الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«المُغْني» في هَدْمِ تأصيلِ العوني.

«المُغْني»

في هَدْمِ تأصيلِ العوني!

أو: «الصَّارمُ المُنكي» في هَدْمِ تأصيلِ حاتم العوني في تجويزه تهنئة الكفّار بعيد الميلاد!!

·       مقالات فيها تمرد على دعوة التوحيد!

الحمد لله على أفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعماً فألهمنا شكراً، والصلاة والسلام على نبيه المجتبى، وأصحابه النجبا، وبعد:

فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، ما فيه بعض من ينتسبون للعلم، من الأمور العظام التي تؤدي إلى البلاء، نسأل الله العافية.

فبين الفينة والأخرى يخرج علينا الدكتور حاتم العوني بـ«هِرْطَة» جديدة كهرطاته السابقات لتقحّمه ما لا يعرف فرعه فضلا عن أصله!! يخالف فيها السبيل الذي دلّ عليه الدليل، مدعياً التأصيل! وما هو إلا بناء واه أوهى من بيت العنكبوت! وسنريه كيف تُبنى البيوت، على أُسس التوحيد، بإذن الواحد المجيد.

ومما خرج به علينا الدكتور قبل هذا مقالة غمز فيها بالدعوة الوهابية المباركة = دعوة التوحيد، ومقالة ثانية قال إنه سيصدع فيها بالحقّ = الحق الذي يراه! غمز فيها بالعلماء الأجلاء. وصرّح بالتمرد عليهم لأنهم مقلدون!! ومقتضى ذلك أنهم ليسوا على الحقّ!! ولن يسكت عليهم بعد الآن!!

وكذلك أخرج لنا بعض الكتب الإنشائية التي وقع فيها بأشياء شنيعة! كشفت عن عدم قوته!!

ومنها: كتابه في الولاء والبراء، وملأه بالسخائم!! بل إن هذه الفتوى الباطلة هي نتيجة ذاك المعتقد الذي قرره في ذلك الكتاب! وأن عقيدة الولاء والبراء متعلقة بسماحة الإسلام ووسطيته - مما لبّس عليه الشيطان فيه - فأعرض عن فهم النصوص على حقيقتها ومرادها الشرعي! واختار نصوصاً توافق هواه ورأيه، وعلّق الولاء المكفّر على المحبة الدينية فقط!! وقد تصدى له الأخ العزيز أبو عُزير الجزائري فبيّن جناياته على الدعائم الإيمانية في أكثر من مائة وخمسين صفحة.

ومنها: كتابه في اختلاف المفتين، أبان فيه عن جهله الدفين!

وله كتاب «ملكة التفسير»!! وعنوانه يعني أن صاحبه عنده ملكة في التفسير! لأن الحديث عن الملكة يكون بعد ملك الملكة، وأين مشاركاته التفسيرية حتى نرى هذه الملكة التي يتحدث عنها؟!!

والدكتور فيه غرور معروف، ومعجب بنفسه كثيراً، و«الأنا» عنده عظيمة جداً!!! ومن تتبع كلمات الذين ردوا عليه تجدهم يجمعون على ذلك.

وقد كشفنا وبينا عوار منهجه في كتاب مستقل - ولله الحمد -، ومما ذكرناه إضافة إلى ذلك: أنه يقيم بحوثه على المغالطات، وبتر النصوص، وعدم فقهها!! وهذه هي الحالقة، والله المستعان.

وكأنه يطلّ علينا بهذه الشواذ على حد المثل القائل «خالف تُعرف!»

ونحوه قول الشاعر:

خلافاً لرأي من فيالة رأيه // كما قيل قبل اليوم: خالف فتذكر!

·       تأصيل الدكتور العوني!

وقبل البدء بهدم بنيانه وحفر الأخاديد لتأصيله المدّعى، نورد كلامه بتمامه:

يقول د. حاتم تحت عنوان: «تأصيل لبيان حكم تهنئة الكفار بأعيادهم» (30/12/2011م):

"الذي سبق ونشرته الصحف عني الأصل في حكم التعامل مع الكافر غير المعتدي هو الإحسان، كما في قوله تعالى: {لاَّ يَنْهَٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ}. والبر هو الإحسان، والقسط هو العدل. ومن لطيف التعبير في هذه الآية الكريمة: أنها جاءت بنفي النهي عن الإحسان والعدل، وليس بالأمر الصريح بهما؛ لأن الله تعالى يعلم أن الفطرة السوية التي فطرها سبحانه تميل إلى حب الإحسان والعدل مع غير المعتدي، فالنفوس الصحيحة تميل إلى ذلك بغير حث ولا تشجيع، ويكفيها بيان عدم النهي عنه ورفع التأثيم عليه لتسعى إليه وتعمل به. فجاء التعبير بعدم النهي، اكتفاء بدلالة الفطرة على حب هذا الفعل الفاضل! مع أن الآية لم تخل من حث على البر وترغيب في القسط، من اسميهما نفسه (البر) و(القسط)، فهذان الاسمان المتضمنان وصفي ثناء وحدهما يدلان على الترغيب فيهما. وكذلك ورد الترغيب في خاتمتها، في قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ}؛ إذ أيُّ حث أعظم من بيان حب الله لفعل من الأفعال؟! كما أن العدل قيمة ثابتة وواجب شرعي مع كل أحد، سواء أكان مسلماً أو كافراً معتدياً، فضلاً عن غير المعتدي، كما قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}. ومن هذا الأصل: الإحسان بالقول، ويدل عليه أيضاً على وجه الخصوص قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسَنًا}، وعبارة (للناس) تعم المسلم والكافر من الجنس البشري كله. فهذا أمر بالقول الحسن للناس كلهم، دون تخصيص. ومما ورد عن السلف في هذا الباب: ما أخرجه الإمام البخاري بإسناد حسن في (الأدب المفرد) عن عقبة بن عامر (رضي الله عنه): (أنه مر برجل هيئته هيئة مسلم، فسلم، فرد عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته. فقال له الغلام: إنه نصراني، فقام عقبة، فتبعه، حتى أدركه، فقال: إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك وأكثر مالك وولدك). فمع أنه (رضي الله عنه) أراد أن يعرف هذا النصراني أنه غير مستحق للرحمة المطلقة ولا للبركة التامة، إلا أنه دعا له بطول العمر وكثرة المال والولد!! وهنا لقائل أن يقول ممن ضعف فقهه في هذه الأبواب: هذا فيه دعاء للكافر بالتقوي على الكفر؛ فزيادة ماله وولده مما يقويه على المسلمين، وفيه أيضاً دعاء للكافر بأن يطول عمره على عداوة الله ورسوله بشركه وتكذيبه!! ولن أجيب عن هذه الاستشكالات الفارغة، ويكفيني هنا: أن هذا هو فقه أحد فقهاء الصحابة ممن نزلوا مصر وفقهوا أهلها، ألا وهو عقبة بن عامر (رضي الله عنه)!!! ولم تنته دروس الصحابة (رضوان الله عليهم) إلى هذا الحد: فقد أتبعه الإمام البخاري بأثر آخر صحيح عن فقيه الأمة ومفسرها عبدالله بن العباس - رضي الله عنه -، من حديث سعيد بن جبير عنه أنه قال: (لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، لقلت: وفيك. وفرعون قد مات). [يعني إن ابن عباس يقول ذلك مع العلم بنهاية فرعون وأنه مات على الكفر]. ففي هذا الأثر يستجيز ابن عباس - رضي الله عنه - الدعاء لفرعون بالبركة، خلافاً لعقبة بن عامر!! وواضح من إيراد الإمام البخاري للأثرين أحدهما عقب الآخر: أنه يريد أن يبين الاختلاف الواقع فيهما: بين مستجيز الدعاء بالبركة للكافر: وهو ابن عباس - رضي الله عنه -، وغير مستجيز: وهو عقبة بن عامر (رضي الله عنه)! فهل هذا كله من تمييع الدين؟!! وهل كنا سنحترم هذا الاجتهاد الجليل فيما لو ذكرته دون ذكر الصحابة القائلين به؟!

أما دعوى الإجماع على تحريم مطلق تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية فهي دعوى مستغربة، لعدم ورود نص فيها يلزم التسليم له حتى لو لم نعرف علته. فلا ورد في القرآن ولا جاء في السنة دليل خاص يدل على حرمة تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية، مما يدل على أن الإجماع المنقول إذا تحقق، فلا بد أن يكون مستنداً إلى أصول شرعية عامة وقواعد يقينية معلومة، وليس حكما تعبديا لا نعرف له علة ولا حكمة. ولذلك فإني أستغرب ممن يدعي الإجماع على تحريم مطلق التهنئة ولو بلفظ لا يدل على الرضا بالدين، بل ربما كان صريحا بعدم الرضا، كأن يهنئه المسلم شفاهة أو برسالة أو ببطاقة معايدة يكتب فيها: كل عام وأنت بخير، وكم أتمنى أن تنعم بالإسلام ورحمته! فأين هذه العبارة ونحوها من إيهام الرضا عن الدين؟!! وأعود مستغربا ممن يدعي تحقق الإجماع السكوتي في مسألة لا نص فيها كما سبق، نعم.. أستغرب ممن لا يقبل قول العالم إلا بدليل، ويعدّ اجتهاده من غير استدلال اجتهادا مرفوضا، ثم هو نفسه يقبل منه ما هو أشد من مجرد الاجتهاد بغير استدلال، وهو أن يزعم الإجماع. فما أن يدعي هذا العالم الإجماع حتى يصبح اجتهاده ليس فقط مقبولا بغير استدلال، بل يصبح اجتهادا لا تجوز مخالفته، وبغير استدلال أيضا؛ إلا من دعواه الإجماع! فكيف يكون اجتهاد العالم مردودا بغير استدلال، في حين أنه هو نفسه سيكون اجتهاده مقبولا وواجبا بل سيكون ملزما غيره مع أنه مازال اجتهادا بغير استدلال أيضا، إلا من دعواه الإجماع؟!

إن تحقيق الإجماع وإثبات حصوله كما أنه سياج مهم يحمي الشريعة من تطاول شطحات الاجتهاد، خاصة عند شيوع الجهل واتخاذ الرؤوس الجهلاء. إلا أن السماح لدعاواه التي لا دليل عليها، يفتح مجال التشريع بما لم يأذن به الله، ويضيف إلى مصادر التشريع مصدرا لا علاقة له بالوحي ولا بمصادر التشريع المجمع عليها؛ إلا من دعوى عدم العلم بالمخالف، حتى في الأمر الذي ليس فيه نص، ولا هو مما يستحيل عادة عدم نقل خلافه لو وقع، ولا توجب غلبة الظن نقله في أقل تقدير.

وهنا في مسألة حكم تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية: أتمنى أن يذكر لي المتعصبون للتحريم سلفهم عليه من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى ننظر هل هناك قول صحيح ومشتهر لهم في المسألة، مع عدم العلم بمخالفهم؟

أعيد التحدي بصورة واضحة: بعد الاتفاق على عدم وجود نص صريح في الكتاب والسنة يدل على حرمة تهنئة الكفار بأعيادهم، هل هناك آثار عن الصحابة أو التابعين أو تابعيهم تدل على تحريم هذه التهنئة (لا على حضور الأعياد وشهودها، فهذه مسألة غير مسألة التهنئة)، تدل على شهرة هذه المسألة بينهم، مما يصح بعد عدم وجود المخالف أن ندعي الإجماع عليها.

أما المطالبة بإيجاد نص عن السلف بالإباحة مع عدم وجود نص عنهم على التحريم، فهو جهل بطرائق الاستدلال؛ لأن على مدعي الإجماع البينة على دعواه، وإلا فستكون دعواه باطلة، وترجع المسألة بعد بطلان الإجماع إلى النصوص العامة وأصول الشريعة لاستخراج حكمها منها.

وهنا أنبه أنه لو كان هناك من حرم التهنئة من السلف، فمجرد الوجود لا يدل على حصول الإجماع؛ فإن عدم العلم بوجود من أباحها لا يدل على عدم وجوده في الواقع (عدم العلم لا يدل على العدم)، خاصة في مثل هذه المسألة، التي تفتقر للنقل فيها لمن قال بالتحريم من السلف، والذي لا بد أن يكون نقلا يدل على شهرة هذا القول بينهم، حتى يمكن الاستدلال بعدم وجود المخالف على عدم وجوده، ظنا غالبا أو يقينا.

فللإجماع السكوتي شرط لصحة الاحتجاج به، وهو غير متوفر في هذه المسألة! فيكفيك ضعف النقل فيها في جانب التحريم الذي تدعي عليه الإجماع.

وأما كلام ابن القيم الذي جعله المتعصبون للتحريم دليلا لتعصبهم (لا لترجيحهم) فهو قوله في كتابه (أحكام أهل الذمة): (فصل في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك، وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فأباحها مرة، ومنعها أخرى. والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة، ولا فرق بينهما. ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه، كما يقول أحدهم: متعك الله بدينك أو نيحك فيه، أو يقول له: أعزك الله أو أكرمك. إلا أن يقول: أكرمك الله بالإسلام، وأعزك به، ونحو ذلك، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة. وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد، ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده، يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه. وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه وإن بلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعا لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرا ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك وبالله التوفيق). انتهى كلامه (رحمه الله)، وهو صحيح لا إشكال فيه، لمن وفقه الله في فهمه.

فأولاً: تنبه لتفريق ابن القيم بين اللفظ الدال على الرضا بالدين والدال على عدم الرضا، وتفصيله بناء عليه حكم المسألة في التهنئة بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك. مما يدل على صحة هذا الأصل في حكم تهنئة الكفار، وأنه ليس تفصيلا مبتدعا ولا مبتورا عن أصول الدين.

ثانياً: تنبه أن ابن القيم لما نقل الاتفاق على تحريم التهنئة بأعياد الكفار الدينية علل ذلك بأنه يدل على التهنئة على الكفر، ومعنى ذلك أن هذا هو سبب التحريم عنده.

والحق أن هذا التعليل حتى لو لم يذكره ابن القيم للزم أن نذكره نحن دليلا لصحة قوله؛ لأنه لا دليل على التحريم سواه أصلا، كما سبق!

وحينئذ أقول: لا يقول قائل إن قول المسلم للكافر في عيده الديني: (أسعدك الله ومتعك بالعافية وهداك للتصديق بالإسلام) فيه تهنئة له بالكفر ويدل على الرضا عن دينه. ولا يقول عاقل أيضا: إن هذه العبارات ليست تهنئة، فقد قال ابن القيم (الذي احتجوا بكلامه على مطلق التحريم): (إلا أن يقول أكرمك الله بالإسلام وأعزك به ونحو ذلك، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة).

ثالثاً: تعليل ابن القيم بذلك التعليل يجعل التهنئة التي لا تدل على الرضا بالدين غير داخلة أصلا في كلامه، ولا فيما نقل الإجماع عليه.

وعليه: فيبقى النقاش بعد هذا التقرير حول عبارات التهنئة: هل يمكن أن لا تدل على الرضا عن الدين والتهنئة بالكفر؟ أم لا يمكن فيها ذلك؟ فإن أمكن، بنحو العبارات السابقة من التهنئة بالأمور المشتركة، بل المضموم إليها دعوته للإسلام، يكون ادعاء استحالة وجود تهنئة للكفار بأعيادهم لا تتضمن الرضا عن دينهم ادعاءً باطلا مخالفا للواقع، وهذا هو الواقع!" انتهى كلامه.

·       مغالطات وقصور في الفهم!

أقول:

كلام الدكتور حاتم قائم على المغالطات والقصور في الفهم! وفيه ثغرات خطيرة وتوجيه غير صحيح يُحكّم فيه العقل ولا ينقاد للنقل ـ بمقتضى الفعل التّعبدي ـ ويرى التعليل واجباً فيه، وهذا مذهب عقلي فاسد بناه المعتزلة ففرغوا المنهيات من الدلالة الصوّالة بحجة أن العقل لم يُعلّلها ـ حسنا أو قبحا ـ فضلوا وأضلوا!!

وهذا الدكتور المُتسلّق بنى تأصيلاته العقدية على هذا المنحى الاعتزالي في باب الولاء والبراء بقوله: "أما دعوى الإجماع على تحريم مطلق تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية فهي دعوى مستغربة، لعدم ورود نص فيها يلزم التسليم له حتى لو لم نعرف علته. فلا ورد في القرآن ولا جاء في السنة دليل خاص يدل على حرمة تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية، مما يدل على أن الإجماع المنقول إذا تحقق، فلا بد أن يكون مستنداً إلى أصول شرعية عامة وقواعد يقينية معلومة، وليس حكما تعبدياً لا نعرف له علة ولا حكمة"!

فلا تشترط ـ عند الفحول أصحاب الأصول ـ معرفة العلّة أو الحكمة في الأمور التعبدية سواء كان نص قرآن، أو دلالة سنة، أو مُتفق بإجماع!!

ولو كان هذا الدكتور منقاداً للشريعة في باب الولاء والبراء ـ بمقتضى التعبد وبدون تعليل ـ لكفاه قوله ـ تعالى ـ: {والذين لا يشهدون الزور}، فأجمع أهل العلم في تفسير الزور أنه الباطل سواء كان شركاً أو غناءً أو كذباً، فهل عيد الكفار لا يجمع هذا الباطل ـ بثلاثه ـ، وبه تبيّنت العلة وتوضّحت في أعياد الكفار، أنها زور فهل يجوز تهنأة أصحاب ذاك الزور ـ بثلاثه ـ؟!

فالأمر سهل وفيه الدلالة القصوى من الوضوح والبيان، ومع هذا نتطرق لخزعبلات العوني لنرى هل له في ذلك شبهة دليل سرقت ذهنه، أم هو الانبطاح وتمييع باب التوحيد الأكبر؟!

·       الرجوع إلى أصحاب اللسان وأهل البيان: البر غير الإحسان.

الأولى: قوله: " والبر هو الإحسان، والقسط هو العدل"!

قلت: البر غير الإحسان، عند أصحاب اللسان، والبر هنا: بر مواساة وليس بر موالاة!!

قَال في «جمهرة اللغة»: "والبِرّ على وُجُوه، فَمِنْهُ الصِّلَة كَقَوْلِهِم: بَرَّك الله، وَقَوله جلّ ثَنَاؤُهُ: أَن تَبَرّوهم وتُقْسِطوا إِلَيْهِم".

والبر ضِدُّ العُقُوق، وَهُوَ الإسَاءَةُ إِلى الأقربين والتَّضْييع لِحَقِّهِمْ. ومنه بر الوالدين، وهو الاتساع في الإحسان إليهم.

والمعنى الذي في الآية هو الصلة، والصلة قد تكون بالسؤال أو بالمال أو حسن الكلام، ولا يدخل فيها التهنئة بالأعياد الكفرية ولا الشخصية؛ لأنها تعدّ من الموالاة، والموالاة لا تدخل في هذا البر.

قال الشَّافِعِيُّ - رحمه الله -: "وَكَانَتِ الصِّلَةُ بِالْمَالِ، وَالْبِرِّ، وَالْإِقْسَاطِ، وَلِينِ الْكَلَامِ، وَالْمُرَاسَلَةِ بِحُكْمِ اللَّهِ غَيْرَ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْوَلَايَةِ لِمَنْ نُهُوا عَنْ وَلَايَتِهِ مَعَ الْمُظَاهَرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبَاحَ بِرَّ مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ إِلَى مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ بَلْ ذَكَرَ الَّذِينَ ظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ فَنَاهُمْ عَنْ وَلَايَتِهِمْ إِذْ كَانَ الْوَلَايَةُ غَيْرَ الْبِرِّ وَالْإِقْسَاطِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَادَى بَعْضَ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ مِمَّنْ مَنَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ وَالتَّأْلِيبِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلِسَانِهِ، وَمِنْ بَعْدِ بَدْرٍ عَلَى ثُمَامَةَ بنِ أُثَالٍ، وَكَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَسْرِهِ وَأَسْلَمَ ثُمَامَةُ وَحَبَسَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُمِيرَهُمْ فَأَذِنَ لَهُ فَمَارَهُمْ...".

قال الشنقيطي في «أضواء البيان» عند تفسير هذه الآية: "وَهَذَا الَّذِي صَوَّبَهُ ابنُ جَرِيرٍ وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - الَّذِي تَقْتَضِيهِ رُوحُ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، أَمَّا وِجْهَةُ النَّظَرِ الَّتِي وَعَدْنَا بِتَقْدِيمِهَا فَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مُشْتَرِكَةٌ مَصَالِحُهُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَمُرْتَبِطَةٌ بِمَجْمُوعِ دُوَلِ الْعَالَمِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا يُمْكِنُ لِأُمَّةٍ الْيَوْمَ أَنْ تَعِيشَ مُنْعَزِلَةً عَنِ الْمَجْمُوعَةِ الدَّوْلِيَّةِ؛ لِتَدَاخُلِ الْمَصَالِحِ وَتَشَابُكِهَا، وَلَاسِيَّمَا فِي الْمَجَالِ الِاقْتِصَادِيِّ عَصَبِ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ مِنْ إِنْتَاجٍ أَوْ تَصْنِيعٍ أَوْ تَسْوِيقٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُسَاعَدَةً عَلَى جَوَازِ التَّعَامُلِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُسَالِمِينَ وَمُبَادَلَتِهِمْ مَصْلَحَةً بِمَصْلَحَةٍ عَلَى أَسَاسِ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فِي حَقِيقَةِ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي عِدَّةِ مُنَاسَبَاتٍ مِنْ مُحَاضَرَاتِهِ وَمِنَ الْأَضْوَاءِ نَفْسِهِ، وَبِشَرْطِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مِنْ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ أَيْ: عَدَمُ الْمَيْلِ بِالْقَلْبِ، وَلَوْ قِيلَ بِشَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ يَتَعَاوَنُ أَوَّلًا مَعَ بَعْضِهِ، فَإِذَا أَعْوَزَهُ أَوْ بَعْضَ دُوَلِهِ حَاجَةٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَدُوًّا عَلَى قِتَالِهِمْ فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ عَمَلِيًّا مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِلْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ.

فَمِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ أَوَّلا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، وَمَنْصُوصٌ عَلَى عَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا أَخْرَجَهُمْ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمَدِينَةِ وَحَاصَرَهُمْ بَعْدَهَا فِي خَيْبَرَ، وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَصْبَحُوا فِي قَبْضَةِ يَدِهِ فَلَمْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْمُقَاتِلِينَ، وَلَا مُظَاهِرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ عَامَلَهُمُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - بِالْقِسْطِ فَعَامَلَهُمْ عَلَى أَرْضِ خَيْبَرَ وَنَخِيلِهَا وَأَبْقَاهُمْ فِيهَا عَلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ كَأُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لِحِسَابِهِ وَحِسَابِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَتَّخِذْهُمْ عَبِيدًا يُسَخِّرُهُمْ فِيهَا، وَبَقِيَتْ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْقِسْطِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ ابْنِ رَوَاحَةَ - رضي الله عنه - لَمَّا ذَهَبَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مَا عَرَضُوا مِنَ الرِّشْوَةِ؛ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةَ: وَاللَّهِ لِأَنْتَمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ وَجِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَلَنْ يَحْمِلَنِي بُغْضِي لَكُمْ، وَلَا حُبِّي لَهُ أَنْ أَحْيَفَ عَلَيْكُمْ، فَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا بِنِصْفِ مَا قُدِّرَتْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا قُدِّرَتْ، فَقَالُوا لَهُ: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَيْ: بِالْعَدَالَةِ وَالْقِسْطِ، وَقَدْ بَقُوا عَلَى ذَلِكَ نِهَايَةَ زَمَنِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخِلَافَةَ الصِّدِّيقِ، وَصَدَراً مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عَنْهَا.

وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ أَعْطَاهُمْ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَعْطَاهُمُ الصِّدِّيقُ حَتَّى مَنَعَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَهَمِّيَّتِهَا وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا الْيَوْمَ".

قلت: فهذا التفسير من الإمام الشنقيطي وهو يعرف الحال الذي وصل إليه العالَم من التقارب في كلّ شيء، وأن المسلمين لا يمكنهم أن يستغنوا عن الكفّار في مجالات كثيرة، ولهذا أطال في هذه المسألة، ولم يذكر المسألة التي ينازع فيها الدكتور حاتم؛ لأنها مسألة متفق على عدم جوازها؛ لأنها تتعلق بالعقيدة. وقد أطال في ذكر الأمثلة من حسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود ولم يُنقل لنا أنه هنأهم في أعيادهم ولو بكلمة واحدة.

·       التعامل مع آيات الكتاب الحكيم: التحية والبر والقسط غير التهنئة بالعيد!

الثانية: قوله: "والقسط هو العدل... مع أن الآية لم تخل من حث على البر وترغيب في القسط، من اسميهما نفسه (البر) و(القسط)، فهذان الاسمان المتضمنان وصفي ثناء وحدهما يدلان على الترغيب فيهما. وكذلك ورد الترغيب في خاتمتها، في قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ}؛ إذ أيُّ حث أعظم من بيان حب الله لفعل من الأفعال؟! كما أن العدل قيمة ثابتة وواجب شرعي مع كل أحد، سواء أكان مسلماً أو كافراً معتدياً، فضلاً عن غير المعتدي، كما قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}..".

أقول: وما شأن العدل في مسألة التهنئة؟! فهل إذا منعنا تهنئتهم نكون قد ظلمناهم ولم نعدل بينهم؟!!

إن هذا لقولٌ عُجاب!!

نعم، القِسْط هو: العَدْل، ورجل مُقْسِط، أَي عَادل. والقِسْط: الجَوْر، رجل قاسط، أَي جَائِر، وَكَذَا فُسِّر فِي التَّنْزِيل قَوْله جلّ وعزّ: {إنّ الله يُحِبُّ المُقْسِطين} يَعْنِي العادلين.

والإقْساط الْعدْل فِي الْقِسْمَة وَالْحكم، يُقَال: أقْسَطْتُ بَينهم وأقْسَطْتُ إِلَيْهِم، وَقد أخذَ كلُّ واحدٍ مِنْهُم قِسْطَهُ أَي: حِصَّتَهُ، وَقد تَقَسَّطُوا الشَّيْء بَينهم أَي اقْتَسَمُوهُ على السواءِ والعدلِ.

ولنعرض للدكتور أين جاءت هذه الآيات ومعناها في القرآن الكريم:

قال سبحانه مخاطباً نبيه إذا أتاه اليهود ليحكموه: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الزاني المحصن عندهم فوجد في التوراة أنه الرجم كما جاء في شريعتنا فحكم به.

وقال تعالى في اقتتال المؤمنين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}

وبعد أن ذكر الله عز وجل الاقتتال بين فئتين مؤمنتين واعتداء وجور إحداهما، والأمر بقتالها حتى تعود إلى أمر الله، أمر سبحانه بالقسط بينهم فقال: {وَأَقْسِطُوا} أي اعدلوا بينهما.

فاللَّهَ عزّ وجلّ يُحِبُّ الْعَامِلِينَ فِي حُكْمِهِ بَيْنَ النَّاسِ، الْقَاضِينَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَأَمَرَ أَنْبِيَاءَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم.

فالعدل أمر ثابت في الشرع مأمور به في كل الأحوال وبين كل النّاس، وهذا لا ينكره أحد، والأمر به في الآية التي استدل بها الدكتور لا علاقة له بالمسألة التي هي محل النزاع، وهي تهنئة الكفار بأعيادهم؛ بل إن الآية حجة عليه في مقولته!! فالله عز وجل أجاز الصلة لهؤلاء الكفار من المسلمين ليكون سبباً في إسلامهم، ولا شك أن حسن المعاملة تؤثر في النفوس، وكذلك أمر بأن نعدل فيهم، ولا نغمطهم حقوقهم، وهذا لا علاقة له بكفرهم وأعيادهم، وغير ذلك.

·       التجني على آيات الكتاب المبين!

الثالثة: "ومن لطيف التعبير في هذه الآية الكريمة: أنها جاءت بنفي النهي عن الإحسان والعدل، وليس بالأمر الصريح بهما؛ لأن الله تعالى يعلم أن الفطرة السوية التي فطرها سبحانه تميل إلى حب الإحسان والعدل مع غير المعتدي، فالنفوس الصحيحة تميل إلى ذلك بغير حث ولا تشجيع، ويكفيها بيان عدم النهي عنه ورفع التأثيم عليه لتسعى إليه وتعمل به. فجاء التعبير بعدم النهي، اكتفاء بدلالة الفطرة على حب هذا الفعل الفاضل!".

أقول: هذا الكلام فيه افتراء على الله عزّ وجلّ، والعياذ بالله!!

فقد قرر الدكتور أن الفطرة السوية التي فطرها سبحانه تميل إلى حب الإحسان والعدل مع غير المعتدي!! فنسب ذلك إلى الله خلقة! ثم جعل من يميل إلى حب الإحسان والعدل (!) مع غير المعتدي فطرته سوية، ومفهوم المخالفة أن من أبغضهم فطرته ليست سوية!!

وإنما أُتي الدكتور من تمييعه للنصوص الشرعية وميله إلى حبّ غير المسلمين، ولهذا وضع الشيء في غير محله.

والنهي في الآية {لا ينهاكم} للإباحة وليس للوجوب ولا للاستحباب، فمن لم يفعل أصاب للكفر المانع رضى لله تعالى ولذلك ترك الله عز وجل الآية للإباحة لعلة الكفر والبراء فيه المتبقية.

فالآية تضم صنفان من الأعداء والكفار: مسالمٌ ومحارب! والمسالم - سواء كان ذمياً أو مهادناً أو معاهداً - لم ينهنا الله أن نبره ونحسن إليه. والإقساط إليهم يكون بإعطائهم المال وغيره. وأما المحارب فالإقساط يكون بمحاربته وإذلاله.

وهذان الصنفان لم يخرجا من عموم قوله تعالى: {عدوي وعدوكم}، فكل كافر عدوّ سواء كان مسالماً أم محارباً، والحبّ والبغض متعلق بهذا الوصف، فلو أحسنا إلى المسالمين منهم فهذا لا يعني أننا نحبهم، بل نبغضهم لكفرهم، وإنما كان هذا الإحسان إليهم بسبب عدم مقاتلتهم للمسلمين، وكذلك طمعاً في دخولهم لهذا الدّين. [انظر: الجنايات العونية على الدعائم الإيمانية: ص101].

فالأمر ليس متعلقاً بالفطرة كما زعم الدكتور!! وفي إشارته أن هذا التعبير بعدم النهي اكتفاء بدلالة الفطرة مخالفاً للفطرة السليمة في بغض الكفّار. فها هو النبي صلى الله عليه وسلم لم يظهر أي حبّ لقومه الذين لم يسلموا وبقوا على كفرهم، وإنما كان يتمنى أن يدخلوا في الإسلام.

بل الفطرة السليمة دون الشرعة المنزّهة فيها البغض الكفر والكفار وتقبيح فعلهم قبل ورود دلالة الهداية للإسلام!! فها هو إبراهيم يُقبّح دين قومه ويستدل بالكبير في الأحقية بالعبادة، فاستدل بالقمر والكوكب والشمس، فالفطرة فطرت للانقياد للكبير فقط، فما كان صغيراً تنفر منه، فأين خزعبلاتك من هذه؟!!

·       من أين استمد الدكتور العوني «أفكاره العصرية»!!

ثم وجدت من أين التقط الدكتور حاتم هذه الفكرة، وسائر أفكاره!!!

هذه هي فكرة الشيخ سلمان العودة في مقاله «بين الولاء الإسلامي والفطري»، والمنشور في موقع الإسلام اليوم بتاريخ (20/2/1428هـ)، حيث تكلم الشيخ حول الحبّ الفطري، الذي سماه «الولاء الفطري» وقد بالغ في إظهاره وتسويقه وتسويغه، وجعل عداوةَ الكافرين - التي سماها: موالاة غير المؤمنين - في المحاربين فقط!!!

فهذا هو منشأ فكرة العوني أخذها = (سرقها) من صاحبه العودة!!! - إلا إذا استأذنه في ذلك!!-

·       شبهة!!

قال قائل: "المحبة الفطرية لا تنافي البراء المتمثل في العداوة والبغضاء لأجل الدين فالمرء قد يحب زوجته النصرانية المحصنة لرباط الزوجية الذي يقتضي المودة والرحمة في الزوجية ولكنه من جانب آخر يبغض الجانب المظلم من هذه المرأة وهو جانبها الديني واجتماع توجه الحب والبغض إلى إنسان واحد من جانبين مختلفين في هذا الإنسان متصور عقلا وملاحظ طبعا، وهذا الاجتماع بين العواطف الذي يتحمله القلب هو ما دفع إبراهيم عليه السلام إلى الاستغفار لأبيه وهو ما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تدمع عيناه حينما لم يؤذن له بالاستغفار لأمه"!!

أقول: لكن المحبة الفطرية محبة مواساة وليست محبة موالاة!! فكيف الجمع بينهما؟! هو ضابط الدين.

ونصح الكافر لا يجوز، للأحاديث المقيدة في المسلم، فكل ما يقوي الكافر لا يجوز النصح فيه، فكيف تنصح لزوجتك الكتابية؟!

وهذا يدل على اضطراب القوم في هذه المسائل.

بل إن مسألة الزواج من الكتابية قد حملوها أكثر مما تطيق!!! والآن لا يفعلها أحد إلا لمصلحة ولا يهمه لا دين ولا غيره!!!

والأصل أن لا دخل للعواطف في الولاء أبداً! ومن الإحسان العاطفي الخبيث يريدون تمييع الولاء الذي هو ركيزة الإيمان.

·       الرجوع إلى أهل التفسير:

الرابعة: قوله: "كما قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}. ومن هذا الأصل: الإحسان بالقول، ويدل عليه أيضاً على وجه الخصوص قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسَنًا}، وعبارة (للناس) تعم المسلم والكافر من الجنس البشري كله. فهذا أمر بالقول الحسن للناس كلهم، دون تخصيص".

أقول: هذا واحد من الاختيارات وليس هو القول الفصل في هذه الآية.

فأهل التفسير لهم سبعة وجوه في تفسير هذه الآية، قد ذكرها ابن أبي حاتم في تفسيره. والآية سيقت في الكلام على اليهود: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}، وهذه الأوجه السبعة هي:

1- عنِ ابنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} قَالَ: "الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ".

2- عَن أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} قال: "قُولُوا لِلنَّاسِ مَعْرُوفًا".

3- عَن أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وعكرمة فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}: "لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ".

4- عَن مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} قَالَ: "قُولُوا فِي مُحَمَّدٍ صِدْقًا أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلا تَكْتُمُوا أَمْرَهُ، وَقُولُوا صِدْقًا فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَحُدُودِهِ".

5- عن الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وقولوا للناس حسناٍ}: "فالحسن من الْقَوْلِ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عن الْمُنْكَرِ، وَتَحْلُمُ وتعفوا وَتَصْفَحُ، وَتَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللَّهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٌ رَضِيَهُ اللَّهُ".

6- عَن إِسْمَاعِيلَ بنِ أَبِي خَالِدٍ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} قَالَ: "هَذِهِ الآيَةُ أُمِرَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ" - يعني منسوخة، وهذا قول قتادة أيضاً.

7- عَن أَسَدِ بنِ وَدَاعَةَ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلا يَلْقَى يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا إِلا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُسَلِّمُ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ؟ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَهُوَ السَّلامُ".

وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ نَحْوُ قَوْلِ أَسَدِ بنِ وَدَاعَةَ.

قال الحافظ ابن كثير: "وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، ولينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فالحُسْن مِنَ الْقَوْلِ: يأمُر بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ، وَيَعْفُو، وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللَّهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُق حَسَنٍ رَضِيَهُ اللَّهُ".

ثم قال: "وَمِنَ النُّقُولِ الْغَرِيبَةِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِي، حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بنُ يُوسُفَ - يَعْنِي التِّنِّيسِي - حَدَّثَنَا خَالِدُ بنُ صَبِيح، عَن حُمَيْدِ بنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَسَدِ بنِ وَدَاعة: أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلَا يَلْقَى يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ تُسَلِّمُ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وَهُوَ: السَّلَامُ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِي، نَحْوَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُبْدَؤُونَ بِالسَّلَامِ، والله أعلم" انتهى.

قلت: هذا النقل منكر!!

وعلى فرض أن هذه الآية عامة فليس فيها ما يؤيد مسألة التهنئة بأعيادهم! فها هو الحافظ ابن كثير قد استغرب هذا النقل عن بدء المشركين بالسلام، فكيف نهنئهم بأعيادهم الكفرية؟!

فالقول الحسن والمعاملة الحسنة معهم شيء، والتهنئة شيء آخر، ولكن الدكتور لا يفرق بينهما!!

·       الآثار التي استدل بها الدكتور وبيان نكارتها!!

الخامسة: "ومما ورد عن السلف في هذا الباب: ما أخرجه الإمام البخاري بإسناد حسن في (الأدب المفرد) عن عقبة بن عامر (رضي الله عنه): (أنه مر برجل هيئته هيئة مسلم، فسلّم، فرد عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته. فقال له الغلام: إنه نصراني، فقام عقبة، فتبعه، حتى أدركه، فقال: إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك وأكثر مالك وولدك). فمع أنه (رضي الله عنه) أراد أن يعرف هذا النصراني أنه غير مستحق للرحمة المطلقة ولا للبركة التامة، إلا أنه دعا له بطول العمر وكثرة المال والولد. وهنا لقائل أن يقول ممن ضعف فقهه في هذه الأبواب: هذا فيه دعاء للكافر بالتقوي على الكفر؛ فزيادة ماله وولده مما يقويه على المسلمين، وفيه أيضاً دعاء للكافر بأن يطول عمره على عداوة الله ورسوله بشركه وتكذيبه!! ولن أجيب عن هذه الاستشكالات الفارغة، ويكفيني هنا: أن هذا هو فقه أحد فقهاء الصحابة ممن نزلوا مصر وفقهوا أهلها، ألا وهو عقبة بن عامر (رضي الله عنه)!!! ولم تنته دروس الصحابة (رضوان الله عليهم) إلى هذا الحد: فقد أتبعه الإمام البخاري بأثر آخر صحيح عن فقيه الأمة ومفسرها عبدالله بن العباس - رضي الله عنه -، من حديث سعيد بن جبير عنه أنه قال: (لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، لقلت: وفيك. وفرعون قد مات). [يعني إن ابن عباس يقول ذلك مع العلم بنهاية فرعون وأنه مات على الكفر]. ففي هذا الأثر يستجيز ابن عباس (- رضي الله عنه -) الدعاء لفرعون بالبركة، خلافاً لعقبة بن عامر!! وواضح من إيراد الإمام البخاري للأثرين أحدهما عقب الآخر: أنه يريد أن يبين الاختلاف الواقع فيهما: بين مستجيز الدعاء بالبركة للكافر: وهو ابن عباس (- رضي الله عنه -)، وغير مستجيز: وهو عقبة بن عامر (رضي الله عنه)! فهل هذا كله من تمييع الدين؟!! وهل كنا سنحترم هذا الاجتهاد الجليل فيما لو ذكرته دون ذكر الصحابة القائلين به؟!" انتهى.

أقول: هذه الأمثلة أوردها الدكتور للأصل الذي ذكره قبل: "الإحسان بالقول"، وبنى عليه جواز التهنئة لأنها - عنده - من الإحسان بالقول!!

ونحن لا نخالف الدكتور في مسالة الإحسان إليهم بالقول، ولكن نزاعنا معه في إدخال تهنئتهم بأعيادهم في هذا الأصل!!

حتى الأدلة التي ذكرها لا تصفو له كما سنبينه في الآتي. وقد بنى الدكتور بنيانه على جُرف هار!! لأنه اتخذ فهماً لبعض الصحابة - لو صحّ عنهم - وعارض به الآيات المحكمات.

وهذه - والله - بلية عظيمة، فإذا أراد صاحب فكرة أن يدعم فكرته بحث عن بعض الأقوال والآثار وساقها وادّعى بأن هذا هو التأصيل الأصيل الذي لا محيد عنه! وإذا خالفت هذه الآثار أو الأقوال مذهبه قال بأن قول الصحابي أو فهمه ليس بملزم كما تقرر عند الأصوليين!!!

وللعلم فإن أثر ابن عباس الذي ساقه الدكتور هنا أخذه أيضاً من مقالة سلمان العودة التي بنى كل كلامه عليها!!

فقد بوّب الإمام البخاري في «الأدب المفرد»: «باب كيف يدعو للذمي»:

قال حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ تَلِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَاصِمُ بنُ حَكِيمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ يَحْيَى بنَ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيَّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: «أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ هَيْئَتُهُ هَيْئَةُ مُسْلِمٍ، فَسَلَّمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، فَقَامَ عُقْبَةُ فَتَبِعَهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ فَقَالَ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنْ أَطَالَ اللَّهُ حَيَاتَكَ، وَأَكْثَرَ مَالَكَ وَوَلَدَكَ».

ورواه البيهقي في «السنن الكبير» (9/203) من طريق بحر بن نصر بن سابق المصريّ، عن ابن وهب، به.

وهذا تفرد به ابن وهب!!

ورواه البيهقي أيضاً في «شعب الإيمان» (6/462) من طريق بحر بن نصر أيضاً عن عبدالله بن وهب، قال: سمعت عبدالله بن عمر يحدّث عن نافع: أن عبدالله بن عمر سلّم على أناس من يهود، فأخبر أنهم يهود فرجع إليهم، فقال: «رُدوا عليّ سلامي».

ثم رواه أيضاً من الطريق نفسها عن عَبْداللهِ بنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّرِيُّ بنُ يَحْيَى، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «رُدَّ عَلَيَّ سَلَامَي»، قَالَ لَهُ: نَعَمْ، قَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: «أَكْثَرَ اللهُ مَالَكَ وَوَلَدَكَ».

·       تفردات عبدالله بن وهب!

قلت: فهذه الاثار كلها رواها عبدالله بن وهب، ولم يتابع عليها! وهو ثقة إلا أن له تفردات غريبة!

فحديث عقبة بن عامر وهو مصري، رُوي من طريق شامي! تفرد به ابن وهب المصري، فهو غريب!!

ثم ساق القصة نفسها من حديث ابن عمر.

أما الإسناد الأول فرواه عن عبدالله بن عمر العُمري وهو ضعيف. وأما الثاني فلا يُعرف لسليمان التيمي رواية عن ابن عمر. وظاهر القصة أنها مرسلة. وعادة ما ينتشر في المراسيل بعض الزيادات المنكرة إذا كان للحديث أو القصة أصل.

·       القصة الصحيحة عن ابن عمر:

روى الإمام البخاري في «الأدب المفرد»، «بَاب إِذَا سَلَّمَ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَلَمْ يَعْرِفْهُ» قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْفَرَّاءِ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ - هو ابن جدعان - قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِنَصْرَانيٍّ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، فَلَمَّا عَلِمَ رَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رُدَّ عَلَيَّ سَلامِي.

قلت: وهذا إسناد لا بأس به.

فالقصة الصحيحة عن ابن عمر هكذا - وهي كذلك في رواية عبدالله بن عمر العمري الضعيف السابقة - دون الدعاء في آخره.

وهذا يعني أن هذا الدعاء منكر!!

ورُويت القصة من طريق آخر فيها لماذا كان هذا الدعاء من ابن عمر!

رواه أبو بكر الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (6/179) قال: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بنُ عَبْدِاللهِ، قال: حدثنا هَوْذَةُ بنُ خَلِيفَةَ، قال: حدثنا ابنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّد بن سيرين، قَالَ: «مَرَّ ابنُ عُمَرَ عَلَى رَجُلٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَازَ؛ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ كَافِرٌ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رُدَّ عَلَيَّ السَّلامَ. فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَكْثَرَ اللهُ مَالَكَ وَوَلَدَكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى أصحابه، فَقَالَ: هَذَا أَكْثَرُ لِلْجِزْيَةِ».

ورواه الخلال «أحكام أهل الملل والردة من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل» رقم (1099) قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مهنا، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ صَاحِبُ السلعة، عَنْ ابن عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فساقه.

قلت: هوذة ضعيف لا يُحتج به. وقد توبع عليه، تابعه يوسف بن يعقوب صاحب السلعة، وهو صدوق صالح، لكن روايته عن ابن عون غريبة، وهو قد سمع من سليمان التيمي، فلعل الحديث السابق عن التيمي هو حديث، فالله أعلم.

على أن هذه الرواية غير ثابتة أيضاً. تفرد بها مهنى الشامي، وقد وثقه الدارقطني، وقال الأزدي: "منكر الحديث".

وهذه القصة لو كانت معروفة عن محمد بن سيرين لرواها أصحابه الثقات. والقصة كما ذكرت مشهورة عند البصريين مرسلة، والإرسال يدخل ما يدخله من الألفاظ والزيادات المنكرة.

ولو صحت هذه الرواية لكان دعاء ابن عمر له بكثرة المال والولد من أجل تكثير الجزية التي يدفعها النصراني في ظل الدولة الإسلامية، فهو قد خصّه بذلك، وهو اجتهاد منه، ولذلك نظر إلى أصحابه وأخبرهم بهذا، ولو كان عند ابن عمر عنده شيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لما علل هذا الدعاء بتكثير الجزية، وظاهره أن أصحابه سينكرون عليه ذلك، فلهذا وضح لهم سبب دعائه.

فالدعاء لهم من ابن عمر ليس على إطلاقه وإنما لسبب وهم يعيشون في الدولة الإسلامية. والذي أميل إليه أن هذا الدعاء لا يصح عنه، وهو منكر!

·       استدراك على الألباني!

وقد ذكر الشيخ الألباني هذا الخبر في «إرواء الغليل» برقم (1274) (خبر ابن عمر: أنه مر على رجل فسلم عليه فقيل له: إنه كافر، فقال: رد على ما سلمت عليك، فقال: أكثر الله مالك وولدك، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أكثر للجزية".

قال الألباني: "لم أقف عليه بهذا التمام. وقد أورده الشيخ ابن قدامة (8/536) بدون عزو، وقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1115) مختصراً من طريق أبي جعفر الفراء عن عبدالرحمن قال: "مر ابن عمر بنصراني، فسلم عليه، فرد عليه، فأخبر أنه نصراني، فلما علم رجع، فقال: رد علي سلامي". قلت: ورجاله ثقات غير عبدالرحمن وهو ابن محمد بن زيد بن جدعان، قال ابن أبي حاتم (2/2/280ـ281): " روى عن عائشة، روى عنه عبدالرحمن بن أبي الضحاك". قلت: وقد روى عنه أبو جعفر الفراء أيضاً هذا الأثر، فهو مجهول الحال. وله شاهد عن عقبة بن عامر الجهني: "أنه مر رجل هيئته هيئة رجل مسلم، فسلم فرد عليه عقبة: وعليك ورحمة الله وبركاته، فقال له الغلام: أتدرى على من رددت؟ قال: أليس برجل مسلم؟ فقالوا: لا، ولكنه نصراني، فقام عقبة فتبعه حتى أدركه، فقال: إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك، وأكثر مالك". أخرجه البخاري فى "الأدب المفرد" (1112) والبيهقي (9/203) من طريق ابن وهب: حدثني عاصم عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن أبيه عنه. قلت: وهذا إسناد حسن".

قلت: قد تقدم تخريجه، والكلام على كلا الحديثين. أما الأول الذي ضعفه بجهالة حال عبدالرحمن فهو حسن، وأما حديث عقبة الذي حسنه فهو فرد غريب! تفرد به ابن وهب، ولم يروه إلا عاصم بن حكيم عن يحيى!

·       آثار أخرى منكرة!!

فالدعاء للكافر بكثرة المال والولد منكرٌ جداً. وقد وردت بعض الآثار الأخرى في ذلك، منها:

1- ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (5/255)، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بنُ مُبَارَكٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ يَهُودِيًّا حَلَبَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ»، فَاسْوَدَّ شَعْرُهُ.

ورواه عبدالرزاق في «مصنفه» (10/392) عن معمر، به. بلفظ: "فاسود شعره حتى صار أشد سواداً من كذا وكذا".

قال معمر: وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش نحواً من سبعين سنة لم يشب.

ورواه أبو داود في «المراسيل»، باب ما جاء في الدعاء للذمي، رقم (492) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع، عن ابن مبارك، عن معمر، به.

ورواه ابن السنّي في «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول إذا قضى له حاجة، رقم (285) قال: أخبرنا القاسم بن نصر، قال: أنبأنا الخليل بن عمرو البغوي، قال: حدثنا عبدالله بن المبارك، عن معمر، عن قتادة، عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: حلب رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهم جمله» فأسود شعره.

قلت: هذا إسناد معلول! وزيادة أنس فيه منكرة! والصواب ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع عن ابن المبارك عن معمر عن قتادة مرسلاً، ليس فيه أنس. وقد وهم فيه الخليل بن عمرو فوصله!

2- ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (5/255)، قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ادْعُ لِي، فَقَالَ: «أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَكَ، وَوَلَدَكَ، وَأَصَحَّ جِسْمَكَ، وَأَطَالَ عُمُرَكَ».

قلت: وكلاهما مرسل لا يصح.

·       خطأ بعض أهل الفقه في إدخال الدعاء للكفار بهذه الأدعية في كتبهم!

وقد أدخل بعض أهل الفقه جواز هذا الدعاء للكفار في كتبهم!

قال في «كشاف القناع عن متن الإقناع» (3/130) للبهوتي الحنبلي: "(وَيَجُوزُ قَوْلُهُ) أَيْ: الْمُسْلِمِ (لَهُ) الذِّمِّيِّ (أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَهَدَاكَ اللَّهُ، يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ)، قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ لِأَحْمَدَ: يَقُولُ لَهُ أَكْرَمَكَ اللَّهُ؟ قَالَ، نَعَمْ - يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ.

(وَيَجُوزُ) قَوْلُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ (أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك وَأَكْثَرَ مَالَكَ وَوَلَدَكَ قَاصِدًا بِذَلِكَ كَثْرَةَ الْجِزْيَةِ)، لَكِنْ كَرِهَ أَحْمَدُ الدُّعَاءَ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالْبَقَاءِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ فُرِغَ مِنْهُ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَيَسْتَعْمِلُهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَصَحَّ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا لِأَنَسٍ بِطُولِ الْعُمُرِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إلَّا الْبِرُّ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ.

وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لِلنَّوَوِيِّ: نَقَلَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ قَوْلِ أَطَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَقَاءَكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ تَحِيَّةُ الزَّنَادِقَةِ".

قلت: فانظر إلى تقييدهم هذا الدعاء للكافر بقصد كثرة الجزية. وأما الآن فلا جزية ولا شيء! بل المسلمون هم من يدفعون للكفّار وينعشون اقتصادهم، ويحاربوننا بأموالنا، والله المستعان.

·       الاستخفاف عند الدكتور!!

وبعد هذا نرجع لقول الدكتور العوني تعليقاً على أثر عقبة: "وهنا لقائل أن يقول ممن ضعف فقهه في هذه الأبواب: هذا فيه دعاء للكافر بالتقوي على الكفر؛ فزيادة ماله وولده مما يقويه على المسلمين، وفيه أيضاً دعاء للكافر بأن يطول عمره على عداوة الله ورسوله بشركه وتكذيبه!! ولن أجيب عن هذه الاستشكالات الفارغة، ويكفيني هنا: أن هذا هو فقه أحد فقهاء الصحابة ممن نزلوا مصر وفقهوا أهلها، ألا وهو عقبة بن عامر (رضي الله عنه)!!!"

أقول: انظر إلى هذا الإسفاف والاستخفاف من هذا الدكتور!!!

هل يُعدّ هذا الأصل في الشريعة "استشكال فارغ"؟!!!

كان ينبغي لهذا الدكتور المحترم! أن يجيب عن هذا الاستشكال، ولا يصفه بالفارغ!! لأن في ذلك ضعف الحجة عنده! والاكتفاء بفقه عقبة - كما يزعم - لا ينقض هذا الأصل.

ولنسأل الدكتور - على فرض صحة الأثر عن عقبة -: هل اجتهاد الصحابي يقبل على إطلاقه عند أهل العلم؟ وهل عقبة بن عامر هو وحده الذي نزل مصر وفيها الكثير من النصارى؟ فهل تبع القوم هذا الفقه أم خالفوه؟ ولم لم يُنقل إلينا فقه غيره من الصحابة الكبار الذين نزلوا مصر والشام؟!!

وننقل لك أيها الدكتور جواب بعض أهل العلم على هذا لنبيّن لك طريقة أهل العلم، وليس احتجاجاً به.

·       جواب المناوي عما اعتبره الدكتور استشكالاً فارغاً!!

يقول المناوي في «فيض القدير» (1/345): "ادعو (أكثر الله مالك)؛ لأن المال قد ينفع لجزيته أو موته بلا وارث أو بنقضه العهد ولحوقه بدار الحرب أو بغير ذلك، (وولدك) بضم فسكون أو بالتحريك فإنه ربما أسلموا أو نأخذ جزيتهم، وإن ماتوا قبل البلوغ فهم خدمنا في الجنة أو بعده كفاراً فهم فداؤنا من النار، فاستشكال الدعاء به لهم بأن فيه الدعاء بدوام الكفر وهو لا يجوز، ويجوز الدعاء للكافر أيضاً بنحو هداية وصحة وعافية لا بالمغفرة {إن الله لا يغفر أن يشرك به} وقوله (مالك وولدك) جرى على الغالب من حصول الخطاب به، فلو دعا لغائب قال (ماله وولده)، وخرج باليهود والنصارى الذميين أهل الحرب، فلا يجوز الدعاء لهم بتكثير المال والولد والصحة والعافية؛ لأنهم يستعينون بذلك على قتالنا، فإن قلت: مالهم وأولادهم قد ينتفع بها بأن نغنمهم ونسترق أطفالهم؟ قلت: هذا مظنون وكثرة مالهم وعددهم مفسدة محققة ودرء المفسدة المحققة أولى من جلب المصلحة المتوهمة، نعم يجوز بالهداية".

قلت: فهذا جواب الاستشكال الذي سميته فارغاً أيها الدكتور! أجاب عنه إمام كبير ولم يصفه بما وصفته أنت، وهذا هو أدب أهل العلم.

ولنتكلم على الأثر الثاني أيها الدكتور الذي احتججت به، وهو - كما ذكرنا - مما أخذته من شيخك العودة!!

·       الأثر الصحيح عن ابن عباس وكيفية فهمه:

قال البخاري في «الأدب المفرد»: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ضِرَارِ بنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ: «بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ»، قُلْتُ: «وَفِيكَ»، «وَفِرْعَوْنُ قَدْ مَاتَ».

ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» رقم (10609) عن عَلِيّ بن عبدالعزيز، عن أبي نُعَيْمٍ، به.

قلت: هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (25825) قال: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ - هو: ابن دُكين أبو نُعيم -، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، لَقُلْتُ: وَفِيكَ».

والظاهر أنه سقط من إسناد ابن أبي شيبة: "ابن عباس"!

ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب «مداراة الناس» برقم (104) قال: حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ هِشَامٍ، قال: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْمَجُوسِيُّ يُولِينِي مِنْ نَفْسِهِ وَيُسَلِّمُ عَلَيَّ أَفَأَرُدُّ عَلَيْهِ؟ فقَالَ سَعِيدٌ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ خَيْرًا لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ».

قلت: فالظاهر أن قولة: «وَفِرْعَوْنُ قَدْ مَاتَ» هي من قول سعيد بن جبير. عقّب بها على قول ابن عباس، وهذا يجعلنا نفهم كلام ابن عباس على الوجه الصحيح، وهو أنه يرى الإحسان القول إلى من أحسن إليك في القول أياً كان.

ورواية شريك المفصلة توضح الرواية المجملة وتبين أنها رُويت بالفهم، ففهم من كلام ابن عباس هذا!

وهذا الكلام غير سليم وغير مستقيم وهو كلام فاسد من أصله وحاشا ابن عباس أن يقول ذلك، "بارك الله فيك" دعاء، وهذه لا تقال إلا لمسلم فقط، ألا ترى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتعاطس عنده اليهود رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله ـ كما يقولها ـ للمؤمن، فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالك، فقط، أما المؤمن والمسلم فيقال له ـ في العطاس ـ يرحمنا ويرحمكم الله أو يغفر لنا ويغفر لكم الله، وممن أشار إلى ذلك وبوب عليه أبو بكر السني في عمل اليوم والليلة.

حتى لو صح هذا عن ابن عباس، فليس معناه أن أدعو للكافر بأن يبارك الله فيه أو يطيل عمره ويكثر ماله وولده، وإنما هو من باب الحثّ على رد الإحسان بالإحسان، وليس معنى الرد بالإحسان أن أدعو بهذه الدعوات، فلو دعا لي كافر بقوله: "بارك الله فيك" فيمكن أن أرد عليه: هداك الله للإسلام أو نحو هذا، وهذا من طيب القول، أو شكراً، وغير ذلك مما ليس فيه الدعاء الذي فُهِم من كلام ابن عباس، والله أعلم.

وضِرَارُ بن مُرَّةَ أبو سِنَانٍ الذي روى هذا الفهم عن سعيد بن جبير كان من الزهاد العبّاد، وكان ثقة، قليل الحديث، وهؤلاء لزهدهم وعبادتهم يروون أحياناً مثل هذه الروايات بما يفهمونه متأثرين بحالهم. وقد اجتنب البخاري حديثه فلم يخرج له في الصحيح، وخرّج له مسلم ثلاثة أحاديث مما توبع فيها.

والظاهر أن ما رواه شريك عنه هو الصحيح، وعليه فلا حجة للدكتور وغيره في هذا.

·       نقل منكر عن ابن عباس!!

وقد يؤيد البعض هذا الفهم عن ابن عباس بما رُوي عنه أنه قال: «من سلَّم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسياً، ذلك أن الله يقول: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها».

رواه ابن أبي حاتم في «تفسيره» برقم (5729) عن عليّ بن حرب الموصلي.

وابن أبي الدّنيا في «مداراة الناس» برقم (105) عن يعقوب بن إبراهيم، كلاهما عن حُميد بن عبدالرحمن الرؤاسي، قال: حدثنا حسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، به.

قلت: هذا يخالف ذوق ابن عباس في التفسير ويُصادم النصوص الأخرى، فكيف يقول به حبر الأمة وترجمان القرآن؟!

وقد تفرد برواية هذا التفسير عن ابن عباس سِماك بن حرب الكوفي! وهو رجل صالح صدوق، وقد ضعفه بعض أهل العلم وتكلموا في روايته عن عكرمة عن ابن عباس، وكان يلقّن فيتلقّن.

قال النسائي: "إذا انفرد بأصل لم يكن بحجة؛ لأنه كان يلقن فيتلقن".

وروى حجاج عن شعبة قال: "كانوا يقولون لسماك: عكرمة عن ابن عباس، فيقول: نعم، فأما أنا فلم أكن ألقنه". [ميزان الاعتدال في نقد الرجال: 3/326].

قال ابن عدي: "وكان شعبة يضعفه، وكان يقول في التفسير: عكرمة، ولو شئت أن يقول له ابن عباس لقاله" [الكامل لابن عدي: 3/460].

وقال ابن المديني: "روايته عن عكرمة مضطربة، فسفيان وشعبة يجعلونها: عن عكرمة، وأبو الأحوص وإسرائيل يجعلونها: عن عكرمة عن ابن عباس".

وقال يعقوب بن شيبة: "هو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين".

قلت: فلا يُحتج بهذا التفسير عن ابن عباس؛ لأنه لم يثبت عنه.

ونرجع لكلام الدكتور: "[يعني إن ابن عباس يقول ذلك مع العلم بنهاية فرعون وأنه مات على الكفر]. ففي هذا الأثر يستجيز ابن عباس (رضي الله عنه) الدعاء لفرعون بالبركة، خلافاً لعقبة بن عامر!! وواضح من إيراد الإمام البخاري للأثرين أحدهما عقب الآخر: أنه يريد أن يبين الاختلاف الواقع فيهما: بين مستجيز الدعاء بالبركة للكافر: وهو ابن عباس (رضي الله عنه)، وغير مستجيز: وهو عقبة بن عامر (رضي الله عنه)! فهل هذا كله من تمييع الدين؟!! وهل كنا سنحترم هذا الاجتهاد الجليل فيما لو ذكرته دون ذكر الصحابة القائلين به؟!" انتهى.

أقول: كان ينبغي أولاً للدكتور أن يتثبت من صحة نسبة القول إلى ابن عباس - وهو دكتور الحديث - ثم إذا ثبت لا بد أن يكون فقهه لا يتعارض مع أصول الشريعة العامة. فهل يُعقل أن حبر الأمو وترجمان القرآن يجيز الدعاء بالبركة لفرعون لو كان حيّاً؟!!

·       دعوى "فارغة" للدكتور نسبها للإمام البخاري!!

ثم هذا الذي نسبه الدكتور للبخاري من إيراده لهذين الأثرين يريد أن يبين الخلاف بين اثنين من الصحابة في هذه المسألة لا ينقضي منه العجب!! ولا أدري من أين فهم الدكتور أن البخاري يريد ذلك؟!!!

عن عقبة بن عامر (رضي الله عنه): (أنه مر برجل هيئته هيئة مسلم، فسلّم، فرد عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته. فقال له الغلام: إنه نصراني، فقام عقبة، فتبعه، حتى أدركه، فقال: إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك وأكثر مالك وولدك).

وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: (لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، لقلت: وفيك. وفرعون قد مات).

فنظر الدكتور إلى ما جاء في الأثر المروي عن عقبة: (إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين) ثم نظر إلى قول ابن عباس: (لو قال لي فرعون: بارك الله فيك)، ففهم من هذا أن عقبة لا يستجيز الدعاء بالبركة للكافر، وابن عباس يستجيز ذلك! وإيراد البخاري لهما عقب بعضهما أراد أن يبين هذا الخلاف!!!

لا أدري كيف ينسب الدكتور للبخاري رأياً قد بناه هو على بنيان واه؟!!

وأسأل الدكتور: هل الدعاء للكافر بإطالة عمره وكثرة ماله وولده لا يعدّ من الدعاء بالبركة؟!!

فسيجيب الدكتور بقوله: هذا ما أشرت إليه بقولي السابق: "فمع أنه (رضي الله عنه) أراد أن يعرف هذا النصراني أنه غير مستحق للرحمة المطلقة ولا للبركة التامة، إلا أنه دعا له بطول العمر وكثرة المال والولد"!!

ففرّق الدكتور بين الرحمة المطلقة والبركة التامة في السلام: "ورحمة الله وبركاته"، وبين البركة المقيدة واستثنى من ذلك جزءاً من البركة، وهي في المال والولد!

وهذا التفريق لا دليل عليه أبداً؛ لأن المقصود عادة من الدعاء بالبركة إذا أطلقت هو البركة في المال والأهل والولد، وإن دخل فيها البركة بالوقت والعلم وغير ذلك.

·       معنى «البركة»:

وهنا يتبين لنا أن الأثر المنسوب إلى عقبة منكر! فالرحمة والبركة قد جمعهما الله للمؤمن، فكيف يسترجع عقبة ذلك من النصراني، ثم يدعو له بالبركة في ماله وولده؟!

وَمعنى بَرَكةِ الله: علوٌّ على كل حالٍ، وأصل البَرَكة: الزِّيَادَة والنماءُ.

والتَّبْرِيكُ: الدعاءُ للإنسانِ وَغَيره بالبَرَكةِ. يُقَال: بَرَّكْتُ عَلَيْهِ تَبْرِيكاً، أَي قلتُ: بَارَكَ الله عليكَ.

قالَ الْفراء فِي قَول الله تَعَالَى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} (هود: 73) قَالَ: البَرَكاتُ: السَّعَادَة.

وقَالَ أَبُو مَنْصُور: وَكَذَلِكَ قولُه فِي التَّشَهُّد: (السَّلَام عَلَيْك أَيها النَّبِي ورحمةُ الله وبركاتُه)، لأنّ منْ أَسْعَدَه الله بِمَا أسعدَ بِهِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَآله فقد نَالَ السَّعَادَة، الْمُبَارَكَة الدائمة.

وعليه فلا يلتفت لغمز الدكتور في آخر كلامه: "فهل هذا كله من تمييع الدين؟!! وهل كنا سنحترم هذا الاجتهاد الجليل فيما لو ذكرته دون ذكر الصحابة القائلين به؟!"!! لأن نسبة هذه الاجتهادات أو الفقه – كما سماه – لم يثبت عن هذين الصحابيين الجليلين. وعلى فرض ثبوتهما فهما خارج محل النزاع في مسألتنا هذه، فالتهنئة غير الإحسان بالقول والدعاء المزعوم عند الدكتور!!

·       تنبيه واعتراض على الألباني!

وقد أورد الألباني في «سلسلته الضعيفة» (2559): (إذا دعوتم لأحد من اليهود والنصارى فقولوا: أكثر الله مالك وولدك).

قال: "ضعيف جداً. رواه ابن حبان في "الضعفاء" (2/15، 16)، وابن عدي (215/2)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/289)، وعنه الديلمي (1/1/114)، وابن عساكر (15/465/2) عن عبدالله بن جعفر عن عبدالله بن دينار قال: لا أراه إلا عن عبدالله بن عمر مرفوعاً. وقال ابن عدي: عبدالله بن جعفر عامة حديثه لا يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه يكتب حديثه.

قلت: هو والد الحافظ علي بن المديني، وفي "الميزان ": متفق على ضعفه، قال يحيى: ليس بشيء، وقال ابن المديني: أبي ضعيف. وقال أبو حاتم: منكر الحديث جداً. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال الجوزجاني: واه.

ولعل أصل هذا الحديث الوقف، فوهم الراوي فرفعه، فقد روى البخاري في "الأدب المفرد" (1112) وغيره عن عقبة بن عامر الجهني: أنه مر برجل هيئته هيئة مسلم، فسلم، فرد عليه، فقال له الغلام: إنه نصراني! فقام عقبة فتبعه حتى أدركه فقال: إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك، وأكثر مالك وولدك. وسنده حسن كما في "الإرواء" (5/115). وانظر ما يستفاد منه فيما علقته عليه في "صحيح الأدب المفرد" (430/847/1112)" انتهى كلامه.

والذي علقه في "صحيح الأدب المفرد": "قلت: في هذا الأثر إشارة من هذا الصحابي الجليل إلى جواز الدعاء بطول العمر، ولو للكافر، فللمسلم أولى، (انظر الحديث 41/56)، ولكن لا بد أن يلاحظ الداعي أن لا يكون الكافر عدواً للمسلمين، ويترشح منه جواز تعزية مثله بما في هذا الأثر، فخذها منا فائدة تذكر" انتهى.

قلت: الحديث الذي رواه عبدالله بن جعفر منكر! فالقصة مشهورة عن ابن عمر وقد قدمنا تحقيقها، وعادة هؤلاء أمثال عبدالله بن جعفر يجعلون الآثار مرفوعة!! والأصح أن يقول الألباني: "ولعل أصل هذا الحديث الوقف..." عن قصة ابن عمر لا عن قصة عقبة! فما دخل هذه القصة في هذه، وإن تشابهتا في المضمون! لكن هذه رُويت عن ابن عمر وهذه عن عقبة!

وأما الفقه الذي استمده الشيخ من هذه القصة فهو فقه مردود؛ لأنه لم يثبت عن ابن عمر او عقبة أنهم دعوا للكافر - العدو والمسالم - بهذا كما حققته، ولله الحمد.

ونعيد القول للدكتور فنقول له: التحية غير التهنئة على عيد كفري يُنسب فيه لله الولد!!

والدكتور لا يُكفر إلا إذا كانت الموالاة دينية مع التصريح لفظاً، والأعياد دينية فما باله يقول القول ويُناقضه!!

·       كلام رائع مؤصل للإمام القرافي:

يقول الإمام القرافي في كتابه العظيم «الفروق» (3/14) في (الفَرْق التَّاسِع عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ بِرِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَدُّدِ لَهُمْ) ما لفظه: "اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ التَّوَدُّدِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] الْآيَةَ، فَمَنَعَ الْمُوَالَاةَ وَالتَّوَدُّدَ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي حَقِّ الْفَرِيقِ الْآخَرِ {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] الْآيَةَ.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ خَيْرًا»، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا» فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَإِنَّ الْإِحْسَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ مَطْلُوبٌ، وَأَنَّ التَّوَدُّدَ وَالْمُوَالَاةَ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا، وَالْبَابَانِ مُلْتَبِسَانِ فَيَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ، وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُوجِبُ حُقُوقًا عَلَيْنَا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي جِوَارِنَا وَفِي خَفَارَتِنَا وَذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَدِينِ الْإِسْلَامِ، فَمِنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَلَوْ بِكَلِمَةِ سُوءٍ أَوْ غِيبَةٍ فِي عِرْضِ أَحَدِهِمْ أَوْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذِيَّةِ أَوْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّعَ ذِمَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذِمَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ.

وَكَذَلِكَ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ لَهُ: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَنَمُوتَ دُونَ ذَلِكَ صَوْنًا لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إهْمَالٌ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَحَكَى فِي ذَلِكَ إجْمَاعَ الْأَمَةِ فَقَدْ يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ صَوْنًا لِمُقْتَضَاهُ عَنْ الضَّيَاعِ إنَّهُ لَعَظِيمٌ، وَإِذَا كَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَبَرَّهُمْ بِكُلِّ أَمْرٍ لَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ وَلَا تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ، فَمَتَى أَدَّى إلَى أَحَدِ هَذَيْنِ امْتَنَعَ وَصَارَ مِنْ قِبَلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِالْمَثَلِ فَإِخْلَاءُ الْمَجَالِسِ لَهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِمْ عَلَيْنَا وَالْقِيَامُ لَهُمْ حِينَئِذٍ وَنِدَاؤُهُمْ بِالْأَسْمَاءِ الْعَظِيمَةِ الْمُوجِبَةِ لِرَفْعِ شَأْنِ الْمُنَادَى بِهَا هَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ إذَا تَلَاقَيْنَا مَعَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَأَخْلَيْنَا لَهُمْ وَاسِعَهَا وَرَحْبَهَا وَالسَّهْلَ مِنْهَا وَتَرَكْنَا أَنْفُسَنَا فِي خَسِيسِهَا وَحَزَنِهَا وَضَيِّقِهَا كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَرْءُ مَعَ الرَّئِيسِ وَالْوَلَدُ مَعَ الْوَالِدِ وَالْحَقِيرُ مَعَ الشَّرِيفِ فَإِنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ وَتَحْقِيرِ شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَعَائِرِ دِينِهِ وَاحْتِقَارِ أَهْلِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ تَمْكِينُهُمْ مِن الوِلَايَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِقَهْرِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ أَوْ ظُهُورِ الْعُلُوِّ وَسُلْطَانِ الْمُطَالَبَةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ أَيْضًا لِأَنَّ الرِّفْقَ وَالْأَنَاةَ فِي هَذَا الْبَابِ نَوْعٌ مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالسِّيَادَةِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ فِي الْمَكَارِمِ فَهِيَ دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ أَوْصَلْنَاهُمْ إلَيْهَا وَعَظَّمْنَاهُمْ بِسَبَبِهَا وَرَفَعْنَا قَدْرَهُمْ بِإِيثَارِهَا وَذَلِكَ كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُمْ خَادِمًا وَلَا أَجِيرًا يُؤْمَرُ عَلَيْهِ وَيُنْهَى وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكِيلًا فِي الْمُحَاكَمَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا إثْبَاتٌ لِسُلْطَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِ.

وَأَمَّا مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ بِرِّهِمْ وَمِنْ غَيْرِ مَوَدَّةٍ بَاطِنِيَّةٍ فَالرِّفْقُ بِضَعِيفِهِمْ وَسَدُّ خُلَّةِ فَقِيرِهِمْ وَإِطْعَامُ جَائِعِهِمْ وَإِكْسَاءُ عَارِيهِمْ وَلِينُ الْقَوْلِ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ لَهُمْ وَالرَّحْمَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخَوْفِ وَالذِّلَّةِ وَاحْتِمَالِ إذَايَتِهِمْ فِي الْجِوَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إزَالَتِهِ لُطْفًا مِنَّا بِهِمْ لَا خَوْفًا وَتَعْظِيمًا وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَأَنْ يُجْعَلُوا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَنَصِيحَتُهُمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَحِفْظُ غَيْبَتِهِمْ إذَا تَعَرَّضَ أَحَدٌ لِأَذِيَّتِهِمْ وَصَوْنُ أَمْوَالِهِمْ وَعِيَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَجَمِيعِ حُقُوقِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، وَأَنْ يُعَانُوا عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَإِيصَالُهُمْ لِجَمِيعِ حُقُوقِهِمْ وَكُلُّ خَيْرٍ يَحْسُنُ مِنْ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمِنْ الْعَدُوِّ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ عَدُوِّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَجَمِيعُ مَا نَفْعَلُهُ مَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالَةِ مِنَّا وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَتَحْقِيرِ أَنْفُسِنَا بِذَلِكَ الصَّنِيعِ لَهُمْ وَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ فِي قُلُوبِنَا مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ بُغْضِنَا وَتَكْذِيبِ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْنَا لَاسْتَأْصَلُوا شَأْفَتَنَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْعُصَاةِ لِرَبِّنَا وَمَالِكِنَا عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ نُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَأَمْرِ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لَا مَحَبَّةً فِيهِمْ وَلَا تَعْظِيمًا لَهُمْ وَلَا نُظْهِرُ آثَارَ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي نَسْتَحْضِرُهَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ صِفَاتِهِمْ الذَّمِيمَةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْعَهْدِ يَمْنَعُنَا مِنْ ذَلِكَ فَنَسْتَحْضِرُهَا حَتَّى يَمْنَعَنَا مِنْ الْوُدِّ الْبَاطِنِ لَهُمْ وَالْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا خَاصَّةً، وَلَمَّا أَتَى الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ الْخَلِيفَةَ بِمِصْرَ وَجَدَ عِنْدَهُ وَزِيرًا رَاهِبًا وَسَلَّمَ إلَيْهِ قِيَادَهُ وَأَخَذَ يَسْمَعُ رَأْيَهُ وَيُنَفِّذُ كَلِمَاتِهِ الْمَسْمُومَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ هُوَ مِمَّنْ يَسْمَعُ قَوْلَهُ فِيهِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمُغْضَبِ وَالْوَزِيرُ الرَّاهِبُ بِإِزَائِهِ جَالِسٌ أَنْشَدَهُ:

يَا أَيَّهَا الْمَلِكُ الَّذِي جُودُهُ // يَطْلُبُهُ الْقَاصِدُ وَالرَّاغِبُ

إنَّ الَّذِي شُرِّفْت مِنْ أَجْلِهِ // يَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبٌ

فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْخَلِيفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ وَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ فَسُحِبَ وَضُرِبَ وَقُتِلَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْوَلِيدِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَى إيذَائِهِ فَلَمَّا اسْتَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ تَكْذِيبَ الرَّاهِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ سَبَبُ شَرَفِهِ وَشَرَفِ آبَائِهِ وَأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْبُعْدِ عَنْ السُّكُونِ إلَيْهِ وَالْمَوَدَّةِ لَهُ وَأَبْعَدَهُ عَنْ مَنَازِلِ الْعِزِّ إلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ: أَهِينُوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ، وَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا بِالْبَصْرَةِ لَا يُحْسِنُ ضَبْطَ خَرَاجِهَا إلَّا هُوَ وَقَصَدَ وِلَايَتَهُ عَلَى جِبَايَةِ الْخَرَاجِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ فِي الْكِتَابِ: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ، أَيْ افْرِضْهُ مَاتَ مَاذَا كُنْت تَصْنَعُ حِينَئِذٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَبِرُّهُمْ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ مَأْمُورٌ بِهِ وَوُدُّهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَهُمَا قَاعِدَتَانِ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ وَالْأُخْرَى مَأْمُورٌ بِهَا وَقَدْ أَوْضَحْت لَك الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيَانِ وَالْمَثَلِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ" انتهى كلامه.

وها هو صحابي جليل - معاذ بن جبل؛ وهو من هو في العلم والفهم يقول: «لا ترحموا النصارى فإنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر» ذكره ابن تيمية في «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (4/155) وعزاه بان القيم في «إغاثة اللهفان» (2/283) لعمر بن الخطاب.

فما هي العلة ـ والمستقلة بالسببية ـ التي جعلت معاذا لا يرحمهم؟! أليست علة نسبة الولد إلى الله؟! فكيف يستجيز الدكتور المغرور التهنأة بهذه النسبة بالمعاودة في كل عام؟!!

فتأمل ذلك أيها الدكتور العوني!!

·       رد العوني لدعوى الإجماع! والتلبيس والتدليس على القرّاء!!

السادسة: قوله: "أما دعوى الإجماع على تحريم مطلق تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية فهي دعوى مستغربة، لعدم ورود نص فيها يلزم التسليم له حتى لو لم نعرف علته. فلا ورد في القرآن ولا جاء في السنة دليل خاص يدل على حرمة تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية، مما يدل على أن الإجماع المنقول إذا تحقق، فلا بد أن يكون مستنداً إلى أصول شرعية عامة وقواعد يقينية معلومة، وليس حكما تعبديا لا نعرف له علة ولا حكمة. ولذلك فإني أستغرب ممن يدعي الإجماع على تحريم مطلق التهنئة ولو بلفظ لا يدل على الرضا بالدين، بل ربما كان صريحا بعدم الرضا، كأن يهنئه المسلم شفاهة أو برسالة أو ببطاقة معايدة يكتب فيها: كل عام وأنت بخير، وكم أتمنى أن تنعم بالإسلام ورحمته! فأين هذه العبارة ونحوها من إيهام الرضا عن الدين؟!! وأعود مستغربا ممن يدعي تحقق الإجماع السكوتي في مسألة لا نص فيها كما سبق، نعم.. أستغرب ممن لا يقبل قول العالم إلا بدليل، ويعدّ اجتهاده من غير استدلال اجتهادا مرفوضا، ثم هو نفسه يقبل منه ما هو أشد من مجرد الاجتهاد بغير استدلال، وهو أن يزعم الإجماع. فما أن يدعي هذا العالم الإجماع حتى يصبح اجتهاده ليس فقط مقبولا بغير استدلال، بل يصبح اجتهادا لا تجوز مخالفته، وبغير استدلال أيضا؛ إلا من دعواه الإجماع! فكيف يكون اجتهاد العالم مردودا بغير استدلال، في حين أنه هو نفسه سيكون اجتهاده مقبولا وواجبا بل سيكون ملزما غيره مع أنه مازال اجتهادا بغير استدلال أيضا، إلا من دعواه الإجماع؟!"

أقول: بل دعواك هي الباطلة، فالإجماع استمده أهل العلم من النصوص العامة في إهانة هؤلاء الكفّار وإرغامهم على الجزية وهو صاغرون، وكذلك وجودهم في المجتمعات الإسلامية مع عدم وجود الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة في تهنأتهم بهذه الأعياد الكفرية.

فأنت أيها الدكتور مطالب بالدليل لا من يقول بإجماع عدم جواز تهنئتهم.

ثم ما هي الالفاظ التي تدل على عدم الرضا بدينهم؟! ضرب الدكتور مثالين لهذه الألفاظ: "كل عام وأنت بخير"، "وكم أتمنى أن تنعم بالإسلام ورحمته"!

أما اللفظ الأول فهو دعاء في أن يكون هذا الكافر بخير في كل شيء! هذا ظاهر اللفظ عند استخدامه، أن تتمنى له الخير في نفسه وماله وولده بل وكفره؛ لأنه لا شك يحبّ دينه ولهذا هو مصر عليه، ويذهب إلى الكنيسة لإقامة ما يسمى بـ "القدّاس" وغيره! فهل هذا اللفظ لا يدل على الرضا بدينه أيها الدكتور؟

وأما اللفظ الثاني فأتحداك أن تقلها لنصراني أو يهودي في عيدهم! نعم، هذه اللفظة لا تدل على الرضا بدينهم وإنما هي بمثابة دعوتهم إلى الإسلام، ولكن هل سيرضى النصراني أو اليهودي بهذه التهنئة التي يعدها استفزازا في يوم عيد وعام مجيد؟!

جرّبها أيها الدكتور معهم وأخبرنا عن ردة فعلهم، ثم تأتي وتتكلم عن مثل هذه الألفاظ!!

وأما دعوى أن هذه المسألة لا نصّ فيها فدعوى مردودة على قائلها؛ لأن النصوص العامة في القرآن الكريم قد حددت آلية التعامل مع الكفار سواء كانوا محاربين أو أهل ذمة، وقد بينا في غير هذا الموضع أن التعامل معهم هو المنع إلا ما جاء من النصوص التي استثنت شيئاً من ذلك، كالنصوص الدالة على برهم والإحسان إليهم، ولم تتعرض النصوص أبداً إلى مسألة تهنئتهم بأعيادهم الكفرية، بل قد فسّر جمع من أهل العلم قوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} بأعياد المشركين.

فالذي يجيز تهنئتهم هو من عليه أن يأتي بالدليل على ذلك!

وأما استغراب الدكتور ممن لا يقبل قول العالم إلا بدليل، ويعد اجتهاده من غير استدلال اجتهاداً مرفوضاً... إلخ فهو كلام فلسفي سفسطي لا يسمن ولا يغني من جوع! يحاول فيه الدكتور تسويغ رأيه الذي لا دليل عليه، ويريد أن يشكك القارئ في اجتهادات أهل العلم! وهذا من ديدن الدكتور فإنه دعا في بعض مقالاته إلى "الثورة" - إن جاز التعبير - على المؤسسات الرسمية للفتوى، وأنه سيصدع بالحق - زعم - ولن يسكت!! ويا ليته سكت!

·       الرؤوس الجهّال!!

السابعة: قوله: "إن تحقيق الإجماع وإثبات حصوله كما أنه سياج مهم يحمي الشريعة من تطاول شطحات الاجتهاد، خاصة عند شيوع الجهل واتخاذ الرؤوس الجهلاء. إلا أن السماح لدعاواه التي لا دليل عليها، يفتح مجال التشريع بما لم يأذن به الله، ويضيف إلى مصادر التشريع مصدرا لا علاقة له بالوحي ولا بمصادر التشريع المجمع عليها؛ إلا من دعوى عدم العلم بالمخالف، حتى في الأمر الذي ليس فيه نص، ولا هو مما يستحيل عادة عدم نقل خلافه لو وقع، ولا توجب غلبة الظن نقله في أقل تقدير".

أقول: حاصل كلام الدكتور أنه ليس من أهل الجهل وليس من الرؤوس الجهال!! لأنه يصف من ادّعى الإجماع في هذه المسألة منهم!! وعلى كلامه فكثير من أهل العلم الموصوفين بالتقوى والصلاح ممن ذكر الإجماع وحرم هذه التهنئة منهم!

ونطلب من الدكتور أن يأتينا بخارق لهذا الإجماع غيره وأصحابه الذين هم على نهج "التيار التنويري" في هذا الزمان!

·       تحدي باطل! وأوهام وتخبطات!

الثامنة: قوله: "وهنا في مسألة حكم تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية: أتمنى أن يذكر لي المتعصبون للتحريم سلفهم عليه من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى ننظر هل هناك قول صحيح ومشتهر لهم في المسألة، مع عدم العلم بمخالفهم؟

أعيد التحدي بصورة واضحة: بعد الاتفاق على عدم وجود نص صريح في الكتاب والسنة يدل على حرمة تهنئة الكفار بأعيادهم، هل هناك آثار عن الصحابة أو التابعين أو تابعيهم تدل على تحريم هذه التهنئة (لا على حضور الأعياد وشهودها، فهذه مسألة غير مسألة التهنئة)، تدل على شهرة هذه المسألة بينهم، مما يصح بعد عدم وجود المخالف أن ندعي الإجماع عليها.

أما المطالبة بإيجاد نص عن السلف بالإباحة مع عدم وجود نص عنهم على التحريم، فهو جهل بطرائق الاستدلال؛ لأن على مدعي الإجماع البينة على دعواه، وإلا فستكون دعواه باطلة، وترجع المسألة بعد بطلان الإجماع إلى النصوص العامة وأصول الشريعة لاستخراج حكمها منها".

أقول: الدكتور ينطلق من وهم كبير! وهو أنه لا يوجد نصوص في هذه المسألة! وهل يجب أن يكون هناك نص صريح في كل مسألة؟!

وبناء على قوله الأخير لو أرجعنا المسالة إلى النصوص العامة وأصول الشريعة لاستخراج الحكم منها فسنجد أن حكمها هو الحرمة؛ لأنه كما ذكرنا لك غير مرة: الأصل هو عدم التعامل معهم إلا ما جاء النص باستثنائه، وآيات القرآن الكريم تخاطب المسلمين، وما جاء في بعض الآيات مما يتعلق بأهل الذمة والكفار إنما هو استثناء من الأصل الذي أصلناه لك.

والمخالف لك: يقل لك مثل ما قلت له، ويبقى الأمر يدور في حلقة مفرغة: أنت إيت بنص على الإباحة، وأنت إيت بنص على التحريم!!

وما لا نصَّ فيه يستعمل فيه المُجتهِدُ قواعِدَ النَّظرِ، كالقِياسِ، والمصالحِ المُرسلَةِ، والاستِصحابِ، ومقاصِدِ التَّشريعِ.

وقد تقدّم قول الإمام القرافي - وهو علم من أعلام الأصول - وهو يتحدث عن الآيات المتعلقة بالكفّار: "..ولا تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فَمَتَى أَدَّى إلَى أَحَدِ هَذَيْنِ امْتَنَعَ وَصَارَ مِنْ قِبَلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِالْمَثَلِ فَإِخْلَاءُ الْمَجَالِسِ لَهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِمْ عَلَيْنَا وَالْقِيَامُ لَهُمْ حِينَئِذٍ وَنِدَاؤُهُمْ بِالْأَسْمَاءِ الْعَظِيمَةِ الْمُوجِبَةِ لِرَفْعِ شَأْنِ الْمُنَادَى بِهَا هَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ وَكَذَلِكَ إذَا تَلَاقَيْنَا مَعَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَأَخْلَيْنَا لَهُمْ وَاسِعَهَا وَرَحْبَهَا وَالسَّهْلَ مِنْهَا وَتَرَكْنَا أَنْفُسَنَا فِي خَسِيسِهَا وَحَزَنِهَا وَضَيِّقِهَا كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَرْءُ مَعَ الرَّئِيسِ وَالْوَلَدُ مَعَ الْوَالِدِ وَالْحَقِيرُ مَعَ الشَّرِيفِ فَإِنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ وَتَحْقِيرِ شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَعَائِرِ دِينِهِ وَاحْتِقَارِ أَهْلِهِ".

قلت: فإذا جاء النهي عن بدأهم بالسلام والرد عليهم بقولنا فقط: "وعليكم"، فكيف يجوز لنا أن نهنئهم بعيدهم الكفري هذا؟!

·       دعواه أن التهنئة غير حضور الأعياد وشهودها!!

وأما مسألة أن التهنئة غير حضور الأعياد وشهودها، فليس بصحيح، بل هو حجة عليك؛ لأنه لا يمكن عند العقلاء بله العلماء أن يحرموا حضور هذه الأعياد ثم يجيزون التهنئة بأصل المناسبة التي من أجلها كان هذا الحضور والاجتماع لإحياء تلك المناسبة!!

وهذا هو الإجماع الذي يتكلم عليه أهل العلم، فطالما أنهم حرموا وأجمعوا على عدم حضور أعيادهم فيدخل في ذلك تهنئتهم كذلك وكل ما يتعلق بهذه الأعياد من أكل وشرب وغير ذلك؛ لأنها كلها متعلقة بهذا العيد.

ونعطيك أصلاً عند أئمة العلم أصحاب الفهم يدحض هذه الدعوى المزعومة نقيس عليها دعواك هذه:

قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.

يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري: "وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون، فأنتم مثلهم، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه".

قال: "وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم".

ويقول الحافظ ابن كثير في هذه الآية: "أيْ: إِذَا ارْتَكَبْتُمِ النَّهْيَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمْ، وَرَضِيتُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُكْفَرُ فِيهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأُ وَيُنْتَقَصُ بِهَا، وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الَّذِي هُمْ فِيهِ. فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}، أَيْ: فِي الْمَأْثَمِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَار عَلَيْهَا الخَمْر)".

قلت: فإذا كان الجلوس معهم فيما يخوضون فيه محرّم ولا يجوز الجلوس معهم في ذلك، فهل يجوز أن أهنئهم فيما يقولونه أو يفعلونه؟!!

هل يجوز أن أقول لمن يشرب الخمر: أنا أهنئك على شربك للخمر؟!!

فتهنئة الكفّار بهذا العيد الكفري فيه إقرار - ولا بدّ - عما يحتفلون به، وهذا لا يختلف عن الجلوس معهم إذا كانوا يخوضون في الكفر ويستهزؤون بآيات الله وأنت تستمع إليهم!!  ونحن لسنا في حالة الإكراه وغيره حتى نجاملهم ونهنئهم بهذه الأعياد.

ثم إن هذا العيد هو خصوصية لهم، فهم يحتفلون به بطريقتهم وبشعائرهم الخاصة، كما أننا نحتفل بأعيادنا بطريقتنا الخاصة، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً أَبَا بَكْرٍ - رضي الله عنه -: «لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدٌ وَهَذَا عِيدُنَا»، وعليه فلا يجوز أن نقلدهم في أعيادهم أو نخوض معهم فيها أو في أي شيء يتعلق بها.

وعندئذ فكيف تكون التهنئة غير حضور وشهود أعيادهم؟!!

فهذه طرق أهل العلم في الاستدلال لا الفلسفة والسفسطة واللف والدوران!

وأما التحدي الذي عرضه الدكتور فهو يدل على بضاعته المزجاة وغروره، وما هكذا تورد يا سعد الإبل! فالعلم له أصوله ولا يقوم على التحدي بعدم وجود نص في مسألة من المسائل! ولو فتحنا هذا الباب لهدمنا أحكاماً كثيرة قد أجمع عليها أهل العلم من لدن الصحابة، فالله المستعان.

يقول ابن عُثيمين في تهنئة الكفّار: "ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم، سواء فعله مجاملةً أو تودُّدًا أو حياءًا أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم". [مجموع فتاوى الشيخ العثيمين: 3/46].

·       تلبيسٌ وتدليسٌ!!

التاسعة: قوله: "وهنا أنبه أنه لو كان هناك من حرم التهنئة من السلف، فمجرد الوجود لا يدل على حصول الإجماع؛ فإن عدم العلم بوجود من أباحها لا يدل على عدم وجوده في الواقع (عدم العلم لا يدل على العدم)، خاصة في مثل هذه المسألة، التي تفتقر للنقل فيها لمن قال بالتحريم من السلف، والذي لا بد أن يكون نقلا يدل على شهرة هذا القول بينهم، حتى يمكن الاستدلال بعدم وجود المخالف على عدم وجوده، ظنا غالبا أو يقينا.

فللإجماع السكوتي شرط لصحة الاحتجاج به، وهو غير متوفر في هذه المسألة! فيكفيك ضعف النقل فيها في جانب التحريم الذي تدعي عليه الإجماع".

أقول: يسعى الدكتور إلى هدم الإجماع في هذه المسألة، فيحاول أن يزعزع ذلك بهذه السفسطات!! وهذا الذي قاله ضربٌ من الخيال والأوهام! وهو حجّة كل إنسان يريد أن يشكك في اتفاق أهل العلم.

وهذه المسألة المتفق عليها ليست إجماعاً سكوتياً كما يريد أن يصوّره الدكتور وإن هو ردّ ذلك أيضاً؛ لأنه يعرف أن الإجماع السكوتي مختلف فيه أو في بعض أركانه عند الأصوليين، فأن ينقل المسألة إلى الإجماع السكوتي أهون عليه في هدمها من الإجماع العام غير السكوتي، وهذا يبرع فيه أهل الأهواء والبدع، والعياذ بالله.

وهلاّ أخبرنا الدكتور شرط صحة الاحتجاج بالإجماع السكوتي الذي لم يتوفر في هذه المسالة؟!!

ويكفي في الرد على «هرطاته» ما قرره أهل العلم أنه لا يجوز خلو عصر من الأعصار من مجتهد يجوز للعامي تقليده، وفي هذا إشارة إلى الإجماع السكوتي الذي ذكره أهل الأصول في مسائل الإجماع.

فها هي الأعصار من لدن الصحابة إلى عصرنا هذا لم ينقل عن عالم أو مجتهد أنه خالف التحريم في هذه المسألة مع عدم وجود المانع من المخالفة، مع عموم البلوى بهذه المسألة، بل عمومها في الأعصار المتأخرة واضح وجلي بسبب تحكّم الكفار ببلاد الإسلام، فعلى ماذا يدلّ ذلك عند الدكتور الذي يطعن في هذا الإجماع القولي والفعلي وليس السكوتي؟!!

·       التلاعب بكلام ابن القيم!

عاشراً: قوله: "وأما كلام ابن القيم الذي جعله المتعصبون للتحريم دليلا لتعصبهم (لا لترجيحهم) فهو قوله في كتابه (أحكام أهل الذمة): (فصل في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك، وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فأباحها مرة، ومنعها أخرى. والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة، ولا فرق بينهما. ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه، كما يقول أحدهم: متعك الله بدينك أو نيحك فيه، أو يقول له: أعزك الله أو أكرمك. إلا أن يقول: أكرمك الله بالإسلام، وأعزك به، ونحو ذلك، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة. وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد، ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده، يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه. وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه وإن بلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعا لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرا ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك وبالله التوفيق). انتهى كلامه (رحمه الله)، وهو صحيح لا إشكال فيه، لمن وفقه الله في فهمه.

فأولاً: تنبه لتفريق ابن القيم بين اللفظ الدال على الرضا بالدين والدال على عدم الرضا، وتفصيله بناء عليه حكم المسألة في التهنئة بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك. مما يدل على صحة هذا الأصل في حكم تهنئة الكفار، وأنه ليس تفصيلا مبتدعا ولا مبتورا عن أصول الدين.

ثانياً: تنبه أن ابن القيم لما نقل الاتفاق على تحريم التهنئة بأعياد الكفار الدينية علل ذلك بأنه يدل على التهنئة على الكفر، ومعنى ذلك أن هذا هو سبب التحريم عنده.

والحق أن هذا التعليل حتى لو لم يذكره ابن القيم للزم أن نذكره نحن دليلا لصحة قوله؛ لأنه لا دليل على التحريم سواه أصلا، كما سبق!

وحينئذ أقول: لا يقول قائل إن قول المسلم للكافر في عيده الديني: (أسعدك الله ومتعك بالعافية وهداك للتصديق بالإسلام) فيه تهنئة له بالكفر ويدل على الرضا عن دينه. ولا يقول عاقل أيضا: إن هذه العبارات ليست تهنئة، فقد قال ابن القيم (الذي احتجوا بكلامه على مطلق التحريم): (إلا أن يقول أكرمك الله بالإسلام وأعزك به ونحو ذلك، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة).

ثالثاً: تعليل ابن القيم بذلك التعليل يجعل التهنئة التي لا تدل على الرضا بالدين غير داخلة أصلا في كلامه، ولا فيما نقل الإجماع عليه".

أقول: نعم، كلام ابن القيم الحَبر واضح لا لبس ولا إشكال فيه، ولكن الدكتور يريد أن يجعله كما جعل الألباني الكفر الاعتقادي في غير مكانه، فهذه الأعياد هل هي أعياد رياضية أو دينية؟! فإذا كانت دينية فلم توجيهها في غير محلها؟! والتهنئة من صلب الموالاة الكبرى؟! فإذا أوجب النبي النصح إلا للمسلم فكيف بتهنئة الكافر على عيد ديني؟!

وقد تنبهنا لتفريق ابن القيم - رحمه الله - فوجدناه فرّق بين الألفاظ في التهنئة بالأمور المشتركة (كالتهنئة بزوجة أو ولد أو قدوم غائب...)، والألفاظ التي تدل على حرمة التهنئة فيما يختصون به مثل أعيادهم الكفرية وصيامهم وغير ذلك، فما الذي تريده من هذا التنبه؟!!

والذي يظهر لي أن الدكتور وقف عند قول ابن القيم كثيراً، ولما لم يستطع أن يرده، طعن بفهم الناس وأنه هو الذي فهمه على أصوله، وصار يلف ويدور لعله يلبّس على القارئ! فجاء بهذه التنبيهات ثم بثّ سمه بقوله: "وحينئذ أقول: لا يقول قائل إن قول المسلم للكافر في عيده الديني: (أسعدك الله ومتعك بالعافية وهداك للتصديق بالإسلام) فيه تهنئة له بالكفر ويدل على الرضا عن دينه. ولا يقول عاقل أيضا: إن هذه العبارات ليست تهنئة، فقد قال ابن القيم (الذي احتجوا بكلامه على مطلق التحريم): (إلا أن يقول أكرمك الله بالإسلام وأعزك به ونحو ذلك، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة)".

انظروا كيف لبّس بقول ابن القيم الأخير؟! فابن القيّم قد فرق بين التهنئة بالأمور المشتركة وبين الأعياد الكفرية، فلا يجوز أن نسحب هذه الألفاظ التي جوّزها ابن القيم في الأمور المشتركة على الأعياد الكفرية؛ لأن المقام يختلف. فالتهنئة في الأمور المشتركة هي مناسبات دنيوية ليس للكافر أي أثر فيها، بمعنى أنها من الله عز وجل من أجل الاستمرارية في هذه الحياة، وأما المقام الآخر فهو مقام اعتقاد وفرح لذلك الكفر.

وكذلك نقول للدكتور: هل تستطيع أن تقول هذه الألفاظ في التهنئة بالأمور المشتركة في التهنئة بأعيادهم الكفرية؟! نتحداه - على طريقته - أن يقول لهم ذلك.

فهذه الالفاظ في الأمور المشتركة لا يكون الكافر مستشعرا بذلك الاعتقاد الكفري الذي ربما يكون قد انتظره يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، فأهون عليه أن يتقبل هذه الألفاظ في التهنئة في الأمور المشتركة بينما لا يتقبلها في عيده الكفري! فكيف لك أيها الدكتور أن تقول له: إن هذا العيد الذي تحتفل به عيد كفري وتهنئه في الوقت نفسه!!

وأما دمج الدكتور لبعض الألفاظ في بعضها البعض ليخرجها عن الرضا الديني وفي الوقت نفسه تكون تهنئة كقوله: "(أسعدك الله ومتعك بالعافية وهداك للتصديق بالإسلام)"! فهذه تهنئة فيها تناقض عجيب!!! قد بناها الدكتور على ما سبق من إيراده للأثرين السابقين المرويين عن عقبة بن عامر وابن عباس، وقد تبين لنا ما فيهما. والسعادة هي دعاء بالخير وفيها معنى البركة، وهذا لم يتفوه به ابن القيم، وإنما الذي أجازه ابن القيم: "أكرمك الله بالإسلام، وأعزك به، ونحو ذلك"، فالذي أراده الدكتور من هذا الخلط هو التلبيس والتدليس على القارئ!!

والأدهى والأمر في كلام الدكتور هو نسبة شيء إلى ابن القيم لم يفكر فيه أبداً، ولم يقصده، بقوله: "تعليل ابن القيم بذلك التعليل يجعل التهنئة التي لا تدل على الرضا بالدين غير داخلة أصلا في كلامه، ولا فيما نقل الإجماع عليه"!!!

فمن أين جاء الدكتور بهذا القيد، ما يدل على الرضا بالدين، وما لا يدل على الرضا بالدين؟!!

طبعاً هو يريد أن يؤصل أصلاً: أن ما كان من الألفاظ ما يكون فيه رضى بدين الكافر فهي حرام، وما عدا ذلك فجائز!

وفي هذا تلبيس واضح على القارئ وسوء فهم لكلام ابن القيم، فابن القيم - رحمه الله - عندما تكلم على حرمة التهنئة مطلقاً، ولم يقيدها بالرضى وعدمه أو ببعض الألفاظ دون بعض.

وأقول - تنزلاً -: فليعطنا الدكتور لفظاً نقوله للكافر في احتفاله بعيده لا يدل على الرضا بدينه؟!

وأقول للدكتور: ما هو ضابط الرضا بدين الكافر أم عدم الرضا؟ وهل يكون هناك عدم رضا وأنت تهنئه بعيده الكفريّ؟

فمسألة الرضا أصلاً كفر واضح بيّن ولا تدخل في هذه المسألة، وهذا متفق عليه، والدكتور لا ينازع في ذلك.

·       فتوى للشيخ سِراج الدين البُلقينيّ:

سُئِل الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي عن مسلم قال لذمِّيٍّ في عيدٍ من أعيادهم: "عيد مبارك" هل يكفر، أم لا؟

فأجاب: "إن قال المسلم للذميِّ ذلك على قَصْدِ تعظيم دينهم وعيدهم حقيقةً فإنه يكفر. وإن لم يقصد ذلك وإنما جرى على لسانه، فلا يكفر بما قال من غير قصد" [الملحق بكتاب مسألة في الكنائس لشيخ الإسلام ابن تيمية ص139].

فانظر إلى قوله: "وإن لم يقصد" أي قاله مجاملة أو غير ذلك، وحكمه عليه بعدم كفره لا يعني بحال عدم الإثم، فالإثم حاصل لا محالة، وإنما المسألة في كفره أو عدمه، فتنبه.

فالنصارى عندما يحتفلون بهذا العيد لا ننظر إليه بنظرة الدكتور، فهو عيد كفري، وكل ما يختصّ به كذلك، ولهذا قال ابن القيم: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصَّة به فحرامٌ بالاتفاق. مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيدٌ مباركٌ عليك، أو تَهْنَأُ بهذا العيد ونحوه. فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات".

فإن قلت لواحد منهم: "عيد سعيد"، فما الذي سيفهمه منك هذا الكافر؟! أليس يفهم أنك تشاركه فرحته هذه؟! وأنت سعيد بفرحته! نعم، أنت سعيد بهذا الكفر الذي هو يقيم الاحتفالات من أجله!!

إلا أن يقول لهم الدكتور حاتم: "نعم، أنا أهنئكم بهذا العيد، فعيدكم سعيد، ولكن أنا لست راضٍ عن كفركم، وأنا أدعوكم للإسلام... وووو..."!!!

أيصح هذا في الأذهان أيها العقلاء؟!!

يقول ابن عثيمين: "وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حرامًا، وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم؛ لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضا به لهم، وإنْ كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنِّئ بها غيره؛ لأن الله تعالى لا يرضى بذلك" [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين: 3/45].

·       عبارات التهنئة عند العوني!!

حادي عشر: قوله: "وعليه: فيبقى النقاش بعد هذا التقرير حول عبارات التهنئة: هل يمكن أن لا تدل على الرضا عن الدين والتهنئة بالكفر؟ أم لا يمكن فيها ذلك؟ فإن أمكن، بنحو العبارات السابقة من التهنئة بالأمور المشتركة، بل المضموم إليها دعوته للإسلام، يكون ادعاء استحالة وجود تهنئة للكفار بأعيادهم لا تتضمن الرضا عن دينهم ادعاءً باطلا مخالفا للواقع، وهذا هو الواقع!".

أقول: هذا لبّ ما يريده الدكتور، وهو حصر الخلاف في عبارات التهنئة! وهذا كما ذكرنا تلبيس وتدليس، فإن أهل العلم لم يعتبروا هذه العبارات في التهنئة بأعيادهم الكفرية، وإنما اعتبروها في غير ذلك من الأمور المشتركة.

وما زلنا نردد ونقول للدكتور: ليعطنا عبارات تهنئة وفيها دعوة للإسلام لتهنئتهم في أعيادهم تدل على قبولهم لتلك التهنئة؟!

فما نسمعه ونقرأه من التهاني بهذا العيد الكفري من أبناء المسلمين ليس فيه ما يقترحه الدكتور ويبني عليه حكماً شرعياً!! والله المستعان.

·       فتوى الشيخ سَفَر الحَوالي في حكم تهنئة الكفّار بعيد الميلاد:

وقد سئل الشيخ سَفر الحوالي: ما حكم من يحتفل بأعياد الكفار أو يهنئهم بها مع علمه بأن ذلك من خصائصهم كما هو حال أكثر المسلمين اليوم؟!

فأجاب: "الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:

فإن الاحتفال بأعياد الكفار أو التهنئة بها مع العلم بأن ذلك من خصائصهم لا يخلو من هذه الأحوال:

أولاً: إما أن يكون ذلك لمجرد موافقتهم ومجاراة لتقاليدهم وعاداتهم من غير تعظيم لشعائر دينهم ولا اعتقاد من المشارك لصحة عقائدهم (وهذا يتصور في التهنئة أكثر منه في حضور الاحتفال)، وحكم هذا الفعل التحريم لما فيه من مشاركتهم ولكونه ذريعة إلى تعظيم شعائرهم وإقرار دينهم.

قال كثير من السلف في تفسير قوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً}: إن شهود الزور هو حضور أعياد المشركين، وقال : (إن لكل قوم عيداً) وهذا من أوضح الأدلة على الاختصاص.

ثانياً: وإما أن يكون ذلك لشهوة تتعلق بالمشاركة كمن يحضر أعيادهم ليشاركهم في شرب الخمور والرقص واختلاط الرجال بالنساء ونحو ذلك. وحكم هذا النوع التحريم المغلظ؛ لأن هذه الأفعال محرمة بذاتها فإذا اقترنت بها المشاركة في شهود زورهم كانت أعظم تحريماً.

ثالثاً: وإما أن تكون المشاركة بنية التقرب إلى الله تعالى بتعظيم ذكرى ميلاد المسيح عليه السلام لكونه رسولاً معظماً كما يحتفل بعض الناس بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكم هذا النوع أنه بدعة ضلالة، وهي أشد تحريماً وأغلظ ضلالاً من الاحتفال بمولد الرسول لكون صاحبها يشارك من يحتفلون بذلك معتقدين أن المسيح هو الله أو ابن الله - تعالى الله عما يصفون - وهذا مما أحدثوه في دينهم مما لم يشرعه الله تعالى ولم يفعله المسيح عليه السلام ولا غيره من الأنبياء، وتعظيم الأنبياء إنما يكون بمحبتهم واتباع دينهم وليس بهذه الاحتفالات.

رابعاً: وإما أن يكون الاحتفال مقروناً باعتقاد صحة دينهم والرضى بشعائرهم وإقرار عبادتهم كما عبروا قديماً بقولهم: (المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة)! وكما يعبرون حديثاً بوحدة الأديان وأخوة الرسالات وهو من شعارات الماسونية وأشباهها وحكم هذا النوع أنه كفر مخرج من الملة. قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.

وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين" انتهى.

·       تنبيه لمن قال بأن فتوى الدكتور العوني فتوى شاذة!

وصف بعض أهل العلم فتوى الدكتور العوني هذه بأنها فتوى شاذة!!

فأقول: الفتوى الشاذة تكون من فقيه أو مجتهد خالف فيها أهل العلم وخالف الأدلة! مثل فتوى الشيخ شلتوت في إباحة الفوائد البنكية.

وأما أن يكون الذي يفتي كل فتاواه شاذة!! بل هو ليس بأهل للفتوى، فهل يُقال بعد ذلك: هذه فتوى شاذة منه؟!

فالفتوى لا تُقام على المغالطات ولا على الهوى ولا على القصور في الفهم!!

وقد نقل ابن عبدالبر في كتاب «جامع بيان العلم وفضله» عن الشافعي، قال: "لا يحق للقاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي إلا إذا عرف حكم الله في كتاب الله، وأقوال أهل التأويل في تأويله، وعلم سنة رسول الله وأقوال العلماء فيها، والإجماع والقياس، والخلاف إن وجد وما اختلفوا فيه".

وروى ابن بطة العكبري قال: حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ رَجَاءٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ عِصْمَةُ بنُ أَبِي عِصْمَةَ، قال: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بنُ الْحُسَيْنِ الْقَنْطَرِيُّ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: كَتَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رحمه الله - عَنِّي كَلَامًا. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَمْلَاهُ عَلَيْنَا. قَالَ: "لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ - يَعْنِي لِلْفَتْوَى - حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: أَمَّا أُولَاهَا: فَأَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ وَلا عَلَى كَلَامِهِ نُورٌ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَيَكُونُ لَهُ خُلُقٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَيَكُونُ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَالْكِفَايَةُ، وَإِلَّا مَضَغَهُ النَّاسُ. وَأَمَّا الْخَامِسَةُ: فَمَعْرِفَةُ النَّاسِ".

قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ ابن بطّة - رحمه الله -: "فَأَقُولُ - وَاللَّهُ الْعَالِمُ -: لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَنْعَمَ نَظَرَهُ، وَمَيَّزَ فِكْرَهُ، وَسَمَا بِطَرْفِهِ، وَاسْتَقْصَى بِجَهْدِهِ، طَالِبًا خَصْلَةً وَاحِدَةً فِي أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَالْمُتَصَدِّرِينَ لِلْفَتْوَى فِيهَا لَمَا وَجَدَهَا. بَلْ لَوْ أَرَادَ أَضْدَادَهَا وَالْمَكْرُوهَ وَالْمَرْذُولَ مِنْ سَجَايَا دَنَاءَةِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ فِيهِمْ لَوَجَدَ ذَلِكَ مُتَكَاثِفًا مُتَضَاعِفًا. وَاللَّهَ نَسْأَلُ صَفْحًا جَمِيلًا وَعَفْوًا كَثِيرًا".

وروى من طريق ابن أَبِي أُوَيْسٍ، عَن أَخِيهِ، عَن أَبِيهِ، قَالَ: "أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: لا يَجُوزُ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى إِلا الْمَوْثُوقُ فِي عَفَافِهِ وَعَقْلِهِ وَصَلاحِهِ وَدِينِهِ وَوَرَعِهِ وَفِقْهِهِ وَحِلْمِهِ وَرِفْقِهِ وَعِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، عَالِمًا بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ، وَبِمَنْ نَقَلَهَا، وَالْمَعْمُولِ بِهِ مِنْهَا وَالْمَتْرُوكِ، عَالِمًا بِوُجُوهِ الْفِقْهِ الَّتِي فِيهَا الْأَحْكَامُ، عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَإِنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ رَأْي لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحَادِيثِ وَالِاخْتِلَافِ. وَلا صَاحِبُ حَدِيثٍ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالْفِقْهِ وَالِاخْتِلَافِ وَوُجُوهِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَلَيْسَ يَسْتَقِيمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِصَاحِبِهِ. قَالُوا: وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالصَّلَاحِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ إِلا أَنَّ طُعْمَتَهُ مِنَ النَّاسِ وَحَاجَاتِهِ مُنَّزَّلَةٌ بِهِمْ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلْفَتْوَى، ولا مَوْثُوقٍ بِهِ فِي فَتْوَاهُ، وَلا مَأْمُونٍ عَلَى النَّاسِ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ".

قلت: فإذا كان الأمر كذلك، فما بالك فيمن تتبع شواذ الفتاوى، أو كانت كل فتاواه شاذة؟!!

يقول ابن عبدالبر: "ما تتبع إنسان شواذ المسائل إلا وحرم العلم"؛ وذلك لأنه يقضي عمره في تتبع تلك الشواذ، وفي إثارة الشواذ سواء أكانت مُتتبعة أم من فتاوى الشخص إن في إثارتها إحداث الفتن بين الناس.

ولقد جاء عن الأوزاعي أنه قال: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام"، أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» رقم (20918) من طريق محمد بن شعيب بن شابور عن الأوزاعي، به.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر، أو غريب فليس له في معرفة الكتاب والسنَّة، وآثار السلف، نصيب".

وروى الإمام مالك في «الموطأ» عَن سَالِمِ بنِ عَبْدِاللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَاللَّهِ بنَ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا نَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: "لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لأوْجَعْتُكَ".

فلله در عمر، وكثير ممن يفتون في زماننا لا يردعهم إلا درة عمر.

قال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله -: "ولم يفلح مَن جعل مِن هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبع رخص المذاهب، ونادر الخلاف، وندرة المخالف، والتقاط الشواذ، وتبني الآراء المهجورة، والغلط على الأئمة، ونصبها للناس دينًا وشرعاً... ومنها: إصدار الفتاوى الشاذة الفاسدة، مثل الفتوى بجواز الفوائد الربوية، وشهادات الاستثمار، وسندات الخزينة، وفتوى إباحة التأمين، وفتوى إباحة السفور، وفتوى إباحة الاختلاط، وكلها فتاوى شاذة فاسدة، تمالئ الرغبات، وبعض التوجهات".

ونضيف إلى ذلك أيضاً: فتوى جواز تهنئة الكفار بأعيادهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب: خالد الحايك.

12 صفر 1433هـ - 6/1/2012م.

 

شاركنا تعليقك