الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«أبو خيمة زرقاء» - لفظٌ كُفريّ!

«أبو خيمة زرقاء» - لفظٌ كُفريّ!

«أبو الخيمة الزرقاء» هذا اللفظ طالما سمعناه من كبار السنّ قديماً، وأما الآن فلا يكاد يُذكر - ولله الحمد -.

ولكن لما رأيت أنه منتشرٌ على صفحات الشبكة العنكبوتية «الانترنت» رأيت أن أنبه على أنه مخالف لأصول التوحيد.

·       أصل هذا اللفظ!

وهذا اللفظ أصله عراقي! ويتناقله العراقيون على الكثير من المنتديات على أنه من الأمثال العراقية!! ثم يفسرونه بأنه: «كناية عن الله سبحانه وتعالى، ويراد بالخيمة الزرقاء: السماء»!!

يقول أحد الأساتذة العراقيين: "وأريد هنا يا أعزتي أن أروي لكم أنه: عندما كنت أسأل جدتي تاجة بنت حسن عن أحوالها كانت تجيبني بجواب جميل جداً ما زال يداعب ضميري بكل شفافية وجمال، كانت تقول رحمها الله تعالى: «على أبو خيمة الزرقاء» أو «على أبو قبة الزرقه». لم أكن أعرف وأنا صغير السن ما تقصده تلك السيدة الجلية ذات الجمال الباهر. سألتها يوماً بعدما كبرت قليلاً... من هو أبو خيمة الزرقة أو أبو قبة الزرقة. قبلتني جدتي بين عيني وقالت: يمه إنه الله. أي أنها أوكلت أمرها لله سبحانه وتعالى. وكبر المفهوم معي وأخذت أتصور أن الناس جميعاً يجلسون تحت قبة واحدة لإله واحد. وارتبط اللون الازرق عندي منذ ذاك الوقت بكل معاني الجمال والنقاء والقدسية والوحدة الإلهية والوجودية والإنسانية...".!!

هكذا لا يزال كثير من العوام يرددون هذا اللفظ ويعنون به الله عزّ وجلّ.

·       استخدامه من قِبل بعض الكتّاب الروائيين!!

وقد انتقل هذا اللفظ إلى بعض البلدان العربية الإسلامية، وأكثر ما كان يستخدمه بعض الروائيين!

فهناك رواية لـ (جوزفين مسعود) و (أنطوان مسعود) عنوانها «أبو الخيمة الزرقاء» [تقع في أربعين صفحة، نشر بيت الحكمة للإعلام والنشر والتوزيع، 1993م. ونشرتها أيضاً مؤسسة أنطوان للنشر]!

وهذه الرواية تحكي قصة ذاك الرجل «سليمان»، "المؤمن بقضاء الله وقدره، الذي جار عليه الزمن وضاق به الحال فقرر السفر بعيداً عن أسرته بحثاً عن المال لشراء قوت أطفاله، وقبل مغادرته المنزل أوصى زوجته باللجوء إلى «أبو الخيمة الزرقاء»"!!!

إلى هذه الدرجة وصل الحال ببعض الجهّال تكنية الله عز وجل بهذا!!

·       هذا اللفظ كُفريّ!

وهذا اللفظ لفظٌ كفريّ لا يجوز التلفظ به حيث إن الله عزّ وجلّ لا يوصف إلا بما وصف أو سمّى به نفسه أو وصفه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا اللفظ نسبة الكنية لله عز وجل! وهذا لا ينبغي إلا للمخلوقات من البشر والحيوانات، وتعالى الله سبحانه أن يكون له كنية! وفيه سوء أدب كذلك مع الله عزّ وجلّ.

فالكنية: «علمٌ صُدر بأب أو أم أو ابن أو بنت، وأكثرها طارىء على مسمياتها لم توضع لها ابتداء».

جاء في «المعجم الوسيط»: "(الكنية) مَا يَجْعَل عُلَمَاء على الشَّخْص غير الِاسْم واللقب، نَحْو: أَبُو الْحسن وَأم الْخَيْر، وَتَكون مصدرة بِلَفْظ: أَب أَو ابْن أَو بنت أَو أَخ أَو أُخْت أَو عَم أَو عمَّة أَو خَال أَو خَالَة، وتستعمل مَعَ الِاسْم واللقب أَو بدونهما تفخيماً لشأن صَاحبهَا أَن يذكر اسْمه مُجَرداً وَتَكون لأشراف النَّاس، وَرُبمَا كني الْوَلِيد تفاؤلاً وَقد كنى بعض أَجنَاس من الْحَيَوَان فللأسد أَبُو الْحَارِث، وللضبع أم عَامر، وَنَحْو ذَلِك كثير شَائِع فِي كَلَام الْعَرَب، وَالْكِنَايَة عَن الشَّيْء الَّذِي يستفحش ذكره بِمَا يدل عَلَيْهِ".

·       فيه إلحاد في أسماء الله!

فالله عزّ وجلّ لا يوصف بأداة الكنية «أبو»! وإنما له الأسماء الحسنى لا يشاركه فيها أحد. قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}.

والإلحاد في أسماء الله أنواع، ومنه: تسميته سبحانه باسم لم يسمّ به نفسه، ولا سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم. فلا يجوز تسميته سبحانه إلا بما جاء به الدليل؛ لأن في ذلك جرأة على مقام الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.

يقول ابن عثيمين: "فالإلحاد في الأسماء هو الميل فيها عما يجب، وهو أنواع: النوع الأول: أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، كم سماه الفلاسفة علة فاعلة وسماه النصارى: أبًا، وعيسى: الابن، فهذا إلحاد في أسماء الله وكذلك لو سمى الله بأي اسم لم يسم به نفسه، فهو ملحد في أسماء الله. ووجه ذلك أن أسماء الله عز وجل توقيفية، فلا يمكن أن نثبت له إلا ما ثبت بالنص، فإذا سميت الله بما لم يسم به نفسه، فقد ألحدت وملت عن الواجب. وتسمية الله بما لم يسم به نفسه سوء أدب مع الله وظلم وعدوان في حقه، لأنه لو أن أحدًا دعاك بغير اسمك أو سماك بغير اسمك، لاعتبرته قد اعتدى عليك وظلمك هذا في المخلوق، فيكف بالخالق؟! إذًاً، ليس لك حق أن تسمي الله بما لم يسم به نفسه، فإن فعلت، فأنت ملحد في أسماء الله". [مجموع فتاوى ابن عثيمين].

والإلحاد في أسماء الله شِرك. فقد قال قتادة في قوله سبحانه: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: "يُشركون".

وقال الأعمش في تفسير ذلك: "يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا".

قال محمد رشيد رضا في «تفسير المنار»: "وفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: الْإِلْحَادُ: التَّكْذِيبُ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا: اشْتَقُّوا الْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَاللَّاتِ مِنَ اللهِ، وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ " يَلْحِدُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ اللَّحْدِ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَعَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِهِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا: يُشْرِكُونَ وَالثَّانِيَةُ: يُكَذِّبُونَ فِي أَسْمَائِهِ، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ مِنَ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى التَّكْذِيبَ بِهَا، وَإِنْكَارَ مَعَانِيهَا، وَتَحْرِيفَهَا بِالتَّأْوِيلِ وَنَحْوِهِ، وَتَسْمِيَتَهُ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَإِشْرَاكَ غَيْرِهِ بِهِ فِيهَا، وَهَذَانِ قِسْمَانِ: إِشْرَاكٌ فِي التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ يُقْصَرُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَخَصَائِصِهِمَا، وَإِشْرَاكٌ فِي الْمَعَانِي وَهِيَ قِسْمَانِ: مَعَانٍ خَاصَّةٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَمَعَانٍ غَيْرُ خَاصَّةٍ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا الْخَاصُّ بِهِ تَعَالَى كَمَالُهَا، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا الْحُسْنَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أَيْ: لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

فَالْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَقْسَامٌ:

(1): التَّغْيِيرُ فِيهَا بِوَضْعِهَا لِغَيْرِهِ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي "اللَّاتِ وَالْعُزَّى"..

(2) تَسْمِيَتُهُ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ مِنْهُمَا، وَمِنْهُ "وَاجِبُ الْوُجُودِ وَالْوَاجِبِ" - لَكِنْ يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى قَرِينَةٍ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي كُلِّ وَاجِبٍ عَقْلِيٍّ، وَكُلِّ وَاجِبٍ شَرْعِيٍّ هُوَ الْأَكْثَرُ - (قَالَ): "وَالْقَدِيمُ وَالصَّانِعُ، وَقِيلَ هُمَا مَسْمُوعَان" وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَاجِبَ وَوَاجِبَ الْوُجُودِ وَالصَّانِعَ مِنَ اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَثْبتُ كَوْنُهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي قَالُوا إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مُسْتَنَدٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَلِلصَّانِعِ مَأْخَذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ مِثْلِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْمُتْقِنُ أَيْضًا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَابَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَعَالَى بِأَفْعَالِهِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الِاسْمَ فِي الْأَصْلِ: مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اتِّصَافُ الْمُسَمَّى بِمَعْنَى الِاسْمِ إِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ الْعِلْمِيَّةِ كَزَيْدٍ وَحَارِثٍ وَفَضْلٍ، وَمَا أُطْلِقَ لِأَجْلِ مَعْنَاهُ فَقَطْ يُسَمَّى وَصْفًا وَنَعْتًا كَالْحَارِثِ يُوصَفُ بِهِ مَنْ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَالظَّالِمِ لِمَنْ يَجُورُ فِي فِعْلِهِ أَوْ حُكْمِهِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ الْوَصْفُ مَعَ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ أَوِ الْمَدْحِ، فَإِنْ لُمِحَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَقَالُوا الْحَارِثَ وَالْفَضْلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسِيٌّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ اسْمِ فَاعِلٍ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْمُهَيْمِنِ، أَوْ صِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ كَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَوْ مَصْدَرٍ كَالسَّلَامِ وَالْعَدْلِ، فَكُلُّهَا يُرَاعَى فِيهَا الْمَعْنَى الْوَصْفِيُّ فَتُسَمَّى صِفَاتٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَدْلُولِهِ الْوَصْفِيِّ فَتُسَمَّى أَسْمَاءَ.... وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ، وَنَصُّوا عَلَى إِثْبَاتِ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ دُعَاءً وَوَصْفًا لَهُ، وَإِخْبَارًا عَنْهُ، وَعَلَى مَنْعِ كُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَنْعِهِ، وَمِنْهُ كُلُّ مَا يُسَمَّى إِلْحَادًا فِي أَسْمَائِهِ، وَكُلُّ مَا أَوْهَمَ نَقْصًا أَوْ كَانَ مُنَافِيًا لِلْكَمَالِ وَلِوَصْفِ الْحُسْنَى، وَقَدْ مَنَعَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلَّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّارِعُ مُطْلَقًا...".

·       حكم أهل العلم فيمن يقول مثل هذه الألفاظ، وحادثة حصلت في عهد الأمير عبدالرحمن بن الحكم الأموي:

قلت: فكلّ اسم يُطلق على الله عزّ وجل هو من الإلحاد في أسمائه، وهو من سقط القول.

قال القاضي عياض في كتاب «الشفا»: "وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ سَقْطِ الْقَوْلِ وَسُخْفِ اللَّفْظِ مِمَّنْ لَمْ يَضْبِطْ كَلَامَهُ وَأَهْمَلَ لِسَانَهُ بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِخْفَافَ بِعَظَمَةِ رَبِّهِ، وَجَلَالَةِ مَوْلَاهُ.. أَوْ تَمَثَّلَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِبَعْضِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ مَلَكُوتِهِ.. أَوْ نَزَعَ مِنَ الْكَلَامِ لِمَخْلُوقٍ بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا فِي حَقِّ خَالِقِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْكُفْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ وَلَا عَامِدٍ لِلْإِلْحَادِ. فَإِنْ تَكَرَّرَ هَذَا مِنْهُ، وَعُرِفَ بِهِ دَلَّ عَلَى تَلَاعُبِهِ بِدِينِهِ، وَاسْتِخْفَافِهِ بِحُرْمَةِ رَبِّهِ، وَجَهْلِهِ بِعَظِيمِ عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ.

وهذا كفر لامرية فِيهِ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَا أَوْرَدَهُ يُوجِبُ الِاسْتِخْفَافَ وَالتَّنَقُّصَ لِرَبِّهِ.

وَقَدْ أَفْتَى ابنُ حَبِيبٍ، وَأَصْبَغُ بنُ خَلِيلٍ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ بِقَتْلِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي عَجَبٍ، وَكَانَ خَرَجَ يَوْمًا فَأَخَذَهُ الْمَطَرُ فَقَالَ: «بَدَأَ الْخَرَّازُ يَرُشُّ جُلُودَهُ»!!.

وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهَا.. أَبُو زَيْدٍ صَاحِبُ الثَّمَانِيَةِ، وَعَبْدُالْأَعْلَى بن وهب، وأبان بن عيسى قد تَوَقَّفُوا عَنْ سَفْكِ دَمِهِ، وَأَشَارُوا إِلَى أَنَّهُ عَبَثٌ مِنَ الْقَوْلِ. يَكْفِي فِيهِ الْأَدَبُ. وَأَفْتَى بِمِثْلِهِ الْقَاضِي حِينَئِذٍ مُوسَى بنُ زِيَادٍ.

فَقَالَ ابن حبيب: «دمُهُ في عُنُقي، أَيُشْتَمُ رَبٌّ عَبَدْنَاهُ ثُمَّ لَا نَنْتَصِرُ لَهُ! إنا إذا لعبيد سوء ما نَحْنُ لَهُ بِعَابِدِينَ»، وَبَكَى.

وَرُفِعَ الْمَجْلِسُ إِلَى الْأَمِيرِ بِهَا عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ، وَكَانَتْ عَجَبُ عَمَّةَ هَذَا الْمَطْلُوبِ مِنْ حَظَايَاهُ، وَأُعْلِمَ بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فَخَرَجَ الْإِذْنُ مِنْ عِنْدِهِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ ابنِ حَبِيبٍ وَصَاحِبِهِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ بِحَضْرَةِ الْفَقِيهَيْنِ.. وَعُزِلَ الْقَاضِي لِتُهْمَتِهِ بِالْمُدَاهَنَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَوَبَّخَ بَقِيَّةَ الْفُقَهَاءِ وَسَبَّهُمْ.

وَأَمَّا مَنْ صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ الهنة الواحدة، والفلتة الشاردة ما لم يكن تَنَقُّصًا وَإِزْرَاءً فَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ مُقْتَضَاهَا، وَشُنْعَةِ مَعْنَاهَا، وَصُورَةِ حَالِ قَائِلِهَا، وَشَرْحِ سَبَبِهَا وَمُقَارِنِهَا.

وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ - رحمه الله - عن رجل نادى رجلاً باسمه، فأجابه: "لبيك اللهم لبيك"؟ قال: "فإن كَانَ جَاهِلًا، أَوْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَفَهٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ".

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - عِياض -: وَشَرْحُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِ. وَالْجَاهِلُ يُزْجَرُ وَيُعَلَّمُ. وَالسَّفِيهُ يُؤَدَّبُ. وَلَوْ قَالَهَا عَلَى اعْتِقَادِ إِنْزَالِهِ مَنْزِلَةَ رَبِّهِ لَكَفَرَ. هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِ.

وَقَدْ أَسْرَفَ كَثِيرٌ مِنْ سُخَفَاءِ الشُّعَرَاءِ وَمُتَّهِمِيهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسْتَخَفُّوا عَظِيمَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ فَأَتَوْا مِنْ ذَلِكَ بِمَا نُنَزِّهُ كِتَابَنَا وَلِسَانَنَا وَأَقْلَامَنَا عَنْ ذِكْرِهِ، وَلَوْلَا أَنَّا قَصَدْنَا نص مسائل حكيناها لما ذَكَرْنَا شَيْئًا مِمَّا يَثْقُلُ ذِكْرُهُ عَلَيْنَا مِمَّا حكيناه في هذه الفصول. وأما مَا وَرَدَ فِي هَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَأَغَالِيطِ اللِّسَانِ كَقَوْلِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ:

رَبَّ الْعِبَادِ ما لنا ومالكا // قَدْ كُنْتَ تَسْقِينَا فَمَا بَدَا لَكَا

أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لَا أَبَا لَكَا

فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِنْ كَلَامِ الْجُهَّالِ، وَمَنْ لَمْ يُقَوِّمْهُ ثِقَافُ تَأْدِيبِ الشَّرِيعَةِ وَالْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَقَلَّمَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ جَاهِلٍ يَجِبُ تَعْلِيمُهُ وَزَجْرُهُ وَالْإِغْلَاظُ لَهُ عَنِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ.

قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَابِيُّ: "وَهَذَا تَهَوُّرٌ مِنَ الْقَوْلِ. وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ".

وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَوْنِ بنِ عَبْدِاللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «لِيُعَظِّمْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ في كل شيء. حتى لا يَقُولَ. أَخْزَى اللَّهُ الْكَلْبَ. وَفَعَلَ بِهِ كَذَا وكذا».

وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ مَشَايِخِنَا قَلَّمَا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا فِيمَا يَتَّصِلُ بِطَاعَتِهِ.

وَكَانَ يَقُولُ لِلْإِنْسَانِ: جُزِيتَ خَيْرًا. وَقَلَّمَا يَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. إِعْظَامًا لِاسْمِهِ تَعَالَى أَنْ يُمْتَهَنَ فِي غَيْرِ قُرْبَةٍ.

وَحَدَّثَنَا الثِّقَةُ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ كَانَ يَعِيبُ على أَهْلِ الْكَلَامِ كَثْرَةَ خَوْضِهِمْ فِيهِ تَعَالَى وَفِي ذِكْرِ صِفَاتِهِ إِجْلَالًا لِاسْمِهِ تَعَالَى. وَيَقُولُ: «هَؤُلَاءِ يَتَمَنْدَلُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

وَيُنَزِّلُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ تَنْزِيلَهُ فِي بَابِ سَابِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي فصلناها.. والله الموفق" انتهى كلامه.

قلت: لله درك أيها القاضي بهذا الكلام النفيس، ورحمك الله رحمة واسعة.

اللهم اجعلنا ممن يعظّمون حرماتك ويعظمون صفاتك وأسمائك.

وقد ذكر هذه الحادثة أبو الحسن علي بن عبدالله الجذامي النباهي المالقي الأندلسي (المتوفى: نحو 792هـ) في كتابه عن تاريخ قضاة الأندلس «المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا»، في ذكر «القَاضِي مُحَمَّد بن زِيَاد اللَّخْمِيّ».

قال: "ومِنْهُم مُحَمَّد بن زِيَاد اللَّخْمِيّ. سمع من مُعَاوِيَة بن صَالح سَمَاعاً كثيراً. وَلما احْتضرَ الْفَقِيه يحيى بن يحيى، أسْند وَصيته فِي أَدَاء دين وَبيع مَال إِلَى ابْن زِيَاد؛ وَكَانَ هُوَ القَاضِي يَوْمئِذٍ؛ فَكَانَ وَصِيّه فِي ذَلِك الْوَجْه خَاصَّة. قَالَ ابْن حَارِث: وَكَانَ السَّبَب فِي عَزله عَن الْقَضَاء مَا كَانَ من أَمر ابْن أخي عجب حظية الْأَمِير الحكم. وَذَلِكَ أَنه شهد عَلَيْهِ بِلَفْظ نطق بِهِ عابثاً فِي يَوْم غيث. فَأمر الْأَمِير عبدالرَّحْمَن بحبسه، وَطلب الشَّهَادَات عَلَيْهِ. وأبرمته عجب عمته فِي إِطْلَاقه؛ وَكَانَت مدلة عَلَيْهِ لمكانها من أَبِيه. فَقَالَ لَهَا: مهلا يَا أُمَّاهُ، فَلَا بُد، وَالله من أَن نكشف أهل الْعلم عَمَّا يجب عَلَيْهِ فِي لَفظه ذَلِك الَّذِي شهد بِهِ عَلَيْهِ؛ ثمَّ يكون الْفَصْل بعد فِي أمره. فَإنَّا، معشر بني مَرْوَان، لَا تأخذنا فِي الله لومة لائم، وَمَا نرى أَن الله رفع ملكنا، وَجمع بِهَذِهِ الجزيرة فلنا، وَأَعْلَى فِيهَا ذكرنَا، حَتَّى صرنا شجى فِي حلق عدونا، إِلَّا بِإِقَامَة حُدُوده، وإعزاز دينه، وَجِهَاد عدوه، مَعَ مجانبة الْأَهْوَاء المضلة، والبدع المردية. ثمَّ تقدم الْأَمِير عبدالرَّحْمَن إِلَى مُحَمَّد بن السَّلِيم الْحَاجِب أَن يحضر القَاضِي مُحَمَّد بن زِيَاد، وَالْفُقَهَاء بِالْبَلَدِ. فَجَمعهُمْ، وَفِيهِمْ عبدالْملك بن حبيب، وَأصبغ بن خَلِيل، وَعبدالْأَعْلَى بن وهب، وَأَبُو زيد بن إِبْرَاهِيم، وَأَبَان ابْن عِيسَى بن دِينَار. فشاورهم فِي أَمر ابْن أخي عجب، وَأخْبرهمْ بِمَا كَانَ من لَفظه. فتوقف القَاضِي مُحَمَّد بن زِيَاد على القَوْل بسفك دَمه. وَتَبعهُ فِي ذَلِك من الْفُقَهَاء أَبُو زيد وَعبدالْأَعْلَى وَأَبَان. وَأفْتى بقتْله عبدالْملك بن حبيب، وَأصبغ بن خَلِيل مَعًا. فَأَمرهمْ مُحَمَّد بن سليم أَن ينصوا فتواهم على وجوهها فِي صك، ليرفعها إِلَى الْأَمِير، ليرى فِيهَا رَأْيه. وفعلوا. فَلَمَّا تصفح الْأَمِير أَقْوَالهم، اسْتحْسنَ قَول ابْن حبيب وَأصبغ، وَرَأى مَا رَأيا من قَتله. وَأمر الْفَتى حسانا؛ فَخرج إِلَيْهِم؛ فَقَالَ لِابْنِ السَّلِيم: قد قهم الْأَمِير مَا أفتى بِهِ الْقَوْم من أَمر هَذَا الْفَاسِق. وَهُوَ يَقُول لَك: أَيهَا القَاضِي "اذْهَبْ؛ فقد عزلناك. وَأما أَنْت، يَا عبدالْأَعْلَى" فقد كَانَ يحيى يشْهد عَلَيْك بالزندقة؛ وَمن كَانَت هَذِه حَاله، فحرى أَلا تسمع فتواه "وَأما أَنْت، يَا أبان بن عِيسَى" فَإنَّا أردنَا أَن نوليك قَضَاء جيان؛ فَزَعَمت أَنَّك لَا تحسن الْقَضَاء. فَإِن كنت صَادِقا، فَعَلَيْك أَن تتعلم؛ وَإِن كنت كَاذِبًا، فالكاذب لَا يكون أَمينا مفتياً، ثمَّ قَالَ حسان لصَاحب الْمَدِينَة: يَأْمُرك الْأَمِير أَن تخرج الْآن مَعَ هذَيْن الشخصين عبدالْملك وَأصبغ؛ فتأمر لَهما بِأَرْبَعِينَ من الغلمان ينفذون لَهما فِي هَذَا الْفَاسِق مَا رأياه، ثمَّ أخرج الْمَحْبُوس، ووقفا مَعًا حَتَّى رفع فَوق خَشَبَة، وَهُوَ يَقُول لعبدالْملك: "يَا أَبَا مَرْوَان، اتَّقوا الله عز وَجل فِي دمي، فَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله"، وَعبدالْملك يَقُول: الْآن وَقد عصيت! حَتَّى طعن. وانصرفا".

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب: خالد الحايك.

3 صفر 1433هـ - 28/12/2011م.

 

شاركنا تعليقك