الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

إصلاح الثّلم لما جاء في فتوى (طارق عبدالحليم) في (جواز العمل في البنوك الربوية) من فهم سقم!

إصلاح الثّلم لما جاء في فتوى (طارق عبدالحليم) في (جواز العمل في البنوك الربوية) من فهم سقم!

 

أناقش في هذه المقالة فتوى لرجل يدّعي العلم وخاصة علم الأصول والتوحيد! وهي في جواز العمل في البنوك الربوية اعتمد فيها على أصل في المقاصد!

وهي للمدعو (طارق عبدالحليم) فقد ختم كتابه في "الأصول" (مفتاح الدخول إلى علم الأصول) بقاعدة مهمة في الشريعة بناها على كلام للإمام الشاطبي في "الموافقات".

قال العلامة الأصولي! - حسب ثنائه على نفسه كثيراً في العلم-: "إذا كان هناك مطلوب ضروري أو حاجي وقد لابسه واكتنفه أمور غير مشروعة ولكن درجة الطلب الشرعي اعلى منها فيكون الإقدام على الفعل – مع تحمّل ما فيه من نهيّ شرعيّ- مقدم على النهي لجلب مصلحة الضروري أو الحاجي بشرط التحفظ حسب الاستطاعة والاحتراز من المنهي عنه من غير حرج وعنت.

ومثال ذلك: النكاح: الذي يلزم عنه في عصرنا طلب القوت والرزق للعيال، مع أن العصر قد شاب الحرام والشبهات كل مساعي الرزق تقريباً، فإن منع ذلك لأدى إلى إبطال أصل النكاح وهو غير صحيح، ولكن يؤتى النكاح مع التحرز ما أمكن عن وسائل الحرام في طلب الرزق.

ومثاله: العمل في البنوك الربوية لمن لا حيلة له في الحصول على وظيفة بشرط تجنب ما يمكنه من التعامل مباشرة مع الفوائد وتحسينها للعملاء وخلافه، فإن الحصول على الرزق للنفس والعيال مقدم على شبهة التعامل في الحرام...".

ثم أتى بقول الشاطبي: "ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى، وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج، كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض، ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا، لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح. وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها". انتهى كلامه.

قلت: هذا الأصل عند الشاطبي هو: (النظر في المآلات) وهو هنا جلب مصلحة للمسلم، لكن المصلحة حتى تكون معتبرة لا بدّ أن يتوافر فيها بعض الشروط، ومن هذه الشروط: عدم معارضتها للنّص (من الكتاب أو السنة) أو الإجماع.

يقول محمد طاهر حكيم: "فإِن عارضت المصلحَة نصا فَهِيَ إِمَّا أَن تكون موهومة لَا تستند إِلَى أصل تقاس عَلَيْهِ، فَهِيَ لَا عِبْرَة بهَا فَإِذا توهم متوهم أَن مصلحَة النَّاس تَقْتَضِي حريَّة تعاملهم بالربا فالتعارض لَيْسَ إِلَّا بَين وهمه وَكَلَام الله تَعَالَى، أما حَقِيقَة الْمصلحَة فَهِيَ مَا قضى بِهِ كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ضَرُورَة إغلاق بَاب الرِّبَا".

ثم لو كان صاحب هذا الباطل من أهل الأصول لما أفتى بما تستنكره العقول! ولا يقول به إلا كلّ جاهل عَجول!

وقد بيّن صاحب كتاب "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" (أحمد الريسوني) أن هذه المسألة تعرض لها الشاطبي غير ما مرة، وعالجها بناء على ما تقرر عنده في المقاصد، فجعل حكم هذه المباحات مع عوارضها المحرمة، يختلف باختلاف مرتبتها في سلم المقاصد، وكان مما ذكر: "وأما إذا كانت هذه المباحات التي تعترضها عوارض المنع، لا ترقى إلى مرتبة الضروريات، ولا يحصل بتركها حرج، فهي في محل الاجتهاد. ومرجعها إلى الخلاف في "تعارض الأصل الغالب" فالتمسك بالأصل يؤدي إلى إبقائها على الإباحة. والتمسك بالغالب يؤدي إلى ترجيح جانب العوارض، والحكم بالمنع.

وقد ساق حجج الوجهتين من النظر، ثم انتهى إلى القول: "وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية، والله أعلم".

ثم قال: "وهذا ما قرره -أيضًا- في الجزء الثالث، حيث قال: "ففي المسألة نظر، ويتجاذبها طرفان".

وقال أيضاً: "ولكنه في الجزء الرابع لم يلتفت إلى هذا التفريق بين المراتب، وتمسك بأصل الإباحة في المراتب الثلاث، حيث قال: "الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية. إذا اكتنفها من خارج، أمور لا ترضى شرعًا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، على شرط التحفظ، بحسب الاستطاعة من غير حرج. وقد ذكر أمثلة مختلطة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما قد يكون من المرتبة الثالثة، كشهود الجنائز. غير أنه - في الجزء الثالث- أخرج عن أصل الإباحة، ما كان مباحًا بالجزء، مطلوب الترك بالكل، فإنه إذا اعترضه أو لابسه منكر، لم يجز الإقدام عليه، وذلك كالغناء المباح، أو أنواع اللهو المباحة، فلا يجوز الإقدام عليها بدعوى الإباحة، بينما يكتنفها شيء من الحرام".

فمدّعي الأصول لم يعرف هذا وحمل كلام الإمام الشاطبي على ما جهله ووافق هواه فعوّج فتواه ولجم ـ بذلك ـ هو فاه!! فكان كم أراد أن يُطبب فأعطب!!!

فالشاطبي عندما ضرب المثال لذلك في مسألة النكاح ضربه فيمن توقع أن يكون من وراء نكاحه مفسدة وهي التعرض للكسب الحرام، فهذا لا يمنعه من الإقدام عليه لما يؤول إليه التحرز من تلك المفسدة؛ فالتحرز من الوقوع في ذلك قد يؤدي إلى ما هو أشد ضررا منه كالوقوع في الزنا، وكذلك إبطال أصل النكاح.

فكلام مدّعي الأصول فاسد؛ يجنح إليه الفهم الكاسد، ومن ميزة هذا الفهم أنه إذا استدل اعتل، مع ظنه أنه اهتم وأغنم ولكن في الحقيقة أنغم!! فتطلّب التأصيل للمؤصل الشرعي، يُسند للدليل السمعي!! لأن المطلوب الضروري والحاجي الحاكم في ضرورته وحاجته الشريعة!! فكما أن الشريعة تُحسّن وتُقبّح، فكذلك هي تُقدّر الضروري والحاجي وفيهما تُفصح ولمن جنى فيهما تُصحح!!فكل ضرورة وحاجة ـ في الكليات الخمسة ـ أوجبتها الشريعة!!  فالضروري والحاجي ينقسم لقسمين: الضروري والحاجي لذاته، والضروري والحاجي لغيره ـ أعني : ضرورته وحاجته متعلقة بغيرها ـ  وهذا الأخير يُنظر فيه إن كان يُدخل العطب أو العدم للضرورات والحاجات الشرعية يُلحق بالأول من حيثية واجب الوجوب!!!

لنعلل لما ذكرناه ولأصله بيناه: الضروري والحاجي لذاته المتعلق ـ بالغاية العبادية المطلوبة شرعا ـ هو من واجب الوجوب وتحصيله شرعا وقصدا من أوجب الواجب؛ سواء بطريقة شرعية أو بطريقة بدعية أو بوسيلة حلالية أو وسيلة حرامية!! مثاله عدم اتلاف النفس وواجب بقائها لذاتها؛ لتعلقها بالغاية التي خلقت لها وهي العبادية!! لقوله تعالى {ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}؛ فلما كانت العبادة أصلا مطلوبا لذاته أوجب ذلك على النفس البقاء لتلك الغاية الذاتية!! فتحتّم عليها ـ من حيث واجب الوجوب ـ تحصيل ذلك بطريق حلال شرعي أو حرام بدعي!! لهذا قال تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه}؛ فالاضطرار ـ لبقاء النفس حية مريدة ـ وتلك هي الضرورة والحاجة لذاتها ـ أوجب عليها تحصيل ذلك بحلال أو حرام؛ كأكل لحم الخنزير إذا تحقق الضرر ـ أعني: الإتلاف ـ بدونه ـ لتلك الضرورة والحاجة لذاتها، فتوجب ـ من حيث واجب الوجوب ـ أكل لحم الخنزير؛ لبقاء النفس حية للغاية العبادية؛ مع أن واجب اتلافها قد يتعين؛ لحفظ الغاية العبادية المطلوبة شرعا!! كيف ذلك!! فإذا داهمنا عدو وجب دفعه بما أمكن وإهلاك النفس في ذلك لتسلم تلك الغاية العبادية وهي بروز الدين وإقامته!! فإذا فهمنا ذلك علمنا أن الحاجة والضرورة لذاتها وبغيرها منوطة في تحقيقها سواء بوسيلة حلالية أو حرامية أو سنية أو بدعية هي لتحقيق الغاية الخلقية العبادية وهي حفظ الدين في الاستقواء والضعف!! فمتى حفظ الدين بحلال أو حرام كان ذلك من واجب الوجوب!! فأين هذا من الذي يُجيز الوسيلة الحرامية لذاتها؛ كالعمل في البنوك الربوية لحفظ الضرورة البهيمية؟؟!!

فلقد علّل ذاك الطارق بهذا الكلام: (ومثال ذلك: النكاح: الذي يلزم عنه في عصرنا طلب القوت والرزق للعيال، مع أن العصر قد شاب الحرام والشبهات كل مساعي الرزق تقريباً، فإن منع ذلك لأدى إلى إبطال أصل النكاح وهو غير صحيح، ولكن يؤتى النكاح مع التحرز ما أمكن عن وسائل الحرام في طلب الرزق.) وظنه البارق!! لكن هو عن أصل الأصول مارق!! كيف ذلك!! فالأصل في النكاح مرغب فيه غير واجب التحصيل وذلك لو امتنع رجل عن الزواج لا يُعد آثما مخالفا للشرع!! بل قد يكون ذلك مندوب في حقه إذا كان ذلك يحقق الغاية الدينية له ولغيره ـ أعني: على ثغر إسلامي يُنافح عنه ـ!! فلو النكاح تحقق فيه أنه يشوّشه أو يُعيقه في تحقيق ذلك نُدب في حقه تركه للتحقق الضرورة والحاجة لذاتها التي أنيطت به هو وليس بغيره!! ومن هذه البابة ترك ابن جرير الطبري إمام المفسرين وابن تيمية والنووي وغيرهم الزواج لأجل تحقيق تلك الغاية الضرورة!! ثم من قال النكاح يوجب القوت؟؟!! بل تحصيل ذلك منفردا أو متزوجا بقدر إقامة الصلب لحفظ الغاية الضرورية الدينية!! ومن هنا كان التكسب وطلب القوت بالحرام ـ منفردا أو متزوجا ـ يُتلف الضرورة والحاجة لذاتها واجبة الوجوب وهي الغاية الخلقية الدينية؛ فإذا فهمنا ذلك علمنا لماذا قُدم حفظ الدين على كل حفظ!! فتحقق أن حفظ الدين واجب الوجوب ـ في التحقيق ـ سواء بوسيلة حلالية أو حرامية!! ومتى تصادم طلبٌ ـ في هذا التحقيق ـ وجب هدره وعدم إعماله لأن الضرر قائم في إفساد الدين والعين!!

ونسأل (علامة الأصول)!! سؤالا: من لم يجد وظيفة، أين اضطراره بالعمل في البنك الربوي؟ وهل سيهلك إذا لم يعمل فيه؟

وانظر كيف جعل (هذا الأصولي) – بزعمه -! أن العمل في البنوك الربوية فيه شبهة فقط!! في قوله: "الحصول على الرزق للنفس والعيال مقدم على شبهة التعامل في الحرام..."!!

وننبه في كلامه إلى مسألة متعلقة بالعقيدة وهي قوله (لا يملك حيلة)! فهل الرزق بالحيل أم بتقوى الله؟ والرزق على الله، وهل طلب الله عز وجل أن يُطلب الرزق بفعل الحرام الذي حرّمه لأنه لا يجد حيلة!! بل ما يدعيه العلامة الأصولي هو إبطال بل إهدار لقوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}، ومن يصادم هذه الآية نقول فيه حقق الأصول أو قوّض الأصول؟؟ اللهم غفرا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

د. خالد الحايك.

16 جمادى الآخرة 1435هـ.

 

شاركنا تعليقك