نَسْفُ الرأي السَّخيف المُتّهم الإمام البخاري بالتحريف!
أرسل لي أحد الإخوة بعض التغريدات لمعرّف مجهول على
"تويتر" كتبها تحت وسم "ليس خطاً أحمر"! اتهم فيها البخاري
بتحريف الروايات!
وكان بالإمكان عدم الالتفات إلى هرائه؛ لأنه نكرة لا
يُعرف! وكم يوجد من أمثاله ممن يطعنون بأئمة الحديث، وكتبهم!
لكن ارتأيت أن أُبيّن جهله؛ لأن هناك من الحمير مثله ربما
يقفون على كلامه فيعجبهم فيتبعونه!
قال هذا النكرة الجاهل عن صحيح البخاري:
"ليس خطاً أحمر.. فكتابه كباقي الكتب، فيه الحق
والباطل، أنتم فقط تتبعون الهوى، هواكم أن يكون أسلافكم على حق، هواكم أن يكون كل
في ما كتاب البخاري صحيح، هذا الهوى يمنعكم من استخدام عقولكم. والطامة الكبرى أن البخاري لم يكن
أميناً في نقله للأحاديث.
البخاري بشر كباقي البشر، له حسنات وعليه سيئات، وله هوى،
هواه نصرة مذهبه حتى ولو كان بتحريف الأحاديث، يتصرف في الأحاديث حتى تتناسب مع
مذهبه، ومن كان هذا ديدنه محال أن يكون خطا أحمر، وفي التغريدات التالية الأدلة.
التحريف الأول: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث قصة
تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بأبي تراب، كلاهما رويا الحديث من نفس
الطريق (حدثتنا قتيبة بن سعد). نلاحظ أن مسلما نقل مناسبة الحديث، وهو أن رجلاً من
آل مروان كان يأمر بشتم علي. أما البخاري فبتر المناسبة ونقل الحديث فقط!
التحريف الثاني: روى البخاري في صحيحه وأبو داوود الطيالسي
في مسنده رواية عن علي في شأن الوضوء وشرب الماء قائما، فذكر الطيالسي: "ومسح
على رأسه ورجليه"، أما البخاري لم يتحمل أن ينقل الرواية كما هي، لأن مضمونها
يتفق مع ما يقوله الشيعة، فحرف الرواية وقال: "وذكر رأسه ورجليه"!
التحريف الثالث: روى البخاري ومسلم في صحيحيها روايةً تروي
قصة منازعة علي والعباس عند عمر، فنقل مسلم بأمانة علمية كل ما قيل في الرواية،
منها قول عمر لعلي والعباس: "فرأيتماه (أي أبو بكر) كاذبا آثما غادرا
خائنا"، أما البخاري فقلبه لا يتحمل هذا الأمر فقال: "عمل فيه كما
تقولان"!
التحريف الرابع: روى البخاري في صحيحه والحُميدي في مسنده
أن عمر بلغه أن سمرة بن جندب باع خمراً، فنقل الحميدي الرواية كما هي فقال: "قاتل
الله سمرة"! أما البخاري فضعيف أمام هواه، هواه أن يكون كل الصحابة عدول،
فكيف يعقل أن يبيع أحدهم الخمر، فأبهم اسم سمرة وقال: "قاتل الله فلان"!
التحريف الخامس: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبدالله
بن مسعود قصة تروي رخصة النبي لأصحابه بنكاح المتعة، فنقل مسلم الرواية: "رخص
لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل"! أما البخاري، فهواه غلب على أمانته
العلمية، فحذف جملة "إلى أجل" بسبب تعصبه لمذهبه، وحرف حديث ابن مسعود.
أعتقد بأن هذه التحريفات كافية لمن كان له قلبٌ، أن يعرف
أن كتاب البخاري كتاب بشري فيه أخطاء وتحريفات وبتر والأهم من ذلك الهوى!
هذا حال أصح كتاب بعد كتاب الله عندكم، فكيف ببقية الكتب؟!] انتهى كلامه.
قلت:
قبّحك الله ما أجهلك وما أغباك! فأنت حمار لا تفهم، فلم
تُقحم نفسك في الحديث!
تتّهم الإمام البخاري بالتحريف وبتر النصوص لهوى عنده!
وأنت لا تُحسن الكتابة ولا الإملاء! فكيف تفهم طريقة هذا الإمام العظيم!
وما أنت إلا كالمثل القائل: "خرقاء ذات نيقةٍ" =
مع جهلك تدعي المعرفة، وتتأنق في الكلام.
وكالمثل: "كالحادي وليس له بعير"، و"عاطٍ
بغير أنواطٍ" = تنتحل العلم وليس عندك أداته!
لقد أفحمت حتى لست تدري // أسعد الله أكثر أم جذامُ
قال وهب بن منبّه: "كان يقال للأحمق إذا تكلّم: فضحه
حمقه، وإذا سكت فضحه عيّه".
وحمقك كحمق "عِجْل بن لُجَيم" الذي يُضرب فيه
المثل بالحمق، ويزعمون أنه قيل له: إنّ لكلّ فرس جواد اسماً، وإنّ فرسك هذا سابق
فسمّه، ففقأ إحدى عينيه وقال: "قد سميته الأعور"، وفيه يقول جُرثُومَةُ
العنزي:
رمتني بنوُ عجلٍ بداءِ أبيهمُ // وأيّ امرئ في النَّاسِ
أحمقُ منْ عجلِ
أليسَ أبوهم عارَ عينَ جوادهِ // فصارت به الأمثالُ
تُضَربُ في الجهلِ
وهذا الجاهل الأحمق لو عرف منهج الإمام البخاري لما فضح
نفسه بما أتى به وزعم بأنها تحريفات من البخاري!
فقد اتفق أهل العلم على أن الإمام البخاري يختصر المتون
ويقطعها بحسب الحاجة في الاستدلال للباب الذي يورد الأحاديث فيه، ولا يسوق
الأحاديث تامة في بعض الأبواب، وقد يسوقها تامة، وهذا الاختصار أو التقطيع للحديث
لا عيب فيه، ولا يُعدّ تحريفاً.
وقد بيّن الحافظ ابن حجر أن هذا منهج البخاري في «صحيحه» في
غير ما موضع. وبيّن في بعض المواضع أن عدم فهم طريقة الإمام البخاري هو السبب في
ما يُشكل على بعضهم!
قال في «الفتح» (11/575): "أَشْكَلَ هَذَا السِّيَاقُ
عَلَى بَعْضِ مَنْ لَمْ يُمَارِسْ طَرِيقَةَ الْبُخَارِيِّ فِي الِاخْتِصَارِ...".
ولأن البخاري بنى كتابه على الأبواب الفقهية كان أحياناً يقتصر
على موضع الشاهد من الحديث، وأحياناً يتصرف في لفظ ما لا يؤثر في الرواية، والأصل
أنه يأتي بالرواية كما سمعها من شيوخه، وأحياناً يكون الحديث عنده بعدة روايات
فيكون هناك زيادات في بعضها، وهذا لا يعني أنه حذف شيئاً من بعض الروايات، وهنا
يجب جمع كلّ الروايات ثم النظر فيها.
وأما الإمام مسلم فطريقته تختلف في سرد الأحاديث، فإنه
يسوقها تامة؛ لأنه يجمعها في موضع واحد بخلاف البخاري فإنه يُفرّقها في الأبواب.
وسنتناول هذه التحريفات التي ادّعاها ذاك الأحمق الجاهل
النكرة، ونبيّن منهج البخاري فيها، وبراءته من هذا الاتهام!
[التحريف الأول: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث قصة
تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بأبي تراب، كلاهما رويا الحديث من نفس
الطريق (حدثتنا قتيبة بن سعد). نلاحظ أن مسلما نقل مناسبة الحديث، وهو أن رجلاً من
آل مروان كان يأمر بشتم علي. أما البخاري فبتر المناسبة ونقل الحديث فقط!].
أقول:
رواه البخاري في «صحيحه» (8/63) (6280) قال: حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ
أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ
أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِيَ
بِهَا، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ
عَلَيْهَا السَّلاَمُ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ: «أَيْنَ
ابْنُ عَمِّكِ» فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي
فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِإِنْسَانٍ: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ» فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ
تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ
عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: «قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ».
ورواه مسلم في «صحيحه» (4/1874) (2409) قال: حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي
حَازِمٍ-، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: اسْتُعْمِلَ
عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ قَالَ: فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ،
فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا قَالَ: فَأَبَى سَهْلٌ فَقَالَ لَهُ: أَمَّا
إِذْ أَبَيْتَ فَقُلْ: لَعَنَ اللهُ أَبَا التُّرَابِ، فَقَالَ سَهْلٌ:
مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ
لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّتِهِ،
لِمَ سُمِّيَ أَبَا تُرَابٍ؟ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ،
فَقَالَ «أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟» فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ،
فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِنْسَانٍ «انْظُرْ، أَيْنَ هُوَ؟» فَجَاءَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ،
فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ «قُمْ أَبَا التُّرَابِ قُمْ أَبَا التُّرَابِ».
أورد البخاري هذا الحديث تحت «بَاب القَائِلَةِ فِي
المَسْجِدِ»، فهو قد احتج بما فيها على تبويبه، فلا داعي لذكر سبب تحديث سهل بهذا
الحديث.
ومسلم ساق الحديث كاملاً لأنه لم يذكر تبويبات فقهية كما
هو الحال عند الإمام البخاري.
وقد أورد البخاري أيضاً رواية قتيبة في «بَاب نَوْمِ
الرِّجَالِ فِي المَسْجِدِ» واختصر منها أيضاً.
قال (1/96) (441): حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ:
«أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟» قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي،
فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِإِنْسَانٍ: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟» فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ،
وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ».
فيلاحظ أن البخاري اختصر أيضاً: "قَالَ: مَا كَانَ
لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ
بِهِ إِذَا دُعِيَ بِهَا"؛ لأنه لا داعي لذكرها في هذا الباب.
وذكر الحديث من طريق آخر، ولم يذكر مسألة السبّ، فذكره في «بَاب
التَّكَنِّي بِأَبِي تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ أُخْرَى».
قال (8/45) (6204): حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ،
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ، قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إِلَيْهِ لَأَبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا، وَمَا
سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ فَخَرَجَ، فَاضْطَجَعَ إِلَى الجِدَارِ إِلَى
المَسْجِدِ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ،
فَقَالَ: هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الجِدَارِ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَلَأَ ظَهْرُهُ تُرَابًا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: «اجْلِسْ
يَا أَبَا تُرَابٍ».
وهذا الحديث رواه عن خالد أيضاً ابن أبي شيبة كما رواه
البخاري بتمامه مما يدل على أن البخاري لم يتصرف فيه.
قال ابن أبي شيبة في «مسنده» (1/92) (107): حدثنا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ
سَعْدٍ، يَقُولُ: إِنْ كَانَ أَحَبُّ أَسْمَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
إِلَيْهِ لَأَبَا تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يَدْعُوهَ بِهَا، وَمَا
سَمَّاهُ أَبَا تُرَابٍ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
غَاضَبَتْهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَوْمًا، فَاضْطَجَعَ إِلَى
الْجِدَارِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَبْتَغِيهِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ لِفَاطِمَةَ:
«أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ». فَقَالَتْ: خَرَجَ آنِفًا مُغْضَبًا، فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْسَانًا يَبْتَغِيهِ، فَقَالَ: هُوَ
ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ، وَقَدْ زَالَ عَنْ رِدَائِهِ فَامْتَلَأَ ظَهْرُهُ
تُرَابًا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَنْ
ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: «اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ».
ورواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (6/149) (5808) قال:
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حدثنا يَحْيَى
الْحِمَّانِيُّ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَتْ لَأَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَيْهِ: أَبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ
يُدْعُوهُ بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أَبَا تُرَابٍ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا، فَخَرَجَ
فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَطْلُبُهُ، فَلَمْ يَجِدْهُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ لِفَاطِمَةَ:
«أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟»، قَالَتْ: خَرَجَ آنِفًا مُغْضَبًا، فَأَمَرَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْسَانًا مَعَهُ يَطْلُبُهُ، فَقَالَ:
مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ، وَقَدْ زَالَ رِدَاؤُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَامْتَلَأَ
تُرَابًا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ
التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ، وَيَقُولُ: «اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ».
ثم أورده البخاري أيضاً في «بَاب مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ القُرَشِيِّ الهَاشِمِيِّ أَبِي الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ»،
وبيّن فيه مسألة السبّ، ولم يحذفها؛ لأنه هنا يتكلم عن مناقب عليّ ولا يستدل
بالحديث على مسألة فقهية.
قال (5/18) (3703): حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ
رَجُلًا، جَاءَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ: هَذَا فُلاَنٌ، لِأَمِيرِ
المَدِينَةِ، يَدْعُو عَلِيًّا عِنْدَ المِنْبَرِ، قَالَ: فَيَقُولُ: مَاذَا؟
قَالَ: يَقُولُ لَهُ: أَبُو تُرَابٍ فَضَحِكَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا
سَمَّاهُ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ لَهُ
اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَاسْتَطْعَمْتُ الحَدِيثَ سَهْلًا، وَقُلْتُ: يَا
أَبَا عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَلِكَ قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ ثُمَّ خَرَجَ
فَاضْطَجَعَ فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ، قَالَتْ: فِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَوَجَدَ
رِدَاءَهُ قَدْ سَقَطَ عَنْ ظَهْرِهِ، وَخَلَصَ التُّرَابُ إِلَى ظَهْرِهِ،
فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ" فَيَقُولُ: «اجْلِسْ يَا أَبَا
تُرَابٍ مَرَّتَيْنِ».
قال ابن رجب في «فتح الباري» (3/259): "وخرجه في «المناقب»
عن القعنبي، عن عبدالعزيز، بزيادة ونقص".
فنصّ هنا ابن رجب أنه خرّجه عبدالله بن مسلمة القعنبي
بزيادة على بعض المواضع الأخرى، وبنقص عن بعضها.
وهنا في هذه الرواية لم يحذف البخاري أو يبتر - بحسب تعبير
ذاك الأحمق الجاهل - مسألة السب، بل بيّنها وأن ذلك الأمير أمر بسبّ عليّ بأن يقول
له: «أبو تراب»!
وقوله: «يدعو عليًّا عند المنبر» أي يذكره بشيء غير مرضي.
وجاء ذلك في روايات كثيرة.
رواه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1/150) (183) قال:
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا، أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ
فُلَانًا، لِأَمِيرِ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَدِينَةِ يَدْعُوكَ، فَتَسُبَّ عَلِيًّا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فَضَحِكَ وَقَالَ: أَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: تَقُولُ
أَبُو تُرَابٍ...
ورواه ابن حبان في «صحيحه» (15/368) (6925) قال:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَلِيلٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ
عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ، فَقَالَ: هَذَا فُلَانٌ - أَمِيرٌ
مِنْ أُمَرَاءِ الْمَدِينَةِ - يَدْعُوكَ لتَسُبَّ عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَرِ،
قَالَ: أَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: تَقُولُ لَهُ: أَبُو تُرَابٍ، فَضَحِكَ سَهْلٌ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمَّاهُ إِيَّاهُ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ...
ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (6/167) (5879) قال:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حدثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا عَبْدُالْعَزِيزِ
بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَجُلًا
أَتَاهُ فَقَالَ: هَذَا فُلَانٌ، لَأَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَدِينَةِ يَدْعُوكَ
غَدًا فَتَسُبَّ عَلِيًّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ، قَالَ: فَأَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ:
تَقُولُ: أَبُو تُرَابٍ فَضَحِكَ سَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ مَا سَمَّاهُ
إِيَّاهُ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
فالرواة كلهم لم يسموا أمير المدينة هذا، وهو: مروان بن
الحكم.
وقد أخرج البيهقي الحديث في «السنن الكبير» (2/625) (4340)
من طريق أَحْمَد بن سَلَمَةَ، حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، بمثل رواية مسلم.
ثم قال: "رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي
الصَّحِيحِ، عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ".
فهذا البيهقي يجعل رواية البخاري مثل رواية مسلم.
على أنه قد ظهر لي أن الإمام البخاري - رحمه الله – إنما
حذف ما في رواية قتيبة لأمرين:
الأول: أن حذفها لا يؤثر على الرواية، ولا حاجة لها لما
استدل بها في الأبواب التي ذكرها.
الثاني: أن فيها مخالفة للروايات الأخرى: «فَأَمَرَهُ
أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا قَالَ: فَأَبَى سَهْلٌ فَقَالَ لَهُ: أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ
فَقُلْ: لَعَنَ اللهُ أَبَا التُّرَابِ».
فقوله: «لعن الله أبا تراب» تفرد بها قتيبة عن عبدالعزيز
ابن أبي حازم.
وخالفه القعنبي، ويعقوب بن حُميد، وهشام بن عمار، ويحيى بن
بُكير، ولم يذكروا اللعن، وإنما أمر بسبّه بأن يقال له: "أبو
تراب"!! فظنّ المسكين أن تكنية علي رضي الله عنه بهذه الكنية هي مسبة له!
فبيّن سهل أن هذه الكنية من أحبّ الأسماء إليه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو
من كنّاه بها.
وكأنه بسبب نكارة لفظة «اللعن» في رواية قتيبة حذفها
البخاري، وهنا يظهر تقدّمه في هذا العلم - رضي الله عنه-.
وعموماً البخاري لم يبتر مناسبة الحديث كما ادّعى ذاك
الأحمق المجهول، بل ذكرها.
مع التنبه إلى أن سليمان بن بلال لم يذكر كل ذلك في روايته
عن أبي حازم.
[التحريف الثاني: روى البخاري في صحيحه وأبو داوود
الطيالسي في مسنده رواية عن علي في شأن الوضوء وشرب الماء قائما، فذكر الطيالسي:
"ومسح على رأسه ورجليه"، أما البخاري لم يتحمل أن ينقل الرواية كما هي،
لأن مضمونها يتفق مع ما يقوله الشيعة، فحرف الرواية وقال: "وذكر رأسه
ورجليه"!]
أقول: حرف الله رأسك يا حمار!
روى البخاري في «صحيحه» (7/110) (5616) قال: حَدَّثَنَا
آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُالمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، سَمِعْتُ
النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ
الكُوفَةِ، حَتَّى حَضَرَتْ صَلاَةُ العَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَشَرِبَ وَغَسَلَ
وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ،
ثُمَّ قَامَ «فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ» ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا
يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قِيَامًا، «وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ».
وروى أبو داود الطيالسي في «مسنده» (1/125) (141) قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ:
سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ، يَقُولُ: صَلَّى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ الظُّهْرَ فِي الرَّحَبَةِ ثُمَّ جَلَسَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ حَتَّى
حَضَرَتِ الْعَصْرُ ثُمَّ أُتِيَ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّ مِنْهُ كَفًّا فَغَسَلَ
وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ،
ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَ الْمَاءِ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا
يَكْرَهُونَ أَنْ يَشْرَبُوا وَهُمْ قِيَامٌ وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتُ وَقَالَ: «هَذَا وُضُوءُ
مَنْ لَمْ يُحْدِثْ».
وبناء على رواية الطيالسي اتهم هذا الحمار الإمام البخاري
بأنه حرّف الرواية لأنها موافقة لمذهب الشيعة في المسح على الرجلين لا الغسل! فلم
يتحمل البخاري ذلك بزعمه! وكأنه كان مع البخاري!
قبحك الله ما أجهلك!
ماذا ستقول أيها الجاهل في هذه الرواية التي هي خارج صحيح
البخاري؟
روى ابن الجعد في «مسنده» (ص: 82) (459) قال: أخبرنا
شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ: قَالَ: سَمِعْتُ النَّزَّالَ
بْنَ سَبْرَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الظُّهْرَ،
ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، حَتَّى إِذَا
حَضَرَتِ الْعَصْرُ أَتَى بِكُوزٍ مِنَ الْمَاءِ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَفْنَةً، فَمَسَحَ
عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ قَامَ، فَشَرِبَ فَضْلَهُ،
وَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ هَذَا يَعْنِي الشُّرْبَ قَائِمًا «وَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ أَوْ
مِثْلَ مَا صَنَعْتُ» وَقَالَ: «هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ».
ورواه البزار في «مسنده» (3/32) (782) من طريق وَهْبِ بنِ
جَرِيرٍ، قَالَ: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ
النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، أَنَّ عَلِيًّا، صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى
الرَّحَبَةِ فَقَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، فَأَتَى
بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَأَخَذَ مِنْهُ حَفْنَةً فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ
وَيَدَيْهِ وَرَأْسِهِ، وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ مِنْ فَضْلِهِ قَائِمًا.
ورواه ابن خزيمة في «صحيحه» (1/53) (16) من طريق مُحَمَّد بن
جَعْفَرٍ غُندر، قال: حدثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ،
عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ: إنَّهُ شَهِدَ عَلِيًّا صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ
جَلَسَ فِي الرَّحْبَةِ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ
دَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَ بِهِ ذِرَاعَيْهِ وَوَجْهَهُ وَرَأْسَهُ
وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ فَضْلَ وُضُوئِهِ وَهُوَ قَائِمٌ...
فهؤلاء ثلاثة: علي بن الجعد، ووهب بن جرير، وغندر، رووه عن
شعبة وذكروا أنه مسح وجهه ويديه! ولم يذكروا "الغسل"!!
فماذا يقول الأحمق الجاهل في هذه الرواية؟!!
على هناك من يقول من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه
يُمسح على الوجه واليدين؟!
مع التنبيه على على أن ابن الجعد لم يذكر في روايته
"الرجلين"!
فالاختلاف على شعبة في هذا اللفظ!
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (10/82): "قَوْلُهُ: «فَشَرِبَ،
وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ»، كَذَا
هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ بَهْزٍ: «فَأَخَذَ مِنْهُ كَفًّا، فَمَسَحَ وَجْهَهُ
وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ»، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الطَّيَالِسِيِّ: «فَغَسَلَ
وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ»، وَمِثْلُهُ فِي
رِوَايَةِ عَمْرِو بنِ مَرْزُوقٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ
أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ: «وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ»، وَأَنَّ آدَمَ
تَوَقَّفَ فِي سِيَاقِهِ، فَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: «وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ»،
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: «فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ،
وَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسِهِ»، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بنِ
الْجَعْدِ عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: «فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ
وَرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ»".
قلت: فجعل ابن حجر هنا أن الذي تصرف في اللفظ هو آدم بن
أبي إياس، وليس البخاري! وهذا مُحتمل، ويُحتمل أن البخاري هو من تصرف فيه لمخالفته
ما هو مشهور.
على أنه رُوي عن آدم من غير طريق البخاري بمثل رواية
الجماعة عن شعبة.
رواه البيهقي في «الآداب» (436) من طريق جَعْفَر بن
مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيّ، قال: حَدَّثَنَا آدَمُ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قال:
حَدَّثَنَا عَبْدُالمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ
سَبْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ
الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ،
فَأَخَذَ مِنْهُ حَفْنَةً وَاحِدَةً فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ
وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ...
وهذه الرواية موافقة لرواية وهب بن جرير، وغندر عن شعبة.
فيحتمل أن آدم هو من تصرف في الرواية، ويحتمل أن البخاري
هو من تصرف فيها لمخالفتها للمشهور في غسل الرجلين.
على أنه لا يُعاب على البخاري في ذلك إن فعله؛ لأن
الاختلاف في الحديث على شعبة، وهذا ذكاء منه - رحمه الله- وقد رواه عن شعبة جماعة
بذكر مسح الوجه واليدين، وهذا مخالف للمعروف المشهور.
ولو ثبت ذكر المسح على الرجلين هنا فهو كما جاء في قوله
تعالى في قراءة {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ}.
قَالَ الْكرْمَانِي: "فَإِن قلت: لِمَ فصل الرَّأْس
وَالرّجلَيْنِ عَمَّا تقدم وَلم يذكرهَا على وتيرة وَاحِدَة؟ قلت: حَيْثُ لم يكن
الرَّأْس مغسولاً بل ممسوحاً فَصله عَنهُ، وَعطف الرجل عَلَيْهِ وَإِن كَانَت
مغسولة، على نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم} [المائدة: 6]،
إِذْ كَانَ لابس الْخُف فمسحه أَيْضا، وَقيل ذَلِك لِأَن الرَّاوِي الثَّانِي نسي
مَا ذكره الرَّاوِي الأول فِي شَأْن الرَّأْس وَالرّجلَيْنِ".
والاختلاف في لفظ الحديث من شعبة - رحمه الله-، والصواب
فيه: «فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ»
كما رواه منصور بن المعتمر عن عبدالملك.
رواه ابن خزيمة في «صحيحه» (1/137) (202) من طريق
جَرِير، وزَائِدَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ
مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ قَالَ: «صَلَّيْنَا
مَعَ عَلِيٍّ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الرَّحْبَةِ، قَالَ: فَدَعَا
بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَأَخَذَهُ فَمَضْمَضَ، قَالَ مَنْصُورٌ: أَرَاهُ قَالَ:
وَاسْتَنْشَقَ، وَمَسَحَ وَجْهَهُ، وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ، وَقَدَمَيْهِ،
ثُمَّ شَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ
أَنْ يَشْرَبُوا وَهُمْ قِيَامٌ. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ». وَقَالَ: «هَذَا وُضُوءُ مَنْ
لَمْ يُحْدِثْ».
وقد جعل البيهقي رواية البخاري مثل رواية الطيالسي، ولم
يعترض عليها. فإنه ساق في «شعب الإيمان» (8/121) (5580) رواية الطيالسي عن شعبة،
ثم قال: "أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ".
فالبخاري لم يُحرّف الرواية كما زعم هذا الأحمق الجاهل
الغبي! فإن قال بأن رواية الطيالسي هي الصواب عارضناه برواية الجماعة التي تخالفه
ولا تذكر الغسل فيها، فماذا يفعل المسكين الجاهل بهذه الرواية؟
وقد يكون البخاري - رحمه الله - تصرف في الرواية لما رأى
أن مسح الرجلين هنا لا يستقيم: «وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ
رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ». فقال بدل «فمسح»: «فذكر».
والبخاري أحياناً يتصرف في بعض الروايات دون أن يؤثر ذلك
على الرواية، فما فعله هنا - إن صح أنه منه - لم يؤثر في الرواية؛ لأنه لم يستدل
بها هنا على مسألة الوضوء، والحديث أصلاً يحفظ من غير رواية البخاري كما بيناه
آنفاً بذكر المسح في كل ذلك! وهذا مخالف للمعروف المتواتر في مسألة الوضوء من أن
الوجه واليدين والرجلين يجب فيها الغسل لا المسح.
والبخاري يتصرف بذلك لئلا يأتي أحد الجهلة ويستدل بما
يذكره من ألفاظ في كتابه فيحتج بها وهي مخالفة للصحيح المتواتر.
وكذا يتصرف في بعض الروايات لئلا تًشكل على بعض الناس
وتنزيهاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الألفاظ كما فعل في الرواية التي
أخرجها عن إِسْحَاق بن راهويه، قال: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، قال:
أَخْبَرَنَا ابنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، قال: كان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: «إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ،
فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَقَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى
مَكَانٍ، قَالَ: تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: أُنْزِلَتْ
فِي كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ مَضَى».
فتصرف هنا في الرواية فقال: «أُنْزِلَتْ فِي كَذَا
وَكَذَا»، والرواية في «مسند إسحاق بن راهويه»: «أنزلت في إتيان النساء في أدبارهن».
وقد بينت هذا بإسهاب في بحث خاص بعنوان «تحريمُ إتيان
النّساء في أدبارهنّ، وبيان كيف تصرف الإمام البخاريّ برواية نافع مولى ابن عمر في
صحيحه»، ولله الحمد.
[التحريف الثالث: روى البخاري ومسلم في صحيحيها روايةً
تروي قصة منازعة علي والعباس عند عمر، فنقل مسلم بأمانة علمية كل ما قيل في
الرواية، منها قول عمر لعلي والعباس: "فرأيتماه (أي أبو بكر) كاذبا آثما
غادرا خائنا"، أما البخاري فقلبه لا يتحمل هذا الأمر فقال: "عمل
فيه كما تقولان"!].
أقول: قبّحك الله! لم لم يتحمّل البخاري ذلك أيها الكذاب
الأشر؟ وكيف عرفت أنه لم يتحمّل؟
الحديث يرويه البخاري في «صحيحه»، كِتَاب فَرْضِ الخُمُسِ،
(4/79) (3094) قال: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيُّ،
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ
أَوْسِ بْنِ الحَدَثَانِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ، - ذَكَرَ لِي ذِكْرًا
مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ،
فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الحَدِيثِ، فَقَالَ مَالِكٌ - بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي
أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ، إِذَا رَسُولُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ
يَأْتِينِي، فَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى
أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ، لَيْسَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ: يَا مَالِ، إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ
قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ، وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ، فَاقْبِضْهُ
فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ بِهِ
غَيْرِي، قَالَ: اقْبِضْهُ أَيُّهَا المَرْءُ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ
أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ، وَعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا، فَسَلَّمُوا
وَجَلَسُوا، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ،
وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَدَخَلاَ، فَسَلَّمَا فَجَلَسَا،
فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا،
وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ الرَّهْطُ، عُثْمَانُ
وَأَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا
مِنَ الآخَرِ، قَالَ عُمَرُ: تَيْدَكُمْ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي
بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا
صَدَقَةٌ» يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ؟
قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ: ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ،
وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالاَ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ،
قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ
خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الفَيْءِ بِشَيْءٍ
لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ - {قَدِيرٌ} [الحشر: 6]، فَكَانَتْ هَذِهِ
خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا
احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا
وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا المَالُ، فَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ
سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا المَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ
مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِذَلِكَ حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا:
نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ
تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا
عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ
يَعْلَمُ: إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ
تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ،
فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ،
وَاللَّهُ يَعْلَمُ: إِنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ،
ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي، وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا
وَاحِدٌ، جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ، تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ،
وَجَاءَنِي هَذَا - يُرِيدُ عَلِيًّا - يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ
أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ
أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا، قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، عَلَى
أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ: لَتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا
عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا عَمِلَ
فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا:
ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْ
بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ،
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ،
هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالاَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ
مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ
وَالأَرْضُ، لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا
عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، فَإِنِّي أَكْفِيكُمَاهَا.
ورواه مسلم في «صحيحه» (3/1377) (1757) قال: حَدَّثَنِي
عَبْدُاللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ،
حَدَّثَهُ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَجِئْتُهُ حِينَ
تَعَالَى النَّهَارُ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِهِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ
مُفْضِيًا إِلَى رُمَالِهِ، مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ لِي:
يَا مَالُ، إِنَّهُ قَدْ دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ، وَقَدْ أَمَرْتُ
فِيهِمْ بِرَضْخٍ، فَخُذْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ، قَالَ: قُلْتُ: لَوْ أَمَرْتَ
بِهَذَا غَيْرِي، قَالَ: خُذْهُ يَا مَالُ، قَالَ: فَجَاءَ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ
لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ
فَدَخَلُوا، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ؟ قَالَ:
نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ الْآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ،
فَقَالَ الْقَوْمُ: أَجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ
وَأَرِحْهُمْ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُمْ قَدْ
كَانُوا قَدَّمُوهُمْ لِذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّئِدَا، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ
الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا
صَدَقَةٌ»، قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ،
فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ،
أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا
نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»، قَالَا: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللهَ
جَلَّ وَعَزَّ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَاصَّةٍ،
لَمْ يُخَصِّصْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُ، قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7]- مَا أَدْرِي
هَلْ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا أَمْ لَا - قَالَ: فَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَكُمْ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ،
فَوَاللهِ، مَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَخَذَهَا دُونَكُمْ، حَتَّى بَقِيَ
هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ
مِنْهُ نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَالِ، ثُمَّ
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ،
أَتَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ نَشَدَ عَبَّاسًا، وَعَلِيًّا،
بِمِثْلِ مَا نَشَدَ بِهِ الْقَوْمَ، أَتَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ،
قَالَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ
أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَجِئْتُمَا تَطْلُبُ مِيرَاثَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَيَطْلُبُ هَذَا مِيرَاثَ
امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»، فَرَأَيْتُمَاهُ
كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ
لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا
وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَلِيُّ أَبِي بَكْرٍ،
فَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي
لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، فَوَلِيتُهَا ثُمَّ جِئْتَنِي أَنْتَ
وَهَذَا وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا
إِلَيْنَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ
عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ أَنْ تَعْمَلَا فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ، قَالَ:
أَكَذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُمَانِي لِأَقْضِيَ بَيْنَكُمَا،
وَلَا وَاللهِ لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ
السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَرُدَّاهَا إِلَيَّ.
قلت: الأمر واضح في أن البخاري ومسلما أديا الحديث كما
سمعاه، ولا يوجد تصرف فيه.
ففي رواية البخاري: «اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا».
وفي رواية مسلم: «اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا
الْكَاذِبِ الْآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ».
فإذا كان البخاري حرّف الرواية كما يزعم هذا الحمار، فهل
يكون هنا حرّف هذا اللفظ أيضاً؟
والبخاري لم يحرّف الرواية بحيث وضع لفظ: «فَعَمِلَ
فِيهَا بِمَا عَمِلَ» بدل لفظ: «فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا آثِمًا
غَادِرًا خَائِنًا» كما ادّعى هذا الأحمق الجاهل!
بل إن كلا اللفظين محفوظين في الروايات عن غير الإمام
مالك.
وفي بعض الروايات عن الإمام مالك لا يوجد اللفظ الذي عند
مسلم! كما رواه أبو داود في «سننه» (4/580) (2963) قال: حدثنا الحسنُ بن علي
ومحمدُ بن يحيى بن فارس - المعنى- قالا: حدَّثنا بِشْر بن عُمر الزَّهرانيّ، عن
مالك بن أنس، بنحوه، ولفظه: «قال أبو بكر: أنا وليُّ رسولِ الله - صلَّى الله عليه
وسلم -، فجئت أنتَ وهذا إلى أبىِ بكر تطلبُ أنتَ ميراثَك من ابن أخيكَ، ويطلبُ هذا
ميراثَ امرأتِه من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -:
"لا نُورَثُ، ما تركنا صدقةٌ" والله يعلمُ إنه لصادقٌ بارٌّ راشدٌ
تابعٌ للحقِّ، فوليَها أبو بكر، فلما توفي قلتُ: أنا وليُّ رسول الله - صلَّى
الله عليه وسلم - ووليُّ أبي..».
فهل عدم وجود تلك الألفاظ يعني أن أبا داود حرّف الرواية
كما يفعل هذا الحمار؟
مع أن هذا اللفظ موجود في رواية أخرى عن بشر بن عمر!
رواه أبو عوانة في «مستخرجه» (4/245) (6666) قال:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو أُمَيَّةَ، قَالَا: حدثنا
بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، به.
وفيه: «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، فَرَأَيْتُمَاهُ
كَاذِبًا غَادِرًا آثِمًا خَائِنًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّي صَادِقٌ بَارٌّ
رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا تُوُفِّيَ،
قُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَوَلِيُّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا آثِمًا
غَادِرًا خَائِنًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ
لِلْحَقِّ، فَوُلِّيتُهَا ثُمَّ جِئْتَنِي أَنْتَ وَهَذَا وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ
وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ فَسَأَلْتُمَانِيهَا..».
وهذا البخاري يروي الحديث أيضاً في «صحيحه» (5/89) (4033) عن
أَبي اليَمَانِ، قال: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، به.
وفيه: «فَاسْتَبَّ عَلِيٌّ، وَعَبَّاسٌ».
وفيه: «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَنَا وَلِيُّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَضَهُ أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ
فِيهِ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ وَقَالَ: تَذْكُرَانِ
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهِ كَمَا تَقُولاَنِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ: إِنَّهُ
فِيهِ لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ؟ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا
بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهُ سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي أَعْمَلُ
فِيهِ بِمَا عَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَبُو بَكْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ: أَنِّي فِيهِ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ
لِلْحَقِّ؟ ثُمَّ جِئْتُمَانِي كِلاَكُمَا، وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ
وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ...».
ورواه أحمد في «مسنده» (3/300) (1781) قال: حَدَّثَنَا
أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، به، ولم يذكر ما ذكره البخاري في روايته.
ووقع عنده: «قَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا لَعَلِيٍّ»! وهذا ليس مثل رواية البخاري مع أنهما
يرويانه عن أبي اليمان!
ورواه البخاري أيضاً (7/63) (5358) عن سَعِيد بْن
عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، به.
وفيه: «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ
اللَّهِ فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ يَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ
فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ،
وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَذَا
وَكَذَا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ
تَابِعٌ لِلْحَقِّ..».
ورواه البخاري أيضاً (9/98) (7305) عن عَبْداللَّهِ بْنِ
يُوسُفَ التنيسيّ، قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، به.
وفيه: «قَالَ العَبَّاسُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ،
اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ اسْتَبَّا».
وفيه: «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ
فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ - وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ - تَزْعُمَانِ
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا
صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ..».
وحتى لا يُقال إن البخاري هو من تصرف في هذه الرواية «تَزْعُمَانِ
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا» فقد روى أحمد الحديث في «مسنده» (3/301)
(1782) قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، به.
وفيه: «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ،
وَعَبَّاسٍ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا، وَاللهُ
يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ، بَارٌّ، رَاشِدٌ، تَابِعٌ لِلحَقِّ».
ورواه ابن شبّة في «تاريخ المدينة» (1/202) قال: حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، به.
وفيه: «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا
وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَمِلَ
فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَنْتُمَا حَيَّانِ - وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا ظَالِمٌ فَاجِرٌ،
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ
لِلْحَقِّ. ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ:
أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَوْ سِنِينَ
مِنْ إِمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمِثْلِ مَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
فَتَزْعُمَانِ أَنِّي فِيهِمَا ظَالِمٌ فَاجِرٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي
لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ...».
ورواه عبدالرزاق الصنعاني في «مصنفه» (5/469) (9772) عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، به.
وفيه: «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا كَانَ
يَعْمَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ، فَقَالَ: وَأَنْتُمَا تَزْعُمَانِ
أَنَّهُ فِيهَا ظَالِمٌ فَاجِرٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ
بَارٌّ تَابَعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ وُلِّيتُهَا بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ مِنْ
إِمَارَتِي، فَعَمِلَتُ فِيهَا بِمَا عَمِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَأَنْتُمَا تَزْعُمَانِ أَنِّي فِيهَا
ظَالِمٌ فَاجِرٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ تَابَعٌ
لِلْحَقِّ...».
فتبين من هذا أن البخاري لم يتصرف في الرواية وما وقع
عنده: «فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ» موجود في غالب الروايات،
واللفظ الذي عند مسلم: «فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا»،
موجود عند البخاري من طرق أخرى بلفظ: «تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
فِيهَا كَذَا» ولم يحذفه، ولم يتصرف فيه؛ لأنه وقع هكذا في رواية ابن أخي
الزهري عن عمّه.
وهذا الاختلاف من الزهري، فإنه كان يُحدّث به هكذا وهكذا،
وكذا من مالك.
وقد أشار إلى هذا الحافظ ابن حجر، وأشار إلى الاختلاف في
ألفاظ الحديث، فقال في «الفتح» (6/205): "قَوْلُهُ: «فَقَالَ عَبَّاسٌ، يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا»، زَادَ شُعَيْبٌ وَيُونُسُ:
«فَاسْتَبَّ عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ»، وَفِي رِوَايَة عقيل عَن ابن شِهَابٍ فِي الفَرَائِضِ:
«اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ اسْتَبَّا»، وَفِي رِوَايَةِ
جُوَيْرِيَةَ: «وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ الْآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ»،
وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ عَلِيٍّ فِي حَقِّ العَبَّاسِ
شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا يُفْهَمُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ «اسْتَبَّا»،
وَاسْتَصْوَبَ الْمَازِرِيُّ صَنِيعَ مَنْ حَذَفَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ، وَقَالَ: لَعَلَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ وَهِمَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ
مَحْفُوظَةً فَأَجْوَدُ مَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَهَا
دَلَالًا عَلَى عَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ،
فَأَرَادَ رَدْعَهُ عَمَّا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَأَنَّ هَذِهِ
الْأَوْصَافَ يَتَّصِفُ بِهَا لَوْ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ عَنْ عَمْدٍ،
قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الخَلِيفَةِ
وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ إِنْكَارٌ لِذَلِكَ مَعَ مَا
عُلِمَ مِنْ تَشَدُّدِهِمْ فِي إِنْكَارِ المُنْكَرِ".
ثم قال: قَوْلُهُ «ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ
فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» زَادَ
فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: «وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ
وَعَبَّاسٍ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَذَا وَكَذَا»، وَفِي رِوَايَةِ
شُعَيْبٍ «كَمَا تَقُولَانِ»، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: «فَجِئْتُمَا
تَطْلُبُ مِيرَاثَكَ من ابن أَخِيكَ، وَيَطْلُبُ هَذَا مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ مِنْ
أَبِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَة» فرأيتماه كَاذِبًا آثِمًا
غَادِرًا خَائِنًا»، وَكَأَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً
فَيُصَرِّحُ، وَتَارَةً فَيُكَنِّي، وَكَذَلِكَ مَالِكٌ، وَقَدْ حُذِفَ ذَلِكَ فِي
رِوَايَةِ بِشْرِ بنِ عُمَرَ عَنْهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ
نَظِيرُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ الْعَبَّاسِ لِعَلِيٍّ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ
مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ حُذِفَتْ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الفَرَوِيِّ
شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ
عَنْهُ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ
وَسَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ كِلَاهُمَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَلَى
مَا قَالَ جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ، وَاجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ عَنْ مَالِكٍ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ حَفِظُوهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمَحْذُوفُ مِنْ
رِوَايَةِ إِسْحَاقَ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَتِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْحَدِيثِ،
لَكِنْ جَعَلَ الْقِصَّةَ فِيهِ لِعُمَرَ حَيْثُ قَالَ: «جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ
تَسْأَلنِي نصيبك من ابن أَخِيكَ»، وَفِيهِ: «فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا نُورَثُ»، فَاشْتَمَلَ
هَذَا الْفَصْلُ عَلَى مُخَالَفَةِ إِسْحَاقَ لِبَقِيَّةِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ
فِي كَوْنِهِمْ جَعَلُوا الْقِصَّةَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَجَعَلُوا الْحَدِيثَ
الْمَرْفُوعَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ عَنْهُ،
وَإِسْحَاقُ الْفَرَوِيُّ جعلَ الْقِصَّةَ عِنْدَ عُمَرَ، وَجَعَلَ الْحَدِيثَ
الْمَرْفُوعَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِغَيْرِ وَاسِطَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَقد وَقع فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن ابن شِهَابٍ
نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْفَرَوِيِّ سَوَاءً، وَكَذَلِكَ
وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَن ابن شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بنِ شَبَّةَ".
[التحريف الرابع: روى البخاري في صحيحه والحُميدي في مسنده
أن عمر بلغه أن سمرة بن جندب باع خمراً، فنقل الحميدي الرواية كما هي فقال:
"قاتل الله سمرة"! أما البخاري فضعيف أمام هواه، هواه أن يكون كل
الصحابة عدول، فكيف يعقل أن يبيع أحدهم الخمر، فأبهم اسم سمرة وقال:
"قاتل الله فلان"!].
أقول: قاتلك الله ما أجهلك!
وما دخل ما فعله سمرة بمسألة عدالة الصحابة؟
عدالة الصحابة تتعلق بأنهم لا يكذبون في حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولا علاقة لها بارتكاب بعضهم الذنوب بل وبعض الكبائر، أو
وقوعهم في أخطاء ما!
روى البخاري الحديث في «صحيحه» (3/82) (2223) قال:
حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي طَاوُسٌ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ أَنَّ فُلاَنًا
بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا، أَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَاتَلَ
اللَّهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا».
فهذا الحديث رواه البخاري عن شيخه الحميدي، والحديث عنده
في «مسنده» (1/154) (13) قال: حدثنا سُفْيَانُ، حدثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي طَاوُسٌ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ أَنَّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ
اللَّهُ سَمُرَةَ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ
الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا».
فالبخاري رواه عن الحميدي والحميدي عنده ذكر الاسم، لكن لم
يذكره البخاري وإنما أبهمه، فيحتمل أن يكون هذا من تصرف البخاري، ولا شيء فيه؛
لأنه لا يؤثر على الرواية، ويحتمل أنه سمعه من الحميدي هكذا وإن كان في أصل الحميدي
بتسميته، وهذا يحدث كثيراً، يسمى في الأصل وعند التحديث يُبهم، أو يُبهم في الأصل
وعند التحديث يُسمى.
فهذا مسلم (الصحيح: 3/1207، 1582)، وابن ماجه (السنن:
4/470، 3383) قد رويا الحديث عن أَبي بَكْرِ بن أَبِي شَيْبَةَ، قَال: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ
سَمُرَةَ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ،
فَجَمَلُوهَا، فَبَاعُوهَا».
فذكر اسم «سَمُرة» هنا، لكن في أصل كتاب ابن أبي شيبة لم
يُذكر!
قال ابن أبي شيبة في «مصنفه» (11/212) (22035): حَدَّثَنَا
ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَلَغَ
عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ، أَنَّ فُلاَنًا يَبِيعُ الْخَمْرَ فَقَالَ: مَا لَهُ
قَاتَلَهُ اللَّهُ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمَ
الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا، فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا».
فهذا يعني أن ابن أبي شيبة كان أحياناً يُبهمه، وأحياناً
يسميه، ويحتمل ن الحميدي كان يفعل ذلك أيضاً.
ولو صح أن البخاري هو من تصرف في هذا فلم يذكره وأبهمه،
فهو قد أُبهم في روايات أخرى.
رواه البخاري في «صحيحه» (8/566) (3460) قال: حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ
طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَقُولُ: «قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ
حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا».
فالأصل أن البخاري سمعه من شيخه علي بن المديني هكذا،
ويُحتمل أنه تصرف فيه أيضاً.
وقد رُوي من طرق أخرى مُبهماً غير مسمى!
رواه الإمام الشَّافِعِيُّ، قال: أنبأنا سُفْيَانُ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ خَمْرًا، قَالَ: قَاتَلَ
اللهُ فُلَانًا بَاعَ الْخَمْرَ، أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ
الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا».
ورواه البزار في «مسنده» (1/55) (207) قال: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ
بَلَغَهُ: أَنَّ رَجُلا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ
اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا».
ورواه ابن الجارود [كما في المنتقى (577)] قال: حَدَّثَنَا
ابنُ الْمُقْرِئِ، وَمَحْمُودُ بْنُ آدَمَ، قَالَا: حدثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَمِعْتُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ وَبَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا
بَاعَ خَمْرًا فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا...
فهل هؤلاء كلهم (الشافعي، وأحمد بن عبدة، وابن المقرئ،
ومحمود بن آدم) حرّفوا الرواية كما فعل البخاري بحسب زعمك أيها الجاهل الأحمق
الأخرق؟ وهل ضعفوا أمام هواهم بسبب عدالة الصحابة؟
ما أغباك! وما أجهلك!!
والظاهر أن سفيان كان أحياناً يُسميه وأحياناً يبهمه، وقد
يكون ذلك ممن هو دون سفيان: عمرو أو طاوس، فقد رواه أبو عوانة في «مستخرجه» (3/371)
(5357) قال: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، قال: حدثنا أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ
بِسْطَامٍ، قال: حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ
عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا حِينَ يَبِيعُ
الْخَمْرَ...
وأما مسألة بيع سمرة الخمر الذي طعن بسببها هذا الأحمق في
البخاري لأن الأمر يتعلق بعدالة الصحابة فهذا بسبب جهله وحمقه!
فهل باع سمرة الخمر، وانتفع بثمنها؟ وهل استحل بيعها؟
إن كان كذلك فلم يسكت عنه عمر ويكتفي بهذا القول فقط؟! وما
معنى: "قَاتَلَهُ اللَّهُ"؟
سَمُرَةُ رضي الله عنه لم يستحل بيع الخمر، وإِنَّمَا
كَانَ يَأْخُذُهُ فِي الجِزْيَةِ لِيَبِيعَهُ كما قال الفِرْيَابِيُّ القَاضِي.
وقد روى عبدالرزاق الصنعاني في «مصنفه» (6/74) (10044) قَالَ:
أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِالْأَعْلَى، عَنْ
سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ عُمَّالَهُ يَأْخُذُونَ الخَمْرَ
فِي الجِزْيَةِ فَنَشَدَهُمْ ثَلَاثًا، فَقَالَ بِلَالٌ: إِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ
ذَلِكَ قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ وَلِّهِمْ بَيْعَهَا، فَإِنَّ
الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا
أَثْمَانَهَا».
وروى الحُمَيْدِيُّ في «مسنده» (1/55) (14) عن سُفْيَان بن
عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي فُلَانٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ، عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا - يُحَرِّكُهَا يَمِينًا
وَشِمَالًا-: عُوَيْمِلٌ لَنَا بِالْعِرَاقِ، عُوَيْمِلٌ لَنَا بِالْعِرَاقِ
يَخْلِطُ فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ أَثْمَانَ الْخَمْرِ، وَالْخَنَازِيرِ، وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ
حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» - يَعْنِي أَذَابُوهَا".
ورواه أبو نُعيم في «الحلية» (7/245) من طريق الحميدي، ثم
قال: "لَمْ نَكْتُبْهُ مِنْ حَدِيثِ مِسْعَرٍ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُيَيْنَةَ".
قلت: زاد الحميدي في هذا الإسناد "عن مسعر"!
ورواه غيره عن سفيان دون هذه الزيادة.
ورواه عبدالرزاق في «مصنفه» (8/196) (14855) عن ابن
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يُقَلِّبُ كَفَّهُ وَيَقُولُ: «قَاتَلَ اللَّهُ
سَمُرَةَ، عُوَيْمَلٌ لَنَا بِالْعِرَاقِ، خَلَّطَ فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ
ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَهِيَ حَرَامٌ وَثَمَنُهَا حَرَامٌ».
ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» (9/346) (18738) من طريق
إِبْرَاهِيم بن بَشَّارٍ، عن سُفْيَان، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَمَّنْ
سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، بنحوه.
وزاد فيه: "قَالَ سُفْيَانُ: يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا
فِي جِزْيَتِهِمُ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ، وَلَكِنْ خَلُّوا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ بَيْعِهَا، فَإِذَا بَاعُوهَا فَخُذُوا أَثْمَانَهَا فِي جِزْيَتِهِمْ".
قال البيهقي في «السنن الصغير» (2/314): "وهَذَا
مُنْقَطِعٌ، وَالْإِذْنُ فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَيْعِهَا
تَأْوِيلٌ مِنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَاللهُ أَعْلَمُ،
وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ فِي تَخْلِيَتِهِمْ".
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (4/414 - 415): "قَالَ
ابن الجَوْزِيِّ والْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ بَيْعِ
سَمُرَة للخمر عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ
قِيمَةِ الْجِزْيَةِ فَبَاعَهَا مِنْهُمْ مُعْتَقدًا جَوَاز ذَلِك، وَهَذَا
حَكَاهُ ابن الْجَوْزِيّ عَن ابن نَاصِرٍ وَرَجَّحَهُ، وَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُمْ بَيْعَهَا فَلَا يَدْخُلُ فِي مَحْظُورٍ وَإِنْ أَخَذَ
أَثْمَانَهَا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَاطَ مُحَرَّمًا
وَيَكُونُ شَبِيهًا بِقِصَّةِ بَرِيرَةَ حَيْثُ قَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ
وَلَنَا هَدِيَّةٌ.
وَالثَّانِي: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
بَاعَ الْعَصِيرَ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَالْعَصِيرُ يُسَمَّى خَمْرًا
كَمَا قَدْ يُسَمَّى الْعِنَبُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إِلَيْهِ. قَالَ: وَلَا
يُظَنُّ بِسَمُرَةَ أَنَّهُ بَاعَ عَيْنَ الْخَمْرِ بَعْدَ أَنْ شَاعَ
تَحْرِيمُهَا، وَإِنَّمَا بَاعَ الْعَصِيرُ.
والثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَلَّلَ الْخَمْرَ وَبَاعَهَا،
وَكَانَ عُمَرُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحِلُّهَا كَمَا هُوَ قَوْلُ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَاعْتَقَدَ سَمُرَةُ الْجَوَازَ كَمَا تَأَوَّلَهُ
غَيْرُهُ أَنَّهُ يَحِلُّ التَّخْلِيلُ وَلَا يَنْحَصِرُ الْحِلُّ فِي
تَخْلِيلِهَا بِنَفْسِهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَبَعًا لِابْنِ الْجَوْزِيِّ:
وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ.
قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ
أَخْذهَا عَنِ الْجِزْيَةِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَصَلَتْ لَهُ عَنْ
غَنِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَقَدْ أَبْدَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الْمَدْخَلِ فِيهِ
احْتِمَالًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ سَمُرَةَ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَلَمْ
يَعْلَمْ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عُمَرُ عَلَى ذَمِّهِ دُونَ
عُقُوبَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِهِ.
وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ سَمُرَةَ
كَانَ وَالِيًا لِعُمَرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعماله إِلَّا أَن ابن الْجَوْزِيِّ
أَطْلَقَ أَنَّهُ كَانَ وَالِيًا عَلَى الْبَصْرَةِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَهُوَ وَهَمٌ، فَإِنَّمَا وَلِيَ سَمُرَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ لِزِيَادٍ وَابْنِهِ
عُبَيْدِاللَّهِ بن زِيَاد بعد عمر بدهر، وولاة الْبَصْرَةِ لِعُمَرَ قَدْ
ضُبِطُوا وَلَيْسَ مِنْهُمْ سَمُرَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أُمَرَائِهَا
اسْتَعْمَلَ سَمُرَةَ عَلَى قَبْضِ الْجِزْيَةِ".
قلت: فاتهم تأويل ابن عيينة السابق: "لَا تَأْخُذُوا
فِي جِزْيَتِهِمُ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ، وَلَكِنْ خَلُّوا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ بَيْعِهَا، فَإِذَا بَاعُوهَا فَخُذُوا أَثْمَانَهَا فِي جِزْيَتِهِمْ"،
ورضيه البيهقي.
وأما كون سمرة كان عاملاً لعمر فجاء في حديث ابن عيينة
السابق عن عبدالملك بن عمير، وهو وإن كان فيه رجل مبهم إلا أن مثله لا يضر
الاستشهاد به على مثل هذا الأمر سيما والقصة مشهورة صحيحة.
وقول عمر: «قَاتَلَهُ اللَّهُ!» يُسْتَعْمَل عَلَى جِهَةِ
التعَجُّب.
قال ابن فارس في «مقاييس اللغة» (3/63): "وَيُقَالُ:
«لَا تَسُبُّوا الْإِبِلَ، فَإِنَّ فِيهَا رَقُوءَ الدَّمِ»، فَهَذَا نَهْيٌ عَنْ
سَبِّهَا، أَيْ شَتْمِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لِلْإِبِلِ: مُسَبَّبَةٌ فَذَلِكَ
لِمَا يُقَالُ عِنْدَ المَدْحِ: قَاتَلَهَا اللَّهُ فَمَا أَكْرَمَهَا مَالًا!
كَمَا يُقَالُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ مِنَ الْإِنْسَانِ: قَاتَلَهُ اللَّهُ! وَهَذَا
دُعَاءٌ لَا يُرَادُ بِهِ الوُقُوعُ".
[التحريف الخامس: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن
عبدالله بن مسعود قصة تروي رخصة النبي لأصحابه بنكاح المتعة، فنقل مسلم الرواية:
"رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل"! أما البخاري، فهواه غلب
على أمانته العلمية، فحذف جملة "إلى أجل" بسبب تعصبه لمذهبه، وحرف
حديث ابن مسعود].
أقول: قبحك الله ما أجهلك!
الحديث رواه البخاري في «صحيحه» (7/4) (5075) قال: حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ،
قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ، فَقُلْنَا: أَلاَ نَسْتَخْصِي؟ "فَنَهَانَا
عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ المَرْأَةَ بِالثَّوْبِ،
ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا
طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]".
ورواه مسلم في «صحيحه» (2/1022) (1404) قال: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، قال: حَدَّثَنَا
أَبِي، وَوَكِيعٌ، وَابْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَاللهِ، يَقُولُ: "كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي؟
فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ
إِلَى أَجَلٍ"، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87].
قلت: هكذا وقعت الرواية للبخاري دون لفظة «إلى أجل»، كذا
رواه جرير عن إسماعيل بن أبي خالد. وقد توبع قتيبة على عدم وجود هذه اللفظة في
حديث جرير.
رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/127) (13464) قال: أَخْبَرَنَا
أَبُو عَمْرٍو الْأَدِيبُ، قال: أنبأنا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قال: حدثنا
عِمْرَانُ - هُوَ ابْنُ مُوسَى-، قال: حدثنا عُثْمَانُ - هُوَ ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ-، قال: حدثنا جَرِيرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَاللهِ يَقُولُ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي "فَنَهَانَا
عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَخَّصَ
لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ
لَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:
87]".
قال البيهقي: "رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ،
عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي
شَيْبَةَ".
قلت: فهذا عثمان بن أبي شيبة رواه عن جرير كما رواه قتيبة
عنه دون ذكر هذه اللفظة، فهل البخاري هو من حذفها أيها الجاهل؟!
ومسلم روى حديث عثمان في المتابعات ولم يسق لفظه وكأنه
بسبب عدم وقوع هذه اللفظة فيه، ولم يُنبّه على ذلك، فهو ذكر الرواية السابقة، ثم
قال: "وحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَقَالَ: ثُمَّ
قَرَأَ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُلْ: قَرَأَ عَبْدُاللهِ".
وقد روى الحديث أيضاً أبو يعلى في «مصنفه» (9/260) (5382) قال:
حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، قال: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الْفَزَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي
حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: كُنَّا نَغْزُو
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ،
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَسْتَخْصِي؟ «فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَأُمِرْنَا
أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ»، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحِلَّ اللَّهُ}
[المائدة: 87].
فهل أبو يعلى هنا حذف هذه اللفظة وحرّف الرواية؟!
فهنا وافق مروان بن معاوية جريرا في عدم ذكر هذه اللفظة «إلى
أجل»!
ثم إن الأمر معروف أنهم كانوا يتمتعون إلى أجل قبل أن
يُحرم النبي صلى الله عليه وسلم المتعة.
ومن غباء هذا الجاهل أنه احتج على البخاري بأنه حرف
الرواية بأن مسلماً أتى بها كما هي دون تصرف! ولم ينظر إلى أن مسلماً ساق الرواية
هذه ثم ساق بعدها الروايات الأخرى في تحريم المتعة، وحديث عليّ رضي الله عنه مشهور
ومعروف في «الصحيحين» وغيرهما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ
الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ».
وختاماً: فهذه هي المواضع التي استدل بها هذا الجاهل
النكرة متهماً الإمام البخاري تحريفه للروايات بسبب العصبية والهوى وغير ذلك.
ومع أنه لا يستحق الرد كما أشرت في البداية إلا أني آثرت
أن يكون هذا الكلام رداً على الشبهة عموماً لئلا يخرج علينا أمثال هذا الجاهل ممن
لا يعرفون شيئاً في الحديث، فينشرون هذه الأمور على وسائل التواصل لتشكيك الناس في
السنة، وإسقاط صحيح البخاري وغيره، فيتلقّف هذه الشبه أمثالهم من الجهلة والأغبياء
فيطيرون بها! والله غالب على أمره.
والحمد لله على توفيقه ونعمته.
وكتب: د. خالد الحايك.
الثامن والعشرون من شهر جمادى الآخرة لعام 1441هـ.
شاركنا تعليقك