الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«فَمَنْ عَدَلَ عَن الْكِتَابِ قُوِّمَ بِالْحَدِيدِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ» - ابن تيمية رحمه الله -

"فَمَنْ عَدَلَ عَن الْكِتَابِ قُوِّمَ بِالْحَدِيدِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ".

روى الحافظ ابن عساكر في «تاريخه»،  (39/322) من طريق أبي بكر القاسم بن زكريا بن يحيى المقرئ المطرز، قال: أخبرنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: «بعثنا عثمان بن عفان في خمسين راكباً أميرنا محمد بن مسلمة الأنصاري حتى أتينا ذا خشب؛ فإذا رجل معلق المصحف في عنقه تذرف عيناه دموعاً بيده السيف، وهو يقول: "ألا إن هذا - يعني المصحف - يأمرنا أن نضرب بهذا - يعني السيف - على ما في هذا المصحف"، فقال محمد بن المسلمة: اجلس فقد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك، فجلس فلم يزل يكلمهم حتى رجعوا».

قلت: وهذا إسنادٌ حسنٌ.

إسماعيل بن موسى الفزاري الكوفي صدوق، وحديثه حسن.

وهؤلاء الذين بعثهم عثمان – رضي الله عنه – وأمَّر عليهم محمد بن مسلمة بعثهم إلى المصريين لما أقبلوا يريدونه - أي عثمان -، فدعا عثمان محمد بن مسلمة فقال: اخرج إليهم فارددهم وأعطهم الرضا، وكان رؤساؤهم أربعة: عبدالرحمن بن عديس، وسودان بن حمران، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وابن النباع، فأتاهم ابن مسلمة، فلم يزل بهم حتى رجعوا.

وهذه القصة التي رواها جابر – رضي الله عنه – عن محمد بن مسلمة حجّة؛ لأنه أخبر ذلك الرجل أنهم قد قاتلوا بالسيف على ما في المصحف، ولا شك أن الأمر كان منه صلى الله عليه وسلم.

وقد احتج ابن تيمية - رحمه الله - بهذا، ولكنه نسب هذا القول إلى جابر ورفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر على مقتضى الصنعة الحديثية.

قال ابن تيمية - رحمه الله -: "وَكَلِمَةُ اللَّهِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكَلِمَاتِهِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُهُ وَهَكَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، فَالْمَقْصُودُ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}. فَمَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ قُوِّمَ بِالْحَدِيدِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَضْرِبَ بِهَذَا - يَعْنِي السَّيْفَ - مَنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا - يَعْنِي المُصْحَفَ -»".

قلت: جابر لم يحدّث به هكذا، وإنما نقله عن محمد بن مسلمة حينما قاله لذلك الرجل كما سبق بيانه. وكأن الإمام ابن تيمية علّقه من حفظه - رحمه الله - بدليل أنه أورده في موضع آخر هكذا، فهو يحفظ أن القصة رواها جابر، وهي كذلك فظن أنه جابراً رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم!! والصواب أنه قالها عن محمد بن مسلمة.

وعلى كل حال، فالاحتجاج بما قاله جابر عن محمد بن مسلمة متجه إن شاء الله تعالى.

قال ابن تيمية: "وَعَلَى الحُكَّامِ أَنْ لا يَحْكُمُوا إلَّا بِالعَدْلِ. وَالعَدْلُ: هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فَأَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مَعَ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ إذَا تَنَازَعُوا أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْحَكَمُ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَالْحُكْمُ لَهُ وَحْدَهُ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ؛ فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَكَانَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ عَصَى الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ؛ قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْت تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا أَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك؛ إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)). وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ هَدَاهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقَّ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَبْغِي عَلَى بَعْضٍ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِالْحَقِّ فَيَتَّبِعُ هَوَاهُ وَيُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَزِيغُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَالَ يُوسُفُ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَرُسُلُهُ يُبَلِّغُونَ عَنْهُ ؛ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُهُ وَأَمْرُهُمْ أَمْرُهُ وَطَاعَتُهُمْ طَاعَتُهُ فَمَا حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَهُمْ بِهِ وَشَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ اتِّبَاعُهُ وَطَاعَتُهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَالرَّسُولُ يُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَ الْمُرْسَلِينَ وَأَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْمُلُوكِ أَوْ الشُّيُوخِ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَلَوْ أَدْرَكَهُ مُوسَى أَوْ عِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الرُّسُلِ كَانَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ - عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا - قَالُوا: لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهْم أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ وَعَلَى النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَخْتَلِفْ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ دِينُهُمْ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ))، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أَيْ مِلَّتُكُمْ مِلَّةً وَاحِدَةً كَقَوْلِهِمْ: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أَيْ مِلَّةٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ}، فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ لَكِنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ تَتَنَوَّعُ فَقَدْ يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ أَمْرًا لِحِكْمَةِ ثُمَّ يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ آخَرَ أَمْرًا آخَرَ لِحِكْمَةِ؛ كَمَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ الصَّلَاةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ فَتَنَوَّعَتْ الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَكَانَ اسْتِقْبَالُ الشَّامِ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ السَّبْتُ لِمُوسَى مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَمَّا نُسِخَ صَارَ دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ النَّاسِخَ وَهُوَ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْمَنْسُوخِ دُونَ النَّاسِخِ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَا هُوَ مُتَّبِعٌ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ بَدَّلَ شَرْعَ الْأَنْبِيَاءِ وَابْتَدَعَ شَرْعًا فَشَرْعُهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَلِهَذَا كَفَرَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ. وَاَللَّهُ أَوْجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ؛ فَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ؛ - وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْهُ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ الْمُجَاهِدُونَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَسُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ تَنْصُرُ هَذَا الشَّرْعَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَ جَابِرُ بنُ عَبْدِاللَّهِ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَضْرِبَ بِهَذَا - يَعْنِي السَّيْفَ - مَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا. يَعْنِي الْمُصْحَفَ))، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}؛ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ الْعَدْلَ وَمَا بِهِ يُعْرَفُ الْعَدْلُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ.

فَمَنْ خَرَجَ عَنْ الكِتَابِ وَالمِيزَانِ قُوتِلَ بِالْحَدِيدِ. فَالكِتَابُ وَالعَدْلُ مُتَلَازِمَانِ وَالكِتَابُ هُوَ المُبَيِّنُ لِلشَّرْعِ؛ فَالشَّرْعُ هُوَ العَدْلُ وَالعَدْلُ هُوَ الشَّرْعُ وَمَنْ حَكَمَ بِالعَدْلِ فَقَدْ حَكَمَ بِالشَّرْعِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَنْسُبُونَ مَا يَقُولُونَهُ إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ؛ بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ إمَّا جَهْلًا وَإِمَّا غَلَطًا وَإِمَّا عَمْدًا وَافْتِرَاءً وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَصْحَابُهُ الْعُقُوبَةَ؛ لَيْسَ هُوَ الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ كُلُّهُ عَدْلٌ لَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ وَلَا جَهْلٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَاَلَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقِسْطُ وَالْقِسْطُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}، فَاَلَّذِي أَرَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هُوَ الْعَدْلُ" انتهى كلامه رحمه الله.

وقال - رحمه الله - في شرح قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القُدسي: "وقَوْلُهُ: «وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا»؛ فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الدِّينَ كُلَّهُ؛ فَإِنَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ رَاجِعٌ إلَى الظُّلْمِ وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْعَدْلِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِأَجْلِ قِيَامِ النَّاسِ بِالْقِسْطِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ الَّذِي بِهِ يَنْصُرُ هَذَا الْحَقَّ فَالْكِتَابُ يَهْدِي وَالسَّيْفُ يَنْصُرُ وَكَفَى بِرَبِّك هَادِيًا وَنَصِيرًا".

وقال أيضاً: "فَقِوَامُ الدِّينِ بِالْكِتَابِ الْهَادِي وَالسَّيْفِ النَّاصِرِ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}. وَالْكِتَابُ هُوَ الْأَصْلُ؛ وَلِهَذَا أَوَّلُ مَا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ؛ وَمَكَثَ بِمَكَّةَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى هَاجَرَ وَصَارَ لَهُ أَعْوَانٌ عَلَى الْجِهَادِ".

وقال: "اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَأَكْمَلَ لِأُمَّتِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَجَعَلَهُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعْ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَمُصَدِّقًا لَهَا وَجَعَلَ لَهُ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَشَرَعَ لِأُمَّتِهِ سُنَنَ الْهُدَى؛ وَلَنْ يَقُومَ الدِّينُ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ. كِتَابٌ يَهْدِي بِهِ وَحَدِيدٌ يَنْصُرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فَالْكِتَابُ بِهِ يَقُومُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ. وَالْمِيزَانُ بِهِ تَقُومُ الْحُقُوقُ فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ والقبوض. وَالْحَدِيدُ بِهِ تَقُومُ الْحُدُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ".

وقال ابن القيم في مقدمة «هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى»: "والسيف إنما جاء منفذاً للحجة، مقوماً للمعاند، وحداً للجاحد، قال تعالى: {لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنَا بِالبَيناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ الناسَ بِالقِسط، وَأَنزَلنا الحَديدَ فيه بأَسٌ شَديد وَمنافِعُ لِلناس، وَلِيعلَمَ اللَهُ مَن يَنصُرَهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيب إِنّ اللَه قَوي عَزيز}، فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي:

فَما هُوَ إِلاّ الوَحيُ أَوحَدَ مُرهَف *** يُقيمُ ضُباهُ أَخدَعي كُلُ مائِلٍ

فَهَذا شِفاءُ الداءِ مِن كُلِ عاقِلٍ *** وَهَذا دواءُ الداءِ مِن كُلِ جاهِلِ"

وقال في «أحكام أهل الذمة»: "فبالسيف الناصر والكتاب الهادي عز الإسلام وظهر في مشارق الأرض ومغاربها. وقال تعالى: {لَقَدْ أرْسَلْنا رُسلَنا بالبَينَات وَأنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالمِيزانَ لِيَقُومَ الناسُ بِالقِسْطِ، وَأنْزَلْنا الحَدِيدَ فِيهِ بأس شَديد}، وهو قضيب الأدب. وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتبَ المتقدمة: «بيده قضيب الأدب»، فبعث اللّه رسوله ليقهر به أعداءه ومن خالف أمره. فالسيف من أعظم ما يعتمد في الحرب عليه ويرهب به العدو، وبه ينصر الدّين، ويذل اللّه الكافرين".

وقال عبدالرحمن بن يوسف الرحمة في كتابه «المستطاب في أسباب نجاح دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب»: "ومعلوم أن الحق لا بدّ له من قوة تنصره وتنفذه وله أثر عظيم بالغ في قمع المعارضين، وإسكات المخالفين، وإرجاع المعاندين، ولقد صدق الله العظيم في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].

واستمرت تلك المسيرة المباركة من أئمة الدعوة من آل الشيخ وغيرهم - رحم الله أمواتهم - وينصرها ويمدها بالخير والعطاء أنصار الدعوة من آل سعود، حتى التزم الناس بالطاعة، ودخلوا في دين الله، وانتشر الخير، وقل الشر، وبانت للإصلاح معالم خير وهدى، واجتثت الشرور والمنكرات وغيرت مواطن الفساد، والحق في نمو وازدهار، وسعة وانتشار، حتى تأثر بالدعوة الجم الغفير في كثير من البلاد والأمصار، وساد الأمن في القرى والطرق والبوادي، وكان لطلاب الشيخ - رحمه الله - ومناصرين اليد الطولى في وصول الحق إلى أغلب البلاد، وتأثر الناس بالدعوة إلى التوحيد، وتركوا ما هم عليه من الشرك والتنديد، وهدمت المشاهد والقبور، وعمرت المساجد وحلقات العلم والإيمان، وحكمت الشريعة، ودانوا بها تحاكماً وتحكيماً، وتركوا ما كانوا عليه من تحكيم سواليف الآباء والأجداد وقوانينهم، ورجعوا إلى المعدن الأصيل، والأصل الكريم الكتاب والسنة.

وخاتمة القول: إن الحكم بما أنزل الله واجب شرعي؛ لأن به صلاح البشرية، وإخراجها من معالم الجور إلى سنن العدل، وإن من أظلم الظلم من وقف ضد الأمة في تحاكمها وتحكيمها لكتاب ربها وسنة نبيها، وألزم الرعية بقوانين وضعية، ودساتير جاهلية، ما أنزل الله بها من سلطان، وليس علها دليل ولا برهان، وأشد ظلماً من ذلك من وقف حيال الأمة في تحقيقها للتوحيد ونفورها من الشرك، وعليه فإن الدعوة السلفية الإصلاحية مازالت آثارها وثمارها واضحة للعيان، وأبوابها مفتوحة لكل من رام منهجاً وصراطاً سليماً من الخلل والعضل، فهل من عودة حميدة إليها، وتمسك بأصولها ودخول أرجائها، { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } { بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الروم: 4-5]".

قلت: نعم، الدّين لا يقوم إلا بحماية، وهذه الحماية متمثلة في الحديد، فالكتاب والسنة الصراط الهادي، والسيف هو الناصر، وبدونه لا تقوم للدّين قائمة، ولا تطبق الحدود، ويسود الظلم والفساد، وهذا ما هو ملاحظ الآن في كل البلدان، فالشريعة قد نحيت، والظلم قد انتشر، ولا عدل إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا العدل ينصره السيف، ولهذا جاء ذكر الحديد في هذه الآية، وأن فيه بأس شديد.

قال ابن كثير: "وقوله: {وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وتبيان ودلائل، فلما قامت الحجة على من خالف شرع الله الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده".


شاركنا تعليقك