(هوس) حوار الحضارات!
والجناية على آيات القرآن الكريمات.
بقلم: د. خالد
الحايك
فتحت مذياع
سيارتي اليوم عصراً فإذا بحديث لأحد الدكاترة وهو (د. وائل ع.) على إذاعة القرآن
الكريم وهو يتكلم عن (حوار الحضارات) الذي أصبح هذا الموضوع هو شغل هذا الدكتور
الشاغل! وطالما سمعناه يتحدث عنه هو وغيره.
والكلام هنا
ليس على مشروعية هذا الحوار أو عدمه؛ لأن المخالف لن يستمع إلينا.
وإنما الكلام
على الخلط العجيب الذي يقع لدى الكثير من المنظرّين لهذا الحوار الذين يظنون أنهم
وصلوا الغاية في الإبداع!
مما سمعته من
كلام هذا الدكتور أنه قال: هذا الحوار الحضاري ينبغي أن نعمل من أجله لنبني حضارة
إنسانية مشتركة يشترك فيها الجميع بعيداً عن القتل والتدمير وتكفير الآخر، وما
زالت كلامات عيسى عليه السلام في آخر سورة المائدة حاضرة في ذهني: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ
مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي
بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ
مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} إلى قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
يقول الدكتور:
"وانتهت السورة دون أن يبين الله مصير هؤلاء، فالأمر له؛ إن شاء عذبهم وإن
شاء غفر لهم"، ويتابع قوله: "هذا الذي يقوله القرآن وليس وائل عربيات
ولا سين...".
هكذا ادّعى
الدكتور!!
ولا أدري ألا
يعلم الدكتور أن هذه الآية مختلف في تفسيرها؟ بمعنى هل الله تعالى ذكْرُه قال ذلك لعيسى
حين رفعه إليه، أو أنه يقول ذلك له يوم القيامة؟ رجّح الطبري قول السُّدي؛ وهو وأن
الخبرَ خبرٌ عما مضى، وذَكَر ما يرجح هذا القول. ومما ذكر من هذه المرجحات:
"أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه،
فيجوز أن يُتَوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبًا لربه تعالى ذكره: إن تعذّب من
اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم".
نعم، ضعَّف
ابن كثير قول الطبري في هذا، وأن الصواب هو قول قتادة وغيره؛ أن ذلك كائن يوم القيامة،
ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
قلت: وأياً
كان الصواب فإن ما قاله الدكتور باطل جملة وتفصيلاً، وكأنه لا يعي ما يقول! وهل
فاتك يا دكتور قوله تعالى قبل هذه الآيات في الآية (73) من السورة نفسها: {لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وأما تأويل قوله
تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيقول الطبري: "يقول تعالى ذكره: إنْ تعذب هؤلاء
الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها فإنهم عبادك، مستسلمون لك، لا يمتنعون
مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به، وإن تغفر لهم، بهدايتك
إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم فإنك أنت العزيز، في انتقامه ممن أراد الانتقام
منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه، الحكيم في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه
من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب".
ويقول ابن كثير:
"هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا
يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله، وعلى رسوله،
وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا".
فهذا التعدي
من هذا الدكتور وغيره على تفسير آيات الله دون علم يحتِّم على الواقع فيه أن لا
يخوض في مسائل لا يحسنها فيقع في طامات ربما لا يدرك مآلاتها!
وكان مما تكلم
فيه الدكتور المحترم؛ مسألة حوار الآخر (وهو هنا يعني الحوار مع غير المسلم) فذكر
قول الله عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
[ سبأ: 24].
يقول الدكتور:
"فها هو القرآن لم يحسم الأمر ويقول: أنا على حق، فقد نكون نحن على حق أو هم
على حق، القرآن لم يقل هو على حق وإن كنا نرى أننا على حق!!"
أقول: فماذا
بعد الجهل إلا الضلال!!
إذا كان الآخر
وهو غير المسلم ليس على حق ونحن على حق، فلم الحوار إذن؟! أتظن يا دكتور أن رؤوس
الكفر من النصارى واليهود وغيرهم من الملل سيجلسون معك ومع ممن يناصرك في هذه الحوارات
ويقولون لك: نعم الإسلام على حق، ونحن على ضلال؟!!
أما هذه الآية
التي ذكرها الدكتور وقال فيها ما قال بجهل شديد؛ فنبيّن له أقوال أهل التفسير فيها
ليعلم أنه وضع الشيء في غير مكانه، بل أساء إلى القرآن من حيث لا يشعر.
ومعنى الآية
عند السلف: "إنا لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين".
ودخول:
"أو" هنا في العربية له وجه، وقد بين ذلك ابن جرير في تفسيره، فقال بعض نحويي
البصرة: "ليس ذلك لأنه شك، ولكن هذا في كلام العرب على أنه هو المهتدي، قال: وقد
يقول الرجل لعبده: أحدنا ضارب صاحبه. ولا يكون فيه إشكال على السامع أن المولى هو الضارب".
ثم يقول ابن
جرير: "والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره
بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب، كما يقول الرجل لصاحب يخاطبه، وهو يريد تكذيبه في
خبر له: أحدنا كاذب، وقائل ذلك يعني صاحبه لا نفسه، فلهذا المعنى صير الكلام بـأو".
فهذه الآية
خبر عن حال هؤلاء وأنهم على ضلال ولا شك في ذلك، وهو حسم من الله، لا كما ادعى
الدكتور.
وهذا مثل قوله
تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً}، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}، فالله عز وجل
عالم بكل ما ذكر، وإنما هذا الخطاب على وجه الترفّق بعباده، واستمالتهم إلى طاعته،
وهو سبحانه قد علم أن نبيه صلى الله عليه وسلم على هدى، وأنهم على ضلال مبين، ولكنه
رَفقَ بهم في الخطاب، فلم يقل: أنّا على هدى، وأنتم على ضلال. فكذلك قوله: {إلا لنعلم}،
معناه عند بعض المفسرين: "إلا لتعلموا أنتم، إذ كنتم جُهالاً به قبل أن يكونَ.
فأضاف العلم إلى نفسه، رفقًا بخطابهم".
قال ابن كثير:
"هذا من باب اللف والنشر، أي: واحد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى
أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان
على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله؛ ولهذا قال: {وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}".
فيا أيها الدكتور الكريم، أعط القوس باريها، ولا
تقف ما ليس لك به علم، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.
21/2/2011م.
شاركنا تعليقك