأَبُو الْعَالِيَةِ، وَطَاوُسُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُهُمْ): "هِيَ أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ".

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ: "هِيَ مَجَالِسُ السُّوءِ وَالْخَنَا".

وقال الرازي في "تفسيره": "المسألة الْأُولَى: الزُّورُ يَحْتَمِلُ إِقَامَةَ الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ شَهَادَةَ الزُّورِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَيَحْتَمِلُ حُضُورَ مَوَاضِعِ الْكَذِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 68] وَيَحْتَمِلُ حُضُورَ كُلِّ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ مَا لَا يَنْبَغِي وَيَدْخُلُ فِيهِ أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ وَمَجَامِعُ الْفُسَّاقِ، لِأَنَّ مَنْ خَالَطَ أَهْلَ الشَّرِّ وَنَظَرَ إِلَى أَفْعَالِهِمْ وَحَضَرَ مَجَامِعَهُمْ فَقَدْ شَارَكَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْحُضُورَ وَالنَّظَرَ دَلِيلُ الرِّضَا بِهِ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُودِهِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ، لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى فِعْلِهِ اسْتِحْسَانُ النَّظَّارَةِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - الْمُرَادُ مَجَالِسُ الزُّورِ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا الزُّورَ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَعَلَى رسوله، وقال محمد بن الْحَنَفِيَّةِ الزُّورُ الْغِنَاءُ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمِلَةٌ وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْكَذِبِ أَكْثَرُ".

وقال العز بن عبدالسلام في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}: "{الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} من للجنس، أو اجتنبوا منها رجسها وهو عبادتها {قَوْلَ الزُّورِ} الشرك، أو الكذب، أو شهادة الزور، أو أعياد المشركين".

·       أدلة نقلية وعقلية على حرمة ذلك:

بوّب البيهقي في كتابه "السنن الكبير": "باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم".

وروى بأسانيد صحيحة عن عطاء بن دينار: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأعَاجِمِ، وَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ السَّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ».

وعن سعيد بن سلمة: سمع أباه: سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «اجتنبوا أعداء الله في عيدهم».

وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: «من بنى في بلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة».

ومن أقوال أهل العلم الفقهاء في هذه المسالة:

قال أبو القاسم هبة الله بن الحسين الطبري الفقيه الشافعي: "ولا يجوز للمسلمين أن يحضروا أعيادهم؛ لأنهم على منكر وزور وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له فنخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيعم الجميع نعوذ بالله من سخطه".

وقال أبو الحسن الآمدي: "لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا. واحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: الشعانين وأعيادهم".

وقال الشيخ إدريس التركماني - من علماء القرن الثامن الهجري -: "ومن قلة التوفيق والسعادة ما يفعله المسلم الخبيث في يوم يعرف بالميلاد فيشتري لأولاده القصب والشمع والقفص... فيقع في البدع ويخرج عن طريق النبي المختار صلوات الله عليه وسلامه آناء الليل وأطراف النهار وفي فعلته هذه قد تشبه بالكفار..".

ويقول: "وقد أجمع الأئمة على ما شرط عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وسائر الصحابة أن أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم وشعائرهم في بلاد المسلمين فإذا منعهم الشرع فمن لم ينكر عليهم في إظهار ذلك وشاركهم في شيء من أفعالهم أو ساعدهم بإعارة شيء أو كثر سوادهم حشر معهم".

وقال السيوطي: "ومما يفعله كثير من الناس في أيام الشتاء ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام فجميع ما يصنع أيضاً في هذه الليالي من المنكرات مثل: إيقاد النيران وإحداث طعام وشراء شمع وغير ذلك فإن اتخاذ هذه المواليد موسماً هو دين النصارى ليس لذلك أصل في دين الإسلام ولم يكن لهذا الميلاد ذكر في عهد السلف الماضين بل أصله مأخوذ عن النصارى وانضم إليه سبب طبيعي وهو كونه شتاء المناسب لإيقاد النيران".

وقال أيضاً: "ومن ذلك أعياد اليهود أو غيرهم من الكافرين أو الأعاجم والأعراب الضالين لا ينبغي للمسلم أن يتشبه بهم في شيء من ذلك ولا يوافقهم عليه. قال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}. وأهواء الذين لا يعلمون هو: ما يهوونه من الباطل فإنه لا ينبغي للعالم أن يتبع الجاهل فيما يفعله من هوى نفسه. قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. فإذا كان هذا خطابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فكيف حال غيره إذا وافق الجاهلين أو الكافرين وفعل كما يفعلون مما لم يأذن به الله ورسوله!! ويتابعهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم!! وترى اليوم كثيراً من علماء المسلمين الذين يعلمون العلم الظاهر وهم منسلخون منه في الباطن يصنعون ذلك مع الجاهلين في مواسم الكافرين بالتشبه بالكافرين".

وقال كذلك: "واعلم أنه لم يكن على عهد السلف السابقين من المسلمين من يشاركهم في شيء من ذلك فالمؤمن حقاً هو السالك طريق السلف الصالحين المقتفي لآثار نبيه سيد المرسلين المقتدي بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين جعلنا الله منهم بمنه وكرمه إنه جواد كريم ولا ينظر الرجل إلى كثرة الجاهلين الواقعين في مشابهة الكافرين والعلماء الغافلين وموافقتهم فقد قال السيد الجليل الفضيل بن عياض - رحمه الله -: عليك بطريق الهدى وإن قلَّ السالكون واجتنب طريق الردى وإن كثر الهالكون. اللهم اجعلنا من المهتدين المتبعين لآثار سبيل الصالحين ولا تجعلنا من الهالكين المتبعين لآثار سبيل الكافرين الضالين بمنك وكرمك إنك جواد كريم".

وقد سئل الفقيه الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم تهنئة الكفار بعيد الكريسمس؟ وكيف نرد عليهم إذا هنؤونا بها؟ وهل يجوز الذهاب إلى أماكن الحفلات التي يقيمونها بهذه المناسبة؟ وهل يأثم الإنسان إذا فعل شيئاً مما ذكر بغير قصد؟ وإنما فعله إما مجاملةً أو حياءً أو إحراجاً أو غير ذلك من الأسباب؟ وهل يجوز التشبه بهم في ذلك؟

فأجاب بقوله: "تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق كما نقل ذلك ابن القيم - رحمه الله - في كتابه " أحكام أهل الذمة " حيث قال: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه. انتهى كلامه. وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر ورضى به لهم وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنئ بها غيره لأن الله تعالى لا يرضى بذلك كما قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا. وإذا هنئونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك لأنها ليست بأعياد لنا ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى لأنها إما مبتدعة في دينهم وإما مشروعة لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الخلق وقال فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها. وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى أو أطباق الطعام أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم": مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء. انتهى كلامه - رحمه الله - ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملةً أو تودداً أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب لأنه من المداهنة في دين الله ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم. والله المسئول أن يعز المسلمين بدينهم ويرزقهم الثبات عليه وينصرهم على أعدائهم إنه قوي عزيز".

·       معنى العيد:

قال ابن القيم - رحمه الله -: "العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد. فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدا. وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية. فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر".

فكل قوم كان لهم أعياد يجتمعون فيها، وكان الناس في الجاهلية كذلك أيضاًن ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يجتمعون في أعيادهم، فشرع لنا عيد الفطر والأضحى.

ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا" وفي رواية: دعهما يا أبا بكر.

فقوله: إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم؛ كقوله - تعالى- وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا لأن اللام تورث الاختصاص، فلا نشركهم في عيدهم كما لا نشركهم في شرعتهم، ولا ندعهم يشركوننا.

وقوله: "هذا عيدنا" يقتضي حصر عيدنا في هذا، فليس لنا عيد سواه، وكذلك قوله: وإن عيدنا هذا اليوم، فإن التعريف بالإضافة واللام يقتضي الاستغراق، فيكون جنس عيدنا منحصرا في جنس ذلك اليوم، كقوله: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".

ومن هذا الباب: قوله صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)، رواه أبو داود والترمذي وصححه، فيدل على مفارقتنا لغيرنا في العيد، واختصاصنا بهذه الأيام الخمسة، وأيضا فإنه علل الرخصة باللعب بكونه يوم عيدنا، فدل على أنه لا يرخص فيه في عيد الكفار، فإنه لو ساغ ذلك لم يكن قوله: لكل قوم عيد فيه فائدة. (المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم، ص: 87).

ومما يرد به على مسألة التعايش مع اليهود والنصاري: "أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر - رضي الله عنه - وكان اليهود بالمدينة كُثُرا في حياته صلى الله عليه وسلم وكذلك كان في اليمن يهود، ونصارى بنجران، والفرس بالبحرين، وكان لهم أعياد، والمقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة قائم في نفوس الناس، ثم من كان له خبرة بالسيرة يعلم أن المسلمين لم يكونوا يشاركونهم في شيء من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكفار، بل ذلك اليوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند المسلمين يوم لا يخصونه بشيء أصلا إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه كصومه، فلولا أنه كان من دين المسلمين الذي تلقوه عن نبيهم منع من ذلك وكف عنه لوجب أن يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك، فدل على المنع منه ثم جرى الأمر على عهد الخلفاء الراشدين كما كان في عهده، حتى كان عمر ينهى عن الدخول عليهم يوم عيدهم، فكيف لو كان أحد يفعل كفعلهم، بل لما ظهر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم مخالفة لهم نهى الفقهاء أو كثير منهم عن ذلك لأجل ما فيه من تعظيم عيدهم، أفلا يستدل بهذا على أن المسلمين تلقوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم المنع من مشاركتهم في أعيادهم، وهذا بعد التأمل بين جداً".

وقد نقل ابن تيمة الإجماع على ذلك، فقال:

وأما الإجماع والآثار فمن وجوه:

أحدها: ما تقدم التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية، يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيا، وإلا لوقع ذلك كثيرا؛ إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم منافيه واقع.

الثاني: من شروط عمر - رضي الله عنه - التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم: أن أهل الذمة لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وسموا الشعانين والباعوث، فإذا كانوا قد اتفقوا على منعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها مع كونه أشد؟

الوجه الثالث: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني عن عمر أنه قال: "إياكم ورطانة الأعاجم! وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم! ".

وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر: "لا تدخلوا على المشركين يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم".

وعن ابن عمرو: "من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم" رواه البيهقي بالسند الصحيح.

وعن عمر - رضي الله عنه -: "اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم".

وعن علي - رضي الله عنه- أنه كره موافقتهم في اسم العيد الذي ينفردون به فكيف بموافقتهم في العمل؟

وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - من كراهة موافقتهم في اللغة والعيد، وتقدم قول القاضي: مسألة في المنع من حضور أعيادهم.

وقال الإمام أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي في كتابه "عمدة الحاضر": "فصل: لا تجوز شهادة أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا، واحتج بقوله: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره، نص عليه".

وقال الخلال في "جامعه": "باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين" وذكر عن مهنا قال: "سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد، مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه، يشهده المسلمون.

قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق، فلا بأس".

·       سد الذرائع:

روى أبو داود بسندٍ صحيح من حديث ثَابِت بن الضَّحَّاكِ قال: «نَذَرَ رَجُلٌ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وَثَنٌ من أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قالوا: لَا، قال: هل كان فيها عِيدٌ من أَعْيَادِهِمْ؟ قالوا: لَا، قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْفِ بِنَذْرِكَ فإنه لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ ولافيما لَا يَمْلِكُ بن آدَمَ».

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أنه لم يكن في ذلك المكان أصناماً تعبد ولا عيداً من أعيادهم أذن له في إيفاء نذره، فدل ذلك على أن الذبح بمكان عيدهم، ومحل أوثانهم معصية لله، والحال أن السائل لم يرد أن يتخذ ذلك المكان عيداً، والقوم الذين كانوا هناك قد أسلموا وتركوا ذلك العيد، ومع ذلك سأل عن ذلك سداً للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم، وكي لا تكون سبباً في إحياء أعيادهم في تلك البقعة.

فكما استدل من أجاز التهنئة بأن الأصل في الأشياء الإباحة نقيد هذه الإباحة بسد الذريعة فإن الله تعالى "جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، إلى أن يئول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر.

ولهذا وقع التأثير في بني آدم واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة، وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب من بعض أخلاقه؛ ولهذا صار الفخر والخيلاء في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة، وكذلك الكلابون، وصار في الحيوان الإنسي بعض أخلاق الإنس وقلة النفرة، فالمشابهة في الأمور الظاهرة توجب المشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان، فمشاركتهم في أعيادهم يوجب نوعا من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد أمر خفي علق الحكم به ودار التحريم عليه".

وكذلك من يتذرع بمسألة حسن الجوار والتعايش، فإن "المشابهة في الظاهر تورث نوع محبة ومودة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واجتمعا في بلد غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهم غير متوادين أو متعارفين؛ لأن الاشتراك في البلد فيه نوع وصف اختصاص عن بلد الغربة، بل لو كان بين الرجلين مشابهة في العمامة أو اللبسة أو المركوب لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك أرباب الصناعات تجد بينهم من المؤالفة والموافقة إذا كانوا من نوع واحد أكثر مما بين من يباينهم من الملوك أو الأمراء مثلا، هذا في الأمور الدنيوية فكيف بالأمور الدينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أشد، والموالاة لأعداء الله تنافي الإيمان، فإن الإيمان بالله ورسوله موجب عدم ولاية أعداء الله ورسوله، فثبوت ولايتهم موجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة، فتكون محرمة، ووجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة".

وفي آخر هذا المطاف أورد كلام سيّد قطب - رحمه الله - في الآية التي استدل بها الدكتور شرف القضاة وأيده الدكتور صلاح الخالدي.

قال: "هذه الأمة الواحدة: أمة التوحيد. وهذه القافلة الواحدة: قافلة الإيمان. فإذا هي ممتدة في الزمان، متميزة بالإيمان، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة.. إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم. أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى. وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها، بل كذلك في السيرة، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها ثم خلص منها هو ومن آمن معه، وتجرد لعقيدته وحدها: {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}..

وينظر المسلم فإذا له نسب عريق، وماض طويل، وأسوة ممتدة على آماد الزمان. وإذا هو راجع إلى إبراهيم، لا في عقيدته فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك. فيشعر أن له رصيدا من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه. إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله، الواقفين تحت راية الله، قد مرت بمثل ما يمر به، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته. فليس الأمر جديدا ولا مبتدعا ولا تكليفا يشق على المؤمنين.. ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها، إذا أنبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته. فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال.. الشجرة التي غرسها أول المسلمين.. إبراهيم..

مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون. وفيهم أسوة حسنة: {إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}..

فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم. وهو الكفر بهم والإيمان بالله. وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان. وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل. وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين.

ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه - وهو مشرك - ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين. فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}..

فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك. قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}.. كما جاء في سورة أخرى.

ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال:

{وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}..

وهذا التسليم المطلق لله، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين.

كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم.

ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}..

فلا تسلطهم علينا. فيكون في ذلك فتنة لهم، إذ يقولون: لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيرا ما تحيك في الصدور، حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان- لحكمة يعلمها الله- في فترة من الفترات. والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور.

وبقية الدعاء: {وَاغْفِرْ لَنا}..

يقولها إبراهيم خليل الرحمن. إدراكا منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوي الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده.

ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء:

{رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}..

العزيز: القادر على الفعل، الحكيم: فيما يمضي من تدبير.

وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}..

فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم، ويجدون فيها أسوة تتبع، وسابقة تهدي. فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة.. وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين.

فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج. من يريد أن يحيد عن طريق القافلة. من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق. فما بالله من حاجة إليه - سبحانه- {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}..

وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة ووجدوها طريقا معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها.

والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك - ولو كان وحده في جيل! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق! بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة. ينسم عليها بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام، وإلى صفوف المسلمين فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الود على أساسه الركين.. ثم يخفف عنهم مرة أخرى - وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان. فأما حين ينتفي العداء والعدوان فهو البر لمن يستحق البر، وهو القسط في المعاملة والعدل:

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ..}

إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين. وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله. فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظارا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس. فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.

وفي الآية الأولى من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين، وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة:

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}..

وهذا الرجاء من الله، معناه القطع بتحققه. والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة، وأن أسلمت قريش، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد، وأن طويت الثارات والمواجد، وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب.

{وَاللَّهُ قَدِيرٌ}.. يفعل ما يريد بلا معقب.

{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.. يغفر ما سلف من الشرك والذنوب..

وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم. ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئا. ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم. وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون.. ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.. وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف! وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف وتنويع.

وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد. وهو كذلك اعتداء. وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين.

ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها. فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله.

وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون. فمن وقف معهم تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم. ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصد الناس عنها، ولم يحل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه.

إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله. فلا خصومه على مصلحة، ولا جهاد في عصبية- أي عصبية- من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب. إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون عقيدته هي المنهج في الحياة.

ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.. إلخ»..

فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة. بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة. ولكن هذا إنما كان بعد ما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون! فانطبقت القاعدة الأخرى: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ».. وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية - وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها- من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود. وهي حالة اعتداء في صميمها. تنطبق عليها حالة الاعتداء. وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية. فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك» انتهى.

وكتب: خالد الحايك.

1 صفر 1433هـ - 26/12/2011م.

 

شاركنا تعليقك