مفتي ليس بنبيهٍ! وكيفية إفحام الألباني لخصومه!
قال الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/174):
"جرى بيني وبين أحد المفتين شمال سورية، سألته: هل تصح الصلاة في الطائرة؟
قال: نعم. قلت: هل تقول ذلك تقليدا أم اجتهادا؟ قال: ماذا تعني؟ قلت: لا يخفى أن
من أصولكم في الإفتاء، أنه لا يجوز الإفتاء باجتهاد، بل اعتمادا على نص من إمام،
فهل هناك نص بصحة الصلاة في الطائرة؟ قال: لا، قلت: فكيف إذن خالفتم أصلكم هذا
فأفتيتم دون نص؟ قال: قياسا. قلت: ما هو المقيس عليه؟ قال: الصلاة في السفينة.
قلت: هذا حسن، ولكنك خالفت بذلك أصلاً وفرعاً، أما الأصل فما سبق
ذكره، وأما الفرع فقد ذكر الرافعي في شرحه أن المصلي لو صلى في أرجوحة غير معلقة بالسقف
ولا مدعمة بالأرض فصلاته باطلة.
قال: لا علم لي بهذا.
قلت: فراجع الرافعي إذن لتعلم أن (فوق كل ذي علم عليم)، فلو أنك
تعترف أنك من أهل القياس والاجتهاد وأنه يجوز لك ذلك ولو في حدود المذهب فقط،
لكانت النتيجة أن الصلاة في الطائرة باطلة لأنها هي التي يتحقق فيها ما ذكره
الرافعي من الفرضية الخيالية يومئذ. أما نحن فنرى أن الصلاة في الطائرة صحيحة لا
شك في ذلك، ولئن كان السبب في صحة الصلاة في السفينة أنها مدعمة بالماء بينها وبين
الأرض، فالطائرة أيضا مدعمة بالهواء بينها وبين الأرض. وهذا هو الذي بدا لكم في
أول الأمر حين بحثتم استقلالا، ولكنكم لما علمتم بذلك الفرع المذهبي صدكم عن القول
بما أداكم إليه بحثكم!؟".
قلت: مسكين هذا المفتي!! على الأقل لو سأل الشيخ: كيف تكون
الأرجوحة غير معلقة بالسقف ولا مدعمة بالأرض؟!!! يعني أرجوجة طائرة في الجو دون
شيء!! ويكأن الألباني فهم هذا؛ لأنه قال بأن الرافعي ذكر هذا كفرضية خيالية!!
وهذا عجيب من الشيخ الألباني!! وإلزامه للمفتي المسكين الذي سكت
أكّد ذلك! فهلا راجع ذلك المفتي المسألة ورد على الشيخ! أو هل أحد راجع الشيخ فيها
لئلا يبقى على خياله هذا!
الرافعي - رحمه الله- لم يذكر مسألة خيالية، وإنما ذكر هو وغيره من
أئمة الشافعية الأرجوحة المعلقة بالحِبال، ولا شك أن هذه الحبال تحتاج لأوتاد في
الأرض، أو تكون مربوطة بين شجر ونحو ذلك.
ثم إن هذه الصورة مختلف فيها بين فقهاء الشافعية، فمنهم من جوّزها،
ومنهم من قال بعدم جوازها، وقد أصاب المفتي المسكين في قياسه على رأي بعض
الشافعية، لكن رهبة الشيخ الألباني جعلته يسكت!! وقد أخبرني بعض من ناظر الشيخ أو
حضر له بعض المناظرات أنه يُلجم الخصم بأشياء يحكيها قد لا تكون حقيقية أو أنه
فهمها كما أراد هو، فيُفحم الخصم!!
ثمّ إن هذه المسألة لم يذكرها الرافعي فقط، بل ذكرها فقهاء
الشافعية قبله، كالجويني والغزالي.
قال إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب في دراية المذهب"
(2/75): "والصلاة على أرجوحة مشدودة بالحبال ما أراها صحيحة؛ فإن المصلّي
مأمور بالتمكن في مكان صلاته، وليست الأرجوحة مكانَ التمكن في العُرف، وليست
مبنيةً كالغرفة المعلَّقة، والمتّبع في مثل ذلك العرف. وهذا بمثابة اشتراط الشرع،
في صحّة الجمعة، دارَ الإقامة".
وقال الغزالي في "الوسيط في المذهب" (2/61): "لَو
صلى على بعير مَعْقُول أَو فِي أرجوحة معلقَة بالحبال لم تجز لِأَنَّهَا غير معدة
للقرار بِخِلَاف السَّفِينَة الْجَارِيَة والزورق المشدود على السَّاحِل
لِأَنَّهَا كالسرير وَالْمَاء كالأرض والسفينة الْجَارِيَة تمس حَاجَة الْمُسَافِر
إِلَيْهَا إِذْ الْخُرُوج إِلَى السَّاحِل مُتَعَذر للصَّلَاة وَفِي صَلَاة
الْمُقِيم بِبَغْدَاد فِي الزواريق الْجَارِيَة مَعَ تَمام الِاسْتِقْبَال
وَالْأَفْعَال تردد وَاحْتِمَال".
قال الرافعي في "العزيز شرح الوجيز" (1/429): "فعل
الفريضة على الراحلة كما يشتمل على الإخلال بأمر القيام، والاستقبال ففيه شيء آخر،
وهو إقامة الفريضة على ما لا يصلح للقرار، وفي اشتراط إقامتها على ما يصلح للقرار
كلام، فأراد المصنف أن يبين أن امتناع فعل الفريضة على الراحلة ليس لاختلال أمر
الاستقبال فحسب، بل من شرط الفريضة فعلها على ما هو للقرار، وهذا الشرط فأئت إذا
أقيمت على الراحلة.
وفقه الفصل أن استقرار المصلي في نفسه شرط، فليس له أن يصلي
الفريضة وهو سائر ماشٍ؛ لأن المشي يشتمل على الحركات والأصل أنه لا يحتمل أصلاً
فخالفنا في النوافل في السفر لما سيأتي، وهل يجوز فعلها على الدَّابَةِ؟ نظر إن
أخل فعلها بالقيام، أو الاستقبال فلا يجوز، وإن أمكنه إتمام أركان الصلاة بأن كان
في هودج، أو على سرير موضوع على الدابة، فالذي ذكره المصنف أن الفريضة لا تصح، وإن
كانت الدابة واقفة معقولة، واتبع فيه إمام الحرمين حيث فقال: لا تقام الفريضة على
الراحلة وإن كان المصلي قادراً على المحافظة على الأركان كلها مستقبلاً، وكان
البعير معقولاً، لأنه مأمور بأداء الفرائض متمكناً على الأرض، أو ما في معناها،
وليست الدابة للاستقرار عليها، وكذلك القول في الأرجوحة المشدودة بالحبال فإنها لا
تعد في العرف مكان التمكن، وهو مأمور بالتمكن والاستقرار، وهذا بخلاف السفينة حيث
تصح الصلاة فيها وإن كانت تجري وتتحرك بمن فيها، كالدواب تتحرك بالراكبين؛ لأن ذلك
إنما يجوز لمسيس الحاجة إلى ركوب البحر، وتعذر العدول في أوقات الصلاة عنه، فجعل
الماء علي الأرض كالأرض، وجعلت السفينة كالصفائح المبطوحة على الأرض، وألحق
بالسفينة الجارية الزورق المشدود على الساحل، تنزيلاً له منزلة السرير، والماء
منزلة الأرض، وتحركه تسفلاً وتصعداً كتحرك السرير ونحوه على وجه الأرض فلا يمنع
صحة الفريضة".
وقال النووي في "المجموع شرح المهذب" (3/242): "فَإِنْ
صَلَّى كَذَلِكَ فِي سَرِيرٍ يَحْمِلُهُ رِجَالٌ أَوْ أُرْجُوحَةٍ مَشْدُودَةٍ
بِالحِبَالِ أَوْ الزَّوْرَقِ الْجَارِي فِي حَقِّ الْمُقِيمِ بِبَغْدَادَ
وَنَحْوِهِ فَفِي صِحَّةِ فَرِيضَتِهِ وَجْهَانِ: الْأَصَحُّ الصِّحَّةُ
كَالسَّفِينَةِ وَبِهِ قَطَعَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فَقَالَ فِي بَابِ
مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى
سَرِيرٍ فَحَمَلَهُ رِجَالٌ وَسَارُوا بِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ".
وكتب: خالد الحايك.
شاركنا تعليقك