«بيانُ الدّاء الدّوي» في قَلب المدّعي د. «عبدالقادر المْحِمْدِي»!
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحكم العدل، الذي بيّن في كتابه الفارق بين من
آمن فعزّ ومن نافق فذلّ، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى الأجل، وعلى آله وصحبه
ومن تبعهم بإحسان من أهل التقوى والوَجَل، أما بعد:
فإنّ مما ابتلينا به في هذا الزمان، انتشار الجهل بين من
يحملون الشهادات الجامعية! وماهذا إلا لأن كثيراً من هؤلاء لم يدرسوا العلوم
الشرعية عن رغبة، وإنما بسبب ضعف تحصيلهم العلمي في المدارس فلم يجدوا إلا كليات
الشريعة! التي أصبحت مهانة في زماننا بحيث يدخلها الضعاف والمتردية والنطيحة إلا
من رحم الله!
والمصيبة أنهم يظنون في أنفسهم أنهم من أهل العلم!!
فيُصدرون أنفسهم للناس، ويغتر بهم العوام لما يحملون من ألقاب، وما يخرج من أكثرهم
إلا العيب والسباب! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد انتشرت في بعض هؤلاء جملة من الأمراض التي يُصاب بها
أهل الجهل والحقد كالكذب والحسد {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}!
فتراهم يتكلمون عن الأدب والأخلاق وهم أبعد الناس عنها!
ومع جهلهم يصوّرون للناس أنهم هم المدافعون عن
"الصحيحين"، فتراهم إذا وجدوا طالب علم ضعّف حديثاً فيهما - بناء على
أدلة علمية ومنهج نقدي- ملأوا الدنيا صراخاً، واتهموه بالطعن في الصحيحين!
وهم لا يفرقون بين "الطعن" وبين
"الانتقاد" أو "الاعتراض" وذلك إما قصداً لما في نفوسهم، أو
جهلاً لما في رؤوسهم! فإذا قرأت لهم لم تكد تجد جملة صحيحة لغوياً وأدبياً -على
قلة كتاباتهم -!
ولا شك أن الصحيحين "صحيح البخاري وصحيح مسلم"
أصحّ كتابين على وجه البسيطة بعد كتاب الله تعالى، ولا يُنازع في ذلك أحد علم من
علوم الإسلام مسكة، ولا يقصد غمزهما والحط منهما إلا زنديق خبيث يريد هدم الإسلام
بهدم السنة وأنّى له ذلك.
فإذا تقرر ذلك فينبغي أن يعلم أيضًا أن صاحبي الصحيح - رحمهما
الله ورضي عنهما - بشر يصيبان ويخطآن، ولهذا استدرك عليهما جمع من أهل العلم ممن
جاء بعدهما بعض الأحاديث، وهذا لا يحط من قدرهما ولا يُنقص من قيمة كتابيهما.
ولم نجد أهل العلم طعنوا في أولئك المستدرِكين أو سبوهم أو
شتموهم، ولم نجدهم اتهموهم في نياتهم بأنهم يريدون إسقاط الصحيحين وهيبتهما تحت
دعوى الدفاع عن الصحيحين وحفظ هيبتهما!
فلا جدال في أن من أراد إسقاطهما فهو خبيث ولن يُفلح بإذن
الله تعالى.
لكن لما ابتلينا في هذا الزمان بأقوام إذا رأوا أحدا يتكلم
بمنهجية علمية وينتقد بعض أحاديث الصحيحين بالأدلة النقدية هيّجوا الناس عليه بجهل
تحت دعوى الطعن في الصحيحين وإسقاطهما أو بتهمة التكلم في أهل العلم بتوهيمهم!!
فَمَنْ مِنَ العلماء لم يخطئ ولم يَهم؟
ومَنْ مِنَ العلماء لم يَستدرك على غيره ويُستدرك عليه؟
هذه هي طبيعة كل العلوم، فكيف بالعلوم الشرعية وخاصة علم
الحديث!
فنحن ندافع عن الصحيحين وعن الحديث عموماً ببيان مناهج أهل
العلم، ووضع الأمور في نصابها وقد نذرنا أعمارنا وأموالنا وحياتنا لأجل السنة
النبوية المطهرة، فلا يزاودن علينا من كان مزجى البضاعة هزيل الصناعة! فهذا العلم
ذكر بين العلوم يحبّه من الرجال فحولهم، وميدان العلوم مفتوح لمن منّ الله عليه
يُحاجج بالأدلة، ولا يهمّه تشغيب الذين لا يفقهون روح هذا العلم، ولم يتذوقوا
حلاوته، ولم يختلط بدمهم ولحمهم.
ولهذا تجدهم يستنكرون كل ما خالف ما استقر في أوهامهم!
لأنهم لا يملكون أدواته! فأنّى لهم درك المقصود أو نيل المراد!!!
وقد مَنَّ الله سبحانه على عبده الفقير لرحمته فكتبت عشرات
البحوث والمقالات، ورد بعضهم عليّ في بعض الأحاديث بأشياء غير ملزمة أو بأمور
ناتجة عن عدم القراءة أو الفهم! والفهم منّة من الرحمن، فليس كل من يقرأ يفهم!
والأصل في الردود أن تكون مبنية على أصول منهجية، بحيث
يُركّز فيه الراد على مواطن الخطأ ويدحضها بأدلة علمية واضحة، لا من أجل الرد فقط؛
إذ "الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض".
فهناك ممن وصفنا من إذا سمع أحداً ضعّف حديثا في الصحيحين
سارع قائلاً: "سأرد عليه"، فوا عجباً كيف ترد قبل أن تقرأ وتستوعب
الأمر؟!
وكنت - والله - لا أريد الرد على من تعقبني ببعض الخربشات،
والوقفات العرجاء، التي لا خطام لها ولا زمام! لكن لما رأيت تطاول هؤلاء الأقزام،
وغرورهم الذي بلغ بهم غاية، استخرت الله في أن أجعلهم عبرة وآية! فشحذت شفرتي، لأقطع
تلك الشبهات والتناقضات، ولأريح ذبيحتي وأخلصها من الأوهام والخيالات! وهذا مستعار
- مستعيراً تشبيهي من حديث الإحسان لجدّنا العدنان صلى الله عليه وسلم: «وإِذَا
ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ،
فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».
وسأحاول - بإذن الله - أن أتجنب العبارات القاسية، إلا إذا
كانت الحاجة إليها داعية؛ لأن أمثال هؤلاء لا بدّ من بيان حالهم، ووصفهم لردعهم عن
تسلق علم لا يفهمونه!
وهذه كتب أهل الجرح والتعديل فيها ألفاظ قاسية، فلا حرج في
ذلك، فتجد فيها: (فلان كذاب)، (فلان دجّال من الدجاجلة)، (فلان ركن الكذب)، (فلان
زنديق).. إلخ.
وقد أغلظ بعض أهل العلم في بعض الحفاظ ببعض الكلمات التي
لو قيلت في أمثال هؤلاء من أهل زماننا لصـرخوا وكثر نعيقهم عليها، ولقد أرسل مجاهد
بن جبر القاسمَ بن أبي بزة ليسأل عكرمة عن رأيه في قوله تعالى: {ولآمرنهم فليغيرن
خلق الله} فسأله، فقال: الإخصاء. قال مجاهد: "ما له لعنه الله، فوالله لقد
علم أنه غير الإخصاء"!
وها هو الإمام ابن خزيمة يقول لابن حبان لما أكثر عليه:
"تنحَ عني يا بارد"، ولو قلتها لبعضهم لقال: أين الأدب والخلق؟!!
ولما ذكر العقيلي الإمام علي بن المديني في
"الضعفاء"، شدد عليه الذهبي فقال: "ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء
فبئس ما صنع، فقال: جنح إلى ابن أبي دواد والجهمية"، ثم قال: "أفما لك
عقل يا عقيلي، أتدري فيمن تتكلم.."!!
وليس معنى هذا أن العقيلي لا عقل له! بل هذه الشدة من
الذهبي لإيراده مثل هذا الإمام الحافظ في كتاب يحمل اسم "الضعفاء".
وقال في موضع آخر: "فأين هذا القول من قول ابن حبان
الخساف المتهور في عارم..".
فجائز أن تخرج منك هذه الألفاظ في حقّ من يستحقونها، ولتكن
غضبة للعلم وأهله!
والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
·
مقدمة:
كتب د. عبدالقادر المْحِمْدِي العراقي بعض الورقات في
تعقبي لتضعيفي حديث كفارة صيام يوم عرفة بعنوان: "وقفات حديثية نقدية في بطلان
تضعيف فضل صيام يومي عاشواء وعرفة" بتاريخ (20 محرم 1440هـ)، ونشره على بعض
الملتقيات الإلكترونية، وقد أثنى عليه صاحبه د. عبدالسلام أبو سمحة، فقال: "اشتلمت
دراسة أخينا المْحِمْدِي على نفس علمي بحثي دقيق ابتعد فيه الباحث عن التهور
والغرور الذي أصاب بعض الباحثين في جملة من التوهيمات لكبار أئمة هذه الصنعة، وأبرز
حكمة علمية في وقفات دقيقة. نفع الله بأخينا المْحِمْدِي ورفع مقامه".
كذا عرّض الدكتور أبو سمحة بالعبد الفقير ووصفي بـ
"التهور" و"الغرور"، و"توهيم كبار أئمة هذه
الصنعة"، وهذا لا يضـرنا بإذن الله، فنحن نترك القارئ الفهم المتمكن من هذا
العلم هو الحكم بيننا إن شاء الله.
وقد ذكر الدكتور المْحِمْدِي أنه قرأ بحث فوزي البحريني
حول هذا الحديث، ثم رد الدكتور بسام العطاوي عليه، ووصف رده في (ص2) بأنه
"أجاد وأفاد وأمتع"، ثم قال عنه بأنه "نقد علمي رصين ودقيق"، ثم
قال بأني أصبت في بعض التعليقات!
وهذا الوصف لا ينبغي في النقد العلمي، فكان ينبغي عليه أن
يبين النقد الرصين لرد الدكتور العطاوي! وكنت قد رددت عليه في أصل بحثي المخطوط،
وبينت أوهامه فيه، وهو ليس كما وصف الدكتور المْحِمْدِي، فأكثر رده إنشائي عاطفي،
فيه نوع من الركاكة والضعف!
ولم يُبيّن لنا التعليقات التي أصبتُ فيها مع أن فيه - حسب
سياق الكلام ولغته- نوعا من التقليل من الكلام! ولا بأس من ذلك.
ثم وصف بحثي وبحث البحريني بأن فيهما مجازفات علمية،
واعتداء سافراً على صحيح مسلم، وعلى أئمة الحديث ولا سيما أهل العلل والنقد منهم، وهذا
هو سبب كتابته لهذه الورقات التي جاءت في ثلاثين ورقة! لبيان تناقضات
وأغاليط بحثي المكون من عشرات الصفحات!
قلت:
كلّ متخصص في أيّ علم من العلوم له الحق في تعقب غيره
طالما أنه يملك الأدوات، ويتكلم بمنهج أهل العلم، ويأتي بالحجج المقنعة والأدلة
الدامغة لدحض الخصم، لا بالإنشاء والعواطف المحضة التي لا تسمن في ميزان التحقيق
ولا تغني من جوع.
وحقيقة لم أكن أنوي الرد على هذه الورقات لولا ما حصل من
لغط حول مسالة تضعيف بعض أحاديث الصحيحين! حتى قام الدكتوران: المْحِمْدِي، وأبو
سمحة - هداهما الله للحق وسواء السبيل - باتهامي على الملأ بأني أطعن في
الصحيحين!!
وكل من يعرفني يشهد أن هذه تهمة باطلة عرية عن الصحة
والحقيقة! ولكن قد يُعذران في أنهما يريدان الانتصار للصحيحين ظنا منهما أنه لا
يجوز لأحد أن يتكلم في حديث فيهما! وهما يريان أن كل ما فيهما صحيح! ولا أحجر
عليهما في ذلك، فلهما أن يعتقدا ما يريانه، لكن في الوقت نفسه لا يجوز لهما اتهام
المخالف بأي تهمة دون دليل واضح {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}!
ولا يجوز أن يحجرا على أهل التخصص في إعمال أدوات البحث
العلمي ضمن المنهج الذي اختطه أهل النقد والعلل.
نعم، لا نقبل ممن لا يعرف الحديث من العامة -فضلا عن
زنادقة الحداثيين والمعاصرين- أن يعتدي على الصحيحين، بل ولا أن يتطاول على أي
كتاب في الحديث، فهذا ليس تخصصه، وبالتالي سيكون كلامه وبالاً على قائله!
ومن المؤسف والمحزن أنهما يشبهان - بلا بينة ولا دليل-
خصومهما ممن يضعّف بعض الأحاديث في الصحيحين بعدنان إبراهيم أو عذاب الحِمْش
اللَّذيْنِ ما فتئا يطعنان في السنة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأئمة العلم،
وقد أكرمنا الله فرددنا عليهما كثيرا من باطلهما الذي فتنا الناس به، لكن
"عين السخط عن كل خير كليلة"!
وهذا اتهام آخر لا دليل عليه! فأين الزنديق عدنان إبراهيم
من المعرفة بالحديث؟! وأين عذاب الِحمش من دعوى أنه يعرف بالحديث - وإن كان ذا
تخصص فيه -، وقد رددت عليه في بحوث خاصة بينت فيها مجازفاته بالأدلة الدامغة،
وقلّة بضاعته في هذا العلم الشريف.
وبحثي - بحمد الله - منشور منذ مدة لا بأس بها، وأصل
النقاش حوله منشور في ملتقى أهل الحديث من عام 1430هـ تقريبا، والغريب أن د. عبد
القادر المْحِمْدِي لم يتفطن لنشر وقفاته إلا بعد كل هذه المدة!! ثم لا يكتب إلا (30)
صفحة شطرها لا اتصال مباشر له بأُسِّ المسألة.
وقد استغرقت في كتابة البحث سنة كاملة من الجمع والبحث
والمراجعة، وعرضته وأرسلته لعدد من المشهورين المشتغلين بالحديث منهم شيخي الدكتور
عبدالمجيد محمود السنانيري المصري، وكذا شيخنا الدكتور حمزة المليباري وغيرهما،
فلم يردا عليّ -لا هما ولا من أُرسل البحث لهم غيرهما- باعتراض محرر، ومن أجاب
أجاب بعبارات مقتضبة ليس من ورائها طائل وبعضها لا علاقة لها بموضوع البحث.
·
تعقبات عامة بين يَدي البحث:
1- ما زعمه د. المْحِمْدِي أني تابعت فوزي الأثري محض كذب
وافتراء، ومن قرأ بحثي علم أن سبب تأليفي له ابتداء هو الرد على فوزي في تضعيفه
للحديث، فلما بحثت المسألة وجدت الحديث ضعيفا لكن بمسلك آخر غير مسلك فوزي الأثري،
ومن أظهر الشواهد على كذب المْحِمْدِي في هذا الادعاء أن فوزي الأثري لم يعرض لذكر
كلام ابن معين في تعيين أبي قتادة العدوي، بل ليس للعدوي ذكر البتة في بحث فوزي،
ومع ذلك يزعم المْحِمْدِي كذبا أني استفدت ذلك من بحث فوزي!! ويعيد ذكر هذه
الافتراء مرات!! ولا أدري هل حقيقة عندما قرأ البحثين - بزعمه - كان صاحياً أم
نائماً!!! لأنه لا يعقل أن يكذب الرجل هذا الكذب المفضوح!
وقد بيّنت في بحثي الكامل (الأصل غير المنشور) كثيراً من
أوهام فوزي وأغلاطه ومبالغاته، وذكرت عددا منها في بحثي المنشور، ولعل الله ييسر
نشر الأصل قريباً بكرمه ومنه، ومدار كلام فوزي على نفي السماع بين الزماني وأبي
قتادة الأنصاري.
وكلام المْحِمْدِي هذا وإقحامه فوزي في كل هذه المسائل يدل
على أحد أمرين لا انفكاك له منها ما قامت السماوات والأرضين:
إما أنه لم يقرأ بحثي فيرد على ما لم يعرف تفاصيله وحقيقته،
فيكون نادى على نفسه بالسفه والجهل! [والذي يظهر لي أنه لم يقرأ من البحث المنشور
سوى الخلاصة التي في آخره، وعليها بنى عرجاته، فكثير مما يزعم أنه يرد به عليّ
الجواب عنه مذكور في محله من البحث، ولولا مخافة الله لحلفت الأيمان أنه لم يقرأ
البحث كاملا ويرد على ما لا يعرف حقيقته وكنهه].
أو أنه يريد التدليس على القارئ ليفهمه أني آخذ كلامي من فوزي،
وهذا كذب مفضوح وخبث طوية نسأل الله العافية ونعوذ به من الفجور.
2- إهمال المْحِمْدِي لكثير من الحجج والقرائن التي ذكرتها
في بحثي، وليس الحكم على الحديث بالضعف مبنيا فقط على ما ادّعاه من حجتين اثنتين،
بل الأمر متكامل الأركان مشيد البنيان لا يصح أخذ جزء منه وترك آخر، ومن قرأ البحث
الأصلي وقرأ بعده عرجات المْحِمْدِي علم صدق ذلك يقينا لا ريب.
3- إن ادعاء المْحِمْدِي الوصاية على العلم بأنه لو كان له
من الأمر شيء لمنع نشـر البحث! تسنم لأمر ليس له بأهل، فمن أنت حتى تبلغ بنفسك هذا
المبلغ، وهل هذه مسالك أصحاب البحث والحِجاج أم مسلك أصحاب السلاطين وورثة
الحَجَّاج!
وصدق الشاعر محمد بن عبدالرحمن الجزائري* - رحمه الله - حين
قال:
ما عندهم عند التناظر حجة // أنى بها لمذبذب حيران
لا يفزعون إلى الدليل وإنما // في العجز مفزعهم إلى
السلطان
[* يشتهر بين الناس نسبة هذه الأبيات لابن القيم رحمه الله
وليست له، بل هي للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن حسن بو حجر الجزائري المتوفى سنة
(1358هـ) وهي من قصيدة له مطبوعة بعنوان «الدر المنظوم في نصرة النبي المعصوم» وقد
طبعت بمكة المكرمة حرسها الله قبل أزيد من 80 سنة].
4- مع كون التسويدات التي أتى بها المْحِمْدِي لا تكاد
تزيد على ثلاثين صفحة فقد كرر فيها وأعاد عدة عبارات وأفكار بلا داع ولا طائل..!!
5- التكثر بنقولات لا طائل منها ليس لشطرها اتصال مباشر
بأُس المسألة، وهي سماع عبدالله بن معبد الزماني من أبي قتادة الأنصاري - رضي الله
عنه-، فمرة يحشد النقول على حمل روايات منقطعة على الاتصال، وأخرى يكرر ما ورد عن
الأئمة في رواية سعيد بن المسيب عن عمر - رضي الله عنه-، وأشباه ذلك من التمحل
والتنصل والتكثر.
6- لم يأت المْحِمْدِي بأي نص جديد متعلق بالمسألة أو
الإشكالات المطروحة حولها، بل كل ما فعله أن استفاد من النصوص والروايات التي ذكرتها
في بحثي بتحريف في الفهم!! والفهم عزيز لا يناله كلّ من سوّد صُحفه أو وجهه
بالمداد!
والعجيب أنه قرر في مقدمة عرجاته في (ص5) أني أردت الصواب
فأخطأت طريقه!!
7- الافتراء عليّ بأني شتمته وسببته وأسأت معه العبارة
والأدب!! ولم أزد في كل ما نشرته حول الأمر على وصفين هما: الجهل والادّعاء،
وهما حقيقة فيه ظاهرة لكل من تابع ما يكتب، وادعى أني قلت عنه بأنه ينهق، وهو كاذب
في ادعائه هذا، وهذه منشوراتي على قناتي موجودة ولكن:
لِي حِيلَةُ فِيمَنْ يَنُ // مُّ وليس في الكذَّابِ
حِيلَهْ
مَنْ كانَ يَخْلقُ مَا يَقُو // لُ فَحيلتي فيه قَلِيلَهْ
8- قلة أدبه وقبح ألفاظه التي تعكس عجزه وفجوره، مع
اعتداده بنفسه ومدحه لها حينما قال في صدر وريقاته يصفها بأنها "فوائد مهمة ونكت
دقيقة نافعة"..!! مع تغنيه بالأدب والأخلاق في منشوراته، ونعت المخالف بسوء
الأدب والأخلاق!!
وهذا مسرد للشتائم والسباب التي أوردها في ورقاته
الثلاثين، ثم يخاطبني بقوله "أرجو أن يتسع صدرك"..!!:
- مجازفات طائشة لو صدرت من الدارقطني ما قبلت منه ولحطت
مرتبته!
- اعتداء سافر على صحيح مسلم وأئمة الحديث.
- تخيلات وظنون وأوهام.
- تجاسر على مخالفة الأكابر والولع بتخطئة الأئمة والحط من
قدرهم.
- تجرئة المبتدعة على الطعن في السنة.
- إثارة الشبهات والإتيان بالأوابد.
- حبّ الظهور ولو بالبول في زمزم.!
- التسرع والتعجل والتهور والمجازفة والتناقض.
- أني اتهمت أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج في
أمانته!!
- غياب الموضوعية.
- اللف والدوران..!
- لي عنق النصوص.
- بَطِرٌ يتفيقه (كذا ولا أدري من أي قاموس أتى بها فلا
تعرف العرب تفيقه ولكنه أراد تفيهق وأصلها من الفَهْق!!!)..!!
وهذا كله كذب وافتراء! وهي نابعة من قلة حيلته وعجزه عن
الرد علمياً بالأدلة الواضحة! والله أعلم بما يكنّه صدره من حسد وحقد على العبد
الفقير! والله حسيبه.
9- الجهل الفاضح بالنحو والإملاء مع ركاكة الأسلوب وضعف
السبك..!! ولو رحت أتتبع سقطاته فيها لطال الأمر!! ولخرج سيبويه من قبره يصرخ
ويتحسر ويُولول من ضياع اللغة!
10- الكلام الإنشائي الخالي من الأدلة الواضحة! ونقل بعض
الأقوال للعلماء ووضعها في غير محلها!
فمن ذلك قوله في (ص4-5): "وهذا الحديث مما تواطأ فيه
الأئمة النقاد واتفقوا على إن أبا قتادة هو الأنصاري، فاتفاق الأئمة لا ينقض
بالتخيلات والظنون، والإلهام لا يعارض بالأوهام! ولو عرف كل قدره ونظر موضع قدميه لما
تجاسر على مخالفة الأكابر بهكذا طريقة.
قال الحافظ ابن رجب متعقبا الخطيب
وابن عبدالبر:"....والعجب ممن يعلل الأحاديث في الصحيح بعلل لا تساوي شيئا،
إنما هي تعنت محض، ثم يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا
علة لها". ثم أسأل: ماذا تُرك للمبتدعة وأصحاب الأهواء بعد هذا، فالتعليل
بهذه الطرق المغلوطة جرأ المتردية والنطيحة والموقوذة على حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم. لكن حب الظهور آفة الآفات، وهو قاصم للظهور لو تأمل صاحبه، وقد ظهر
أناس في زماننا يتطلبون الظهور ولو بأن يتبول في بئر زمزم!..
فنتيجة بحثهما أن كل هؤلاء الأئمة وغيرهم قد تابعوا شعبة
على وهمه! ولم يفرقوا بين راويين أحدهما صحابي والأخر تابعي! وكل من قال منهم: الأنصاري،
إنما وقع تحت تأثير عبارة شعبة وتلقينه لشيخه! وأن كل من صححه بعد مسلم فإنما وقع
تحت (تخدير) صحيح مسلم وتأثيره! زعموا! فإن جوزالباحثان إمكانية غلط كل هؤلاء النقاد
الذين هم أطباء العلل - بزعمهم- فمن باب أولى تجويز الغلط عليهما، واحتمال وقوعهما
في الوهم، فكلنا يتطلب الحق، فقد نوفق فنصيبه مرة وقد نخطئه مرات."انتهى كلام
المحِمْدي.
قلت:
نعم، تواطأ الأئمة على أن الذي في الإسناد هو "أبو
قتادة الأنصاري" لا "العدوي"، ومن ثم قدمت أدلتي على أنه العدوي،
فهل هذه ظنون وأوهام؟!!
وبقية الكلام عاطفي إنشائي لا يصمد أمام الدليل والحجة.
فالدليل يُرد بمثله أو بأقوى منه لا بمثل هذه العبارات الإنشائية!! والمعترض على
هذه الأدلة التي قدمناها يجب أن يأتي بما ينقضها.
نعم، هم أئمة النقد وأطباء العلل، ولم يتنبهوا لمثل هذا
الوهم! مع رد قول هذا الأفّاك افترائه بأننا اتهمنا الحافظ أبا بِسْطام بتلقينه غَيلان
- كما سيأتي بيانه-!
ومحاولة التشغيب ببعض الكلمات كـ "تخدير" ونحوها
لا يغني من الحق شيئا! فالتشغيب بضاعة المفلسين، وقلة الأدب واضحة في كلامه كما
بينته آنفاً!
ونص ابن رجب الذي استشهد به هنا ليس في محله: "
قال الحافظ ابن رجب متعقبا الخطيب وابن عبدالبر:"....والعجب ممن يعلل الأحاديث
في الصحيح بعلل لا تساوي شيئا، إنما هي تعنت محض، ثم يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة
المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا علة لها".
وقال في الحاشية: [المصدر نفسه:
6/406 -407].
فهذا الكلام من ابن رجب لا يعني به التعليل فيهما مطلقاً!
وإنما عنى ذاك الحديث الذي كان يتحدث عنه في مسألة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
في الفاتحة، فهو عاب تعليلهم للحديث الصحيح بالأحاديث الغريبة والمنكرة!
وكان ابن رجب بعد أن ساق روايات كثيرة في المسألة قال:
"وإنما جمعت هذه الطرق الكثيرة الغريبة والمنكرة لما
اعتنى بهذه المسألة من اعتنى بِهَا، ودخل فِي ذَلِكَ نوع من الهوى والتعصب، فإن أئمة
الإسلام المجتمع عليهم إنما قصدوا اتباع مَا ظهر لهم من الحق وسنة رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمْ يكن لهم قصد فِي غير ذَلِكَ - رضي الله
عنهم -، ثُمَّ حدث بعدهم من كَانَ قصده أن تكون كلمة فلان وفلان هِيَ العليا، ولم
يكن ذَلِكَ قصد أولئك المتقدمين، فجمعوا وكثروا الطرق والروايات الضعيفة والشاذة
والمنكرة والغريبة، وعامتها موقوفات رفعها من ليس بحافظ، أو من هُوَ ضَعِيف لا
يحتج بِهِ، أو مرسلات وصلها من لا يحتج بِهِ، مثلما وصل بعضهم مرسل الزُّهْرِيّ
فِي هَذَا، فجعله عَنْهُ، عَن ابن المُسَيِّب، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، ووصله باطل
قطعاً.
والعجب ممن يعلل الأحاديث الصحيحة المخرجة فِي ((الصحيح))
بعلل لا تساوي شيئاً، إنما هِيَ تعنت محض، ثُمَّ يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة
المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا علة لها.
وقد اعتنى بهذه المسألة وأفرادها بالتصنيف كثير من
المُحَدِّثِين، منهم: مُحَمَّد بْن نصر وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وأبو
بَكْر الخَطِيْب والبيهقي وابن عَبْدالبر وغيرهم من المتأخرين.
ولولا خشية الإطالة لذكرنا كل حَدِيْث احتجوا بِهِ، وبيان
أَنَّهُ لا حجة فِيهِ عَلَى الجهر؛ فإنها دائرة بَيْن أمرين: إما حَدِيْث صحيح غير
صريح، أو حَدِيْث صريح غير صحيح...".
فكلام ابن رجب مخصوص بهذا، ولا يؤخذ على إطلاقه ليحتج به
علينا إلا إذا كان من يضعف الصحيح بالأحاديث المنكرة والضعيفة، فحينها يستشهد
بكلامه.
وابن رجب نفسه - رحمه الله - علل بعض الأحاديث في الصحيحين
في كتابه "شرح علل الترمذي"!
فهل نحتج عليه بقوله هذا! فيكون متناقضاً؟!
هذا لا يقوله عاقل بله الخصم الناقل كلامه! وعليه فينبغي
للمحمدي وضع النصوص في محلها وألَّا يتسرع ويندفع كعادته!
ثم أنبه إلى أن هذا النص إنما أخذه المْحِمْدِي من بحث حمد العثمان: "وجوه ترجيح
أحكام المتقدمين على المتأخرين في علل الأحاديث" [ضمّنه في كتابه: المحرر في
مصطلح الحديث]، وتبعه على فهمه أيضاً!
قال حمد العثمان (ص334 - 335): "قال الحافظ ابن رجب
الحنبلي -رحمه الله- (ت: 795هـ) منتقدًا الخطيب وابن عبدالبر:
«فجمعوا وكثروا الطرق والروايات الضعيفة والشاذة والمنكرة والغريبة، وعامتها
موقوفات رفعها من ليس بحافظ أو من هو ضعيف لا يحتج به، أو مرسلات وصلها من لا يحتج
به، مثل ما وصل بعضهم مرسل الزهري في هذا فجعله عنه، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة،
ووصله باطل قطعًا.
والعجب ممن يعلل الأحاديث الصحيحة المخرجة في (الصحيح)
بعلل لا تساوي شيئًا، إنما هي تعنت محض، ثم يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة،
ويزعم أنها صحيحة لا علة لها»" [فتح الباري (6/406-407)].
فانظر أيها القارئ قول حمد العثمان: "منتقداً
الخطيب وابن عبدالبر"، وقول المْحِمْدِي: "متعقبا الخطيب
وابن عبدالبر"!!
فهل هذا من وقع الحافر على الحافر أم من وقع السارق على
المسروق؟! فلم أجد فرقا إلا أنه استبدل كلمة "منتقداً" بكلمة
"متعقبا"!!
ثم وهم في توثيقه للنص عندما قال في الحاشية: "المصدر
نفسه: 6/406-407)" يعني المصدر السابق فيما يبدو، وهو عنده: "معرفة علوم
الحديث: ص112-113"! ولم يُشر المْحِمْدِي إلى كتاب ابن رجب من قبل!
11- من الملاحظات الإجمالية التي أخذها عليّ المْحِمْدِي،
ومن تدليسه أنه قرن فوزي البحريني معي في ملاحظاته هذه: فقال: "1-
غياب الموضوعية العلمية بشكل واضح!"
أقول:
هذا كلام إنشائي يستخدمه أمثاله أثناء مناقشات الرسائل العلمية!
وربما لا يعرف ما معناه، فهلا دلل هذا الناقد وبين لنا كيف غابت الموضوعية العلمية
في البحث!!
وقال المْحِمْدِي: "2- التسرع والاستعجال في توهيم
الأئمة النقاد وتخطئتهم بالظنون والتكلف في رد الأدلة بأوهى الحجج، وهذا ما يظهر
بجلاء في كلامهما، فلا تجد صفحة من أي بحث منهما إلا وفيها وَهِم فلان، ونحوها.
وعنون الدكتور الحايك مرات بـ (وهمٌ لفلان) فوهّم البخاري
ومسلماً وأبا حاتم وابن خزيمة والعقيلي وابن عدي وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم
وابن حجر والذهبي، وغيرهم".
أقول:
هذا المُسكين المْحِمْدِي يظن نفسه أمام طالب يناقشه في
رسالة علمية ينتظر عطفه بالموافقة على رسالته! فهذه الملاحظات العامة يستبسل بها
بعض الدكاترة على طلبتهم في المناقشات!
فهلا بيّن لنا هذا الناقد الجهبذ كيف تسرعت واستعجلت في
توهيم هؤلاء الأئمة؟!!
هكذا يُدلّس على القرّاء لأنه يعرف أنّ كثيراً منهم لن
يرجعوا لأصل البحث!
فهل ما وهّمت به هؤلاء العلماء حق أم باطل؟ إن كان باطلا
فعليك البيان أيها المفتري المدلّس! ولو أن تأتي للقارئ بمثال واحد على عدم صحة
هذه الأوهام التي وهمت بها هؤلاء الأئمة!!
أم هو الحقد والحسد؛ لأن مثل هذا لا يقع لأمثالكم!
فتشاغبون علينا بحجة الدفاع عن الصحيحين وعن الأئمة!
ويكأن بيان أوهام العلماء من الانتقاص لهم!!
وقال المْحِمْدِي: "3- التوسع المخل والتشعب الممل،
فالقارئ يدخل في تفريعات لا علاقة لها بالبحث ولا يمت لها أحيانا بصلة".
أقول:
توسع مخل وتشعب ممل لك لا للقارئ الفهم، فكونك لا تفهم لا
يعني أن هذه تشعبات مملة، وإذ كانت كما زعمت أنه لا علاقة لها بالبحث فهلا دللت على
ذلك؟!! مع أنك قلت بأنها لا تمت بالبحث بصلة أحياناً! وهذا يدل على نُدرتها، فلم
بدأت الكلام وكأن هذا هو الغالب!
ولا أظن إلا أن هذا المْحِمْدِي أتي من ضعفه في اللغة والأدب
حتى يستطيع أن يُعبر فخانه التعبير عمّا يريد! فتجده يتناقض في كلامه أو يصدق عليه
قول ابن حزم - رحمه الله-: "هذا كلامٌ لا يَفْهَمُهُ قَائِلُهُ فكَيْفَ
سَامِعُهُ! وحَقُّ قَائِلِهِ سُكْنَى المَارَسْتَانِ ومُعَانَاةُ دماغه"!!
وقال المْحِمْدِي: "4- الأدلة التي اعتمد عليها
الباحثان تجمل في قولين فقط، قول للبخاري وآخر لابن معين، وكل ما عداهما فلف
ودوران في النقولات، وتحشية زائدة مملة".
أقول:
أما فوزي البحريني فنعم اعتمد فقط على قول البخاري، وقول
ابن معين لم يقف عليه، لكن المْحِمْدِي كذّاب!
وكذب أيضاً في قوله إن ما عدا ذلك لف ودوران - أدوره الله
-! وكونه لا يفهم تلك الفوائد والقرائن فهذه مشكلته!
وقال المْحِمْدِي: "5- جازف الباحثان في المواضع التي
هي من عندياتهم (كيسهم) فأتوا بقواعد وأثاروا شبهات لا تقبل ولا تعقل - يظنونها
قرائن!!-، ويستغرب أن تخرج من رأس مشتغل في الحديث"؟
أقول:
أيها الأفاك! هلّا بينت لنا هذه المواضع ودللت عليها
للقارئ ليحكم بنفسه!
وما هي الشبهات التي أثرناها مما لا يقبل ولا يعقل؟!
وكيف نظنها قرائن؟!!
وإنّي - والله - لأستغرب أن هذا يخرج من رأسك وأنت تدعي
النقد ومعرفة العلل!!
أتدري ما الذي يخرج من رأسك أيها الناقد الجهبذ؟!!
وقال المْحِمْدِي: "6- في كثير من المواضع يلويان عنق
النص بشكل عجيب بما يتلائم ورأيهما! ولو نظرا بموضوعية للنصوص التي أتيا بها لأدركا
أنهما أبعدا النجعة!".
أقول:
ويمضي هذا الكذاب المْحِمْدِي في التهويل بقوله: "في
كثير من المواضع"! هات لنا هذه المواضع لنرى كيف لوينا أعناق النصوص بشكل
عجيب ليتلائم مع رأينا؟!!
وأرنا كيف تكون النظرة الموضوعية للنصوص لندرك أننا أبعدنا
النجعة؟!!
هات.. علمنا حتى نتعلم مما فتح الله عليك ورزقك من هذا
الفهم!!
أنصحك بمراجعة سلسلة فهم أئمة النقد في موقعي "دار
الحديث الضيائية" كي تتعلم فهم النصوص والموضوعية في التعامل مع نصوص الأئمة.
وقال المْحِمْدِي: "7- الولوع بتخطئة الأئمة النقاد،
والحط من قدرهم".
أقول:
هل بيان الخطأ للعالم أو الناقد يعني الولع في ذلك؟!!
ما هذا الافتراء؟!! هل وقفت على كثير من الرسائل الجامعة
التي جمعت تعقبات العلماء على غيرهم كابن حجر في كتبه على من سبقه من الأئمة، فهي كثيرة
في رسائل علمية، فهل هذا يعني أن ابن حجر كان ولعاً بتخطئة الأئمة النقاد؟!
ثم هات الأدلة على أننا حططنا من قدر الأئمة النقاد؟!
ما هذا الكذب والافتراء؟!! سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
ويستمر المْحِمْدِي في الكذب، فيقول (ص7):
"ويمكن إجمال أهم ما اثاره الباحثان في الوقفات الآتية:
أ- زعما أن الحديث من رواية أبي قتادة العدوي وليس الأنصاري.
ب- زعما عدم سماع عبد الله بن معبد الزماني من أبي قتادة
الأنصاري رضي الله عنه، بتنصيص البخاري.
ت- نص ابن معين أن البصريين إذا رووا عن أبي قتادة فهو
العدوي.
ث- استنكرا انفراد صحابي واحد بذكر فضل صيام اليومين
والمبالغة فيه" انتهى كلامه.
أقول:
لا يزال يكذب ويقول: إن فوزي البحريني زعم بأن الحديث من
رواية أبي قتادة العدوي وليس الأنصاري!!
وهذا لا تجده أبدًا في بحث البحريني! فلا أدري هل يعي ما
الذي يخرج من رأسه؟!!
وأما تنصيص البخاري فليس بزعم، بل هو جزم! فلم تستخدم هذه
العبارات التي تدل على عدم الثبوت!!
ونص ابن معين لم يأت به البحريني أيضاً، ولا يزال المْحِمْدِي
يدلّس ويكذب!
وأنا لم أستنكر أن ينفرد صحابي واحد بذكر فضل صيام
اليومين! وهذا من كذباته أيضاً، وإنما استنكرت أن تكون الرواية عن أبي قتادة الأنصاري
- رضي الله عنه - صحيحة؛ لأن هذا الحديث مما ينبغي أن يكون مشهورًا حتى في آل بيته
الذي لا يوجد عندهم.
ففرق بين الأمرين! فإمَّا أن المْحِمْدِي لا يدري ما يقول
أو هو يُدلّس على القرّاء!!
·
تعقبات خاصة ومفصّلة:
* تنبيه: وهنا قد أنقل كلام عبدالقادر المْحِمْدِي بحروفه، وقد
ألخصه بمعناه؛ لأن في كلامه تكريراً زائداً عن الحاجة، وقد يعيد الكلام في عدة
مواطن بلا باعث عليه. مما يدل على اضطرابه وعدم فهمه لكثير من القضايا في البحث!
1- دعواه أن مهدي بن ميمون وغيره تابعوا شعبة في الرواية عن
غيلان بقوله: "الأنصاري"!
قال المْحِمْدِي في وقفته العرجاء الأولى: "مع رواية عبدالله
بن معبد الزماني عن أبي قتادة" (ص8): "استشكل الباحثان حديثا صحيحا
أخرجه مسلم وغيره، وأعلاه بأن الخطأ وقع في نسبة الراوي الأعلى للحديث أبي قتادة،
وزعما أن الصواب في أبي قتادة هو العدوي البصري التابعي، وليس أبا قتادة الأنصاري
الصحابي، وأن شعبة هو من حمل شيخه غيلان بن جرير على جعله الأنصاري بسؤاله، فتلقن
غيلان ذلك، ثم تبعه بعد من تبعه على هذا الوهم، واستدلا بإن غالب من رواه لم يصرح
بذكر الأنصاري.
قلت: كيف عرفتما وهم شعبة أو شيخه غيلان؟ هل انفرد شعبة عن
شيخه بذكر الأنصاري أم توبع؟ تابعه مهدي بن ميمون وغيره عن غيلان بن جرير به،
أخرجه مسلم وغيره!! يعني أن شعبة لم ينفرد، فمن أين يأتي توهيمه، وهذه الطرق تنقض
كل الأوهام للباحث المنصف".
أقول:
أولاً: رجع المْحِمْدِي للكذب مرة عاشرة! فالبحريني لم
يعله بأن أبا قتادة هو العدوي وليس الأنصاري!
وهذا يؤكد لنا ما قلته من قبل أن الرجل لم يقرأ هذه
البحوث! وكأنه تصفحها ثم علقت بذهنه هذه الأمور فلا يزال يكررها!! أو أنه له مقصد
آخر وهو أنه يريد أن يبين أني أنا من تبعت البحريني في تعليلاته كما صرح في بعض
المواضع! وهذا فيه نوع من الخبث - عافانا الله وإياكم، فهل مثل هذا يؤمن على
الكلام في الحديث! وهل مثله من يدافع عن الصحيحين بالكذب والافتراء والتدليس وغير
ذلك!!
ثانياً: لم أقل إن غيلان تلقن ذلك من شعبة! وإنما عبارتي
كانت واضحة.
قلت: "فالظاهر
أن غيلان بن جرير عندما كان يُحدِّث به عن عبدالله بن معبد لا ينسبه، فاحتاط شعبة
لذلك - وهو معروف بتثبته-، فسأله عن أبي قتادة هذا، من هو؟ فقال له شعبة: الأنصاري
- أي هل هذا أبو قتادة: الأنصاري الصحابي؟ لأنه جاء اسمه بعد ذكر التابعي،
والمشهور في الصحابة ممن اسمه أبو قتادة: الأنصاري - فهزَّ غيلان برأسه، أي نعم
هو. ومن هنا جاءت نسبة أَبي قتادة في هذا الحديث في الروايات عن شعبة، ثُم تصرف
أصحاب الأصناف في الروايات كما تصرف الرواة فنسبوه بناءً على ما سأل شعبة شيخه.
ولكن يبقى السؤال: هل أصاب غيلان في نسبته؟ أو: لو لم
يقل شعبة له: الأنصاري، فماذا كان سيقول؟! ففعل شعبة هذا أشبه ما يكون
بالتلقين، وإن فارقه في عدم تقصّد شعبة لذلك، وإنما خطر في ذهنه الأنصاري
ظناً منه أن أبا قتادة هذا صحابي، وأشهر الصحابة الذين يعرفون بهذه الكنية هو
الأنصاري، فذكره له، فوافقه شيخه غيلان".
وسيأتي مزيد كلام على هذه المسألة لاحقاً إن شاء الله
تعالى.
ثالثاً: طرح المْحِمْدِي أسئلة فيها نوع من الغباء هنا،
تعكس مقدار عقله، كقوله: "كيف عرفتما وهم شعبة أو شيخه غيلان؟ هل انفرد شعبة
عن شيخه بذكر الأنصاري أم توبع؟"!
ولا يزال المْحِمْدِي متمسكاً بقرني هنا مع فوزي!!
وباتهامي برمي الإمام شعبة بالتلقين، والله المستعان. ولم أقل أن شعبة وهم فيه!! فما
هذا الافتراء؟!!
وأما كيف عرفت أن شيخه غيلان وهم فيه، فقد بينته في
البحث وعنونت له، ونقلت الحديث في ذلك، وجزء من بيان ذلك ذكرته آنفا.
ألم أقل لكم أيها القراء: إن المْحِمْدِي هذا لم يقرأ!
أو أنه قرأ ولم يفهم ولم يستوعب الكلام! ولا ضير: فهذا مبلغه من العلم.
رابعاً: قوله بأن شعبة توبع على قوله
"الأنصاري" عن شيخه غيلان، تابعه مهدي بن ميمون وغيره، وأخرجه مسلم
وغيره، فهذه ليست متابعات في ذكر "الأنصاري" من هؤلاء الرواة على
التحقيق!!
فمسلم عندما جمع روايات الحديث ذكر في بعضها
"الأنصاري" لأنه جاءت كذلك في رواية شعبة، فلا حرج إذن من ذكره في
الأسانيد الأخرى طالما أنه سمي في رواية من ثقة كشعبة.
وهذا معروف عند أهل الحديث أنهم يذكرون نسب الراوي إذا
جاء من طرق أخرى صحيحة.
والعجب من المْحِمْدِي تمسك برواية مهدي بن ميمون عند
مسلم التي فيها ذكر "الأنصاري"، وإعراضه عن رواية مهدي في الكتب الأخرى
حيث لم ينسب فيها، مما يُدلل على أن النسبة من مسلم نفسه.
وذكرت في البحث تحت عنوان: "غالب الروايات عن أبي
قتادة ليس منسوباً!"، فقلت: "3- من خرّج الحديث:
الحديث رواهُ ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/327) (9551) عن
وكيع، عن مهدي بن ميمون، عن غيلان ابن جرير، عن عبدالله بن معبد
الزماني، عن أبي قتادة قال: قال رجلٌ: يا رسول الله،
أرأيت رجلاً يصوم الدهر كلّه؟ قال: «لا صام ولا أفطر - أو ما صام ولا أفطر».
ورواه أيضاً بالإسناد نفسه (2/341) (9714) عن
أبي قتادة: أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن صيام عرفة؟ فقال:
«أَحتسب على الله أن يكفر سنتين: سنة ماضية وسنة مستقبلة».
ورواهُ أبو داود الطيالسي في «مسنده» (630) قال: حدثنا حماد
بن زيد، وهشام، ومهدي، [قال حماد ومهدي: عن غيلان بن جرير]، [وهشام عن
قتادة، عن غيلان]، عن عبدالله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة،
أنَّ أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومه، فغضب حتى عرف ذلك في
وجهه، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الحديث بطوله".
فهذه رواية مهدي بن ميمون وغيره عن غيلان ليس فيها نسبة
"الأنصاري"!
فالتسرع والعجلة وعدم التمكن من البحث والموضوع وقلة
الاستيعاب دفعت المْحِمْدِي لهذا الكلام الأعرج، وختمه بقوله: "يعني أن شعبة
لم ينفرد، فمن أين يأتي توهيمه، وهذه الطرق تنقض كل الأوهام للباحث المنصف".
سبحان الله! فأنا لم أوهّم شعبة! لكنه هو من سأل شيخه عن
نسبة أبي قتادة، وقال له: "الأنصاري"؟ فهز برأسه: "أي نعم".
فكيف يا مسكين تجعل هذه الطرق تنقض كل الأوهام للباحث؟!!
(أبا ذر) فلا تعجل علينا // وانظرنا نُخبرك اليقينا
2- مسألة قبول غيلان التلقين في تعيين أبي قتادة!
ادعى عبدالقادر المْحِمْدِي أن تقريري في المسألة: «أن
الإمام شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث هو من حمل شيخه غيلان بن جرير على
تعيين أبي قتادة، وأن هذا اتهام خطير للإمام شعبة بأن يستحل تخطئة شيخه ثم يتابعه
على ذلك»..!!
قلت: سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم..!! فلا أدري كيف تخطر
مثل هذه الخيالات الفاسدة على عقل من يزعم الاشتغال بعلم الحديث، وكثير مما كتبه المْحِمْدِي
حجّة عليه، فهو يؤكد أن شعبة سأل شيخه غيلان طلبا لتعيين الراوي من هو، ولو كان
مستقرا عندهم التعيين ما وقع هذا السؤال أصلا، وقد نصصت في بحثي على أن شعبة لم
يرد التلقين، وإنما كل ما في الأمر أنه سبق إلى ذهنه ذكر الأنصاري فذكره، فصورة
الفعل تشبه التلقين لكن شتان بين المقصدين.
ثم إن الأصل في التلقين الذي يوصف به الراوي أنه
"يقبل التلقين" في الأحاديث، فيدخل في حديثه ما ليس منه، وشواهده كثيرة
لا تخفى على طالب حديث، وأن يكون القصد من الملقِّن إيقاع الراوي بأن يروي حديثاً
ليس عنده، ولم نجد أحدا من الأئمة عمد إلى راو وقعت منه حادثة صورتها صورة ما وقع
من غيلان في تعيين راو ما فيصمه بأنه "يقبل التلقين"، فمن الغلط البيِّن
اعتراض المْحِمْدِي بأنه لم يصف أحد من أئمة الجرح والتعديل غيلانَ بن جرير بأنه
"يقبل التلقين".
وكيف يستحل عاقل أن يرمي الإمام شعبة بن الحجاج بأنه قصد
التلقين عمدا وهو القائل:"كانوا يقولون لسماك: عكرمة، عن ابن عباس، فيقول: نعم،
قال شعبة: وكنت أنا لا أفعل ذلك به"، فترك ما شاء الله من حديث سماك لأجل
ذلك.
وأخشى إنْ قرأ المْحِمْدِي هذا الخبر الذي حكاه ابنُ حِبّان
أن يخرج علينا بنفس الفهم فيقول إن الإمام مالك يقبل التلقين! أو إن ابن حبان رمى
مالكًا بقبول التلقين!!
قال ابن حبان في كتاب «المجروحين» (1/265): "حبيب بْن
أَبِي حبيب كَاتب مَالِك بن أَنَس.. كَانَ يورق بِالمَدِينَةِ عَلَى الشُّيُوخ ويروي
عَن الثِّقَات الموضوعات كَانَ يدْخل عَلَيْهِم مَا لَيْسَ من أَحَادِيثهم، فَكُل من
سَمعه بعرضه فسماعه لَيْسَ بِشَيْء فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ أَخذ الجُزْء بِيَدِهِ
وَلَمْ يعطهم النّسخ، ثُمَّ يقْرَأ البَعْض وَيتْرك البَعْض وَيَقُول: قَدْ قَرَأت
كُلهُ، ثُمَّ يعطيهم فينسخونها، فسماع ابن بُكَيْر وقتيبة عَن مَالِك كَانَ بِعرْض
حبيب.
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ الجُنَيْدِ يَقُولُ
سَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ مِنْ مَالِكٍ
وَحَبِيبٌ يَقْرَأُ فَلَمَّا فَرَغَ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِالله هَذِه أحاديثك تعرفها
أرويها عَنْكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ - وَرُبَّمَا قَالَ لَهُ غَيْرِي".
فحبيب لم يكن يقرأ كل أحاديث مالك، ومع ذلك أذن مالك في
روايتها عنه.
وقد وضع لنا الأئمة النقاد ميزانًا واضحًا دقيقًا في مسألة
التلقين، فقال الحُمَيْدِيُّ: «وَمَنْ قَبِلَ التَّلْقِينَ تُرِكَ حَدِيثُهُ الَّذِي
لُقِّنَ فِيهِ، وَأُخِذَ عَنْهُ مَا أَتْقَنَ حِفْظَهُ، إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ التَّلْقِينُ
حَادِثًا فِي حِفْظِهِ لَا يُعْرَفُ بِهِ قَدِيمًا، فَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِهِ قَدِيمًا
فِي جَمِيعِ حَدِيثِهِ فَلَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ، ولَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَا حَفِظَهُ
مِمَّا لُقِّنَ». [الكفاية للخطيب البغدادي: ص149].
وإن أبيت ما ذكرناه في بحثنا فيمكن أن نقول: إنا جرينا على
هذا - مع التأكيد أني لم أتهم شعبة بالتقلين ولم أقل إن غيلان بن جرير يقبل
التقلين، وإنما صورته تشبه ذلك -، فلما ظهر بالقرائن الكثيرة - التي أعرض المْحِمْدِي
عن ذكرها والرد عليها - كون أبي قتادة المذكور في هذا الإسناد هو العدوي البصري لا
الأنصاري الصحابي أعملت الميزان المذكور في ما ذكره غيلان بن جرير.
فالمْحِمْدِي لم يفهم كلامي عن سؤال شعبة لشيخه عن أبي
قتادة: "الأنصاري" وقولي إنه نوع من التلقين!!! فلم اتهم شعبة أنه
يُلقّن ولا شيخه بأنه يقبل التلقين!! وإنما أراد شعبة أن يتثبت من "أبو
قتادة" هذا لما رأى أن التابعي يروي هذا الحديث لا بد في الغالب يكون عن
صحابي! والمشهور في الصحابة ممن اسمه "أبو قتادة" هو
"الأنصاري" فقال له شعبة: "الأنصاري" فهز الشيخ برأسه: نعم.
فشعبة لم يرد التلقين، وشيخه لم يُلقن بمعنى التلقين المصطلحي المعروف!!! وقد بينت
أن شيخه قد روى الحديث في آخر عمره.. فوهم في ذلك... فكان ماذا؟!!!
وطريقة المْحِمْدِي في الرد مزعجة جداً! لا تنظيم فيها،
والدكتور الأكاديمي ينبغي أن يكون متمكناً من مثل هذه الأمور! وكذلك فإنه يكرر
الأفكار كثيراً بلا طائلٍ أو باعثٍ!!
فمما يتعلق بهذه المسألة هنا ما قاله أيضاً (ص8): "ثم
ادعاء موافقة غيلان لسؤال شعبة (الأنصاري) من قبيل التلقين عجيب ومستهجن! فهذه
الطريقة شائعة معروفة بين الرواة يسأله لتبيين المهمل، ناهيك أن جل الرواة عن شعبة
لم يذكروا مثلها، وإنما جاء ذكر الأنصاري بلا سؤال شعبة. ثم إن لازم هذه الدعوى أن
غيلان بن جرير قبل التلقين؟ فكيف تعامل الأئمة مع حديثه؟ وكيف وثق بعد إذن؟ وهل ذكر
أحد - أي أحد - أنه ممن قبل التلقين؟ وهل اتهام الرواة بالأمزجة والتخيلات
الظنية!؟" انتهى.
أقول:
أولاً: أكرر هنا ما قلته في البحث وما قلته هنا مراراً أني
لم أتهم شعبة بأنه لقّن غيلان! ولا أنه قبل التلقين، ولكن يبدو أن فهم المْحِمْدِي
بطيء جداً!
ثانياً: دعواه بأن هذه الطريقة شائعة معروفة بين الرواة
يسأله لتبيين المهمل! نريده أولاً أن يبين لنا شيوعها بالأدلة! ثم نحن لا ننفي هذه
الطريقة مطلقا حتى يحتج علينا المدّعي لها هنا! فنحن قبلناها لتمييز المهمل، لكن
نعارض أن هذا المهمل هو "الأنصاري"! ففرق بين الأمرين.
ثالثاً: قوله بأن جُلّ الرواة عن شعبة لم يذكروا مثلها،
وإنما جاء ذكر الأنصاري بلا سؤال شعبة! فهذا يُبين جهل المْحِمْدِي في أمور الحديث
وخاصة الرواية! فطالب العلم المبتدئ يعرف أن تلاميذ الراوي عندما يروون عن شيخ
لهم، فهناك من يذكر الرواية بالتفصيل، وهناك من لا يفصّل، فبعضهم رواها عن شعبة عن
غيلان عن الزماني عن أبي قتادة الأنصاري دون ذكر سؤال شعبة لشيخه عن نسبة أبي
قتادة، وبعضهم ضبط الرواية ففصّل وذكر ذلك السؤال.
فهل إن روى بعضهم عن شعبة دون ذكر السؤال دلّ هذا على ثبوت
النسبة هنا؟!
أقصى ما يمكن قوله هنا: إن شعبة ربما روى هذا الحديث في
مرات عن غيلان دون ذكره سؤاله لشيخه، ومرة ذكر ذلك السؤال، وهذا أمر طبيعي في
الرواية، على أني أظن أن الاختصار من التلاميذ بعدم ذكرهم للسؤال، والله أعلم.
رابعاً: قوله بأن لازم هذه الدعوى قبول غيلان التلقين! ليس
بصحيح، فشعبة لم يلقنه! - وهذا ما لا يريد أن يستوعبه المْحِمْدِي-!! كل ما في
الأمر هو سؤال له: هل راوي هذا الحديث هو: "أبو قتادة" الصحابي
الأنصاري؟ فأقر الشيخ بذلك ظناً منه أنه هو فأخطأ!
فالمسألة ليس فيها أي تلقين!
وعليه يسقط كلامه بعد من ذكر من أهل العلم أن غيلان بن
جرير كان يتلقن!! ولم أتهمه بذلك حتى يتهمنا المْحِمْدِي بأننا اتهمناه بالأمزجة
والتخيلات الظنية!! والله المستعان.
وتكرار المْحِمْدِي اتهامي أنّ شعبة لقّن شيخه غيلان، وأن
شيخه يتلقن إنما هو للفت الأنظار إلى أني أتّهم الأئمة بهذه التهم أو أنه يكررها
للتشغيب لعدم فهمه للمسألة!!
وقد يكون إنما أتي من ضعفه الشديد في اللغة! وهو بطيء
الفهم فيها! وهذا ظاهر لمن طالع كتابته أو سمع كلامه!
فأي عاقل يعرف الكلام العربي يقرأ كلامي يرى أني قلت:
"هذا أشبه ما يكون بالتلقين...". ونفي أن شعبة لقنه بقولي: "وإن فارقه
في عدم تقصد شعبة ذلك...".
فالتلقين يكون قصداً من المُلقن، فأين هذا من كلامي.
فالقائل إني اتهمت شعبة بذلك وأنه لقن شيخه وقبل شيخه ذلك قائل
هذا إن كان عربياً فهو مُدلس مزوِّر، وإن أحسنا الظن به فهو جاهل بأبسط مبادىء
البيان في العربية، وهذا في الحقيقة به (أشبه) لما بدر منه في بعض الندوات بعدم
تفريقه بين (خلسة) و(غلسة) مثلاً!
ولعله في حاجة ماسّة إلى (التلقين) ليفهم، فلذلك نضطر إلى
توضيح الواضحات.
ففي اللغة: أشبهَ يُشبِه، إشباهًا، فهو مُشبِه، والمفعول
مُشبَه، وأشبه الشيء الشيء ماثله، ومنه المشابهة والمماثلة والمشاكلة والملابسة
والمضاهاة والمضارعة.. إلخ.
والمماثلة أعم من التشبيه حيث أن التشبيه مماثلة مخصوصة،
فاقتضاء المماثلة الاستواء بين المشبه والمشبه به في الوصف من كل جهة لا يلزم في
التشبيه، والتشبيه من وجه لا يقتضي التشبيه من كل وجه، وقد يواطىء المشبه المشبه
به في أصل الصفة ولا يلزم منه التواطؤ على كلية المعنى.
والتشبيه أسلوب معروف ومن فروع علم البيان، ثمرته تقريب
صورة أو توضيح نعت أو غرض جمالي بلاغي، يوضح الصفة للموصوف بمقارنته بشيء آخر يتصف
بها بجلاء أظهر من الأول، وله أركانه وأدواته وأنواعه، ولولا خشية الإملال لأفضت
في سردها والتمثيل لكل منها.
ولم يقل أحد من المفسرين مثلا عن قوله تعالى {كأمثال
اللؤلؤ المكنون} أنهن لؤلؤ مكنون فعلا!
ولا يقول عاقل أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم كما عند
البخاري في «الصحيح»: «إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» أن الناس
في الحقيقة أباعر ونوق!
ولم يقل أحد من العقلاء أن لميس جرم سماوي في قول الشاعر:
وَبَدَتْ لَمِيسُ كَأَنَّها // بَدْرُ السَّماءِ إِذا
تَبَدَّى
فإذا قلنا لبعضهم إنه كالحمار يحمل أسفاراً فلا يعني أنها
دعوة لركوبه والحمل عليه. وإن قلنا إنه أشبه بمسيلمة فلا يعني هذا أنه دجّال مُعمّر
إلى يوم الناس هذا.
وبعد أن كتبت هذا غفوت إغفاءة ثم صحوت، ورأيت في تلك
الإغفاءة أني كنت أستمع للقرآن فسمعت قول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل
عمران: 59]، ثم سمعت قائلا يقول: هذا ينطبق عما تكتب عنه، قال: {كمثل} ولم يقل {مثل}.
فهما وإن اشتركا في صفة أصل الخلق من تراب إلا أنهما
يختلفان في صفات كثيرة أخرى.
فإن كان المْحِمْدِي يفهم - أو يريد أن يفهم- (التلقين) -
كمصطلح معروف معناه وأسبابه - من قولي (أشبه ما يكون بالتلقين) فهذا ليس من
العقلاء المؤتمنين ولا من الناطقين بلسان عربي مبين.
لبـِّث قليــلاً تُبصِـرَنْ مـا تَكـرَه
ما زِلـتَ مُذْ حِيـنٍ تُناطِــحُ صَخـرَة
أخطـأتَ يا مَأفُـونُ قَعـرَ الحُفـرَة
لـَنْ يعدُوَ الشِبـرُ المُنَكَّــسُ قدرَه
وما أجمل قول الجاحظ: "للعرب أمثالٌ، واشتقاقاتٌ،
وأبنيةٌ، وموضعُ كلامٍ يَدلُّ عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظِ مواضعُ
أُخَر، ولها حينئذٍ دلالاتٌ أُخَر، فَمَن لم يعرفها جَهِلَ دلالاتِ الكتاب
والسُّنّة، والشاهدِ والمثلِ، فإذا نظر في الكلام وفي ضُروبٍ من العلمِ وليسَ هو
من أهل هذا الشأنِ هَلَكَ وأَهْلَك".
ثم رجع المْحِمْدِي فكرر هذه التهمة والخرافة مرة ثالثة!!
فقال (ص 11-12): "ثم شبهة أن شعبة لقن شيخه (الأنصاري)
فيها مطعن خطير في شعبة نفسه! فإما أن يكون شعبة يعلم أن عبد الله بن معبد الزماني
لم يسمع من الأنصاري أو لا يعلم، فإن كان شعبة يعلم بعدم سماع الزماني من الأنصاري،
وأن شيخه وهم فيه، فكيف يستحل روايته للحديث؟ وقد رواه عنه جلة أصحابه من طرق
مختلفة؟ هل يستحل شعبة مثل ذلك؟ أنتما زعمتما أن كل من جاء بعد شعبة تابعه على
خلطه ووهمه، كأحمد والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبو زرعة والعقيلي وابن عدي ....الخ،
كلهم تابعوا شعبة، والسؤال: وشعبة تابع من في ذكره الأنصاري؟ من أين جاء به إن لم
يكن للزماني رواية عنه؟ فهذه التقولات تهمة لأمانة شعبة بن الحجاج وعدالته، أو أنه
مغفل لا يدري ما يقول في أحسن الاحتماالت! - حاشاها-. أي مزلق وقعتم فيه يا عباد
الله! والصحيح في كل ذلك: أن سؤال إمام العلل شعبة يدل بلا تردد على انه يعلم أن
للزماني رواية عن الأنصاري، وإلا لما سأله، ولو غلط غيلان فأول من يشنع عليه هو
شعبة" انتهى كلامه.
أقول:
رجع المْحِمْدِي يتهمنا بأنا قلنا إن شعبة لقن شيخه! وهذا
كذب صراح بيناه مراراً، ولا أدري أكان عند قراءته البحث بزعمه يقظان أم نائماً!!
وإذ صرحنا بأن شعبة لم يلقن شيخه فلا يوجد أي مطعن فيه
رحمه الله.
ثم ما هذه الخيالات! إما أن يكون شعبة يعلم أن الزماني لم
يسمع من الأنصاري وإما أنه لا يعلم، فالأمر ليس كذلك أبداً! فهو ليس في مجلس
مناقشة، هو في مجلس يسمع فيه الحديث، ولا يوجد أي إشارة إلى أنه كان يعلم هذه
الفرضية أو لا!
وحاصل ما في الأمر كما بينته مرارا أن شعبة أراد أن يعرف
من هو "أبو قتادة" الذي يروي عنه التابعي الزماني، ولا شك أن المشهور من
الصحابة هو "الأنصاري"، ولم يخطر بباله أن تكون رواية الزماني التابعي
عن تابعي مثله! لأن الأصل أن يروي التابعي مثل الزماني الذي توفي سنة (100هـ) من
صحابي.
فلسنا بحاجة إلى هذه الفرضيات والخيالات التي يهذي بها المْحِمْدِي!
وشعبة مشى على ذلك وبيّن في روايته أنه سأل شيخه عن أبي
قتادة هذا، فمسألة معرفته بعدم سماع الزماني من الأنصاري مسألة خيالية حتى نقرر
أنه إن عرف خطأ شيخه ورواه عنه فكيف يستحل ذلك!!
وهذا خيال واسع من المْحِمْدِي يصلح لقصص "ألف ليلة
وليلة"!!
ثم يزيد ضِغثا على إبالة فيزعم كذبا أيضاً أنا قلنا "إن
من جاء بعد شعبة تابعه على خلطه ووهمه"! فبالله أين قلنا إن شعبة خلط ووهم في
ذلك؟!
ما هذا الكذب والافتراء!
إنما الذي قلته إن أهل العلم تبعوا موافقة غيلان في أن أبا
قتادة هنا هو الأنصاري، فتبعوا وهم غيلان لا شعبة!
ولا يوجد في كلامي أدنى اتهام لشعبة في أمانته وعدالته كما
يزعم هذا المفتري المدلّس!!
وما ادعاه من أن الصحيح أن سؤال شعبة لشيخه يدل على أنه
يعرف أن للزماني رواية عن الأنصاري وإلا لما سأله! فهذه دعوى مردودة لا دليل
عليها! وإنما هي خيال من خيالاته الكثيرة!!
وقد قلت مراراً إن سؤاله لغيلان لأنه لم ينسبه عندما حدث
به عن الزماني، والأصل أن يكون من بعد الزماني صحابيا فلهذا قال له:
"الأنصاري" لأنه المشهور في الصحابة بهذا الاسم.
3- دعواه بأن غيلان لم ينفرد بذكر الأنصاري! بل تابعه
قتادة السدوسي!
قال المْحِمْدِي (ص9): "ثم: هل انفرد غيلان بذكر الأنصاري
أم توبع؟ حتى تتهمه بالوهم، فغيلان لم ينفرد بذكر الأنصاري فقد تابعه قتادة السدوسي،
عن الزماني" انتهى.
أقول:
قد بينت في البحث تحت عنوان: "رواية قتادة عن
الزماني" أن الحديث رُوي عن قتادة عن عبدالله بن معبد مباشرة، ورُوي عنه عن عبدالله بن معبد
بواسطة غيلان! فهل يُقال: إنه سمع حديث عرفة بواسطة غيلان، ثُمّ لقي عبدالله بن
معبد فسمعه منه مباشرة؟
قد يستقيم هذا الفهم لو عمَّرَ قتادة بعد غيلان بن جرير،
ولكن قتادة مات سنة (118هـ)، وشيخه غيلان مات سنة (129هـ)، وهذا يعني أنّ قتادة
حدّث عن غيلان في حياة غيلان، فلو كان قتادة سمع من عبدالله بن معبد مباشرة، فلِمَ
يحدِّث عنه بواسطة غيلان؟
وبينت أنه لا يثبت لقتادة سماع من عبدالله بن
معبدالزماني - مع المعاصرة المتحققة-، وإنما بينهما واسطة وهو "غيلان بن جرير"
كما ثبت في إسناد حديث عرفة.
وهذا الحديث تفرد به غيلان عن الزماني، لم يروه عنه إلا
هو.
لكن المْحِمْدِي صحح كلا الروايتين، فأثبت صحة رواية
قتادة عن الزماني! وهذا ما سيأتي في المسألة رقم خمسة.
والمشكلة أن المْحِمْدِي هذا ينتقي من بحثي ما يريد
ويرده! ويترك من كلامي في البحث نفسه في المواضع نفسها ما يدمغ حججه الواهية!!
وهذا من التدليس البيّن! فهو بين العَمى أو التّعامي.
فقد بينت في أصل البحث تحت عنوان: "وهم للحاكم"
الاختلاف على قتادة في هذا الحديث.
فرواه منصور بن زاذان، والحكم بن عبدالملك البصري، وسعيد
بن بشير الدمشقي، ومَعمر، كلهم عن قتادة، عن عبدالله بن معبد الزماني، عن أبي
قتادة.
ورواه هشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن
سلمة، كلهم عن قتادة، عن غيلان بن جرير، عن عبدالله بن معبد الزماني، عن أبي
قتادة.
وقلت إن الحديث محفوظ
عن قتادة عن غيلان بن جرير عن الزمانيّ عن أبي قتادة.
فهل سمع
كل هؤلاء الرواة هذا الحديث من قتادة في مجلس واحد، فضبطه بعضهم، وقصّر الآخرون؟
هذا محتمل.
وإن كان
حدث به في مجلسين مختلفين فلا يعدو أن حافظا مثل قتادة كان يُنوّع في الرواية بحسب
الحال، فأحيانا يسند الحديث وأحيانا يرسله، وقد بينت أن هذا فعله في الحديث الآخر
الذي له في «صحيح
مسلم» أيضاً وهو ما يتعلق بالتفسير فقد رُوي عنه متصلاً، ورُوي عنه مرسلاً، فكأنه رواه
مرسلاً في مجلس التفسير، وهذا تنويعٌ في الرواية يستخدمه الحفّاظ الكبار.
ومع أن معاصرة قتادة لعبدالله بن معبد متحققة إلا أن هذا لا
يعني أنه سمع منه، فقد قال الذهبي - رحمه الله- في «السير» (6/16): "مولده -
أي أيوب السَختياني- عام توفي ابنُ عبّاس، سنة ثمان وستين. وقد رأى أنس بن مالك،
وما وجدنا عنه رواية، مع كونه معه في بلد، وكونه أدركه وهو ابنُ بضعٍ وعشرين
سنة"، ومن قبل قال المَرُّوْذِي: "سأَلتُ أَحمد بن حَنبل، قلتُ: سمع ابن
عون من أَنس شيئًا؟ فقال: قد رآه، وأَما السماع فلا أَعلم، ثم قال: أَيوب قد رآه،
ولم يسمع" [العلل رواية المروذي (ص: 36)]، وهو ما قرره أبو حاتم كما في
المراسيل لابنه.
4- خلطه في رواية قتادة عن غيلان وأنها من المزيد في متصل
الأسانيد. ونفي سماع قتادة من الزماني!
قال عبدالقادر المْحِمْدِي: "فنفى الدكتور الحايك - مثلاً- سماع قتادة من غيلان بن جرير بحجة
عجيبة! فقال: [فلو كان قتادة سمع من عبدالله بن معبد مباشرة فَلِمَ يحدِّث عنه بواسطةِ
غيلان؟]؟! بربك هل يستقيم مثل هذا الكلام يا خالد؟ الحديث روي عن قتادة على وجهين:
مرة عنه عن غيلان بن جرير عن الزماني به. ومرة عنه عن الزماني به مباشرة، دون ذكر غيلان،
وهذا شائع معروف وهو من المزيد في متصل الأسانيد، فالرجل سمعه أولا بإسناد نازل، ثم
سمعه من الزماني مباشرة" انتهى كلام المْحِمْدِي.
أقول:
هو يزعم أن الرواية التي وردت عن قتادة عن غيلان عن عبدالله
بن معبد الزماني من قبيل المزيد في متصل الأسانيد!!
ولا زال المصنفون في علم الحديث يتتابعون على تعريف المزيد
في متصل الأسانيد! بأنه ما كانت فيه الزيادة غلطا لا ما كانت الزيادة هي
الصواب..!!
ولولا خشية الإملال لأوردت الكثير من النصوص التي لا تخفى
على مبتدئ في طلب علم الحديث في تعريف هذا الباب من أبوابه وعلومه.
فالمزيد في متصل الأسانيد هو أن تزيد في الإسناد راوياً
على سبيل الخطأ! وأما أن يروي المحدث الحديث عن شيخ بواسطة ثم يلتقي بالشيخ فيرويه
عنه مباشرة فهذا لا يسمى المزيد في متصل الأسانيد!!!
مع التنبيه إلى كون هذا الاصطلاح متأخر لا يعرف في عصـر
النقاد الأوائل، وقد تكلم جماعة عن ذلك، ولابن رجب الحنبلي كلام مشهور حول كتاب
الخطيب البغدادي «تمييز المزيد في متصل الأسانيد»، وأن العبرة في ذلك بالقرائن
المحتفة وليس هناك قاعدة مطردة تحكم ذلك
وإحقاقا للحق، ولأن أهل السنة يذكرون ما لهم وما عليهم،
فإن المعلمي اليماني قرر نحو ذلك في فهم "المزيد في متصل الأسانيد"، كما
في (التنكيل - مجموع آثار العلامة المعلمي: 11/242)، ولا أدري كيف وقع المعلمي في
هذا مع إمامته! وغالب الظن أن المْحِمْدِي لو كان يعرف هذا عن المعلمي لاحتج به في
ما كتب من ورقات سماها (أصلحك الله يا حايك) نشرها بعد نشر وقفاته العرجاء المقصودة
بردنا هذا بيوم أو اثنين!!
فالمسألة ليست كما قال المْحِمْدِي، وهو لا يفهم منطق
الرواية!
وأحاول هنا أن أعلمه ذلك ببسط هذه الروايات وكأننا نعلم
ألف باء الحديث!
قتادة مات سنة (118هـ)، وشيخه غيلان مات سنة (129هـ)، يعني في
الإسناد الذي روى قتادة فيه الحديث عن غيلان كان قد حدث به في حياة شيخه لأن الشيخ
توفي بعد التلميذ بـ (11) سنة!
فإذا كان الحديث سمعه قتادة من عبدالله الزماني الذي مات بعد
سنة (100هـ) تقريباً، فلم يُحدث قتادة بالإسناد النازل في حياة غيلان وهو عنده عال
عن الزماني مباشرة؟!
هذا لا يفعله الصغار فكيف بإمام كبير مثل قتادة!
أين مسألة العلو والنزول التي يرددها المْحِمْدِي في
ندواته؟!!
وقتادة لما توفي عبدالله بن معبد كان شيخا يُرحل إليه،
وهذا يقتضي أن يكون الحديث عن الزماني عنده ويحدّث به، ولا يحتاج لأن يحدث به
بواسطة!
ثم على فرض أن قتادة سمعه أولاً بواسطة غيلان، ثم لقي
عبدالله بن معبد فسمعه منه مباشرة، فهذا يعني أن غيلان حدث بالحديث عن الزماني في
حياة الزماني؛ لأنه لو حدث به بعد ذلك، لانقلب الأمر؛ لأنه يكون أصلا عند قتادة عن
الزماني، فلم يسمعه بواسطة وهو عنده بدونها!!
ومنطق التحديث والرواية لا يفهمه كثير ممن يزعم الاشتغال
بالحديث في هذا الزمان، فمثل هذا الحديث الذي يرويه قتادة وهو الإمام الكبير ويحدث
به عمن هو في طبقة تلاميذه في حياته يدل على أن الحديث لا يمكن أن يكون متصلاً!
فأين أصحاب الرواية الكبار عنه لو كان كذلك! ولذا فهذه قرينة على أنه منتشر في
البصرة مرسلاً، وأن أبا قتادة هذا ليس الصحابي، وإنما هو العدوي التابعي البصري
المعروف عندهم، ولهذا فغالب من رووه عن قتادة ليس فيه نسبة أبي قتادة، وإن وجد في
رواية ما في كتاب فهذا لأن أصحاب المصنفات اعتقدوا أنه الأنصاري وجروا على ذلك.
ثم مما يؤيد عدم سماع قتادة من الزماني أنه ليس له إلا
حديثين اختلف فيهما على قتادة وصلا وإرسالاً! ولو كان سمع منه لسمع منه المسندات،
والله أعلم.
ثم إني ذكرت في بحثي أن قتادة روى هذا الحديث أيضاً عن أبي الخليل، عن حرملة بن إياس، عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعدل صوم
يوم عرفة سنتين، وصوم عاشوراء يعدل سنة»!
وهذا يدل على أن الحديث بصري، وأبو قتادة هو التابعي لا
الصحابي.
5- دعواه بأني تناقضت فرجحت طريق قتادة عن غيلان ثم أعللته
بالمرجوح!
قال المْحِمْدِي (ص9): "ثم يتناقض - الدكتور الحايك-
بين سطر وآخر: فهو قد رجح طريق قتادة عن غيلان عن الزماني، ثم يعود ويعله
بالمرجوح!؟ والروايات لا تعل بهذه الأوهام!! فالتصريح بـ (الأنصاري) ليس من كيس
شعبة، والنقاد ليسوا مغفلين - حاشاهم- حتى يأتي أحدهم وينقل الحديث هكذا بلا نقد ولا
تفتيش!".
أقول:
هذا افتراء وكذب واضح فاضح!!
فأنا وإن رجحت رواية قتادة عن غيلان عن الزماني عن أبي
قتادة على الرواية التي ليس فيها ذكر "غيلان". فأين أعللت هذه
بالمرجوح؟!!
وما هو المرجوح الذي أعللت به الرواية الراجحة؟!!
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!
6- ادعاؤه متابعة أبي خليل الضبعي للزمّاني.
قال في الهامش رقم (5) في الصفحة التاسعة من عرجاته: "علما
أن الزماني نفسه لم ينفرد بها عن أبي قتادة الأنصاري تابعه أبو الخليل، كما أخرجه ابن
أبي شيبة (7100)، وغيره، لكن لم يصرح بالأنصاري فلم أذكرها في المتن."
وقال (ص9): "يعني لم ينفرد شعبة ولا شيخه غيلان فيه،
بل وحتى الزماني لم ينفرد به، فقد تابعه أبو الخليل! وهذه وحدها تقضي على أوهامكما
لو كنتما متجردين للحق، لا أن تشرقا وتغربا لنفي كل هذه المتابعات ليوافق ما في
رأسيكما!" انتهى كلام المْحِمْدِي.
أقول:
في هذا الكلام أحد أمرين، إما جهل فاضح أو تدليس قادح، فلم
يتابع أبو الخليل الزمانيَّ في ذلك، وإنما الذي تابعه هو حرملة بن إياس[*]،
وهو بصـري - وكل ذلك مذكور بالتفصيل في بحثي-، وقد أبنت عن تفاصيل الأسانيد إلى
أبي الخليل وميزت صحيحها من سقيمها، وهذا يؤكد أن مخرج الحديث من البصـرة لا المدينة،
سيما وقد نص الإمام البخاري أن حرملة: "لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ أَبِي
قَتَادَةَ". وقد شرحت ذلك في بحثي وأفضت فيه، وهذا الإسناد مما وقع فيه
اختلاف كثير تكلم عليه البخاري والدارقطني لا حاجة لتكرار الكلام عليه - فليرجع
ثمّ.
سيما وقد نص عطاء بن أبي رباح إمام أهل الحجاز في زمانه
على أن الحديث مخرجه عراقي لا يعرف في الحجاز، فقد قال همام بن يحيى «سُئِلَ عَطَاءُ
بْنُ أَبِي رَبَاحٍ - وَأَنَا شَاهِدٌ - عَنْ الْفَضْلِ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ،
فَقَالَ: جَاءَ هَذَا مِنْ قِبَلِكُمْ يَا أَهْلَ العِرَاقِ».
[* قال ابن خزيمة في «صحيحه» (4/155) (2580): حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ
بْنِ بَزِيعٍ: حدثنا زِيَادٌ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِاللَّهِ الْبَكَّائِيَّ-: حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ - وهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى-، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ
أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَاقَ هَدْيًا تَطَوُّعًا فَعَطَبَ فَلَا يَأْكُلْ
مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ إِنْ أَكَلَ مِنْهُ كَانَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، وَلَكِنْ لِيَنْحَرْهَا،
ثُمَّ يَغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ يَضْرِبْ فِي جَنْبِهَا وَإِنْ كَانَ
هَدْيًا وَاجِبًا، فَلْيَأْكُلْ إِنْ شَاءَ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهِ»
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «هَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ بَيْنَ
أَبِي الْخَلِيلِ، وَأَبِي قَتَادَةَ رَجُلٌ»".
قلت: وهذا الرجل هو حرملة بن إياس البصـري، مع التنبه أنه
ربما كان ابن خزيمة متابعاً من قبله في التوهم بأن أبا قتادة هنا هو الأنصاري فلم
يعلق على ذلك وأورد الحديث في صحيحه!].
وأقول لك كما قلت لي آنفاً: "فهذه وحدها تقضي على
أوهامك لو كنت متجرداً للحق، لا أن تشرق وتغرب لإثبات كل هذه المتابعات لتوافق ما
في رأسك!".
8- إيراد أصحاب «المسانيد» الحديث في مسند أبي
قتادة الأنصاري؟!
قال المْحِمْدِي (ص10): "ثم كيف يجزم به أصحاب
المسانيد فيجعلون الحديث في مسند أبي قتادة الأنصاري، كالإمام الحميدي والطيالسي،
وأحمد، وغيرهم، وكيف يصرح به مسلم وابن خزيمة، وأبو عوانة، ثم كيف ينص أئمة الجرح
والتعديل والتاريخ على رواية الزماني عنه كالبخاري وأبي حاتم والعقيلي وابن عدي،
والطبراني والطحاوي وابن حبان ... الخ، فهل غفل كل هؤلاء؟ ومن الناس بعدهم! حتى
يخرج علينا أحدهم بهذا الابتكار الخطير!" انتهى كلامه.
أقول:
الجواب بسيط: نعم غفلوا، ولا يضرهم ذلك، فهم أئمة الهدى
وعلى نهجهم نسير، وكم من واحد منهم فتح الله عليه ما لم يفتح على غيره.
وإنما تتابعوا على هذا الخطأ لأن شعبة سأل شيخه فأقره على
أنه "الأنصاري" فماذا تريد منهم يا محمدي أن يفعلوا بعد ذلك!!
فمنازعتنا لهم في أصل حدوث ذلك الوهم من الشيخ بالأدلة
والبراهين.
وقد ذكرت في البحث أن هذا يحدث في الأسانيد، لكن المْحِمْدِي
يُعرض عن ذكر ما يدمغ كلامه.
فقد سأل ابن أبي حاتم في «العلل» (3/96) أباه عن حديثٍ؛ رواه محمد بن بكَّار، عن
سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عياش بن عبدالله اليشكري، عن أبي قتادة بن
ربعي الأنصاري، أنه قال: «ما من يوم أحبّ إليّ من أن أصومه من يوم الجمعة،
ولا أكره أن أصومه من يوم الجمعة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: يعجبني أن أصوم الجمعة
لما أعرف من فضله، وأكره أن أصومه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه»؟
قال ابن أبي حاتم: قال أبي: "إنما هو: عن أبي
قتادة العدوي من التابعين، موقوف".
وقال في موضع آخر (3/127): سألت أبي عَن حدِيثٍ؛ رواهُ
سعِيدُ بنُ بشِيرٍ، عن قتادة، عن عيّاشٍ اليشكُرِيِّ، عن أبِي قتادة بنِ
رِبعِيٍّ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنّهُ نهى عن صومِ يومِ
الجُمُعةِ»؟
فقال أبِي: "رواهُ سعِيدُ بنُ أبِي عرُوبة، عن
قتادة، عن عيّاشٍ، عن أبِي قتادة العدوِيِّ، موقُوف".
قال أبِي: "وأبُو قتادة العدوِيُّ مِن
التّابِعِين".
قلت: فهذا الحديث ظنّ راويه أن أبا قتادة هو الصحابي
الأنصاري، وإنما هو العدوي التابعي، وهذا يؤكد قول ابن معين أن كلّ من روى من
البصريين عن أبي قتادة فهو العدوي؛ لأن عيّاش اليشكري بصري.
وهو يؤكد كذلك أن حديث الصيام الذي فيه ذكر عرفة وغيره
هو حديث أبي قتادة العدوي، وها هو يروي عنه عياش هذا الحديث أيضاً في الصيام!
فالذي حصل في حديث عرفة هو النسبة الخطأ من غيلان بن
جرير لما سأله شعبة عن «أبي قتادة» من هو؟! «الأنصاري»؟ فهزّ برأسه: أي نعم! فوهم
في ذلك - رحمه الله-.
ثم إذا جاء الحديث أنه من مسند الصحابي فلان فأصحاب المسانيد
يوردونه في مسنده، سواء أكان حقيقة من مسنده أم لا، فكم من حديث روي أنه مسند
فلان، ثم بعد التحقيق تبين أنه من مسند صحابي آخر كما في كتب العلل.
فهذا حديث أخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» (4/2196) عن الحَكَم ابن
مُوسَى، قالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ
جَابِرٍ: حَدَّثَنِيسُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: حَدَّثَنِي المِقْدَادُ بنُ
الْأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ حَتَّى
تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ... الحديث».
وهو من مسند المقداد بن الأسود، وذكره في مسنده الإمام
أحمد وغيره من أصحاب المسانيد، وهو كذلك عند الترمذي وغيره. وتتابعوا على ذلك!
لكن عند التحقيق تبين أنه من مسند «المقدام بن معدكرب». وقد فصلت في ذلك في عدة
مواضع فانظرها يا محمدي لعلك تستفيد بدل المغالطة!
قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (2/218): سألت أبي عن حديث
رواه الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن سليم بن عامر
قال: حدثني المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تدنى
الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل؟
قال أبي: "هذا خطأ! إنما هو مقدام بن معدي كرب، وسليم بن
عامر لم يدرك المقداد بن الأسود".
فخَفي ذلك على الإمام مسلم، بل وعلى الإمام أحمد من قبله، فإنه
ذكر هذا الحديث في مسند المقداد بن الأسود، وذكره المزي في التحفة في مسنده كذلك!!
فماذا تقول في هذا يا محمدي؟!! ولم تستكثر على غيرك ما فتح الله
به عليه؟!
قال القرافي - رحمه الله -: "وَكَمْ مِنْ تَفْصِيلٍ قَدْ
سَكَتَ عَنْهُ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ وَأَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلْبِ
مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّاتِ
وَالنَّقْلِيَّاتِ، وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْعُلُومِ وَكَثُرَ تَحْصِيلُهُ لَهَا
اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ".
وقد كتب الحافظ شرف الدين الدمياطي جواباً طويلاً نقله ابن
السبكي في ترجمته من «طبقات الشافعية الكبرى» نص فيه على توهيم غالب الأئمة قبله
في مسألة شهود هلال بن أمية ومرارة بن الربيع بدراً، فوهم فيها الزهري، وأحمد،
والبخاري، ومسلم، وابن عبدالبر، والغسَّاني، وقال: "لأن بعضهم قلد بعضاً فزلّ،
والمقلد الأصلي الزهري، ومنه أتى الوهم"!
8- «هلهلات» المْحِمْدِي وأسئلته التي لا تسمن ولا تغني من
جوع! وتكرار فيه سوء طوية! وافتراءات!
قال المْحِمْدِي (ص10): "ثم هل ذكر أحد من أئمة الحديث - أي امام - أن أحدا
على وجه الأرض غلط في الجمع بينهما في هذا الحديث؟ الجواب: كلا.
هل ذكر أحد من أهل العلم أنهما يشتركان في التلاميذ والشيوخ
فيتعسر التمييز بينهما إذا أهملا؟ كالسفيانين والحمادين مثلا؟
ثم هل وقفت على رواية واحدة رواها الزماني عن أبي قتادة العبدي
[كذا]، حتى حصل هذا التشكيك منكما؟
ولا أدري كيف وقع لكما هذا الخلط الشنيع؟ فرحتما تأتون
بالعجائب! فهذا أبو قتادة الأنصاري صحابي: معروف الاسم والنسب والرواية، معروفة
طبقته، ومن روى عنه. وذاك أبو قتادة العبدي البصري تابعي على الراجح: معروف الاسم
والنسب والرواية، معروف عمن روى ومن روى عنه. فالأئمة بينوا ذلك، ونصوا عليه، فكيف
خلطتما بينهما بطريقة لا يقع فيها أصغر طالب العلم!
ومع كل ذلك فلو كان هناك خلاف في الرجل - حقا - فمجيئه مصرحا به
من هذه الطرق تجزم أنه الأنصاري! فكيف والأمر على خلافه؟
فالأصل الذي استشكل به الأستاذ فوزي البحريني وتبعه الحايك
باطل! فلا التباس بين أبوي قتادة ههنا، أضف إلى أنه جاء مصرحا به من طرق صحيحة
مختلفة.
وسؤال شعبة لشيخه دليل عليهما لا لهما! فشعبة أراد أن يميز مخرج
الحديث، وهذا مشهور معروف بين أهل الحديث، وليس هذا من قبيل التلقين، وكتب الرواية
مليئة بأمثلة ذلك. فالتلقين علة في الرجل وحديثه يضعف إذا قبل التلقين فهل ذكر أحد
غيلام بن جرير فيمن يتلقن؟ ثم ما حاله بعد التلقين؟
والسؤال المُلِّح: هل وقفتما على رواية واحدة للزماني عن أبي
قتادة العدوي؟ صرح أنه العدوي أو قال أحد الأئمة إنه العدوي؟ هلا ذكرتماها لنا؟ علما
أني لا أنفي احتمال وجود رواية للزماني عن العدوي، لكن لم أقف على مثلها، وسؤال شعبة
لشيخه مما قد يشعر بأن الزماني له رواية عن العدوي، لكن لم يذكر أهل العلم مثلها"
انتهى كلام المْحِمْدِي.
أقول:
أولاً: يُكثر المْحِمْدِي من «الهلهلات» = هل؟ وهل؟ وهل؟... في
وقفاته العرجاء! وهذه في النقد العلمي لا تسمن ولا تغني من جوع! لأن الرد العلمي ينبغي
أن يكون مؤصلا على الحجج والبراهين؛ لأن المقام مقام رد واعتراض!
ويصدق في المْحِمْدِي
هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في بيان فساد ضلال المتكلمين حين
قال: "وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل، ومن المعلوم:
أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة وأحسن أحوال صاحبه: أن يكون بمنزلة
العامي وإنما العلم في جواب السؤال." [مجموع الفتاوى: (4/27)].
ومع ذلك فلا بأس بإيراد بعضها بعد البيان الشافي والكافي
للأدلة العلمية الصريحة من باب الاستثارة في البحث، لكن لا يمكن الاعتماد عليها في
الإثبات، فنفي الشيء لا يعني عدم وجوده.
ثانياً: المسألة ليست خلطا كما يحدث في بعض الأحاديث في
تعيين المهمل في الإسناد، بحيث ننظر في شيوخ الراوي وتلاميذه!
والمسألة أصلا عكسية لا يستوعبها المْحِمْدِي!
فنحن نلجأ إلى ما ذكره أهل العلم في كتبهم إذا عسر علينا
التمييز بين الرواة المهملين، لكن هنا ما يوجد في الكتب من رواية الزماني عن أبي
قتادة الأنصاري إنما جاءت من هذا الحديث فقط.
فلما أن جاء فيه "الأنصاري" أثبتوا ذلك في
ترجمته، ولم يذكروا ذلك في ترجمة العدوي! فلا حاجة لما قاله المْحِمْدِي بأن هذا
معروف ومعروف شيوخه وتلاميذه، وذاك أيضاً، حتى نسبنا للخلط الشنيع!! وأن هذا لا
يقع فيه أصغر طالب علم!!
الرجل لا يريد استيعاب أصل المسألة وهي التي بنى عليها أهل
العلم هذه النسبة، وهو سؤال شعبة لشيخه من هو أبو قتادة هذا!
فكل ما جاء بعد ذلك هو تبع لإقرار الشيخ أنه
"الأنصاري".
ولو لم نجد هذا السؤال في بعض الروايات لبقيت المسألة على
الأصل والمعاصرة بينهما، ولما كان لذكر العدوي هنا أي معنى! لكن هذا السؤال هو أس
المسألة، وإقرار الشيخ هو أس المشكلة!
فهلا استوعبت أيها المحدث النحرير وابتعدت عن الهلهلات
والاتهامات التي لا تفيد!
ثالثاً: فوزي البحريني لم يستشكل الأصل أيها المفتري! ثم
تفتري عليّ بأني تبعته على ذلك!
فالكذاب يريد أن يثبت اتباعي للبحريني في بحثه! مع
الاختلاف الكبير بيننا، وهو لم يأت بما أتيت به، وقد رددت عليه في كثير من تخليطاته!
وإصرار المْحِمْدِي على هذا الكذب يدل على خبث نيته، وسوء
طويته تجاه العبد الفقير! فأين التقوى يا صاحب الحديث؟!!
وانظر أيها القارئ كيف يخاطب فوزي [المدخلي المرجئ] بـ
"الأستاذ" ويخاطب العبد الفقير بما رأيت آنفا!
رابعاً: لم يكن هناك التباس بين أبوي قتادة كما توهم المْحِمْدِي!!
والطرق التي جاء فيها مصرحا أنه "الأنصاري" نعم صحيحة ولم نطعن فيها،
وإنما بينا أن هذه النسبة جاءت فيها تبعا لسؤال شعبة لشيخه عن نسبة أبي قتادة الذي
في الحديث.
خامساً: قوله بأن سؤال شعبة دليل عليّ لا لي، ليس بصحيح!
نعم، شعبة أراد تمييز مخرج الحديث فسأل شيخه:
"الأنصاري"؟ فقال: نعم.
فهل هذا دليل عليّ أم لي؟!!
نعم، قد يكون كذلك لو كان الشيخ أصاب فيه، لكنه وهم
بموافقته على ذلك.
ولا تثريب على شعبة هنا لأنه لما رأى شيخه قال: حدثنا
عبدالله بن معبد الزماني عن أبي قتادة، فشعبة يعرف أن الزماني تابعي، ومن بعد
التابعي الأصل أن يكون صحابياً، والمشهور في الصحابة ممن اسمه: أبو قتادة هو
الأنصاري، فذكره لشيخه، فوافقه عليه، فمضى شعبة على ذلك ولم يشك فيه طالما أن
الشيخ قال إنه الأنصاري!
فلو لم نُنازع غيلان في ذلك لكان هذا السؤال له لا لنا كما
ادعى المْحِمْدِي، لكن الرجل يخلط بين الأمور ولا يستوعبها!
سادساً: رجع هنا المْحِمْدِي لمسألة التلقين مع أننا نفينا
عدة مرات، فغيلان لم يكن يتلقّن، ولهذا لم يذكره أحد في من كان يتلقن! والذي حصل
له أنه وهم فقط في موافقته للنسبة التي استفسر عنها شعبة، ولهذا كانت عبارتي واضحة
بأن هذا "أشبه ما يكون بالتلقين".
وقد نبهت فيما سبق إلى أن مجرد التلقين لا يعني تضعيف
الراوي وتعليل حديثه به إلا إذا عُرف به قديماً في جميع حديثه، ولا يؤمن أن يكون
ما حفظه مما لُقّن، وأما إذا كان التلقين حادثاً في حفظه ولا يعرف به قديما فهذا
يُترك حَدِيثُهُ الَّذِي لُقِّنَ فِيهِ، وأُخِذَ عَنْهُ مَا أَتْقَنَ حِفْظَه.
سابعاً: السؤال المُلح من المْحِمْدِي: هل وقفنا على رواية
للزماني عن العدوي لا قيمة له!
فإذا رجحنا أن هذه الرواية عن الزماني عن أبي قتادة العدوي
فليس بالضرورة أن يكون هناك حديث آخر له عنه! فكم من راو لا يوجد له عن شيخ إلا
حديثاً واحداً.
فالزماني بصري، وأبو قتادة العدوي بصري، وهذه قرينة على
أنه هو الذي في هذه الرواية.
وسؤال شعبة لشيخه: هل هو الأنصاري فيه إشارة أن شعبة لم
يكن يجزم بأنه "الأنصاري"، ويُحتمل أنه آخر وإلا لما سأله.
9- دخول أبي قتادة الأنصاري الكوفة والموت فيها.
قال المْحِمْدِي كلاما أنقله بطوله:" فأبو قتادة الأنصاري
دخل الكوفة ومكث فيها حتى قيل إنه مات فيها وصلى عليه علي بن أبي طالب ودفن هناك، ولا
يهمني ههنا الاختلاف في محل دفنه، وإنما النص يثبت دخوله الكوفة، ثم دخول الكوفة
لا يكون الا من طريق البصرة -إلا ان يكون دخلها بالطائرة-! فالزماني قد يكون سمع منه
في البصرة، أو ربما رحل إليه إلى الكوفة أو المدينة، لاسيما أنَّ ابن أبي شيبة أخرج
من حديث ابن سيرين - وهو من شيوخ الزماني واقرانه - يذكر أن أبا قتادة الأنصاري- مصرحا
بالانصاري- نزل عندهم وبات، وحدثهم بحديث الكوكب. وربما هذا الأظهر، فلقاؤه كان في
تلك الليلة التي نزل فيها في دار آل سيرين، ويؤيده قلة رواية الزماني وابن سيرين عن
أبي قتادة. ثم الزماني نفسه قد يكون رحل الى المدينة وسمع من الأنصاري، ويؤيده قول
البخاري الذي نقله ابن عدي في ترجمة الزماني: "سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري:
عبدالله بن معبد الزماني الأنصاري عن أبي قتادة، لا يعرف له سماع من أبي قتادة"
وتأمل في عبارة البخاري (الانصاري) فأصل الرجل من المدينة، وقد يكون استوطن
المدينة أصلا، فلا وجه لتكلفك في نفي إمكانية السماع باختلاف البلد، يا حايك"
انتهى كلام المْحِمْدِي.
أقول:
ما أصدق قول البُحْتُرِيُّ إذ قال:
إذا مَحَاسِنيَ اللاّتي أُدِلُّ بِهَا // كانَتْ ذُنُوبي فقُلْ
لي كَيفَ أعتَذرُ
أهُزُّ (بالعلم) أقْوَاماً ذَوي وَسَنٍ // في (الجَهلِ) لوْ
ضُرِبوا بالسّيفِ ما شعرُوا
وتتمة الأبيات معروفة أُجلُّ هذه الورقات عن ذكرها!!
أفيعيب علينا الاحتجاج بتباعد البلدان بين البصرة والمدينة
في سماع ابن سيرين من أبي قتادة الأنصاري! وقد قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص:
187): سُئِلَ أَبِي عَنِ ابْنِ سِيرِينَ سَمِعَ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَ:
"قَدْ أَدْرَكَهُ وَلَا أَظُنُّهُ سَمِعَ مِنْهُ، ذَاكَ بِالشَّامِ وَهَذَا بِالْبَصْرَةِ"..؟!
هذا مع كون أبي الدرداء توفي سنة (35 هـ) وولد ابن سيرين
سنة (33هـ)..!! فكيف يصح سماع ابن سيرين من أبي قتادة الأنصاري المدني وقد كان عمر
ابن سيرين البصري حين توفي أبو قتادة تسعة عشر سنة!!.
وكيف لا يهمك الخلاف في محل وفاته وأنّ عليا صلى عليه وقد
حكى البيهقي الإجماع على خلاف ذلك، وأن الصواب أن عليا صلى على سهل بن حنيف لا على
أبي قتادة أم هو التدليس والتعمية على القارئ.!!
وتأمل - أيها القارئ- كم مرة كرر المْحِمْدِي
"قد" و"ربما" و"هل" في بحثه، وهو يعيب عليّ أني بنيت
بحثي على الاحتمالات!! فأين "قدقداتك، وربرماتك، وهلهلاتك".!! أليست
من جنس هذه الاحتمالات..!
"قد يكون سمع منه في البصرة"!!
"ربما رحل إليه إلى الكوفة أو المدينة"!!
"قد يكون رحل إلى المدينة"...!!!
والبلية العجيبة أنه ينقل كلام البخاري في عبدالله بن معبد
من كتاب ابن عدي.
فالله المستعان على هذا الغثيان!!!
وهو يعيب علينا أننا نبني بعض الأمور على فهم بعض العبارات
- وإن كان لا يفهم مغزى تلك الفهوم- وهو يقع في الشيء نفسه لكن فهمه منقوض! ويأتي
بالعجائب!!!
فهو يقرر بأن أبا قتادة الأنصاري نزل عند آل سيرين في
البصرة كما جاء مصرحا في رواية ابن أبي شيبة "الأنصاري"!!
وهو يؤكد على هذا لأني وهمت أبا حاتم في هذا في موضع آخر!
ولأن هذا الجاهل لا يعرف كيفية التعامل مع الروايات أخذ ما
جاء في الرواية "الأنصاري"!! وركز على أنه جاء مصرحا به في الرواية!!
والحقيقة أن الصواب: "نزل بهم أبو قتادة البصري"
لا الأنصاري! فتحرفت.
والعجب أنه يجعل قلة رواية الزماني وابن سيرين عن أبي
قتادة من مؤيدات ذلك!!
فليأتنا بغير هذه الرواية التي ادعي فيها أنها عن أبي
قتادة الأنصاري نكن له من الشاكرين طالما أنه من الباحثين في مسائل العلل!!
وربما يستنكر قولنا إن "الأنصاري" محرفة من
"البصري"! فنزيد هذا تأكيدا ببيان جهله الآتي في اعتماده على ما جاء في
طبعات كامل ابن عدي من تحريف ليؤيد رأيه ويبني عليه بنيانًا على شَفا جُرِف هار!!!
فنقل من مطبوع كامل ابن عدي: "قال البخاري: عبدالله
بن معبد الزماني الأنصاري عن أبي قتادة..."!!
وفرح بهذا وطبَّل وزمَّر - وربما رقص-!!! على هذا النص
النفيس: "الأنصاري"!!
فبنى على ذلك أن أصل الرجل من المدينة؛ لأنه أنصاري بحسب
ما في مطبوع ابن عدي!!!
حسناً يا مسكين.. هذا التاريخ الكبير للبخاري أمامك! انظر
ما فيه:
"عَبْداللَّه بن مَعْبد الزماني البَصْرِيّ عَنْ
أَبِي قتادة....".
"البصري" لا "الأنصاري"!!!!
فهذا تحريف كما حصل التحريف في قصة نزول أبي قتادة البصري
على آل سيرين فصارت: "عن أبي قتادة الأنصاري"!!!!
فأين تحريرك يا محمدي؟!!!! فقد تأملت ما قلت لي تأمله
فوجدتك حاطب ليل!!!!
ولما بيَّنت له غلط الكلام وتصحيفه زعم أنه رجع لنسخ
مخطوطة ومطبوعة!! وماذا تصنع نسخك إن كان أصل التصحيف في كتاب ابن عدي، وهذا
التاريخ الكبير للبخاري بين أيدينا، يصرح بأن عبدالله بن معبد الزماني (بصري) لا
(أنصاري).!! ولم ينقل أحد البتة عن البخاري ذلك!! فقبل التصحيف وبنى عليه جملة من
"القدقدات" ورام تخطئتي بها..!!
ثم كيف تأخذ من النص بعضه وترمي بعضه!!!
فالنَّص الذي اعتمدت عليه أنه دخل الكوفة هو نفسه الذي ذكر
أن عليا صلى عليه هناك!
فإذا أثبت أنه دخل الكوفة بهذا النص، فيجب عليك أن تثبت
أنه دفن هناك أيضاً! وهذ يستحيل أن تقوله؛ لأنه دفن بالمدينة.
ولا يجوز أن تعمل بعض النص وتُهمل بقيته كما هو مقرر في
الأصول - إن كنت تعرف شيئاً فيه-!
فهل يكون كلامك هذا علمياً: "ولا يهمني ههنا الاختلاف
في محل دفنه، وإنما النص يثبت دخوله الكوفة"!!!
10- مسألة نفي البخاري العلم بالسماع وهل تساوي نفي
السماع.
قال المْحِمْدِي (ص14): "فمما يجب التنبه إليه أن
البخاري لم ينف السماع، وإنما نفى معرفته بالسماع وبين ذين فرق كبير، فالإمام
البخاري وغيره من الأئمة يطلقون مثل هذه العبارة ولا يريدون نفي السماع، ومن سوى
بين (لا أعرف له سماعا) أو (لا يعرف له سماع) وبين (لم يسمع) أو (مرسل) فقد أبعد
النجعة!
وقول الحايك - متابعة لغيره- إن البخاري لين العبارة في
النقد فعبر بقوله هذا عن نفي السماع، فوهم عريض! فلو نظر في تواريخ البخاري بتان
لوجده أستعمل (لم يسمع) و(مرسل) أضعاف قوله (لا أعلم له سماعا) ونحوها! وعلى كل
حال: فالبخاري نفى علمه بسماع الزماني من أبي قتادة الأنصاري، وهو كلام صحيح دقيق،
فالزماني قليل الحديث عن الأنصاري ولم يصرح مرة واحدة بحدثنا أو سمعت ونحوها، فلم
يعرف له سماع صحيح" انتهى.
أقول:
أولاً: قوله "الإمام البخاري وغيره يطلقون مثل هذه
العبارة ولا يريدون نفي السماع" وإنما نفى معرفته بالسماع! قول باطل!
فإن لم يعرف البخاري السماع فمن يعرفه إذن؟!
وقد فصّلت في أصل البحث كيفية استخدام البخاري لهذه
الألفاظ في كتابه العظيم «التاريخ الكبير» ولكن المْحِمْدِي أعرض عنه! أو أنه لم
يفهمه!!
فالبخاري إذا ثبت عنده أن فلانا لم يسمع من فلان نص ّعلى
هذا، وأما إذا لم يكن للراوي إلا حديثاً واحداً وليس فيه سماع فإنه يقول: "لا
نعرف لفلان سماعا من فلان" أو "لا يعرف له سماعاً من فلان"، فلا يوجد له غيره لمعرفة السماع، فالمؤدى واحد
عنده وهو نفي السماع لكن بعبارة أخرى ليفرّق بينهما.
وهي تماما مثل قوله: "لم يسمع" و"مرسل"!
ولم نبعد النجعة كما قال (النعجة)!
فإذا كان الراوي ليس له إلا هذا الحديث فكيف نثبت السماع؟!
ثانياً: قوله إني تبعت غيري في أن البخاري لين العبارة في النقد
فعبر بقوله هذا عن نفي السماع، وأن هذا وهم عظيم! هذا يشتمل على أمرين:
الأول: ذهب أهل العلم إلى أن البخاري ليس بشديد العبارة في
النقد، كقوله مثلاً: "سكتوا عنه"، أو "فيه نظر" ونحو ذلك.
وقلت في مسألة نفيه للسماعات: أن ورعه معروف في عبارته، فلم يقل: "فلان لم
يسمع من فلان"، وإنما تورع وقال: "لا أعلم - أو لا نعرف - لفلان سماعا
من فلان".
فإذا كان قصد المْحِمْدِي أني تبعت غيري في هذا فهو صحيح في
اتباعي لهم في قوله في الرجال، ولم أجد لهم كلاما حول عبارات مسألة السماعات، لكني
وجدته يتورع فيها كورعه في حكمه على الرجال.
والظاهر أن هذا الرجل لا يفرق بين الكلام في الرجال، والكلام في
السماعات.
الثاني: رده للأمور دون دليل! فقوله "وأن هذا وهم
عظيم"! ما هو هذا الوهم العظيم؟ وما دليلك على أنه كذلك؟
هل لين عبارة البخاري في النقد هي الوهم العظيم؟ وكيف تحصل
عنده ذلك؟ ما أدلتك على هذا الوهم؟!!
ثالثاً: قوله: "فلو نظر في تواريخ البخاري بتأن لوجده
استعمل (لم يسمع) و(مرسل) أضعاف قوله (لا أعلم له سماعا) ونحوها!" قول صحيح!
فكان ماذا؟
وإنما كان استعماله للفظ (لم يسمع) و(مرسل) أضعاف (لا أعلم
له سماعا) لأن ما ثبت عنده نفي السماع أو الإرسال أكثر مما لم يعلم هو سماع بعض
الرواة من شيوخهم، وقد بينت أن هذا يستخدمه البخاري فيمن له حديث واحد فقط، فمن
الطبيعي أن يكون ذلك أقل مما ثبت عنده نفي السماع.
واعلم أيها القارئ أن هذا الكلام وعموم الفكرة سرقها المْحِمْدِي
- كما سرق غيرها - من الشيخ خالد الردادي في ردّه على البحريني، وكنت نقلت ذلك في
بحثي ونقدته.
قال الشيح الردادي في ردّه على البحريني في (دعوى عدم
سماع عبدالله بن معبد من أبي قتادة، فالإسناد منقطع): "وكلام البخاريّ - رحمه
الله- يُجاب عنه بما يأتي: أ- قوله: (لا نعرف سماعه من أبي قتادة)
يعني به: أنه لم يقف على التصريح بالسماع لا أنه حكم على عدم السماع، وإلا
لقال: (لم يسمع منه)، أو قال: (مرسل) كما هي عادته - رحمه الله- وما
أكثر قوله في التاريخ: (فلان لا أعرف له سماعاً من فلان)، فتأمل هذه العبارة،
وكونه لم يقل: (لم يسمع)، ثم تأمل فائدة هذه العبارة وتكرار البخاري لها،
فإنه ولا شك يرتب عليها حكماً، وهو التوقف في مثل هذا الخبر المعنعن، وليست هذه
العبارة منه إخباراً محضاً".
وكلام المْحِمْدِي:
"فلو نظر في تواريخ البخاري
بتأن لوجده استعمل (لم يسمع) و(مرسل) أضعاف قوله (لا أعلم له سماعا) ونحوها!"
وتفريق الردادي بين مقصود عبارات البخاري لا يتجه؛
لأن هذه العبارات ينوّع فيها البخاري، ومقصوده منها كلّها واحد في النتيجة. فقوله:
"لم يسمع منه" أو "مرسل" يدلّ على نفيه للسماع، والعبارات
الأخرى لا تخرج عن هذا المعنى مثل: "فلان لا أعرف له سماعاً من فلان"،
أو "لا يدرى سمع منه أم لا"، فهي ليست توقف كما ذهب الردادي بل هو حكم
منه، وورع البخاري معروف في عبارته، وحاصل ذلك أنه لم يجد من قبله من الأئمة صرّح
بأنه لم يسمع من فلان أو أنه مرسل، ففي هذه الحالة يقول هذه العبارات، ومؤدّاها
واحد، وهو نفي اللقاء، أي لم يسمع.
ثم تابع المْحِمْدِي قوله (ص 14-15): "وعلى كل حال:
فالبخاري نفى علمه بسماع الزماني من أبي قتادة الأنصاري، وهو كلام صحيح دقيق،
فالزماني قليل الحديث عن الأنصاري ولم يصرح مرة واحدة بحدثنا أو سمعت ونحوها، فلم
يعرف له سماع صحيح، كما وقع في رواية ابن أبي قتادة الأنصاري فإنه قال: حدثني أبي
وسمعت أبي، أو في رواية تلميذه عمرو بن سليم الزرقي فقد صرّح بسماعه فقال: سمعت
أبا قتادة الأنصاري، وهكذا.
أما الزماني فلم يؤثر عنه مثل ذلك، ولذا نفى البخاري علمه
بسماعه من أبي قتادة، فالبخاري لا ينفي روايته عنه، فأهل العلم احتملوا روايته على
الاتصال، قال ابن أبي حاتم: "روى عن عمر وأبي قتادة وأبي هريرة وعبدالله بن
عتبة. روى عنه قتادة وغيلان بن جرير وحجاج بن عتاب وثابت. سمعت أبي يقول ذلك.
قال عبدالرحمن: سئل أبو زرعة عن عبدالله بن معبد فقال: لم يدرك
عمر".
فتأمل في هذا! فأبو حاتم، أبو زرعة يثبتان روايته عن أبي قتادة،
ولو فهم ابن أبي حاتم أّنه لم يسمع مطلقا لأورده في المراسيل، فإنه يورد فيه بأقل
من ذلك" انتهى.
قلت:
أولاً: رجع يدندن حول نفي البخاري علمه بالسماع!
حسناً، البخاري نفى علمه، فمن عنده العلم بذلك؟!
ثم انظر إلى كلامه المتهافت: "فالزماني قليل الحديث عن الأنصاري
ولم يصرح مرة واحدة بحدثنا أو سمعت ونحوها، فلم يعرف له سماع صحيح"!!
هو ليس له إلا هذا الحديث الواحد عن أبي قتادة! فهذا لا يعبر
عنه بأن حديثه قليل عنه! وكيف يقول: "ولم يصرح مرة واحدة بحدثنا أو
سمعت"!! وليس له إلا هذا الحديث!!
والأعجب أنه قارن ذلك بابن أبي قتادة وذكره للسماع من أبيه!
وهذا قياس مع الفارق، فابن أبي قتادة وغيره سمعوا أبا قتادة ولا شك في سماعهم منه،
وأحاديثهم عنه كثيرة.
ثانياً: قوله: "البخاري لا ينفي روايته عنه، وأهل العلم
احتملوا روايته على الاتصال"! قول لا معنى له!
نعم البخاري يرى أنه روى عنه، لكنه لا يثبت سماعه منه، والمعوّل
عنده على ثبوت السماع، وكل حديث في إسناده أن رجلا روى عن آخر فإنه يذكره في
كتابه.
وقوله بأن أهل العلم احتملوا حديثه على الاتصال فهذا عنده لأن
فكرته الشاذة في أن نفي السماع لا يعني عدم الاتصال!! وسيأتي الكلام على هذه
المسألة.
ثالثاً: كلام أبي حاتم أنه روى عن عمر وأبي قتادة وأبي هريرة...
إلخ، هذا أيضاً بحسب ما جاء في الأسانيد، ولا يعني بحال إثبات الاتصال كما يوهم
كلام المْحِمْدِي!
رابعاً: قوله إن أبا زرعة أثبت رواية الزماني عن أبي قتادة وهم
منه! وابن أبي حاتم نقل ذلك عن أبيه، وأما أبو زرعة فقال إنه لم يدرك عمر.
خامساً: قوله: "ولو فهم ابن أبي حاتم أّنه لم يسمع مطلقا لأورده
في المراسيل" فليس بلازم!
وابن أبي حاتم يورد كلام أبيه في التراجم، فإذا صرح أبوه بأن
فلانا لم يسمع من فلان أورده في «المراسيل»، وهنا لا يوجد أي تصريح لا منه ولا من أبي زرعة!
ولو ألزمناه بذلك لأورد تراجم كثيرة في كتابه ليست على شرطه!!
ثم هو أحياناً يغفل عن ذكر كل من صرح أبوه أو أبو زرعه بأن
فلانا لم يدرك فلانا، ولم يستوعب كل ذلك في كتابه، فمثلا ذكر في «الجرح والتعديل» (9/395): "أبو صفوان: روى عن ابن مسعود،
مرسل، روى عنه أشعث بن سوار سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هو مجهول لم يدرك ابن مسعود".
فهذا على شرط كتاب «المراسيل»، ولم يورده فيه.
وكذا قول أبي زرعة بأن الزماني لم يدرك عمر لم يذكره في «مراسيله».
ولهذا قال أبو زرعة العراقي في «تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل» (ص: 187): "عبدالله بن معبد الزماني: يروي
عَن أبي قَتَادَة، رِوَايَته عَنهُ فِي صَحِيح مُسلم. وقَالَ البُخَارِيّ لا يعرف
لَهُ سَماع مِنْهُ، وَعَن عمر بن الخطاب، وقَالَ أَبُو زرْعَة: لم يدْرك عمر".
11- اختراع مصطلح "السماع المجازي"!!
قال المْحِمْدِي (ص 15-16): "فالسماع عند أهل العلم
النقاد على ضربين: سماع صحيح، وسماع مجاز، وكلاهما محمول على الاتصال، نعم الأول
أقوى من الثاني اتفاقا، لكن المجاز إن احتفت به القرائن حمل على الاتصال، فقد يثبت
اللقاء بين الراوي وشيخه، لكن لا يثبت أهل العلم له السماع الصحيح الصريح يعني (المسند)،
لقرينة ما، وقد يثبت النسب والمعايشة بينهما، كأن يكون من أهل بيته لكن لا يثبتون
له السماع الصحيح، لقرينة يقف عليها الناقد الفذ!
ومع نفي السماع الصحيح فقد يحمل على المجاز، ويعامل معاملة
المتصل، وهذا مما يخّلط فيه كثيرمن طلاب العلم اليوم والباحثين، فلا يفرقون بين
السماع والاتصال، إذ قد لا يثبت سماع الراوي من شيخه بإجماع لكن الاتصال متحقق! فنفي
الناقد للسماع لا يلزم منه نفي الاتصال، فقد يثبت الاتصال بطرق التحمل المشهورة
كالمناولة أو الإجازة أو الوجادة أو ربما بقرينة اختصاص الراوي بالشيخ كأن يكون ولده،
أو يكون الراوي تابعيا كبيرا (قديما) وغيرها من القرائن التي ذكرها أهل العلم في
كتبهم. وهذا ما يسميه أهل العلم (المجاز) يعني السماع على المجاز، لا على الحقيقة،
وكتب أهل العلم تطفح بالأمثلة على ذلك، ولا يظن ظان أن هذا مذهب مسلم في اشتراط
المعاصرة وإمكانية السماع، بل هذا هو مذهب جميع الأئمة بلا استثناء، كأحمد
والبخاري، والرازيين، والترمذي، وابن خزيمة، وغيرهم.
وقد أخرج البخاري في صحيحه أحاديث لم يثبت فيها سماع أصلا
كرواية إبراهيم النخعي عن أبي سعيد الخدري، ورواية قيس بن أبي حازم عن بلال بن
رباح رضي الله عنهما، بل وروايات مرسلة لا شك فيها كرواية عروة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، ومسلم زاد عليه بأكثر من ذلك، وحملوها على الاتصال، لقرينة من القرائن،
وكم حديثا [*] انتقده الدارقطني في التتبع بأنه لم يسمع ثم يفسر ذلك بأنه مكاتبة
أو وجادة" انتهى كلامه.
[*يراجع كلام المحمدي الأصل، فإن كانت بالنصب فهذا من جهله
بالنحو فـ(كم) التعجبية يكون الاسم بعدها مجروراً! والاستفهامية منصوبا!].
أقول:
أولاً: هذا من غرائب المْحِمْدِي! وهو: اختراعه مصطلح "السماع
المجازي"، فنحن نعرف مسألة المعاصرة واشتراط اللقي وكلام أهل العلم فيها
الطويل أخذا وردا وما كتبه المعاصرون فيها كثيرا، لكن لم أجد من أهل العلم من
اخترع هذا المصطلح الجديد حتى أتى به رجل يزعم أنه يسير على منهج الأئمة النقاد
الأوائل..!!
نعم قد يقول قائل لا مشاحة في الاصطلاح، لكن حين تصدر من
متأهل لها ويكون الأمر واقعا، فلا يوجد شيء اسمه السماع المجازي، وما قبول من قبل
روايات المتعاصرين إلا لغلبة الظن المأمور بالعمل بها في الشريعة، ولو قامت عند
أحدهم قرينة معتبرة على انتفاء هذا السماع لم يكن ليقبل الحديث، وهم أئمة الورع
والتقوى والدين.
والسماع والرواية أمر محسوس فلا أدري كيف تخيل عقله وجوده
مجازا..!! وهل على هذه الحال يمكن أن نثبت لكل التابعين المخضرمين صحبة مجازية
للنبيّ صلى الله عليه وسلم!! فإنا لله وإنا إليه راجعون !!
ثانياً: السماع المجازي الذي اخترعه وادعاؤه أنه يحمل على
الاتصال إن احتفت به القرائن كلام فارغ لا حقيقة له في الواقع!!
ليأتنا بأمثلة على ذلك!! لو كان عنده أمثلة غير هذا
التنظير الشاذ لأتى به! ولهذا تجده أحياناً يقول: وكتب أهل العلم طافحة بذلك!! فإذ
كانت طافحة فمثل لنا بما تُنظِّر له أيها العبقري!
ثالثاً: مسألة الفرق بين السماع والاتصال سيأتي الكلام
عليها بتفصيل لاحقاً إن شاء الله.
رابعاً: قوله "إن نفي الناقد للسماع لا يلزم منه نفي
الاتصال"! كلام ليس بصحيح! فنفي السماع نفي للاتصال، فالاتصال يستلزم السماع.
خامساً: قوله إن الاتصال يثبت بطرق التحمل المشهور
كالوجادة والكتابة والإجازة ونحوها فهذا خارج محل النزاع، فلا أحد ينازع في ذلك،
فهي طرق تحمل مقبولة.
وهذه الطرق مثل السماع لا أن نفي السماع عند النقاد لا
يلزم منه نفي الاتصال!
واختصاص الراوي بالشيخ كأن يكون ولده فهذا يثبت السماع لا
الاتصال فقط. فكيف يكن مختصاً ولا يسمع؟!
وأما إذا كان الراوي تابعيا كبيرا قديما فنعم تتحقق
المعاصرة، لكن لا يثبت السماع إلا بتصريح أو قرينة، وهذا هو محل النزاع!
فالمْحِمْدِي يحمله على الاتصال لأن الاتصال عنده أوسع من
السماع! وهذا لا يستقيم! فحتى لو كان التابعي من القدماء فإذا لم يصرح بالسماع
فحديثه منقطع، ولا يكون متصلا كما يهذي المْحِمْدِي! وإنما قد يقبله العلماء
لقرينة ما كأن يأخذ العلم عن آل بيت الرجل وهو يعيش عندهم ثم يحدث عنه ونحو ذلك.
وهذا الاختراع الذي أتى به المْحِمْدِي فهمه من كلام لأبي
حاتم!
قال في (ص17): "ولذا فالخطأ الشنيع أن يأتيك باحث (متهور)!
فيأخذ عبارة من كتاب المراسيل لابن أبي حاتم - مثلا- ويعّل بها الروايات الثابتة،
وهو لم يفهم عبارات الأئمة، ولم يتعلم إلا النتف.
فالأئمة قد ينفون السماع الصحيح ويثبتون الاتصال (على
المجاز)، قال ابن أبي حاتم: "سئل أبي: هل سمع زرارة من عبدالله بن سالم؟.
قال: ما أراه، لكن يدخل في المسند".
وقال أيضا: "سمعت أبي يقول: سعيد بن المسيب عن عمر
مرسل، يدخل في المسند على المجاز".
وقال عبد الرحمن: "سمعت أبي، وقيل له: يصح لسعيد سماع
من عمر؟ قال: لا إلا رؤية على المنبر، ينعي النعمان بن مقرن".
فأبو حاتم ينفي السماع الصحيح الذي هو سماع الحديث المسند،
لكنه يحتمله متصلا على المجاز، لاختصاص سعيد بن المسيب بعمر رضي الله عنه، حتى سمي
فقيه عمر".
قلت:
من هنا أتى المْحِمْدِي (المتهور) بمسألة السماع المجازي!!
أساء فهم كلام أبي حاتم "يدخل في المسند على المجاز" مع نفيه السماع!
فاخترع لنا "السماع على المجاز" وأنه يثبت الاتصال على المجاز!!
فكيف يستقيم نفي أبي حاتم لسماع الراوي، وقوله: يدخل في
المسند على المجاز؟!
فقول أبي حاتم: "يدخل في المسند على المجاز"
يعني أن حديثه مرسل، لكنه يُخرَّج في المسند لقربه منه، ولهذا نجد بعض الأحاديث
المرسلة في مسند أحمد؛ لأنها تشبه المسند، فيخرجها ولا يتركها.
ولهذا يُعاب على أصحاب المسانيد عدم تخريج حديث سعيد بن
المسيّب عن عمر، وكان رحمه الله إماما يرسل إليه ابن عمر فيسأله: كيف قضى عمر في
هذا؟ مع أنه لم يسمع منه. فهذه هي القرينة التي قبل بها أهل العلم حديث سعيد بن
المسيب عن عمر وإن كان لم يسمع منه، ولأن ذاك الزمن لم يكن فيه كذب كما كان بعد،
ولم يكونوا يأخذون الحديث عن السفهاء، على أنه قد توجد بعض المراسيل التي تُستنكر
لسعيد بن المسيب.
فالسماع منفي، والاتصال غير متحقق، وهو مرسل، لكن هذا
المرسل قد يقبل بشروط أو بقرائن، وهذه مسألة أخرى، ومسألة قبول المرسل وحجيته
بابها أليق بعلم الأصول منه بعلم الحديث.
فقول أبي حاتم بإدخال الراوي في المسند على المجاز هو نفي
للسماع ابتداءً، فهو مرسل، ولهذا يورده ابنه في «المراسيل».
قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (370): سَأَلْتُ أَبِي
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عُكَيْمٍ، قُلْتُ: إِنَّهُ يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ
إِلَيْهِ»؟
فَقَالَ: "لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ مِنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا كُتِبَ إِلَيْهِ".
قُلْتُ: أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ أَدْخَلَهُ فِي مُسْنَدِهِ!
قَالَ: "مَنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ فِي مَسْنَدِهِ عَلَى المَجَازِ".
فهل قصد هنا بهذا أن الاتصال قد تحقق بقرينة أخرى كما يزعم
ذاك (المتهور)!!
وقال ابن أبي حاتم أيضاً في «المراسيل»: سَمِعْتُ أَبِي
يَقُولُ: "شَرِيكُ بْنُ حَنْبَلٍ العَبْسِيُّ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَهُوَ مُرْسَلٌ، لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يُدْخِلُهُ فِي المُسْنَدِ".
قلت: يدخلونه في المسند لقربه منه لا أنه حقيقة مسند.
وقال أيضاً (374): سَأَلْتُ أَبِي عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ
رَبِيعَةَ الَّذِي يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُؤَذِّنُ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا قَالَهُ.
قُلْتُ لِأَبي: فَلَهُ صُحْبَةٌ؟
قَالَ "إِنْ كَانَ السَّلْمِيُّ فَهُوَ مِنَ
التَّابِعِينَ، وَإِنْ َكانَ غَيْرُهُ ثَمَّ رَوَى عَنْهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْمُسْنَدِ".
قال: وقَالَ أَبِي فِي مَوْضِعٍ آخَرِ: "عَبْدُاللَّه
ِبْنُ رَبِيعَةَ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهُوَ
مِنْ أَصْحَابِ ابنِ مَسْعُودٍ".
وقال أيضا: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "عبيدالله بنُ
مِحْصَنٍ يَدْخُلُ فِي المُسْنَدِ، وَلَا نَدْرِي لَهُ صُحْبَةٌ أَمْ لَا؛
لِأَنَّهُ شَيْخٌ مَجْهُولٌ، الَّذِي يروي عَن أبي سعيد".
فهل يحكم عليه بالجهالة ويكون متصلا؟!! وإنما يدخل في
المسند لأنه قد يكون صحابياً، فهو يقرب منه بهذا الاعتبار.
وقال أيضاً (247): ذَكَرَهُ أبي عَن إِسْحَاق بْنُ
مَنْصُورٍ قَالَ: قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: يَصِحُّ لِسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ سَمَاعٌ مِنْ عُمَرَ؟ قَالَ: "لَا"، قُلْتُ لِيَحْيَى:
يَصِحُّ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ سَمَاعٌ مِنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى؟ قَالَ: "لَا".
قال: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلٌ يَدْخُلُ فِي الْمُسْنَدِ عَلَى الْمَجَازِ".
قال: قرىء عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْدُّورِيِّ
قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: "سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
قَدْ رَأَى عُمَرَ، وَكَانَ صَغِيرًا". قُلْتُ لِيَحْيَى: هُوَ يَقُولُ
وُلِدْتُ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ؟ قَالَ يَحْيَى: "ابْنُ
ثَمَانِ سِنِينَ يَحْفَظُ شَيْئًا"، قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَومٌ يَقُولُونَ
أَنَّهُ أَصْلَحُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَمْ يَثْبُتُ
لَهُ السَّمَاعُ مِنْ عُمَرَ".
ولا أدري لم أتى بقول ابن أبي حاتم هنا: سَمِعْتُ أَبِي - وَقِيلَ
لَهُ يَصِحُّ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ سَمَاعٌ مِنْ عُمَرَ-: قَالَ: "لَا،
إِلَّا رُؤْيَتُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَنْعِي النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرَّنٍ".
فها هو ينفي سماعه من عمر، وله رؤية فقط وهو صغير رآه على
المنبر ينعى النعمان بن مقرن، فهذا ليس بسماع، ولا علاقة له بالاتصال. وإنما قد
يصححون حديثه عنه كما أشرنا سابقا لقرينة.
فالسماع شيء، والرؤية شيء آخر.
وهذه الأمثلة نادرة ولا تُعمم، وإن كنا نوافق الأئمة
النقاد على قبول بعض الروايات بالقرائن إلا أننا لا نسحب ذلك بهذه الفكرة الشاذة
التي أتى بهذا (المتهور) بقوله: ينفون السماع الصحيح، لكن يثبتون الاتصال! ففي بعض
الحالات مما يقبلونه كرواية سعيد بن المسيب عن عمر فهم لا يثبتون الاتصال بين عمر
وسعيد، لكنهم يقبلون روايته لوجود قرائن تدل على أنه حمل عمن حمل عن عمر أو ما
اشتهر عن عمر.
ونحن بفضل الله نسير على خطى هؤلاء الأئمة النقاد ونبحث عن
القرائن التي تحتف ببعض الروايات التي قد تكون معلولة في ظاهرة، إلا أن هناك ثمة
قرينة تتعلق بحال الرواية تدل على صحتها كأن يكون الحديث مما يتعلق بآل بيت الرجل.
قال الحافظ في «فتح الباري» (1/360): "قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ فِيمَا نقلت من خطه من جُزْء مُفْرد وَلَيْسَ هُوَ فِي كتاب
التتبع: أخرج البُخَارِيّ عَن التنيسِي، عَن اللَّيْث، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بن الزبير: أَن رجلا خَاصم الزبير فِي شراج الحرَّة،
الحَدِيث بِطُولِهِ.
وهُوَ إِسْنَاد مُتَّصِل لم يصله هَكَذَا غير اللَّيْث.
وَرَوَاهُ غير اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ، فَلم يذكرُوا
فِيهِ «عبدالله بن الزبير».
وأخرج البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث معمر، ومن حَدِيث ابن
جريج، ومن حَدِيث شُعَيْب كلهم عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، وَلم يذكرُوا فِي
حَدِيثهمْ «عبدالله بن الزبير» كَمَا ذكره اللَّيْث انْتهى.
وإِنَّمَا أخرجه البُخَارِيّ بِالوَجْهَيْنِ على
الِاحْتِمَال؛ لِأَن عُرْوَة صَحَّ سَمَاعه من أَبِيه، فَيجوز أَن يكون سَمعه من
أَبِيه وثبته فِيهِ أَخُوهُ، والحَدِيث مُشْتَمل على أَمر مُتَعَلق بالزبير
فدواعي أَوْلَاده متوفرة على ضَبطه فاعتمد تَصْحِيحه لهَذِهِ القَرِينَة القوية".
وعليه فلا داعي لذكر هذه الأمثلة في مسألتنا هذه وهي رواية
الزماني عن أبي قتادة الأنصاري.
وبعد هذا كلّه: هل هناك "سماع مجازي" كما اخترع
(المتهور)!!
وهل يصح نعت (المتهور) بمن يُعل الأحاديث (الثابتة!) بما
ذكره ابن أبي حاتم في «المراسيل» بأنه متهور! بحجة أنه لم يفهم كلام الأئمة!!
قلت: الأصل الإعلال بأقوال أهل العلم هذه، لكن هو يقول: "يعل
الأحاديث الثابتة"! فهل هناك أحاديث ثابتة أعلها (متهور) بما في مراسيل ابن
أبي حاتم!
حبذا لو يذكر لنا أمثلة على ذلك!
سادساً: نسبته مذهب اشتراط المعاصرة وإمكانية السماع، لجميع
الأئمة بلا استثناء، كأحمد والبخاري، والرازيين، والترمذي، وابن خزيمة، وغيرهم!
كذب وافتراء عليهم!!
فأين الأدلة على ذلك؟! ولا زال أهل العلم يقررون الاختلاف
بين الشيخين في المذهب، فهذا يشترط ثبوت السماع، وذاك المعاصرة!
فكيف ينسب هذا المتهور اشتراط المعاصرة مع إمكانية السماع
لجميع الأئمة؟!!
وقد توهم في نسبة ذلك للأئمة ومنهم البخاري، لأن البخاري
أخرج في صحيحه أحاديث لم يثبت فيها السماع! وبعض الروايات المرسلة!
وعلى فرض ثبوت ذلك، فهل هذا الذي أخرجه البخاري بندرة لسبب
ما يقضي على أصله بحيث ننسفه؟!!
هذا المتهور لا يفرق بين الأصل، والعدول عن ذلك لسبب ما!
أو لأنه لم يتحقق من الروايات!
فرواية إبراهيم النخعي عن أبي سعيد الخدري:
أخرج البخاري في «الصحيح» قال: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ
حَفْصٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قال: حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ، والضَّحَّاكُ المَشْرِقِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي
لَيْلَةٍ؟» فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ».
قَالَ الفِرَبْرِي: سمِعْتُ أَبَا جَعْفرٍ مُحَمَّدَ بنَ
أبي حاتِم ورَّاقَ أبي عبْدِالله يقُولُ: قَالَ أبُو عبْدِالله: "عنْ
إبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ. وعنِ الضَّحَّاكِ المِشْرَقِيِّ مُسْنَدٌ".
قال الحافظ في «الفتح» (9/60): "قَالَ الْفَرَبْرِيُّ:
سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقَ أَبِي عَبْدِاللَّهِ
يَقُولُ: قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ وَعَنِ
الضَّحَّاكِ الْمِشْرَقِيِّ مُسْنَدٌ. ثَبَتَ هَذَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ عَنْ
شُيُوخِهِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ رِوَايَةَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ مُنْقَطِعَةٌ، وَرِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عَنْهُ مُتَّصِلَةٌ. وَأَبُو
عَبْدِاللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ، وَكَأَنَّ
الْفَرَبْرِيَّ مَا سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ فَحَمَلَهُ عَنْ أَبِي
جَعْفَرٍ عَنْهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ كَانَ يُوَرِّقُ لِلْبُخَارِيِّ أَيْ يَنْسَخُ
لَهُ وَكَانَ مِنَ الْمُلَازِمِينَ لَهُ وَالْعَارِفِينَ بِهِ وَالْمُكْثِرِينَ
عَنْهُ".
قلت: فالبخاري يعلم أن النخغي لم يلق أحداً من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم على روايته عن أبي سعيد بالاتصال، بل حكم بأنها
مرسلة، ولهذا قرنها برواية المشرقي.
فالاحتجاج بهذا على ما يريده المْحِمْدِي لا يتجه، ويظهر
جهله ومستوى فهمه لكلام أهل العلم! فأين القرينة التي يزعم أن البخاري حمل الرواية
هنا على الاتصال؟!
وأما رواية قيس بن أبي حازم عن بلال بن رباح:
فأخرجها البخاري في «الصحيح» قال: حَدَّثَنَا ابْنُ
نُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ
قَيْسٍ، أَنَّ بِلاَلًا، قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا
اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ، فَأَمْسِكْنِي، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي
لِلَّهِ، فَدَعْنِي وَعَمَلَ اللَّهِ».
قلت: هذا ليس بمتصل، وهو مرسل.
قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (618): حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ:
"رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ بِلَالَ وَلَمْ يَلْقَهُ".
وهذا يصلح لأن يكون مثالاً على ما ذكره المْحِمْدِي من
التحذير من تعليل الأحاديث الثابتة من خلال ما هو موجود في «المراسيل»!
وهذا إنما بناه المْحِمْدِي على صحة الرواية عند البخاري!
فهو يرى أنها متصلة وإن نفي السماع!
لكن الصواب أنها مرسلة؛ لأن قيس بن أبي حازم لم يلق بلالا!
لكن البخاري خرّجها في مناقب بلال كون قيس ممن أدرك الجاهلية، وأن هذا القول معروف
عن بلال، وهو وإن لم يسمعه منه إلا أنه مشتهر، فيكون سمعه من بعضهم دون ذكره،
فأرسله. ومن أسباب تخريج البخاري له أيضاً أنه قول لبلال وليس مسنداً من أقوال
النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال ففرق بين إثبات الاتصال، وبين أن يخرّج
البخاري آحاد الأحاديث المرسلة لقرينة ما تدل على قبولها.
والحالة هذه فلا ننسب قولاً للبخاري بأنه يشترط المعاصرة
مع إمكانية السماع كما قال (المتهور)!
وأما رواية عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
فأخرجها البخاري في «صحيحه» (1/86) (384) قال: حَدَّثَنَا
عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ
عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُصَلِّي وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ عَلَى الفِرَاشِ
الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ».
قال ابن رجب في «فتح الباري» (3/29): "هذا مرسل من
هذا الوجه".
فهل يُعقل أن البخاري يخرجه وهو مرسل؟!
فالبخاري إنما خرجه لأنه مشهور عن عروة عن عائشة، وهو نفسه
روى أولاً قبل هذا الحديث، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قال: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
القِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ اعْتِرَاضَ الجَنَازَةِ».
فالبخاري إنما ذكره في المتابعات لأنه مشهور عن عروة.
قال ابن حجر في «هدى الساري» (ص371): "وَقد أخرج
البُخَارِيّ لعراك، عَن عُرْوَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَدِيثًا فِي صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَائِشَة مُعْتَرضَة،
ثمَّ أخرجه مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، فَلم يعد
حَدِيث عرَاك مُرْسلا لما قَرَّرْنَاهُ، ولِهَذَا لم يتعقبه الدَّارَقُطْنِيّ
فِيمَا تعقب، والله أعلم".
وقال أيضاً (ص375): "قالَ الدَّارَقُطْنِيّ أخرج
البُخَارِيّ حَدِيث يزِيد - هُوَ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ -، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ
عُرْوَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَة
إِلَى أبي بكر. قَالَ: وَهَذَا مُرْسل.
قلت هُوَ مَحْمُول عِنْد البُخَارِيّ على أَن عُرْوَة حمله
عَن عَائِشَة".
أقول: فإذا كان الراوي مشهوراً بالرواية عن آل بيته، أو هو
يعيش في بيت فيروي عنهم، فهذه قرينة لقبول روايته.
وقال الحافظ في «هدى الساري» (ص371): "قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: أخرج البُخَارِيّ عَن مُوسَى، عَن أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ
عَبْدِالمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مُوسَى ومعاذ بن جبل إِلَى
الْيمن، قَالَ: وَبعث كل وَاحِد مِنْهُمَا على مخلاف الحَدِيث. وَفِيه قصَّة قتل
الْمُرْتَد وقصة كَيفَ تقْرَأ الْقُرْآن، وقد خَالفه الْهَيْثَم بن جميل، فَرَوَاهُ
عَن أبي عوَانَة عَن عبدالْملك عَن أبي برده عَن أَبِيه.
قلت: هَذَا يُقَوي حَدِيث مُوسَى، وَذَلِكَ أَنَّ
الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طرق مِنْهَا عَن أبي بردة، عَن أبي
مُوسَى فاعتمد أَن أَبَا برده حمله عَن أَبِيه، وترجح ذَلِك عِنْده بقرينه كَونهَا
تخْتَص بِأَبِيهِ فدواعيه متوفرة على حملهَا عَنهُ كَمَا تقدّمت نَظَائِره فِي
حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَفِي حَدِيث نَافِع عَن ابن عمر فِي غير مَوضِع".
وقال أيضاً (ص368): "قالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَأخرج
البُخَارِيّ حَدِيث ابن جريج، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ:
أَنَّ عمر فرض للمهاجرين الْأَوَّلين أَرْبَعَة آلَاف. وَهَذَا مُرْسل - يَعْنِي
أَن نَافِعًا لم يدْرك عمر بن الْخطاب.
قلت: لَكِن فِي سِيَاق الْخَبَر مَا يدل على أَن نَافِعًا
حمله عَن عبدالله بن عمر فقد قدمنَا مرَارًا أَن البُخَارِيّ يعْتَمد مثل ذَلِك
إِذا ترجح بالقرائن أَن الرَّاوِي أَخذه عَن الشَّيْخ الْمَذْكُور فِي السِّيَاق
وَالله أعلم، وَقد أوردهُ أَبُو نعيم من طَرِيق أُخْرَى عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ
عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ بن عمر فَذكر نَحوه وَأتم مِنْهُ".
أقول: نعم، نافع لم يدرك عمر، لكنه مولى ابنه عبدالله، وهو
يعيش في بيتهم، فلا بد أنه أخذه من ابن عمر.
وقال الحافظ أيضاً (ص379): "قالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
أخرج البُخَارِيّ حَدِيث مَعمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابن المسيب، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ:
مَا اسْمك؟ قَالَ: حزن. وَأخرجه من حَدِيث هِشَام بن يُوسُف، عَن ابن جريج، عَن
عبدالحميد بن جُبَير، عَن سعيد بن المسيب: أَن جده حزنا. وهَذَا مُرْسل، وكَذَا قال
قَتَادَة، وعلي بن زيد، وابن سعيد بن المسيب.
قلت: هَذَا على مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا قبل أَن
البُخَارِيّ يعْتَمد هَذِه الصِّيغَة إِذا حفت بهَا قرينَة تَقْتَضِي الِاتِّصَال
وَلَا سِيمَا وَقد وَصله الزُّهْرِيّ صَرِيحًا فَأخْرج الوَجْهَيْنِ على
الِاحْتِمَال، وَالله أعلم".
أقول: قوله قرينة تقضي الاتصال = يعني قرينة إما تدل على
السماع أو ما يقوم مقامه.
وليس في كلّ ذلك تفرقة بين السماع والاتصال الذي ادّعاه
(المتهور)! فالأصل هو السماع، وما يقوم مقامه مما يجعل الحديث متصلاً كالكتابة،
والمناولة، والإجازة، وغير ذلك.
سادساً: قوله: "ومسلم زاد عليه بأكثر من ذلك، وحملوها
على الاتصال، لقرينة من القرائن، وكم حديثا انتقده الدارقطني في التتبع بأنه لم
يسمع ثم يفسر ذلك بأنه مكاتبة أو وجادة".
أقول: قد بينت أن ما ذكره من أمثلة عند البخاري مما ليس
فيه السماع وهو مرسل أنه لم يتحقق منها، أو أن البخاري أخرجها وهو يعرف أنها
مرسلة، لكن أخرجها لقرينة تقتضي صحته، وهي في أصلها تبقى مرسلة لعدم تحقق السماع.
وأما أن مسلما زاد على البخاري بأكثر من ذلك، فنعم، لكن لا
نعامل ما عند البخاري كما نعامل ما عند مسلم، لأن شرط كل واحد منهما يختلف عن
الآخر - وإن حاول المتهور جعلهما واحدا-!!
والأحاديث المرسلة عند مسلم أكثر مما عند البخاري.
وقوله إنهم حملوها على الاتصال لقرينة من القرائن فيه نوع
من الصحة، فهم قد قبلوا بعض الأحاديث لقرينة ما تدل على ثبوت الحديث.
وأما أن الدارقطني انتقد في التتبع بعض الأحاديث بأنه لم
يسمع ثم يفسر ذلك بأنه مكاتبة أو وجادة! فهذا ليس فيه دلالة على ما ذهب إليه هذا
(المتهور) من أن الاتصال أوسع من السماع!!
والدارقطني إنما أوردها في استدراكه لا من أجل الانتقاد
والرد، وإنما ليبين أن طرق التحمل هذه تساوي السماع، فإن لم يثبت السماع القائم
على اللقاء، فحينها يثبت السماع القائم عن طريق المناولة أو المكاتبة أو الإجازة.
وقد ذكر البخاري في كتابه: "بَاب مَا يُذْكَرُ فِي
المُنَاوَلَةِ، وكِتَابِ أَهْلِ العِلْمِ بِالعِلْمِ إِلَى البُلْدَانِ".
وهذا ما أراد الدارقطني بيانه من أن هذه الطرق تحلّ محل
السماع.
فالأمر على أنه سماع عند اللقاء، أو اتصال دون لقاء وإنما
بواسطة إحدى هذه الطرق.
قال الحافظ ابن حجر في «هدى الساري» (ص347): "ورُبمَا
علل بعض النقاد أَحَادِيث أدعى فِيهَا الِانْقِطَاع لكَونهَا غير مسموعة كَمَا فِي
الْأَحَادِيث المروية بالمكاتبة وَالْإِجَازَة، وهَذَا لَا يلْزم مِنْهُ
الِانْقِطَاع عِنْد من يسوغ الرِّوَايَة بِالْإِجَازَةِ بل فِي تَخْرِيج صَاحب
الصَّحِيح لمثل ذَلِك دَلِيل على صِحَة الرِّوَايَة بِالْإِجَازَةِ عِنْده".
قال الدارقطني في «التتبع» (ص291): "وأخرج البخاري من
حديث ابن عيينة عن عمرو عن بجالة. لم يسمع من عمر، وإنما يأخذ من كتابه وهو حجة في
قبول المكاتبة ورواية الإجازة".
وقال أيضاً (ص260): "اتفقَا على إِخْرَاج حَدِيث أبي
عُثْمَان قَالَ: كتب إِلَيْنَا عمر فِي الحَرِير إِلَّا مَوضِع إِصْبَع. وهَذَا لم
يسمعهُ أَبُو عُثْمَان من عمر، لكنه حجَّة فِي قبُول الْإِجَازَة".
وقال في (ص305) في حديث أورده في كتابه: "وهو صحيح
حجة في جواز الإجازة والمكاتبة، لأن أبا النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى وإنما رآه
في كتابه".
وقال الحافظ في «هدى الساري» (ص361): "قال
الدَّارَقُطْنِيّ: وَأَخْرَجَا جَمِيعًا حَدِيثَ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي
النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ
عَبْدُاللَّهِ بنُ أَبِي أَوْفَى فَقَرَأْتُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تمنوا لِقَاء الْعَدو وَإِذا لقيتموهم فَاصْبِرُوا
الحَدِيث.
قَالَ: وَأَبُو النَّضر لم يسمع من بن أبي أوفى وَإِنَّمَا
رَوَاهُ عَن كِتَابه فَهُوَ حجَّة فِي رِوَايَة الْمُكَاتبَة.
قلت: فلا عِلّة فِيهِ لكنه يَنْبَنِي عَن أَن شَرط
الْمُكَاتبَة هَل هُوَ من الْمكَاتب إِلَى الْمَكْتُوب إِلَيْهِ فَقَط أم كل من عرف
الْخط روى بِهِ وَإِن لم يكن مَقْصُودا بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ الأول هُوَ
الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم من المصطلح وَأما الثَّانِي فَهُوَ عِنْدهم من صور
الوجادة لَكِن يُمكن أَن يُقَال هُنَا أَن رِوَايَة أبي النَّضر هُنَا تكون عَن
مَوْلَاهُ عمر بن عبيد الله عَن كتاب بن أبي أوفى إِلَيْهِ وَيكون أَخذه لذَلِك
عَن مَوْلَاهُ عرضا لِأَنَّهُ قَرَأَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ كَاتبه فَتَصِير
وَالْحَالة هَذِه من الرِّوَايَة بالمكاتبة كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالله
أعلم".
وقال أيضاً (1/357): "قالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وأخرج
البُخَارِيّ حَدِيث الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه، عَن ثُمَامَة، عَن أنس، عَن أبي بكر
حَدِيث الصَّدقَات.
وهَذَا لم يسمعهُ ثُمَامَة من أنس، ولَا عبدالله بن
الْمثنى من ثُمَامَة.
قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: حَدثنِي عبدالصَّمد: حَدثنِي
عبدالله بن الْمثنى، قَالَ: دفع إِلَى ثُمَامَة هَذَا الْكتاب، قَالَ: وَحدثنَا
عَفَّان: حَدثنَا حَمَّاد، قَالَ: أخذت من ثُمَامَة كتابا عَن أنس نَحْو هَذَا،
وَكَذَا قَالَ حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب: أَعْطَانِي ثُمَامَة كتابا فَذكر هَذَا.
قلت لَيْسَ فِيمَا ذكر مَا يَقْتَضِي أَن ثُمَامَة لم
يسمعهُ من أنس كَمَا صدر بِهِ كَلَامه فإمَّا كَون عبدالله بن الْمثنى لم يسمعهُ
من ثُمَامَة فَلَا يدل على قدح فِي هَذَا الْإِسْنَاد بل فِيهِ دَلِيل على صِحَة
الرِّوَايَة بالمناولة إِن ثَبت أَنه لم يسمعهُ مَعَ أَن فِي سِيَاق البُخَارِيّ
عَن عبدالله بن الْمثنى: حَدثنِي ثُمَامَة: أَن أنسا حَدثهُ، وَلَيْسَ عبدالصَّمد
فَوق مُحَمَّد بن عبدالله الْأنْصَارِيّ فِي الثِّقَة وَلَا أعرف بِحَدِيث أَبِيه
مِنْهُ، وَالله أعلم".
فالبخاري - رحمه الله – قد ينفي السماع، لكن يثبت الاتصال
الذي يقوم مقام السماع بإحدى طرق التحمل المعروفة، لكن حديثنا هو عن نفي السماع
دون وجود ما يحلّ محل السماع المنفي كما يزعم هذا (المتعالم)!!
فقد نقل الترمذي عن البخاري في «العلل» (550) أن أبا بشر روى
عن سليمان بن قيس اليشكري وما له سماع منه.
لكنه يقول في «التاريخ الكبير» (4/31): "روى أبو بشر
عن كتاب سليمان".
فهنا يثبت الاتصال بأن روايته عنه من كتاب.
وكثيراً ما نجد في تراجم بعض أهل العلم: "فلان لم
يسمع من فلان شيئاً وإنما كتب إليه".
فيزيد بن أبي حبيب مثلاً لم يسمع من الزهري، وإنما كتب
إليه الزهري.
وها هو الترمذي ينقل عن البخاري في «العلل» أيضاً (367)
قال: "وبَشِيرُ بنُ نَهِيكٍ لَا أَرَى لَهُ سَمَاعًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ".
ثم يُتبع الترمذي ذلك بقوله: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ
غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي
مِجْلَزٍ، عَنْ بَشِيرِ بنِ نَهِيكٍ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ بِكِتَابٍ
وَقُلْتُ لَهُ: هَذَا حَدِيثٌ أَرْوِيهِ عَنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فأراد الترمذي بيان أن رواية بشير عن أبي هريرة إنما هي من
كتاب، ولهذا أثبت البخاري سماعه منه فيما بعد في «التاريخ الكبير» (2/105) فقال:
"بشير بْن نهيك أَبُو الشعثاء، سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ".
وأخرج حديثه عن أبي هريرة في «صحيحه»، وكذا الإمام مسلم.
قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص: 7): "بشير بن نهيك:
حكى الترمذي في «العلل» عن البخاري أنه قال بشير بن نهيك: لا أرى له سماعاً من أبي
هريرة، وقد احتج هو ومسلم في كتابيهما بروايته عن أبي هريرة، والجمع بين ذلك أنّ
وكيعاً روى عن عمران بن حدير عن أبي مجلز عن بشير بن نهيك قال: أتيت أبا هريرة
بكتاب، وقلت له: هذا حديث أرويه عنك؟ قال: نعم. والإجازة أحد أنواع التحمل فاحتج
به الشيخان لذلك، وما ذكره الترمذي ليس فيه إلا نفي السماع فلا تناقض".
ويتابع المْحِمْدِي الكلام فيقول (ص18-21): "ومن
ذلك صنيع الإمام ابن خزيمة إذ نص على عدم سماع الحسن البصري من ثوبان رضي الله عنه،
ففي حديث الحسن عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم)،
قال: "فكل ما لم أقل إلى آخر هذا الباب إن هذا صحيح، فليس من شرطنا في هذا
الكتاب، والحسن لم يسمع من ثوبان. قال أبو بكر: هذا الخبر خبر ثوبان عندي صحيح في
هذا الإسناد.
فنفي السماع لا يعني نفي الاتصال - مطلقا- وإنما لا بدّ من
مراعاة القرائن، ولو نظر بعض المتعالمين في كتب العلل بتأنٍ لوقفوا على عور منهجهم،
فمثلا أبو حاتم يقول: "أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه، ثم يأتي ويصححها في العلل! وينص على انها متصلة.
قال ابن أبي حاتم: "وسمعت أبي وذكر حديثا رواه ابن
إدريس وابن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن مجاهد، عن أبي عبيدة بن عبد الله
بن مسعود، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا رأى حية في مسجد منى،
فدخل جحره، فقال: دعوها، فقد وقاكم الله شرها... الحديث. ورواه زهير، عن أبي الزبير،
عن أبي الحجاج مجاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبي: جميعا صحيحين، ذاك ((وصله))، وهذا لم يوصله".
وقد سار المزي على هذه الطريقة فمن قال فيه (روى عن) جازما
بلا تقييد فإنما أراد به تحقق الاتصال بأحد طرق الاتصال المعروفة، وان لم يثبت
السماع الصحيح، وقد بيناه بادلته في كتابنا (عبقرية المزي) فلينظر.
فلو ثبت أن الزماني لم يسمع المسند من قتادة فروايته تحمل
على الاتصال، للمعاصرة أولا، ولثبوت اللقاء كما جاء في بعض الطرق التي خطأها
الباحثان ببنيات ظنونهم!
ومن يدقق في عبارات البخاري يعرف أن نفيه علمه بالسماع لا
يريد منه نفي مطلق السماع، وإلا لما قال في غيره (لم يسمع) أو (مرسل). وان كان
السماع لم يقع للإلمام البخاري فربما وقع لغيره، ممن هم مثله، كأبي حاتم وأبي زرعة
وابن حبان وغيرهم على أنه روى عنه وكل ما قيل أنه لم يدرك عمر رضي الله عنهما.
ينفي البخاري علمه بسماعه من شيخه ويثبت عند غيره، وكذا العكس فالعبرة في كل هذا
بالرجوع إلى اقوال الأئمة النقاد لا بالتخيلات والظنون!
ومن زعم أن مثل هذا يحمل على الإرسال متعكزا بمذهب البخاري
في السماع فليجبنا عن تخريج البخاري في صحيحه لهؤلاء:
*إبراهيم النخعي عن أبي سعيد الخدري.
*رواية عبد الله بن أبي أوفى عن سالم أبي النضر.
*رواية بجالة عن عمر بن الخطاب.
بل وحديث عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ هكذا مرسل؟
فهل سيأتينا متعالم ليعل هذه الأحاديث التي في صحيح
البخاري، بفهم سقيم أو بقاعدة صماء!؟
وهل يعلم هؤلاء أن مراسيل كبار الصحابة ممن لقي الصحابة
واختلطت أنفاسه بأنفاس أبي بكر وعمر وعرف بالتقوى والورع والعلم أنه قد يحتمل منه
المرسل؟! وهذا الذي نص عليه الأئمة الشافعي وأحمد والدارقطني وهو صنيع الشيخين؟
وأمثلته كثيرة جدا، كرواية سعيد ابن المسيب وقيس بن أبي حازم وعروة وأضرابهم!
قال الحافظ العلائي بعد مناقشة نفيسة في مطلع كتابه
المراسيل: "وأما القول المختار: وهو أن من عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن
عدل موثوق به مشهور بذلك فمرسله مقبول، ومن لم يكن عادته ذلك فلا يقبل مرسله، وهذا
القول والذي قبله أعدل المذاهب، وبه يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة من الطرفين،
فإن قبول الصدر الأول لكثير من المراسيل لا يمكن إنكاره، وقد صدر من جماعة منهم
كثيرين رد لكثير من المراسيل أيضا فيحمل قبولهم عند الثقة بمن أرسل منهم أنه لا
يرسل إلا عن عدل موثوق به وردهم عند عدم ذلك".
طبعا هذه كلها ليست قواعد صماء وإنما هي خاضعة للقرائن،
التي يفهمها أصحابها والعمدة فيها لعمل أولئك الأئمة النقاد، ويرد كل قول الى
قولهم فهم (أصحاب النجم الوهاج وبهم يكشف الغطاء) لا بما يتفيقه به علينا بعض
الناس!" انتهى كلامه.
أقول:
أولاً: سنعرض عن تعريض (المتهور) وقلة أدبه، وسوء أخلاقه!!
وكل ما قاله هو أولى به لغبائه، وقلة استيعابه، وخلطه بين المفاهيم، (كالسيارة
التي تخلط الزيت والماء)!
ثانياً: المثال الذي أتى به من عند ابن خزيمة لإثبات أنهم
ينفون السماع ولا ينفون الاتصال مثال لم يفهمه هذا (الجاهل)!
فمفهوم كلام ابن خزيمة أن رواية الحسن عن ثوبان هذه ليست
على شرطه، وإنما أوردها في الباب وبين انقطاعها، وتصحيحه للحديث لأنه ساقه متصلا
من طريق آخر قبل تنبيهه على رواية الحسن عن ثوبان المرسلة. وسيأتي مزيد تفصيل لهذا
لاحقاً إن شاء الله.
ثالثاً: لا يزال هذا (المتعالم) يدندن حول "مسألة نفي
السماع لا يعني نفي الاتصال"، ويراعى في ذلك القرائن!
ويكأن هذا (المتعالم) يظن نفسه (أبا القرائن)!! وأتمنى أن
أجد له تعليلات أو تصحيحات من نفسه هو استخدم فيها القرائن! فقد اطلعت على بعض
كتبه وبحوثه، وبالكاد تجد فيها فائدة!
والمصيبة أنه يجعل مقابل نفي السماع إثبات الاتصال
بالقرائن!! وهذا عدم فهم منه لكلام الأئمة النقاد!
فنفي السماع يقابله نفي الاتصال بلا شك، والاتصال يتحقق
بالسماع وبطرق التحمل الأخرى كالكتابة والمناولة والإجازة ونحوها.
وأما مسألة القرائن فهي لا تعني الاتصال بين الراوي ومن
يروي عنه، وإنما تنفع في قبول أهل العلم للحديث بحسب قوة القرينة.
فالحديث إذا قالوا إنه مرسل، فهو ليس بمتصل قطعاً بين
الراوي ومن روى عنه، ولا يحصل الاتصال بينهما، والقرينة كاختصاص الراوي بآل بيت من
يرو عنهم كنافع عن آل عمر تجعل النقاد يقبلون حديثه عن عمر مثلا؛ لأنه يعيش في بيت
آل عمر ويسمع منهم كعبدالله بن عمر وغيره، فاحتمال أن يكون أخذه منهم قوي،
فيقبلونه.
على أنه قد يتشدد بعض النقاد ولا يقبله مع وجود هذه
القرينة؛ لأنها لا تمنع أن يكون سمع هذا الحديث أيضاً من آل بيت الرجل مثلا.
رابعاً: تعريضه ببعض المتعالمين أنهم لو نظروا في كتب
العلل بتأن لتبين لهم عور منهجهم مستدلا بما ذكره من مثال عن أبي حاتم يدلّ على
أنه هو المتعالم العيي!!
والمشكلة في هذا (المتعالم) أنه يأتي ببعض الأمثلة التي
تخضع لأمور خاصة، ويحاول تعميمها!!
ثم المثال الذي ذكره هنا هو لم يفهمه! فكيف يحتج به؟!!
فإذا كان أبو حاتم قد صرّح بنفي سماع أبي عبيدة بن عبدالله
بن مسعود من أبيه، وصحح ذلك في العلل، فهذا يعني أن أبا حاتم متناقض؟!
وسيرد علينا (المتعالم) بأنكم لم تفهموا كلام الأئمة
النقاد = يعني هو وحده من يفهمهم!
وسيقول: ألم نقل لكم، إنه منهجكم الأعوج!!
هذا واضح في تصرف أبي حاتم، نفى السماع في كتاب، وصحح
حديثه في كتاب، وهذا يعني أنه أعمل القرائن!
نقول: نعم، الأمر واضح ظاهرياً، لكن ما هي القرائن التي من
أجلها صحح أبو حاتم حديثه في العلل؟!
سيقول: كذا وكذا.. وربما لا يستطيع الجواب! فقط نعتذر له
بأنه صححه للقرائن!
نقول: طيب، هلا بيّنت لنا كيف فهمت أن أبا حاتم صححه؟!
سيقول: ... (ربما يأتينا بأي جواب..)!
أقول: أيها المسكين، أنت لا تعرف حقيقة مقاصد أبي حاتم في
كلامه، ولا تعليلاته!
فافتح عينيك وَعِ بقلبك ما سأقوله لك:
قال ابن أبي حاتم: سمعتُ أَبِي وذكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ
ابنُ إِدْرِيسَ، وَابْنُ وَهْب، عَنِ ابْنِ جُرَيج، عَنْ أَبِي الزُّبَير، عَنْ
مجاهد، عن أبي عُبَيدة بن عبدالله بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النبيِّ صلى
الله عليه وسلم: أنَّ رَجُلا رَأَى حَيَّةً فِي مَسْجِدِ مِنًى، فدَخَلَ جُحْرَهُ،
فَقَالَ: دَعُوهَا، فَقَدْ وَقَاكُمُ اللهُ شَرَّهَا... الحديثَ.
وَرَوَاهُ زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَير، عَنْ أَبِي
الحَجَّاج مجاهدٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم..
قَالَ أَبِي: "جَمِيعًا صَحِيحَينِ، ذاك وَصَّلَهُ، وهَذَا
لم يوصِّله".
فهل فهمت من قول أبي حاتم: "جميعا صحيحين" أنه
صححه؟!
إن كان كذلك، فهو صحح الآخر وهو مرسل! فهل أبو حاتم يصحح
المرسل؟
أم أن لأبي حاتم مقصودا آخر؟!
أقول: نعم، هو لم يتعرض لتصحيح الحديث ألبتة! وإنما هو عرض
لإسنادين: ابن جريج ساقه عن أبي الزبير (فوصله) = يعني ساق إسناده إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، وأبو خيثمة زهير بن معاوية (لم يوصله) = يعني أرسله ولم يأت
بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فكيف يقول: "جميعا صحيحين"؟!
أقول: لم يقصد - رحمه الله - تصحيح الحديث، وإنما قصد
تصحيح الطريقين، ولم يرجّح أحدهما على الآخر كعادته في الترجيح بين الوصل
والإرسال.
ومن ثم لم يتعرض لمسألة سماع أبي عبيدة من أبيه!
بل إن الذي يجري على مقتضى كلام أئمة النقد، بل وكلام أبي
حاتم نفسه ترجيح المرسل على الذي في ظاهره الاتصال؛ لأن ابن جريج مدلِّس، وزهير من
أئمة الحفظ.
لكن لم ينظر أبو حاتم لهذا الأمر، وإنما صحح ورود
الإسنادين كما هما وأنه لا خطأ فيهما.
ولهذا نظائر عنده، فقد قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/540)
(575): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ هَمَّام، عَنْ قَتادة، عَنِ الحَسَن، عَنْ
سَمُرَة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا
وَنِعْمَتْ».
وَرَوَاهُ أَبَانُ، عَنْ قَتادة، عَنْ الحسن: أنَّ النبيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ».
قلتُ لأَبِي: أيُّهما أصَحُّ؟
قَالَ: "جَمِيعًا صَحِيحَينِ؛ هَمَّام ثِقَةٌ وَصَّلَهُ،
وأَبَانُ لَمْ يُوصِّلْه".
قلت: فهنا حكم أبو حاتم على صحة الإسنادين، مع أن رواية
أبان بن يزيد العطار مرسلة!
ورواية همام بن يحيى العوذي على رأي أبي حاتم منقطعة؛
لأنهم تكلموا في سماع الحسن البصري من سمرة.
وقد نقل ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص: 33) ما رواه عُثْمَانُ
بنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: الحَسَنُ لَقِيَ
سُمْرَةَ؟ قَالَ: "لا".
وهذا إن لم يكن من كلام أبي حاتم، إلا أنه لو كان ابنه يرى
أن أباه يرى صحة سماع الحسن من سمرة لذكره.
فالأصل هو ترجيح رواية يزيد على رواية همام، لكن أبا حاتم
حكم بصحتها أيضاً، وهذا يعني أنه لم يكن يقصد الترجيح، ولا تصحيح الحديث أصلاً.
وعلى مقتضى القواعد فرواية يزيد هي الصحيحة؛ لأن معمراً، وسعيد
بن أبي عروبة، روياه عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلاً.
فلما قال أبو حاتم أن هماما ثقة فوصله، قال بأن طريقه هذا
صحيح، لا أن الحديث نفسه هو الصحيح.
ولن نخوض في مسألة صحة سماع الحسن من سمرة هنا، فليس هذا
مكان ذلك.
والخلاصة أن أبا حاتم إذا قال عن إسنادين "جميعا
صحيحين" فإن لا يريد تصحيح الحديث من أصله، بل هو يصحح هذه الطرق كما رواها
من رواها، ولا يريد الترجيح في ذلك؛ لأنه إذا أراد الترجيح فإنه يقول: "فلان
عن فلان مُتَّصِلٌ، وفلان عن فلان مُرسَلٌ"، أو "والصَّحيحُ مُتَّصِلٌ
عن فلان"، وهكذا كما هو معروف في كتابه.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه ما قاله ابنه في «العلل» (4/173)
(1346): "وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ هُشَيم، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ
حَبِيب بن سالِم، عَنِ النُّعْمان بْنِ بَشِير، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ
قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جاريةِ امرأتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، فقال النبيُّ
صلى الله عليه وسلم: إِنْ كُنْتِ لَمْ تَأْذَنِي لَهُ رَجَمْتُهُ، وإِنْ كُنْتِ
أَذِنْتِ لَهُ جَلَدتُّهُ مِئَةً.
وَرَوَى الْحَسَنُ، عَنْ سَلَمة بْنِ مُحَبِّق، عن النبيِّ
صلى الله عليه وسلم: أنَّ رَجُلا وقعَ عَلَى جَارِيَةِ امرأتِه، فرُفع إلى النبيِّ
صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ،
فَهِيَ لَهُ، وعَلَيْهِ مِثْلُهَا. وإِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، فَهِيَ حُرَّةٌ،
ولِمَوْلاَتِهَا عَلَيْهِ مِثْلُهَا؟
قلتُ لأبي: هما صَحِيحَينِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قلتُ: حَبيبٌ عَنِ النعمانُ مُتَّصِلٌ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قلتُ: الحسن، عن سَلَمة مُتَّصِلٌ؟
قال: لا! حدَّثنا القاسمُ بنُ سَلاَّم، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
الْحَسَنِ؛ قَالَ: حدَّثني قَبيصة بْنُ حُرَيْث، عَنْ سَلَمَة بْنِ مُحَبِّق، عَنِ
النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَدْخَل بَيْنَهُمَا قَبيصَةَ بنَ حُرَيث،
فاتَّصَلَ الإِسْنَادُ".
قلت: فهذا الحديث صحح أبو حاتم الطريقين، ثم أعلّ الثاني
بعدم الاتصال = أي لعدم السماع.
فتبيّن من ذلك أنه مقصوده بالحكم على صحة الإسنادين أي كما
رواها أصحابها، وأما مسألة الاتصال والانقطاع فمسألة أخرى.
قد قَبِل الأئمة رواية عبدالرحمن عن أبيه، وإن كان لم يسمع
منه كثيراً، فإذا صحّ الإسناد إليه، فهو مما يحتج به؛ لأنه أخذ حديث أبيه من
عائلته وأصحاب أبيه.
على أن هذا (المتعالم) يذكر هذه الأمثلة للتدليل على أن
خصمه لا يفهم كتب أهل العلم وإدراك مسألة القرائن، فأقول له إن هذا المثال الذي
أتيت به حول تصحيح رواية أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه قد صححناه بفضل
الله قديما بالقرائن مع نفي أهل العلم السماع، ولي بحث خاص فيه منشور منذ سنوات.
فقد روى أبو عُبيدة بن عبدالله بن مسعود أحاديث كثيرة عن
أبيه، وقال أئمة النقد إنه لم يسمع من أبيه شيئاً! ومع اتفاق أهل العلم على ذلك
إلا ما شذّ، فإنه حصل خلاف بين الأئمة المتقدمين والمتأخرين في الحكم على أحاديث
أبي عبيدة عن أبيه! فالمتقدمون قبلوا رواياته عن أبيه؛ لأنه يعرف أحاديثه.
والمتأخرون أعلّوها بالانقطاع، وهذه مسألة مهمة في التباين بين منهج
المتقدمين والمتأخرين!
قال ابن المديني في حديث يرويه أبو عبيدة بن عبدالله بن
مسعود عن أبيه: "هو منقطعٌ، وهو حديثٌ ثبتٌ".
وقال يعقوب بن شيبة: "إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا
حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند - يعني في الحديث المتصل- لمعرفة أبي عبيدة
بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديثٍ منكرٍ". (شرح علل الترمذي لابن
رجب: 1/544).
قلت: حديث أبي عبيدة عن أبيه صحيح إذا صحّ الإسناد إليه؛
لأن أبا عبيدة إنما أخذ علم أبيه من أصحاب أبيه.
قال الدارقطنيّ عن حديث: "هذا حديثٌ ضعيفٌ غير ثابت عند أهل
المعرفة بالحديث من وجوه عدة، أحدها: أنه مخالفٌ لما رواه أبو عبيدة بن
عبدالله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه،
وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه".
ولي بحث آخر في سماع عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود من
أبيه أيضاً، رجحت فيه قبول حديثه بالقرائن كذلك.
خامساً: قوله إن المزي قد سار على هذه الطريقة! فمن قال
فيه (روى عن) جازما بلا تقييد فإنما أراد به تحقق الاتصال بأحد طرق الاتصال المعروفة،
وان لم يثبت السماع الصحيح!! فهذا قول باطل عاطل، كاسد فاسد!!
فالمزي إنما تبع ما ذكره صاحب الأصل «الكمال» وزاد عليه
الرواة الذين رووا عن الشيوخ كما جاء في الروايات عنهم، فلا علاقة هنا بمسألة
الجزم على تحقق الاتصال! فكم من راو روى عن شيخ ما ولم يتحقق ذلك الاتصال!!
وعلى هذا المذهب الذي قاله هذا (المتهور) فإننا سنقبل
أحاديث كثيرة ضعيفة ومنكرة إذا وجدنا أن المزي قال بأن فلانا روى عن فلان وهذا
تحقيق للاتصال!!
فالله المستعان على هذا الهذيان الجالب للغثيان.
وهذا التقرير الذي قاله هنا بنى عليه كلامه الذي بعده حول
رواية الزماني عن أبي قتادة!
فقال: "فلو ثبت أن الزماني لم يسمع المسند من [أبي] قتادة
فروايته تحمل على الاتصال للمعاصرة أولا، ولثبوت اللقاء كما جاء في بعض الطرق التي
خطأها الباحثان ببنيات ظنونهم!"!
قلت: رجعنا إلى نقطة الصفر! وهو النزاع بين البخاري وغيره
في وجوب ثبوت اللقاء والسماع، وبين الإمام مسلم ومن تبعه بالاكتفاء بالمعاصرة!!
وهذه الأمثلة التي أتى بها عن مسألة القرائن وغيرها ودندن
عليه لخدمة رأيه في الرد علينا!
وهذا كله لا يغني ولا يسمن من جوع!
فالأصل ثبوت اللقاء أولاً، ولم يثبت في بعض طرق الأحاديث
كما زعم! ثم ثبوت السماع، وهذا لم يثبت أيضاً.
وتأصيل هذا (المتعالم) للمسألة بهذه الطريقة سيجعلنا نقبل
أي حديث فيه معاصرة!!
ولم يتنبه أن الأمثلة التي أتى بها وقبلها أهل النقد
بالقرائن فهي في التابعين بل في كبارهم ممن لهم خصوصية لا تتعدى إلى غيرهم، فهي
ليست لكل التابعين مع القرائن الخاصة، كسعيد بن المسيب عن عمر، وليس مرسل سعيد عن
النبي صلى الله عليه وسلم كله، ونافع عن آل عمر، وعبدالرحمن وأبي عبيدة ابني
عبدالله بن مسعود عن أبيهما، فهذه الخصوصية لا تتعدى لكل أحد، ولا نستطيع أن
نجعلها أصلا بحيث نقيس عليه.
فأين الزماني منها ولا نعرف له إلا هذا الحديث الفرد عن
أبي قتادة؟!
بل إن قواعد أئمة النقد التي يتشدق بأنه يعرفها ترد عليه،
فكيف يروي بصري عن أبي قتادة المدني حديثا وينفرد به دون أصحابه المعروفين الذين
لازموه، بل لا يرويه ابنه الذي يعيش معه ولا آل بيته!!
ولهذا دخل (المتعالم) في التمحل والظنون و(القدقدات) و(الهلهلات)
ووو مما عابه علينا أحياناً!!
وتنزلاً فهب أننا قبلنا المعاصرة، فأين القرائن التي
تجعلنا نقبل حديثه عن أبي قتادة الأنصاري؟
أليس من لازمه كابنه عبدالله وأبي عبدالرحمن بن سلمة أحق
بأن يرووا هذا الحديث عنه لو كان حقيقة عنده من رجل لا نعرف أنه لقيه وهو في بلد
آخر!! حتى دخلنا في افتراض الخيالات والظنيات؟!!!
سادساً: وقوله: "ومن يدقق في عبارات البخاري يعرف أن
نفيه علمه بالسماع لا يريد منه نفي مطلق السماع، وإلا لما قال في غيره (لم يسمع)
أو (مرسل)"! قد دققنا فيه فوجدناك لم تفقه عبارات الإمام البخاري!!
فقد بينت لك أن البخاري - رحمه
الله - إذا ثبت عنده عدم السماع بدليل بيّن أو أن حديث من يورده للراوي في الترجمة
(مرسل) فيصرح به، وأما فيمن ليس له إلا حديثا واحدا عن راو ما كحديث الزماني عن
أبي قتادة الأنصاري، فإنه لا يجزم بنفي السماع وإنما يتلطف في العبارة كما يتلطف
في نقده للرجال، فيقول: "لا نعرف له سماعا من فلان" أو "لا يعرف له
سماعا من فلان" لأنه يفترض أنه قد يكون سمع منه ولو باحتمالية ضعيفة جدا حتى
لا يكون هو نفاه وعرفه غيره، وهذه قمة الورع والتقوى.
وبينا أن هذه العبارات عنده هي في
النهاية نفي للسماع، ومن يخالف في ذلك فعليه بالإثبات والبعد عن الاحتمالات
والظنيات!
ولو أننا ذهبنا مذهب هذا (المتهور) في هذه العبارات التي
يقولها البخاري لزمنا قبول هذه الروايات التي لم يتبين فيها السماع بالمعاصرة
والفرضيات والاحتمالات، وهذا لا يقوله أهل النقد.
سابعاً: قوله: "إذا كان السماع لم يقع للبخاري فربما
وقع لغيره ممن هم مثله كأبي حاتم وأبي زرعة وابن حبان.." هو قول لا يسمن ولا
يغني من جوع هنا في مسألتنا!
فإذا لم يقع السماع للبخاري وهو من هو، ولا يوجد للراوي
عمن روى عنه إلا هذا الحديث الواحد، فكيف سيقع لغيره كأبي حاتم وأبي زرعة؟!!
وهل لو وقع لهم أكانوا يخفونه؟!!
ألا تعلم أن أبا حاتم وأبا زرعة غالبا ما يتبعون البخاري
في تراجمه، ويعرضون عن مسألة تنقيره على السماعات إثباتا ونفيا، فيقولون: روى عن
فلان، روى عنه فلان.
ثم ها هو ترك "قد" ورجع إلى "ربما"
وهو ما يعيبه علينا أحياناً!
ثم كيف تسوي بين البخاري وبين ابن حبان!! هل تدرك ما الذي
يخرج من رأسك؟
ثامناً: وقوله: "وكم من راو ينفي البخاري علمه بسماعه
من شيخه ويثبت عند غيره، وكذا العكس، فالعبرة في كل هذا بالرجوع إلى أقوال الأئمة
النقاد لا بالتخيلات والظنون!" مردود عليه!
نعم، يختلف الأئمة النقاد أحياناً في إثبات السماع ونفيه،
وهذا لا ينازع فيه أحد، لكن هنا نقول: من نفى السماع؟ ومن أثبته؟
ليأتنا بالخلاف بين أئمة النقد في هذا؟ أليسوا هم المرجع
كما يقول؟
لن يجد من أثبت له السماع من أبي قتادة من المتقدمين، ولن
يجد من نفى عنه السماع غير عبارة البخاري! فلا تصلح هذه القاعدة التي ذكرها هنا في
مثالنا هذا.
فهذا الحديث مما نوزع فيه السماع وعدمه من خلال الاختلاف
بين منهجي الإمامين البخاري ومسلم، فلا يوجد حديثا قال فيه البخاري: "لا يعرف
لفلان سماعا من فلان" أو "لا نعرف سمع من فلان" أخرجه في «صحيحه»
في حين نجد أن مسلما يخرج أمثال ذلك في «صحيحه» متبعا لمنهجه في الاكتفاء
بالمعاصرة لا غير!
وهذا هو محل النزاع.
فـ (المتعالم) يقول بأن المرجع أقوال أئمة النقد لا
التخيلات والظنون، ونحن معه في هذا، فلم نتخيل ولم نظن، وإنما رجعنا إلى أقوالهم،
وهذا قول البخاري ناصعاً أمامه، فلا يُنازع بتصرف الإمام مسلم في «صحيحه»!
فكلام هذا (المتعالم) هنا خبط عشواء!! فمن هذا الذي قال بخلاف
كلام البخاري في مسألتنا هذه، فالبخاري ينص على عدم سماع الزماني من أبي قتادة
الأنصاري، ولا يوجد من نص على سماعه منه البتة!! لكن هذا من عادته في التحريف
والاحتيال على القارئ.
وقوله: "فالعبرة هنا بالرجوع إلى أقوال الأئمة
النقاد" يدل على تخبطه! فقد رجعنا لكلام البخاري، وهو من كبار الأئمة النقاد،
فأين من خالفه؟!!
تاسعاً: إن تعجب فعجب إلزامه بأن من يتعكز على قول البخاري
في السماع بأن حديث الزماني عن أبي قتادة يحمل على الإرسال فليجب عن تخريج البخاري
لبعض المراسيل في كتابه...!!!
فلازم هذا إلزام البخاري بقبول حديث الزماني عن أبي قتادة
لأنه خرج مثله من المراسيل؟!!
هل من عنده مسكة من عقل بَلْه من يشتغل بالحديث يقول هذا
الكلام؟!
لا تلازم بين قول البخاري في سماع الزماني من أبي قتادة،
وبين ما أخرجه في «صحيحه» من مراسيل!
والإجابة قد تقدمت على سؤال هذا (المتعالم)! فهي قليلة
جداً، وبعضها نعم معلول بالإرسال وقد صرح البخاري بذلك، وبعضها أخرجه لبيان أن هذا
المرسل روي متصلا وهو معروف، وبعضها صحيح وجادة أو مكاتبة.
فالأمر لا يستقيم بالتسوية بينها كلها هكذا كما ذكر هذا
(المتعالم)، فكل واحد منها قصد البخاري منه شيئا.
عاشرا: قوله عن مراسيل كبار التابعين [وكتبها في عبارته
كبار الصحابة عن الصحابة] لا دخل لذكره هنا، فهذه المسألة لها ذيول كثيرة، وليست
على إطلاقها كما زعم هذا (المتعالم)، ففرق بين مراسيل كبار التابعين عن الصحابة،
ومراسيلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليسوا سواء! لكنه الخلط عند هذا
(المخلِّط)!!
فحديث قيس بن أبي حازم في كلاب الحوأب المرسل منكر! فلا
نقبله لأنه من كبار التابعين!
وقد وجدت لسعيد بن المسيب بعض المراسيل المنكرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
وأما روايتهم عن كبار الصحابة ممن لم يسمعوا منهم فهذه
مسألة أخرى تخضع للقرائن والخصوصيات، وليس الزماني من كبار التابعين ولا له اختصاص
بأبي قتادة!
12- زعم أن نفي السماع لا يعني نفي الاتصال! وأنه قد يعتبر
متصلا بالقرائن!!
فأين قرائن اتصال رواية الزماني عن أبي قتادة!!
وهذه المسألة يُدندن عليها المدعو المْحِمْدِي منذ زمن!! ويذكرها
في كل محفل!! ويقول بأن: "الاتصال أوسع من السماع! فقد ينفي أهل العلم السماع
لكن يكون الحديث متصلا بقرينة أخرى"!!
وقد بينت جزءاً منها فيما سبق، وبينت أن المسألة ليست أن
الاتصال أوسع من السماع، بل هناك ما يقوم مقام السماع، وكذا قد يقبل الحديث مع كون
السماع منفيا من خلال بعض القرائن، وهذا أيضاً لا يعني أن الاتصال أوسع من السماع،
فالسماع والاتصال متلازمان.
وهذه الفكرة الشاذة قالها (المتهور) أيضاً في تلك الندوة
حول "معايير النقد" التي عُقدت مؤخراً في عمّان، وكان كلامه: أنه من معايير
النقد المهمة: "الفرق بين السماع والاتصال" فدائرة الاتصال أوسع من السماع!
يا الله! ما هذا الفتح العظيم! الاتصال أوسع من السماع!! = يعني لو نفى الناقد سماع
فلان من فلان، وصححه ناقد فهذا لقرينة عنده أنه متصل!
وهو بحسب هذا القول نسف علم الحديث وعلم العلل خاصة! فتكلم
على استدراكات الدارقطني على الشيخين وخاصة ما أعلّه من أحاديث بعدم السماع! لأن المقرر
عنده الآن أن هذه الأحاديث متصلة وإن كان السماع ليس متحققا!
لكن، كيف هذا؟ لأنه يقول بأن الاتصال أوسع من السماع = يعني
نفي السماع لا يعني عدم الاتصال! لأن الاتصال قد يتحقق من قرينة أخرى يعلمها هؤلاء
الذين صححوا هذه الأحاديث!
ومن ثم حذر طلبة العلم من الذهاب إلى كتاب
"المراسيل" لابن أبي حاتم والبدء بتطبيق نفي السماعات على الأحاديث! لم؟
لأن الاتصال أوسع من السماع!
فيا لضيعة العلم! يا لضيعة علم الحديث!
ليقل لنا أحد: كيف يكون الاتصال أوسع من السماع؟
أليس الاتصال يستلزم السماع، فلا اتصال دون سماع، فكيف خرج
بهذه النظرية!
وسأنقل فيما يلي تفريغ صوتيات للمحمدي أرسلها لأحد الإخوة يبين
فيها هذه المسألة في معرض الكلام عن العبد الفقير!!
وهي بحروفها:
"السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.. أهلا أخي الحبيب حفظك الله: شوف كان بودي ترجع على ردي على خالد أنا بعثت
لك الرابط للرد حقيقة هو ما عندي الآن.
واقرأ أخي أنا اتكلمت عن هذه
الجزئية بالتفصيل أكثر. يعني أخي مثلا الرجل اللي عندنا ما عندنا إلا أنه لم يسمع.
الحسن البصـري لم يسمع من ثوبان
وجئنا إلى حديث حكم الائمة عليه بالصحة قالوا هذا صحيح نحن حسب القواعد الحسن لم
يسمع من ثوبان. كيف نتعامل معه برأيك؟
القواعد تقول: إن هذا منقطع وهذا
ما فعله حتى الدارقطني، خلـي في بالك ترى في تتبعه على البخاري.
لكن اسمع لابن خزيمة ماذا يقول؟
يقول: والحسن لم يسمع من ثوبان والحديث صحيح إسناده صحيح متصل.
يا أخي قضية التفريق بين الاتصال
والسماع هذه ما تجري على القواعد، هذه على القرائن فلذلك الإشكال الذي وقع فيه
الحايك يا أخي الكريم أن الحايك يأتي إلى هذه القواعد ويظنها قرائن ويضعف ويصحح
على هواه، لذلك أخي مثلا حينما يعارض الحديث البخاري وأحمد في رجل في اسم رجل مثل
ما فعل في بحثه الأخير بين عمر أو عامر وعمارة.
العلماء اختلفوا في اسمه فيرجح
رأي من الآراء ويضعف الحديث في البخاري طيب البخاري ما مال إلى هذا الرأي، مال إلى
رأي أنه عمرو مش عمارة أو غيره أو ابن معين.
فلذلك حينما أقول لك إنه يطبق
القواعد الصماء ويظنها وهي هاي الكارثة يظن أنها قرائن هذه ليست قرائن.
القرائن إنها لا تجري على قاعدة،
الجماعة يقول أبو حاتم أخطأ شعبة خالف الناس وبعد قليل يقول: شعبة الحديث حديث
شعبة ولو خالفه الناس ليست مخالفة الجماعة لشعبة دليل على خطأ شعبة في هاي القرينة،
وقد تكون حسب القرينة الناقد ينظر إليها هاي قرينة الناقد من خلال معطيات.
أما القاعدة لا نقول احنا العبرة
بالجماعة ومخالفة الواحد هاي قاعدة فلذلك حينما يشتغل أحدنا اليوم ويظنها هي قرينة
هذه ليست قرينة يقولك والله هذا أفقه أصحابه أو هذا فقيه أو هذا هو كلها قواعد
وضعوها أهل العلم ومشوا عليها وهي قواعد محترمة عند اختلافهم فيما لم يصححه الائمة
اتفاقا او يسكتوا عليه اتفاقا.
طيب أما الجرأة على الصحيحين
وتضعيف أحاديث الصحيحين بهذه القواعد الصماء كما يقول الكشميري ونقول عنها هذه
قرائن!
يا أخي هذا.. هذا عبث.
لذلك أخي الكريم حفظك الله أنا
بودي أرجع أولا ارجع حفظك الله ارجع لتعليقي وردي على الأخ خالد هو طعن هاي مشكلته
من البداية هو كان يقول حينما حدثته في أول سنة 2013 قال أنا أصحح وأضعف بالقرائن
فقلت له: أخي أنت واهم هذه ليست قرائن هذه قواعد.
حينما يشك الراوي ومن قال إن شك
الراوي في الحديث ضعف، شعبة يقول شك ابن عون أحب إليّ من حديث غيره.
زين شك ابن عون أحيانا شك الراوي
دليل على ضبطه وهي أيضا ليست قاعدة العبرة هو قرائن الأئمة.
قراؤنهم انتهت أخي، قراؤنهم هي
التي لا تجري على قاعدة إحنا اليوم لا بد أن نجري على القواعد ما ممكن أن نخرج عن
هذه القواعد حتى ينضبط عملنا لذلك هذا ما أقوله لك يا أخي والله أعلم. وارجع للبحث
قبل أخي يعني يطول الكلام ويأخذ يمنة ويسرى. وحتى تكون بالصورة يا أخي أنا لا..
خالد ذكي، وأنا أعتقد سيقتله
ذكاؤه، خالد هذا ذكاء هو نفس الذكاء اللي كان عند عداب الحمش، ونفس الذكاء اللي
كان عند حاتم العوني، هذا ذكاء أخي.
هو رجل ذكي وعنده معلومات ويفهم،
لكن المشكلة الانخداع أو الانجرار وراء الذكاء بشكل مفرط وعدم الانضباط بالضوابط
العلمية الدقيقة، هذه نتائجها، وستذكرون ما أقول لكم، ستذكر أن خالد نتيجته
المصيرية هي نتيجة عداب.
وهذا لسه عنده حديث البارحة أرسلوا
لي بعض الإخوة وإن شاء الله راح أرد عليه قريبا، حديث.. آه هل كذلك يضعف حديث
بمسلم، آه وهذا حديث أخي لا يضعف بهذه الطريقة. هذي هذي هذي يا أخي جرأة جرأة ليست
هكذا يعني يتعامل مع الأحاديث مع البخاري ومسلم". انتهى كلامه.
أقول:
هنا أفصح هذا البليغ المُفوّه المتسرّع عن حجته في مذهبه الشاذ
المخترع بأن الاتصال أوسع من السماع!
فاعتمد في ذلك على كلام نسبه لابن خزيمة! وبسبب فهمه الأعوج
هذا ذهب إلى مذهبه الشاذ الآخر بأن القرائن انتهت إلى ابن خزيمة!
يقول:
"الحسن البصـري لم يسمع من
ثوبان وجئنا إلى حديث حكم الائمة عليه بالصحة قالوا هذا صحيح نحن حسب القواعد
الحسن لم يسمع من ثوبان. كيف نتعامل معه برأيك؟
القواعد تقول: إن هذا منقطع وهذا
ما فعله حتى الدارقطني، خلي في بالك ترى في تتبعه على البخاري.
لكن اسمع لابن خزيمة ماذا يقول؟
يقول: والحسن لم يسمع من ثوبان والحديث صحيح إسناده صحيح متصل.
يا أخي قضية التفريق بين الاتصال
والسماع هذه ما تجري على القواعد، هذه على القرائن"!
نعم، بحسب القواعد الحديث منقطع لأن الحسن لم يسمع من ثوبان!
لكن قال ابن خزيمة - بحسب نقله -: "الحسن لم يسمع من ثوبان
والحديث صحيح إسناده صحيح متصل"!
فهنا أصّل قاعدته: "أن الاتصال أوسع من السماع"!
فابن خزيمة نفى سماع الحسن من ثوبان، لكنه صحح الحديث والإسناد
وأثبت الاتصال! فهذا يعني أنه متصل مع نفي السماع!!عظّم الله أجر الأمة في علم الحديث
حين تكلمت هذه العاهات فيه! وإنا لله وإنا إليه راجعون!
وهو هنا نسب رأياً لابن خزيمة لم يقله! ولم يخطر على باله،
ولا على بال رجل سوي العقل ممن يشتغل بالحديث! وإنما أُتي بسبب عدم فهمه لكلام الأئمة!
فهذا هو من يُنظّر علينا، ويتباكى على الصحيحين!
ولنسق الآن كلام ابن خزيمة، ثم نبين جهله في ذلك!
قال ابن خزيمة رحمه الله في «صحيحه» (2/952) (1983):
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ نَصْرٍ، قال: حدثَنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ، عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ
أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَمَانَ عَشَرَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ،
فَمَرَّ بِرَجُل يَحْتَجِمُ، فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ».
وحَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ نَصْرٍ، قال: أخبرنَا
عَبْداللَّه بنُ صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْداللَّه بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قال: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ الْبَصْرِيُّ؛ عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابن خزيمة:
"فَكُلُّ مَا لَمْ أَقُلْ إِلَى آخِرِ هَذَا الْبَاب إِنَّ هَذَا صَحِيحٌ،
فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
ثَوْبَانَ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "هَذَا
الْخَبَر خَبَر ثَوْبَانَ عِنْدِي صَحِيحٌ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ".
قلت:
هذا تعليق ابن خزيمة على هذا الحديث، فهل أراد ابن خزيمة أن
يثبت الاتصال مع تصـريحه بنفي سماع الحسن من ثوبان؟
هذا الحديث ختم به ابن خزيمة أحاديث الباب: "بَاب
ذِكْر الْبَيَانِ أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ الْحَاجِمَ وَالْمَحْجُومَ
جَمِيعًا".
وبدأ بحديث "الْأَوْزَاعِيِّ، عن يَحْيَى بن أَبِي
كَثِيرٍ، عن أَبي قِلَابَةَ الْجَرْمِيّ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عن
ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وساقه من عدة طرق، ثم تحدث عن بعض المسائل المتعلقة بالحجامة
منها السبب في كراهة الحجامة للصائم، وساق كذلك حديث أبي سعيد الخدري، وساق بعض الأسانيد
ونبه على ضعفها والاختلاف فيها، ثم رجع وختم الباب بحديث الأوزاعي الذي بدأ به،
وبعده حديث الحسن عن ثوبان.
فنبّه ابن خزيمة إلى أن حديث الحسن عن ثوبان منقطع، وليس
بصحيح، وليس من شرط الكتاب، ثم حكم على خبر ثوبان بأنه صحيح، والصحيح في هذا
الإسناد هو إسناد أبي أسماء الرحبي عن ثوبان، وهو الذي بدأ الباب به.
ولهذا لما نقل ابن حجر كلامه في «إتحاف المهرة» (3/36)
قال: "قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ثَوْبَانَ، فَلَيْسَ
مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ. لَيْسَ فِيه السَّمَاعِ".
فلله درّ الحافظ، هذا هو الفهم الصحيح، فهذا الإسناد ليس على
شرط ابن خزيمة، ولم يرد ما قاله المْحِمْدِي!
وهو بسبب عدم استيعابه لكلام الأئمة فهم كلام ابن خزيمة
بحسب هواه! ونسب له مذهبا لا يخطر على قلب بشر! بل هو نسف لشـرط كتابه! إذ كتابه
اسمه: «مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم».
وشرط المسند هو الاتصال، ولهذا نجد ابن خزيمة ينبه كثيراً على
عدم السماع في أسانيد يذكرها لأنها ليست من شرط كتابه.
ذكر ابن خزيمة في «صحيحه» (1/660): «بَاب فِي صِفَةِ
صَلَاةِ الْخَوْفِ وَالْعَدُوُّ خَلْفَ الْقِبْلَةِ، وَصَلَاةِ الْإِمَامِ بِكُلِّ
طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا أَيْضًا الْجِنْسُ الَّذِي أَعْلَمْتُ مِنْ
جَوَازِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ فَرِيضَةً خَلْفَ الْإِمَامِ الْمُصَلِّي نَافِلَةً،
إِذْ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَطَوُّعًا، وَلِلْمَأْمُومِينَ فَرِيضَةً».
ثم قال: حدثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، قال:
حدثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، قال: حدثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، قال:
أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قال: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ؛
أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَصَلَّى
بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ.
قال: أخبرنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ،
قَالَ: صَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَائِفَةٍ
مِنَ الْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَائِفَةٌ تَحْرُسُ فَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ
هَؤُلَاءِ الْمُصَلُّونَ، وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
سَلَّمَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "قَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِاللَّهِ".
قلت: فهذا حديث يرويه الحسن عن جابر، ولم يحكم عليه بالصحة
كالسابق كما توهم في ذلك.
فبحسب نظريته الجديدة فهذا ينبغي أن يكون متصلا؛ لأن الاتصال
أوسع من السماع!
وذكر في «صحيحه» (2/1216): «بَاب ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَبَاحَ أَنْ لَا
يَقْتَصِرَ عَنْ حَاجَةٍ إِذَا رَكِبَ الدَّوَابَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَاوِزَ
السَّائِرُ الْمَنَازِلَ، إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مُخْصِبَةً، وَالْأَمْرِ
بِإِمْكَانِ الرِّكَابِ عَنِ الرَّعْيِ فِي الْخِصْبِ. إِنْ صَحَّ
الْخَبَرُ، فَإِنَّ فِي الْقَلْبِ مِنْ سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ جَابِرٍ».
قال: حدثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قال: حدثَنَا
عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ زُهَيْرٍ - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ- قَالَ:
قَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حدثَنَا جَابِرُ بْنُ
عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَمْكِنُوا الرِّكَابَ مِنْ
أَسْنَانِهَا، وَلَا تَجَاوَزُوا الْمَنَازِلَ، وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْجَدْبِ
فَانْجُوا، وَعَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ،
وَإِذَا تَغَّوَلَتْكُمُ الْغِيلَانُ فَبَادِرُوا بِالصَّلَاةِ، وَإِيَّاكُمْ
وَالْمَعْرَسَ عَلَى جَوَادِّ الطَّرِيقِ، وَالصَّلَاةَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا
مَأْوَى الْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ، وَقَضَاءَ الْحَاجَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا الْمَلَاعِنُ».
قال: حدثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قال: حدثَنَا
يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، قال: حدثَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَتِ
الْأَرْضُ مُخْصِبَةً فَأَمْكِنُوا الرِّكَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْمَنَازِلِ،
وَإِذَا كَانَتْ مُجْدِبَةً فَاسْتَنْجُوا عَلَيْهَا، وَعَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ،
فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ، وَإِيَّاكُمْ وَقَوَارِعَ الطَّرِيقَ
فَإِنَّهُ مَأْوَى الْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْغِيلَانَ
فَأَذِّنُوا».
قال ابن خزيمة: سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ: "كَانَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ يُنْكِرُ
أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ سَمِعَ مِنْ جَابِرٍ".
فانظر هنا كيف جاء التصـريح بالسماع في الإسناد الأول ومع ذلك
لم يحكم ابن خزيمة باتصاله، بل نبه في الباب أن في القلب من سماع الحسن من جابر، ثم
أتى بقول ابن المديني في نفي سماعه من جابر. فأين الاتصال؟!! وأنه أوسع من السماع!
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!.
وانظر إلى ما أخرجه أيضا في «صحيحه» (2/1299) (2748) قال: حدثَنَا
عَبْدُاللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ الْعَابِدِيُّ، قال: حدثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ
الْقِدَاحُ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُؤَمَّلٍ - يَعْنِي الْمَخْزُومِيَّ- عَنْ
حُمَيْدٍ مَوْلَى عَفْرَاءَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ
بَعْدَ الصُّبْحِ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ،
إِلَّا بِمَكَّةَ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَنَا
أَشُكُّ فِي سَمَاعِ مُجَاهِدٍ مِنْ أَبِي ذَرٍّ".
قلت: ها هو ابن خزيمة يركز على السماعات وهذا ينافي الاتصال!
فأين ما يدندن حوله المْحِمْدِي!!
حتى إن ابن خزيمة يقول أحياناً في بعض الأحاديث وإن ثبت الاتصال
إلا أن ذاك الحديث غريب! يستغربه لأنه لا يرى صحة السماع!
قال في «صحيحه» (1/51) (13): حدثَنَا عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ الدِّرْهَمِيُّ بِخَبَرٍ غَرِيبٍ غَرِيبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ
دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ شُغِلَ، فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
بِوَضُوءٍ وَاحِدٍ».
قال: حدثَنَا أَبُو عَمَّارٍ، قال: حدثَنَا وَكِيعُ بْنُ
الْجَرَّاحِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ صَلَّى
الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوَضُوءٍ وَاحِدٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "لَمْ يُسْنِدْ هَذَا الْخَبَرَ
عَنِ الثَّوْرِيِّ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ غَيْرُ الْمُعْتَمِرِ وَوَكِيعٍ، وَرَوَاهُ
أَصْحَابُ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَمِرُ وَوَكِيعٌ مَعَ جَلَالَتِهِمَا حَفِظَا هَذَا
الْإِسْنَادَ وَاتِّصَالَهُ فَهُوَ خَبَرٌ غَرِيبٌ غَرِيبٌ".
يعني على فرض أنه متصل فهو غريب غريب = يعني يستنكره! فهذا
في المتصل فكيف في المنقطع يا أهل الحديث! ثم نجد ابن خزيمة يعلّ الأحاديث بعدم السماع!
وذكر في «صحيحه» (1/66) «بَاب ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى
أَنَّ وَطْءَ الْأَنْجَاسِ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ».
قال: حدثَنَا عَبْدُالْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ،
وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ
الْمَخْزُومِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ؛ قَالَ عَبْدُالْجَبَّارِ: قَالَ
الْأَعْمَشُ: وَقَالَ الْآخَرَانِ: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ
عَبْدِاللَّهِ قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ».
وقَالَ الْمَخْزُومِيُّ: «كُنَّا نَتَوَضَّأُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ».
وقَالَ الزُّهْرِيُّ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "هَذَا
الْخَبَرُ لَهُ عِلَّةٌ. لَمْ يَسْمَعْهُ الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ، لَمْ أَكُنْ
فَهِمْتُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمْلَيْتُ هَذَا الْخَبَرَ".
قال: حدثَنَا أَبُو هَاشِمٍ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قال: حدثَنَا
عَبْدُاللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قال: أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ:
قَالَ عَبْدُاللَّهِ: «كُنَّا لَا نَكُفُّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا فِي الصَّلَاةِ،
وَلَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ».
قال: حدثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قال: حدثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، قال: حدثَنَا الْأَعْمَشُ، قال: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ - أَوْ
حُدِّثْتُ عَنْهُ- عَنْ عَبْدِاللَّهِ: بِنَحْوِهِ.
ثم ذكر: «بَاب إِسْقَاطِ إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ
مَا مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ غَيَّرَتْهُ»، ثم قال: حدثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قال: أَخْبَرَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ- عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ عَظْمًا -
أَوْ قَالَ لَحْمًا- ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "خَبَرُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ غَيْرُ
مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ، غَلِطْنَا فِي إِخْرَاجِهِ. فَإِنَّ بَيْنَ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ: وَهْبَ بْنَ
كَيْسَانَ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَعَبْدَةُ بْنُ
سُلَيْمَانَ".
وذكر أيضاً (1/259): «بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخُرُوجِ
إِلَى الصَّلَاةِ»، ثم قال: أخبرنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، قال:
أخبرنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ
أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَأَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ
فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي
نُورًا، وَاجْعَلْ فِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ
فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ
مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي نُورًا».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "كَانَ
فِي الْقَلْبِ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ شَيْءٌ، فَإِنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي
ثَابِتٍ مُدَلِّسٌ، وَلَمْ أَقِفْ هَلْ سَمِعَ حَبِيبٌ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَمْ لَا؟ ثُمَّ نَظَرْتُ، فَإِذَا أَبُو عَوَانَةَ
رَوَاهُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ".
وأخرج أيضاً في «صحيحه» (1/314) (573) قال: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانَ الْأَزْرَقُ - بِخَبَرٍ غَرِيبٍ غَرِيبٍ، إِنْ
كَانَ حَفِظَ اتِّصَالَ الْإِسْنَادِ -: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ
سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ بِلَالٍ؛ أَنَّهُ قَالَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "هَكَذَا أَمْلَى عَلَيْنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَصله... الثَّوْرِيِّ عَنْ
عَاصِمٍ فَقَالَ: عَنْ بِلَالٍ. والرُّوَاةُ إِنَّمَا يَقُولُونَ فِي هَذَا
الْإِسْنَادِ: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فانظر يا صاحب النظرية الشاذة كيف يحرص ابن خزيمة على ثبوت
الاتصال بالسماع، فينبّه إلى من يقول: "عن فلان" و"أن
فلاناً"، ويصفه بأنه غريب.
وأخرج أيضاً (2/814) (1686) قال: - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ الْمِقْدَامِ، قال: حدثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَرْأَةُ
عَوْرَةٌ، وَإِنَّهَا إِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَإِنَّهَا لَا
تَكُونُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ أَقْرَبَ مِنْهَا فِي قَعْرِ بَيْتِهَا». أَوْ كَمَا
قَالَ.
قال: أخبرنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قال: أخبرنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ - يَعْنِي الدِّمَشْقِيَّ-، قال: حدثَنَا سَعْدُ بْنُ
بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بِمِثْلِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "وَإِنَّمَا قُلْتُ: وَهل سَمِعَ
قَتَادَةُ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ! لِرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، لِأَنَّهُ
أَسْقَطَ مُوَرِّقًا مِنَ الْإِسْنَادِ. وَهَمَّامٌ وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ
أَدْخَلَا فِي الْإِسْنَادِ مُوَرِّقًا، وَإِنَّمَا شَكَكْتُ أَيْضًا فِي
صِحَّتِهِ، لِأَنِّي لَا أَقِفُ عَلَى سَمَاعِ قَتَادَةَ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ مُوَرِّقٍ".
وذكر في «صحيحه» (2/941): «بَاب أَمْرِ الْمُجَامِعِ
بِقَضَاءِ صَوْمِ يَوْمٍ مَكَانَ الْيَوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ إِذَا لَمْ
يَكُنْ وَاجِدًا لِلْكَفَّارَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا قَبْلُ إِنْ صَحَّ الْخَبَر،
فَإِنَّ فِي الْقَلْبِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ».
قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، قال: أخبرنَا
حُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة: أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى
النَبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ وَقَعَ بِأَهْلِهِ فِي
رَمَضَانَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «فَصُمْ يَوْمًا،
وَاسْتَغْفِرِ اللَّه».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "هَذَا الْإِسْنَادُ
وَهْمٌ".
قال: "الْخَبَر عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ
بْنِ عَبْدالرَّحْمَن، هُوَ الصَّحِيحُ لَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ. وَقَدْ
رَوَى أَيْضًا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ
أَبِيه، عَنْ جَدِّهِ مِثْلَ خَبَر الزُّهْرِي. وَقَالَ فِي خَبَر عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ كُرَيْبٍ
وَهَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: حدثَنَا أَبُو خَالِدٍ، قَالَ هَارُونُ: قَالَ
حَجَّاجٌ: وَأَخْبَرَني عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْعَلَاءِ: عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ: حدثننَا
عَبْدالرَّزَّاق، قال: أَخْبَرَنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: الْحَجَّاجُ بْنُ
أَرْطَاةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الزُّهْرِي شَيْئًا".
وذكر في «صحيحه» (2/1104): «بَاب إِيجَابِ الصَّدَقَةِ فِي
الزَّبِيبِ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَفِي الْقَلْبِ مِنْ هَذَا
الْإِسْنَادِ، لَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ مِمَّا سَمِعَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مِنْ
جَابِرٍ».
قال: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قال: حَدَّثَنَا
مَنْصُورُ بْنُ زَيْدٍ الْمَوْصِلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ
-يَعْنِي الطَّائِفِيَّ- عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِاللَّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ زَكَاةٌ فِي كَرْمِهِ وَلَا زَرْعِهِ إِذَا
كَانَ أَقُلَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ».
وذكر أيضاً (2/1112): «بَاب ذِكْرِ أَخْذِ الصَّدَقَةِ
مِنَ الْمَعَادِنِ إنَّ صَحَّ الْخَبَرُ، فَإِنَّ فِي الْقَلْبِ مِنَ
اتِّصَالِ هَذَا الْإِسْنَادِ».
قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا
نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ
الدَّرَاوَرْدِيُّ- عَنْ رَبِيعَةَ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ- عَنِ
الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ مَعَادِنِ الْقَبِيلَةِ الصَّدَقَةَ، وَأَنَّهُ
أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ
قَالَ لِبِلَالٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُقْطِعْكَ لِتَحْجِزَهُ عَنِ النَّاسِ، لَمْ يُقْطِعْكَ إِلَّا لِتَعْمَلَ.
قَالَ: فَقَطَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ الْعَقِيقَ».
وروى أيضاً في «صحيحه» (1/242) (408) قال: أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعِجْلِيُّ،
قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ:
كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةُ
مُؤَذِّنِينَ: بِلَالٌ، وَأَبُو مَحْذُورَةَ، وَعَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا أَذَّنَ
عَمْرٌو فَإِنَّهُ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ، وَإِذَا أَذَّنَ
بِلَالٌ فَلَا يَطْعَمَنَّ أَحَدٌ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَمَّا
خَبَرُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، فَإِنَّ فِيهِ
نَظَرًا. لِأَنِّي لَا أَقِفُ عَلَى سَمَاعِ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا الْخَبَرَ مِنَ
الْأَسْوَدِ".
والأمثلة على ذلك كثيرة في كتاب ابن خزيمة في عنايته بالسماع
الذي يحقق الاتصال، وأن الأحاديث التي ليس فيها سماع - أو ثبت السماع بين رواتها
في غيرها- ليست على شرطه بخلاف ما فهمه المْحِمْدِي! وأتى بمذهب شاذ لا علاقة لابن
خزيمة به.
ونختم بهذه القاضية من كتاب ابن خزيمة «التوحيد» (1/244)
قال: حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْـرِ بْنِ سَابِقٍ الْخَوْلَانِيُّ، قَالَ: حدثنا
أَسَدٌ، قَالَ: حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ
زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «مَا بَيْنَ سَمَاءِ
الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ
سَمَاءٍ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ
وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ السَّمَاءِ،
وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ».
قال ابن خزيمة: وقَدْ رَوَى إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ - أَظُنُّهُ عَنْ عُمَرَ - أَنَّ
امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتِ: ادْعُ
اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَعَظَّمَ الرَّبَّ جَلَّ ذِكْرُهُ،
فَقَالَ: «إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ لَهُ
أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ إِذْ رُكِبَ مِنْ ثُقْلِهِ».
قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الدَّوْرَقِيُّ، قَالَ: حدثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ: حدثنا
إِسْرَائِيلُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَدْرِي الشَّكَّ وَالظَّنَّ أَنَّهُ عَنْ
عُمَرَ، هُوَ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ، أَمْ مِنْ إِسْرَائِيلَ قَدْ
رَوَاهُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، مُرْسَلًا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عُمَرَ، لَا
بِيَقِينٍ، وَلَا ظَنٍّ.
قال: "وَلَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ شَرْطِنَا؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ لَسْنَا نَحْتَجُّ فِي هَذَا
الْجِنْسِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمَرَاسِيلِ الْمُنْقَطِعَاتِ".
ولما نشرت هذا خرج علينا المْحِمْدِي ينسبنا للجهل!!
فقال: "ثم إن عدم تفريقك بين السماع
والاتصال يكشف للقارئ مستواك العلمي، فلا أعرف عالما على وجه الأرض لا يفرق
بينهما! وانظر أي كتاب في مصطلح الحديث أيها المجدد الألمعي يوضح لك ذلك، فأين
السماع في الإجازة، والمناولة، والمكاتبة، ولو كنت تمتلك أيسر أدوات العلم لما
فضحت نفسك بإنكار ذلك".
أقول:
هذا كذب صراح! لم يكن حديثك عند
كلامك على الفرق بين السماع والاتصال على دخول الإجازة والمكاتبة والمناولة في
الاتصال!! فهذا كما ذكرت أنت موجود في كل كتب مصطلح الحديث، ولا يعرفه فقط المبتدئ
في طلب الحديث، بل كثير من الناس ممن لم يطلبوا الحديث!
فيا أيها المدلِّس لا فرق في
السماع والاتصال الذي تريد أن تقرره أنت بفكرتك الشاذة والتي نسفناها نسفا! فلم
تجد ردا إلا هذا الهراء الذي كشف عمق الجهل الذي أنت فيه!!
ألم تجد مهرباً إلا هذا؟!!
هات كلامك فيما قلته سابقا أنك
قصدت دخول هذه الطرق في الاتصال!
كفاك تدليساً وكذباً!
كلامك كان واضحا فيمن نفى السماع
وصحح الحديث! فقلت إن نفي السماع لا يعني تضعيف الحديث بذلك، لأنه قد ينفى السماع
ويكون الحديث صحيحا متصلا! وضربت على ذلك مثال قول ابن خزيمة في أن الحسن لم يسمع
من ثوبان! وقد نسفنا هراءك في ذلك نسفا فجعلناه قاعا صفصفا بعون الله ومدده.
وكذا غمزت بل صرحت بأن الدارقطني
أخطأ في استدراكاته على البخاري بمسألة نفي السماع، والأحاديث متصلة! فهل لو كان
القصد من ذلك المكاتبة والإجازة والمناولة كان الدارقطني استدرك ذلك؟! أم أن
الدارقطني جاهل بالإجازة والمناولة؟!
وكذا قلت وأنت تعيب على طلبة
العلم بأن لا يذهبوا لمراسيل أبي حاتم والبدء في استخدام نفي السماع وتضعيف
الأحاديث بذلك!!
فهل فيه أمثلة على نفي سماع فلان
من فلان، ونازعه غيره بأن الاتصال متحقق بالإجازة أو المناولة أو المكاتبة!!
فطرق التحمل هذه معتبرة ولا نزاع
فيها، ولم يطعن أحد مما في الصحيحين من ذلك.
فأي كذب هذا الذي وقعت فيه؟!! وأي
تدليس وجهل هذا!!
لما فضحناك جئت بفضيحة أشد منها!
13- افتراضاته الوهمية في نقد عبارة
ابن معين في تعيين أبي قتادة!!
- قال المْحِمْدِي في (ص21): "الوقفة الثالثة: استدلال
الدكتور الحايك برواية الدوري عن ابن معين قوله: "كّل شيء يروى عن ابن سيرين،
وعن البصريين عن أبي قتادة، فهو أبو قتادة العدوي".
قلت: هذا اقوى دليل استند إليه الحايك وراح يحمل كل (أبي
قتادة) برواية البصريين وابن سيرين على أنها العدوي، وهو قول عام يحتاج الى تفصيل:
بدءا فكلام ابن معين على العين والرأس، وهو أجل من تكلم في الرجال في طبقته، والاشكال
ليس في كلامه ههنا، وإنما في توجيهه وتنزيله في غير محله، فالرجل لم يقصد ما ذهب
إليه الحايك في نفي سماع الزماني من ابي قتادة الأنصاري، فهو يتحدث عن حالة معينة أنه
لو جاء ذكرأبي قتادة هكذامطلقا غيرمنسوب، وليس الأمر هكذا في حديثنا هذا، فأبو
قتادة جاء مصرحا به من عدة وجوه كلها صحيحة، والخطأ الشنيع هو في فهم
الدكتورالحايك فحسب" انتهى كلامه.
أقول:
بل الخطأ الشنيع في فهمك أنت أيها (الجاهل المتعالم)!!
كلام ابن معين عام نابع من استقراء عنده، فكل من يروي عنه
البصريون عن (أبي قتادة) فهو العدوي، سواءا أكان منسوبا أم غير منسوب.
وتنزلا على فهم هذا (المتعالم) أن ابن معين قالها في حالة
معينة وهي إذا جاء أبا قتادة غير منسوب، فنقول له: الأصل في رواية الزماني عن أبي
قتادة أنه أصلا غير منسوب، والنسبة جاءت من غيلان لما سأله شعبة عنه، وهذا ما ناقشنه
في البحث وركزنا عليه! لكن هذا المتعالم لا يريد أن يفهم ذلك! لأنه وضع نظارة
سوداء على عينيه وهو يقرأ!!
والتصريح في الأسانيد الصحيحة أنه "الأنصاري" لم
نخفه، وقد بيناه وأنه جاء بسبب ذلك السؤال، فافهم.
على أن كلام ابن معين وهو إمام في النقد فيه إشارة إلى أنه
حتى لو جاءت رواية لبصري عن "أبي قتادة" منسوباً، فهو العدوي، لأنه بصري
منهم، ولا يعرف غيره عندهم، وكأني به يرد على من يقول بأن أبا قتادة في حديث
الزماني هو الأنصاري، ويقول: "لا، هو العدوي".
ثم أليس قال أبو حاتم في حديث رواه أحد البصريين عن أبي
قتادة بن ربعي الأنصاري، فقال إن هذا وهم، وهو: تميم بن نذير العدوي.
فهذا قد نُسب في الإسناد فيجب علينا قبوله، لا أن نقول إنه
العدوي بحسب تفسير (المتعالم)! فبأي شيء قبلت كلام أبي حاتم هنا، والحاصل أنه وافق
ابن معين في قاعدته هذه!
وسيأتي مزيد كلام على هذا التعليل الذي ذكره أبو حاتم
لاحقا، وكيف ساقه (المتهور) وهو إنما سرقه من بحثي!
- وقال المْحِمْدِي (ص21-22): "وتنزلا في النقاش
نقول:
1- لو سلمنا جدلا به وأن ابن معين قصد ذلك على العموم فهو
رأيه ومذهبه، وقد خالفه شعبة وهو أرسخ قدما وأعلم في الرجال، وهو راوي الحديث اصلا.
وكذا خالفه أئمة جبال في الرجال، كأحمد والبخاري ومسلم، وأبي حاتم وأبي زرعة،
والعقيلي، وابن عدي ...الخ فهو قول واحد أمام جملة أقوال. ثم أسأل أين هذه
الروايات التي ذكرها ابن معين؟ هل ذكر لنا الحايك رواية أخرى للزماني عن أبي قتادة
العدوي؟" انتهى.
أقول:
أولاً: قول ابن معين نابع من استقراء، ولولا ذلك لما قال
ما قال، وقوله هذا لا يُعارض بمن مشى على ظاهر النسبة التي ذكرها شعبة لغيلان لما
سأله.
فلما سلّم شعبة لهذا، وصار الحديث "عن أبي قتادة
الأنصاري" مشى على هذا من بعده، وهذا لا يضرهم، ولا يقدح فيهم أبداً،
فالأحاديث كثيرة جداً، والرجال الذين يتعاملون معهم بعشرات الآلاف، فإذا مشوا على
الظاهر في بعضها، فهذا لا ينقص من قدرهم وعلمهم.
ثانياً: قول (المتعالم) إن شعبة أرسخ قدماً من ابن معين في
الرجال مردود عليه! فكلاهما من أعلم الناس بالرجال، وترجيح واحد على آخر من
الصعوبة بمكان، وابن معين أكثر كلاما في الرجال من شعبة، ومثله أكثر خبرة في مسائل
الاستقراء.
ثالثاً: سؤال (المتعالم) عن هذه الروايات التي تكلم عنها
ابن معين، وهل يذكر لنا الحايك رواية أخرى للزماني عن أبي قتادة سؤال غبي يدل على
مبلغه من العلم!!
أهكذا يكون التعامل مع كلام أهل العلم؟!! فهل ابن معين
يلعب معنا؟!!
ابن معين أعطانا قاعدة عامة من خلال استقرائه، وهي تنسحب
على كل روايات البصريين عن أبي قتادة.
ولو كنت تقرأ أيها (المتعالم) لما سألت هذا السؤال العيي!
فقد ذكرت بعضها في بحثي وهي منثورة في كتب أهل الحديث، وقد جمعتها بفضل الله من
سنوات، وتأكدت بذلك من صحة ما قاله ابن معين، فلله دره من إمام.
ومنها ما رواه مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ إِيَاسِ
بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «صَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ، وَصَوْمُ
عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ الْمَاضِيَةَ وَالْمُسْتَقَبَلَةَ».
فإياس بن حرملة بصري إن كنت لا تعلم.
ومنها ما رواه ابن ماجه من طريق هِشَامِ بنِ حَسَّانَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ،
فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ».
ومحمد بن سيرين بصري إن كنت لا تعلم، وهو من نصّ عليه ابن
معين في قاعدته.
ومنها ما أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (22/174) (452)
من طريق عُبَيْداللهِ بن عَمْرٍو، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ
أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ
السَّاعَةِ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ».
وما أخرجه أيضاً (22/177) (460) من طريق يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْعَدَوِيِّ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ».
وأبو قلابة بصري إن كنت لا تعلم!
وانظر كيف جاء "أبو قتادة" مهملا في الأول، وفي
الثاني منسوبا "العدوي".
وفي هذا كفاية لمن كان عنده فهم ودراية!
- وقال المْحِمْدِي (ص22): "ثم لو سلمنا - جدلا - فكلام
ابن معين واضح: كل حديث البصريين وابن سيرين عن أبي قتادة (غير منسوب) فهو العدوي،
وأبو قتادة ههنا جاء مصرحا به (الأنصاري)، فلا ينطبق على هذه القاعدة" انتهى.
أقول:
هذا مبلغك من العلم! وقد قيل قديماً: "عدو عاقل خير
من صديق جاهل"! فكيف بعدو جاهل! وإلى الله المشتكى!
هذا ليس مفهوم كلام ابن معين لمن كان يفهم! ولا نؤاخذك على
هذا الفهم، فهذا أقصى ما عندك منه.
من أين أتيت بهذا التقييد في كلام
ابن معين، وأنه يقصد ما جاء فيه "عن أبي قتادة" غير منسوب؟!!
أتظن أن ابن معين - وهو من هو في معرفة الرجال - يقول هذا
ويقصد التقييد؟ ألا يعلم أن هناك من ينسب بعض الرواة خطأ في الأسانيد! ولهذا تجده
يبين مثل هذه الأمور الدقيقة لئلا تختلط على الرواة وأهل العلم.
قال عباس الدوري [تاريخ ابن معين - رواية الدوري (4/234) (4116):
سَمِعت يحيى يَقُول: "حَمَّاد بن سَلمَة سمع من شيخ يُقَال لَهُ: أَبُو
أَيُّوب، وَمَا روى عَن أبي أَيُّوب غير هذا، فَهُوَ الَّذِي يروي قَتَادَة عَن
أبي أَيُّوب، وَبَعْضهمْ يَقُول: أَبُو أَيُّوب الْعَتكِي، وَبَعْضهمْ يَقُول:
الْأَزْدِيّ، والأزد من العتيك".
فهنا يُنبه ابن معين على أن أبا أيوب هذا الذي سمع منه
حماد هو نفسه الذي روى عنه قتادة لئلا يظن أحد أن هذا الذي يروي عنه قتادة هو
"الأنصاري"؛ لأن أبا أيوب إذا أطلق بعد ذكر التابعي فهو
"الأنصاري".
فسبحان الله.. هذا ينطبق على حديثنا هذا، فكما قلت مرارا
لما رأى شعبة أن أبا قتادة الذي ذكر في الحديث بعد التابعي فسأل عنه والأصل أن
يكون صحابيا، وأبو قتادة المشهور في الصحابة هو الأنصاري، ومن هنا دخل الخطأ على
غيلان، ومشى شعبة ولم يُدقق في الأمر.
تنبيه:
قال عبّاس الدوري [تاريخ ابن معين - رواية الدوري (3/513)
(2501)]: سَأَلت يحيى عَن حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن أبي الْخَلِيل، من أَبُو الخَلِيل
هَذَا؟ قَالَ: "لا أَدْرِي"، قلت لَهُ: هذا الَّذِي يرْوي عَن أبي
قَتَادَة؟ قَالَ: "لا أَدْرِي".
ها النص فيه تحريف يُبينه ما ذكره الدولابي في «الأسماء والكنى» (2/513) فيمن كنيته «أبو الخليل»، قال: سَمِعْتُ العَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: قَالَ يَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ: "أَبُو الْخَلِيلِ صَاحِبُ قَتَادَةَ اسْمُهُ: صَالِحُ بْنُ أَبِي
مَرْيَمَ".
قال: حَدَّثْنَا العَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ:
سَأَلْتُ يَحْيَى، عَنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ مَنْ
أَبُو الخَلِيلِ هَذَا؟ قَالَ: «لَا أَدْرِي»، قُلْتُ: هَوَ أَبُو الْخَلِيلِ الَّذِي
رَوَى عَنْه قَتَادَةَ؟ قَالَ: «لا».
فصاحب قتادة هو أبو الخليل: صالح بن أبي مريم الضبعي البصري، وهو ثقة، خرّج له
البخاري ومسلم، وهو الذي روى عنه قتادة حديث عرفه عنه عن حرملة بن إياس عن أبي
قتادة.
وابن معين يعرفه كما روى عباس الدوري.
لكن الذي لم يعرفه ابن معين هو الذي يروي عنه أبو إسحاق الهمداني وهو أبو الخليل
عبدالله بن الخليل الهمداني الكوفي، ويروي عن عليّ رضي الله عنه.
هذا: وإن أصر هذا (المتعالم) على
أن ابن معين قصد من روى من أهل البصرة عن أبي قتادة غير منسوب! وأما من جاء منسوبا
فهو على ما نُسب، فنلزمه بالحديث الذي جاء عن أحد البصريين عن أبي قتادة ربعي
الأنصاري، منسوباً هكذا، لكن أبا حاتم قال بأن هذا خطأ! والصواب أنه العدوي
التابعي، وقد احتج بهذا (المتعالم) علينا في تخطئتنا لأبي حاتم في بعض الأمور كما
سيأتي بيانه إن شاء الله.
وتكرار قوله إن أبا قتادة ههنا جاء مصرحا به (الأنصاري)،
فلا ينطبق على هذه القاعدة! فهذا لأنه لا يفهم! أو لا يريد أن يفهم كيف نُسب في
الإسناد!
وهل كان ليخفى على ابن معين وهو أمير المؤمنين في الرجال
لو دخل أبو قتادة الأنصاري البصرة وروى عنه أهلها!!
وهل يعقل أن يدخل البصرة ولا نجد حديثه إلا عند الزماني!!
ثم إنّ غالب روايات الحديث لا
يُنسب فيها "أبو قتادة" كما بينته في أصل البحث.
- وقال المْحِمْدِي (ص22): "وأما
حمل كلام ابن معين على أنه ينفي رواية أهل البصرة عن أبي قتادة الأنصاري فهو غلط
كبير! ومثل ابن معين لا يقول ذلك! ورواية أهل البصرة وابن سيرين مشهورة عن أبي
قتادة الأنصاري، وروايتهم عنه في كتب شيوخه، ورفاقه كمسند عبدالرزاق ومسند أحمد
وغيرهما، والرواية مشهورة ثابتة عن شعبة وقتادة وغيرهم! بل أزعم أن كلام ابن معين
يدل على أنه يثبت رواية البصريين وابن سيرين عن الأنصاري، وإلا فلا معنى لتخصيصه
بأبي قتادة من غير نسبة!ّ لو كان البصريون وابن سيرين لا يروون إلا عن العدوي فلا
معنى لهذا الكلام أصلا!" انتهى.
أقول:
أبهرني حقيقة هذا التحليل، وهذا
التفكير، وهذا التهويل!!! فهذا المتعالم يتكلم بأشياء لا حقيقة لها في الواقع!!
أولاً: هات الروايات التي يرويها
أهل البصرة عن أبي قتادة الأنصاري غير هذه الرواية المتنازع عليها هنا؟!
وأثبت لنا شهرة رواياتهم عن أبي
قتادة الأنصاري؟!
ثانياً: رواية البصريين عن أبي
قتادة الأنصاري التي في كتب شيوخ ابن معين ورفاقه هي هذه الرواية فقط من حديث
الزماني البصري، ومن حديث حرملة بن إياس البصري، ورواية ابن سيرين لما نزل عندهم.
فإذا عندك روايات أخرى، فعجّل لنا
بها!! وهذا مسند الإمام أحمد أمامك وهو أكبر مسند لا يوجد فيه من روايات البصريين
عن أبي قتادة إلا هذه الثلاثة التي ذكرتها آنفا، حديث عرفة بطريقيه، ونزوله عند آل
سيرين، وغالب روايته يرويها عنه ابنه عبدالله.
ثالثاً: لو كان ابن معين يثبت
روايات البصريين وابن سيرين عن أبي قتادة الأنصاري لما كان الكلام الذي قاله خلاف
هذا الفهم الذي فهمه (المتعالم)!!
فلم يحتاج لأن يقول هذا الكلام
إذا كانت رواية البصريين وابن سيرين عن الأنصاري ثابتة!
ابن معين - رحمه الله - يريد أن
يُنبّه على أن أبا قتادة الذي يروي عنه البصريون وابن سيرين فهو
"العدوي" لئلا يتوهم أحد أنه "الأنصاري".
وانظر ذكره هنا لابن سيرين، فهذا
يؤكد أن كل رواية لابن سيرين عن أبي قتادة فهو العدوي لا الأنصاري، وسيأتي مزيد
كلام حول نزوله على بيت آل سيرين.
- وقال المْحِمْدِي (ص22-23):
"مع أننا لا نشكك أن ابن معين لم يقصد ما تذرعتم به، لكن من قال إن كلام ابن
معين يلزم الأئمة من أقرانه بل وشيوخه؟ وكم من مرة ينفي سماع راوٍ ويثبت السماع
عند غيره من أئمة النقد من طريق آخر، وكم من رجل يوثقه ويضعفه غيره، بل قد يطلق
مثل هذه العبارة العامة ويخالفه أقرب الناس إليه، تلميذه الدوري ومن ذلك:
قال الدوري: "سمعت يحيى يقول
(كل شيء) روى شعبة عن أبي هارون فهو الغنوي، لم يحدث عن أبي هارون العبدي بشيء.
وقال لي غير يحيى: إن شعبة قد روى عن أبي هارون العبدي".
فتأمل ههنا في عبارة ابن معين هذه
بل ونفيه روايته عن العبدي أصلا، ثم كيف يخالفه الدوري فيها ولا يسلم له! وهذه مثل
تلك" انتهى كلامه.
أقول:
ما شاء الله..!! إيش هذه الفخامة!
أولاً: لا تشكك في أن ابن معين لم
يقصد ما تذرعنا به دون تقديم أي دليل على ذلك؟! أهكذا هو النقد العلمي؟!!
ونحن لا نشكك أنك لم تفهم كلام
ابن معين! وأنّى لك ذلك! وقد أقمنا عشـرات الأدلة على نفي الشك هذا بخلاف دعاويك
الفارغة.
ثانياً: لم يقل أحد إن كلام ابن
معين يلزم الأئمة من شيوخه وأقرانه!
لكن أين أقوالهم المخالفة لكلامه
في هذه المسألة؟
هل اعترض أحد على كلامه هذا؟ وهل
خالفه أحد من شيوخه وأقرانه؟!
إن كنت تقصد مشيهم على ما أقره
غيلان من سؤال شعبة له أنه "الأنصاري"! فهذا لا يُعد مخالفة له!
فهل وقفوا على قوله حتى نقول إنهم
خالفوه؟!!
وهل سئل أحد منهم عن هؤلاء
البصريين الذين يروون عن أبي قتادة فذكروا أنه أخطأ في كلامه؟!
بل إن أبا حاتم قال في رواية
رواها بصري عن أبي قتادة الأنصاري وهو منسوب بأنه العدوي!
وهذا مطابق تماماً لكلام ابن معين
لا مخالف له.
ثالثاً: مسألة نفيه لسماع راو من
آخر وإثبات غيره له، أو توثيقه لرجل يضعفه غيره، فهذا لا محل له هنا في مسألتنا!
فلسنا بصدد راو وثقه ابن معين
ضعفه غيره، ولا راو نفى سماعه أثبته غيره!
وإنما يُنبه على أن ما يرويه
البصريون عن "أبي قتادة" فهو العدوي البصري، فلا يظنن ظان أنه
"الأنصاري الصحابي"، وتخصيصه لذكر محمد بن سيرين يدل على أن من نزل
عندهم هو العدوي لا الأنصاري.
رابعاً: لا أدري كيف فهم هذا
(المتعالم) أن ابن معين يطلق العبارة ويخالفه أقرب الناس إليه وهو تلميذه!
تأمل أنت أيها (المتعالم) فلا تجد
التلميذ يخالف شيخه!
قال الدوري: سَمِعت يحيى يَقُول: كل شَيْء روى شُعْبَة عَن
أبي هَارُون فَهُوَ الغنوي، لم يحدّث عَن أبي هَارُون الْعَبْدي بِشَيْء".
قال الدوري: "وقَالَ لي غير يحيى: إِن شُعْبَة قد
روى عَن أبي هَارُون العَبْدي".
وقد رُوي عن أحمد أنه هو من قال بأن شعبة روى عنه.
ذكر الدولابي في «الكنى والأسماء» (3/1142)
قال: سَمِعْتُ العَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ
قَالَ: "اسْمُ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عُمَارَةُ بْنُ جُوَيْنٍ. وَاسْمُ
أَبِي هَارُونَ الْغَنَوِيِّ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ".
قَالَ: وَسَمِعْتُ يَحْيَى
يَقُولُ: «كُلُّ شَيْءٍ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي هَارُونَ، فَهُوَ الْغَنَوِيُّ،
لَمْ يُحَدِّثْ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ بِشَيْءٍ».
قال الدولابي: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ
بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَبُو هَارُونَ الْغَنَوِيُّ
رَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ».
ثم روى من طريق شُعَيْب بن
حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: "لِأَنْ أَقْدَمَ فَتَضْرِبَ
عُنُقِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ: أَبُو هَارُونَ الْغَنَوِيُّ".
قلت: عباس الدوري لم يخالف ابن معين
كما ادّعى هذا (المتعالم)، بل هو زاد شيئا يناسب الحال، وهو أن غير يحيى قال بأن
شعبة روى عنه، والظاهر أنه يخالف من خالف شعبة لعدم ذكره من هو الذي أخبره بأن
شعبة روى عن العبدي!
ويبدو أنه أحمد كما روى الدولابي
عن ابنه عبدالله.
فلو كان الدوري يخالف شيخه لصاح
بذكر من أخبره بأن شعبة حدث عن العبدي، لكنه لم يخالفه، ولا يوجد ما يدل على ذلك.
وظاهر صنيع الدولابي أن ما رُوي
عن أحمد من رواية شعبة عن أبي هارون العبدي لا تصح أو أنه يرجح قول ابن معين عليه؛
لأنه ساق قول شعبة في أنه لو ضربت عنقه أحبّ إليه من أن يروي عن العبدي.
وقال علي بن المديني: سَمِعْتُ يَحْيى
يَقُولُ: قَالَ شُعْبَة: "كنت أتلقى الركبان أيام الخراج أسأل عَن أَبِي
هَارُونَ العبدي، فلما تقدم أتيته فرأيت عنده كتاباً فيه أشياء منكرة فِي عليّ!
فقلت: ما هَذَا الكتاب؟ فَقَالَ: هَذَا الكتاب حق".
قال ابن معين: "كانت لَهُ
صحيفة يَقُولُ هَذِهِ صحيفة الوصي".
وقال بهز بن أسد: سَمعتُ شُعْبَة
يَقُولُ: "أَتَيْتُ أَبَا هَارُونَ العَبْدِيَّ فَقُلْتُ: أَخْرِجْ إِلَيَّ
مَا سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي سَعِيد، قَالَ: فَأَخْرَجَ إِلَيَّ كِتَابًا فإذا فيه:
حَدَّثَنا أَبُو سَعِيد: أَنّ عُثْمَانَ أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ وَإِنَّهُ لَكَافِرٌ
بِاللَّهِ، قالَ: قُلتُ تُقِرُّ بِهَذَا أَوْ تُؤْمِنُ؟ قَالَ: هُوَ عَلَى مَا
تَرَى. قَالَ: فَدَفَعْتُ الْكِتَابَ فِي يَدِهِ وقمت".
وقال مُعَلَّى بنُ خَالِدٍ، قَال:
قَال لِي شُعْبَة: "لَوْ شِئْتُ أَنْ يُحَدِّثَنِي أَبُو هَارُونَ
الْعَبْدِيُّ، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ بِكُلِّ شَيْءٍ أَرَى أَهْلَ وَاسِطٍ
يَضَعُونَهُ بِاللَّيْلِ لفعلت".
ونقل مغلطاي قال: "وفي تاريخ
البخاري قال شعبة: قال لي حماد بن زيد: في نفسك من أبي هارون شيء؟ قلت: يكفيني هذا
منك".
وقال: "وفي «الكنى»
للنسائي: أنبأنا يعقوب بن سفيان: حدثنا عبدالله بن عثمان، عن أبيه قال: قال شعبة:
كنت لو قيل لي: تدخل الجنة أو تلقى أبا هارون ثم تدخل الجنة؟ فقلت: بل ألقاه، قال:
فلقيته فإذا هو لا شيء".
قلت: وكل ما روي عن شعبة من هذه
التصريحات البينة عن أبي هارون العبدي تؤيد قول ابن معين أن شعبة لم يرو عنه،
وإنما الذي روى عنه الغنوي، فأراد ابن معين أن ينبه على ذلك لئلا يختلط على بعضهم.
وربما يحصل تحريف وتصحيف بين «الغنوي» و«العبدي» فالرسم نفسه.
قال ابن حجر في «تعجيل
المنفعة» (2/553)
في ترجمة «أبي
هارون الغنوي»: "وقَالَ ابن الجَوْزِيّ فِي الضُّعَفَاء: قَالَ
شُعْبَة: «لِأَن أقدم
فَيضْرب عنقي أحب إليّ من أَن أَقُول حَدثنَا أَبُو هَارُون الغنوي»، كَذَا
قَالَ! فصحف، وَإِنَّمَا قَالَ شُعْبَة ذَلِك فِي أبي هَارُون الْعَبْدي، وَقد
نَقله ابن الْجَوْزِيّ فِي تَرْجَمَة «العَبْدي» على
الصَّوَاب. وَكَيف يظنّ شُعْبَة أَنه يَقُول فِي شخص مَا يَقُول ثمَّ يرْوي
عَنهُ، فَالْحق أَن الَّذِي روى عَنهُ شُعْبَة إِنَّمَا هُوَ الغنوي
وَالَّذِي قَالَ فِيهِ مَا قَالَ إِنَّمَا هُوَ الْعَبْدي واسْمه عمَارَة بن
جُوَيْن، والله اعْلَم".
وعليه فالصواب ما قاله ابن معين،
ولم يخالفه تلميذه كما توهمه ذاك (المتعالم)!
وقد فتشت ملياً على أن أجد رواية
لشعبة عن أبي هارون العبدي، فلم أظفر بشيء! لا في «مسند أحمد» ولا في الكتب التي
نقلت عن أحمد أقواله في الرجال!
ونقل مغلطاي عن الساجي أنه قال عن
أبي هارون العبدي: "روى عنه شعبة".
قلت: ربما أخذ الساجي هذا مما
نُقل عن أحمد، ولم يصح، والله أعلم.
وهنا تعميم آخر لابن معين في بيان
عمر بن عطاء الراوي عن عكرمة رواه عنه الدوري أيضاً قال: سَمِعت يحيى يَقُول: "كل
شَيْء عَن عِكْرِمَة هُوَ عمر بن عَطاء بن وراز، وهم يضعفونه. وعمر بن عَطاء بن أَبي الخوار هُوَ
ثِقَة" [تاريخ ابن معين – رواية الدوري (3/98) (399)].
- وقال المْحِمْدِي (ص23): "وأقول من باب مشاححته كما
شاحح النقاد -كل النقاد -: لو سلمنا جدلا لك بأن كل رواية للبصريين عن أبي قتادة
فهو العدوي فهذا يعني إبطال دليلك في كلام البخاري آنفا، فإنه قال: عبدالله بن
معبد الزماني البصري عن أبي قتادة، روى عنه حجاج بن عتاب وغيلان بن جرير، وقتادة،
ولا نعرف سماعه من أبي قتادة". فهذا بصري روى عن أبي قتادة (غير منسوب) فإذن
البخاري ينفي سماع الزماني من أبي قتادة العدوي لا الأنصاري! على فهمك لكلام ابن
معين! فإما الاعتراف بغلط فهمك أو الوقوع في التناقض. فيا رعاك الله: أبو قتادة إذا
أطلق فلا بد من النظر إلى طبقته ومن روى عنه قبل المجازفة يا سعادة الدكتور، وكلام
ابن معين هذا لا يحتمل كل هذه الظنون" انتهى كلامه.
أقول:
عظّم الله أجرنا في علم الحديث..!!
لا أدري كيف يفكّر هذا الإنسان!!
أولاً: ما هذا الإلزام العظيم الذي ألزمتني به؟!!
هل يعقل أن تأتي إلى ترجمة فرغها البخاري في «كتابه» ثم
تلزمني بسحب كلام ابن معين عليها؟!!
ما هذا الجنون!!
ما فعله البخاري أنه ذكر الترجمة التي أخذها من الحديث:
"عَبْداللَّه بْن مَعْبد الزماني البَصْرِيّ عَنْ أَبِي قتادة، روى عَنْهُ
حجاج بْن عتاب، وغيلان بن جرير، وقتادة، ولا نعرف سماعه من أبي قتادة".
فالبخاري هنا لم ينسب أبا قتادة؛ لأنه معلوم عنده كما جاء
في نسبته في بعض الأحاديث، ولو كان يذهب إلى أنه العدوي فيكون كلامه "ولا
نعرف سماعه من أبي قتادة" لا قيمة له؛ لأنه تابعي والعدوي تابعي، فلم يركز
على السماع بينهما، وهذا ليس من عادة البخاري في كتابه! والأولى أن يقول فيه:
"مرسل" [الزماني عن أبي قتادة العدوي عن النبي صلى الله عليه وسلم]،
وإنما قصد الأنصاري الصحابي، ولهذا تكلم على عدم معرفة السماع.
ويؤيده أنه قال في ترجمة "حرملة بن إياس" وهو
روى هذا الحديث أيضاً: "حرملة بن إياس الشيباني عن أبي قتادة أو عن مولى
أَبِي قتادة... وروى غيلان بْن جرير عَنْ عَبْداللَّه بْن معبد الزماني عَنْ أَبِي
قتادة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا يعرف سماع عَبْد
اللَّه بْن معبد من أَبِي قتادة".
وابن معين تحدث عن رواية البصريين عن أبي قتادة في
الأسانيد، فإذا روى أي بصري حديثا عن أبي قتادة فيكون هو العدوي، احترازا لئلا
يُظن أنه الأنصاري الصحابي لشهرته.
فلا يصح هذا الإلزام الذي قلته على فرض فهمي لكلام ابن
معين بأنه العدوي = يعني البخاري ينفي سماع الزماني من أبي قتادة العدوي!
فهذا يحتاج أولاً إلى إثبات أن البخاري وقف على كلام ابن
معين هذا، ثم كما أشرت سابقا يكون كلامه عبثاً لأنه والحالة هذه إذا كان هو
التابعي ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكتفي بقوله: "مرسل"،
ولا يحتاج لنفي السماع بين الزماني والعدوي!
وعلى فرض أن البخاري نفى سماع الزماني من العدوي، فليكن
ذلك، وفهمي غلط! وعليك بالتسليم أن الحديث حينها مرسل في موضعين: الأول: عدم سماع
الزماني من أبي قتادة العدوي، وعدم سماع العدوي من النبي صلى الله عليه وسلم!
وأين التناقض الذي سأقع فيه يا (مُسيكين)!!
هذا العقيلي وابن عدي ذكرا "عبدالله بن معبد
الزماني" في كتابيهما لقول البخاري هذا فيه على أنه يروي عن الأنصاري، ولما
ساق ابن عدي الحديث، قال في نهاية الترجمة: "وهذا الحديث هو الحديث الذي
أراده البُخارِيّ أن عَبدالله بن معبد لا يعرف له سماع من أبي قتادة"، فلا
أدري هل فهمك أدق أم فهم الحافظ أبي أحمد ابن عَدي؟!
وقال المْحِمْدِي (ص23-24): "ومن أوابد الحايك ما بناه
على وهمه في تفسير كلام ابن معين، وتنزليه على نحو ما يشتهيه هو! وسأنقله - على طوله-
ليتضح لك بعض مجازفات الحايك، إذ يقول في بحثه: "وبسبب عدم تنبه بعض أهل
العلم لما نصّ عليه ابن معين وقعوا في أوهام! فقد روى عبدالرزاق...
فتأمل في هذا الخلط العجيب الغريب! ولهٌ عجيب في تخطئة
العلماء، ومجازفة، وأي مجازفة! والسبب في هذا التخليط فهمه المغلوط لعبارة ابن
معين كما سبق، فأبو قتادة هذا الذي نزل على آل سيرين هو أبو قتادة الأنصاري
الصحابي وليس العدوي البصري التابعي، كما نص أبو حاتم. إذ جاء مصرحا به عند ابن
أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عاصم، عن ابن سيرين، قال:
«نزل علينا أبو قتادة الأنصاري، فانقض كوكب، فأتبعناه أبصارنا، فنهانا عن ذلك»... -
وقال -حدثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن: «أنه كان لا يرى بأسا أن يتبع الرجل
بصره الكوكب إذا رأى به».
فهذا تصريح بسماع ابن سيرين من أبي قتادة الأنصاري، وأن الأنصاري
دخل البصرة وهذا ما جهد الباحثان على نفيه لإبطال اتصال حديث الزماني عن أبي قتادة
الأنصاري!
وفيه أن الحسن البصري لم يسمع هذا الحديث ولو سمعه ما
خالفه، وهو يؤيد ما سيأتي من كلامنا في نفي الحسن لعظيم أجر صيام عاشوراء وعرفة،
فلعله كان خارج البصرة وقت دخول الأنصاري، أو كان فيها ولم يلقه، وهذا أمر شائع
فكم من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة لم يبلغه. فكيف بمن دون
ذلك، والمدينة المنورة أصغر من البصرة ودواعي السماع من النبي صلى الله عليه وسلم
أكبر وأكثر، فلا يستشكل بعدم معرفة الحسن بالحديث وهو بصري. فالوهم متلبس بمن لبسه
أبا حاتم والأئمة، والوهم لاحق بالحايك لا بالحافظ المبجل أبي الحجاج المزي، فابن
سيرين سمع من أبي قتادة الأنصاري بلا شك" انتهى كلامه.
أقول:
عجباً والله لهذا الحقد، وسوء العطن!!
"أوابد الحايك"!! "على نحو ما
يشتهيه"!! "خلط عجيب غريب"!! "فهمه المغلوط"!!!
"الوهم لاحق بالحايك"!!
مسكين هذا المْحِمْدِي! يتفوه بهذه الكلمات الجوفاء دون
إثباتها! وهو أحق بها كما بينته! فلا فهم عنده ولا عقل! وهو مخلط في كل شيء، وفهمه
هو المغلوط! لم يأت بفهم سديد!! ولا بشيء جديد! وهذه من صفات المتعالم البليد!
وأتحدى من يقرأ خربشاته هذه أن يأتيني بفائدة واحدة أو
معلومة جديدة أتى بها المْحِمْدِي لم أذكرها في بحثي المنشور!! فهو يسرق من بحثي
ما أوردته من نقول ونصوص ثم يحاول تحريف الأمر بفهمه الأعوج!
وكل ذلك بزعمه لأنني قلت عن أبي حاتم: "اغتر
فوهم"! وكذا عن المزي: "اغتر"!
قال المْحِمْدِي (ص27): "فلا يصح توهيم مثل أبي حاتم
بهكذا طريقة فجة! كأنه تلميذ ثانوي، حتى راح الحايك يضع له عنواناً رئيساً فقال
(وهمٌ لأبي حاتم الرازي!) ثم قال (فوهم وهما شديدا!" "قلت: اغتر أبو
حاتم الرازي).!!! وعبارات التوهيم التي لا تليق بأستاذ من اساتذتنا اليوم، ولا نجوز
إطلاقها عليه هكذا! فكيف بأبي حاتم والبخاري وأمثالهم! فأبو حاتم هو أبو حاتم!"
انتهى كلامه.
أقول:
هل هذه سُبّة لهم؟!!
يبدو أن هذه الكلمة لم يراها بصـرك، ولم تطرق سمعك من قبل!
إذ لو كنت مطلعاً على كتب أهل العلم لما استنكرتها!
وها أنا أسوق لك بعض من استعملها من أهل العلم في حقّ
الكبار:
قال الدارقطني في «الأفراد»: "ومن قال فيه عن حبيب،
عن أخيه حمزة الزيات، عن أبي إسحاق فقد وهم وهماً قبيحاً، وأخطأ خطأ عظيماً".
[أطراف الغرائب: (270)].
وقال الجوزجاني في «أحوال الرجال»: "عبدالكريم بن أبي
المخارق أبو أمية غير ثقة، فرحم الله مالكا غاص هناك في المثل، فوقع على خزفة
منكسرة أظنه اغتر بكسائه".
وقَالَ ابنُ عَبْدِالبَرِّ: "اغْترَّ مَالِكٌ
بِبُكَائِهِ فِي المَسْجِدِ، وَرَوَى عَنْهُ فِي الفَضَائِلِ".
وقال ابن كثير في «البداية والنهاية»: "... وقد اغتر
به شيخنا الذهبي، فمدحه بالحفظ وغيره".
وقال ابن حجر في «الإصابة» (2/205): "... وقد اغتر
بظاهره الطّبرانيّ..".
وقال أيضاً (3/231): "... وقد اغترّ ابن أبي
داود بظاهره...".
وقال أيضاً (5/133): "عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر
بن كلاب العامري الفارس المشهور. ذكره جعفر المستغفريّ في الصحابة، وهو غلط، وموت
عامر المذكور على الكفر أشهر عند أهل السير أن يتردّد فيه، وإنما اغترّ جعفر
برواية أخرجها البغوي...".
وقال أيضاً (6/392): "... وكأن أبا نعيم اغتر
بما ذكره الواقدي في كتاب الردة...".
وقال أيضاً (6/459): ".. وقد اغتر ابن الأثير
بما ذكره ابن منده...".
وقال (8/221): "... وقد اغترّ أبو عمر
برواية موسى بن خلف...".
فهل هؤلاء العلماء أساؤوا الأدب مع من قالوا عنهم هذه
الكلمة!!
بفضل الله ما خرجت مني كلمة سيئة تجاه هؤلاء الأئمة، فهم
أئمتنا وقدوتنا ومن بحرهم استقينا ومن كلامهم تعلمنا، لكنهم يهمون ويخطؤون، فهم بشـر،
فنستدرك عليهم بعبارات القوم كما استدركوا هم على غيرهم وكما استدرك العلماء في كل
عصر على من سبقهم ولا نخرج عن سننهم ولا جادتهم.
والرد على أوهام المْحِمْدِي فيما نقلناه عنه:
أولاً: الدعوى بالتخليط العجيب الغريب، والمجازفة في تخطئة
العلماء بسبب الفهم المغلوط لكلام ابن معين الذي بينه بحسب كلامه!
وقد بينا أن فهمه هو المغلوط، وعبارة ابن معين واضحة لا
لبس فيها! فهذا الأثر عن ابن سيرين عن أبي قتادة، وبحسب كلام ابن معين فأبو قتادة
هنا هو العدوي، ومن هنا يظهر تخصيص ابن معين لابن سيرين في عبارته هذه، لئلا يغتر
أحد فيظن أنه الأنصاري، وكأني بابن معين يحذر من هذا! وقد وقع ما كان يخشاه.
ثانياً: اعتمد المْحِمْدِي في إثبات أن ابن سيرين سمع أبا
قتادة الأنصاري الأثر الذي رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» عن عبدالرحيم بن سليمان الطائي، عن
عاصم الأحول، عن ابن سيرين، قال: «نزل علينا أبو قتادة الأنصاري،
فانقض كوكب، فأتبعناه أبصارنا، فنهانا عن ذلك».
وأنه هنا نسب "أبوقتادة" بالأنصاري!
وكان مما قلت في أصل البحث عن هذ الرواية: "ما جاء في الإسناد «الأنصاري» خطأ!! وهو تحريف!
والصواب: «البصري»".
وأقول الآن، بل أظن أن بعضهم نسبه فوهم فيه!
لأن هذا الأثر رواه البغوي في «شرح السنة» (4/395) من طريق أَبي مُعَاوِيَةَ
الضرير، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي
قَتَادَةَ عَلَى سَطْحٍ، فَانْقَضَّ نَجْمٌ، فَأَتْبَعْنَاهُ
أَبْصَارَنَا، فَنَهَانَا، وَقَالَ: «لَا تُتْبِعُوا بِأَبْصَارِكُمْ، فَإِنَّا
كُنَّا نُنْهَى عَنْ ذَلِكَ».
فهنا رواه أبو معاوية الضرير وهو محمد بن خَازم الحافظ
الثقة عن عاصم بن سليمان الأحول البصري ولم ينسبه، وكل روايات هذا الأثر لا ينسب
فيها إلا في رواية ابن أبي شيبة عن عبدالرحيم بن سليمان عن عاصم، وفي رواية الضرير
عن عاصم ليس فيها نسبة، وهذا يدل على أن النسبة إما من الرواة أو زيادة في النسخ،
وهذا يحدث كثيراً لمن له خبرة في معرفة الرواية والنُّسخ.
ومن البدهي عند طلبة الحديث أن جمع الروايات يساعد في
الوصول إلى المطلوب، فهذه رواية عن عاصم الأحول، جاء في واحدة منها نسبة أبي
قتادة، والأخرى لا نسبة فيها، والتي لا نسبها فيها تؤيد أربع روايات أخرى من غير
طريق عاصم لا يوجد فيها نسبة، فكيف نعتمد على رواية أغلب الظن أن النسبة فيها ليست
في الأصل للجزم بأن أبا قتادة الأنصاري نزل البصرة عند آل سيرين، وسمع منه ابن
سيرين؟!!
هذا فيه تحكّم كبير! فالمعوّل على الروايات التي ليس فيها
أي نسبة، وقول ابن معين أن ما يرويه محمد بن سيرين عن "أبي قتادة" فهو
العدوي.
ثالثاً: راح المْحِمْدِي يشرّق ويُغرّب حول عدم سماع إمام
البصرة الحسن البصري من أبي قتادة الأنصاري لو كان فعلاً دخلها!
فصار يأتينا بالظنون والاحتمالات! وهذا حقيقة لا يُعاب إذا
كانت هذه الاحتمالات فيها نوع من التساؤلات أو الأشياء المنطقية، ولكن العجب كيف
يذهب هو هذا المذهب ويعيبه علينا!!
وانظروا لكلامه: "فلعله كان خارج البصرة وقت دخول الأنصاري،
أو كان فيها ولم يلقه، وهذا أمر شائع فكم من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
وبعض الصحابة لم يبلغه. فكيف بمن دون ذلك، والمدينة المنورة أصغر من البصرة ودواعي
السماع من النبي صلى الله عليه وسلم أكبر وأكثر، فلا يستشكل بعدم معرفة الحسن
بالحديث وهو بصري".
هذا قياس مع الفارق! فلا يقاس أمر الصحابة الذين كانوا
يتورعون أصلا في التحديث وهم يعرفون بعضهم، وربما كان ما عند فلان عند غيره فلا
يحتاج أن يسأل غيره، لا يقاس هذا بالتابعين الذين حرصوا على لقاء الصحابة رضي الله
عنهم وأخذهم العلم عنهم، وخاصة هؤلاء الكبار كالإمام الحسن، وعصر التابعين صار فيه
الرحلة الواسعة إلى الصحابة للسماع منهم ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم،
فالدواعي عندهم هم الأكبر والأكثر لسماع الحديث، وأما "كم من صحابي لم يبلغه
حديث ما عن النبي صلى الله عليه وسلم" فنعم، لكن الأمر في الأصحاب يختلف عن
الأمر في التابعين.
فلا يُعقل أن ينزل "أبو قتادة الأنصاري" البصرة،
ولا يسمع منه شيخها الحسن، ولا يمكن التعلل بهذه العلل العليلة "لعله كان
خارجها.. أو كان فيها ولم يلقه"! فكيف هذا؟
أيعقل أنه أتى ليلة واحدة ثم غادر؟
وهب أن الحسن كان خارج البصرة، فلم يسمع بقدوم أبي قتادة
إليها؟ وهل إذا كان فيها، لم يسمع بذلك حتى يذهب ويلقاه؟!!
وهل صحابي مثل أبي قتادة ينزل بلدا فيها من طلبة العلماء
والشيوخ العشرات ويغادرها بصمت دون أن يدري به أحد إلا محمد بن سيرين وأهل بيته،
ولا يسمعوا منه إلا نهيه لهم عن اتباع الكوكب إذا انقض؟!!
من عرف حرص التابعين من أهل البصرة على الحديث لا يمكن أن
يتصور هذا!
ثم إن ما يدل على أن أبا قتادة هذا هو التابعي وليس
الصحابي أن ابن أبي شيبة أتبع أثر أبي قتادة في كراهية اتباع الكوكب بأثر الحسن
البصري في عدم كراهية ذلك، فهذا رأي لتابعي مقابل آخر.
فهل يعقل أن ينزل الأنصاري البصرة ثم يُحدّث بحديث في النهي
عن النظر للنجوم يسمعه ابن سيرين، وبعد ذلك يصرح الحسن البصري بمخالفته!!
وكذلك يكون حديث فضل صيام عرفة عند أهل البصرة مسنداً
مرفوعاً فيفتي الحسن البصري إمامهم بخلافه!! قد سلمنا أنه قد يخفى عليه أحدهما،
أفيخفيان عليه كلاهما، وهما عن أبي قتادة!! فهذه من العجائب.
ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن اتباع الكوكب إذا
انقض، ولا عن صحابته. بل حدث ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه.
روى مسلم في «صحيحه» (4/1750)
من طرق عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزهريّ، قال: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ: أَنَّ
عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ
جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُمِيَ
بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا رُمِيَ
بِمِثْلِ هَذَا؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ
اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ
وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ، إِذَا قَضَى
أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا»
ثُمَّ قَالَ: «الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ
الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ
مَاذَا قَالَ: قَالَ فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضًا، حَتَّى
يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ
فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَوْنَ بِهِ، فَمَا جَاءُوا بِهِ
عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ».
فلو كان المذكور في الأثر هو "أبو قتادة
الأنصاري" فهذا يعني أن عنده خبراً منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه:
"فإنا قد نهينا عن ذلك"! = يعني الذي نهاهم هو النبي صلى الله عليه
وسلم! وهذا هو حديث الزهري بيّن صريح في عدم النهي، بل حصل أنه رمي بنجم في زمنه
صلى الله عليه وسلم فرآه هو وأصحابه، وسألهم عما كانوا يقولون لما يحدث ذلك في
الجاهلية، فبيّن لهم سبب رمي تلك النجوم أو الكواكب، ولم ينههم عن ذلك.
فأبو قتادة هذا هو التابعي العدوي، وهو من نهى عن النظر
إلى الكوكب إذا انقضّ، وقال بأنهم نهوا عن ذلك أي من مشايخه، وهذا رأي ليس فيه شيء
مرفوع، والله أعلم.
رابعاً: لا يزال هذا (المتعالم) يقرر سماع محمد بن سيرين
من أبي قتادة الأنصاري بما جاء منسوباً في الرواية السابقة! ولم يأت بما يُعزز
رأيه هذا!
فالأصل عدم سماعه منه إلا إذا أتى بدليل أصرح من محل
النزاع هذا! ولو كان سمع منه ابن سيرين لوجدنا عنده عنه بعض الأحاديث!!
وكل ما وجدناه عن ابن سيرين عن أبي قتادة هو الحديث الذي
روي في السنن - وقد تكلمت عليه في أصل البحث -، رواه مُحَمَّد بن سِيرِينَ، عَنْ
أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ،
فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ».
وقال فيه الترمذي: "هذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ".
وروي أيضا عن ابن سيرين دون ذكر أبي قتادة.
رواه هشام بن حسان، عن ابن سيرين قال: «كان يُقال: من ولي أَخاه فليحسن كفنه.
وإِنه بلغني: أَنهم يتزاورون في أَكفانهم».
ورواهُ سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، قال: «كان يُحبّ
حسن الكفن. ويقال: أنهم يتزاورون في أكفانهم».
فكان ابن سيرين أحياناً يحدّث به عن أبي قتادة هكذا،
وأحياناً لا يسنده عنه، ولو كان أبو قتادة هذا هو الأنصاري الصحابي لما تخلّى ابن
سيرين عن إسناده، ولكنهم كانوا لا يسندون بعض الأحاديث إذا كانت مرسلة مثل هذا
الحديث. وهذه الزيادة: «يتزاورون في أَكفانهم» منكرة! لا تصحّ.
فمثل هذا الحديث يكون بين المتقاربين في الطبقة، وإن كان
أبو قتادة العدوي (توفي ما بين سنة 81-90هـ) يكبر ابن سيرين (توفي 110هـ) بسنوات.
وكان أبو قتادة العدوي من شيوخ البصرة المعروفين
المشهورين، وكان يرسل الحديث، وكان نزل على آل سيرين في بيتهم ضيفاً. والظاهر أن
هذا الأثر سمعه منه ابن سيرين لما زارهم في بيتهم، وكانوا يتذاكرون العلم.
كل هذا يؤيد أن أبا قتادة الذي روى عنه ابن سيرين هو
العدوي كما قال ابن معين.
- وقال المْحِمْدِي (ص26-27): "ثم راح الأخ الحايك يشرق ويغرب كعادته في
تفسير النص مع أن عبارة (نزل) تستعمل في الضيوف الغرباء في الأصل، ولو كان الحايك متجردا
لكفته هذه القرينة، فهو عربي! فقوله نزل بنا تجزم انه بعيد، فالعدوي بصري، فكيف
ينزل على بصري آخر في بلدته، العرب تقول زارنا جاءنا ونحوها أما نزل بنا فالأصل
فيها للبعيد المسافر. واحتفاء ابن سيرين بالرجل، وروايته لقصة نزوله عنده، وتحديثه
لهم قرينة قوية على أنه الصحابي الأنصاري، إذ لو كان العبدي، لما احتيج أن يذكر
مثل تلك القصة، ولا سيما وأن حديثه ليس بمنزلة حديث الأنصاري، بل ابن سيرين في
طبقته ومن أقرانه! أما ادعاء الأخ الحايك أن العدوي من بلدة نائية او جاء من غزو..الخ
فهذه أوهام وظنون لا ينبني عليها استدلال! وكان عليه إن يثبت أن سكنه خارج البصرة
بعيدا عن ديار آل سيرين بما لا يقبل الشك، وهيهات! وادعاؤه أن آل سيرين لم يسمعوا
من أبي قتادة الأنصاري، وإلا لأكثروا عنه، فليس هذا بلازم، فالصحابي نزل بهم، ربما
ليلة أو أكثر لا ندري، فرووا عنه هذه الروايات التي سمعوها في تلك الليلة التي
باتها عندهم، وقد روى ابن سيرين عن أبي قتادة كما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة،
والترمذي، وغيرهما" انتهى كلامه.
أقول:
أولاً: لم أشرّق أو أغرّب في تفسير النص، بل حاولت فهمه من
خلال الواقع كما يفعل أهل النقد، وهذا منهج يعرفه من تمرس في الحديث، لا من جهله
ولم يتعمق فيه! وقد أبدع فيه حقيقة الإمام المعلمي اليماني - رحمه الله -، ولو أنك
قرأت ما سطرته بفضل الله في سلسلة فهم أقوال الأئمة النقاد وكنت تفهم لما قلت ما
قلت.
ثانياً: قولك إن كلمة (نزل) تستعمل في الغرباء في الأصل!
لا دليل عليها في كتب اللغة. فهي تستخدم في الغرباء وغيرهم.
ولو سلمنا لك أنها هكذا "في الأصل" كما قلت أنت،
فهذا يعني أنها قد تخرج عن الأصل، أليس كذلك؟ هذا من كلامك، واعتمادا عليه هب أننا
خرجنا عن الأصل - بحسب رأيك - فلا تثريب علينا إذن.
ستقول: الخروج عن الأصل يحتاج لقرينة، فنقول لك: القرينة
في روايات الحكاية نفسها، فتعال وانظر، فالحكاية:
رواها مَعمر، عن أَيوب، عن ابن سيرين، قال: تَعشَّى أَبو
قتادةَ فوق ظهر بيتٍ لنا، فرُمي بِنجمٍ، فنظرنا إِليه، فقال: «لا
تتبعوه أَبصاركم، فإِنّا قد نُهِينا عن ذلك».
ورواها منصور بن زاذان، عن ابن سيرين، قال:
«نَزلَ بنا أبو قتادة، فبينا هو على سطحٍ لنا - قال:
ونحن عشرة من ولد سيرين - فانقضَّ كوكبٌ من السماء، فأتبعناه أَبصارنا، فنهانا
أَبو قتادة عن ذلك».
ورواها عبدالرحيم بن سليمان الطائي، عن
عاصم الأحول، عن ابن سيرين، قال: «نزل علينا أبو قتادة الأنصاري،
فانقض كوكب، فأتبعناه أبصارنا، فنهانا عن ذلك».
ورواها أَبو مُعَاوِيَةَ الضرير، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى سَطْحٍ، فَانْقَضَّ
نَجْمٌ، فَأَتْبَعْنَاهُ أَبْصَارَنَا، فَنَهَانَا، وَقَالَ: «لَا تُتْبِعُوا
بِأَبْصَارِكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا نُنْهَى عَنْ ذَلِكَ».
ورواها هِشَام
بن حسان القردوسيّ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي قَتَادَةَ
عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا، فَرَأَى كَوْكَبًا انْقَضَّ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ،
فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: "إِنَّا قَدْ نُهِينَا أَنْ نُتْبِعَهُ أَبْصَارَنَا".
فهؤلاء الرواة عن محمد بن سيرين لهذه الحكاية، بعضهم قال:
"نزل علينا"، وبعضهم قال: "نزل بنا"، وبعضهم قال: "تعشّى
على سطح لنا"، وبعضهم قال: "كنا على ظهر بيتنا".
فبالجمع بين هذه الألفاظ لا يمكن أن يكون أبا قتادة هذا غريب عن
أهل البصرة! "كنا مع أبي قتادة على سطح أو ظهر بيتنا.."، "تعشّى
على سطح لنا..." = يعني أنه معروف عندهم، وليس بغريب عنهم، نزل عندهم أي
زارهم في بيتهم، وتعشى معهم.
فهل الغريب إذا جاء من بلد آخر ونزل عند قوم يقولون: "تعشى
على سطح بيتنا.."! أو "كنا معه..."!!
وهذا لا يخالف معنى "نزل بنا أو علينا"؛ لأن أصل نزل
من النُّزُول،
وهو: الْحُلُولُ، وَقَدْ نَزَلَهم ونَزَلَ عَلَيْهِمْ ونَزَلَ بِهِمْ يَنْزل
نُزُولًا ومَنْزَلًا ومَنْزِلًا، والنُّزُول عَام فِي كل شَيْء، يُقَال: نزل بِالمَكَانِ
وَنزل بِهِ الضَّيْف.
فالحكاية معناها أَنَّهُ نزل عندهم أي زارهم في بيتهم وتعشّى
عندهم. ولو كان الذي زارهم هو الصحابي لتحدث أهل البصرة كلهم عن ذلك! ولو أنه نزل
البصرة وهو من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنزل على أميرها أو للقي بعض
الصحابة الذين كانوا هناك! فيستحيل أن ينزل البصرة وهي حاضرة للعلم آنذاك ولا يعرف
أهلها عنه شيئا!!
فقول من قال عن ابن سيرين أنه "نزل" لا نجزم
أنها للبعيد كما قال هذا (المتعالم)!
وحجته في الجزم أن هذا بصري وهذا بصري، فكيف ينزل بصري على
آخر في بلدته!! وهذا من أعجب العجب!!
وهل البصرة مكان صغير حتى تجزم أيها (المتعالم) أن من
يسكنها إذا نزل على آخر في المدينة نفسها لا يُقال في ذلك: "نزل به أو
عليه" لأن هذه العبارة تستخدم للبعيد المسافر!!
أليس هذا من الظنون والأوهام! ما الأدلة العلمية على هذا
القول؟!!
أليس قد قلت قبل قليل: "والمدينة المنورة أصغر من
البصرة"! فالبصرة مدينة كبيرة، من ينتقل منها من مكان إلى آخر ألا يقال عنه
"سفر"!!
أتقيس تلك المدن والتنقل بين الأماكن في تلك العصور على ما
تراه في عصرنا الآن؟!!
إذا كانت العالية في المدينة في زمنهم كانت تعد بعيدة عن
المسجد النبوي فماذا تقول فيها الآن؟!!
وهذا ما حاولت تفسيره وأنت اعترضت عليه من أنه ربما يكون
بيت أبي قتادة نائيا عن بيت آل سيرين، فيكون المجيء إليهم سفرا لصعوبة التنقل وبعد
المسافات.
وأما أن العرب تقول: "زارنا" و"جاءنا"
ونحو ذلك فيمن يزور شخصاً في البلد نفسه فليس بصحيح!
فيقولون هذا نعم في زيارة من هم قريبون من بعضهم وكذا من هم
بعيدون.
لما نزل سلمان الفارسي الشام، قال أبو الدرداء: "زارنا
سلمان من المدائن إلى الشام ماشياً".
فسلمان جاء من بلد بعيد جدا وقالوا: "زارنا".
فالعرب تستخدم هذه وتلك سواء في الزيارة القريبة أم
البعيدة، فيجوز أن تقول فيمن زار شخصا قريبا "نزل عنده" أو
"زاره"، وكذا إذا زاره شخص من بلد آخر.
على أننا لو جئنا نُرجّح بين الرواة عن ابن سيرين لا نقدّم
على أيوب السختياني أحدا، فهو أضبطهم.
ثانياً: العجب كيف فهم هذا (المتعالم) "احتفاء"
ابن سيرين بأبي قتادة الذي نزل عندهم، وأن تحديثه لهم يُعدّ قرينة قوية على أنه
الصحابي!!
ولضعف الرجل في اللغة قال "احتفاء"! والاحْتِفَاء:
أَن تَمْشِيَ حَافِيًا فَلَا يُصيبَك الحَفَا.
والأصل أن يقول: "احتفى به"، ومعنى ذلك بالغ في
إكرامه، من الحفاوة لا الاحتفاء!
وعلى هذا المعنى لا نجد أن ابن سيرين بالغ في إكرامه لما
زارهم، فقط تعشى عندهم، وهذا أمر عادي بين الناس.
ثالثاً: حجته بأنه احتفى به تحديثه بقصة نزوله!! فهذا
أيضاً من الفهم العجيب!!
أيكون كل من قال إنّ فلاناً زاره يُعد هذا من جنس الذي
أراده هذا (المتعالم)!!
كان يكون ذلك لو أن ابن سيرين تفاخر بذلك بين الناس، وسمع
هو وأهله - وكانوا كلهم من أهل العلم - حديثه وأحواله، ولما تركوه يخرج من عندهم!
أيكون احتفى به بعشاء واحد فقط!! فهذا فهم عجيب غريب!!
رابعاً: قوله: "وكذلك فإن تحديثه لهم تعد قرينة قوية
على أنه الصحابي؛ لأنه لو كان التابعي لما احتاج أن يروي مثل تلك القصة"!
فهذا أعجب من الذي قبله!!
منذ متى كان تحديث رجل ما لغيره يُعد من القرائن في تحديد
أن هذا صحابي وذاك تابعي؟!!
ما هذه القرينة العظيمة التي لم يحلم بها أهل النقد من
قبل؟!!
ألا يمر بك أيها (المتعالم) العشرات مثل هذا في الكتب!!
يكون بعض التابعين مع بعضهم فيتذاكرون فيحدث بعضهم بما جرى بينهم.!
ثم كيف لو كان هو العدوي لما احتاج لذكر تلك القصة؟!! من
أين لك هذه القرينة؟
كلّ ما حصل أن أبا قتادة كان ضيفا عند آل سيرين، وكانوا
على ظهر البيت، فرمي بنجم واتبعوه أبصارهم، فنهاهم عن ذلك، وقال إنهم نهوا عن ذلك.
فلم لو كان أبو قتادة هذا هو التابعي لما احتاج ابن سيرين
أن يذكر القصة؟!!
هل إن كان المتحدث صحابياً احتيج لبيان قصته وإن كان
تابعيا لم يحتج؟!
فعلاً (... أعيت من يداويها)!
فابن سيرين يرى أن ما سمعه من أبي قتادة فائدة لم تمر عليه
من قبل، ولهذا روى هذه القصة، ومن المعلوم للمبتدئ أنك في الرواية تجد الرواة
يسردون كل شيء سواءا مع الصحابة أو فيما بينهم.
خامساً: وأما أن حديث أبي قتادة العدوي ليس بمنزلة
الأنصاري فلا أحد يشك في هذا، ولا مكان لهذا هنا!!
لكن أحياناً يكون حديث التابعي له قيمته سيما إذا لم يكن
في الباب شيء عن الصحابة، وهذا ما حصل هنا، فالحسن البصري شيخ البصرة يرى أنه لا
بأس باتباع النجم بالبصر، في حين كان ابن سيرين قد سمع من أبي قتادة العدوي كراهية
ذلك.
وهنا استفسار: لنفرض أن أبا قتادة هنا هو الأنصاري
الصحابي، فهذا يعني أنه نزل عند آل سيرين قبل سنة (54هـ)، فلو قلنا إنه زارهم سنة
(50هـ)، يعني هم سمعوا منه هذا الحديث في كراهية اتباع النجوم بالبصر وهو قال:
"نهينا عن ذلك" يعني هذا مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم.
فالحديث عند ابن سيرين، وقرينه الحسن البصري يرى خلاف ذلك،
فلم ينقل لنا كلاما عن هذه المخالفة لو كان فعلاً الأنصاري قد حدَّث به!
فبالنظر في الاختلاف بين التابعين في بعض المسائل، تجد
أكثره من رأيهم، وهذا يُعزز أنه العدوي التابعي، إذ لو كان الصحابي لانتشر الحديث
عندهم وانتهى الخلاف فيها، كيف وقد صح مرفوعاً ما يؤيد رأي الحسن البصري.
فمثل هذه الاختلافات في الرأي تكون بين كبار التابعين
أمثال أبي قتادة العدوي والحسن البصري وابن سيرين وغيرهم.
والأصل إذا أطلق "أبو قتادة" في أي خبر عند
البصريين أنه العدوي لأنه مشهور عندهم.
فقد روى الإمام مسلم في «صحيحه» (4/2266) من طريق عَبْدالعَزِيزِ
بن المُخْتَارِ، قال: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ
رَهْطٍ، مِنْهُمْ أَبُو الدَّهْمَاءِ وَأَبُو قَتَادَةَ قَالُوا:
كُنَّا نَمُرُّ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، نَأْتِي عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ،
فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّكُمْ لَتُجَاوِزُونِي إِلَى رِجَالٍ، مَا كَانُوا
بِأَحْضَرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، وَلَا
أَعْلَمَ بِحَدِيثِهِ مِنِّي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ
أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ».
وفي رواية عُبَيْداللهِ بن عَمْرٍو، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ أَبُو
قَتَادَةَ، قَالُوا: كُنَّا نَمُرُّ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ إِلَى
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُخْتَارٍ،
غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ».
فالرجل مشهور ومعروف وعلم في البصرة بهذه الكنية.
سادساً: الأقران يحتاجون لحديث بعضهم، ويسمعون من بعضهم
ويرووا عن بعضهم، ومع قلة ذلك إلا أن الواحد يجد عند غيره فائدة لا توجد عنده كما
حصل هنا وحدث به ابن سيرين عن أبي قتادة، فالأمر عندهم متعلق بالدِّين، فأخبرهم
أبو قتادة بحكم اتباع الكوكب بالبصر.
فلا وجه لقول (المتعالم) أن ابن سيرين في طبقة العدوي
وأقرانه!
سابعاً: قوله عن قولي: "إن العدوي كان في بيئة نائية
ونحو ذلك" وأن هذا مجرد أوهام وظنون ولا يبنى على هذا استدلال، وكان ينبغي
إثبات مكان سكنه خارج البصرة بما لا يقبل الشك وهيهات! فهذا يدل على أن هذا
(المتعالم) عنده من السخف ما لم أره في حياتي!
قد أسلّم له أن هذه التفسيرات قد تكون بعيدة وهي احتمالات!
لكن لم أبني عليها أي استدلال!
وكان قولي: "والشخص إذا كان بنفس المدينة وزار بيتاً
وأقام فيه، فيصلح أن يُقال: "نزل عند فلان"، فهذا اللفظ لا يقتضي أنه
كان من بلدٍ آخر، وإنما يقتضي أنه من مكانٍ بعيد، ففهم أبو حاتم من هذا أنه ليس من
البصرة، والمشهور عند أهل العلم هو أبو قتادة الأنصاري، فظنّه أبو حاتم هو،
فَوَهِم. ورواية أيوب واضحة في أن نزوله عندهم، أَي زارهم، وهذا يعني أن مسكنه كان
بعيداً عنهم، والتنقل في ذلك الزمان كان يحتاج إلى أيام، ولو بالمدينة نفسها،
فزارهم، وتعشّى عندهم تلك الليلة، ولو كان أبو قتادة هذا الأنصاريّ الصحابي لما
تركه آل سيرين ولسمعوا منه أحاديث كثيرة؛ لأنهم بيت علم، ولكان لهذه الزيارة وقعٌ
وانتشار عند أهل البصرة.
وربما يكون معنى أنه نزل عندهم أنه كان مسافراً أو في
غزو أو نحوه، فلما جاء البصرة نزل عندهم، والله أعلم".
ويبدو أنه بناء على قولي: "فلما جاء البصرة" قال
هذا (المتعالم): "وكان عليه إن يثبت أن سكنه خارج البصرة بعيدا عن ديار آل
سيرين بما لا يقبل الشك"!!
إن كان كذلك فالحمد لله على نعمة الفهم!!
هل يفهم من كلامي الأخير الذي فيه: "فلما جاء
البصرة" أن سكنه خارج البصرة؟!!
أنا صرحت أنه من البصرة لكن ربما كان في مكان بعيد عن
بيت آل سيرين، وربما نزل عندهم لما رجع للبصرة من سفر له أو غزو، فلما جاء البصرة
يعني رجع إليها لا أنه كان يسكن خارجها!
ثامناً: كل ما قلته هو محاولة لفهم النص على الاحتمالات،
ومع هذا رده (المتعالم) في حين أنه يسمح لنفسه بمثل هذه الاحتمالات!!
فهو في الصفحة السابقة يرد عليّ في أن أبا قتادة
الأنصاري لو نزل البصرة لجاء إليه الحسن البصري، فيقول: "فلعله كان خارج
البصرة وقت دخول الأنصاري، أو كان فيها ولم يلقه..".
فهذا أنت تبني أقوالك على الاحتمالات، ولن أقول الظنون
والأوهام والخيالات!!
مع أن هذا القول منك مردود منطقيًا وعمليًا، فلا نعرف أن
صحابياً نزل بلداً مشهوراً في العلم ولم يشتهر ذلك عند أهله، وبهذا عرفنا دخولهم
البلدان ومن سمع منهم، وكم مكثوا، وكل ما يتعلق بأحوالهم، ففي فترة التابعين كانت
الهمم عالية جداً للقاء الصحابة والرحلة إليهم والسماع منهم وملازمتهم، فهل يعقل
أن يترك الحسن البصري نزول أبي قتادة الأنصاري البصرة!
وأقول لك كما قلت لي: "كان ينبغي إثبات أن الحسن كان
خارج البصرة لما نزل أبو قتادة الأنصاري فيها بما لا يقبل الشك وهيهات"!!
تاسعاً: رده لقولي إن أبا قتادة الأنصاري لو نزل البصرة
لسمع آل سيرين منه وأكثروا عنه، بأن هذا ليس بلازم! نعم، قد يُقال لا يلزم ذلك!
لكن من عرف آل سيرين وطلبهم للعلم ومكانتهم، وكذا نزول أبي قتادة الأنصاري عندهم
لقال مثل ما قلنا ولما رده!
فهذا أبو قتادة الأنصاري من كبار أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ينزل البصرة دون علم أحد عنه لا عند دخوله ولا خروجه؟!! أليس هذا
بغريب؟!!
ثم ومع هذا النّهم عند أولاد سيرين في سماع العلم أيعقل
أن لا يسمعوا من صحابي كبير نزل عندهم! ولا نجد إلا حكاية حصلت عندهم! وحديث آخر
أصله مرسل!!
هل يُصدق هذا من اختلطت الرواية بلحمه ودمه؟!!
ثم إذا كان هذا الصحابي قد نزل البصرة، فلم يختار آل
سيرين للنزول عندهم! في حين لا نجد له ذكرا أبدا أنه دخل البصرة؟!!
ألا يدل ذلك على أن الذي نزل عندهم هو أبو قتادة العدوي
المعروف عندهم في البصرة، ولهذا لما حدث ابن سيرين بهذه الحكاية كان تحديثاً لما
حصل تلك الليلة من أمر ذلك النجم.
وتبرير عدم سماع آل سيرين منه بحسب قوله إنه نزل عندهم
لأنه "ربما ليلة أو أكثر لا ندري"!! فهذا يحتاج لإثبات! فدعنا من
"ربما"!!
هل يعقل أن صحابيا مثل أبي قتادة ينزل في بين آل سيرين
ليلة واحدة ثم يمضي؟
حسناً، قضى ليلة واحدة عندهم، وبعدها أين ذهب؟
يا أهل البصرة... أين ذهب أبو قتادة الأنصاري بعد أن
غادر بيت آل سيرين؟ ربما ركب الطائرة التي قال عنها هذا (المتعالم) لما قال لي إن
أبا قتادة دخل الكوفة، ولا يدخل الكوفة إلا عن طريق البصرة، إلا إذا دخلها
بالطائرة!!!
حسناً، لو سلمنا لك أنه دخل الكوفة عن طريق البصرة، يعني
ذلك أنه دخل أكبر حاضرتين للعلم وقتها، ولا نجد أحداً من كبار أهل العلم حدّث عنه
بشيء من حديثه - طبعا باستثناء حديث عرفة وقصة النجم -!!
أين كبار أهل العلم في الكوفة وفي البصرة؟
عاشراً: قوله بأن آل سيرين رووا عنه هذه الروايات التي
سمعوها منه تلك الليلة، وروى عنه ابن سيرين كما ثبت عند ابن أبي شيبة والترمذي!
هذا قول مردود!! وفيه إيهام وتدليس!
فأبو قتادة هذا الذي نزل عندهم لم يرو عنه إلا ابن سيرين
قصة الكوكب الذي رواه ابن أبي شيبة وغيره، وحديث الكفن الذي رواه الترمذي وابن ماجه.
وقوله هذا يعني أن حديث الكفن سمعه ابن سيرين في تلك
الليلة! ولا دليل على ذلك!
على أني بينت أن حديث الكفن هذا لا يمكن أن يكون عن أبي
قتادة الأنصاري لنكارة فيه! وكذا رواية ابن سيرين له على أوجه تدل على أنه مرسل.
ففي قوله "ثبت في مصنف ابن أبي شيبة والترمذي"
مجازفة، وأي مجازفة! - على رأيه-!!
- وقال المْحِمْدِي (ص27-28): "فلا يصح
توهيم مثل أبي حاتم بهكذا طريقة فجة! كأنه تلميذ ثانوي، حتى راح الحايك يضع له
عنوانا رئيسا فقال (وهمٌ لأبي حاتم الرازي!) ثم قال: (فوهم وهما شديد ا!" "قلت:
اغتر أبو حاتم الرازي)!!! فعبارات التوهيم التي لا تليق بأستاذ من اساتذتنا اليوم،
ولا نجوّز إطلاقها على هكذا! فكيف بأبي حاتم والبخاري وأمثالهم! فأبو حاتم هو أبو
حاتم! لكن لما رأى الحايك أن في كلام أبي حاتم ما ينسف أصل بحثه، لتصريحه بسماع
الزماني من الأنصاري راح يخطأه ويوهمه بلا حجة! وكأن الحايك لم يعرف أبا حاتم
الرازي، ولا يدري عنه! ونسي أن أبا حاتم يعرف حديث هذا من هذا، ويميز حديث الأنصاري
ويعرفه جيدا ويعرف من رواه على الصواب ومن غلط فيه، ويعرف حديث العدوي من أصاب فيه
ممن غلط، وإلا لما بلغ ما بلغ ولما سلم له أهل عصره بالإمامة!؟
وتأمل يا حايك في عظيم معرفته ودرايته، قال ابن أبي حاتم:
سألت أبي عن حديث رواه محمد بن بكار، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عياش بن عبدالله
اليشكري، عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري أنه قال: ما من يوم أحب إليّ من أن أصومه
من يوم الجمعة، ولا أكره أن أصومه من يوم الجمعة الحديث؟
قال أبي: "إنما هو: عن أبي قتادة العدوي، من
التابعين، موقوف".
فتأمل كيف ميز أبو حاتم بين الاثنين! ولم يغتر!
وقال في موضع آخر:"ورواه سعيد بن بشير فقال: عن
قتادة، عن عياش بن عبد الله، عن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
صوم يوم الجمعة فردا؟ وقال أبي: كلها صحاح، ما خلا حديث سعيد بن بشير، فإنما هو:
عياش، عن أبي قتادة العدوي، قوله".
فانظر كيف يعرف حديث كل واحد منهم، ولم يغتر!؟
فالأئمة لا يغترون بذكر الراوي من غير نسب، فهم يعرفون
روايات كل راو ومن أصحابه، وتأمل في قول عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول في حديث حجاج
بن أرطاة، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أنه وضع له وضوء، قد ولغ
فيه السنور، قال أبي: قتادة هذا ليس هو قتادة بن دعامة، هو من ولد أبي قتادة، عن
عبد الله بن أبي قتادة". فتأمل كيف يميزون يا خالد! ولا تتسرع بتخطئة جبال
العلل" انتهى كلامه.
أقول:
أولاً: مسألة توهيم الأئمة الكبار لا شيء فيها إذا كانت
قائمة على أدلة، ولا يوجد في طريقتي لتوهيم أبي حاتم أو غيره أي تنقص أو ازدراء
بهم.
لكن هذه طريقة خبيثة لإسقاط الخصم! لينشر بين الناس أن
فلانا لا يحترم العلماء، ويتجرأ على تخطئتهم!! حتى صار هذا (المتعالم) ينادي بأني
"أطعن في الصحيحين"!! والله حسبي وحسيبه.
ولو أنه وقف على كلام لي في تنقيص هؤلاء لما تردد في
نقله! فأقصى ما عنده مما يعده عدم احترام لهم، قولي: "وهم"، "وهم
شديد"، أو "اغتر"!! وكل هذا استخدمه أهل العلم في غيرهم، وقد قدمت
نماذج من ذلك.
فهذا الدارقطني يقول في «العلل» (8/225): "وَوَهِمَ
فِيهِ عُمَرُ بنُ شَبَّةَ وَهْمًا قَبِيحًا..".
وابن حجر يقول عن ابن حبان: "وهم وهمًا قبيحًا".
ويقول عبدالغني بن سعيد في «أوهام المدخل»: "من قال
سعدان وهم وهمًا عظيمًا".
ثانياً: أنا بفضل الله أعرف من هو أبو حاتم وإمامته،
وكذا البخاري وغيرهم، والاستدراك عليهم لا ينقص من علمهم ولا قدرهم، فدع عنك هذا
الهراء والهذيان ورفع العقيرة بالنواح أو بالنباح!.
ثالثاً: الافتراء بأني قلت ما قلت في رأي أبي حاتم بسبب
أن كلامه ينسف أصل بحثي! فهذا ليس بصحيح!
فأصل البحث شيء، وما قاله أبو حاتم - وعلى فرض ثبوته -
شيء آخر! لكن هذا (المتعالم) لا يدري ما الذي يخرج من رأسه!
فأصل المسألة - وعلى فرض أن أبا قتادة الأنصاري نزل
البصرة - هل سمع عبدالله بن معبد الزماني منه؟
لم يصرح الزماني أنه سمع منه، وحدث عنه بالعنعنة، فهذا
على منهج البخاري لا يُقبل!
ثم الغريب أن أبا قتادة الأنصاري - بحسب زعمهم - ينزل
عند آل سيرين ولا يسمعون منه حديث عرفة، ويسمعه منه الزماني الذي لا نعرف أين لقيه
في البصرة؟!!
ثالثاً: لم أوهّم أبا حاتم بلا حجة! فلا تكذب أيها
(الأفاك)!
اعتمدت في ذلك على قول ابن معين، فتأمل قول ابن معين
عندما نص على "وما رواه ابن سيرين" عن أبي قتادة، لله دره، هو يعرف ما
رواه أهل البصرة ومحمد بن سيرين عن أبي قتادة، فقال: تنبهوا، إنه العدوي التابعي،
لا الصحابي الأنصاري!
ألا تكفي هذه حجة أيها (المتعالم)! وهل افترينا على أبي
حاتم - رحمه الله -؟!
ومعرفته بالعلل والتمييز بين الرواة وغير ذلك فهذا خارج
محل النزاع؛ لأننا لا ننازع في ذلك، وما هذا منك إلا من باب التهويش والتشويش!
فأحياناً يخالف أبو حاتم البخاري، فهل نقول: ألا يعلم
أبو حاتم علم البخاري، وتمييزه بين الرواة، ومعرفته في العلل، ووو!!
وكذا من كان في عصرهم ومن جاء بعدهم ممن استدركوا على
بعضهم، فلا علاقة له بإمامتهم في هذا العلم، وفي بيان ما جانبوا الصواب وأخطأوؤا
فيه!
رابعاً: دعوتك لي للتأمل فيما نقلته من كلام أبي حاتم في
حديث الجمعة وكيف ميز الرواة دعوة جيدة، لكن ألا تدري أيها السارق أني تأملت فيها
قبلك! فأنا أوردت هذا عن أبي حاتم في البحث وأنت سرقته!
قلت في البحث تحت عنوان: "أوهام أخرى في نسبة أبي
قتادة":
"ومما يدلّ على أنهم كانوا ينسبون «أبا قتادة»
التابعي البصري بالأنصاري ظناً أنه الصحابي، ما قاله ابن أبي حاتم في «العلل»
(3/96): سألت أبي عن حديثٍ؛ رواه محمد بن بكَّار، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن
عياش بن عبدالله اليشكري، عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري، أنه
قال: «ما من يوم أحبّ إليّ من أن أصومه من يوم الجمعة، ولا أكره أن أصومه من يوم
الجمعة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: يعجبني أن أصوم الجمعة لما أعرف من فضله، وأكره
أن أصومه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه»؟
قال أبي: "إنما هو: عن أبي قتادة العدوي من
التابعين، موقوف".
وقال في موضع آخر (3/127): سألت أبي عَن حدِيثٍ؛ رواهُ
سعِيدُ بنُ بشِيرٍ، عن قتادة، عن عيّاشٍ اليشكُرِيِّ، عن أبِي قتادة بنِ
رِبعِيٍّ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنّهُ نهى عن صومِ يومِ
الجُمُعةِ»؟
فقال أبِي: "رواهُ سعِيدُ بنُ أبِي عرُوبة، عن
قتادة، عن عيّاشٍ، عن أبِي قتادة العدوِيِّ، موقُوف".
قال أبِي: "وأبُو قتادة العدوِيُّ مِن
التّابِعِين".
قلت: فهذا الحديث ظنّ راويه أن أبا قتادة هو الصحابي
الأنصاري، وإنما هو العدوي التابعي، وهذا يؤكد قول ابن معين أن كلّ من روى من
البصريين عن أبي قتادة فهو العدوي؛ لأن عيّاش اليشكري بصري.
فالذي حصل في حديث عرفة هو النسبة الخطأ من غيلان بن جرير
لما سأله شعبة عن «أبي قتادة» من هو؟! «الأنصاري»؟ فهزّ برأسه: أي نعم! فوهم في
ذلك - رحمه الله-" انتهى كلامي.
فهذا قد
أوردته في بحثي، وانظر إلى قولي: "وقال في موضع آخر"!
نعم، أنا
أتيت بالموضع الآخر فيما يتعلق بالرواية نفسها، لكن أنت أتيت بالموضع الآخر لما
تكلم أبو حاتم عن أحاديث أخرى رويت في المسألة، وجاءت المناسبة هناك لذكر حديث
سعيد بن بشير ولهذا قال: "كلها صحاح خلا...".
ثم نقول لك:
كيف ميّز أبو حاتم هنا أن أبا قتادة هو "العدوي
التابعي" مع أنه جاء منسوباً في الحديث: "عَنْ أَبِي قَتادة بنِ
رِبْعِيٍّ الأنصاريِّ"؟!
ألم تقل لنا من قبل: إن كلام ابن معين يقصد به إذا جاء
"أبو قتادة" في إسناد "غير منسوب"؟!
فهنا جاء منسوبا، والراوي عنه بصري، وعليه لا يجوز أن
تأخذ بقول أبي حاتم هنا؛ لأن أبا قتادة هو الأنصاري كما جاء مصرحا به!
فأنت هنا تناقض قولك السابق وتفسيرك لقول ابن معين!
وإن أصررت على ذلك، فأخبرنا كيف عرف أبو حاتم أن هذا هو
العدوي مع أنه جاء مصرحا باسمه ونسبه؟! أليس قد تبعت أبا حاتم في أن أبا قتادة أنصاري
نزل البصرة، وهنا جاء منسوبا فكيف يرده أبو حاتم؟! أليس هذا تناقضاً أيضاً؟
وكذلك إن قبلت قول أبي حاتم هنا وأن النسبة غير صحيحة،
فلم ترد كلامنا وتعيب علينا لما قلنا إن النسبة في حديث الزماني ليست صحيحة؟!!
والذي يظهر لي أن أبا حاتم استفاد من قاعدة ابن معين
التي ذكرناها، ولم يظهر لي كيف ميّز هنا أنه العدوي مع أنه جاء منسوبا!
وكلام أبي حاتم في العلل مؤصل وأقوى مما نقله عنه في
التراجم، فربما كان يذهب بحسب ما جاء في ذلك الأثر أن أبا قتادة الأنصاري نزل
البصرة، ثم بان له خطأ ذلك، فميّز هذا الخطأ هنا بأن ما يرويه أهل البصرة عن أبي
قتادة لا يمكن أن يكون الأنصاري الصحابي، وإنما هو العدوي.
وحينها نرجع إلى القاعدة التي ذكرها ابن معين - رحمهم
الله جميعا -.
خامساً: قولك بأن "الأئمة لا يغترون بذكر الراوي من
غير نسب، فهم يعرفون روايات كل راو ومن أصحابه"! فيه مبالغة!!
نعم هم أئمتنا ونسير على نهجهم، لكن الادّعاء بأنهم لا
يغترون ولا يهمون في هذا فغير مسلّم لك، وما هكذا تكون الردود العلمية!
سادساً: ليس لإيرادك الخبر عن أحمد أي معنى هنا اللهم إلا لتشغب على القارئ
لكون الأثر فيه ذكر اسم قتادة!!
فنحن لا نُنكر إمامتهم وعلمهم وتقدمهم في ذلك، والإتيان
بما يُدلل على ذلك لا ينفع هنا؛ لأنه خارج محل النزاع.
14- افتراضاته الوهمية في نقد الكلام
حول قولي طاوس والحسن!!
- قال المْحِمْدِي في (ص29-30) تحت عنوان: "الوقفة الرابعة:
مع قولي طاوس والحسن رحمهما الله تعالى": "استدل البحريني وتبعه الحايك
على ضعف الحديث بما رواه ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن محمد بن شريك عن سليمان
الأحول قال: ذكرت لطاووس صوم يوم عرفة أنه يعدل صوم سنتين، فقال: «أين كان أبو بكر
وعمر عن ذلك؟».
قال الحايك: وهذا يدّل على أنه كان منتشراً بين الناس، فرد
ذلك طاووس اليماني (ت176هـ) بأن هذا لو كان معروفا لروي عن الكبار كأبي بكر وعمر.
وبما أخرجه ابن أبي شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا حميد الطويل، قال:
ذكر عند الحسن: أن صيام عرفة يعدل صيام سنة، فقال الحسن: «ما أعلم ليوم فضلا على
يوم، ولا لليلة على ليلة إلا ليلة القدر، فإنها خير من ألف شهر، ولقد رأيت عثمان
بن أبي العاص صام يوم عرفة، يرش عليه الماء من إداوة معه يتبرد به».
قال الحايك: والحسن من البصرة التي خرج منها حديث فضل صوم
عرفة". أ.هـ كلامه.
أقول:
كلامك هذا - يا دكتور- يهدم قاعدتك لو تأملت! فأنت بنيت
ترجيحك على أن الرجل العبدي البصري وليس الأنصاري، بحجة أن مخرج الحديث بصري ليس
مدنيا!؟ ثم تأتي للحديث وتضعفه باستنكار الحسن البصري لأنه بصري ولا يعرفه! ألا ترى
تناقضك العجيب!
فلو كان الحديث من رواية العبدي البصري لما فات الحسن
البصري، ولكنه مدني أنصاري، والحسن رحمه الله لم ينف الحديث وانما نفى علمه بهذا
الفضل لعدم ثبوت اطلاعه عليه، والكلام واضح جلي فهو نفى علمه بهذا الأجر، لا أنه
علم بهذا الحديث ثم نفاه! وعدم علمه بالحديث ليس أمرا خطيرا، فعدم علم الصحابي
بالحديث لا يضر إذا ثبت عن صحابي آخر، فما بالك بالتابعين! فالحديث لم يرو إلا من
حديث أبي قتادة الأنصاري، وقد سبق من رواية ابن أبي شيبة عن الحسن البصري: «أنه
كان لا يرى بأسا أن يتبع الرجل بصره الكوكب إذا رأى به». مع أنه ثابت من رواية ابن
سيرين عن أبي قتادة الأنصاري، فالحسن لم يسمع بهذا الحديث كما بينته لك قبل قليل.
والأمر نفسه يجري على نفي التابعي الكبير طاووس بن كيسان اليماني في نفي علمه بذلك"
انتهى.
أقول:
أولاً: هذا (المفتري) - كعادته - يزعم هنا أني تبعت
البحريني! ولم أفعل! ولم أضعف الحديث بهذا الأثر كما قال!
وإنما لما رجّحت أن الحديث مرسل حاولت الوصول إلى أصله،
وأنه كان منتشراً بين الناس.
وقلت: "ولعل أصل تكفير صوم عرفة لسنتين هو ما كان منتشراً
بين الناس من أن صيامه يعدل سنتين!".
ثانياً: يعيد (المتعالم) ذكر العدوي ويقول عنه (العبدي)! فتنبه.
ثالثاً: قد أجبتك فتأملت فوجدتك (بطيء الاستيعاب)، فلم توضح لنا
التناقض في كلامنا؟! ويبدو أن كل شيء تقرأه تجده متناقضاً؛ لأن التناقض – يبدو -
جِبلة في عقلك! = (عقلية التناقض)!
نعم، أنا بنيت رأيي على أن راوي الحديث هو أبو قتادة العدوي،
فالحديث مرسل، ومخرجه بصري، فهل هذا يناقض استنكار الحسن البصري له؟!!
وعلى فرض أني قلت إن الحسن استنكره وأنت هنا لم تفهم!
فأنا لم أقل إن الحسن استنكر حديث الزماني عن أبي قتادة، وإنما
كانت عبارتي: "وقد أنكر الحسن البصري (ت110هـ) على من يقول بأن صوم عرفة يعدل
صيام سنة!".
رابعاً: قولك: "لو كان الحديث عن العدوي البصري لما فات
الحسن البصري" ليس بلازم! سيما والحديث أصلا عندهم مرسل، ولولا انتشاره عندهم
لما سألوا الحسن عما هو مشتهر من فضله.
فهذه حجة عليك لا لك! فلولا أن الحديث منتشر عندهم في البصرة
لما أنكر هذا الفضل الحسن لما ذكروه عنده في مجلسه!
خامساً: قولك بأن مخرج الحديث مدني أنصاري!! خلط عجيب!! فمخرجه
بصري فلم يروه إلا الزماني، وهو بصري، فكيف تقول: مخرجه مدني؟! وكيف يكون مخرجه
مدنيا ولا يعرفه أهل المدينة!!
سادساً: كيف علمت أن الحسن لم ينف الحديث، وإنما نفى علمه بهذا
الفضل لعدم ثبوت اطلاعه عليه؟! وأين الوضوح في أنه نفى علمه بالأجر، لا أنه علم
بهذا الحديث ثم نفاه؟!!
أليس الفضل موجودا في الحديث الذي يرويه الزماني على اختلاف في
ذكر سنة أو سنتين!
وهل يُذكر مثل هذا الأمر في مجلس الحسن إلا ويكون قائما على
حديث ما!
على أن الحديث قد يكون عند الحسن، فالعدوي من طبقته - وإن كان
أكبر منه بقليل -، وقد قال أبو قتادة العدوي مخاطباً بعض أهل البصرة «عليكم بهذا
الشيخ - يعني الحسن البصري -، فخذوا عنه فوالله ما رأيت قط رجلاً أشبه رأياً بعمر
بن الخطاب منه».
ولا يوجد عموماً دليل قاطع على أن الحديث كان عند الحسن، ولا على
أنه علمه أو نفاه، وإنما الأمر أنه ذكر له الفضل في صيام عرفة، ولا شك أن هذا
الفضل مستند لحديث ما، فأنكر ما جاء في ذلك.
سابعاً: مسألة أن الحسن لم يسمع بحديث الكوكب، وكان رأيه
خلافه! هذا لا يلزمنا هنا؛ لأننا نرى أن أبا قتادة هنا ليس الصحابي الأنصاري، بل
التابعي العدوي، فأثبت العرش ثم انقش!
والذي نراه أن ذلك كان رأياً للعدوي، خالفه فيه الحسن البصري،
والله أعلم.
- وقال المْحِمْدِي (ص30-31): "بقيت مسألة إعلال
طاووس بأن الحديث لم يرو عن أبي بكر وعمر، وقد أجاب الدكتور بسام العطاوي عنها
فقال: "أن المراد به أنهما كانا لا يصومانه في الحج. ودليل هذا ما يلي:
أ- إنه جاء التصريح بذلك في رواية الفاكهي هذا الأثر فقد
روى الأثر من طريق مروان عن محمد بن شريك عن سليمان الأحول عن طاووس في صوم يوم
عرفة قال: "إن كان أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما سنة فما صاماه يعني يوم
عرفة في الحج.
ب- أن ابن أبي شيبة روى هذا الأثر تحت باب صوم يوم عرفة
بمكة، فهذا معنى الأثر عنده...
ورد الدكتور بسام يدلك بلا تردد أن المضعفان دلسا على
القارئ! فطاووس يتحدث عن صيام أبي بكر وعمر في عرفة، وهذا أمر مختلف عليه، بين
الصحابة ومن بعدهم وإلا فليس مثل طاوس علما وفهما يستدل على تضعيف حديث بعدم رواية
الشيخين أبي بكر وعمر! ولكن العجب كل العجب من الباحثين فوزي والحايك! كيف فهما
ذلك؟ ثم كيف طاوعهما قلمهما أن يعترضا بمثل ذلك؟ فهل يشترط رواية أبي بكر وعمر
لقبول رواية الحديث! فكم حديثا روايا؟ وكم حديثا في العقيدة وأصول العبادة جاءت من
طريق صحابي ليس مشهورا بين الصحابة؟ فعلى قاعدتهما العجماء (!) تنسف أصول ديننا! ثم
لو سلمنا لكلامهما وأن ما فيه فضل كبير لا يثبت إلا برواية أبي بكر وعمر، نقول: حديث
صيام ستة من شوال؟ ألم يصح عن أبي أيوب الأنصاري؟ وفيه أجر كصيام الدهر، وقد أنكره
مالك بن أنس وهو من هو!! وسمعت مالكا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان:
قال يحيى الليثي: "إني لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك
عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس
منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك خفته عند أهل العلم ورأوهم يعملون
ذلك".
فهل تنكران صيام ست من شوال وأجره كون الإمام مالك مديني
ينفيه وينفي عمل أهل المدينة عليه؟ ومن أين أخذ أهل المدينة عملهم وتواطأوا عليه؟
وكيف توجهان هذا النفي حسب قاعدتكما فهو مديني ومخرجه مديني!! أضف إلى إلى أن
الحديث لم يروه أبو بكر وعمر، ولم يأت عنهما صيامه؟ انتهى كلامه.
أقول:
أولاً: لا يزال (المفتري) يدلّس على القارئ! فالدكتور
العطاوي يرد على بحث فوزي البحريني لا بحثي! وبحثي خرج بعد رد العطاوي بسنوات! فلا
دخل لإقحامي هنا في هذا الكلام!
والذي قلته في بحثي: "ولعل أصل تكفير صوم عرفة لسنتين هو ما كان
منتشراً بين الناس من أن صيامه يعدل سنتين!"، وذكرت أثر طاوس وغيره.
ثانياً: قوله هذا ليس له رائحة حجة ولا دليل إلا فهم ابن أبي شيبة في ذلك ثم
يرمي من خالف هذا الفهم بالتدليس!! وكأن التبويب حجة نصية قاطعة!!
مع أن الإمام الطبري روى هذا الأثر عن طاوس في «تهذيب الآثار» [مسند عمر] (1/361) وبوَّب عليه
بقوله: "ذِكْرُ مَنْ كَرِهَ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ بِكُلِّ مَوْضِعٍ".
فنص الطبري على أن طاووس ممن كره صوم عرفة بكل موضع بل كل
من نقل عنهم ذلك كعمر وابنه والحسين بن علي، ثم ختم سرد الآثار بقوله: "وَأَمَّا
كَرَاهَةُ مَنْ كَرِهَ صَوْمَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ، وَلِغَيْرِ الْحَاجِّ، فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ
ذَلِكَ لَهُ؛ لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُنَا قَبْلُ مِنْ إِيثَارِهِمُ الْأَفْضَلَ
مِنْ نَفْلِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ. وَلَعَلَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُمْ
إِنَّمَا كَرِهَهُ إِذْ كَانَ الصَّوْمُ يُضْعِفُ الْمُجْتَهِدَ عَنِ الِاجْتِهَادِ
فِي الدُّعَاءِ، فَآثَرَ الْفِطْرَ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الدُّعَاءِ، كَالَّذِي
ذَكَرْنَا عَنْ عَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ الصَّوْمِ
ذَلِكَ الْيَوْمَ لِمَنْ صَامَهُ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، بَلْ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ
فِيهِ. وَقَدِ اخْتَارَ صَوْمَهُ عَلَى إِفْطَارِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ،
حَتَّى لَقَدْ صَامَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِعَرَفَةَ"ا.هـ.
ثالثاً: لم أدلِّس على القارئ بشأن أثر طاوس! فهذا الكذاب
لا يزال يفتري عليّ!! عليه من الله ما يستحق!
وهذا ما قلته في أثر طاوس وغيره في أصل البحث:
"قلت: وكأن هذا الفضل لصيام عرفة إنما كان لمن حجّ كما هو ظاهر تبويب ابن
أبي شيبة في «مصنفه» وإيراده هذا الأثر وغيره في «باب فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
بِمَكَّةَ». وأورد الأثر أنّ عَائِشَةَ «كَانَتْ تَصُومُ عَرَفَةَ» في هذا الباب، وفي
باب «مَا قَالُوا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِغَيْرِ عَرَفَةَ»!".
ثم عنونت بعنوان: "كيفية التعامل مع الآثار التي
يكررها ابن أبي شيبة في كتابه في أكثر من باب!"، ثم قلت: "فالأمر غير
واضح هل هذا الفضل الذي كان منتشراً في صيامه في عرفة أم بغير عرفة! ولهذا نجد اختلافاً
عند العلماء في ذلك كما هو الظاهر عند ابن أبي شيبة فإنه أورد بعض الآثار في
البابين، وهذا من منهجه؛ لأن ذلك غير بيّن بخلاف لو كان الأمر واضحاً عنده فإنه
يورده في الباب الذي يخصه. وأيضاً فإنه قد يورد بعض الآثار في بابين: باب يدل فيه
الأثر على العموم أو الإطلاق، وباب يدل فيه الأثر على الخصوص أو التقييد، وهذا لا
يُعدّ تناقضاً، وإنما يروي الآثار كما سمعها، وحينها يُحمل الخاص على العام،
والمطلق على المقيد، فقد رُوي عن عائشة أنها كانت تصوم عرفة مطلقاً دون تحديد ذلك،
ورُوي أنها كانت تصومه في الحج، فيُحمل المطلق على المقيد وهو أنه كانت تصومه في
الحجّ، ولو كان عندها أيّ حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم لأخبرت به..."
إلخ.
رابعاً: لئن كان الإمام مالك على جلالة قدره ومكانته في
السنة يترك العمل بأحاديث مسندة مرفوعة متصلة في غاية الصحة لأجل ترك أهل المدينة
فلأن يترك مثل طاووس مثل هذا الوارد بهذا الإسناد المنقطع من باب أولى..!!
مع التنبيه لضعف ما ورد في صيام الستّ من شوّال، وأن الصواب
ما قاله الإمام مالك، وليس هذا محل بسط المسألة، فقد كتبت فيها - بحمد الله- بحثاً
مطولاً.
وهذا آخر الرد على (خربشات) المْحِمْدِي
التي أطلق عليها (وقفات).. وأنهاها بقوله: "يتبع.. بوقفات أخرى"!!
والملاحظ في رد المْحِمْدِي مدى
الحقد والحسد والغلّ الذي في قلبه!! وهذا عجيب من أستاذ يدّعي علم السنة!
وبان للقارئ: كذبه، وافتراؤه،
وتدليسه، وعدم فهمه، وخلطه، وقلة استيعابه، وجهله بهذا العلم الشريف.
وفي كل ما كتبه لم يأتنا بمعلومة
جديدة واحدة! ولا بفهم لأهل العلم يناقض ما أصّلناه - بفضل الله -!
فالأصل في الردود أن يكون فيها
معلومات غابت عن الباحث، أو أشياء أصّلها أهل العلم لم يوردها، ونحو ذلك. فأما رده
فلا يسوى - والله - الحبر الذي كتب به، ولا الوقت الذي صرفناه في الرد عليه! لكن
الذي جعلنا نفعل ذلك هو تطاول هذا الرجل، وكذبه، فأردنا بيان حقيقته أمام الله، وخلقه
سبحانه وتعالى.
وهذه تذكرة لذاك الرجل
الذي أثنى على (خربشات) المْحِمْدِي وأنها "اشتملت على نفس علمي بحثي دقيق، ابتعد
فيه الباحث عن التهور والغرور الذي أصاب بعض الباحثين في جملة من التوهيمات لكبار
أئمة هذه الصنعة، وأبرز حكمة علمية في وقفات دقيقة"!!!
فأقول له: يا (مسيكين): أين هذا
النفس العلمي، وهو لم يورد معلومة جديدة واحدة! ولم ينقض فهما! وأين هذه الحكمة
العلمية الدقيقة؟!!
وهذا يدل على أمرين:
إما أنك لم تقرأ ما كتب، أو لم
تقرأ ما كتبت أنا! أو لم تقرأ كليهما!! فإن المنصف الذي يتقي الله قبل أن يصدر
حكمه لا بدّ أن يقرأ ويستوعب الكلام المردود عليه قبل أن يعطي رأيه!
وإما أنك قرأته لكن هذا مبلغك من
العلم.. وحينها فلا تثريب عليك، فكلّ إنسان يتكلم بحسب ما عنده.
والله المستعان، وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ
العالمين.
وكتب: د. خالد الحايك
السادس من شهر الله المحرّم لسنة
1441هـ.
·
رد المْحِمْدِي على بحثي في حديث «اللهم
بارك لنا في شامنا»!
نُشـر لدعي العلم «عبدالقادر المْحِمْدِي العراقي» على
ملتقى أهل الحديث بتاريخ (10/10/2018م) ما زعمه بأنه ردّ على العبد الفقير فيما
يتعلق بحديث: «اللهم بارك لنا في شامنا»..!!
وأصل القصة مع المْحِمْدِي أن العبد الفقير نشـر بحثه حول
هذا الحديث في موقعي الحديثي "دار الحديث الضيائية" قبل 6 سنوات أو نحوها،
فراسلني المْحِمْدِي هذا- وكان قد أرسل لي طلب صداقة قبلها بيسير ولم أكن أعرفه
ولا سمعت به ثم عرفني به أبو سمحة - يرجو مني حذف البحث، فلما لم أستجب له أول
الأمر!! فقال: سأرد عليك!! فقلت له: رد فكتب هذه الترهات التي ينشـرها الآن وسماها
ردا سوّدها في بضع ساعات للرد على بحث طويل أخذ مني وقتاً وجهداً كبيراً.
وأكاد أجزم أنه لم يقرأ البحث كاملاً..! ثم راسلني بعد ذلك
قائلا: "أُقبّل رجلك يا شيخ احذف البحث" فبدا لي التوقف عن نشره استجابة
لإلحاحه.. وإن زعم أنه لم يقلها فليباهل عليها إن كان رجلاً.. وصدق الشاعر حين قال:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته // وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فقمت بحذف البحث عن النت.. ثم بعد خصومته معي إذ هو ينشـر
تلك الترهات التي سماها رداً على بحث غير موجود على الشبكة كأنه يحاكي "دون
كيشوت" وهو يصارع طواحين الهواء!!
فما فائدة نشـر رد على بحث غير موجود على الشبكة أصلا.!
ولم يطلع عليه أحد إلا بعض خواصي من المحبين وطلبة العلم، فهذا يعكس مرض الرجل
وضيق عطنه وفساد باطنه..
وقد هاتفت أحد فضلاء الشيوخ المشتغلين بالحديث من أهل
العراق يومها فعرض ذكر هذا الدعي المْحِمْدِي، فما زاد على قوله: "هذا رجل
حسود" وصدق والله من قال أهل كل بلد أدرى بصاحبهم..!!
نعوذ بالله من فساد الأفهام وغلبة الأوهام وسوء الظن وضيق
العطن..
وقد قرأت (خربشاته) هذه يوم أن أرسلها لي، فوجدتها أبانت
عن حال الرجل في هذا العلم، ولم تستحق أن أرد عليها وإضاعة الوقت فيها!
لكن الرجل بعد أن نشر هذه (الخربشات)، وسوّل له الشيطان
أنها حسنة! ادّعى بأنه ينتظر ردي عليه منذ عام (2013م)، وكوني لم أرد عليه فهذا
يعني أنني عاجز عن ذلك!!
وحتى لا يبقى الشيطان بائلا في أُذنيه سأقتطع بعض الوقت
لأبين له أنه حاطب ليل، وأن هذا العلم للكبار! لا للهواة والفاشلين والأغمار!!
ومن الله نستمد العون والسداد، إنه هو الكريم الجواد.
ربّ اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني
يفقهوا قولي..
بدأ صاحب (الخربشات) بحثه ببعض الصفحات عن "الخطأ
المنهجي" - زعم!!- وهو عدم التفريق بين "القواعد والقرائن"!!
وهذا الكلام يردده في كل محفل! وقد أعاد نشره بحروفه معرف
باسم "ابن القطان العراقي" في "ملتقى أهل الحديث" في سنة
(2014م) تحت عنوان: "ملخص بحث لشيخنا الدكتور عبد القادر المْحِمْدِي: ((نقد
الحديث بين قرآئن الترجيح وقواعد متأخري الفقهاء))".
وكل ما يُنشـر في ملتقى أهل الحديث عن المدعو "المْحِمْدِي"
ينشـرها صاحب هذا المعرف وهو عضو في الملتقى منذ (18/3/2007)، ولا تكاد توجد له
مشاركة إلا بنشر ما يتعلق بالمْحِمْدِي هذا! حتى يُخيل للناظر في مشاركاته أنه هو
نفسه المْحِمْدِي! - والله أعلم.
ومن هذه المشاركات ما نشـره عن كتاب للمحمدي بقوله:
"صدر كتاب محاسن الاصطلاح بتحقيق الدكتور عبد القادر المْحِمْدِي وبنفائسه
المعهودة في تقدمة رائعة، والكتاب حقق على نسخة نفيسة جدا عليها إهداء البلقيني
للسلطان محمود خان وقد تكون بخط البلقيني؟ ومقابلة على نسختين، طبع الكتاب في دار
ابن حزم. نفع الله بالشيخ ومتعنا بعلمه" انتهى.
فإن كان هذا المعرف له! فالله المستعان.
وأعاد هذا الكلام أثناء مشاركته
في الندوة الأخيرة التي عُقدت في الأردن حول معايير النقد في التصحيح والتضعيف!!
وهو يدندن حولها ويخلط الأمور
بعضها ببعض! فمن يُنكر وجود القرائن؟ ومن يُنكر أن أهل المصطلح عندما وضعوا بعض
القواعد الجامدة وصاروا عليها سلكوا طريقا غير طريق أهل النقد المتقدمين؟!
لكن تجد الرجل مضطرباً في كلامه!
أو أنه لا يستطيع إيصال فكرته التي يؤمن بها! فيعيب على من يستخدم القواعد العامة
ثم يرجع ويقول هي محترمة! ثم تجده يتكلم عن ترجيحات هذه القواعد بين أهل النقد
وأهل الأصول كتقديم الوصل على المرسل مطلقا، وكقبول زيادة الثقة مطلقا، وغير ذلك.
وهدفه في إثارة مسألة التفريق بين
القواعد والقرائن هو التشويش على خصمه بأنه يتبع القواعد الجامدة ولا يتبع القرائن
ويتهمه بأنه لا يتبع القرائن! ثم يقول بأنه لا يوجد أحد عمل بالقرائن بعد ابن
خزيمة! لأن معرفة القرائن انتهت إليه، ثم يرجع ويقول إلا القليل - ربما ليخرج نفسه
من هذا المأزق لأنه أحياناً هو في بعض كلامه يشير إلى بعض القرائن-!
وأذكّر القارئ الكريم بكلام لي في
بحثي حول حديث كفارة صيام عرفة، قلت وأنا أتحدث عن شواهد الحديث تحت عنوان:
"كلمة في التصحيح بالشواهد": "إن مسألة تصحيح الحديث وتحسينه
بالشواهد والمتابعات من أعوص مسائل علم الحديث، وقد تهاون فيها كثير من أهل العلم
وطلبته! فإذا أراد الواحد منهم تصحيح حديث أو تحسينه حشد هذه الشواهد والمتابعات
ولو كانت واهية، ورواتها لا يُحتج بهم، أو هي أحاديث معلولة، لا تقوي ما يذهبون
إليه! أو تجدهم يقولون: هذا الحديث في الفضائل، وأهل العلم يتساهلون في الفضائل!
وهذا الفِعل الذي أصبح حقيقة مسلّمة قد جرّ الويلات على الأحاديث فصححوا وحسنوا
المنكرات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا لا يعدّ من التشدد في التصحيح
والتضعيف - كما يزعم بعض المخالفين-، وإنما الاحتجاج بالضعيف في الفضائل له ذوقٌ
يعرفه من خبُر الأسانيد والمتون والرّجال، وعاش مع أهل الحديث، لا سلوك طريق
قواعد المصطلح الجامدة!".
فنحن بفضل الله لا نتبع القواعد الجامدة،
وإنما نُعمل القواعد المتفق عليها دون الالتفات إلى ترجيحات أهل الأصول التي
خالفوا فيها أئمة النقد، وتركوا القرائن ولم يعملوا بها، وكلامنا منشور منثور في
ذلك في مواضع كثيرة.
فنحن نوافقه على التفريق بين القواعد
والقرائن، لكن لا نخلط الأمور كما خلطها هو! وسأبيّن ذلك من خلال بيان ضعف أقواله،
وركاكة استدلالاته!
·
نقد
مقدمته حول مسألة التفريق بين القواعد والقرائن!
- يقول المْحِمْدِي: "قبل الولوج في
مناقشة الموضوع أود أن أبين مسألة مهمة جدا وهي التفريق بين القرائن والقواعد،
ويترتب على هذا التفريق، معرفة الفرق المنهجي بين ترجيحات الأئمة النقاد أهل
الدراية وترجيحات من بعدهم.
فالقاعدة هي: "حكم كلي ينطبق على
جزئياته ليتعرف أحكامها منه"، أي: "قضية كلية منطبقة على جميع
جزئياتها" [التلويح على التوضيح، التفتازاني].
وقال القرافي: "وكذلك اشتراطه القرينة
فإن المفتي يتبع الأسباب والمقاصد دون القرائن وإلا فيلزم مخالفة القواعد ويتعذر الفرق
بين ما ذكر من النظائر." [الفروق].
أما القرينة فعرفها الجرجاني: "أمر يشير
إلى المطلوب". [التعريفات].
وقيل: الأمر الذي يصرف الذهن عن المعنى الوضعي
إلى المعنى المجازي. وقيل هي: ما يدل على المراد من غير أن يكون صريحًا فيه.
وأعرفها: هي أمارات تغلب على ظن الناقد
تحمله على الترجيح في حكمه على الراوي والمروي، ولا تجري على قانون واحد. وهي قد
تكون ظاهرة أو خفية، وقد تكون مادية أو معنوية.
فالأئمة النقاد لم يعتمدوا على القواعد
لأنها ثابتة جامدة، وإنما اعتمدوا في أحكامهم على القرآئن المحتفة بالراوي
والرواية، بخلاف متأخري الفقهاء، وجمهور أهل مصطلح الحديث الذين اعتمدوا على
القواعد وساروا عليها في تصحيح الأحاديث أو المقارنة بين الطرق.
فأهل القواعد درسوا كلام الأئمة وخرجوا من
بعض أقوالهم بقواعد جعلوها كلية، ففي تعارض الوصل والإرسال مثلاً قدموا الوصل
وجعلوه قاعدة! أو في تعارض الأحفظ مع الأكثر يقدم الأكثر على الواحد الثقة، وفي
تعارض ضبط الكتاب مع ضبط الصدر يقدمون ضبط الكتاب مطلقاً! وفي تعارض أصحاب الرجل
يعتمدون على نصوص معينة للأئمة في تقديم فلان في شيخه مطلقاً!! كما فعل أخي
الدكتور خالد ههنا.. وهكذا.
وهذا وإن كان مستساغاً - أعني عمل
القواعد- فيما اختلف فيه الأئمة عندنا وعند من سبقنا من العصور المتأخرة، لكنه
مرفوض إذا عورض به صنيع الأئمة ونقدهم، ثم منازعتهم في أحكامهم!
لذا فمن يزعم اليوم أنه يعرف القرائن التي
تعامل بها النقاد مع الروايات فهو واهم! فكل ما نصنعه اليوم هو استقراء أقوال
الأئمة واستنباط القواعد حسب؛ لأن القرآئن لا تقوم على قاعدة معينة وإنما تقوم على
جملة معطيات متراكمة في ذهن الناقد من خلال سبر حال الراوي والمروي، فيصرح ببعضها
أحياناً ويسكت عنها غالباً.
لذا فبعضنا وإن اعترف بوجود هذه القرائن
إلا أنه يخطئ خطأ جسيما حينما يجعل قرينة معينة ما قاعدة مطردة في كلِّ الروايات،
فمثلاً: مالك مقدم في الزهري.. فيأتي ناقد من النقاد الأوائل فيقدم من هو دون مالك
على مالك في حديث ما، ويحكم بغلط حديث مالك، ثم يأتيك متأخر أو معاصر ويعارض حكم
ذاك الناقد بقاعدة (أن مالكا أوثق أصحاب الزهري) ويدعي أنها (قرينة!!) وهذا محض غلط؛ لأنه صيّر القرينة قاعدة، ثم قد
يكون ترجيح رواية الأوزاعي - مثلا - على رواية مالك أو ابن عيينة في الزهري لقرينة
أخرى لم يصرح بها ذاك الناقد وصنيع الأئمة واضح في ذلك" انتهى كلامه.
أقول:
أولاً: مشكلة المْحِمْدِي مع القواعد التي
أصّلها الفقهاء وأصول الفقه وبنوا عليها أحكامهم في الحكم على الأحاديث، ولهذا
يقول في ملخصه حول هذه المسألة التي أشرنا إليها آنفا: "فمن المهم التفريق
بين قرآئن الترجيح عند أئمة النقد، والقواعد المطردة عند متأخري الفقهاء، والتي
أسس عليها علماء مصطلح الحديث قواعدهم بعد".
وقد أشرت فيما سبق أننا لا نتفق مع
الأصوليين والفقهاء في أحكامهم حول استخدام بعض هذه القواعد الجامدة، فلا يحتج
علينا بذلك وأننا نسير على منهجهم! فهذا افتراء منه! وأتحداه أن يأتيني بمثال واحد
اتبعت فيه قواعد هؤلاء وأعرضت عن القرائن.
ثم هذه القواعد ليست أجنبية عن علم
الحديث، وإنما الإشكال فقط في ترجيحات هؤلاء الفقهاء والأصوليين عند الاختلاف
كتقديم الموصول على المرسل مطلقاً، وقبول زيادة الثقة مطلقا، ونحو ذلك، وأما تأصيل
القواعد نفسها فلا شيء فيها.
ثانياً: إتيانه بتعريف القاعدة والقرينة
من بعض كتب الأصوليين لا ينفع هنا! فالأمر مختلف تماماً!
فالأصل عندهم هو القاعدة، ولا يُصار إلى
خلاف مفهومها إلا بقرينة.
فالأصل في الأمر للوجوب إلا إذا جاءت
قرينة صرفته عن ذلك للندب والاستحباب. ولهم تفصيلات كثيرة في كتبهم عن ذلك.
وقواعد أهل الحديث الأصل فيها ما هو
منطوقها ومفهومها إلا إذا كان هناك قرينة تصرف ذلك لترجيح آخر.
فمثلاً قاعدة أن الحكم للأكثر في مقابل
الثقة الذي ينفرد بشيء عن غيره من الثقات، فالقاعدة هي الأصل والمعمول بها عند
المتقدمين والمتأخرين، لكن إن كان هناك مخالفة لهذا الأصل عند ناقد ما فإنما يخالف
من أجل قرينة هو يراها دعته يحكم لهذا الفرد كأن يكون مختصاً في روايته عن ذلك
الشيخ، مع عدم التسليم أحياناً لبعض القرائن، فالأمر يبقى على الاجتهاد.
ثالثاً: قوله: "وقال
القرافي..."! لا علاقة له بموضوعنا هنا!
فالقرافي يتحدث عن مسألة: "إذَا
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى مِنْ وَثَاقِ وِلَايَتِهِ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا
طَلُقَتْ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ بَرِيَّةٌ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ طَلَاقًا
وَيُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ
قَرِينَةٌ مُصَدِّقَةٌ".
فتكلّم على هذه الفتوى، ثم ذكر لها بعض
النظائر، ثم ختم كلامه بما نقله هنا، والفرق بين ما يأخذ به الحاكم في القضاء وبين
االمفتي.
رابعاً: تعريفه للقرينة فيه خلل! وليس
جامعاً مانعاً كما هو الأصل في صياغة التعريف.
والقرينة لا تستخدم فقط في الترجيح كما هو
ظاهر كلامه، بل تستخدم أيضاً في إصدار الحكم ابتداء.
والقرينة تستخدم للحكم على المروي لا على
الراوي، فمسألتنا هنا تتعلق بما يرويه الراوي لا بالحكم عليه نفسه.
وقوله: قد تكون ظاهرة أو خفية! فكيف تكون
ظاهرة؟ وهل يُقصد بالخفاء هو عدم الوصول إليها؟ أم قد يوصل إليها بإمعان النظر؟!
وأما قوله: قد تكون مادية أو معنوية! فهذا
غريب!! فكيف تكون مادية؟!!
ويكأنه حاول الاستفادة من كلام الجرجاني
لما عرف القرينة ثم قال: "والقرينة: إما حالية، أو معنوية، أو لفظية".
فقال هذا (المتعالم) ما قال!
والقرينة: هي ما يُحيط الرواية من أحوال
أو ما يُصاحبها تجعل الناقد يحكم على الرواية بحكم قد يُخالف الأصل الذي ينبغي
اتباعه.
خامساً:
قوله: "فالأئمة النقاد لم يعتمدوا على القواعد لأنها ثابتة جامدة، وإنما
اعتمدوا في أحكامهم على القرائن المحتفة بالراوي والرواية.." قول غير مستقيم!
فهل هذه القواعد كانت مؤصلة ومؤسسة في زمنهم؟ والمخالف هنا يقول إن هذه القواعد
إنما أصّلها أهل الفقه والأصول!
مع الإشارة إلى أن هذه القواعد المتأخرة
هي مأخوذة من حاصل كلام الأئمة النقاد في تطبيقاتهم مع الاختلاف مع الأصوليين
والفقهاء في مسائل الترجيح في بعض هذه القواعد التي أصبحت جامدة لعدم النظر إلى
فهم الأئمة النقاد وكيفية الترجيح عندهم.
سادساً: وضع القواعد وجعلها كلية ليس
عيباً، بل العيب في مسألة السير على القاعدة مطلقاً وعدم النظر إلى القرائن.
سابعاً: قوله بأن أهل القواعد قدموا
الأكثر على الواحد الثقة إذا تعارض الأكثر مع الأحفظ هذا هو الأصل.
فإذا روى الحديث جماعة عن شيخ، ثم خالفهم
واحد فرواه على وجه آخر أو زاد فيه ونقص من إسناده، وكان موصوفاً بالحفظ، فهل
يُقدّم الفرد هذا على الجماعة؟ الأصل هو عدم تقديمه؛ لأنه يستحيل أن أُوهّم
الجماعة مقابل الفرد بحجة أنه أحفظ!
نعم، بعض أئمة النقد يفعلون هذا.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (5/71) (1811):
وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ شُعبة، عَنْ سِمَاك بنِ حَرْبٍ، عَنِ النُّعمان بن
بَشِير، عَنْ عُمَرَ؛ قَالَ: «مَا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْبَعُ مِنَ
الدَّقَلِ، وَمَا تَرْضَونَ أَنْتُمْ دُونَ ألوانِ التَّمرِ وألوانِ الثِّياب»؟
قال: كذا قال شُعبة، وَأَمَّا
غيرُهُ مِنْ أَصْحَابِ سِمَاك فَلَيْسَ يتابعُهُ أحدٌ مِنْهُمْ؛ إِنَّمَا يَقُولُونَ:
سِمَاك، عَنِ النُّعمان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لا يقولون: «عمر».
قلتُ لأَبِي: أيُّهما أصحُّ؟
قَالَ: شُعبة أحفظُ.
قلتُ: لم يتابعْهُ أحدٌ؟
قَالَ: وإنْ لم يتابعْهُ أحدٌ؛ فإنَّ
شُعبةَ أحفظُهم.
قلت: قول ابن أبي حاتم بعد أن
رجّح أبوه قول شعبة لأنه أحفظ: "لم يتابعه أحد" = فيه تقرير لأصل هذه
القاعدة وهو تقديم الجماعة على الفرد.
لكن رأى أبو حاتم أن هذا الفرد
يُرجّح على رواية الجماعة لأنه أحفظ! لكن هل يُعقل أن تكون الجماعة وهمت فيه؟!!
وهنا نلجأ إلى قرينة أخرى، وهي:
ضعف الراوي، فسماك أصلا ضعيف، فيكون روى الحديث على الوجهين، وكل حفظ ما سمعه منه،
فليست المسألة في تقديم الفرد الأحفظ على الجماعة، والله أعلم.
ومسألة الحفظ لا شك أنها قرينة
للترجيح، لكن تقديمها على الأكثر يحتاج لنظر! والحافظ قد تخونه الذاكرة أحياناً.
ثامناً: قوله: "وفي تعارض
ضبط الكتاب مع ضبط الصدر يقدمون ضبط الكتاب مطلقاً!" ليس بصحيح! وكان عليه أن
يأتينا بأمثلة يُدلل بها على هذا الإطلاق المُدّعى!
والتعارض قد يكون بين رواة عن شيخ
ما، وقد يكون التعارض في رواية الراوي نفسه، فقد يروي الحديث على وجهين، فحينها
يُقدّم الأئمة ما رواه من كتابه على ما رواه من حفظه؛ لأن الحفظ خوّان، والكتاب
أضبط.
قيل ليحيى بن معين: أيهما أحبّ
إليك ثبت حفظ أوثبت كتاب؟ قال: "ثبت كتاب".
وقال علي بن المديني: "ليس
في أصحابنا أحفظ من أبي عبدالله أحمد بن حنبل وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا
فيه أسوة".
وقال الإمام أحمد: "حدثنا
قوم من حفظهم، وقوم من كتبهم، فكان الذين حدّثونا من كتبهم أتقن".
وقال عَلِيّ بن المَدِيْنِيَّ -
وهو يتحدث عن أصحاب قتادة-: "سَعِيْد أحفظهم عن قَتَادَة. وشُعْبَة أعلم بما
يَسْمَع وما لَمْ يَسْمَعْ. وهِشَام أَرْوَى القَوْم. وهَمَّام أسندهم إِذَا
حَدَّثَ من كتابه".
فإذا اختلف الرواة على شيخ ما،
فأحياناً يُقدّم أهل النقد صاحب الحفظ على صاحب الكتاب، والعكس، وكانوا أحياناً
يقدمون رواية يونس بن يزيد الأيلي عند الاختلاف على الزهري؛ لأنه كان صاحب كتاب،
وكان مضبوطا.
وقد يقدمون الواحد على أصحاب
الكتب مجتمعين.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/488)
(61): "وسألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ صالحُ بنُ كَيْسان،
وعبدُالرحمنِ ابنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْري، عَنْ عُبَيدالله بن عبدالله، عَنِ
ابْنِ عَبَّاس، عَن عمَّار، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فِي التيمُّم؟
فقالا: هذَا خطأٌ؛ رَوَاهُ مالك،
وابن عُيَينة، عَن الزُّهْري، عن عُبَيدالله بن عبدالله، عَنْ أَبِيهِ، عَن عَمَّار،
وهُوَ الصَّحيحُ، وهما أحفَظُ.
قلتُ: قد رَوَاهُ يونسُ،
وعُقَيْلٌ، وابنُ أَبِي ذئب، عن الزُّهْري، عن عُبَيدالله بن عبدالله، عن عمَّار،
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهُمْ أَصحابُ الكُتُب!
فَقَالا: مالكٌ صاحبُ كتاب،
وصاحبُ حِفْظ".
قلت: فقول ابن أبي حاتم أن هؤلاء
أصحاب الكتب فيه إشارة إلى أن الأصل تقديم صاحب الكتاب، فما بالك إذا اجتمع أكثر
من صاحب كتاب على الحديث، لكن رجّحوا رواية مالك بأنه جمع بين الكتاب والحفظ.
تاسعاً: قوله: "وفي تعارض
أصحاب الرجل يعتمدون على نصوص معينة للأئمة في تقديم فلان في شيخه مطلقاً!! كما
فعل أخي الدكتور خالد ههنا"! فيه إيهام وتدليس!! ويحتاج للتدليل عليه! لا أن
يلقي الكلام هكذا على عواهنه!
فمسألة تقديم فلان على فلان في
الشيخ ليس بقاعدة، وإنما هي قرينة يُستفاد منها في الترجيح.
ثمّ أليس هذا التقديم من هؤلاء
الأئمة النقاد الذين أنت تقول بأن المرجعية لهم؟!
إذن، لم تعترض على تقديم بعضهم
فلانا في أنه المقدّم في شيخه على غيره؟!
وما فعلته أنا هنا في هذا الحديث
أني استخدمت أقوال أئمة النقد في تقديم عبيدالله بن عمر في أصحاب نافع، فقد اتفقوا
على ذلك، فما هي القرينة عندك حتى لا نأخذ بكلامهم في هذا التقديم؟!!
فهم قدموه مطلقاً على غيره، فجعله
ابن المديني والنسائي في الطبقة الأولى من أصحاب نافع، فإذا جاء واحد من طبقة أخرى
وخالفه أليست تعتبر هذه قرينة على تقديمه؟ وإلا فمن يقدّم غيره فعحدادليه أن يأتي
بقرينة أخرى على تقديمه! فكيف إذا كان هذا الذي في الطبقة الأولى قد تُوبع من
أصحاب الطبقة الأولى نفسها، ومن طبقات أخرى!
عاشراً: رجع (المتعالم) يقول إن إعمال هذه
القواعد فيما اختلف فيه الأئمة يكون مستساغاً، ثم قال إن ذلك مرفوض إذا عورض بها
صنيع الأئمة ونقدهم، ومنازعتهم في أحكامهم!!
وهذا اضطراب منه! لأنه يريد أن يرد فقط
عليّ من أجل الرد!!
فهو يريد أن يثبت أني استعملت القواعد
ونازعت صنيع البخاري ونازعته في حكمه!!
وهذا جهلٌ منه! فالأصل أن تثبت أولاً أني
استخدمت هذه القواعد العامة التي تخالف عمل الأئمة المتقدمين!
والمشكلة عنده أنه يرى أن كل حديث في
البخاري صحيح، وأن هذه مسلَّمة قطعية الثبوت والدلالة! وعليه فكلّ حديث صححه
البخاري في كتابه صححه بالقرائن، ولأننا لا نعرف القرائن في هذا الزمان - بحسب
قوله - فلا يجوز منازعته في ذلك!
وهذا كلام ليس بصحيح! فالإمام البخاري -
رحمه الله- اجتهد في ذلك، وقد خالفه من خالفه من أهل العلم في بعض الأحاديث بالقرائن،
لكن أن نقول إن البخاري صححها لقرائن خفيت على من جاء بعده فهذا لا دليل عليه!
وفيه مجازفة كبيرة!
ويبقى الأمر في دائرة الاجتهاد: ننظر إذا
عارضنا بعض الأئمة في صنيعهم، بم عارضناهم؟ هل عارضناهم بأدلة وقرائن، أم بأشياء
لا تمت لعلم النقد بصلة؟ ثم بعدها يحكم من يفهم هذا العلم.
حادي عشر: قوله: "لذا فمن يزعم اليوم
أنه يعرف القرائن التي تعامل بها النقاد مع الروايات فهو واهم!" باطل! لأنه
بنى هذا على أن هؤلاء عندما صححوا الأحاديث صححوها لقرائن عندهم = يعني كل حديث
صححوه إنما صححوه بقرينة لا نعرفها نحن! فمسلم إذا صحح حديثا فعنده قرينة صححه
بها! وهذا لا يقول به عاقل! فكيف بأصحاب الحديث! فكم من حديث صححه مسلم بالمعاصرة
ونُوزع في ذلك! فأي قرائن هذه التي صحح الأحاديث بها!!
فصاحبا الصحيح كل واحد له منهجه في
التصحيح، ومن يُضعف أحاديث فيهما إنما يضعفها بحسب منهج أهل النقد كما فعل
الدارقطني، فهو يأتي بقواعد وقرائن في التضعيف، وهنا يُنظر لكلامه من هذه الزاوية،
لا أن نرد كلامه بحجة أنهما صححا لقرائن لا نعلمها!
وهنا يخلط هذا (المتعالم) بين أمرين!
الأول: وهو مسألة التضعيف بقرائن، وبين ما اخترعه من مسألة التصحيح بقرائن! فلو
أنك حقيقة نظرت في كتاب الدارقطني في تتبعه لوجدته يأتيك بأدلة يستدرك عليهما في
التصحيح دون أن يتفوّه بشيء عن تصحيحهما بقرائن، في حين تجد الحافظ ابن حجر يُدافع
عن تخريج البخاري لأحاديث في صحيحه تبعاً لبعض القرائن، كأن يُخرّج في كتابه مثلا
حديثا مرسلا أو منقطعا أو غير ذلك، فيقول إنه خرجه لقرينة ما كقرينة الاختصاص ونحو
ذلك، كما فعل في تخريج حديث لأبي برده عَن أبي مُوسَى، فاعتمد أَن أَبَا بردة حمله
عَن أَبِيه وترجح ذَلِك عِنْده بقرينة كَونهَا تخْتَص بِأَبِيهِ فدواعيه متوفرة
على حملهَا عَنهُ كما بيّن الحافظ في «الفتح»، وهذا في غالبه ليس تصحيحاً لهذه
الأحاديث، وإنما لبيان إخراج البخاري في «صحيحه» هذا الحديث أو ذاك، بل إنه
أحياناً يُصرّح إنه لا عُذر للبخاري في تخريجه لبعض الأحاديث.
وكذلك تقرير (المتعالم) في آخر الكلام بأن
الناقد أحياناً يصرح بالقرينة وفي الغالب يسكت عنها فهذا كلام خبط عشواء! فإن كان
كلامه هنا يقصد به التصحيح بالقرائن - كما هو ظاهر الحال هنا لأنه يتعقبني في حديث
ضعفته في صحيح البخاري - فليبين لنا بعض هذه القرائن طالما أنه يصرح أحياناً بها!
وإن كان يقصد كلام أهل النقد في كتب العلل - وهو الغالب - فكلامه أيضاً مردود! لأن
الناقد لا يُضعِّف إلا ببيان السبب غالباً، وإن لم نجد ذلك أحياناً فهذا قد يكون
تقصيراً ممن نقل عنه، لكن لو نظرت في علل ابن أبي حاتم لرأيت أبا حاتم وأبا زرعة
يُبينان القرائن التي يرجحان بها بعض الطرق على أخرى، بل تجدهم أحياناً يبينون
الخطأ، ولا يستطيعان تحديد المخطئ في الرواية.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/280) (372):
وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ الدَّرَاوَرْدي، عَنِ ابْنِ عَجْلان، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ الهَمْداني، عَنْ عَمْرو بنِ أوسٍ الثَّقَفيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمة؛ أنَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَلَّى اثْنَيْ عَشَرَ رَكْعَةً، بُنِيَ
لَهُ بَيْتٌ فِي الجَنَّةِ»؟
قَالَ أَبِي: هَذَا خطأٌ؛ الناسُ يقولون:
عن أمِّ حَبِيبَةَ.
قلتُ لأَبِي: الخطأُ مِمَّن هُوَ؟
قَالَ: لا أَدْرِي.
وقال (3/218) (812): وسألتُ أَبِي عَنْ
حديثٍ رَوَاهُ يزيدُ بن هارون، عن عبدالعزيز بن الماجِشُون، عن عبدالله بن
الفَضْل، عن الأعرَج، عَنْ أَبِي سَلَمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: كَانَ مِنْ
تلبيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ إِلهَ الحَقِّ؟
قَالَ أَبِي: كَذَا حدَّثنا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بن البَخْتَري، عَنْ يَزِيدَ.
وحدَّثنا أَبُو سَلَمة وغيرُه، عن
عبدالعزيز بن الماجِشُون، عن عبدالله بْنِ الفَضْل، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ؛ لا يَذْكُرونَ أَبَا سَلَمة.
قلتُ: أيُّهما أصَحُّ؟
قَالَ: لا أَدْرِي، غيرَ أنَّ الناسَ
عَلَى حَدِيثِ الأعرَج أكثرُ، ويزيدُ بْنُ هَارُونَ ثقةٌ.
وقال أيضاً (5/366) (2049): وسألتُ
أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ عبدالصمد بن عبدالوارث، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُسَيْنٍ
المُعَلِّم، عَنِ ابْنِ بُرَيْدة؛ قَالَ: حَدَّثَنِي ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله
عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا دَخَلَ مَضْجَعَه: الحَمْدُ للهِ الَّذِي
كَفَانِي وَآوانِي...، وَذَكَرَ الحديثَ.
ورَوَاهُ أَبُو مَعْمَر
المِنْقَري، عن عبدالوارث، عَنْ حُسَيْنٍ المُعَلِّم، عَنِ ابْنِ بُرَيْدة؛ قَالَ:
حدَّثني ابنُ عِمْرَانَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
قلتُ لأَبِي: أيُّهما أصحُّ؟
قَالَ: حَدِيثُ أَبِي مَعْمَر
أشبهُ.
قلتُ لأَبِي: ابنُ عمران من هو؟
قَالَ: لا أدري.
قلتُ: فابنُ بُرَيْدة أدركَ ابنَ
عُمَرَ؟
قَالَ: أَدركَهُ ولم يَبِنْ
سماعُهُ منه.
قلت: فانظر أيها القارئ لو صحح
بعضهم حديث ابن بريدة عن ابن عمر بسبب الإدراك والمعاصرة كما يفعل مسلم لكان هذا
مستساغاً بحسب هذا الشرط، لكن أبا حاتم لم يفعل ذلك لأن ابن بريدة لم يذكر سماعاً
من ابن عمر، فكيف يرد المخالف هذه القرينة الواضحة لو أن أحداً صحح الحديث؟!!
ثاني عشر: قوله: "لذا
فبعضنا.." كلام مردود أيضاً! فمن قال بأننا جعلنا القرينة قاعدة مضطردة!!
القرينة تبقى قرينة، لكن إن كان
هناك كلام للأئمة حول أمر ما واتفقوا عليه، فلا حرج في اعتمادها كقاعدة كأن يتفقوا
أن فلاناً هو أثبت الناس في فلان، مع أن هذه القاعدة قد تنخرم، ولا نأخذها على
عمومها! لكن بعض هؤلاء الأئمة يتفقون على شيء ربما يخالفهم غيرهم بشيء آخر.
فالأمر نسبي هنا، وليس بحدّي
طالما أننا نتعامل مع كلام وقرائن قد يفهمها البعض ولا يفهمها البعض الآخر.
والمثال الذي ضربه هذا (المتعالم)
هنا في تقديم مالك في الزهري وأنه أوثق أصحاب الزهري فيه نظر من وجوه! وحبذا لو
يُسعفنا بمثال حقيقي لا افتراضي! ليأتنا بمثال قدّم فيه الأئمة رواية الأوزاعي في
الزهري على رواية مالك في الزهري!
وهو - وإن كان قال: مثلا - إلا أن
هذا التمثيل عيب هنا لعدم تحققه أصلاً بين مالك والأوزاعي في الزهري!
ثم إن هناك من قدّم مالكا في
الزهري مطلقا، وهناك من لم يقدمه! فلا يصلح هذا المثال هنا في رد هذا (المتعالم)
على تقديم عبيدالله بن عمر في نافع مطلقاً؛ لأنه لا خلاف في ذلك.
قال عُثْمَان بن سَعِيد الدارمي: سَأَلْتُ يَحْيَى بن
مَعِيْن عن أصحاب الزُّهْرِي، قُلْتُ لهُ: مَعْمَر أَحَبَّ إليكَ فِي
الزُّهْرِيِّ، أو مالك؟ فقال: "مالك".
وقال ابن الجنيد: سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: "شُعَيْب
بن أَبِي حَمْزَة من أَثْبَت الْنَّاس في الْزُّهْرِيِّ، كان كاتبًا له".
وقال ابن المبارك: "الحفّاظ عن ابن شهاب ثلاثة: مالك
ومعمر وابن عيينة، فإذا اجتمع اثنان على قولٍ أخذنا به وتركنا قول الآخر".
وقال عثمان بن أبي شيبة: سألت يحيى بن سعيد القطان: من
أثبت الناس في الزهري؟ فقال: "مالك بن أنس"، قلت: ثم من؟ قال: "ثم
ابن عيينة"، قلت: ثم من؟ قال: "ثم معمر".
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سمعت أحمد بن صالح يقول: "نحن
لا نقدم في الزهري على يونس أحدًا".
وقد تكلّم النقاد في رواية الأوزاعي عن الزهري.
قال ابن معين: "الأوزاعيُّ في الزهريِّ ليس بذاك، أخذ
كتاب الزهري من الزبيدي".
وقال يعقوب: "والأوزاعيُّ ثقة ثبت، وفي روايته عن
الزهريِّ خاصة شيء".
وللأوزاعي أوهام عن الزهري، وقد يُرجّح حديثه أحياناً عن
الزهري على غيره لقرينة.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (6/27) (2287): وسألتُ أَبِي عَنْ
حديثٍ رَوَاهُ الأوزاعيُّ، عَنِ الزُّهري، عَنْ سُلَيمان بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِي
هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «اصْبُغُوا اللِّحَى، وخَالِفُوا
اليَهُودَ»؟
قالَ أَبِي: "وَهِمَ الأَوزاعِيُّ فِي هَذا الحَدِيثِ!
النّاسُ يَقُولُونَ عَنِ الزُّهرِيِّ، عَن أَبِي سَلَمَةَ، عَن أَبِي هُرَيرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".
وقال أيضاً (6/593) (2790): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ
رَوَاهُ الأَوْزاعي، عَنِ الزُّهري، عَنْ أَبِي سَلَمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ وَالٍ إِلاَّ لَهُ
بِطَانَتَان ِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَاهُ عَنِ المُنكَر،
وبِطَانَةٌ لاَتَأْلُوهُ خَبَالاً»؟
قَالَ أَبِي: "رَوَاهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهري، عَنْ
أَبِي سَلَمة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم".
قالَ أَبِي: "هُوَ بِأَبِي هُرَيرَةَ أَشبَهُ؛ لأَنَّ
مُحَمَّدَ بنَ عَمرٍو يَروِيهِ، عَن أَبِي سَلَمَةَ، عَن أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".
قلت: هنا مال أبو حاتم إلى ترجيح رواية الأوزاعي عن الزهري
على رواية يونس بن يزيد الأيلي مع أن يونس صاحب كتاب، وذلك لأن الحديث رواه محمد
بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فهذه متابعة لحديث الأوزاعي عن
الزهري، ولذا مال أبو حاتم إلى ترجيحها.
فالأصل أن رواية الأوزاعي عن الزهري ضعيفة، وخاصة إذا خالفه
من هو أثبت منه في الزهري كيونس، لكن لما رأى أبو حاتم أن الحديث معروف عن أبي
سلمة عن أبي هريرة من طريق آخر غير طريق الزهري، مال إلى ترجيح رواية الأوزاعي.
ثالث عشر: قوله: "لقرينة أخرى لم يصرح بها ذاك الناقد
وصنيع الأئمة واضح في ذلك"! قول ليس بصحيح! فالناقد يصرّح بالقرينة ليُبيّن
سبب ترجيحه، ولكن لما كان هذا (المتعالم) لا يفهم كلام أهل العلم خرج علينا بهذه
المعلومة أن الناقد لا يصرح بالقرينة! وهذا ضرب من الخيال والأوهام! وإن وُجد ذلك
فعلى نطاق ضيق، فربما يكون الناقد ذكرها لكن لم تُنقل عنه، أو أن الناقل اختصر
ذكرها.
وليبيّن لنا صنيع الأئمة الذي قال إنه واضح في ذلك!!
- قال المْحِمْدِي: "ومن ذلك: ما استدل به أخي الدكتور
- الحايك - نفسه على تقديم عبيدالله العمري في نافع، فهل هي قاعدة مضطردة؟ الجواب:
لا، فربما يرجح الأئمة طريق غيره عليه في نافع نفسه!
ومنه ما جاء في علل الدارقطني (3411): وسُئِلَ عن حديث
نافع، عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر امرأة ثلاثا إلا مع
ذي محرم.
فقال: "يرويه عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً.
وقال يحيى القطان: ما أنكرت على عبيدالله بن عمر إلا حديثا
واحداً، وذكر هذا الحديث.
ورواه أخوه عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، موقوفا..".
ولسنا بصدد تخطئة كلام القطان أو قبوله، فالحديث صحيح متفق
عليه من طريق عبيدالله العمري، ولكن لتوضيح أنّ ابن القطان قدم رواية من دون
عبيدالله على عبيدالله هنا وهو ممن نص على تقديمه في نافع!" انتهى.
أقول:
أولاً: أنا لم أقل إن هذا التقديم قاعدة مضطردة! وإنما قلت
هي قرينة سيما وقد اتفق الأئمة النقاد جميعهم على تقديمه في أصحاب نافع.
ثانياً: هذا المثال الذي أتى به هنا ليلزمني به ليس بصحيح!
فالقطان لم يُقدّم رواية عبدالله العُمري (الصغير) على رواية عبيدالله!!
و(المتعالم) إنما أُتي من عدم فهمه لكلام أهل العلم -
كعادته -!!
وما أصدق هذه القصة في الانطباق على حاله!
فقد سَألَ رَجُلٌ اﻹمَامَ اﻹشْبِيلي: مَا الكَمُوج؟
فقَال: أينَ قَرَأتَها؟
قَال: في قَوْلِ امرِئ القَيس (وَلَيْلٍ كموج البَحْرِ
أَرخَى سدَولَهُ // عَلَيّ بِأنْوَاعِ الهُمُومِ لِيبْتَلْي)؟.
فقَال: "الكَمُوج" دابَّةٌ تَقْرَأ ولا تَفْهَم".
فهذا الكموج فهم أن القطان قدّم رواية عبدالله بن عمر على
أخيه عبيدالله من خلال كلام الدارقطني!
قال الدارقطني في «العلل» (13/52) (2944) لما سئل عن هذا
الحديث: "يرويه عُبَيْدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عمر
مرفوعاً.
وقال يحيى القطان: ما أنكرت على عبيدالله بن عمر إلا حديثًا
واحدًا، وذكر هذا الحديث.
ورواه أخوه عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، موقوفًا.
وخالفه إبراهيم الصائغ، فرواه عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ
عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَزَادَ فِيهِ أَلْفَاظًا لَمْ
يَأْتِ بِهَا غَيْرُهُ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس عليها بأس، وليس لها أن تنطلق
إلا بإذن زوجها، ولا تسافر ثلاثة أيام، إلا ومعها ذو محرم تحرم عليه»، وفي آخره: قال: قلت لنافع:
أيخرجها عبدها؟ قال: لا، العبد ضيعة.
ورُوي عن بزيع بن عبدالرحمن، وليس له غير هذا الحديث، عن
نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «سفر المرأة مع عبدها ضيعة»، ولا يثبت، والصحيح أن هذا من
قول نافع، كما قال إبراهيم الصائغ" انتهى.
قلت: يقصد الدارقطني أن ما رواه بزيع بن عبدالرحمن عن نافع
مرفوعاً لا يثبت، وإنما هو من قول نافع كما بينه إبراهيم الصائغ في حديثه لما سأل
نافعا عن سفر المرأة مع العبد! فرفعه بزيع وأخطأ فيه.
ومن خلال بيان الدارقطني للاختلاف في إسناد الحديث على
نافع ونقله إنكار يحيى القطان على عبيدالله هذا الحديث فهم (المتعالم) أن القطان
قدّم رواية عبدالله الموقوفة على رواية أخيه عبيدالله المرفوعة!! وهذا فهم خطأ!!
فيحيى لم يقدّم رواية عبدالله على رواية أخيه عبيدالله،
وإنما بيان الاختلاف من الدارقطني.
والقطان إنما استنكر الحديث أصلاً لا كما توهم هذا
(المتعالم)!
وقد أخرج الإمام أحمد في «مسنده» (10/384) (6289) الحديث عن ابن
نُمَيْرٍ، قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ
ثَلَاثًا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ».
قَالَ عَبْدُاللهِ بنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ:
قَالَ: يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: "مَا أَنْكَرْتُ عَلَى عُبَيْدِاللهِ بْنِ
عُمَرَ، إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا حَدِيثَ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ سَفَرًا ثَلَاثًا
إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ".
قَالَ أَبِي: وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُالرَّزَّاقِ، عَنِ
الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
وكذا قال عبدالله في «العلل
ومعرفة الرجال» (2/203) (2012) عن أبيه.
وقال إسحاق بن هانئ [كما في مسائله لأحمد (2178)]: قال لي
أبو عبدالله: قال لي يحيى بن سعيد: "لا أعلم عبيدالله أخطأ إلا في حديث واحد
لنافع، حديث عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا
تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام".
قال أبو عبدالله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه!
قال أبو عبدالله: فقال لي يحيى بن سعيد: "فوجدته،
فوجدت به العمري الصغير، عن نافع، عن ابن عمر مثله".
قال أبو عبدالله: لم يسمعه إلا من عبيدالله، فلما بلغه عن
العمري صححه.
وقال أبو داود [كما في مسائله لأحمد (1945)]: سَمِعْتُ
أَحْمَدَ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى: "نَظَرْتُ فِي كِتَابِ عُبَيْدِاللَّهِ،
يَعْنِي: ابنَ عُمَرَ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أُنْكِرُهُ إِلَّا حَدِيثَ «لَا تُسَافِرُ
الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا»". يَعْنِي: «إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ».
قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ رَوَاهُ الْعُمَرِيُّ الصَّغِيرُ،
يَعْنِي: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
قلت: فتبيّن من هذه النقولات عن أحمد أن يحيى القطان
استنكر هذا الحديث عن عبيدالله عن نافع ابتداء، لا أنه استنكره وقدّم عليه حديث
العمري الصغير كما فهم هذا (المتعالم)!
فلما وجد يحيى أن الحديث مروي عن عبدالله العمري الصغير
كما رواه عبيدالله صححه كما قال أحمد.
فالعمري الصغير وافق عبيدالله في رفعه، وإنما الذي وقفه هو
عبدالرزاق لما رواه عنه كما بيّن أحمد، ولهذا فإن إطلاق أن عبدالله خالفه فوقفه لا
يصح!
فلولا أن يحيى وجده عنه مرفوعا مثل رواية أخيه لما صححه
كما نقل أحمد عنه: "فوجدته، فوجدت به العمري الصغير، عن نافع، عن ابن عمر مثله"،
أي وجده عن العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً كما هو عند عبيدالله.
لكن أحمد يرى أن عبدالله الصغير سمعه من أخيه عبيدالله،
وهذا رأيه، والله أعلم.
والظاهر أن عبدالرزاق أخطأ فوقف الحديث، أو يُحتمل أن يكون
عبدالله هو من وقفه.
وكأن استنكار يحيى القطان للحديث عن عبيدالله أنه لم يروه
عن نافع إلا هو فاستنكره! فلما وجده عن عبدالله صححه.
والرواية التي أشار إليها الدارقطني عن إبراهيم الصائغ عن
نافع تؤيد رواية عبيدالله وأن الحديث رواه نافع، سيما وأنه بيّن ما في آخره من
كلام نافع.
وكذا ما رواه مسلم في «صحيحه» (2/975) (1338) من حديث الضحاك بن
عثمان عن نافع، بنحوه.
وقد أورد ابن رجب كلام يحيى في «شرح علل
الترمذي» (2/655) ثم قال: "وهذا
الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر.
وكلام الإمام أحمد قريب من ذلك".
والعجب أن هذا (المتعالم) نقل كلام ابن هانىء، وكلام ابن
رجب في رسالته "الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين
والمتأخرين" (ص: 53) في معرض رده على من يقول بأن النكارة هنا المقصود بها
التفرد! وان النكارة زالت عند القطان بمجيئه من طريق آخر، لكنه هنا يخالف ما أورده
في كتابه ذاك، وأن القطان أعلّ حديث عبيدالله، وقدّم عليه حديث عبدالله الموقوف!!
ويبدو أن ذلك بسبب عدم فهمه للأمور! أو أنه لا يتابع ما يكتبه في عدة مواضع!
والخلاصة أن هذا المثال الذي أراد أن يلزمني به أخطأ في
فهمه، وليس كما أراده!
وعلى طريقته هذه وهو أن حديث عبدالله العمري أصح من حديث
عبيدالله عند القطان، فيلزم تعليل رواية عبيدالله عند الشيخين! ولهذا نجده يتهرب
من الإجابة عن ذلك، فقال في آخر كلامه: "ولسنا بصدد تخطئة كلام القطان أو
قبوله، فالحديث صحيح متفق عليه من طريق عبيدالله العمري.."!
لكن تبيّن لنا أن القطان لم يعلّ الحديث، وإنما صححه بعد
أن استنكره لما وجد عبدالله العمري الصغير قد تابع أخاه عليه ورفعه.
فقول (المتعالم) إن القطان قدّم رواية عبدالله على
عبيدالله من أوهامه وخيالاته!
وأُنبه هنا على أن ابن حجر لم يتنبه لما نقلناه عن أحمد
فيما سبق، ولعله لم يقف على تصحيح القطان له بعد! فقال في «الفتح» (2/568): "ونَقَلَ
الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنْ يَحْيَى القَطَّانِ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ
عَلَى عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ أَخُوهُ
عَبْدُ للَّهِ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: وَعَبْدُاللَّهِ ضَعِيفٌ، وَقَدْ تَابَعَ
عُبَيْدَاللَّهِ الضَّحَّاكَ كَمَا تَقَدَّمَ فَاعْتَمَدَهُ الْبُخَارِيُّ
لِذَلِكَ".
وكذا الشيخ شعيب الأرنؤوط ورفاقه في تحقيقهم لمسند أحمد (8/232)،
قالوا: "أعل يحيى القطانُ هذه الرواية.. قلنا: عبدالله بن عمر ضعيف، فلا تعل
رواية عبيدالله به. وهو أوثق منه وأحفظ. والشيخان لم يلتفتا إلى هذه العلة، فأخرجا
حديث عبيدالله في "صحيحيهما"، ثم إن عبيدالله قد توبع كما في التخريج..."
انتهى.
وأفيد هذا (المتعالم) بأن يحيى القطان أحياناً يخالف
الجماعة في روايته عن عبيدالله!
روى الترمذي في «العلل الكبير» (641) قال: حَدَّثَنَا سَوَّارُ
بنُ عَبْدِاللَّهِ، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ، وَقَالَ: أَنْتِ جَمِيلَةٌ».
قال الترمذي: "وإِنَّمَا أَسْنَدَ هَذَا الحَدِيثَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ
عُبَيْدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ مُرْسَلًا".
وأمر آخر أُذكّر به هنا حول هذا (المتعالم) وهو أنه يقول
بأن ما يصححه الشيخان (البخاري ومسلم) ويعارضهما غيرهما فإنه لا يلتفت إلى من
ينازعهما في ذلك!
فقد نقل في كتابه "الشاذ والمنكر وزيادة الثقة -
موازنة بين المتقدمين والمتأخرين" (ص: 53) قال: "قال البرديجي في حديث: رواه
عمرو بن عاصم عن همام عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رجلاً قال للنبي صلى الله
عليه وسلم: إني أصبت حداً فأقمه عليَّ، الحديث: هذا عندي حديث منكر وهو عندي وهم
من عمرو بن عاصم.
وتمام الحديث كما جاء في لفظ البخاري: إني أصبتُ حداً
فأقمه في كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإنَّ الله قد غفر لك
ذنبك أو قال حدّك.
ولما كان هذا الحديث عنده معلولاً كان لا بد أن يكون له
علة: وقد أعله بأخف رواة السند ضبطاً: عمرو بن عاصم الكلابي، فقال: وهو عندي وهم
من عمرو بن عاصم، وقال أبو حاتم في العلل: "الحديث باطل بهذا الإسناد".
إذن فالمنكر عند البرديجي لا يعني مجرد التفرد بل الخطأ
الذي يقع في الحديث.
ومع أننا نتحفظ على قوله هذا، بل وعلى قول أبي حاتم الرازي
ببطلان إسناده، لكون الحديث مخرج بهذا الإسناد في الصحيحين، لكن هذا لا يمنع أن
يكون عالم مثل أبي حاتم الرازي يعتقد ببطلان إسناده، ومتابعة البرديجي له والحكم
عليه بالنكارة" انتهى.
قلت: فما هي القرينة التي حكم بها أبو حاتم على بطلان هذا
الإسناد؟
وما هي القرينة التي صحح بها البخاري ومسلم هذا الحديث؟!!
وكيف يأتي هذا (المتعالم) بمثل هذه المشكلات ولا يستطيع
الجواب عنها؟!!
- قال المْحِمْدِي: "ومن ذلك ما نصّ عليه بعض أهل
العلم من أنّ حماد بن سلمة أثبت أصحاب ثابت البناني والمقدم فيهم عند الاختلاف،
قال أبو حاتم: "أَضْبَطُ النَّاسِ لِحَدِيثِ ثَابِتٍ، وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ حَمَّادُ
بْنُ سَلَمَةَ، بَيَّنَ خَطَأَ النَّاسِ".
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: قالَ أَحمَدُ بن حَنبَلٍ:
"أَعلَمُ النّاسِ بِحَدِيثِ ثابِتٍ، وعليِّ بن زَيدٍ، وحميدٍ: حَمّادُ بن سَلَمَةَ".
فهذه قرينة، يرجح بها الأئمة مع قرائن أخرى تحف بالحديث،
وهي وإن كانت كذا فلا يصح تحويلها إلى قاعدة، وحيثما عورض حماد في ثابت قُدِّم على
غيره!
والدليل أن أبا حاتم نفسه خالف ذلك لقرينة أخرى بدت له!!،
قال ابن أبي حاتم في علله (1687): وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ؛ رواهُ حمّادُ بن سلمة، عن
ثابِتٍ، عن أنسٍ، أنَّ أُسيد بن حُضيرٍ، قال: بينما أنا فِي مشربةٍ أقرأُ سُورة البقرةِ،
إِذ سمِعتُ وجبةً، فخشِيتُ أن يكُون فرسِي استطلقت، فنظرتُ فإِذا مِثلُ قنادِيلِ المسجِدِ
بين السّماءِ والأرضِ، فما ملكتُ نفسِي أن أتيتُ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ
فأخبرتُه، فقال: ذلِك ملائِكةٌ نزلُوا يستمِعُون القُرآن.
قُلتُ لأبِي: رواهُ سُليمانُ بن المُغِيرةِ، فقال: عن ثابِتٍ،
أنَّ أُسيد بن حُضيرٍ لم يذكُر أنسًا.
فقال أبِي: سُليمان أحفظ من حمّاد لحديث ثابِت".
فتأمل هنا في تقديم أبي سعيد سليمان بن المغيرة البصري على
حماد بن سلمة في ثابت" انتهى كلامه.
أقول:
لا يزال هذا (المتعالم) يأتينا بأمثلة على أن بعض القرائن
لا يمكن أن نحولها لقواعد! مع أنه نقل كلامه هذا في ملخص بحثه عن
"قرائن الترجيح" وقال بأن الإمام مسلما حكى إجماع أهل المعرفة على أن حماد
بن سلمة أثبت الناس في ثابت!
فمن أراد القول بأن هذه قاعدة
تبعاً لهذا الإجماع فلا تثريب عليه! كما فعل الدارقطني، فإنه يرجح بهذا مطلقا كما
سيأتي بيانه، على أنا لا نُقرّ بهذا مطلقاً.
والمثال الذي أتى به هذا
(المتعالم) هنا مردود عليه!!
فأبو حاتم قدّم رواية سليمان على
رواية حماد بن سلمة؛ لأنه أحفظ هنا من حماد، وهو نفسه قدّم حماد على سليمان في
أحاديث أخرى! فماذا يقول (المتعالم) في ذلك؟!!
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (4/581) (1655): وسألتُ أَبِي
عَنْ حديثٍ رَوَاهُ عُمَرو بن أبي قَيْس، عن ابنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ ثَابِتٍ، عن
عبدالرحمن بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فِي
قِصَّةِ الساحِرِ وأصحابِ الأُخْدود؟
قَالَ أَبِي: "وَرَوَاهُ حمَّاد بْنُ سَلَمة، عَنْ
ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيب، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَاهُ سُلَيمان بْنُ المُغِيرَة، عَنْ ثَابِتٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عن صُهَيب، ولم يَرفَعه".
قَالَ أَبِي: "حديثُ حمَّاد بْنِ سَلَمة أشبَهُ
عَنْ صهيبٍ مرفوعاً، وبلغني أنَّ بعضَ أصحابِ ابنِ أَبِي لَيْلَى
يُحَدِّثُ بها، ويَجْمَعُ صهيباً وبلالاً".
فهنا قدّم أبو حاتم رواية حماد على رواية سليمان مع أنه نص
على أن سليمان أحفظ!!
وهذا الحديث يشبه الحديث الذي استدل به (المتعالم)، ففي
ذاك رجح أبو حاتم الرواية المرسلة التي رواها سليمان على الرواية المتصلة التي
رواها حماد!
وهنا رجّح رواية حماد المرفوعة على رواية سليمان الموقوفة!
وبحسب كلام أبي حاتم ينبغي أن تكون رواية سليمان هنا أصح
من رواية حماد؛ لأنه أحفظ، فكما أن حمادا أخطأ في الأولى فوصل المرسل، ضبط سليمان
الرواية المرسلة، وهنا ضبط سليمان الرواية فوقفها، ومشى حماد على الجادة فرفعها.
فما جوابك أيها (المتعالم)!!
ثم إن أبا زرعة خالف أبا حاتم، ونصّ على أن حماداً أحفظ من
سليمان!
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (4/395) (1510): وسُئِلَ أَبُو
زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ القَعْنَبي، عَنْ سُلَيمان بْنِ المُغيرَة، عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي موسى، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ،
فَلْيُمِطْ عَنْهَا، ثُمَّ لْيَأكُلْهَا، وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَان ِ.».
وَرَوَاهُ حمَّاد بْنُ سَلَمة، عَن ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ،
عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟
فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: "حمَّادٌ أحفظُ".
وكذلك قدّم الدارقطني حديث حماد على سليمان في ثابت.
سئل الدارقطني في «العلل»
(12/27) (2369) عن
حديث ثابت، عن أنس سأل رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من
خلق السماء؟ فقال: الله؟.
فقال: "يرويه سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس.
وخالفه حماد بن سلمة؛ فرواه عن ثابت مرسلا.
وحماد بن سلمة أثبت الناس في حديث ثابت".
وسئل أيضاً (15/219) (3961) عن حديث عمر بن أبي سلمة، عن
أم سلمة، وفاة أبي سلمة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها... حديثا طويلا؟
فَقَالَ: "يَرْوِيهِ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَاخْتُلِفَ
عَنْهُ:
فَرَوَاهُ جعفر بن سليمان الضبعي، وزهير بن العلاء، عن
ثابت، عن عمر بن أبي سلمة، عن أم سلمة.
وخالفه حماد بن سلمة، رواه عن ثابت، عن ابن عُمَرَ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أم سلمة.
وقال سليمان بن المغيرة: عن ثابت، عن ابن أم سلمة، ولم
يسمه، عن أم سلمة.
وقول حماد بن سلمة، أشبهها بالصواب".
فها هو الدارقطني قدّم رواية حماد على رواية سليمان لأن
حمادا أثبت الناس في ثابت.
وقَال علي بن المديني: "لم
يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثم بعده سُلَيْمان بن المغيرة، ثم بعده
حماد بن زيد".
وقد يرجح أبو حاتم رواية حماد
كونه أثبت الناس في ثابت ويقدّم روايته على الجماعة لقرينة مستدلاً بأنه أثبت
الناس في ثابت.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (4/12) (1212): وسألتُ أَبِي عَنْ
حديثٍ رَوَاهُ مُوسَى بنُ خَلَف، وحمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ؛ - قَالَ
حمَّاد بْنُ زَيْدٍ: وأحسَبُهُ عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ مُوسَى: عَنْ أَنَسٍ، عَنِ
النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ ابْنَتَان ِ أَوْ
ثَلاثَةٌ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ...» الحديثَ؟
قَالَ أَبِي: "رَوَاهُ حمَّاد بْنِ سَلَمة، عَنْ
ثَابِتٍ، عن عائِشَة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَهُوَ أشبهُ بالصَّوَاب.
وحمَّاد بْنُ سَلَمة أثبتُ النَّاسِ فِي ثابتٍ وعليِّ بن زيد".
قلت: إنما رجّح روايته على حماد بن زيد وموسى بن خلف؛
لأنهما سلكا الجادة "ثابت عن أنس"، في حين ضبط حماد الحديث فقال:
"عن ثابت عن عائشة".
وقال ابن أبي حاتم أيضاً في «العلل» (4/11) (1211): وسألتُ أَبِي
وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ جَعْفَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عمر ابن أَبِي
سَلَمة، عَنْ أمِّ سَلَمة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوَّجها...، الحديثَ؟
فقال أَبِي وأَبُو زُرْعَةَ: "رَوَاهُ حمَّاد بْنُ
سَلَمة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمة، عَنْ أَبِيهِ، عن
النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا أصحُّ الحديثَيْنِ؛ زَادَ فِيهِ رَجُلاً".
قَالَ أَبِي: "أَضْبَطُ الناسِ لِحَدِيثِ ثابتٍ
وعليِّ بْنِ زَيْدٍ: حمَّادُ بنُ سَلَمة؛ بيَّن خطَأَ الناس".
قلت: هنا قدّم رواية حماد لأنه زاد رجلاً في الإسناد، وكان
أهون عليه أن ينقص رجلاً، فدلّ على أنه ضبط الحديث.
- قال المْحِمْدِي: "ومن ذلك تقديم سعيد بن أبي عروبة في
قتادة، فأورد ابن أبي حاتم (2251) قال: وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ عَبْدُالأَعْلَى،
عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله علي وسلم، قَالَ: تَسَمُّوا بِاسْمِي وَلا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي".
قَالَ أَبِي: رَوَى شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ،
عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: أَيُّهُمَا أَشْبَهُ؟ قَالَ:
سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ أَحْفَظُ".
ومنه أيضاً: (2251) قال: وَسَأَلتُ أَبِي عَن حَدِيثٍ؛ رَواهُ
عَبدُالأَعلَى، عَن سَعِيدٍ، عَن قَتادَةَ، عَن سُلَيمانَ اليَشكُرِيِّ، عَن جابِرٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: "تَسَمُّوا بِاسمِي ولا تَكتَنُوا
بِكُنيَتِي".
قالَ أَبِي: رَوَى شُعبَةُ، عَن قَتادَةَ، عَن سالِمِ بن أَبِي
الجَعدِ، عَن جابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قُلتُ: أَيُّهُما أَشبَهُ؟ قالَ: سَعِيدُ بن أَبِي عَرُوبَةَ
لِحَدِيثِ قَتادَةَ أَحفَظُ.
فهنا قدم أبو حاتم سعيداً على شعبة في قتادة السدوسي!!؛
لاختصاصه به، وأنه من أكثر من لازمه وحفظ عنه، فهي قرينة مع قرائن أخرى احتفّت
بالرواية لم يصرح بها أبو حاتم أو أبو زرعة، والخطأ يكمن كما قلنا سابقا في
تحويلها إلى قاعدة عامة!، ثّم نرد أحاديث صححها النقاد بزعم أنه قد نص على تقديم
فلان على فلان!
ولهذا فقد يقدم من هو دون شعبة في الحفظ والمنزلة على سعيد
بن أبي عروبة في حديث آخر لقرينة أخرى ربما يصرح بها الناقد، وربما يشير إليها،
والغالب يسكت عنها!
ومن ذلك:
ما أورده ابن أبي حاتم في العلل (300) قال: وسألتُ أبِي، وأبا
زُرعة، عَن حدِيثٍ؛ رواهُ المُعتمِرُ بن سُليمان، عن أبِيهِ، عن قتادة، عن أنسٍ، قال:
كانت عامّةُ وصِيّةِ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حِين حضرهُ الموتُ: "الصّلاةُ
وما ملكت أيمانُكُم".
قال أبِي: نرى أنَّ هذا خطأٌ؛ والصّحِيحُ حدِيثُ همّامٍ، عن
قتادة، عن صالِحٍ أبِي الخلِيلِ، عن سفِينة، عن أُمِّ سلمة، عنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم.
وقال أبُو زُرعة: رواهُ سعِيدُ بن أبِي عرُوبة، فقال: عن قتادة،
عن سفِينة، عن أُمِّ سلمة، عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال: وابنُ أبِي عرُوبة
أحفظُ، وحدِيثُ همّامٍ أشبهُ، زاد همّامٌ رجُلا".
ومنه أيضاً: ما أورده في (791) فقال: وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ؛
رواهُ عبّادُ بن العوّامِ، عن سعِيدِ بن أبِي عرُوبة، عن قتادة، عن أنسٍ: "أنَّ
أُمّ سُليمٍ حاضت بعدما أفاضت يوم النّحرِ، فأمرها النَّبِيُّ أن تنفِر".
قال أبِي: هذا خطأٌ، إِنّما هُو قتادةُ، عن عِكرِمة، عنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم، مُرسلٌ فِي قِصّةِ صفِيّة؛ رواهُ الدّستوائِيُّ، وغيرُهُ وهذا
هو الصحيح".
ومنه ما أخرجه في (809) فقال: وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ؛ رواهُ
عبّادُ بن العوّامِ، عن سعِيدِ بن أبِي عرُوبة، عن قتادة، عن أنسِ بن مالِكٍ: أنَّ
أُمّ سُليمٍ حاضت بعدما طافت يوم النّحرِ، فأمرها رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
أن تنفِر.
فقال أبِي: هذا خطأٌ، إِنّما هُو كما رواهُ الدّستوائِيُّ،
عن قتادة، عن عِكرِمة أنَّ أُمّ سُليمٍ حاضت.
قُلتُ لأبِي: الخطأُ مِمّن هُو؟ قال: لاَ أدرِي مِن عبّادٍ
هُو، أَو مِن سعِيدٍ".
ولذا فالقرائن لا يمكن إحصاؤها لأن القليل منها فسر وبُيّن
من خلال الأسئلة التي تلقى على الناقد، وأكثرها لم تفسر ولم تبين! ومن ذلك ما
أورده ابن أبي حاتم في (2272) قال: وسألتُ أبي، عن حديثٍ، رواه عنبسة بن عَبدالواحد،
عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أنس قال إياكم ومجالس الطرق فإن كان لاَ محالة
فأدوا الطريق حقه.
قال أبي: حَدَّثناه يزيد بن أبي يزيد القطان عن عنبسة.
ورواه أبان، عن قتادة أَنه بلغه أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ
وَسَلَّمَ قال.
قلتُ لأَبي: أيهما أصح؟
قال: إِن كان ذلك محفوظا فهو حسن وما أخوفني أن يكون قد أفسد
حديث أبان ذلك الحديث".
والسؤال: حسب القاعدة فإن سعيداً مقدم على كل أقرانه في
قتادة، وههنا رواه أبان العطار مرسلاً فلم لا نقدم رواية سعيد ههنا؟ أكيد أن هناك
أسباباً جانبية وقرائن أخرى هي سبب في استشكال أبي حاتم بطريق أبان المرسل على
طريق سعيد المتصل، وليس هذا مبحثنا، وإنما قصدنا أن نبين أنّ بعضنا يتوهم من
معرفته بعض القواعد أنه صار عارفاً بالقرآئن منضبطاً بها!
فالقرائن التي وقرت في ذهن الناقد هي من رجحت عنده تقديم
سعيد هنا وتأخيره هناك، وهي من جعلته يرد الروايتين أو يستشكلهما أو ربما يقبلهما
جميعاً!" انتهى كلامه.
أقول:
أولاً: لا يزال هذا (المتعالم) يسوق الأمثلة على تعليل
أئمة النقد بعض الأسانيد من خلال القرائن! ويكأننا لا نعرف منهجهم هذا!
وهذا خلل في (عقله) لأنه يريد أن يُبين أن الخصم لا يلتفت
إلى دقة أئمة النقد، وإنما يتبع القواعد التي قد تنبثق من هذه القرائن! فيأتينا
بأمثلة للناقد نفسه يُقدّم الراوي في شيخه أحياناً، وأحياناً لا يقدمه، وهذا نابع
من خلال القرائن التي يعرفها!
وهذا لا نخالفه أبداً، مع التحفظ على اجتهاد كل ناقد فيما
ذهب إليه، وأن النقاد أحياناً يختلفون.
ثانياً: المثال الأول الذي أتى به كرره فليتنبه.
ثالثاً: في المثال الأول قال بأن أبا حاتم قدّم سعيد بن
أبي عروبة في قتادة؛ لأنه مختص به، وأنه أكثر من لازمه وحفظ عنه، مع قرائن أخرى لم
يصرح بها أبو حاتم أو أبو زرعة!
والذي يظهر لنا أنه قدمه لهذه القرينة فقط وهي (الحفظ)،
وأما دعواه بوجود قرائن أخرى لم يصرحوا بها فهذا من خيالاته! فلا توجد قرائن أخرى،
وإلا لذكروها!
وهذا (المتعالم) يقرر بأن النقاد لا يذكرون غالبا القرائن
ويسكتون عنها! وهذا ليس بصحيح! وإنما هو يريد أن يَفرّ من عدم قدرته على التعامل
مع الإشكالات عند اختلاف هؤلاء النقاد! وأيضاً لأنه يذهب إلى أن كل حديث في
"الصحيحين" صحيح! فسوّلت له نفسه اختراع هذا الكلام فيما يخص سكوتهم عن
إظهار القرائن!! ويرد عليه في ذلك جملة قول أهل النقاد في بعض الأسانيد:
"لعله"، أو "هذا أشبه"، ونحو هذه العبارات التي تبيّن أنهم لا
يسكتون عن بيان القرائن والعلل.
رابعاً: مسألة أن فلاناً أوثق الناس في فلان، ونحو ذلك
أحياناً يكون فيها اتفاق بين الأئمة كما سبق بيان أن مسلماً نقل الإجماع على أن
أثبت الناس في ثابت البُناني هو: حماد بن سلمة - مع التحفظ على ذلك -، واختلاف أهل
النقد أحياناً في تقديم فلان على فلان في شيخ ما أو الغالب تقديم فلان، فيلجأ بعض أهل
النقد لاستخدام مثل هذه العبارات من أجل الترجيح، على أن عباراتهم دقيقة في ذلك،
فربما يقولون: "فلان أثبت الناس في فلان، وفلان أحفظ"، فالثبت غير
الحافظ، وليس هذا محل التفصيل في ذلك.
فقد رجّح أبو حاتم وأبو زرعة بعض أحاديث سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة على غيره كونه "أحفظ" فيه.
قَال عبدالرحمن بْن أَبي حاتم، عَن أبيه: "سَعِيد بْن
أَبي عَرُوبَة قبل أن يختلط ثقة، وكان أعلم الناس بحديث قتادة".
وقَال أيضاً: قلتُ لأبي زرعة: سَعِيد بْن أَبي عَرُوبَة
أحفظ، أو أبان العطار؟ فقَالَ: "سَعِيد أحفظ، وأثبت أصحاب قتادة: هشام
وسَعِيد".
وقد قيّد أبو حاتم حفظ سعيد لحديث قتادة قبل أن يختلط،
فقال: "وقتادةُ كَانَ واسعَ الحديث، وأحفَظُهم: سعيدُ بنُ أَبِي عَروبة قبل
أن يختَلِطَ، ثُمَّ هشامٌ، ثُمَّ همَّامٌ".
وقال يحيى بن مَعِين: "أثبت الناس فِي قتادة: سَعِيد
بن أَبي عَرُوبَة، وهشام الدستوائي، وشعبة، فمن حدثك من هؤلاء الثلاثة بحديث، يعني
عَنْ قتادة - فلا تبالي أن لا تسمعه من غيره".
وقَال المعلى بن مهدي، عَن أبي عوانة: "ما كان عندنا
فِي ذلك الزمان أحد أحفظ من سَعِيد بن أَبي عَرُوبَة".
وَقَال عَبْدالرَّحْمَنِ بن الْحَكَمِ بن بشير بن سلمان،
عَن أبي داود الطيالسي، قال: "كان سَعِيد بن أَبي عَرُوبَة أحفظ أصحاب قتادة".
وقَالَ الإمام أحمد: "شُعْبَةُ، وسَعِيدُ بْنُ أَبِي
عَرُوبَةَ، وَهِشَامٌ، شَيْءٌ وَاحِدٌ، ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّ شُعْبَةَ كَانَ
صَاحِبُ إِسْنَادٍ، يُوقِفُ الْمَشَايِخِ، ويَطْلُبُ الإِسْنَادِ".
قلت: فسعيد بن أبي عروبة كان حافظاً لحديث قتادة لكنه كان
قد اختلط فيُحذر من ذلك، وشعبة وهشام الدستوائي كانا حافظين لحديث قتادة أيضاً، حتى
إن البخاري ومسلم كان تخريجهما لحديث شعبة عن قتادة في "صحيحيهما" أكثر
من تخريجهما لحديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
بل إن هذا المثال الأول الذي أورده المْحِمْدِي هنا في
تقديم سعيد في قتادة قد خالفه فيه البخاري ومسلم فقدما رواية شعبة، فأخرَجَا
الحديثَ في "صحيحيهما" من طريق شُعْبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بنِ
أَبِي الجَعْد، عَنْ جَابِرٍ، به.
وعندهما قرينة أخرى في ترجيح طريق شعبة على طريق سعيد، وهي
أن هذا الحديث رُوي من غير طريق قتادة عَنْ سالمِ بنِ أَبِي الجَعْد؛ رواه أيضاً
البخاري ومسلم، وهذا يدلّ على أنَّ الحديثَ حديث سالم لا حديث سليمان اليشكري كما
رجّح أبو حاتم.
فها هو أبو حاتم رجّح طريق سعيد على طريق شعبة لأنه أحفظ؛
وقد خالفه البخاري ومسلم في ذلك مع وجود قرينة أقوى مما ذهب إليه أبو حاتم.
فأين هي القرائن الأخرى التي احتفت بالرواية والتي رجّح
بها أبو حاتم هذه الطريق ولم يُصرّح بها كما زعم (المتعالم)!
خامساً: المثال الثاني في تقديم رواية همام على رواية سعيد
وإن كان سعيد أحفظ من همام إلا أن هماماً زاد رجلاً فضبط الإسناد، وكان أهون عليه
إنقاص الرجل، فزيادته للرجل قرينة على أنه ضبط الحديث، فقدّما روايته على رواية
سعيد الذي قصّر في الإسناد.
سادساً: المثال الثالث في تقديم رواية هشام الدستوائي عن
قتادة على رواية سعيد من أجل أن جماعة رووه كما رواه هشام كما صرح أبو حاتم، فهذه
هي قرينة الترجيح، وهشام ثقة ثبت فما بالك إذا توبع في حديثه.
وأما عدم جزم أبي حاتم ممن الخطأ بسلوكه للجادة
"قتادة عن أنس" فهذا لأنه ليس عنده قرينة في ذلك. على أن الخطأ من عباد،
وهو وإن كان ثقة إلا أنه كان مضطرب الحديث في سعيد بن أبي عروبة كما قال أحمد.
قَال أبو بكر الأثرم، عَن أحمد بن حَنْبَل في عبّاد بن
العوام: "مضطرب الحَدِيث، عَنْ سَعِيد بن أَبي عَرُوبَة".
فيكون عباد هو من سلك الجادة، ولا علاقة هنا لسعيد بن أبي
عروبة بهذا الخطأ! والله أعلم.
سابعاً: قوله إن القرائن لا يمكن إحصاؤها لأن القليل منها
فُسر وبُيّن، وأكثرها لم تفسر ولم تبيّن! قول متهافت يدل على عدم اطلاع هذا
(المتعالم) على كتب العلل وأقوال أهل النقد!!
نعم، أحياناً ينقل لنا بعض أهل العلم ترجيح بعض النقاد
لطريق ما دون ذكر القرينة، وهذا قليل جداً، وهذا لا يعني أن هناك قرائن لم نعرفها،
أو أن هناك الكثير من القرائن لم تفسر ولم تبيّن!
فهذا مبلغ هذا (المتعالم) من العلم! ولا تثريب عليه إذ
يتحدث هو عما يعرف!
والمثال الذي أتى به ليدلل على رأيه المتهافت هذا ليس فيه
ما يريد! بل هو لم يفهم كلام أبي حاتم، وهو واضح بيّن!
فأورد (المتعالم) هذا المثال هنا ليدلل على أن الأئمة
النقاد لا يفسرون ولا يبينون أكثر القرائن!!
ومن ثم طرح سؤاله الذي بناه على قرينة (أو قاعدة) تقديم
سعيد في قتادة: "والسؤال: حسب القاعدة فإن سعيداً مقدم على كل أقرانه في
قتادة وههنا رواه أبان العطار مرسلًا فلم لا نقدم رواية سعيد ههنا؟ أكيد أن هناك
أسباباً جانبية وقرائن أخرى هي سبب في استشكال أبي حاتم بطريق أبان المرسل على
طريق سعيد المتصل"!!
فهل جواب أبي حاتم هنا يدل على عدم تفسيره للقرينة أو
تبيينها؟!! وهل حقيقة استشكل أبو حاتم طريق أبان المرسل على طريق سعيد المتصل؟!!
بسبب وجود أسباب جانبية وقرائن أخرى لا نعلمها بحسب قول (المتعالم)!!
إن هذا الدعي في العلم لا يدري ما الذي يخرج من رأسه!!
لو أراد أبو حاتم تقديم رواية سعيد على رواية أبان لصرّح
بذلك كما في بعض السؤالات.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/177)
(297): وسألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ أَبَان العطَّار، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي سعيدٍ - من أَزْدِ شَنُوءَة - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - عن
النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أوصاني
خَليلي بِثَلاثٍ...».
قلتُ: وَرَوَاهُ سعيدُ بْنِ أَبِي
عَروبة، عَنْ قَتَادَةُ، عَنِ الحَسَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قلتُ لهما: فأيُّهما الصَّحيحُ؟
فَقَالَ أَبِي وَأَبُو زرعة: "سعيدٌ
أحفَظُهم".
فهنا قدّما رواية سعيد على رواية
أبان لأنه أحفظ.
لكن في ذاك المثال لم يُقدّم أبو
حاتم رواية أبان، ولم يجزم بصحة رواية سعيد كذلك. فلا يوجد عنده أي قرينة أخرى ولا أسبابا
جانبية! - كما ادّعى (المتعالم)!
أمامه اختلاف بين سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد العطار
في هذه الرواية عن قتادة.
فرَوَاهُ عَنْبَسَة بن عبدالواحد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
عَرُوبة، عَنْ قَتادة، عَن أنس، موقوفاً.
وَرَوَاهُ أَبَانُ العطار، عَنْ قَتادة؛ أَنَّهُ بلغَه
أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال، مرسلاً.
فقال: "إنْ كان ذلك محفوظاً فَهُوَ حسنٌ، وما أخوفَني
أن يكونَ قد أفسَدَ حديثُ أَبانَ ذَلِكَ الحديثَ".
فأبو حاتم يخشى من أن يكون أبان ضبط الرواية فتكون روايته
تُعلّ رواية سعيد، وإلا فرواية سعيد حسنة إن كانت محفوظة.
ولو كان متأكداً وعنده قرائن وأسباب لجزم بترجيح ما! لكنه
لما رأى أن رواية سعيد عن قتادة عن أنس متصلة، وخالفه أبان فرواه عن قتادة مرسلاً،
والحديث أصلا لا يُعرف عن أنس لم يجزم بشيء، وإنما كانت عبارته هكذا وهكذا، إن كان
الإسناد محفوظا عن سعيد فهو حسن؛ لأن روايه عنبسة ليس في مرتبة أبان، فأبان أوثق
منه بكثير، وروايته يشبه أن تكون هي الصواب سيما والحديث لا يعرف عن أنس، والإرسال
هو الأشبه.
ويؤكد هذا ذكاء ابن أبي حاتم في إيراده للسؤال الذي بعد
هذا لأنه يتعلق به.
قال بعده مباشرة (2273): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رواه
عبدالوهَّاب الخفَّاف، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتادة، عن أنس: أنَّ النبيَّ صلى الله
عليه وسلم احتَجَمَ فِي رَأْسِهِ وَقَالَ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ
الحِجَامَةُ؟
قَالَ أَبِي: رَوَاهُ أَبَانُ، عَنْ قَتادة: أنَّ النبيَّ
صلى الله عليه وسلم...
قلتُ لأَبِي: هَذَا خطأٌ؟
قَالَ: لا؛ لأنَّ مَعْمَرًا أَيْضًا قَدْ رَوَاهُ، عَنْ
قَتادة، عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فهنا لم يحكم بخطأ رواية سعيد، ولم يُقدّم رواية أبان
المرسلة؛ لأن معمراً تابع سعيداً في روايته.
ولو أن معمراً لم يتابعه لربما حكم لرواية أبان أو توقف
فيها أو كان كلامه على الاحتمال كما في السؤال السابق.
فلو كان عند أبي حاتم قرينة أخرى كما يدعي (المتعالم)
لبيّنها.
وانظر هنا أيضاً لهذا السؤال:
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/184)
(302): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ أَبِي عَروبة، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ أَنَسٍ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا
بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ؟!
لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَ أَبْصَارُهُمْ».
وَرَوَاهُ أَبَانٌ العَطَّار،
عَنْ قتادة؛ أنه بلغَه أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ... مُرسَلًا؟
قالَ أبي - في المطبوع: قال أَبُو
زُرْعَةَ! وهو خطأ-: ابنُ أَبِي عَروبة أحفَظُ، وقتادةُ، عن أنس، عن النبيِّ صلى
الله عليه وسلم أصَحُّ؛ كَذَا رَوَاهُ عمرانُ القَطَّانُ أَيْضًا.
فهنا حكم للرواية المتصلة لمتابعة عمران القطان.
ثامناً: قوله: "فالقرائن التي وقرت في ذهن الناقد هي
من رجحت عنده تقديم سعيد هنا وتأخيره هناك، وهي من جعلته يرد الروايتين أو
يستشكلهما أو ربما يقبلهما جميعاً" فيه إيهام أن الناقد لا يبين القرائن!
ولأن هذا (المتعالم) اتخذ هذا منهجاً له، فهو يُدندن حوله كثيراَ!
نعم، القرائن التي وقرت في ذهن الناقد هي التي تجعل الناقد
يحكم بهذا أو ذاك، لكنه يظهر هذه القرائن ولا يخفيها في ذهنه! فلا بدّ له من بيان
حجته وسبب ترجيحه، وإلا فما فائدة كتب العلل إذن إذا كان الناقد يحتفظ بالقرائن
والتعليلات في ذهنه!!
فالناقد يُبين سبب ترجيحه لهذه الرواية على تلك، فتجده
أحياناً يرجح رواية شعبة على أبان العطار، وأحياناً العكس، وهكذا. وكذا الحال في
سعيد بن أبي عروبة بحسب القرائن.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (3/52) (684): وسألتُ أَبِي
وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، ووكيعٌ، وابن المبارك:
فَأَمَّا يَحْيَى، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وشَبَابَة،
فَإِنَّهُمْ قَالُوا: عَنْ شُعْبَة، عَنْ قَتادة، عَنْ أَبِي أيُّوب، عَنْ
جُوَيرِيَة: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ صائِمَة يَوْمَ الجُمعَة، فَقَالَ:
أَصُمْتِ أَمْسِ؟، قَالَتْ: لا... وَذَكَرَ الحديثَ.
وَأَمَّا وكيعٌ فَقَالَ: عَنْ شُعْبَة، عَنْ قَتادة، عَنْ
أَبِي أيُّوب: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخلَ عَلَى جُوَيرِيَة.
وَرَوَى هَذَا الحديثَ سعيدُ بْنُ أَبِي عَروبة، عَنْ
قَتادة، عَنْ سَعِيدِ بنِ المسيّب، عن عبدالله بن عمرو: أنَّ النبيَّ صلى الله
عليه وسلم دخلَ عَلَى جُوَيرِيَة.
وَرَوَاهُ هَمَّام، فَقَالَ: عَنْ قَتادة، عَنْ أَبِي
أيُّوب، عن جُوَيرِيَة: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخلَ عَلَيْهَا. تابعَ
شُعْبَةَ...
وقَالَ أَبِي: "كلُّها صِحاحٌ...
وَإِنَّمَا قُلنا: إِنَّهَا صِحاحٌ كلُّها؛ لأَنَّ شُعْبَة
قد تابع هَمَّامًا.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ: قَتادة، عَنْ سعيد بن المسيّب، عن
عبدالله بْنِ عَمْرٍو: فَإِنَّ ابنَ أَبِي عَروبة حافظٌ لِحَدِيثِ قَتادة، وقَالَ:
تابَعَني عليه مَطَر".
فها هنا صحح كل هذه الأحاديث، والأسانيد التي عن قتادة
للمتابعة بين الرواة.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً في «العلل»
(4/9) (1210):
وسألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ سعيدُ بنُ أَبِي عَروبة
وأَبَانُ؛ فَقَالا: عَنْ قَتَادة، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُقْبَة بْنِ عامر.
وَرَوَاهُ هَمَّامٌ، وهشامٌ الدَّسْتوائي، وحمَّادُ بنُ
سَلَمة، وسعيدُ بنُ بَشير؛ فَقَالُوا: عَنْ قَتَادة، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرة،
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا زَوَّجَ الوَلِيَّانِ،
فَهُوَ لِلأَوَّلِ»؟
فَقَالا: "عَنْ سَمُرة، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه
وسلم: أصحُّ؛ لأنَّ ابْنَ أَبِي عَروبة حدَّث بِهِ قَدِيمًا فَقَالَ: عَنْ سَمُرة،
وبِأَخَرَةٍ شَكَّ فِيهِ".
وقال أيضاً في «العلل» (6/436) (2649): وسألتُ أَبِي
وأبا زرعة عَن حديثٍ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَروبة، وعِمران القطَّان، عَن
قَتادة، عَنْ أَنَسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان عَلَى أُحُدٍ فرَجَفَ
بهم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: اثْبُتْ حِرَاءُ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ نَبِيٌّ
وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَان؟
فقال أَبِي: قد خالفهما سُلَيمان التَّيْمي؛ رواه ابنُه
عَنْهُ، عَن قَتادة، عن أبي غَلاَّب، عن بعض أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن
النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَبِي: هذا أشبهُ بالصَّواب، وإن كَانَ سعيد حافظًا،
إلا أن يكونَ عند قَتادة الإسنادينِ جميعًا.
قَالَ أَبُو زرعة: سعيدُ بْن أَبِي عَروبة أحفظُ من
التَّيْمي.
قلتُ: فذاك الصَّحيحُ؟
قَالَ: أجَلْ.
قلت: مال أبو حاتم إلى ترجيح رواية التيمي على رواية سعيد
بن أبي عروبة وإن كان حافظا، مع احتمال أن يكون عند قتادة بالإسنادين جميعاً. وهذا
الميل من أبي حاتم لرواية سليمان التيمي كونه كان من حفاظ البصرة، ويبدو ضبطه
للرواية وعدم سلوكه للجادة "قتادة عن أنس".
لكن أبا زرعة رجح رواية سعيد؛ لأنه أحفظ من التيمي عنده،
وكذا متابعة عمران القطان عليه عن قتادة. والله أعلم.
وربما يكون الترجيح من الناقد بأمر ظاهر في كلامه لكن لا
يفهمه كل أحد! فيظن أنه لم يصرح بالقرينة التي رجّح من أجلها حديث ما!
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/416) (13): وسمعتُ أَبَا
زُرْعَةَ يَقُولُ: "حديثُ زيدِ بن أَرْقَمَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم -
فِي دخُولِ الخَلاَء - قد اختلفوا فيه:
فأمّا سعيدُ بن أَبِي عَروبة، فإنه يَقُولُ: عَنْ
قَتَادَةَ، عَن القاسم بْن عَوْف، عَنْ زَيْدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وشُعْبَةُ يَقُولُ: عَنْ قَتَادَةَ، عَن النَّضْر بن أنس،
عن زيد بن أرقم، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وحديثُ عبدالعزيز بن صُهَيْب، عَن أنس، أشبَهُ عِنْدِي".
قلت: فواضح هنا أن أبا زرعة رجّح الرواية عن أنس لأنه ليس
فيها اختلاف، وأما رواية زيد بن أرقم ففيها اختلاف!
فهنا ترجيح رواية من مسند على مسند آخر، وليس ترجيحاً
لاختلاف بين رواة عن شيخ ما! لأن هذا الحديث اختلف فيه على قتادة على أوجه!
قال الترمذي: "حديث أنس أصح شيء في هذا الباب وأحسن.
وحديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب، روى هشام الدستوائي وسعيد بْنِ أَبِي
عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ؛ فقال سعيد: عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ
الشَّيْبَانِيِّ، عن زيد بن أرقم. وقال هشام: عن قتادة، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ. وَرَوَاهُ شعبة ومعمر، عَنْ قَتَادَةَ، عَن النضر بْن أنس، فقال شعبة:
عن زيد بن أرقم، وقال معمر: عَن النضر بْن أَنَسٍ، عَنْ أبيه".
فالظاهر أن قتادة كان يضطرب فيه، ولهذا خرّج البخاري ومسلم
في صحيحيهما حديث عبدالعزيز بن صهيب عن أنس.
- وقال المْحِمْدِي: "فالأئمة يحكمون على الرواية
باستقلال عن الرواية الأخرى، وقرآئن قبول رواية فلان من الشيوخ (عطاء بن السائب
مثلاً) تختلف عن قرآئن قبول الرواية عن أبي إسحاق السبيعي، ولهذا تجدهم مرة
يستنكرون تفرد راو عن شيخ، ومرة يقبلون تفرده في شيخ آخر، ومرة يستنكرون طريق راو
عن شيخ ويعلونه بالوقف وأخرى يعلون بالاتصال، ومرة يقولون: طريق حماد بن زيد أصح
قصر به، وأخرى يقولون: طريق حماد بن زيد أصح زاد رجلاً! فكل كلامهم ذاك قائم على
أساس القرآئن المحتفة بالحديث.
والأعجب من كل هذا أنك تجدهم يعلّون رواية ويعرفون غلطها
ولا يستطيعون التعبير عن تلك العلة بعبارة صريحة، فيقال لأبي حاتم مثلا: ممن
الخطأ؟ فيقولون: لا أعرف. فأبو حاتم يعرف إنها غلط من خلال ما يحفظه ويعرفه من
الروايات والطرق، ولكنه قد لا يعرف من أين جاء الغلط، وعلى من يحمل، كما جاء في
قصة الصيرفي، فالصيرفي يعرف الدينار مزيفاً مغشوشاً ولكنه قد لا يعرف من زوره!!
لله درهم من جهابذ أفذاذ!
ومن ذلك قال ابن أبي حاتم: وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ؛ رواهُ زهير،
عن حميد الطويل، عن أبِي رجاء، عَن عَمِّه أبِي إدريس، عن بلال، عنِ النّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم، فِي المسح على الخفين والخِمار.
فقال أبِي: هذا خطأٌ، إِنّما هُو حميد، عن أبِي رجاء مولى أبِي
قِلابة، عن أبِي قِلابة، عن أبِي إدريس، عن بلال، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم.
قُلتُ لأبِي: الخطأُ مِمّن هُو؟ قال: لاَ يُدرى.!!
ولنتأمل في هذا الحوار بين سامقتين من أهل هذا الفن!
قال ابن أبي حاتم:
" وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،
قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ!
فَقِيلَ لأَبِي: إِنَّ
أَبَا زُرْعَةَ، قَالَ: هَذَا خَطَأٌ. قَالَ أَبِي: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ
بِخَطَأٍ، وَكُنْتُ أَرَى قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَةُ
بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ،
عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قيل لأبي: كذا قاله أَبُو زُرْعَة.َ قَالَ أَبِي:
وليس هو عندي كذا، الذي عندي أنه صحيح، الذي كَانَ الحديثان جميعا كانا عند مُعَاوِيَة
بْن صَالِح، وكان الثَّوْرِيّ حافظا، وكان حفظ هذا أسهل على الثَّوْرِيّ من حديث العلاء،
فحفظ هذا ولم يحفظ ذاك ومما يدل على أن هذا الحديث صحيح هو أن هذا الحديث يرويه الحمصيون،
عَنْ عَبْدالرَّحْمَن بْن جُبَيْر، عَنْ عقبة، ومحال أن يغلط بين الإسناد إلى إسناد
آخر، وإنما أكثر ما يغلط الناس إذا كَانَ حديثا واحدا من اسم شيخ إلى شيخ آخر، فأما
مثل هؤلاء فلا أرى يخفى على الثَّوْرِيّ" انتهى.
أقول:
أولاً: لا داعي لكل هذه المقدمة للرد على تضعيفي لهذا
الحديث!! ولا نُنازع أن أهل النقد يحكمون بالقرائن، لكنهم قد يختلفون في أحكامهم.
وأما أن الروايات عندهم ويعرفون مخارجها.. إلخ كلامه، فهذا
صحيح في الغالب ولا نُنازع فيه، على أنه قد يفوت البعض أشياء يعرفها غيره.
ثانياً: قوله: "والأعجب من كل هذا...إلخ" كلام
فيه خلط!!
فبعض الأئمة النقاد يُعلّون بعض الروايات، لكن لا يستطيعون
أحياناً التعبير عن العلة بعبارة واضحة، وهذا وإن كان موجوداً إلا أنه نادر جدا!
وهذا الأمر لا ينطبق على قول أبي حاتم إذا سئل عن الخطأ:
"لا أعرف"! فهذا شيء، وعدم التعبير عن العلة شيء آخر، لكن (المتعالم)
خلط بينهما!
فأبو حاتم أو غيره من الأئمة النقاد يُعلون بعض الروايات
أو يرجحونها على غيرها، وبيانهم أو ترجيحهم لإسناد ما هو تعليل واضح، لكن أحياناً
إذا سئل الواحد منهم عن الإسناد الغلط أو الخطأ: ممن هذا الخطأ: من فلان أو فلان،
فلا يجزم بواحد منهما، فيقول: لا أدري.
فهذا لا علاقة له أبداً بمسألة معرفة العلة وعدم القدرة
على التعبير عنها كما هو حال الصيرفي.
فبعض الأسانيد الخطأ قد لا يملك الناقد الدليل على أن
فلانا هو الواهم أو الآخر. وقد يجزم بعضهم بواحد منهما.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (3/700) (1196): وسألتُ أَبِي
عَنْ حديثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالسي، عَنْ شُعْبَة، عَنْ يُونُسَ
الجَرْمي، عَنْ عليِّ بْنِ رَبِيعة؛ قَالَ: شَهِدتُّ عَلِيًّا ونازَعَتْ إِلَيْهِ
امرأةٌ فِي وَلَدِهَا، وعَمٌّ مَعَهَا ابْنَانِ لَهَا، أحدُهُمَا أكبَرُ مِنَ
الآخَرِ، فخَيَّرَ عليٌّ الأكبرَ مِنْهُمَا، وَقَالَ للأصغَرِ: هَذَا إِذَا بلغَ
مِثْلَ هَذَا خُيِّرَ؟
فسمعتُ أَبِي يَقُولُ: هَذَا خطأٌ؛ إِنَّمَا هُوَ: يُونُسُ
الجَرْمي، عَنْ عُمَارَة، عَنْ عليٍّ.
قلتُ لأَبِي: الخطأُ ممَّن هُوَ: مِن شُعْبَة، أَوْ مِنْ
أَبِي دَاوُدَ؟
قَالَ: لا أَدْرِي! وَكَانَ أكثرُ خطأِ شُعْبَةَ فِي
أَسْمَاءِ الرُّوَاة.
فهنا الخطأ معروف، لكن من الذي وهم فيه! فقال: "لا
أدري"، مع إشارته أن الخطأ ربما يكون من شعبة لأن أكثر خطأه في أسماء الرواة،
فبدل أن يقول: "عمارة" قال: "علي"، والله أعلم.
وقال أيضاً (5/309) (2005): وسألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ
عَنْ حديثٍ رَوَاهُ سَيَّارُ بْنُ حاتمٍ، عن عبدالواحد ابن زيادٍ، عن عبدالرحمن
بْنِ إسحاقَ، عَنِ القاسمِ بْنِ عبدالرحمنِ، عن أبيه، عن عبدالله ابن مسعودٍ، عن
النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي،
فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ! أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ،
وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ المَاءِ،
وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ،
وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ
بِاللهِ؟
قال أَبِي: هَكَذَا رَوَاهُ سَيَّارٌ، وغيرُه يقولُ: عن
القاسم، عن أبيه؛ وهذا الصَّحيحُ مُرسَلً.
قلتُ لهما: الوَهَمُ ممَّن تراه؟
قَالَ أَبِي: مِنْ سَيَّارٍ.
وقال أَبُو زُرْعَةَ: لا أدري؛ إما من سَيَّارٍ، وإما من
عبدِالواحد؛ رواه جماعةٌ عن عبدالواحد، فلم يقولوا: عن أبيه.
فهنا جزم أبو حاتم من الواهم فيه، لكن أبا زرعة قال:
"لا أدري"!
وقال أيضاً (6/395) (2614): وسألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ
عَنْ حديثٍ رواه صَدَقَةُ بن عبدالله، عن عِياض بن عبدالرحمن، عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عبدالرحمن بْنِ عَوْف، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ جدِّه؛ قَالَ: كنتُ
جَالِسًا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجاء سعد بن مُعاذ، فقال النبيُّ صلى
الله عليه وسلم: هَذَا سَيِّدُكُمْ؟
فَقَالا: هَذَا خطأٌ؛ رَوَاهُ شُعبة، عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أُمامة بْنِ سَهْل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النبيِّ صلى
الله عليه وسلم؛ والصَّحيحُ هَذَا هُوَ.
قلتُ: الوَهَمُ ممَّن هو؟
قَالَ أَبِي: مِنْ عِياض.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لا أَدْرِي ممَّن هُوَ.
وغيرها من الأمثلة التي لا يجزم الناقد من هو الواهم في
الحديث بعد بيان العلة فيه.
ثالثاً: الحوار الذي أتى به هذا (المتعالم) بين ابن أبي
حاتم وأبيه لا علاقة له بموضوعنا.
نعم، له علاقة بالقرائن، وقد أشار له عادل الزرقي في كتابه
"قواعد العلل وقرائن الترجيح" (ص: 81) عندما تكلم على قرينة: "غرابة
السند واتفاق البلدان"، فقال: "وهذا الحوار الذي دار بين أبي حاتم وابنه
يبيِّن شيئاً من هذه القرينة، واختلاف الحفَّاظ فيها لاختلاف قوتها".
وهذا (المتعالم) استفاد من كتاب الزرقي!
- وقال المْحِمْدِي: "لذا فالأئمة لهم نقد مستقل وقرائن
معينة في كل حديث، ولو رأيت ظاهر الإسناد يشبه الإسناد، لذا فالذي يجب التنبه عليه
أنّ صنيع الأئمة يقوم على القرآئن لا غير، ومن ألزمهم ببعض أقوالهم وجعلها قاعدة
مطردة في عمله ثم راح يحاكمهم عليه فهو لم يعرف صنيع القوم! ومن نازعهم في أحكامهم
فهو مخطئ واهم، لأنهم يعرفون الطرق ويحفظون التفريعات، وقفوا على الأصول وعاينوها،
فهذا البخاري لم يقبل من إسماعيل بن أبي أويس إلا بعد أن عاين أصوله وانتقى منها،
وكذا أخرج لخالد القطواني لأنه عاين أصوله وانتقى منها رواياته عن المدنيين، وكذا
لفليح بن سليمان.. فلا ينازع في إخراجه لهم في صحيحه وتركه أحاديث مثل حماد بن
سلمة؛ لأن له من القرآئن ما دعته إلى مثل ذلك" انتهى.
أقول:
أولاً: هذا كلام عائم فيه تخليط!!
فنحن لا نشك بأن الأئمة لهم نقد مستقل، لكن هذه القرائن
التي تتكلم عليها: هل هي في نقد الروايات وبين عللها؟ أم في تصحيح الروايات؟!
الذي عرفناه من منهج هذا (المتعالم) وبيناه فيما سبق أنه
يطلق ذلك في التصحيح والتضعيف!
فإذا صحح البخاري حديثاً قال بأنه صححه بالقرائن! فإذا
نازعناه في تصحيحه قال لنا بأن البخاري صححه بقرينة لا نعرفها!!
وما هكذا تورد الإبل!
التصحيح يكون ضمن المنهج المعروف عند الأئمة بأن يكون
الحديث متصلاً، ورواته من العدول الثقات، ولا يكون في الحديث علة. ومن هنا قد
يتنازع الأئمة في بعض الأحاديث هل هي فيها على أم لا؟! فمن بيّن علة في الإسناد لا
نستطيع أن نقول له: لا نقبلها منك؛ لأن ذاك الناقد إنما صححه لقرينة لا نعرفها!!
والقرائن إنما يستخدمها أئمة النقد في بيان علل الأحاديث.
ثانياً: إلزام الأئمة ببعض أقوالهم وجعلها قاعدة مضطردة
ومحاكمتهم لهذه الأقوال لا يعني أن من يفعل ذلك لم يعرف صنيع القوم كما ادّعى
(المتعالم)!!
فقد بينت فيما سبق عندما تحدث هو عن تقديم حماد بن سلمة في
ثابت وأنه أثبت الناس فيه أن بعض الأئمة أخذوا ذلك بإطلاق فرجحوا حديثه على غيره
بهذه القاعدة.
وإن كنت لا أرى هذا الفعل إلا أن الأمر يتعلق بنقد كلام
هذا (المتعالم)!
ثالثاً: قوله: "ومن نازعهم في أحكامهم فهو مخطئ واهم،
لأنهم يعرفون الطرق ويحفظون التفريعات ووقفوا على الأصول وعاينوها"! كلام
مردود!!
فكونهم يعرفون الطرق ويحفظون التفريعات ووقفوا على الأصول
لا يعني أن نقدهم كله صحيح، ولا يجوز منازعتهم في أحكامهم!! وهذه الطرق والتفريعات
قد دونها أهل العلم في كتبهم، فلا توجد رواية ضاعت منا يمكن أن تنقد اجتهاداتهم.
فكل ما اجتهدوا فيه موجود في الكتب، وطالما أننا نسير على
منهجهم ونقتفي أثرهم، فلا شيء في منازعتهم، وهم أنفسهم قد تنازعوا في بعض
الأحاديث.
رابعاً: الاحتجاج بوقوف البخاري على أصول إسماعيل بن أبي
أويس وغيره وأنه لا يُنازع في تخريج حديثهم في "صحيحه" فيه نظر!!
فالوقوف على أصول الرواية عند بعض الرواة لا يعني بالضرورة
أن حديثه كله صحيح! فقد يكون الخطأ في هذه الأصول! ولهذا قد نازع الدارقطني وغيره
تخريج البخاري لحديث إسماعيل بن أبي أويس وفليخ بن سليمان.
وأما معاينة البخاري لأصول خالد القطواني وانتقاؤه
لرواياته عن المدنيين، فهذا في غالبه صحيح، إلا أنه أخرج له حديثين بواسطة محمد بن
عثمان بن كرامة عنه: حديث الولي، وحديث الرجم عند البلاط! فهذا ليسا في أصول خالد
القطواني!! فكيف أخرجهما البخاري؟!!
خامساً: ترك البخاري لحديث بعض الرواة كحماد بن سلمة
لقرائن هو يعرفها ليس دقيقاً!!!
نعم، هو تركه لأن حديثه فيه مشكلة من مخالفات وإفرادات
وغير ذلك، ولا علاقة لذلك بمسألة القرائن، لأنه ترك حديثه بالكلية لا حديثاً أو
اثنين!!
- وقال المْحِمْدِي: "لذا فمثل هؤلاء القوم لا
يعارضون أو ينازعون في أقوالهم وأحكامهم، وإنما تأخذ على التسليم، اللهم إلا فيما
اختلفوا فيه..
قال أبو عبدالله الذهبي: "وهذا في زماننا يَعْسُرُ نقدُه
على المحدِّث، فإنِّ أولئك الأئمة - كالبخاريّ وأبي حاتم وأبي داود - عايَنُوا الأصول،
وعَرَفوا عِلَلَها. وأمَّا نحن، فطالَتْ علينا الأسانيدُ، وفُقِدَتْ العباراتُ المتيقَّنَة.
وبمثلِ هذا ونحوِه، دَخَل الدَّخَلُ على الحاكم في تَصَرُّفِهِ في "المستدرك".
وقال أبو الفضل ابن حجر: "وبهذا التقرير يتبين عظم موقع
كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير
إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه".
فهل ينازع مثل البخاري - مثلاً- في حديث صححه، أو رجل
ضعّفه؟ نعم ينازعه من حفظ ألف ألف حديث أو سبعمائة ألف حديث! أو صنف تاريخاً
كتواريخه، وهيهات هيهات!!
قال أحمد بن حمدون: "رأيت البخاري ومحمد بن يحيى يسأله
عن الأسامي والكنى والعلل؟ ومحمد بن إسماعيل يمرّ فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: قل هو
الله أحد" انتهى.
أقول:
أولاً: أقوال الأئمة على العين والرأس، لكن لا تؤخذ
بالتسليم كما ادعى هذا (المتعالم)!! وليست المسألة مرتبطة فقط بما اختلفوا فيه، بل
هناك من الأقوال قد تكون غير صحيحة، فكيف نأخذها مسلمة دون منازعة!!
نعم، نحترم أقوالهم وأحكامهم، لكن إن وقفنا على خطأ فيها
فحينها يمكن منازعتهم، ولا مانع في ذلك.
ثانياً: أقوال هؤلاء العلماء الذي نقله (المتعالم) هنا
ليدلل على التسليم لأقوال الأئمة وأحكامهم فيه نظر!!
فهذه الأقوال إنما قيلت في معرض بيان العلل عند المتقدمين،
وهذا مما لا خلاف فيه، فيعسر علينا أن نخالفهم في بيانهم لعلة حديث، وإنما الخلاف
في تصحيحهم لبعض الأحاديث قد وقفنا فيها على علة ما.
ويؤيد ذلك أن كلام ابن حجر السابق له سياق وتتمة، وهو يبين
علة حديث كفارة المجلس: "وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين
وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك
والتسليم لهم فيه وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد
كالترمذي كما تقدم وكأبي حاتم ابن حبان".
ثالثاً: قوله بأن البخاري لا يُنازع في حديث صححه أو في
راو ضعفه إلا من قبل من كان يحفظ ألف ألف حديث، وألف تاريخا كتاريخه!! وهذا مردود
أيضاً! فالعلم الآن مدون في الكتب، وليس بالضرورة لمن أراد الكلام على الأحاديث
والرواة أن يكون حافظا لألف ألف حديث، وإنما يكفيه معرفة منهج أهل النقد وكيفية
التعامل مع كلامهم وفهمه، وكثرة ممارسته للحديث وطرق التعليل مع بعض الحفظ.
- وقال المْحِمْدِي: "لذا فالأخ الحبيب د. خالد
الحايك أبعد النجعة في مشاححته البخاري في تصحيح الحديث، وهو وإن حاول أن يلتمس له
الأعذار - والبخاري لا يحتاج إلى الأعذار -، إلا أنه أخطأ خطأ فاحشا من عدة وجوه،
كما سيأتي، وأخذ من كلام ابن المديني في ترتيبه طبقات أصحاب نافع متكئا لترجيح ما
ظنه راجحاً، ولو تأمل قليلا - رعاه الله - لأدرك بعده عن الصواب.
فكلام الإمام علي بن المديني –مثلاً- في ترتيبه طبقات
أصحاب نافع متكئاً لترجيح ما ظنه راجحاً!! ولو تأمل قليلاً لأدرك بعده عن الصواب.
فكلام ابن المديني في ترتيب الطبقات على الرأس والعين ولكن
السؤال: هل نوزع فيها أو لا؟ ألم يخالفه ابن معين، والنسائي؟ فابن معين لا يرى
ترتيباً - كما في رواية عنه- والنسائي زاد وأنقص وقدم وأخر، فماذا سنفعل إذا
تعارضت رواية مالك مع العمري الكبير في حديث ما؟ فيأتيك أحدهم -جدلا- ليرجح رواية
مالك لقول ابن المديني ويأتينا آخر ليعارضه بقول ابن معين أو النسائي؟ طبعا لا
إشكال إن كان في المسألة خلاف بين النقاد أنفسهم، ولكن ماذا لو كان الحديث في الصحيح
ولم نجد معارضاً؟ ثم يأتيك صاحب قرائن جديد (معاصر)!! برأي جديد من هنا أو هناك
وينسف كلا القولين؟
لذا فالذي يجب أن نتنبه إليه معاشر طلبة العلم أن أحكام
المتقدمين التي لم يختلفوا عليها لا يجوز منازعتهم فيها، وما اختلفوا فيها جاز لنا
وفق القواعد، ولا ندعي زورا أننا نملك قرائن!! والصحيح أنها قواعد كلية جامدة،
تصيب مرة، وتخطئ ألف مرة!" انتهى.
أقول:
أولاً: هذا الكلام الفارغ الذي بناه (المتعالم) على ما
أورده سابقاً في صفحات طويلة حول القواعد والقرائن لا محل له من الإعراب!
فكيف أبعدت النجعة في مشاحَّة البخاري في تصحيح الحديث؟ هو
رحمه الله صحح الحديث لظاهر إسناد رواته الثقات: عبدالله بن عون البصري عن نافع عن
ابن عمر، ولم يعرف له علة فأخرجه في صحيحه.
فإذا أتينا ببعض القرائن التي تدل على وجود خطأ ما في هذا
الحديث، هل هذا يعني أن الدنيا قد خربت؟!!
ها هم أهل العلم في زمن البخاري وبعده شاحّوه في بعض
الأحاديث، فكان ماذا؟!
والإشكال الكبير عند هذا (المتعالم) أنه لا يجوز مشاحّة
البخاري في تصحيحه لأن عنده قرائن صحح بها هذه الأحاديث، ونحن لا نعرف القرائن، فكيف
نعترض عليه!!
فهنا وجب التسليم وكفى!!!
ثانياً: التماس الأعذار مطلوب يحتاجه البخاري وغيره، وقد
التمس ذلك له ابن حجر في شرحه في تخريجه لأسانيد ما كان ينبغي له أن يخرجها في
"صحيحه".
ثالثاً: زعم هذا (المتعالم) أني أخطأت خطأ فاحشاً تهويش
وتشويش، وسيأتي الرد عليه عند كلامه إن شاء الله حول ما ادّعاه!
رابعاً: هلا بيّن لنا هذا (المتعالم) كيف رجحت ما ظننته
راجحا باعتمادي على كلام ابن المديني في ترتيبه لطبقات أصحاب نافع؟!!
وهلا أعطانا فوائده بعد (تأمله) الذي دعانا له لمعرفة
بعدنا عن الصواب!!
مع أني لم أعتمد فقط على ترتيب ابن المديني بل وموافقة
النسائي له في بعض الأسماء، وبينت أن التوافق المطلق بين الأئمة لا يوجد، لكنه لا
يقرأ! وإذا قرأ لا يفهم!
خامساً: السؤال المطروح: هل نوزع ابن المديني في ترتيبه
سؤال جاهل! ثم كيف لنا أن ننسب مخالفة هذا الترتيب لناقد لم يرد عنه ترتيب لأصحاب
شيخ ما؟! فإقحام ابن معين هنا في المخالفة جهل وغباء! ومن المعروف عند طلبة الحديث
أن من اجتهد في ترتيب طبقات أصحاب الرواة: ابن المديني والنسائي.
ثم إن مخالفة النسائي له أمر عادي، وقد أشرت إلى ذلك في
البحث، فقلت: "والعلماء يختلفون عادة في تقديم وتأخير بعض الأسماء في أصحاب
الراوي، وهذا لا يعني أننا نرجّح ترتيباً على آخر دائماً، ولا أزعم أن كلام ابن
المديني هو الحق ودونه الباطل! ولكني رأيته قد جوَّد ترتيب أصحاب نافع ومنازلهم
منه بما لم يفعل ذلك إمامٌ غيره نعرفه على هذا الوجه؛ ولذلك قدَّم ابنُ رجب كلامَه
على غيره في أول كلامه على أصحاب نافع في «شرح علل الترمذي». هذا مع ما عليه ابن
المديني من المعرفة الواسعة بالعلل والرجال".
ثم كلامي كان مُنصبّاً على توافقهما - أعني ابن المديني
والنسائي- في ذكر بعض الأسماء في بعض الطبقات.
فاتفقا على أن عبيدالله بن عمر في الطبقة الأولى من أصحاب
نافع، وابن عون في الطبقة الثانية.
فلا وجه لذكر الاختلاف في بعض الأسماء هنا، وإنما هذا من
باب التشويش على القارئ من قبل هذا (المتعالم)!
سادساً: هذا السؤال الجدلي الذي افترضته هنا إذا تعارضت
رواية مالك مع العمري الكبير سؤال جاهل!! فمالك والعمري الكبير في الطبقة الأولى
من أصحاب نافع، على أن بعض أهل العلم قدم هذا على هذا في نافع، والعكس.
ثم هب أنهما اختلفا فنستعين بكلام أهل العلم في تقديمهما،
وكذلك نرى القرائن المحيطة بالرواية، ولا أظن (المتعالم) يخالفنا في ذلك؛ لأنه
يدندن حول القرائن كثيراً مع أنه لا يستوعبها حقيقة!
ثم رجع وقال بأنه لا إشكال بتقديم قول أحد النقاد على آخر
عند التعارض إذا كان في المسألة خلاف بين النقاد أنفسهم!! وهذا كلام لا يفهمه
قائله فكيف بقارئه!!
يعني وجد - جدلاً بحسب قوله - حديثا عارض فيه مالك العمري
الكبير في الرواية عن نافع، ولا يوجد مرجّح لنا لأحد الراويين إلا كلام أهل النقد
في التقديم، فعندها يجوز لنا استخدام هذه الأقوال؟!
حسنا، من الذي يجوز له ذلك: النقاد أنفسهم، أم من جاء
بعدهم؟!!
ولنفرض أن النقاد لم يتكلموا في كلا الروايتين ولم يرجحوا
بينها، فماذا نفعل؟!!
سابعاً: قوله: "ولكن ماذا لو كان الحديث في الصحيح
ولم نجد معارضاً؟ ثم يأتيك صاحب قرائن جديد (معاصر)!! برأي جديد من هنا أو هناك
وينسف كلا القولين؟" كلام مردود!
حتى لو كان الحديث في الصحيح ولم نجد لأهل العلم اعتراضا
عليه، فما المانع من إعمال قرائن الترجيح!!
وهذا الإعمال لا يطلق على صاحبه بأنه (صاحب قرائن جديد) من
باب الاستهزاء والتنقيص!! وليس برأي جديد ولا نسف للأقوال!
فعدم فهمك للقرائن وكيفية إعمالها وفهم كلام الأئمة لا
يجعلك تعترض على غيرك بهذا! فهذا مبلغك من العلم، ولا حرج عليك، فكلّ يتكلم بما
فتح الله به عليه.
ثامناً: مسألة أحكام المتقدمين التي لم يختلفوا علها يعني
أنه حصل عندهم إجماع! فكيف نثبت ذلك؟!!
فالبخاري صحح في كتابه أحاديث، ولم يتكلم أهل العلم على
كثير منها، فهل هذا يعني أنهم أجمعوا على تصحيحه، وأنه لا ينازع في ذلك؟!!
ثم هل الأئمة االنقاد اطلعوا على صحيح البخاري ووافقوه على
أحكامه!!
رُوي عن العقيلي أنه قال: "لما ألف البخاري كتابه في
صحيح الحديث عرضه على علي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم
فامتحنوه، فكلهم قال له: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث".
قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة".
قلت: هذه قصة منكرة!
والقصة ذكرها ابن خير الإشبيلي في "فهرسته" قال:
قال مسلمة بن قاسم: سمعت من يقول عن أبي جعفر العقيلي... وذكرها.
وهذا إسناد مجهول!
وهناك أحاديث صححها البخاري أعلها غيره كأحمد والعقيلي،
وهناك أحاديث صححها مسلم أعلها البخاري وغيره.
فنحن نسير على نهجهم ضمن ما أصّلوه لنا، وليست المسألة
بالتعلق بقواعد جامدة كما قال هذا (المتعالم)! فترجيحات الفقهاء والأصوليين في
قواعد الحديث لا اعتبار لها عندنا، ولا نُعرِّج عليها، فلا داعي لذكرها هنا.
لكن هذا (المسكين) لا يوجد عنده شيئا علميا ينافح به، ولا يقارع
الحجة بالحجة، ولهذا يكتب كلاما إنشائيا، ويلف ويدور في نفس الفلك، ويقرر من عنده
أن هذا يجوز وهذا لا يجوز!!
- وقال المْحِمْدِي: "وأنا لا أنكر أهمية القواعد
(الأصولية في حقيقتها) إذ كلام الأئمة المتقدمين لا بأس بتقعيده كقواعد نتحاكم
إليها عند خلافنا في الأحاديث المختلف عليها، وهو ما فعله أئمة المصطلح وهي طريقة
الأصوليين، كما بينته في غير هذا الموضع، ولكن لا يصح أن نحاكم أئمة النقد
(القرآئن) بهذه القواعد؟ فما يراه ابن المديني من تقديم فلان على فلان قد لا
يستقيم عند ابن معين، وما يرجح عند أبي زرعة قد لا يرجح عند أبي حاتم، فلا يجوز
ضرب أقوالهم بعضها ببعض، وإنما الصواب دراستها وتوجيهها بالوجهة الصحيحة. فيجب
التسليم لأحكام هؤلاء الأئمة وعدم مشاححتهم، اللهم إلا فيما تنازعوا فيه واختلفت
أحكامهم، كما سبق" انتهى.
أقول:
أولاً: انظروا إلى هذا الاضطراب عند هذا (المتعالم)! مرة
يذمّ القواعد ويقول بأنها قد تصيب مرة وتخطئ ألف مرة! ومرة يقول إنه لا ينكر
أهميتها!!
فأي أهمية هذه التي إذا احتكمنا إليها عند الاختلاف أصابت
مرة وأخطأت ألف مرة؟!!
ثم إذا لم يكن هناك بأس بتقعيد كلام الأئمة المتقدمين
والاحتكام إلى هذه القواعد عند الاختلاف، فلم ذمّها إذن؟! وخاصة أنها قائمة على
كلام المتقدمين - بحسب تعبيرك-؟!
ثانياً: طالما أن هذه القواعد مبنية على كلام الأئمة
المتقدمين، فلم لا نستطيع محاكمتهم إليها؟!
ثالثاً: اختلافات النظر عند هؤلاء الأئمة كتقديم ابن
المديني لفلان في فلان، ومخالفة غيره له لا علاقة له بالقواعد التي يتكلم عليها
هذا (المتعالم)! فكلّ قول لهؤلاء يمكن وضعه في مكانه بحسب المعطيات وأحوال كل
رواية وكل راو.
ومن قال بأننا نضرب أقوالهم بعضها ببعض؟!! المسألة لا تعدو
اختلاف وجهات نظر فيما بينهم وترجيح قول على آخر.
وما الذي يريد منا هذا (المتعالم) دراسته من أقوالهم
وتوجيهه الوجهة الصحيحة؟!!
هل تقديم فلان في فلان عند ابن المديني، ومخافة النسائي له
- مثلاً – يحتاج لأن ندرس قوليهما ثم توجيهه الوجهة الصحيحة؟!!
وكيف يكون توجيهه الوجهة الصحيحة؟! هما يختلفان في تقديم
فلان على فلان في فلان، فما الذي يحتاج لدراسة حينها؟
ثم ما فائدة هذا التنظير الذي ل فائدة منه في موضوعنا هنا!
فالذي يخص حديثنا هو اتفاق ابن المديني والنسائي في قولهما
في تقديم عبيدالله في نافع وعده في الطبقة الأولى، وعدّ عبدالله بن عون البصري في
الطبقة الثانية، فلا خلاف بينهما، بل كلّ أئمة النقد قدموا عبيدالله ومالك في
نافع، فما الذي يريده هذا (المتعالم) من هذه الخرشبات التي يخربشها!
رابعاً: ها أنت تقول يجب التسليم لأقوال هؤلاء الأئمة وعدم
مشاحَّتهم إلا إذا اختلفوا، فها هم قد اتفقوا في مسألتنا هذه ولا اختلاف بينهم،
فلم لا تُسلّم بأن عبيدالله ومالك يقدمان على عبدالله بن عون في نافع؟!!
- وقال المْحِمْدِي: "ومن نفائس العلامة محمد أنور شاه
الكشميري قوله: "وليعلم أن تحسين المتأخرين، وتصحيحهم، لا يوازي تحسين المتقدمين
فإنهم كانوا أعرف بحال الرواة لقرب عهدهم بهم، فكانوا يحكمون ما يحكمون به، بعد تثبت
تام، ومعرفة جزئية، أما المتأخرون فليس عندهم من أمرهم غير الأثر بعد العين، فلا يحكمون
إلا بعد مطالعة أحوالهم في الأوراق، وأنت تعلم أنه كم من فرق بين المجرب والحكيم، وما
يغني السواد الذي في البياض عند المتأخرين، عما عند المتقدمين من العلم على أحوالهم
كالعيان، فإنهم أدركوا الرواة بأنفسهم، فاستغنوا عن التساؤل، والأخذ عن أفواه الناس،
فهؤلاء أعرف الناس، فبهم العبرة، وحينئذ إن وجدت النووي مثلا يتكلم في حديث، والترمذي
يحسنه، فعليك بما ذهب إليه الترمذي، ولم يحسن الحافظ في عدم قبول تحسين الترمذي، فإن
مبناه على القواعد لا غير، وحكم الترمذي يبني على الذوق والوجدان الصحيح، وإن هذا هو
العلم، وإنما الضوابط عصا الأعمى" انتهى.
أقول:
كلام الكشميري هذا ليس بـ (نفيسة) بل (بئيسة)!!! وفيه جملة
من المغالطات!!
أولاً: الأئمة المتقدمون لا يوجد في كلامهم مصطلح (الحسن)
بالقسمة الثلاثية المعروفة فيما بعد بمعنى المقبول، وإنما الحسن عندهم كان -
بالجملة- بمعنى الغريب المردود.
ثانياً: مسألة أن المتقدمين أعرف بحال الرواة لقربهم كلام
مجمل وعام! بل إن المتأخرين الذين عاب عليهم الكشميري أنهم يحكمون بمطالعة أحوالهم
من الأوراق عندهم معلومات أكثر من بعض المتقدمين! إذ كان كلامهم متفرق، وقد جمع
بين أيدي المتأخرين وبين أيدينا.
نعم هم عاصروا الرواة لكنهم أخذوا كذلك عمّن تقدمهم من
خلال الأوراق والكتب. فالأخذ من الأوراق ليس عيباً محضاً.
ثالثاً: عدّه تحسين الترمذي مقبولا، وانتقاده لمن رده
مردود! والأمر ليس متعلقا بالقواعد كما يزعم، بل بحقيقة معنى الحسن عنده!
والأعجب أن هذا (المتعالم) فرح بكلام الكشميري وهو يرى
قبول تحسين الترمذي مطلقا في حين أن هذا (المتعالم) يذهب إلى أن الحسن عند الترمذي
هو المعلول!!!
رابعاً: قوله بأن الترمذي يبني حكمه على الذوق والوجدان
الصحيح طريقة جديدة في الحكم على الأحاديث وقبولها!! وما أشبه هذا بحكم الصوفية
على الأحاديث إذ يحكمون عليها بوجدانهم وأحوالهم الصوفية!!!
فكيف يحكم على الأحاديث بالذوق والوجدان؟!!
على أننا نُحسن الظن بأن المقصود هنا بالذوق هو الذوق
الحديثي وهو معرفة عالم الحديث بالنقد والتعليل. لكن هذا لا ينفع دون إظهار الأدلة
والحجج والبراهين.
خامساً: (المتعالم) فرح بهذا الكلام من الكشميري لأنه قال
بأن كلام ابن حجر في رد تحسين الترمذي مبني على (القواعد)! وهو يحارب (القواعد)
فتمسك بهذه الكلمة وطار بها وعد كلامه من النفائس!!
سادساً: الكشميري هذا ليس من أحلاس الحديث! ولا علاقة له
بالجرح والتعديل والعلل!
وانظر كيف يعتمد على المتأخرين ممن قعدوا القواعد في
أحكامهم على الأحاديث.
يقول في "فيض الباري على صحيح البخاري" (1/77):
"وليُعْلم أن حديث: «كل أمر ذي بال».. إلخ، اضطربت فيه الألفاظ الواردة،
بعضها: «باسم الله»، وبعضها: «بحمد الله». وخَالَ بعضُهم التعارض، وظن اختلاف
الألفاظ اختلاف الحديث. والحال أن الحديث واحد، ومع اضطراب كلماته حسَّنه الحافظ
الشيخ أبو عمرو بن الصَّلاح، وهو شيخ الإمام النووي، دقيقُ النَّظر، واسع
الاطِّلاع، وليس صاحبه النووي مثله في الحديث...".
سابعاً: ليعلم أن نص الكشميري هذا نشره د. حمزة المليباري
في كتابه "الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها"
(ص: 15) عند كلامه على أن مصطلح "المتقدمين" و"المتأخرين"
وُجد في كلام أهل العلم.
وتتميماً للفائدة أنقل ما كتبته عند مناقشة (المْحِمْدِي)
في مسألة القواعد والقرائن لما تكلم عن تلك الندوة التي شارك فيها في الأردن حول
المعايير والنقد في التصحيح والتضعيف، وكان ارتكازه على هذا الكلام! فليس عنده من
سنوات إلا هذا!!
وكان أحد الإخوة كشف له سرقة لبعض كلامه، فجنّ جنونه، وتعدّى!
فقلت:
وأما إثارة هذه المسألة الآن فلا شأن لي بها! فالأخ الغزي رآها هذه
الأيام فنشـرها، وقد تقدم في كلام المْحِمْدِي أن "سبب إثارة الكلام الآن:
تداعيات ما بعد نجاح ندوة التصحيح والتضعيف عند علماء الحديث، في عمان/الأردن"!!
وفي رسالة له لأحد الإخوة الآخرين ممن ناقشه حول هذه المسألة قال:
"وليت خالد الحايك يرد علميا بدلا من هذه الطرق الملتوية القديمة،
فقد وعد بالرد منذ عام 2013 ولم يكتب حرفا إلا سبا وشتما وطعنا، وللفائدة فالسؤال:
ما مناسبة إثارة هذه التهمة الآن؟
الجواب: لأن الحايك حضـر الندوة في الأردن قبل أيام، وأنا عرضت به في
الجلسة ولم يحرك ساكنا بل خرج بصمت. هذه القصة.
أنا قلت إن بعض الأفاضل هنا في عمان خلط بين القرائن والقواعد يصحح
ويضعف بالقواعد ويظنها قرائن".
ثم قال: "لكن الأسطل والحاقد عصام والحسني ولفيفهم أذناب الحايك،
سنجتمع بين يدي الله قريبا. أفلسوا فراحوا يطعنون في الأمانة. إن كانوا رجالا وفرسانا
فليردوا عليّ كما رددت على شبهاتهم بالأدلة القاطعة الملجمة" انتهى.
أقول:
قطع الله دابرك أيها الكذاب! انظروا كيف حول الأمر إلى شخصي ولا دخل
لي به! فما هذا الحقد والعمى؟! وقد أضحكني - والله- بقوله إن سبب إثارة هذه المسألة
هو نجاح هذه الندوة التي شارك فيها في الأردن!
المسيكين! هذا ما عنده! ندوة فاشلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى!
خلط واضطراب وجهل! وكنت والله أضحك يا مسكين وأنتم تُنظّرون دون فهم لما تهرف به
أنت وبعض الجهلة مثلك!!
ثم والله لم أكن أعلم أنك كنت تقصدني بكلامك في هذه الندوة الفاشلة
يا فاشل! فلم لم تصرّح يا جهبذ زمانك إن كنت رجلا حتى تسمع في حينها ما يليق بمثلك
من الجواب؟! ولَمْ تقل "بعض الأفاضل في عمان" أيها الكذاب!
فهذا نص كلامك في الدقيقة (16:20):
"مثل ما فعل أحد الإخوة، الله يغفر له، راح إلى البخاري، طبق عليه
القواعد قام يعللنا أحاديث، هو رجل عالم، أنا لا أخفيكم: رجل عالم، لكنه أنا أعتبره
هذا نتيجة طبيعية...".
هذا كلامك الذي عرضت بي به أيها الجاهل!
وهذا الرجل يفرق بين القواعد الحديثية - التي أصَّلها أهْل المصطلح
- وبين القرائن! - ظناً منه أن كل من يشتغل بالحديث من المتأخرين والمعاصرين يشتغل
بالقواعد-!! فالعلماء عنده مدرستان: مدرسة القواعد، ومدرسة القرائن!
ويتهمني باتباع مدرسة القواعد وأني أحسبها قرائن فأضعف أحاديث باتباع
هذه القواعد!
وهذا الجاهل حقيقة عنده خلط في المفاهيم، وما حاله إلا كحال سيارة قديمة
تخلط الزيت مع الماء!
هذا "الكَمُوج"* يزعم أنه لا يوجد أحد بعد عصـر ابن خزيمة
- رحمه الله- يعمل بالقرائن لأنها انتهت بابن خزيمة! وكل من عمل بعده يعمل بالقواعد!
وتجده في تلك الندوة الفاشلة يتكلم عن القواعد ويذمها ثم يقول لا تظنوا
أننا نتركها! ثم يتكلم عن القرائن ويضـرب بعض الأمثلة الخاصة التي لا علاقة لها بما
يريده هو!!
فهو حقيقة متخبط، مضطرب، جاهل، لا يدري ما الذي يخرج من رأسه!! ثم يتهمنا
بأننا نطبق القواعد التي أصلها الأصوليون! وهذا افتراء وكذب!
فهو عندما تكلم عن مسألة زيادة الثقة وقبولها مطلقا عند الفقهاء
وتصويب الخطيب لها وكذلك أهل الأصول فهذا لا يعني أننا نوافقهم على ذلك! فزيادة
الثقة لا تقبل مطلقا، وتقبل إذا جاءت قرينة تدل على ضبط الثقة لها.
ودعواه أنني أصحح بالقواعد لا بالقرائن محض افتراء! وأنا أتحداه أن
يأتيني بحديث ضعفته أو صححته بالقواعد الأصولية لا بالقرائن الحديثية! وهو يزعم
أنه لما تعرّف عليّ قلت له: "أنا أضعّف بالقرائن"، فقال لي: "لا،
بل أنت تضعف بالقواعد"!!
وهكذا يستمر هذا الأفاك بالكذب!! فهو ذكر هذا في بعض خربشاته التي
رد بها عليّ! لكن أنه أخبرني بذلك لما تعرفت عليه فكذب واضح! ولهذا لم أرد على
خربشاته لأنه يهرف بما لا يعرف!
والمصيبة عند هذا الجاهل أنه أغلق باب معرفة القرائن! وعليه فلا يعتدُّ
بأي قرينة يأتي بها أي مشتغل بالحديث! لأنه يزعم أن باب القرائن انتهى بابن خزيمة!!
وهذا غباء وجهل لا نظير له لم يسبق إليه ولا أظن أحدا يدركه فيه!
ولأنه يرى أن كل ما في الصحيحين صحيح بإطلاق، وأن البخاري ومسلم إنما
صححا بالقرائن، وهما قد عاينا الأصول وأقرب للرواية ممن جاء بعد انتهاء باب القرائن،
وهما يصححان بالقرائن التي لا نعرفها نحن، فعليه عندما نضعف حديثا ما فيهما نضعفه بالقواعد،
وهما صححاه بالقرائن، وعليه فيرد كل تضعيف لأي حديث فيهما!!
ولازم ذلك إغلاق باب العمل بالتصحيح والتضعيف لأننا لا نعرف القرائن
بحسب زعم هذا الجاهل ولا يمكن أن نعرفها!! وكذا يزعم جاهل مثله أننا لا نستطيع الإتيان
بقرائن جديدة غير التي أتى بها من قبلنا!
فأمثال هؤلاء الجهلة من يتصدى لتدريس الحديث النبوي، فتخيل أولئك
العاهات الذين سيتخرجون على أيديهم!!
وبعض تلك الأمثلة التي ذكرها ودندن عليها في الندوة بفضل الله وحده
نعرفها ولا تخفى علينا، ومن يقرأ لنا يعرف ذلك.
وهذا "الكموج" لا يحسن حتى استخدام هذه الأقوال لأهل
النقد! فإنه عندما عرض لتقديم أبي حاتم لرواية ابن لهيعة على ثقة لأنه زاد رجلا
قال بأن هذا لا يعني أن تكون هذه قاعدة بحيث كل حديث يزيد فيه ابن لهيعة رجلا
فيكون قد ضبطه!
وسآتيه بحديث هو في صحيح مسلم ضعفته بهذه القرينة التي أعل بها أبو
حاتم ذلك الحديث بزيادة ابن لهيعة رجل في الإسناد، فهل سيمشي هذا (المتعالم) على
نفس القرينة التي ذكرها عن أبي حاتم هنا؟! أم لأن الحديث في "صحيح
مسلم"، فسيختلف الأمر؟!!
روى الإمام مسلم في «صحيحه» (3/1457) قال: حدثنا عبدالمَلِكِ بن
شُعَيْبِ بن اللَّيْثِ، قال: حدثني أبي شُعَيْبُ بن اللَّيْثِ، قال: حدثني
اللَّيْثُ بن سَعْدٍ، قال: حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ، عن بَكْرِ بن عَمْرٍو،
عن الحَارِثِ بن يَزِيدَ الحَضْرَمِيِّ، عن ابن حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ، عن أبي
ذَرٍّ قال: «قلت يا رَسُولَ اللَّهِ، ألا تَسْتَعْمِلُنِي! قال: فَضَرَبَ
بيده على مَنْكِبِي، ثُمَّ قال: يا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا
أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يوم الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إلا من أَخَذَهَا
بِحَقِّهَا وَأَدَّى الذي عليه فيها».
وإسناد حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكر بن عمرو، عن الحارث
بن يزيد، عن ابن حجيرة، عن أبي ذرّ إسناد نازل!
وقد خولف بكر بن عمرو المعافري فيه:
فرواه أحمد في «مسنده» (5/173) برقم (21552) قال: حدثنا حَسَنٌ،
قال: حدثنا ابن لَهِيعَةَ، قال: حدثنا الحارث بن يَزِيدَ، قال: سمعت ابن
حُجَيْرَةَ الشَّيْخَ يقول: أخبرني من سمع أَبَا ذَرٍّ يقول: «نَاجَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً إلى الصُّبْحِ، فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ
أمرني! فقال: إِنَّهَا أَمَانَةٌ وَخِزْىٌ وَنَدَامَةٌ يوم الْقِيَامَةِ إِلاَّ من
أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الذي عليه فيها».
فابن لهيعة زاد في إسناده: "من سمع" بين ابن حجيرة وبين
أبي ذرّ، وهنا ترجح رواية ابن لهيعة وإن كان ضعيفاً؛ لأنه ضبط إسناده فزاد فيه
راوياً وبيّن أنه لم يُسمّ في الرواية، وكان - رحمه الله- من المكثرين، وله أحاديث
قد ضبطها.
فربما يخرج علينا هذا الجاهل ويقول: "نعم، لا نحكم لابن لهيعة
هنا! لأن الحديث خرّجه مسلم في صحيحه، وهو أدرى بالقرائن"!!!
فبالله أين تلك القرائن؟!!
فنحن بفضل الله نعرف القرائن ونعمل بها ولا يلتفت إلى قول هذا "الكموج"
الشاذ! ولا إلى من يقول بأننا لا نستطيع أن نأتي بقرائن جديدة، وكون هؤلاء الجهال
لا يعرفونها فلا يحق لهم أن يخرجوا بهذه الأمور الشاذة! ذلك مبلغهم من العلم.
وأنا أتحداه أن يأتيني بشيء صححته على قواعد المصطلح التي فيها
مخالفة لعمل الأئمة النقاد!!
ومن شدة اضطرابه وخلطه تجده يذم "القواعد"، ثم يقول: "إذا
اتفق النقاد على تصحيح حديث وخالفوا فيه القواعد يصار إلى القرائن لأنهم يصححون
بالقرائن!!!".
حسناً.. أثبت لنا أولًا اتفاقهم على تصحيح حديث ما بتصريح كل واحد
منهم؟ ثم بعدها أخبرنا عن القواعد التي خالفوها في تصحيحهم؟ وما هي القرائن التي
صححوه من أجلها!!!!
أتى لنا هذا (المتعالم) بمثال كيف كشف عبدالرحمن بن مهدي وهم شيخه أبي
عوانة لما حدّث بحديث وأنه ليس من حديثه!!
فما دخل التصحيح واتفاق الأمة على حديث بهذه الحكاية التي لا علاقة
لها بما قاله!!!!
فعبدالرحمن بن مهدي كشف أنه ليس من حديث شيخه كونه يعرف شيوخه،
وكيف طلب الحديث، وأحوال أخرى تتعلق به مما جعله يعرف أنه ليس من حديث شيخه.
وكذا إتيان هذا الجاهل بأمثلة لا علاقة لها بالقرائن في هذا
الموضوع! بل لا توجد حقيقة على أرض الواقع!
وكان مما قال في ورقته في تلك الندوة الفاشلة: "أبو حاتم يقول
له ابنه: يا أبت هذا الحديث.. ما علة هذا الحديث؟ يقول له: لا أدري! يله شنو قرينة
هاي!!!"
وهذا الكلام لا يوجد أبدا في علل ابن أبي حاتم ولا في غيره!!! فالرجل
ليس بحافظ وهو سيء الحفظ، ويخلّط، ويحرّف كل شيء ويفهم كما يريد!!! يعني ابن أبي
حاتم يعرف أن الحديث فيه علة فيسأل أباه عن العلة فيقول: لا أدري!!! طيب كيف عرف
الابن أنه معلول والأب المعلل لا يعرف علته!!!!!
بعض الأمثلة التي في كتاب ابن أبي حاتم: أن أباه وأبا زرعة كانا
يبينان علة بعض الأحاديث فيسأل عبدالرحمن: ممن العلة فلان أو فلان، فيقول: لا أدري،
أو يقولان: لا ندري.
ثم يقول المتعالم المخلّط متابعاً الكلام على أبي حاتم - وذمّ من
يضعف بالقواعد لا بالقرائن-: "يقوله - أي لابنه - هذا لو كان حديثا لرواه
سفيان! الله، لأنه قصير إسناده عال وسفيان ما كان معه كتبه ومهجر 24 ساعة مثل
العراقيين كل يوم ببلد!!! وسفيان لم تكن معه كتبه... وووو"!
سبحان الله!! ما هذا؟!! من أين أتى بهذه الخيالات؟!
يعني هذا الجاهل أن سفيان الثوري كان يحفظ الأسانيد العالية لأنه
مهجّر؟! وهل حفظ إسناد نازل فيه راو زيادة يعسر على حافظ مثل سفيان؟!! ثم هذا لو
صح لكان حجة عليك لا لك يا كموج!!
فما دخل حفظ سفيان بحديث لم يروه هو؟!! فهل الحديث إذا لم يكن عند
سفيان، فهذا يعني أنه ليس بحديث؟!!
نعم، يصلح ذلك إذا كان الحديث يُروى عن شيخ ما لسفيان وهو قد
استنزف حديثه، ولم نجده عنده، وحدث به غيره! أو يكون أخطأ عليه راو ما! فيحدث
بالحديث عنه عالياً، ولو كان عنده كذلك لما حدّث به نازلاً!
وهذا فعلاً ما حدث، لكن الكموج هذا يقرأ دون فهم أو وعي!
ولنبين له أصل القصة والمسألة لعله يفهم!
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/422) (19) وسألتُ أَبَا زُرْعَةَ
عَنْ حديثٍ رَوَاهُ ضَمْرَة، عَن الثوري، عَن حُمَيد، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النبيِّ صلى
الله عليه وسلم: «اَنَّهُ طافَ عَلَى نِسائِه فِي غُسْلٍ واحد»؟
فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: "هذا خطأٌ؛ أخطأ ضَمْرَة؛ إنما هو:
الثوريُّ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَن أنس".
ثُمَّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: "لو كَانَ عِنْد الثوري: عَن
حُمَيد، عَن أنس؛ كَانَ لا يحدِّث بِهِ عن مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَن أنس".
الله أكبر.. هذا هو علم العلل وعلم القرائن، فافهم يا كموج.
فالقائل هو أبو زرعة لا أبو حاتم كما قلت!
ثم هو لم يقل: "لو كان هذا حديثا لرواه سفيان..." إلى
آخر هذرمتك!!!
الحديث يرويه سفيان لكن أخطأ ضمرة عليه؛ لأن المحفوظ عن سفيان بالإسناد
النازل، ولو كان عنده عن حميد عن أنس عالياً لما رواه نازلاً.
فهذه هي القرينة التي اعلّ بها أبو زرعة إسناد ضمرة عن سفيان.
ولا أدري من أين جئت بكلامك عن سفيان! وما أشبهك إلا بكاتب قصص
خيالية! فأنت تصلح لأن تؤلف قصص "ألف ليلة وليلة"! لا أن تتكلم في العلل
والقرائن.
وأما المثال الآخر الذي أتيت به: "لو كان هذا حديثا لوجدناه
في كتاب ابن أبي عروبة..".
فنعم، هذه قرينة لأن الحديث ليس في كتب أبي عوانة، لكن أبا حاتم
أيد ذلك بقرينة أخرى لأن راوي الحديث من الأئمة الكبار.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/487) (60): وسألتُ أَبِي عَنْ
حديثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُيينة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ،
عَن حَسَّان بْن بلال، عَن عمَّار، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم «في تخليل
اللِّحْيَة»؟
قَالَ أَبِي: "لم يحدِّثْ بِهَذَا أحدٌ سوى ابنِ عُيينة، عَنِ
ابْنِ أَبِي عَروبة".
قلتُ: هُوَ صَحيحٌ؟
قَالَ: "لو كَانَ صَحيحًا، لكان فِي مُصَنَّفات ابن أَبِي عَروبة،
ولم يذكُر ابنُ عُيَينة فِي هَذَا الحديثِ الخَبَرَ؛ وَهَذَا أَيْضًا مما
يوهِّنُهُ".
قلت: هذا هو علم القرائن الذي أبدع فيه الأئمة النقاد وإنا على
منهجهم سائرون بفضل الله.
ثم ترى هذا "المْحِمْدِي" مضطربا يقول: "كل من
اشتغل بالحديث بعد ابن خزيمة اشتغل بالقواعد لا بالقرائن، ونحن لا نقول نرمي هذه
القواعد بل هي محترمة، لكن نقول: إذا اختلف فلان وفلان... اختلفوا في حكم معين في
غير الصحيحين لا بد من اللجوء إلى القواعد..."!
ما هذا التخبط والاضطرب؟!
يُلجئ للقواعد فقط إذا كان هناك اختلاف بين العلماء حول حديث ما؟!!
ومن أين أتيت بشرط أن يكون الاختلاف في غير الصحيحين؟!!
حسناً، الإمام أحمد خالف الإمام البخاري في حكمه على حديث
الاستخارة! فاستنكره أحمد، وجاء بقرينة أن عبدالرحمن بن أبي الموالي راويه كان إذا
أخطأ يسلك الجادة فيقول: عن ابن المنكدر عن جابر!
والإمام البخاري صححه في عدم مواضع من «صحيحه»! فأين القرينة التي
صحح بها البخاري هذا الحديث؟
وهل أحمد ضعفه بقرينة أم بقاعدة؟ ولو كانت قاعدة، هل هي على مذهب
المتأخرين الذين قعّدوا القواعد الأصولية؟!!!
وأما دعواه أني لم أرد عليه بحرف! ذلك لأني لا أرى فيما كتبه ما يستحق
الرد!! فرجل جاهل عنده هذا الفكر الشاذ كيف ترد عليه؟!
والحمد لله أن الرجل الحاقد أفصح عن خبث نيته! فهو جاء إلى الندوة للغمز
واللمز!! ويظن أنه يفهم!
وقوله: "وأما عدم تفريقك بين القرائن
والقواعد فأنا وإن بينته لك أكثر من مرة، فأعذرك، ربما لصعوبته على فهمك، وهو سبب
تخليطاتك وتخبيصاتك المتكررة، أصلحك الله تعالى، وودت أن نطقت ببنت شفة في الندوة
المباركة، كي أعرفك قدر نفسك أمام الناس، لكنك رضيت أن تدخل غلسة وتخرج غلسة!!
وأحيلك إلى كتابي (المدخل الى العلل) و(عبقرية الحافظ المزي)، ففيهما البيان
الشافي لمسألتي التفريق بين القواعد والقرائن، ومسألة الاتصال والسماع، وأنتظر منك
ردا علميا موضوعيا، خاليا من الشذوذات القولية والعلل النفسية فلست طبيبا نفسيا،
وإنما أحاورك علميا".
أقول:
يا لقلة الأدب والوقاحة! أين
الأخلاق التي تباكيت عليها في بداية خربشاتك!!
يا عدو نفسه! يا جاهل! أتعلمني
الفرق بين القواعد والقرائن؟! سبحان الله! وأنت من تخلط بينهما، وقد بيّنت جهلك في
ذلك! تخلط بين ترجيحات الأصوليين وأصحاب مصطلح الحديث في القواعد الحديثية، وتدعي أننا
نسير عليها، وتحديناك أن تأتينا بأمثلة من ذلك! كأن نرجح مثلا الوصل على الإرسال
أو نقبل زيادة الثقة مطلقا هكذا دون قرائن!!
وأما أني لم أتكلم في "ندوتك
الفاشلة"! فقد بينت ذلك في أصل المقال أيها المفتري!
ومن هنا أدعوك أنت وصبيك المحرض
في الخفاء كالنساء لمناظرة علنية علمية في اتهامي بالطعن في الصحيحين، وقد دعوت
صبيك مراراً للمناظرة فهرب!
وبعد ذلك وافقوا على المناظرة
لكنهم وضعوا شروطاً تعجيزية للهروب!! فهربوا!!
وأنصحك بتعلم العربية! قال: "دخل غلسة وخرج
غلسة"!!! فلم يُفرّق بيت الخاء والغين!
ثم أنا دخلت وأنا رافع الرأس وخرجت كذلك، وأسأل صبيك لما رآني
جاء وسلّم عليّ هو ورئيس الرابطة.
وخربشاتك في كتابيك المذكورين أتركهما لك فلا حاجة لنا
بها! فما الذي سيكون فيهما غير ما تفتؤ تتفوه به من تناقضات في عقلك وهوس وجنون!!
·
نقض رد (المتعالم) التفصيلي!
- قال المْحِمْدِي تحت عنوان "المناقشة التفصيلية:
"اختلف أهل العلم في هذا الحديث بين جازم بالوقف وجازم بالرفع؛ لكونه مما لا
يقال بالرأي، وقد نقل الدكتور النصوص بتوسع فلتنظر هناك، وقد جاء فيها جزم البخاري
نفسه برفعه، قال النسفي راوية صحيح البخاري: "قال أبو عبدالله هذا الحديث
مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن ابن عون كان يوقفه"، ولذا أورده
مرة أخرى عنه مرفوعاً من طريق أزهر في كتاب الفتن. وقد أسس الأخ الدكتور بناءه على
هذا الرأي (الوقف) ولكن السؤال الذي يجب الإجابة عليه ما الذي عنوه بقولهم (موقوف)
أهو كل الحديث أم طرفه الأول (اللهم بَارك لنا في شامنَا، وفي يمننا)، ولا سيما أن
الرفع ظاهر في السؤال في قول ابن عمر (قالوا.. قال) ... فمن القائل؟ ولا أظن أحدا
يحمله على ابن عمر رضي الله عنه، بل هو النبي صلى الله عليه وسلم جزماً، كما جاء
من طرق صحيحة مرفوعة في البخاري وغيره (أعلها) أخي الشيخ خالد - حفظه الله - بلا
حجة! لذا فالصحيح المقطوع به في مثل هذا الحديث أنه مرفوع، والرفع ظاهر، وقد تعرض
أهل المصطلح في كل كتبهم إلى صور الرفع، وعدوا مثل هذا من قبيل المرفوع لأنه مما لا
يقال من جهة الرأي، ومن بابه: ما أخرجه البخاري من حديث ابن المنكدر قال: سمعت جابراً
رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها ورائها جاء الولَدُ أحْول، فَنَزلت:
{نِساؤكْم حْرث لَكْم فأتُوا حْرثَكْم أنى شئْتُم}. فهل يحمل على أنه موقوف؟ ومن
نظيره حديث أبي قلابة، عن أنس قال: "أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر
الإقامة".
وغيرها من النظائر التي قبلها أهل العلم وعدوها من المرفوع؛
لأن ظاهرها جليّ، بل أزعم أن حديث ابن عمر هذا الذي استشكله الأخ الدكتور أصرح
بالرفع من حديث (أمر بلال)..." انتهى.
أقول:
قوله إني أسست بنائي على رواية (الوقف) كذب إن قرأ البحث،
أو جهل إن لم يقرأه! ولا أدري كيف يستبيح هذا (المتعالم) لنفسه ذلك!
فمسألة الاختلاف في الأسانيد في وقفه ورفعه تكلمت عليها في
البحث من نافلة الأمر ولم أبنِ عليها أي شيء!
بل بينت أن الرواية مرفوعة. وما جاء في نسخ الصحيح، وقلت
في آخره: "وأنا لم أجزم بكون الوقف هو الصواب وما عداه الخطأ المحض، وإنما
تعرَّضْتُ له كما تعرَّض له الحميدي وغيره ممن جزم بكون رواية الحسن بن الحسين عن
ابن عون موقوفة غير مرفوعة. بل أشار الدارقطني لهذا أيضًا عندما جزم في كتابه:
«الأفراد والغرائب». بتفرد أزهر بن سعد عن ابن عون مرفوعًا. والدارقطني لا يخفى
عليه طريق الحسن بن الحسين الموقوف عن ابن عون عند البخاري. بل ذكر البخاري نفسه
أن ابن عون كان يوقفه. وسواء كان هذا الوقف صُورِيًّا أو في حُكْم المرفوع كما
يراه بعضهم، فإنه يقال عنه: موقوف. ولا ريب أن هذا يقابل المرفوع عندهم على كل
حال. بل مَنْ حكم على طريق الحسن بن الحسين بالوقف من الأئمة الذين ذكرناهم: لا
ندري رأيهم فيه من حيث كونه يدل على الرفع أو له حُكْمُه، بل الأصل عندهم أن
الموقوف دون المرفوع. ولم يكن عمدتي في تضعيف هذا الخبر: هو قضية الوقف هنا،
بقدْرِ ما أردتُ تبيان الاختلاف فيه، وأنه لو ثبت تفرد أزهر به مرفوعًا؛ فقد يكون
وهم في ذلك، مع ثقته ومعرفته واختصاصه بابن عون. وإنما احتملتُ هذا الوجه: بما
ذكرتُه من أن أصل الزيادة ثابتة عن شيخ ابن عون - وهو الحسن البصري- مرسلة، كما
سيأتي لاحقاً، وكذا مخالفة مَنْ خالف ابن عون فيها عن نافع فلم يذكروها. وغير ذلك
من القرائن. وهذا كله يدور في فلَك الاحتمال حتى لا يُحمّل كلامي ما لا يحتمل،
ولذلك لم أعتمد عليه، ولا يمَّمْتُ شطْرَ هِمَّتِي إليه".
وعليه فلا حاجة لهذا الكلام الكثير الذي جاء به هذا
(المتعالم) في عدة صفحات فيما يتعلق بمسألة أن هذا مما لا يُقال بالرأي، والأمثلة
عليها، فهذا مما يعرفه صغار الطلبة.
وأنا لم استشكل الحديث بهذا كما يدّعي هذا (المتعالم)!
والله المستعان.
- وقال المْحِمْدِي: "ثم أورد الأخ الدكتور خالد - حفظه
الله- الحديث من طريق حسين بن الحسن عن ابن عون ورواية أزهر السمان التي أخرجها
البخاري!! وأحمد والترمذي وابن حبان، ثم نقل الأخ خالد حكم الترمذي (هذا حديث حسن
صحيح غريب من هذا الوجه من حديث ابن عون) ووضع علامة التعجب (!)
إن عجبي لا يكاد ينتهي من تعجبه عقب قول الترمذي!! هل هو
تعجب من تصحيح الترمذي؟ أو من جمعه بين الحسن والصحة والغرابة؟ ولا أخال مثل أبي
صهيب يجهل قدر الترمذي!
فالترمذي إمام جهبذ لا يشق له غبار وتصحيحاته معتبرة وله
من النقد ما يؤهله للتصحيح وعنده من الطرق والقرائن ما لم ولن نراها أو نسمع بها
ولو في مناماتنا!! علماً أن أحكامه في الجامع دقيقة جداً، ونفسه طويل في إيراد
المتابعات والشواهد في كل باب! وهذا يدل على حفظ وفقه واستحضار.
ثم هو عارض أحاديثه بأئمة كبار، يقول الترمذي: "وما
كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ فهو ما استخرجته من كتاب
التاريخ، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن إسماعيل، ومنه ما ناظرت عبدالله بن عبدالرحمن،
وأبا زرعة، وأكثر ذلك عن محمد، وأقل شيء فيه عن عبدالله وأبي زرعة. ولم أر أحدا
بالعراق، ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من
محمد بن إسماعيل". وأنفاسه اختلطت بأنفاس أئمة العلل وأطبائها كأبي زرعة
والدارمي والبخاري!! كتابه الجامع لم يصنف بعده مثله! والموضع ليس موضع بسط ذلك"
انتهى.
أقول:
أولاً: نعم، بفضل الله لا أجهل قدر الترمذي، وهو إمام
كبير، لكن هو مثله مثل غيره، نوافقه ونخالفه كما وافقه وخالفه من قبلنا من أهل
العلم.
ثانياً: هذا قول الترمذي الذي نقلته في البحث:
قال الترمذي: "هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ
مِنْ هَذَا الوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَوْنٍ. وَقَدْ رُوِيَ هذَا الحَدِيثُ
أَيْضًا عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ثم قلت بعد ذلك تحت عنوان: "غرابة الحديث":
" وبعض الأئمة صححوا الحديث ولكنهم استغربوا طريقه هذا كما سبق من كلام
الترمذي.
وقال الذهبي في «تذكرة الحفاظ» (3/836): "هذا حديثٌ
صحيحٌ غريبٌ".
وقال في «السير» (15/356): "هذا حديث صحيح الإسناد
غريب".
قلت: نعم، هو غريب من هذا الوجه أو هذه الطريق، وهذا ما
يقصدونه بالغرابة هنا، وليست الغرابة هنا أنهم يضعفونه بها ألبتة! - فتنبه يا مَنْ
تقرأ الكلام-".
فما الاعتراض عليّ في هذا الكلام؟!!
ثانياً: تصحيح الترمذي للحديث لا يعني أنه صحيح عند غيره! والكلام
الذي نقله (المتعالم) في منزلة هذا الإمام لا ننكره، لكن عنده تساهل في التصحيح
والتحسين، وهذا لا يخفى على من أدمن النظر في كتابه، ومن أجل ذلك تكلم كثير من أهل
العلم في تصحيحاته وتحسيناته!
ثالثاً: قوله: "وعنده من الطرق والقرائن ما لم ولن
نراها أو نسمع بها ولو في مناماتنا"! كلام ظني مردود ومتناقض! فأنت قلت في
آخر الكلام: "ونفسه طويل في إيراد المتابعات والشواهد في كل باب" = وهذا
يعني أنه يذكر كل ما عنده، فأين الطرق والقرائن التي لم ولن نراها أو نسمع بها ولو
في مناماتنا!!
ربما أنت لم ولن تسمع بها في مناماتك لثقل نومك أو كثرة
التوهمات والخيالات عندك!
نحن نتعامل مع ما هو موجود بين أيدينا في كتب حفظها الله
لنا لحفظ هذا الدِّين، ولا نعرّج على المنامات ولا الخيالات!
رابعاً: قوله: "ثم هو عارض أحاديثه..." كلام
متناقض!!
فظاهر كلام (المتعالم) أنه عارض أحاديثه على كبار الأئمة =
يعني هذه التي في كتابه "الجامع" وهذا الحديث منها! لكن النص الذي نقله
عن الترمذي ليدلل على كلامه في المعارضة لا يتعلق بالأحاديث التي صححها! وإنما
بالأحاديث التي عللها!! "ما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال
والتاريخ فهو ما استخرجته من كتاب التاريخ، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن إسماعيل..".
إذن هو يتكلم عن علل الأحاديث التي ذكرها في كتابه.. مما
استفاده من الإمام البخاري وغيره. فما دخل هذا بهذا الحديث الذي صححه؟!!
وكأن هذا (المتعالم) فهم من كلام الترمذي هذا أنه عرض
كتابه على الأئمة النقاد، فذكروا له علل الأحاديث التي ذكرها فيه، وما لم يذكر له
علة يعني أنهم وافقوه على قبوله!!!
فيبدو أن (منامات) (المْحِمْدِي) ثقيلة نوعاً ما!!
خامساً: وأما أن أنفاسه اختلطت بأنفاس أئمة العلل فهذا
والله لهو الخير العظيم، فهنيئاً له، لكن هذا لا ينفع في ميزان النقد العلمي.
سادساً: وأما أن كتابه الجامع لم يصنف بعده مثله، ففيه
نظر!
نعم، هو كتاب عظيم، وفيه من الفوائد الكثير، وعليه ملاحظات
كما على غيره، وقد صحح وحسّن أحاديث ضعيفة ومنكرة! ولا يجادل في ذلك إلا كل معاند!!
والأمثلة على ذلك كثيرة.
وقد تعقبه الحافظ الذهبي في بعض كتبه في عدّة مواضع.
قال الذهبي في «السير» (13/276) عن الإمام الترمذي:
"قُلْت: «جَامعُهُ» قَاضٍ لَهُ بِإِمَامَتِهِ
وَحِفْظِهِ وَفِقْهِهِ، وَلَكِنْ يَتَرَخَّصُ فِي قَبُوْلِ الأَحَادِيْثَ، وَلا
يُشَدِّد، وَنَفَسُهُ فِي التَّضْعِيفِ رَخْوٌ".
وقال في «السير» (1/58): "وحسنه الترمذي. وهو
حديث منكر جدا".
وقال أيضاً (1/237): "أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب.
قلت: جُميع كذبه غير واحد".
وقال في (7/72): "وقَالَ أَبُو الحَسَنِ
الدَّارَقُطْنِيُّ، وَغَيْرُهُ: لاَ يُحْتَجُّ بِحَجَّاجٍ.
قُلْتُ: قَدْ يَتَرَخَّصُ التِّرْمِذِيُّ وَيُصحِّحُ
لابْنِ أَرْطَاةَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ".
وقال (9/218): "قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ،
غَرِيْبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيْثِ الوَلِيْدِ.
قُلْتُ: هَذَا عِنْدِي مَوْضُوْعٌ وَالسَّلاَمُ".
وقال في «الميزان» (3/407) عن أحد الهلكى المتروكين: "وأما
الترمذي فروى من حديثه: الصلح جائز بين المسلمين. وصححه، فلهذا لا يعتمد العلماء
على تصحيح الترمذي".
وقال أيضاً (3/515): "حسنه الترمذي فلم يحسن".
وقال (4/416): "حسنه الترمذي مع ضعف ثلاثة فيه، فلا
يغتر بتحسين الترمذي، فعند المحاققة غالبها ضعاف".
فالمعروف بين أهل العلم وطلبة الحديث أن الترمذي يتساهل في
تصحيح الأحاديث في «جامعه»!!
لكن هناك ممن يشتغلون بعلم الحديث يُنكرون ذلك! بل ويرفعون
من شأن تصحيح الترمذي! وبعضهم يوازيه بالبخاري ومسلم!!
وهذا قول ليس بصحيح، بل الصواب أنه متساهل في التصحيح، وإن
رفض بعض أهل العلم أو ممن يشتغل بالحديث هذا الأمر!!
ونجده - رحمه الله - أحياناً ينقل تعليل البخاري لبعض
الأحاديث، ثم يصححها في كتابه!!
وقد يكون للحديث علّة، ويصحح الحديث أيضاً!!
والأمثلة على ذلك كثيرة، وهذا مثال من ذلك، وحسبك من
القلادة ما أحاط بالعنق.
خرّج الترمذي في «جامعه» (1753) قال: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ
بنُ نَصْرٍ، قالَ: أَخْبَرَنَا ابنُ المُبَارَكِ، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ
عَبْدِاللهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ
بِهِ الشَّيْبُ الحِنَّاءُ وَالكَتَمُ».
قال الترمذي: "هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
قلت: وهذا الحديث رواه جماعة عن الأجلح - وهو: ابن عبدالله
بن حُجية الكندي-، منهم: عبدالله بن إدريس [عند أحمد في مسنده: (21337)]، وابن
نُمير [عند أحمد في مسنده: (21362)]، ويحيى بن سعيد القطان [عند أحمد في مسنده:
(21386)]، وسفيان الثوري، وجعفر بن عون [عند الطحاوي في شرح مشكل الآثار: (3681)].
ورواه أيضاً عَبْدُاللَّهِ بنُ إِدْرِيسَ، وأَبُو
أُسَامَةَ حماد بن أسامة، عَنِ الْأَجْلَحَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ. [كما عند البزار في
مسنده (3922)].
فزادا فيه: "يحيى بن يعمر"!
والعجب كيف يصححه الترمذي! وهو من رواية الأجلح!! وهو ليس
بالقوي!
قال ابن معين: "ثقة"، وقال مرة:
"صالح"، وقال مرة: "ليس به بأس".
وقال العجلي: "كوفي ثقة".
وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد القطان: أجلح؟ قال:
"في نفسي منه".
وقال أبو طالب: قال أحمد بن حنبل: "أجلح ومجالد
متقاربان في الحديث، فقد روى أجلح غير حديث منكر".
وقال أبو حاتم الرازي: "الأجلح ليّن، ليس بالقوي،
يُكتب حديثه ولا يحتج به".
وقال الجوزجاني السعدي: "الأجلح مُفتر".
وقال أبو داود: "ضعيف"، وقال مرة: "زكريا
أرفع منه بمائة درجة".
وقال ابن سعد: "كان ضعيفا جدا".
وذكره ابن حبان في «المجروحين»، وقال: "كانَ لا يدرك
مَا يَقُول: يَجْعَل أَبَا سُفْيَان أَبَا الزُّبَيْر ويقلب الْأَسَامِي
هكَذَا"، ثم روى إلى يحيى بن سَعِيدٍ القطان، قال: "ما كَانَ الأَجْلَحُ
يَفْصِلُ بَيْنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ وَبَيْنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ،
سَمِعْتُهُ يَقُولُ: حدثَنَا حَبِيبُ بنُ أَبِي ثَابِتٍ قال: كُنَّا عِنْدَ
الحُسَيْنِ بن علي، فقال: لا طْلَاق إلا بْعَد النِّكَاحِ".
وذكره ابن عدي في «الكامل»، وذكر له هذا الحديث في ترجمته،
ثم قال: "وأَجْلَحُ بنُ عَبداللَّهِ لَهُ أَحَادِيثُ صَالِحَةٌ غَيْرَ مَا
ذَكَرْتُهُ، يَرْوِي عَنْهُ الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، ولَمْ أجد له شيئا منكرا
مجاوز لِلْحَدِّ لا إِسْنَادًا، ولاَ مَتْنًا، وهو أَرْجُو أَنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ
إِلا أَنَّهُ يُعَدُّ فِي شِيعَةِ الكُوفَةِ، وَهو عِنْدِي مُسْتَقِيمُ الحَدِيثِ
صَدُوقٌ".
قلت:
هو ليس بالقوي في الحديث، وروايته للمناكير = يعني أنه
يخطئ في الأسانيد! وهو قد سمع من عبدالله بن بريدة، وقد وهم عليه في إسناد هذا
الحديث!! فرواه عنه عن أبي الأسود عن أبي ذر! ورواه مرة عنه عن يحيى بن يعمر عن
أبي الأسود عن أبي ذر!!
ورواه مرة عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
فكان الأجلح يضطرب فيه، وسلك فيه الجادة فوهم!!
والصواب ما رواه كَهْمَس بن الحسن البصري، عن عبدالله بن
بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ
بِهِ الشَّيْبَ الحِنَّاءُ والكَتَمُ»، مرسلاً.
وقد بيّن ابن سعد في «الطبقات» الرواية الصحيحة فيه من
خلال تخريجه لهذا الحديث في كتابه، فإنه رواه أولاً عن عَبْداللَّهِ بن نُمَيْرٍ،
عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ
الدُّؤَلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ: الحِنَّاءُ والكَتَمُ».
ثم رواه عن عَبْدالوَهَّابِ بن عَطَاءٍ الخفاف البصري، عن
المَسْعُودِيّ، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال:
«أَحْسَنُ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ: الحِنَّاءُ والكَتَمُ».
ثم رواه عن مُحَمَّد بن عَبْدِاللَّهِ الأَنْصَارِيّ، عن
كَهْمَس، عن عبدالله بن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إِنَّ
أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ الحِنَّاءُ والكَتَمُ».
فالظاهر أن ابن سعد أراد بيان وهم الأجلح فيه، واضطرابه،
وأن الصواب ما رواه كهمس عن عبدالله بن بريدة.
والمسعودي الذي يروي عن الأجلح هنا هو: عبدالرحمن
المسعودي، وقد نصّ على ذلك الدارقطني كما سيأتي، قال: "ورَوَاهُ ابنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ المَسْعُودِيِّ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ ابنِ
بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم".
والمسعودي كان قد اختلط! فيحتمل أن هذا الوهم منه لا من
الأجلح؛ لأن معظم الرواة عن الأجلح رووه عنه عن ابن بريدة عن أبي الأسود عن أبي
ذر!
ولا يُقال هنا أن المسعودي هو: القاسم بن معن المسعودي
القاضي الكوفي؛ لأنه يروي عن الأجلح.
وهو قد رواه عن الأجلح كما رواه غيره.
رواه الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (1/166) من طريق
أمية بن خالد، قال: حدثنا القَاسِم بن مَعْن وبديل بن وَضَّاح قالا: حَدَّثَنا
الأَجْلَح، عن ابن بريدة، عَن أبي الأسود، عَن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم».
وعبدالرحمن المسعودي (ت 160هـ)، والقاسم بن معن
المَسْعُودِيّ القاضي الكوفي (ت 175هـ) وهو ابن أخي القاسم بن عَبْدالرَّحْمَنِ
المسعودي.
وقد رُوي الحديث أيضاً عن الجُريري، عن عبدالله بن بريدة،
عن أبي الأسود، عن أبي ذر! وهذه متابعة لإحدى روايات الأجلح!!
لكن هذه المتابعة لا يُفرح بها! فالأجلح قد اضطرب فيه على
وجوه! ورواية الجٌريري اختلف فيه عليها، وكان قد اختلط!
رواه عَبْدُالرَّزَّاقِ، عن مَعْمَر، عَنْ سَعِيدٍ
الجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ
أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرَ هَذَا الشَّعْرَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ».
قال الطبراني: "لم يَرو هذا الحديث عن الجريري إلا
معمر"!
وقال الدارقطني: "تفرد به معمر عن الجريري وأغرب
به"!
وسماع معمر من الجريري قبل الاختلاط، وقد خولف معمر فيه.
خالفه عبدالوارث بن سعيد البصري، فرواه عن الجريري، عن عبد
الله بن بريدة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مرسلاً.
وعبدالوارث سمع من الجريري قبل اختلاطه.
فإما أن يكون الجريري حدّث به مرة فضبطه، ووهم فيه مرة،
على أن الأرجح عندي أن معمراً هو من وهم فيه، فسلك فيه الجادة، ولم يضبطه!!
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (6/167) (2418): وسألتُ أَبِي
عَنْ حديثٍ رواه عبدالرزَّاق، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الجُرَيْرِي، عَنْ عبدالله بن
بُرَيدة، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيْلي، عَنْ أَبِي ذَر؛ قال: قال رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بهِ الشَّيْبَ الحِنَّاءُ
واكَتَمُ»؟
قال أَبِي: "إِنَّمَا هُوَ: الأَجْلَح؛ ولَيْسَ
للجُرَيري مَعْنًى".
قلت: فكأن أبا حاتم يرى أن معمراً وهم فيه! والصواب أنه عن
الأجلح، عن ابن بريدة، بهذا الإسناد!!
وهذا لا يصح! لأن عبدالوارث رواه عن الجريري، ووافق معمراً
في روايته عنه إلا أن معمراً أخطأ في إسناده!
وعليه فإن للجريري فيه معنى، لا كما قال أبو حاتم، والله
أعلم.
وقد سُئِلَ الدارقطني في «العلل» (6/277) (1136) عَنْ
حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشيب
الحناء والكَتَمُ»؟
فقال:
"يَرْوِيهِ عَبْدُاللَّهِ بنُ بُرَيْدَةَ، وَاخْتُلِفَ
عَنْهُ:
فَرَوَاهُ سَعِيدٌ الجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ
بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أبي ذر.
تَفَرَّدَ بِهِ مَعْمَرُ بنُ رَاشِدٍ عَنْهُ، وأَغْرَبَ
بِهِ.
ورَوَاهُ الْأَجْلَحُ بنُ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ ابنِ
بُرَيْدَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:
فَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَعَلِيُّ بنُ صَالِحٍ، ويَحْيَى
الْقَطَّانُ، وَزُهَيْرُ بنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مِغْرَاءَ
أَبُو زُهَيْرٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ ابنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ
أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
ورَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، عَنِ الْأَجلَحِ، وَاخْتُلِفَ
عَنْهُ:
فَرَوَاهُ المُقْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَبِي
حُجَيَّةَ، وهُوَ أَجْلَحُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي
ذَرٍّ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ.
وغَيْرُهُ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَبِي
حُجَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا ابْنَ بُرَيْدَةَ.
ورَوَاهُ ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ
المَسْعُودِيِّ، عَنِ الْأَجْلَحِ، فقالَ عَنِ ابنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وَالصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ،
عَنْ أَبِي ذَرٍّ...
وَقِيلَ: عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ
ابنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، وَلَا
يَصِحُّ".
قلت:
تصويب الدارقطني لرواية من رواه عن الأجلح عن ابن بريدة،
عن أبي الأسود، عن أبي ذر، لا يعني أنه يصحح الحديث، لكنه يُرجّح هذا الإسناد على
غيره من الأسانيد التي ذكرها!
والغريب أنه لم يقف على رواية عبدالوارث عن الجريري التي
تُعلّ رواية معمر عن الجريري!!
والخلاصة أن الصواب في رواية هذا الحديث عن عبدالله بن
بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلاً.
وقد أخطأ الترمذي في تصحيحه!!
وهناك أحاديث أخرى صححها الترمذي وهي معلولة أو لرواة هلكى
كأحاديث كثير بن عبدالله المزني.
- وقال المْحِمْدِي: "وأما ما أثار استغرابي أكثر هو
قول الأخ الدكتور: "وبعض الأئمة صححوا الحديث لكنهم استغربوه كما سبق من كلام
الترمذي". وعد قول الترمذي هذا تضعيفاً للحديث!
وهذا والله ما لم أكن أظنها تغيب عن مثله! فمن قال إن
الغرابة نوع علة على الإطلاق؟ نعم قد تكون من قرائن العلة ولكنها ليست علة بذاتها،
وهل أشهر حديث في دواوين الإسلام إلا غريباً (إنما الأعمال بالنيات)؟ ثم كيف غابت
عنه عبارات الترمذي آخر الجامع في مقدمته النفيسة المسماة بــ (العلل الصغير) !،
إذ قال: "ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما يصح إذا كانت
الزيادة ممن يعتمد على حفظه مثل ما روى مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: فرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على كل حر، أو عبد ذكر أو أنثى
من الْمسلمين، صاعا من تمر، أو صاعا من شعير. قال وزاد مالك في هذا الحديث من
الْمسلمين... ورب حديث يروى من أوجه كثيرة، وإنما يستغرب لحال الاسناد".
فالغرابة يطلقها الترمذي على أكثر من وجه، ولا تتعلق
بالصحة أو الضعف، ولذا فالترمذي متى قال (غريب) فإنه قصد الغرابة المضعفة، ومتى
قرنها بالصحة فإنما أراد منها الغرابة الوصفية (التفرد)، وهذا الحديث صحيح عند الترمذي
(حسن صحيح غريب..)، والدليل أنه أطلق (حسن صحيح غريب) على عشرات الأحاديث وهي
بسندها ومتنها في الصحيحين أو أحدهما؟ فهل ستضعفها أبا صهيب؟" انتهى.
أقول:
أولاً: لا أدري كيف يفهم هذا (المتعالم) الكلام؟!!
فكيف فهم أني عندما قلت صححه بعض أهل العلم واستغربوه
كالترمذي أني عددت قول الترمذي هذا تضعيفاً، وهل يقول بهذا عاقل عنده (ذوق ووجدان
صحيح)؟!!
سبحان الله! إيش هذا الافتراء والغباء؟!!
قلت: "وبعض الأئمة صححوا الحديث ولكنهم استغربوا
طريقه هذا كما سبق من كلام الترمذي.
وقال الذهبي في «تذكرة الحفاظ» (3/836): "هذا حديثٌ
صحيحٌ غريبٌ".
وقال في «السير» (15/356): "هذا حديث صحيح الإسناد
غريب".
قلت: نعم، هو غريب من هذا الوجه أو هذه الطريق، وهذا ما
يقصدونه بالغرابة هنا، وليست الغرابة هنا أنهم يضعفونه بها ألبتة! - فتنبه يا مَنْ
تقرأ الكلام-. فالحديث لا يُعرف بهذا اللفظ إلا من حديث ابن عون، فإن ثبت أن أزهر
تفرد برفعه؛ فيكون هذا مما وهم فيه - رحمه الله-".
ثانياً: استغرابي كان بسبب أنهم صححوه مع قولهم بأنه
"غريب الإسناد" في طبقة عن راو لا ينيغي أن يكون غريباً من حديثه!
ومع هذا هم صححوه، فكيف لي أن أعدّ كلامهم هذا من باب
التضعيف!! فهذا لا يستقيم لا عقلا ولا منطقاً!!
وقلت في آخر البحث: "وصححه الترمذي
وابن حبان والذهبي وغيرهم."
وعليه فلا وجه لسؤال (المتعالم) حول الأحاديث التي حكم
عليها الترمذي بـ (حسن صحيح غريب) وهي في الصحيحين بـ "هل ستضعفها"؟!!
فهذا غباء ما بعده غباء! وجهل ما بعده جهل!!
- وقال المْحِمْدِي: "ثم قال أخي الحايك: ((قال
الذهبي في «تذكرة الحفاظ» "صحيح غريب"، وقال في «السير»: "هذا حديث
صحيح الإسناد غريب". قلت - الحايك-: نعم، هو غريب، ولا يُعرف بهذا اللفظ إلا
من حديث ابن عون، فإن ثبت أن أزهر تفرد برفعه؛ فيكون هذا مما وهم فيه -رحمه الله-.
وقد أورد له العقيلي في الضعفاء حديثا منكرا، وساق له حديث فاطمة في التسبيح، وصله
أزهر، عن ابن عون وخالفه غيره فأرسله، وحكى العقيلي وأبو العرب الصقلي في الضعفاء
أن الإمام أحمد قال: ابن أبي عدي أحب إلي من أزهر. وذكر العقيلي عن علي المديني
قال: رأيت في أصل أزهر في حديث علي في قصة فاطمة في التسبيح عن ابن عون، عن محمد
بن سيرين، مرسلًا، فكلمت أزهر فيه وشككته فأبى! قلت: يُحتمل أن ابن عون كان يقفه،
فوهم أزهر فرفعه، وكذا عبيدالله بن عبدالله بن عون، وخالفهما الحسين بن الحسن صاحب
ابن عون)) أ.هـ كلام الحايك.
قلت: وهذا وهم كبير أخي الحبيب! وهو مع الاعتذار تقويل
الحافظ الذهبي ما لم يقله، فالذهبي قلد عبارة الترمذي وهو يعرف ما يقول فالحديث
صحيح غريب، فمن أين حملته على أنه من أوهام؟
وقولك: (قلت: نعم، هو غريب، ولا يُعرف بهذا اللفظ إلا من
حديث ابن عون، فإن ثبت أن أزهر تفرد برفعه؛ فيكون هذا مما وهم فيه)، هذا وهم فاحش
أخي فمن قال إن تفرده بالحديث وهم؟ فالرجل ثقة؟ وهو من المقدمين في ابن عون!!!
فكيف لم تلتفت إلى هذه القاعدة في الوقت الذي تناقش مسألة نقدية (أصحاب الراوي)
(!)
قال ابن سعد: "ثقة أوصى إليه عبد الله بن عون".
وقال يحيى بن معين: "أروى الناس عن ابن عون وأعرفهم
به أزهر"، وسأله الدارمي: كيف حديثه؟ فقال: "ثقة".
وقال أحمد بن حنبل: "أروى الناس عن ابن عون سليم بن
أخضر، وأزهر السمان".
وقال عفان: "كان حماد بن زيد يقدم أزهر على أصحاب ابن
عون، وكان عبدالرحمن بن مهدي يقدم أزهر".
قال علي بن المديني: "كان يحيى يقدم أزهر على سليمان،
وكان عبدالرحمن يقول مثلهم، فكنت أقول ليحيى فقال: اسكت أزهر لم يكن منهم أحد ألزم
منه ولا أصح".
وقال أبو حاتم الرازي: "صالح الحديث".
ونقل ابن خلفون في ثقاته عن أبي جعفر البستي: "ثقة".
وقال بهز بن أسد: "كان حماد بن زيد يأمر بالكتابة عن
أزهر".
وقال أبو موسى الزمن: قلت لحسين بن حسن من أحفظكم زمن ابن
عون؟ فقال: "أزهر".
فالرجل ثقة! ومقدم في أصحاب ابن عون! فيكف توهمه بهذه
الطريقة! وأين أوهامه يا شيخ خالد؟ وأما عن كلام العقيلي واستنكاره لحديث واحد! فلا
يعارض تقديم هؤلاء الكبار له، ومن من الأئمة لم يغلط؟
قال الحافظ الذهبي في الميزان: " ثقة مشهور تناكد
العقيلي بإيراده في كتاب الضعفاء، وما ذكر فيه أكثر من قول أحمد بن حنبل: ابن أبي عدي
أحب إلي من أزهر السمان، ثم ساق له حديثا في أمر فاطمة بالتسبيح، وصله أزهر وخولف
فيه، فكان ماذا؟".
وقال الحافظ: ثقة.
ثم أخي الكريم، لا أرى وجهة مستقيمة في مقايستك هذا الحديث
بحديثه عن علي! فما علاقة حديث أزهر هنا بحديثه عن علي الذي استنكر عليه!؟ فلكل
حديث نقده الخاص! يقول الحافظ ابن رجب: "ربما يستنكر أكثر الحفاظ المتقدمين
بعض تفردات الثقات الكبار، ولهم في كل حديث نقد خاص وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه".
ويقول ابن رشيد الفهري: "والحكم على الكليات الكليات بحكم الجزئيات لا يضطرد
فقد يكون لكل حديث حديث حكم يخصه فيطلع فيه على ما يفهم اللقاء أو السماع ويثير
ظنا خاصا في صحة ذلك الحديث فيصحح اعتمادا على ذلك لا من مجرد العنعنة"
انتهى.
أقول:
أولاً: أنا لم أقوّل الذهبي ما لم يقله! ولم أقل بأن
الذهبي أراد تضعيف الحديث!!
فهذا (المتعالم) عنده مشكلة في عقله! ولا أدري كيف يفهم
ذلك؟!!
قلت: نعم هو غريب لا يعرف بهذا اللفظ إلا من حديث ابن عون،
فهذا تفسير مني لغرابته، وليس أني أقول بأن الذهبي أراد تضعيفه بهذا!!
كيف، وهو يقول: "صحيح"!! ولم أحمله على أنه قصد
أنه من الأوهام!
ثانياً: قولي عن حديث ابن أزهر واضح: "إن ثبت أنه
تفرد برفعه فقد وهم فيه"!
فأين المشكلة في هذا؟! وأين الوهم الفاحش في قولي هذا؟!
وأنا لم أقل بأن الرجل تفرد بالحديث من أسّه حتى تستدرك
عليّ وتقول: "هذا وهم فاحش أخي فمن قال إن تفرده بالحديث وهم؟ فالرجل ثقة؟"!!
فهذا الرجل عنده مشكلة حقيقة في الفهم!!!
ولو تفرد أزهر بحديث فهو مقبول ولا نرده وهو ثقة لا شك في
ذلك، لكن كلامي هنا عن مخالفة أزهر لغيره! فهو رفع الحديث وغيره وقفه، فالمسألة
هنا في الترجيح بين الوقف والرفع بين هؤلاء، ومن هنا أتيت بما ذكره العقيلي من
وصله لحديث مرسل!
فالثقة قد يُخطئ بمثل هذه الأمور.
مع أني قيّدت كل ذلك في بداية كلامي فقلت: "إن
ثبت" فلم أجزم وإنما أوردت هذا على الاحتمال.
وبعد ذلك قلت في أصل البحث: "على أني لا أعوّل كثيراً
على هذه الرواية الموقوفة طالما أنها جاءت مرفوعة في طريق أخرى. فلا مستند إلى
وقْفِه سوى رواية حسين بن حسن بن يسار، عن ابن عون. وهذه الطريق: ما عرفتُ أحدًا
رواها سوى البخاري، وعليه اعتمدت في أن هذا الخبر قد اختلف فيه على ابن عون وقفًا
ورفْعًا! ولكن جزم أبو الحسن القابسي بسقوط ذِكْر النبي - صلى الله عليه وسلم- من
نسخة: «الصحيح» وقال: "ولا بدّ منه".
فأنّا لم أوهّم أزهر في ذلك، بل جزمت بأن الصواب هو الرفع.
ثالثاً: إلزام هذا (المتعالم) لي بمسألة أصحاب الراوي هنا يدل
على أنه لا يعي ما يقول! ولا يقرأ! أو أنه يقرأ ولا يفهم!! لأني تعرضت لهذه
المسألة هنا ونقلت في بحثي من قدمه في ابن عون.
قلت في أصل البحث: "وأين يقع الحسين بن الحسن من أزهر
بن سعد في اتساع حديثه وشهرته بالطلب ومنزلته من الضبط والإتقان! وقد قدَّمه حماد
بن زيد على سائر أصحاب ابن عون، بل جزم ابن معين بكون أزهر كان: «أروى الناس عن
ابن عون وأعرفهم بحديثه». وقال أيضًا في رواية الغلابي عنه: «لم يكن أحد أثبت في
ابن عون من أزهر، وبعده سليم بن أخضر». ونحوه قال الدارقطني أيضًا. فكيف وقد توبع
أزهر على رفْعِه عن ابن عون أيضًا!".
وانظروا إلى هذا (المتعالم) كيف سماها هنا
"قاعدة"! وخالف بذلك كلامه السابق الذي رددنا فيه عليه، وأن مثل ذلك لا
يسمى "قاعدة"!
ومسألة أصحاب نافع التي ناقشتها في البحث كانت محل اتفاق
في تقديم عبيدالله على عبدالله بن عون في نافع، بخلاف مسألة أزهر في ابن عون.
وعلى فرض أني لم أتعرض لمسألة أصحاب ابن عون، فأنت نفسك
لما تكلمت على تقديم الأئمة لحماد بن سلمة في ثابت قلت بأنهم قد يحيدون عن هذه
لقرينة، وهنا نقول لك الكلام نفسه: على فرض أن الأئمة قدموا أزهر في ابن عون، فلم
نقدمه هنا لقرينة الوهم التي يقع فيها برفعه ما أصله موقوفاً أو وصله ما أصله
مرسلاً، وكذا مخالفة غيره له فوقف الحديث.
على أن كلمة أئمة النقد ليست متفقة في تقديم أزهر في أصحاب
ابن عون.
نعم، بعضهم قدمه كما نقلت أنا في أصل البحث، لكن بعضهم وثقه
فقط دون أن يتكلم على مسألة التقديم في ابن عون، بل إن ما نقلته أنت عن أبي حاتم
من قوله فيه: "صالح الحديث" = يعني أنه لا يحتج بما انفرد به، فتنبه لما
تنقله.
ثم إن غالب عبارات أئمة النقد أن أزهر "أروى"
الناس لحديث ابن عون، وحسين بن حسن أحفظ لحديث ابن عون من أزهر.
قال الغلابي: قال يحيى بن معين: "لم يكن أحد أثبت في
ابن عون من أزهر السمان، وبعده سليم بن أخضر، وكان حسين بن حسن يحفظ حديث ابن عون.
[إكمال تهذيب الكمال: (2/46)].
أليس الحفظ هنا يُقدّم كما كان أبو حاتم يعتبرها قرينة في
الترجيح بين أحاديث الرواة الذين يختلفون على شيخهم؟!
رابعاً: نحن لا نشك في ثقة أزهر، فهو ثقة، وقد أشرت إلى
قول أبي حاتم فيه وأنه صالح الحديث، ولم يوثقه التوثيق المطلق! وهذا كما فسره ابنه
في "مقدمة الجرح والتعديل": "وإذا قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه
للاعتبار".
خامساً: العقيلي أورده في كتابه للتنبيه على بعض أوهامه،
ولقول أحمد فيه بأنه كان يحدّث بالحديث ثم يقول: "ما حدثت به"!! وهذا لا
شك فيه نوع من الجرح!
فلم يتناكد العقيلي كما وصف
الذهبي!
فالعقيلي بعد أن ذكر أزهر في
كتابه، وذكر حديثه، قال: وهَذَا الحَدِيثُ حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُاللَّهِ بنِ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ
مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْتَكِي مَجْلَ يَدَيْهَا مِنَ
الطَّحْنِ، فَذَكَرَهُ» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ: "وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ
حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ بِأَسَانِيدَ صَالِحَةٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ".
قال: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي
يَقُولُ: "ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَزْهَرَ السَّمَّانِ إِذْ
كَانَ إِنَّمَا حَدَّثَ بِالحَدِيثِ، فَيَقُولُ: مَا حُدِّثْتُ بِهِ".
وقال أَبو داود في «سؤالاته» (518): سمعت أَحمد، قال: "لم
يكن في أَصحاب ابن عون مثل سليم". فقيل لأحمد: أزهر، ليس مثله؟ قال: "اليوم
ليس، قد كان بعد إذ ذاك سليم وأزهر، ولكن بقي أزهر، ويقدمون سليمًا".
فهذا أحمد ينقل عنهم أنهم يقدمون سليما لا أزهر بعد أن
كانوا يقدمونه.
فإطلاق القول بأن الكبار يقدمون أزهر ليس بصحيح! واستنكار
العقيلي لحديث واحد له لا يعني أنه لم يخطئ إلا فيه.
سادساً: وأما قوله "وأين أوهامه يا شيخ خالد"! فقد
كان الأولى بك وأنت تعدّ نفسك من أهل العلل والنقد أن تتعب نفسك وتبحث عن أوهامه؟!
وأخشى أن زعمك بأن هذا هو الحديث الوحيد الذي وهم فيه أزهر يعكس قلة اطلاعك أو
تقصيرك!
وهاك هذه الأوهام لأزهر بن سعد رحمه الله:
- قال ابن أبي حاتم في «العلل» (6/428) (2644): وسمعتُ
أَبِي - ورأى فِي كتابي حديثًا حدَّثنا بِهِ يحيى بْن أَبِي طالب، عَن أزهر
السَّمَّان، عَن ابْن عَوْن؛ قَالَ: أنبأني موسى بْن أَنَس، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مالك: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم افتقد ثابتَ بن قَيْس فقال: مَنْ يَعْلَمُ
لِي عِلْمَهُ؟، فقال رجلٌ: أنا يَا رسولَ الله، أنا أعلمُ ذلك لك، فأتى منزلَه
فوجده جالسًا فِي بيته مُنَكِّسَ رأسِهِ، فقال: ما شأنُك؟ فقال: شَرٌّ؛ كَانَ يرفع
صوتَه فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حَبِطَ عَمَلُه، وهو مِنْ أهل
النار.
قالَ: قَالَ موسى بن أَنَس: فرجَعَ والله إَلَيْهِ في
المَرَّة الآخِرَةِ ببِشارةٍ عظيمة فقال: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ
لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ولَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ.
فسمعتُ أَبِي يقول: "الناس لا يَرْوون عَن ابْن
عَوْن، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَس؛ إنما يَرْوون عَن موسى: أنّ ثابتًا...
لا يقولون: أَنَس".
قلت: يعني أن أزهر يصله، والناس يرسلونه عن ابن عون.
- وَسُئِلَ الدارقطني في «العلل» (4/30) (418) عَنْ
حَدِيثِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ قَاتَلْتُهُمْ،
وَإِنْ شِئْتَ فَادَيْتُهُمْ... الْحَدِيثَ؟.
فقال: "... وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَوْنٍ
فَأَسْنَدَهُ عَنْهُ أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ السَّمَّانُ، مِنْ رِوَايَةِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْهُ.
وخَالَفَهُ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُثْمَانُ بْنُ
عُمَرَ، وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، رَوُوهُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ،
عَنْ عُبَيْدَةَ مُرْسَلًا.
والمرسل أشبه بالصواب، والله أعلم".
قلت: وهذا أيضاً وهم فيه أزهر فوصله وهو مرسل.
- وسئل الدارقطني أيضاً (5/186) (810) عن حديث عبيدة، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قال: خَيْرُ النَّاسِ
قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ؟.
فَقَالَ: "يَرْوِيهِ مَنْصُورٌ، وَالْأَعْمَشُ،
وَمُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَأَسْنَدَهُ
أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ مُتَّصِلًا.
وَأَرْسَلَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: أَمْلَاهُ أَزْهَرُ عَلَى
ابْنَيْ مُحَمَّدٍ مِنْ كِتَابِهِ لَيْسَ فِيهِ عَبْدُاللَّهِ.
والمُرْسَلُ عَنِ ابنِ عَوْنٍ أَصَحُّ".
قلت: يبدو أن بعض الأحاديث كانت في كتاب أزهر مرسلة
وموقوفة، فلما حدّث بها من حفظه كان يهم فيصل المرسل، ويرفع الموقوف.
فهذا يحيى القطان يقول بأن أزهر أملى هذا الحديث من كتابه
مرسلاً = يعني هو مرسل في كتابه، لكنه حدّث به موصولا!
وهذا ما حصل في الحديث الذي أوره له العقيلي.
قال الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ: سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ حَدِيثِ
عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّسْبِيحِ،
قُلْتُ: مَنْ يَقُولُ (عَنْ عَبِيدَةَ)؟ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَزْهَرُ عَنِ ابْنِ
عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ عن عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَرَأَيْتُهُ فِي أَصْلِهِ مُرْسَلًا عَنْ
مُحَمَّدٍ، وَقُلْتُ لِأَزْهَرَ وَكَلَّمْتُ أَزْهَرَ فِي ذَلِكَ وَشَكَّكْتُهُ،
فَأَبَى، وَقَالَ عَنْ عَبِيدَةَ.
فهذا ابن المديني يقول: كان في كتابه مرسلا، ولما حدث به
موصولا كلمته وشككته فأبى أن يرجع، وقال: "عن عبيدة"! وخالف ما في
كتابه!
- وسئل الدارقطني أيضاً (10/50) (1852) عن حديث ابن سيرين،
عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَقِيَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقَالَ لَهُ: أَرِنِي
الْمَوْضِعَ الَّذِي قَبَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَرَفَعَ الْحَسَنُ ثَوْبَهُ فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ؟.
فَقَالَ: "يَرْوِيهِ أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ
السَّمَّانُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ، وَهُوَ عبدالرحمن بن عبيد -.
وخالفهم أَبُو عَاصِمٍ، وَشَرِيكٌ، وَبَكْرُ بْنُ
بَكَّارٍ، وَعُثْمَانُ بن عمر، وابن المبارك، وإسماعيل بن عُلَيَّةَ، وَمَسْعَدَةُ
بْنُ الْيَسْعَ، رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ".
فهذه بعض أوهام أزهر السمان في روايته عن عبدالله بن عون!
سابعاً: كونك لا ترى وجهة مستقيمة في مقياسي بين هذا
الحديث وحديث أزهر الذي استنكر عليه وأورده العقيلي في ترجمته، هذا خلل في مقاييسك
أنت!!
فحديثنا رفعه أزهر عن ابن عون، ووقفه غيره، وفي حديث عليّ
في التسبيح لما حدّث به وصله، وهو في أصل كتابه مرسل!
فأردت التدليل على كيفية حصول الخطأ له عند التحديث برفعه
الموقوف، ووصله المرسل، ومخالفة ما في كتابه أحياناً.
وقد قدمنا لك أمثلة زيادة على هذا آنفاً.
ثامناً: الكلام الذي نقلته هنا عن ابن رجب لا علاقة له
بموضوعنا! لأن الكلام كان منصباً على مخالفة أزهر لما في كتابه، فالحديث في أصل
كتابه مرسل، وهو قد وصله.
على أن العقيلي قال عن هذا الحديث: "وإِنَّمَا
يُنْكَرُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ"! لأن الحديث لا يُعرف عن ابن عون، وقد
تفرد به أزهر!
فربما حدث به ابن عون مرسلاً فيكون له أصل، لكن أزهر وصله،
والله أعلم.
وأما قول ابن رشيد فلا وجه له هنا؛ لأنه يتكلم عن مسألة
اللقاء والسماع والعنعنة!!
لكن هذا (المتعالم) يتشبث ببعض العبارات من كلام أهل العلم
في سياقات مختلفة فيوردها لدعم رأيه دون تفكير في مضمونها وسياقها!!
فلما قرأ كلام ابن رُشَيد: "لكل حديث حكم يخصه.."
أورده بعد كلام ابن رجب، وكلا النصين لا علاقة له بموضوع بحثنا.
- وقال المْحِمْدِي: "ثم ساق الأخ الدكتور طرق الحديث
عن نافع، وراح يفاضل بين طبقات أصحابه وفق القواعد!! وأن عبيدالله مقدم فيه على
سائر أصحاب نافع، وسبق وأن فصلنا في قضية أصحاب الشيخ وأنها تخضع للقرائن والتزام
حالة واحدة قاعدة لا بأس بها وهي معتبرة في ترجيحاتنا عند مناقشة اختلاف أهل العلم
والنقد، أو فيما لم يحكموا عليه، أما ما حكم عليه النقاد بلا خالف بينهم، فلا تجري
عليهم هذه القواعد، ولا نشاححهم في أحكامهم، ولا سيما فيما أخرج في أصح الكتب بعد
كتاب الله تعالى وتلقته الأمة بالقبول ولم ينازعه أحد من أهل النقد على هذا الحديث.
ومع هذا فكلام أخي الدكتور غير صحيح البتة، ولا ينطبق على
ما قلناه، فأين الخلاف في تصحيح هذا الحديث؟ مَنْ مِن أهل النقد والعلل ضعفه؟ وهل
انتقده الدارقطني؟ فما وجه المقايسة بين الطبقات إذن؟ ولا خلاف بين أهل العلم في
الحديث؟ ثم من قال كل اختلاف في ألفاظ حديث أو تعارض بين رفع ووقف أو وصل وإرسال
يصار إلى هذه المفاضلة بين الطبقات؟ فقد يضبط الضعيف، وقد يهم الثقة، وقد يكون كلا
الطريقين أو اللفظين صحيح، ولا سيما إذا كان الشيخ واسع الرواية، وقد سبق من كلام
الترمذي (ورب حديث يستغرب...)، فكم من حديث انفرد مالك بروايته عن الزهري عن كل
أقرانه؟ وكم من حديث انفرد به شعبة أو سفيان عن السبيعي؟ واحتج به أهل العلم لأن
الشيخ واسع الرواية، ولذا يقول الإمام مسلم (وللزهري نحو من تسعين حديثاً عن النبي
صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد). فلا يصح رد الروايات بهذه
الطريقة أخي المفضال!" انتهى.
أقول:
أولاً: تفصيلك في قضية أصحاب الشيخ قد نقضناها بفضل الله.
ثانياً: قوله عن مسألة أصحاب الشيخ: "وهي معتبرة في ترجيحاتنا
عند مناقشة اختلاف أهل العلم والنقد، أو فيما لم يحكموا عليه.."!! هلا وضّح
لنا المقصود باختلاف أهل العلم والنقد؟ اختلافهم في ماذا؟
إن قصد اختلافهم في الحكم على الحديث - وهو الظاهر - فأصلا
الاختلاف في الحكم إنما هو تبع لهذه المسألة! يعني إذا كان هناك اختلاف بين النقاد
في حديث ما أنه متصل ومرسل، فمن يحكم للمرسل يحكم بقرينة كأن يكون راوي المرسل
أثبت في الشيخ من راوي المتصل، فالحكم نتج عن هذه القرينة لا العكس! فكيف
سنستخدمها عند الاختلاف كما يزعم هذا (المتعالم)!!
وأما استخدام ذلك فيما لم يحكموا عليه فهلا أسعفنا بأمثلة
على ذلك!
ثالثاً: وأما دعواه بأننا لا نستخدم هذا فيما حكم عليه
النقاد بلا خلاف! فهذا يحتاج إلى إثبات هذا الاتفاق المزعوم في حديثنا!! فالنقاد
الذين كانوا في زمن البخاري لم يطلعوا على تصحيحه للحديث! ومن زعم هذا فعليه
بالدليل! وكذا عدم كلام أهل النقد على هذا الحديث لا يعني تصحيحهم له، فلا يُنسب
لساكت قول، وهناك عشرات الأحاديث التي لم يتكلموا عليها من الصحيح والضعيف.
وكذا القول فيمن جاء بعد البخاري من أهل النقد وهم قلة
قليلة، فكونهم لم يتعرضوا له فلا يعني أنهم اتفقوا على صحته.
وعلى فرض أنهم يرون صحته، فهذا لا يُغير من حقيقة الأمر
شيئا، فالحجة تقارع بالحجة.
وأما مسألة تلقي الأمة لصحيح البخاري بالقبول فهذا في
غالبه، ولا يعني عدم الاعتراض على بعض ما فيه بالدليل والبرهان.
رابعاً: قوله إن كلامي غير صحيح ألبته! قول مرسل دون دليل!
فهل يُرد الخطأ - إن وجد - بالقول: "فأين الخلاف في
تصحيح هذا الحديث؟ ومَنْ مِن أهل النقد والعلل ضعفه؟ وهل انتقده الدارقطني؟ فما وجه
المقايسة بين الطبقات إذن؟ ولا خلاف بين أهل العلم في الحديث"؟!!
لو وجدنا خلافا لأهل العلم أو تعليلا أو تضعيفا لذكرناه،
لكن هذا لا يعني أنهم يصححونه! وأقصى ما يُقال إنهم لم يقفوا على علته فقط!
ثم هل لا بد أن ينتقده الدارقطني حتى يكون كلامنا له
وجهة؟!!
قد بينت بوضوح الخلاف بين أصحاب نافع في لفظ الحديث، لكن
هذا (المتعالم) أغمض عينيه! ويريد أن يرد فقط من أجل الرد والغلّ والحقد!
فابن عَوْنٍ يرويه عن نَافِعٍ، عن ابن عُمَرَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بَارِكْ
لنا في شَامِنَا، وفي يَمَنِنا، قال: قالوا، وفي نَجْدِنَا، قال: قال: اللهم
بَارِكْ لنا في شَامِنَا وفي يَمَنِنَا، قال: قالوا، وفي نَجْدِنَا، قال: قال:
هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَان».
وهذا الحديث بهذا اللفظ لم يأت به
إلا ابن عون عن نافع! والمعروف عن نافع بغير هذا اللفظ بجزء منه فقط.
رواه جماعة (عُبيدالله بن عبدالله بن عمر،
والليث بن سعد، وجويرية بن أسماء) عن نَافِعٍ، عن ابن عُمَرَ أَنَّهُ سمع رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ يقول: «ألا إِنَّ
الْفِتْنَةَ ها هنا، ألا إِنَّ الْفِتْنَةَ ها هنا من حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ».
وقد رواه عن ابن عمر أيضاً: عبدالله بن دينار،
وسالم بن عبدالله بن عمر كما رواه الجماعة عن نافع عن ابن عمر.
فمن هنا نظرنا إلى أصحاب الراوي.
كيف يتفرد ابن عون بهذا اللفظ عن نافع، وأصحابه لا يروونه
هكذا، وإنما بجزء منه فقط.
أليس هذا اختلافا فيما بينهم؟
فلو عرضنا هذا الاختلاف وتفرد ابن عون عن نافع بهذا على
الأئمة النقاد، فماذا نتوقع ردهم!
قد يقول البعض: هذه زيادة وابن عون ثقة فزيادته مقبولة!
وقد يقول البعض: تفرده عن نافع مع وجود أصحابه الذين
استنزفوا حديثه وهم أثبت الناس فيه كعبيدالله لا يًحتمل ولا يُقبل، ويستنكرونه
عليه!
فأنا لم أخترع الاختلاف، بل هو موجود بين أصحاب نافع، لكن
هذا (المتعالم) يحول الكلام إلى "أين الخلاف بين أهل العلم في تصحيحه"!!
هذه ليست مسألتنا، وإنما المسألة هنا: الاختلاف بين
الأصحاب، ومن أجل ذلك عرضنا لها، ومحاولة هذا (المتعالم) التشغيب على هذا لأنه لا
يملك حجة في رد هذا.
وكلام أهل النقد في أصحاب الراوي مهم جدا، وقد اعتنى بذلك
الإمامان ابن المديني والنسائي.
فذكر ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (2/615) "أصحاب
نافع"، ثم قال:
"قسَّمهم ابن المديني تسع طبقات:
الطبقة الأولى: أيوب، وعبيدالله بن عمر، ومالك، وعمر بن
نافع.
قال: فهؤلاء أثبت أصحابه، وأثبتهم - عندي - أيوب. قال:
وسمعت يحيى يقول: ليس ابن جريج بدونهم فيما سمع من نافع.
الطبقة الثانية: عبدالله بن عون، ويحيى الأنصاري، وابن جريج.
الطبقة الثالثة: أيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، وسليمان
بن موسى، وسعد بن إبراهيم.
الطبقة الرابعة: موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وداود بن
الحصين.
الطبقة الخامسة: محمد بن عجلان، والضحاك بن عثمان، وأسامة
بن زيد الليثي، ومالك بن مغول.
الطبقة السادسة: ليث بن سعد، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة،
وسليمان بن مساحق، وابن غنج المصري.
الطبقة السابعة: عبدالرحمن بن السراج، وسعيد بن عبدالله بن
حرب، وسلمة بن علقمة، وعلي بن الحكم، والوليد بن أبي هشام.
الطبقة الثامنة: أبو بكر بن نافع، وخليفة بن غلاب، ويونس بن
يزيد، وجويرية بن أسماء، وعبدالعزيز بن أبي رواد، ومحمد بن ثابت العبدي، وأبو علقمة
الفروي، وعطاف بن خالد، وعبدالله بن عمر، وحجاج بن أرطأة، وأشعث بن سوار، وثور بن
يزيد.
وطبقة تاسعة: لا يكتب عنهم، عبدالله بن نافع، وأبو أمية بن
يعلى، وعثمان البري، وعمر بن قيس سندل. انتهى.
وقد خولف في بعض هذا الترتيب، فمن ذلك: تقديم سليمان بن
موسى على موسى بن عقبة، والليث والضحاك بن عثمان، ومالك بن مغول، وجويريه، ويونس.
وحديث جويرية والليث بن سعد عن نافع مخرج في الصحيحين،
وسليمان بن موسى قد تكلم فيه غير واحد، ولم يخرجا له شيئاً.
وقد قسّم النسائي أصحاب نافع تسع طبقات أيضاً، وخالف ابن
المديني في بعض ما ذكره، ووافقه في بعضه، فوافقه في ذكر الطبقة الأولى، وزاد في
الطبقة الثانية: صالح بن كيسان، وزاد في الثالثة: موسى بن عقبة، وكثير بن فرقد،
وأسقط منها سعد بن إبراهيم، وسليمان بن موسى، وذكر الطبقة الرابعة: الليث بن سعد،
وجويرية بن أسماء وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، ويونس بن يزيد، لم يذكر غيرهم،
وزاد في الخامسة: ابن أبي ذئب وحنظلة بن أبي سفيان، وابن غنج، وأسقط ذكر أسامة
وابن مغول، وذكر الطبقة السادسة: سليمان بن موسى، وبرد بن سنان، وهشام بن الغاز،
وابن أبي رواد، وزاد في السابعة: عبيدالله بن الأخنس، وأسقط منها سعيداً، وعلي بن
الحكم، وقال الطبقة الثامنة: عمر بن محمد زيد، وأسامة بن زيد، ومحمد بن إسحاق،
وصخر بن جويرية، وهمام بن يحيى، وهشام بن سعد، قال: والتاسعة: الضعفاء: عبدالكريم
أبي أمية، وليث بن أبي سليم، وحجاج بن أرطأة، وأشعث بن سوار، وعبدالله بن عمر وذكر
طبقة عاشرة، وقال: هم المتروك حديثهم، إسحاق بن أبي فروة، وعبدالله بن نافع، وعمر
بن قيس، ونجيح أبو معشر، وعثمان البري، وأبو أمية بن يعلى، ومحمد بن عبدالرحمن بن
المجير، وعبدالعزيز بن عبيدالله".
فحديثنا يدخل في مسألة الطبقات وكذا الاختلاف، فهؤلاء
جماعة رووا الحديث عن نافع وليس فيه الزيادة التي عند ابن عون، فما حكمها؟! وهل
تقبل من ابن عون؟ وما القرينة التي تجعلك تقبلها مع عدم رواية أصحاب نافع لها؟!
خامساً: قوله: "ثم من قال كل اختلاف في ألفاظ حديث أو
تعارض بين رفع ووقف أو وصل وإرسال يصار إلى هذه المفاضلة بين الطبقات.." كلام
رجل متخبط!!!
أليس ذكرت قبل أن حماد أثبت الناس في ثابت؟ وقد نخالف هذه
القاعدة لقرائن؟!
أليس يرجح اهل النقد الإرسال على الوصل بصحبة الشيخ وثقته
وحفظه؟
وأما الاختلاف إن كان مؤثراً فلا بد من الترجيح أيضاً،
ويُصار إلى المفاضلة بين الطبقات.
ونص الترمذي الذي ذكرته (ورب حديث يستغرب...) هو حجة عليك
لا لك.
قال الترمذي: "ورب حديث أستغرب لزيادة تكون في
الحديث، وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه، مثل ما روى مالك بن أنس،
عن نافع عن ابن عمر، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر في رمضان
على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى، من المسلمين: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير".
فزاد مالك في هذا الحديث "من المسلمين".
وروى أيوب السختياني وعبيدالله بن عمر، وغير واحد من
الأئمة هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، ولم يذكر فيه "من المسلمين".
وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك، ممن لا يعتمد على
حفظه.
وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك واحتجوا به: منهم
الشافعي وأحمد بن حنبل، قالا: إذا كان للرجل عبيد غير مسلمين لم يؤد زكاة الفطر
عنهم، واحتجا بحديث مالك.
فإذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك عنه.
هذا أيضاً نوع من الغريب، وهو أن يكون الحديث في نفسه
مشهوراً لكن يزيد بعض الرواة في متنه زيادة تستغرب. وقد ذكر الترمذي أن الزيادة إن
كانت من حافظ يعتمد على حفظه فإنها تقبل، يعني: وإن كان الذي زاد ثقة لا يعتمد على
حفظه لا تقبل زيادته.
وهذا ـ أيضاً ـ ظاهر كلام الإمام أحمد، قال في رواية صالح:
قد أنكر على مالك هذا الحديث، يعني زيادته "من المسلمين". ومالك إذا
انفرد بحديث هو ثقة.
وما قال أحد ممن قال بالرأي أثبت منه، يعني في الحديث.
وقال: قد رواه العمري الصغير والجمحي ومالك.
فذكر أحمد أن مالكاً يقبل تفرده، وعلل بزيادته في التثبيت
على غيره، وبأنه قد توبع على هذه الزيادة.
ومن تابع مالكاً عليها لا تخرج بالمتابعة عن أن تكون زيادة
من بعض الرواة، لأن عامة أصحاب نافع لم يذكروها.
وقد قال أحمد في رواية عنه: كنت أتهيب حديث مالك "من
المسلمين" يعني حتى وجده من حديث (العمريين) قيل له: أمحفوظ هو عندك "من
المسلمين"؟ قال: نعم.
وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة (واحد من الثقات)،
ولو كان مثل مالك، حتى يتابع على تلك الزيادة، وتدل على أن متابعة مثل العمري
لمالك مما يقوي رواية مالك، ويزيل عن حديثه الشذوذ والإنكار.
وكلام الترمذي ههنا يدل على خلاف ذلك وأن العبرة برواية
مالك، وأنه لا عبرة ممن تابعه ممن لا يعتمد على حفظه. [شرح علل الترمذي (2/631)].
فهذا اختلاف بين الرواة على نافع من الطبقة الأولى (أيوب،
ومالك، وعبيدالله) في لفظة واحدة، فكيف بما تفرد به ابن عون في حديثنا هذا؟!!
فابن عون زاد على غيره ألفاظا كثيرة، فما هي القرينة حتى
نقبل تفرده عن أصحابه؟!
سادساً: تفرد الزهري بتسعين حرفاً عن غيره يختلف عما نحن
فيه! فهذا قياس فاسد!
فالزهري ممن تددور عليه الرواية في طبقته، فتفرده مقبول
ولا خلاف فيه، وأما مسألتنا ففي تفرد راو عن شيخ مشهور عنده أصحاب كُثر لم يروي
أحداً منهم هذا الذي تفرد به ابن عون!
فهذا (المتعالم) يخلّط بين الأمور! فأنّى له الفهم!
- وقال المْحِمْدِي: "ثم رحت أبا صهيب تربط بين مرسل
للحسن البصري وحديث نافع بطريقة عجيبة!! وخرجت بنتيجة: أن ابن عون أخذه من الحسن
ثم غلط فرواه عن نافع، وبعدها أتيت بقاعدة (الرواية عن الغرباء) وأنزلتها على هذا
الحديث، وخرجت في النهاية أن ابن عون لم يضبطه عن الحسن!! وهذا مع اعتذاري خلط
وتكلف موحش، هل غفل أجل أصحاب ابن عون عن هذا؟ ثم غفل أئمة العلل وأطباؤه كابن
المديني وابن معين وأحمد وأبو زرعة وأبو حاتم؟ هل غابت عن إمام الصنعة البخاري؟ ثم
غابت عن تلميذه الترمذي ثم الدارقطني... إلى ابن حجر العسقلاني؟ بالله عليك يا شيخ
خالد!
ثم لو سلمنا لك بهذا - جدلا- فما بال بقية الروايات في
الصحيحين فقد تكون كلها على هذا المنوال، ما المانع من ذلك؟
ثم هل روى ابن عون عن الحسن البصري هذا الحديث مثلًا؟ ثم
كيف اشتبه على ابن عون وقد رواه أصحابه المقدمون عنه؟ فأجل أصحاب ابن عون رووه عنه
(أزهر السمان وحسين بن حسن)، وقد سبق من كلام يحيى القطان وابن معين وأحمد وغيرهم
وهم أهل المعرفة والنقد تقديمهم أزهر على سائر أصحاب ابن عون؟ ونقل ابن خلفون
بإسناده عن ابن معين: "لم يكن أحد أثبت في ابن عون من أزهر السمان، وبعده
سليم بن أخضر، وكان حسين بن حسن يحفظ حديث ابن عون" انتهى.
أقول:
عظَّم الله أجرنا في علم الحديث! إذا كان أهله يفكّرون
بهذه الطريقة!!
أولاً: الربط الذي ربطته بين مرسل الحسن وحديث ابن عون
نافع ليس بطريقة عجيبة كما توهمت! بل هذا يستخدمه أهل النقد.
الحديث يرويه عبدالله بن عون البصري عن نافع عن ابن عمر
مرفوعاً، ويتفرد به ابن عون عن نافع بهذا اللفظ، ويرويه غيره بجزء منه عن نافع.
ثم الحديث يرويه الحسن البصري مرسلاً، والحسن من شيوخ ابن
عون، فما المانع من أن يكون ابن عون سمع الحديث من الحسن - وليس بالضرورة أن نقف
على الرواية لأن مثل هذه الروايات المرسلة لا يعتني بها بعض الرواة - والجزء
المتفق عليه من حديث نافع عند ابن عون، فلما حصل تشابه بين الحديثين في ذكر الفتنة
وقرن الشيطان ربما دخل له حديث في حديث!
هذه طريقة معروفة للتعليل عند أئمة النقد، ولا عجب فيها.
ثانياً: قاعدة "الرواية عن الغرباء" قاعدة مقررة
عند أهل النقد، وهي ليست على إطلاقها في حصول الوهم للراوي، فقد يكون الغريب أتقن
لأهل البلد في حديث بعض الشيوخ، لكن هذه القاعدة تستخدم كقرينة إذا كان التفرد من
غريب عن شيخ معروف في بلده والرواة عنه كثر وهم من الثقات كحديثنا هذا.
والذي قلته حول ذلك: "وأيضاً ابن عون بصري، وعادة
الغرباء أنه قد يقع لهم الوهم في غير شيوخ بلدهم، ونافع مدني، وهنا يقدّم أصحابه
المدنيون الثقات على غيرهم من تلاميذه الغرباء كابن عون هنا، والله أعلم".
ثالثاً: حكم (المتعالم) على تعليلي لهذا الحديث بقوله:
"خلط وتكلف موحش"!! لم يأت عليه بدليل علمي ينقضه!!
وإنما أتى بكلام لا يسمن ولا يغني من جوع بقوله: وهل غفل
أجل أصحاب ابن عون عن هذا؟ وهل غفل أطباء العلل فلان وفلان وووو !!!
أهذه طريقة علمية الرد على الحج والبراهين؟!
إذن ما فائدة التتبع والاستدراك في العلم إذا قلنا في الرد
على كل شيء: هل غفل عنه فلان وفلان ووو إلخ!!
نعم، غفلوا! ما المشكلة في ذلك؟!! لم يتتبعوا هذا الحديث
وغيره، فكان ماذا؟!
وكم من عالم أو مجموعة من العلماء غفلوا عن أشياء، وتتابعوا
على أشياء نخالفهم فيها! فهذا أمر طبيعي.
وحاصل كلام هذا (المتعالم) أن أطباء العلل لما لم يعللوه
فإنهم صححوه! فيأتينا بتصحيح هؤلاء لهذا الحديث - دون الترمذي وما يُظن عن البخاري
تصحيحه لإخراجه في كتابه-، وأين هذا في عالم الإمكان؟! فمن أين لهذا (المتعالم) أن
يجزم بكون هؤلاء وقفوا على صحة هذا الحديث عندهم؛ فلذلك تنكَّبوا إعلاله؟!
رابعاً: إقحام (المتعالم) بقية الروايات التي في الصحيحين
على هذا المنوال بحسب تعبيره يدل على جهله الشديد!!
فما دخل بقية الروايات بهذا؟ فهل قلنا إن كل الروايات
هكذا؟!!
إن وجدنا اختلافات بين أصحاب الراوي ثم بينا ذلك بحجة
وبراهين فهذه مسألة أخرى، لكن هذا التعميم فيه جهل وغباء يعكس فهم صاحبه.
خامساً: قوله: "هل روى ابن عون هذا الحديث عن الحسن
البصري"؟ نعم، لا توجد رواية عندنا أنه رواه عنه، لكن هذا لا يستبعد، ومع ما
قررناه من أن أصل الحديث الذي تفرد به ابن عون عن نافع موجود من رواية الحسن
البصري وهو شيخه فهذا فيه دلالة على أنه ربما رواه عنه، فاشتبه عليه مع حديثه الذي
عنده عن نافع.
وكم من حديث قد رواه بعض أتباع التابعين عن التابعين لم
تصلنا رواياتهم، وخاصة الأحاديث المرسلة والمنقطعة؛ لأن العناية كانت بالأحاديث
المسندة المرفوعة.
سادساً: أما كيف اشتبه على ابن عون وقد رواه عنه أصحابه
المقدمون عنه! فهذا سؤال جاهل لا يفهم شيئاً!
أصحاب ابن عون سمعوا حديثه وبعضهم أتقن لحديثه من غيره،
فالمفاضلة هنا بين أصحابه فيما يختلفون فيه على شيخهم، لا في الشيخ نفسه، فهم
سمعوا هذه الأحاديث وهذا الحديث منه، فهل إن كانت هناك ثمَّ علة في حديث ما مما
سمعوه منه لا بد أن يكشفوا عن علته؟!!
هم رواة فقط، يسمعون، ثم يروون عن شيخهم، ولا علاقة لهم
بأن هذا الحديث فيه علة، أو اشتبه على شيخهم، ونحو ذلك.
هو رواه هكذا، وسمعوه منه، ثم رووه كما سمعوه، فما علاقة
رواية أصحابه المقدمون فيه له بما بيناه من علّة؟!!
- وقال المْحِمْدِي: "ثم قال أخي الكريم:
"والخلاصة أن حديث ابن عون عن نافع بهذا اللفظ غريب! تفرد به، وغيره من
الثقات يروونه عن نافع دون الدعاء المذكور، ومن المستحيل أن يتفرد راوٍ على من هم
أوثق منه في شيخ مكثر مثل نافع. وقرينة أن هذا الحديث يرويه شيخ ابن عون في البصرة
مرسلاً، يؤيد أن ابن عون دخل له حديث في حديث بسبب التشابه في بعض متنه. وأيضاً
ابن عون بصري، وعادة الغرباء أنه قد يقع لهم الوهم في غير شيوخ بلدهم، ونافع مدني،
وهنا يقدّم أصحابه المدنيون الثقات على غيرهم من تلاميذه الغرباء كابن عون هنا،
والله أعلم. أ.هـ.
قلت: هذه قرينة - وليست قاعدة- استعملها النقاد مع بعض
الروايات، ولكنها ليست قاعدة كي تعل بها حديثا صحيحاً! ثم كيف يجعله ابن المديني
والنسائي من الطبقة المتقنة الثانية عن نافع؟
وأما عن قولك يا شيخ خالد: ((والذي يهمنا هنا هو أصل
الحديث، وما دخله من تحريف وغيره))!! فهنا تسكب العبرات! أي تحريف بربك؟ ولم لم
تقل - جدلاً- وهم أو أضرابها، أعتقد أن قولك هذا زلة قلم أو سبقه، وأنت من أهل
العلم والفضل!
والخلاصة: إن الحديث صحيح عن ابن عون مرفوعاً كما جاء من
طريقين عنه، وقد نص أئمة الشأن على تصحيحه فأخرجه البخاري في أصح كتاب بعد كتاب
الله وتنصيص الترمذي رحمه الله تعالى" انتهى.
أقول:
أولاً: أنا لم أقل عما ذكرته أنها "قاعدة"! بل
قلت "قرينة"! والمشكلة عند هذا (المتعالم) هو الهوس في التفريق بين
القواعد والقرائن كما بينت سابقاً!
فسواء قلت إنها قاعدة أم قرينة فالذي يهمنا هو التعليل
والحجة في ذلك.
أين الرد العلمي على هذا؟
ثانياً: اتفاق ابن المديني والنسائي على وضعه في الطبقة
الثانية من أصحاب نافع لا يُغيّر من الأمر شيئا! وحتى لو كان من الطبقة الأولى!
فمالك من الطبقة الأولى وخالفه غيره ممن هم في الطبقة
الأولى بزيادة لفظ "من المسلمين" عن نافع، فقبل زيادته بعض أهل العلم،
وردها بعضهم، وأشار ابن رجب كما سبق أن أحمد توقف عن قبولها حتى وُجد لمالك من
تابعه عليها.
وابن عون من الطبقة الثانية من أصحاب نافع وهو من كبار
الثقات، لكنه زاد على غيره، والجماعة خالفوه! فلمن نحكم هنا؟!
حتى نحكم له بمخالفة الجماعة في لفظ الحديث لا بد من قرينة
كالاختصاص ونحوها، فبيِّن لنا بالأدلة كيف نحكم لروايته على غيره؟!
ثالثاً: وأما سكب العبرات على ما قلته من وجود تحريف! فهلا
وفرت هذه العبرات لتسكبها في موضع العبادة فذاك خير لك!
أنا لما تكلمت على أن أصل حديث ابن عون هو حديث الحسن
المرسل جاء في حديث الحسن: "مدينتنا" وفي حديث ابن عون:
"يمننا"، فقلت:
ورُبّ معترض يعترض بأن هناك فرق في بعض الألفاظ التي في
الحديث الذي رواه ابن عون والحديث المرسل عن الحسن!
فأقول: عادة إذا كان الحديث مرسلاً فإن أهل العلم لا
يضبطونه، فيقع تحريف أو سقط أو زيادة فيه، ففي المرسل ذكر: "مدينتنا"
وفي حديث ابن عون: "يمننا"، وفي المرسل: "والعراق"، وفي حديث
ابن عون: "نجدنا"، وهذا قريب لا اختلاف فيه، ولهذا رأى بعض أهل العلم أن
المقصود بنجد في حديث ابن عون هو العراق. فقد يكون فعلاً حصل تحريف فيه: تحرفت
"مدينتنا" إلى "يمننا" أو أنه جاء في الحديث المرسل ذكر الجهة
اليمانية كما الشامية جهة أيضاً! والله أعلم.
والذي يهمنا هنا هو أصل الحديث، وما دخله من (تحريف
وغيره)، فهذا من خلال الاستقراء يحدث للرواة في الأحاديث المرسلة؛ لأن العناية بها
ليس مثل العناية بالحديث المرفوع، والله أعلم. ثم هذا (التحريف وغيره) من صنوف
التبديل لا يلزم أن يكون من قبيل ابن عون، فلعله ممن دونه".
فهذا كان كلامي عن التحريف، وهو واضح وبيّن.
رابعاً: خلاصتك بأن الحديث صحيح وأن البخاري أخرجه في
كتابه الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله ليس برد علمي!!
نعم، كتاب البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، لكن ليس
كل ما فيه صحيح بحيث يكون للبخاري العصمة في ذلك!
هو رحمه الله اجتهد في كتابه وخالفه غيره، فالأمر فيه سعة،
فلا يصلح أن نقول: "هذا الحديث صحيح لأن البخاري خرجه وكتابه أصح كتاب بعد
كتاب الله"!!
ثم إني قد بينت في أصل البحث تحت عنوان: "كيف خرّج
البخاري هذا الحديث في صحيحه؟!" كيف خرج البخاري الحديث في "صحيحه"
وقد أعرض هذا (المتعالم) عن هذا كله مع أشياء كثيرة في البحث لم يتعرض لها في رده
(الهزيل)!!
قلت: "وقد يعترض معترض: وهل خفي ذلك على الإمام
البخاري، حيث أخرج حديث ليث عن نافع وحديث ابن عون عن نافع في المكان نفسه؟
فأقول:
أرى أن البخاريّ - رحمه الله - ليس بغافلٍ عن ذلك، وتخريجه
لهذا الحديث في صحيحه فيه إشارة إلى أنه لا يحتج به؛ وإنما يحتج بما جاء فيه على
ما يؤيد تبويبه؛ ولهذا ساقه في المتابعات لا في الأصول، وقد ذكر هذا الحديث في
موضعين..." إلخ.
- وقال المْحِمْدِي: "وقال أخي الدكتور في حواره لبعض
أهل العلم: ((فأنا رددت زيادة الثقة بأمور – قرائن-: الأولى: أنه خالف أصحاب
الطبقة الأولى من أصحاب نافع في اللفظ. الثانية: وكذلك من تابع نافعا عليه وهو
سالم بدون الزيادة وهذا يدل على أنها لا تحفظ عن ابن عمر))؟ أ.هـ
قلت -عبد القادر-: أما قولك قرائن فأنت اعتمدت على قواعد
أخي كما بينته وليست قرائن، فلا أنت ولا أنا ولا أحد اليوم يدرك القرائن التي يمكن
أن نشاكل عليها أئمة القرائن وعلماء النقد.
وإعلالك طريق نافع بطريق سالم لا يستقيم أبا صهيب! فقد نص
سالم أن نافعاً أحفظ منه، فأخرج مسلم في التمييز من طريق أبي بكر بن حفص بن عمر بن
سعد، قال: قلت لسالم بن عبدالله: فِي أَي
الشق كَانَ ابْن عمر يشْعر بدنته؟ قَالَ: فِي الشق الأيمن، فَأتيت نَافِعًا فَقلت:
فِي أَي الشق كَانَ ابْن عمر يشْعر بدنته؟ قَالَ: فِي الشق الايسر، فَقلت: إن
سالما أَخْبرنِي أَنه كَانَ يشْعر فِي الشق الأيمن، فَقَالَ نَافِع: وَهل سَالم
انما أَتَى ببدنتين مقرونتين صغيرتين فَفرق أَن يدْخل بَينهمَا فأشعر هَذِه فِي الأيمن
وَهَذِه فِي الأيسر فَرَجَعت الى سَالم فَأَخْبَرته بقول نَافِع فَقَالَ: صدق
نَافِع عَلَيْكُم بِنَافِع فَإِنَّهُ أحفظ لحَدِيث عبدالله، فَأقر بِهِ مُحَمَّد
بن مهْرَان.
وأخرج ابن أبي خيثمة في تاريخه قال: حدثنا أحمد بن حنبل،
قال: قال سفيان بن عيينة: أي حديث أوثق من حديث نافع؟
وبالطبع فهذه ليست قاعدة فقد يقدم سالم على نافع في حديث
غيره، حسب القرائن المحتفة بالحديث، ولكن أردت بيان غلط الجزم بتقديم سالم على نافع"
انتهى.
أقول:
أولاً: اعتراضك على قولي "قرائن" وتسميتك لها
بالقواعد! لا علاقة له بالرد العلمي!
فهب أنها قواعد، وقد بينت لك فيما سبق أن بع أئمة النقد
كالدارقطني يعد ذلك قاعدة كترجيحه لحديث حماد بن سلم في ثابت مطلقا - هب أنها
قواعد فكان ماذا؟
ستقول: لا يعمل بالقواعد بل يعمل بالقرائن! وهذا الذي
يُدندن عليه هذا (المتعالم) دائماً!!
نقول لك: هب أنها قواعد، فبم تردها؟ نحن قدمنا رواية من في
الطبقة الأولى على من هو في الطبقة الثانية، فحتى ترد أنت هذا التقديم لا بدّ لك
من قرينة! فما هي حتى نوافقك في ذلك؟!
ثانياً: قولك بأنه لا أحد يعرف الآن القرائن! فهذا مردود
عليك! فكونك لا تعرف القرائن فهذا لا يمنع غيرك من معرفتها! فهذا مبلغك من العلم!
وأستطيع بفضل الله أن أعطيك قرائن جديدة لا تجدها في كتاب! لكن لا تستحق هذه
الفوائد، وقد أعطيتها لمن يستحقها من طلبة العلم.
ثالثاً: وأما قولك إني أعللت طريق نافع بطريق سالم فهنا -
بحسب تعبيرك - تسكب العبرات؟!!
هل تعي ما تقول؟ أين أعللت طريق نافع بطريق سالم؟!!
أنا قلت: "وكذلك من تابع نافعا عليه وهو سالم بدون
الزيادة وهذا يدل على أنها لا تحفظ عن ابن عمر".
فالكلام واضح أن سالماً تابع نافعاً عليه بدون الزيادة،
لأن جماعة رووه عن نافع مثلما روى سالم، فلم أعلّ رواية نافع!
وإنما التعليل لرواية ابن عون عن نافع لا لرواية نافع.
رابعاً: أتى (المتعالم) بنص فيه أن سالماً قدّم نافعاً على
نفسه، ثم قال في آخر الكلام: "فهذه ليست قاعدة فقد يقدم سالم على نافع في
حديث غيره، حسب القرائن المحتفة بالحديث، ولكن أردت بيان غلط الجزم بتقديم سالم
على نافع"! وهذا منه لأنه لا يعرف كلام أهل العلم، ولا وصل لمراميه! فتجده
يُطلق الكلام على عواهنه دون وعي ودون تحرير! فكل شيء عنده "قد يقدم فلان على
فلان بحسب القرائن"!! فتجده (يُقدقد) وهو يعيب ذلك على غيره! ثم لا يُسعفك بمثال
واحد على ما يقول!
وهذا يُذكرني بقول ذلك القائل: "كل إنسان يستطيع أن
يكون مُفتياً!"، فقيل له: كيف؟ قال: أيّ مسألة تأتيك، فقل: فيها خلاف عند أهل
العلم، أو فيها قولان! يجوز، ولا يجوز...!!!
فنقول لهذا المتعالم: طالما أنها عندك قرينة وليست قاعدة -
مع أن سالماً قدّم نافعاً على نفسه وأخذ بذلك مسلم نفسه - فأعطنا مثالاً واحداً
على تقديم سالم على نافع؟!! مع ذكر القرينة في ذلك التقديم!
أقول لك:
اختلف سالم مع نافع في أربعة أو خمسة أحاديث، وقدّم فيها غالب
أهل العلم نافعاً على سالم لمقولة سالم هذه، ولملازمته لابن عمر في كل الأوقات،
وهو خادمه، ولهذا قدّمه سالم على نفسه؛ لأنه حفظ عن أبيه أكثر منه. وقدّم بعضهم
سالماً لأنه أحفظ.
ففي «العلل ومعرفة الرجال لأحمد - رواية المروذي» (8):
ذُكِرَ حَدِيثُ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدِيثُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ: «مَنْ
بَاعَ عَبْدًا»، قُلْتُ: فَأَيُّمَا الثَّبْتُ؟ فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: "اللَّهُ
أَعْلَمُ".
قُلْتُ: مَا الَّذِي يُمِيلُ إِلَيْهِ قَلْبُكَ؟ قَالَ: "أُرَى
- واللَّهُ أَعْلَمُ – نَافِع".
قلت: فَإِذا اخْتلف سَالم، وَنَافِع، لمن تحكم؟ قال: "نافِع.
قد قدّمه سالمٌ على نَفسه، وَقد روى عَنهُ، وَكَانَ مشمرا.
قلت: لم أرد الفضل، إِنَّمَا أردْت فِي الحَدِيث، إِذا
اخْتلفَا، فقلبك إِلَى أَيهمَا أميل؟
قَالَ: "جَمِيعًا عِنْدِي ثَبت"، وَذهب إِلَى
أَن لَا يقْضِي لأحد.
وقال الترمذي في «العلل الكبير» (327): سَأَلْتُ
مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقُلْتُ لَهُ: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ
سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
بَاعَ عَبْدًا.
وقَالَ نَافِعٌ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ،
أَيُّهُمَا أَصَحُّ؟
قَالَ: "إِنَّ نَافِعًا يُخَالِفُ سَالِمًا فِي
أَحَادِيثَ، وهَذَا مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. رَوَى سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ نَافِعٌ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
عَنْ عُمَرَ" - كَأَنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ أَنَّهُ
يَحْتَمِلُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وسُئِلَ الدارقطني في «العلل» (2/51) (102) عَنْ حَدِيثِ
سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ بَاعَ عَبْدًا، لَهُ مَالٌ»؟
فقالَ: "هُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ
حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَهُ عَنْهُ هُشَيْمُ بْنُ
بَشِيرٍ...
وغَيْرُهُ يَرْوِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا
يَذْكُرْ فِيهِ عُمَرَ.
وَرَوَاهُ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، فَخَالَفَ فِيهِ
سَالِمًا فَجَعَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، قوله".
وروى البيهقي في «السنن الكبرى» (5/530) عن أَبي
عَبْدِاللهِ الحَافِظ النيسابوري، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الْحُسَيْنَ بنَ
عَلِيٍّ الْحَافِظَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ، يَقُولُ: سَأَلْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللهُ عَنِ
اخْتِلَافِ سَالِمٍ وَنَافِعٍ فِي قِصَّةِ الْعَبْدِ، قَالَ: "القَوْلُ مَا
قَالَ نَافِعٌ، وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ أَحْفَظَ مِنْهُ".
وروى أيضاً عن أَبي عَبْدِاللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
عَلِيٍّ، يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ النَّسَائِيَّ عَنْ حَدِيثِ
سَالِمٍ، وَنَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْعَبْدِ وَالنَّخْلِ،
فَقَالَ: "الْقَوْلُ مَا قَالَ نَافِعٌ وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ أَحْفَظَ مِنْهُ".
قلت: فهذا مسلم الذي نقلت قوله هنا أيها (المتعالم) يرجّح
قول نافع مع إقراره بأن سالماً أحفظ منه! وكذا الإمام النسائي.
وقال ابن عبدالبر في «التمهيد» (9/212) في حديث سَالِمِ
بنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ: إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، رَفَعَ يَدَيْهِ
حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَهُمَا
كَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ
الْحَمْدُ» وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ:
"هذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ
الَّتِي رَفَعَهَا سَالِمٌ عَنِ أبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَأَوْقَفَهَا نَافِعٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، فَمِنْهَا مَا جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ
ابْنِ عُمَرَ وَفِعْلِهِ وَمِنْهَا مَا جَعَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ، وَالْقَوْلُ
فِيهَا قَوْلُ سَالِمٍ وَلَمْ يَلْتَفِتِ النَّاسُ فِيهَا إِلَى نَافِعٍ.
فَهَذَا أَحَدُهَا، وَالثَّانِي: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ جَعَلَهُ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَوْلُهُ، وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً، وَالرَّابِعُ:
فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ
بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْر".
وقال النسائي والدارقطني: أحاديث نافع الثلاثة الموقوفة
أولى بالصواب.
ورجح أحمد وقف: «فيما سقت السماء»، وتوقف في حديث: «من باع
عبدا لهُ مال». وقال: إذا اختلف سالم ونافع فلا يقضى لأحدهما.
يشير إلى أنه لا بد من الترجيح بدليل. [فتح الباري لابن
رجب (6/345)].
وقالَ الدَّارَقُطْنِيّ في «التتبع»: "أخرجَا
جَمِيعًا حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ بَاعَ عبدا وَله مَال. وَقد خَالفه نَافِع عَن ابن
عمر عَن عمر. وَقَالَ النَّسَائِيّ: سَالم أجل فِي الْقلب وَالْقَوْل قَول نَافِع".
وقال ابن حجر مُعقباً عليه في «هدي الساري»: "قلت:
الحَدِيث عِنْد البُخَارِيّ بِهَذَا السِّيَاق عَن عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ:
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي ابن شهَاب، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «من ابْتَاعَ
نخلا بعد أَن تؤبر.. الحَدِيث»، وفِيه: «وَمن ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ
فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع». وَعَن مَالك عَن
نَافِع عَن ابن عمر عَن عمر فِي العَبْد، وَهُوَ مَعْطُوف على حَدثنَا اللَّيْث،
فقد أخرجه على الْوَجْهَيْنِ ومقصوده مِنْهُ الِاحْتِجَاج بِقصَّة النّخل المؤبرة
وَهِي مَرْفُوعَة بِلَا خلاف بِدَلِيل أَنه أخرجهَا فِي أَبْوَاب الْمُزَارعَة،
وَأما قصَّة العَبْد فأخرجها على سَبِيل التتبع وَبَين مَا فِيهَا من الِاخْتِلَاف
فَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ، وَالله أعلم".
وقال في «الفتح» (4/402): "واخْتُلِفَ عَلَى نَافِعٍ
وَسَالِمٍ فِي رَفْعِ مَا عَدَا النَّخْلَ، فَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ
عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا فِي قِصَّةِ النَّخْلِ وَالْعَبْدِ مَعًا، هَكَذَا
أَخْرَجَهُ الْحُفَّاظُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَهُمْ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ
فَزَاد فِيهِ: ابن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا لِجَمِيعِ الْأَحَادِيثِ،
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. وَرَوَى مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَيُّوبُ وَعُبَيْدُاللَّهِ
بن عمر وَغَيرهم عَن نَافِع عَن ابن عمر قصَّة النّخل، وَعَن ابن عُمَرَ عَنْ
عُمَرَ قِصَّةَ الْعَبْدِ مَوْقُوفَةً، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ
طَرِيقِ مَالِكٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا، وفِي الشُّرْبِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ
فِي قِصَّةِ الْعَبْدِ مَوْقُوفَةً، وَجَزَمَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
والدَّارَقُطْنِيُّ بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ نَافِعٍ الْمُفَصَّلَةِ عَلَى رِوَايَةِ
سَالم، ومَال علي بن المَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وابن عَبْدِالْبَرِّ إِلَى
تَرْجِيحِ رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ رَفْعُ الْقِصَّتَيْنِ،
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْهُ،
وَهُوَ وَهَمٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُالرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ
نَافِعٍ قَالَ مَا هُوَ إِلَّا عَنْ عُمَرَ شَأْنُ الْعَبْدِ، وَهَذَا لَا
يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ صَحَّحَ الطَّرِيقَيْنِ وَجَوَّزَ أَنْ يكون الحَدِيث عِنْد
نَافِع عَن ابن عُمَرَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ".
والخلاصة أن الإمام أحمد ومسلم والنسائي والدارقطني رجحوا
رواية نافع الموقوفة، ومال علي بن المديني والبخاري وابن عبد البر إلى ترجيح رواية
سالم المرفوعة.
وقد سُئِلَ الدراقطني في «العلل» (12/292) (2724) عَنْ
حَدِيثِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؛ فِيمَا سقت السماء العشر؟.
فقال: "حدث به يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم. وتابعه يزيد بن أبي حبيب، رواه عن الزهري كذلك.
ورواه نافع، فخالف سالما، واختلف عن نافع:
فرواه خالد بن الحارث، وعبدالرزاق، عَنْ عَبْدِاللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابن عمر، من قوله.
وخالفه أيوب عن موسى بن عقبة، والليث بن سعد، وابن جريج،
رووه عن نافع، عن ابن عمر.
ورووه عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم، وَوَهِمَ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي قَوْلِهِ: عَنْ ابن
جريج، عن نافع، وإنما رواه ابن جريج عن موسى بن عقبة، وفي قوله: عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا هو موقوف، عَنِ ابْنِ عُمَرَ".
وسُئِلَ أيضاً (12/293) (2725) عَنْ حَدِيثِ سَالِمٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
ثلاثة أثواب؟.
فقال: "يرويه عاصم بن عبيدالله، عن سالم، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. حدث به الصاغاني عنه
كذلك.
ورواه يحيى القطان، عن الثوري، عن عاصم، عن سالم، عن أبيه:
كفن عمر في ثلاثة أثواب، وهو الصواب".
وَسُئِلَ أيضاً (12/294) (2726) عَنْ
حَدِيثِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم:
ستخرج نار في آخر الزمان من حضرموت، تحضر الناس؟.
فقال: "اختلف فيه سالم، ونافع،
عن ابن عمر.
رواه أبو قلابة، عَنْ سَالِمٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولم يروه عنه غير
يحيى بن أبي كثير.
حدث به عنه الأوزاعي، وعلي بن
المبارك، والحجاج بن الحجاج، وحرب بن شداد، وأبان العطار.
وَرَوَاهُ عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابن عمر، عن كعب الأحبار، من قوله.
ويقال: إن المحفوظ قول نافع،
والله أعلم".
قال الدارقطني بعد أن تكلّم على
هذه الأحاديث الثلاثة: "هذه الأحاديث الثلاثة، يرويها سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، خالفه نافع فيما رواه عن ابن عمر،
عن كعب، وروى الآخر، عن ابن عمر، عن سلمان، وروى الآخر، عن ابن عمر، عن عمر، وقد
قُضي فيها لنافع على سالم".
وَسُئِلَ الدراقطني في «العلل» (13/145) (3022) عَنْ
حَدِيثِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم:
الناس كإبل مئة، لا تكاد تجد فيها راحلة؟.
فَقَالَ: "يَرْوِيهِ
الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَخَالَفَهُ نافع، فرواه عن ابن
عمر، عن عمر، قوله.
حدث به ابن عجلان، عن نافع كذلك،
وقيل: هو الصحيح".
فهذه خمسة أحاديث اختلف فيها سالم
ونافع بين الوقف والرفع، فمن أهل العلم من قدّم رواية نافع مطلقاً، ومنهم من قدم
سالما في بعض هذه الأحاديث.
فهذا علي بن المديني والبخاري
مالا إلى تقديم رواية سالم على نافع، بل وجزم ابن عبدالبر بذلك، فهل غلطوا في ذلك
بحسب قول هذا (المتعالم)؟!!
- وقال المْحِمْدِي: "وأما
عن قول أخي الدكتور: "فالحديث إذا تفرد به سهيل ولم توجد قرينة تزيل الشبهة عن
عدم ضبطه إياه فلا يُقبل، والله أعلم". فلا يسلم له البتة! ويكفي في استقامة
حديثه - عموماً- احتجاج مسلم به! فالراجح في سهيل إنه حسن الحديث ما لم يخالف.
قال أبو عيسى: "وقد تكلم بعض
أهل الحديث في سهيل بن أبي صالح، ومحمد بن إسحاق، وحماد بن سلمة، ومحمد بن عجلان،
وأشباه هؤلاء من الأئمة، إنما تكلموا فيهم من قبل حفظهم في بعض ما رووا، وقد حدث
عنهم الأئمة. حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا علي بن المديني قال: قال لنا
سفيان بن عيينة: كنا نعد سهيل بن أبي صالح ثبتا في الحديث".
وقال ابن معين: " ثقة".
وقال أحمد: "ما أصلح حديثه! ومرة: "لا بأس به". ووثقه العجلي، وقال
النسائي: "ليس به بأس". وقال ابن عدي: "هو عندي ثبت، لا بأس به،
مقبول الأخبار".
فكيف ترد حديثه بهذه الطريقة؟
ثم وإن لم يخرج له البخاري في الأصول؟
هل هذا يعني أنه ضعيف؟ البخاري ترك أئمة كبار ولم يشترط أن يخرج لكل الثقات ولا كل
أحاديثهم، ويقينا له رأيه وعنده القرائن التي حملته على ذلك، ثم طريقة البخاري
تختلف عن طريقة مسلم في التصنيف، فالبخاري يتطلب إيراد الروايات الأصح في الباب
بما يحتج فيها، ولا يلجأ إلى التكرار إلا للحاجة، وإذا كرر يكرر في بابه لأنه (جامع
صحيح)، بخلاف مسلم الذي يورد الروايات ويكررها في موضعها لأنه (مسند صحيح).
فإذا وجد البخاري حديثاً لشيخ ما
فإنه يورده من أصح طرقه وأعلى رجاله، ولذا فهو أورد مثلًا حديث الشهداء خمسة
فالبخاري أورده في باب (باب فضل التهجير إلى الظهر) من طريق سمي عن أبي صالح
السمان (ذكوان) عن أبي هريرة به. ولم يورد غيره في الباب لأن سميا من أوثق أصحاب
أبي صالح، قال أبو داود: قلت لأحمد: سمي أحب إليك، أو القعقاع؟ قال: سمي. قلت لأحمد:
سمي. قال: بخ، ثقة. قلت: سمي أحب إليك أم سهيل؟ قال: سمي".
ولم يورد غيره؛ لأنه ليس من قصده
الاستيعاب والتوسع في الأسانيد، فاكتفى به، بخلاف الإمام مسلم الذي أورد في الباب
ستة أحاديث فابتدأ بأصحها طريق سمي عن أبي صالح (ذكوان)، ثم من ثلاثة طرق عن سهيل
بن أبي صالح، عن أبيه (ذكوان) ثم أتى بشاهدين من حديث أنس رضي الله عنه.
وقل مثل ذلك في أغلب الأحاديث،
فالبخاري لم يقصد الاستيعاب، ولذا اكتفى بالأصح، بخلاف مسلم.
وقد أتى بطريق سهيل - مرة- ليرجح
رفع حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، إذا خالف شعبة فيه الأعمش فرواه عن أبي
صالح موقوفاً، فأورد البخاري طريق شعبة الموقوف ثم أتى بطريق سهيل ليبين الاختلاف
والترجيح، وما كان البخاري ليدع طريق الأعمش ويرويه من طريق سهيل! قال أبو داود:
قلت لأحمد: سهيل أحب إليك، أو الأعمش، في أبي صالح؟ فقال: "الأعمش".
في حين تجد مسلما أورد حديث سهيل
- نفسه- في الباب واحتج به لأنه ليس عنده طريق الأعمش الذي عند البخاري لذا لم
يورده مع بقية الطرق، ولو كان عنده لاحتج به أولاً ثم أتى بحديث سهيل، كما فعل مع
سمي عن أبي صالح.
ولسنا في صدد عرض هذه المسألة فهي
تطول ولكن قصدنا نوضح أن ترك البخاري لسهيل لا يعني ضعف سهيل ولا تركه! بل لأمور
وأسباب تتعلق بمنهجية الإمام البخاري في صحيحه، لا كما توهمه الأخ الدكتور خالد"
انتهى.
أقول:
أولاً: هذا الاستدراك من هذا
(المتعالم) لا علاقة له بأصل بحثنا! والعجيب أنه يتعرض لأشياء ليست في صلب البحث
ويطيل فيها! في حين أنه إذا عرض لشيء في أصل البحث رده دون دليل ولم يُفصِّل بكلام
إنشائي مُقتضب.
ثانياً: الكلام عن سهيل جاء عرضاً
لأن مسلماً أخرج له حديثاً تفرد به وفيه ذكر "الشام" مما عُدّ من أعلام
نبوته صلى الله عليه وسلم.
فقلت تحت عنوان: "حديث فرد
من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه!": "وأما حديث: «منعت العراق...»،
فهو من أفراد الإمام مسلم. أخرجه مسلم في «صحيحه» (4/2220) من حديث زُهَيْر بن
معاوية، عن سُهَيْلِ بن أبي صَالِحٍ، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنَعَتْ العِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا،
وَمَنَعَتْ الشام مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا
وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ من حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ من حَيْثُ
بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ من حَيْثُ بَدَأْتُمْ، - شَهِدَ على ذلك لَحْمُ أبي
هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ-».
وهذا الحديث تفرد به سهيل عن
أبيه! وقد ذكره ابن عدي في منكراته من ترجمته من «الكامل» (3/448) ثم قال:
"وهذا الحديث لا يُعرف إلا بسهيل عن أبيه عن أبي هريرة، ولا أعلم رواه عن
سهيل إلا رجلين: زهير بن معاوية هذا الذي ذكرته، وعياش بن عباس القتباني".
وسماع سهيل من أبيه ثابت لا شك
فيه، ولكن كان في حفظه شيء أدى إلى عدم ضبطه؛ وذلك أن أخاه مات فحزن عليه، فأصابته
آفة بسبب ذلك؛ فخفّ ضبطه، ولهذا تركه البخاري، وروى له الإمام مسلم لأن شرطه أدنى
من شرط الإمام البخاري.
وأما ما ادّعي من أن مسلماً سبر
حديثه، فهل هذا يعني أن الإمام البخاري لم يسبرها! وهو إمام المحدّثين، ولهذا أخرج
له في المتابعات والشواهد بخلاف الإمام مسلم الذي أخرج له في الأصول!
فالحديث
إذا تفرّد به سهيل ولم توجد قرينة تزيل الشبهة عن عدم ضبطه إياه فلا يُقبل، كما
فصلته في مواضع أخرى.
وقد أخرج البخاري معناه تعليقاً
دون ذكر البلدان! أخرجه في «صحيحه» (3/1161) قال: قال أبو مُوسَى - وهو: محمد بن
المثنى-: حدثنا هَاشِمُ بن القَاسِمِ - هو: أبو النضر التميميّ- قال: حدثنا
إِسْحَاقُ بن سَعِيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي
الله عنه، قال: «كَيْفَ أَنْتُمْ إذا لم تَجْتَبُوا دِينَارًا ولا دِرْهَمًا،
فَقِيلَ له: وَكَيْفَ تَرَى ذلك كَائِنًا يا أَبَا هُرَيْرَةَ! قال: إِي،
وَالَّذِي نَفْسُ أبي هُرَيْرَةَ بيده عن قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قالوا:
عَمَّ ذَاكَ، قال: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم، فَيَشُدُّ الله عز وجل قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْنَعُونَ ما في
أَيْدِيهِمْ»...".
ثالثاً: قوله بأن سهيل بن أبي
صالح "حسن الحديث ما لم يخالف" مُشكل جداً!!
إذا لم يخالف كان الاعتماد على
غيره، لكن المشكلة إذا تفرد؟!! هل يقبل تفرده وهذا ما أشرت إليه أنا.
فهذا (المتعالم) لا خبرة عنده
بالرواة ولا سبرهم! وقد قلت في أصل البحث كما نقلته آنفا بعدما أشرت إلى عدم قبول
ما يتفرد به سهيل إذا لم توجد قرينة تزيل عدم ضبطه: "كما فصلته في مواضع
أخرى".
وهذا يعني أنني أقبل تفرده إذا
كان هناك قرينة على ضبطه للحديث للآفة التي أصابته لما مات أخوه وحزن عليه ونسي
بعض حديثه حتى كان يذكره بعض الرواة بأنهم سمعوا منه الحديث، فإذا حدّث به بعد
قال: حدثني فلان أني حدثته عن فلان...
وكان كلامي على حاله بالتفصيل في
بحثي الموسوم بـ «المَورد العذب الرائق» في حديث «الأَعماق ودابِق».
وقلت عنه: "وسهيل من أهل الثقة وكان من كبار الحفاظ إلا أنه
تغيّر فصار يُخطئ ويهم بسبب أنه كان له أخ فمات فحزن عليه فأصابته آفة، فخفّ حفظه
وضبطه".
وقلت: "وسهيل يتفرد عن أبيه عن أبي هريرة بأحاديث لا
يتابعه أحد عليها، وقد تجنّب الإمام البخاري الاعتماد عليه، وروى له في المتابعات
والشواهد، بخلاف الإمام مسلم الذي روى له في الأصول، وروى له في الشواهد أيضاً".
رابعاً: أكثر الأئمة النقاد على عدم الاحتجاج بحديثه كما فصّلت
في البحث المشار إليه، وهذه النقولات التي نقلها هذا (المتعالم) فيها تدليس على
القارئ! لأنه نقل ما يوافق رأيه ليبيّن أن الرجل مقبول الرواية مطلقا ما لم يخالف!
وأعرض عن الكلام الشديد من أئمة النقد فيه! وما هكذا تكون الأمانة العلمية!! وقد
نقلت كل أقوال العلماء فيه في بحثي المشار إليه.
خامساً: وأما الجواب عن قولك إن البخاري إذا أعرض عن التخريج
عنه في الأصول فهل هو ضعيف؟
فمشكلتك أيها (المتعالم) أن الأمور عندك تُقاس بلونين! أبيض أو
أسود!!
لم نقل إن سهيلا ضعيف! وقد صرحت بأنه ثقة، لكن البخاري أعرض عن
إخراج حديثه في الأصول لسبب وهو تفرده بأحاديث غريبة! ولكنه في نفس الوقت أشار إلى
حديثه مستشهداً به ليبيّن حاله، وهو أنه يستشهد به لكن لا يحتج بما انفرد به، وهذا
منهج البخاري في تخريج أحاديث أمثال سهيل بن أبي صالح.
فلما أن توبع سهيل على بعض حديثه أخرج له البخاري فيما توبع
عليه، فمثلاً توبع على حديث «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَكْثُرَ المَالُ ويَفِيضَ
حتى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فلا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا منه»،
وما زاده لم يتابع عليه، فلا يُقبل منه.
وأنت نفسك قلت عن سهيل: "الراجح في سهيل إنه حسن الحديث ما
لم يخالف" = فماذا يعني هذا عندك؟ هل هو ضعيف؟! لأنه لو كان ثقة لقبلت
مخالفته أو على الأقل توازن بين حديثه وحديث من خالفه؟
وكما قلت لك إن المشكلة في تفردات سهيل في المقام الأول، ومخالفته
لغيره في المقام الثاني، ولهذا أعرض عنه الإمام البخاري، وإلا لو كان حديثه
مستقيما لما أعرض عنه.
سادساً: وقولك: "البخاري ترك أئمة كبار ولم يشترط أن يخرج
لكل الثقات ولا كل أحاديثهم، ويقينا له رأيه وعنده القرائن التي حملته على ذلك.."
قول مردود!
فهو - وإن كان لم يشترط أن يخرّج لكل الثقات - إلا أنه لا يترك
الكبار دون سبب! فهو يترك حديث الراوي وإن كان ثقة إذا لم يستطع تمييز حديثه
الصحيح من الضعيف وغير ذلك.
والأمر لا يتعلق بالقرائن بل يتعلق بأسباب تجعله يتركهم، وهذا
يكون بعد سبر حاله وحديثه.
سابعاً: وأما قولك بأن طريقة البخاري تختلف عن طريقة مسلم في
التصنيف فهذا دليل ضعيف! لا علاقة له بترك البخاري لبعض الرواة وتخريج مسلم لهم!
فهناك من الرواة احتج بهم البخاري في الأصول، وذكرهم في بعض
المواضع في المتابعات، وهذا لا علاقة له بالتكرار، وأما سهيل ونحوه فلم يحتج بهم
في الأصول، وذكرهم استشهاداً لأن في حديثهم شيء بحيث لا يحتج بهم إلا إذا توبعوا.
والأمر لا يتعلق لا بتكرار ولا باسم الكتاب! فكتاب البخاري نعم
(جامع صحيح) وهو كذلك (مسند) ككتاب مسلم، وهذا التفريق هنا لا وجه له بما نحن فيه.
ثامناً: المثال الذي أتى به هذا (المتعالم) للتدليل على هذرمته!
حُجّة عليه لا له!
فلا نشك أن البخاري يورد الحديث الذي يريد الاحتجاج به على
تبويبه بأصح الطرق وأعلى الرجال، لكن ليس دائما أنه يورد حديثاً واحداً ويترك
الأحاديث الأخرى لأنه لا يريد الاستيعاب بخلاف الإمام مسلم، فقد يُسند عدة أحاديث
في الباب كما سيأتي في الكلام على المثال الذي أتى به.
فالبخاري هنا لم يصح عنده في هذا الباب إلا حديث سمي عن أبي
صالح، ولهذا كرره في مكان آخر.
فأورده في (باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ) كما
ذكر (المتعالم)، وكرره في (بَاب الشَّهَادَة سَبْع سِوَى القَتْلِ)
وساقه من موطأ مالك كذلك.
ثم ساق بعده حديث عَاصِم، عَنْ
حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ
لِكُلِّ مُسْلِمٍ».
فهنا ذكر حديث أنس مع حديث أبي
هريرة لأنه يدخل في الباب الذي ذكره بخلاف الباب السابق.
فلم يكتفِ هنا بحديث سمي عن أبي
صالح عن أبي هريرة، بل أتى بحديث أنس أيضاً.
وأما الإمام مسلم فلم يورد في
الباب ستة أحاديث - وإن كان (المتعالم) فصّل فيها فذكر حديث سهيل من ثلاثة طرق
وحديث أنس من طريقين -! فمسلم ذكر ثلاثة أحاديث بدأ بحديث سمي رواه من طريق موطأ
مالك، ثم ثنّى بحديث سهيل بن أبي صالح من ثلاثة طرق عنه لوجود بعض الزيادات في بعض
الطرق.
فبدأ بحديث جَرِير، عَنْ
سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟» قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، قَالَ: «إِنَّ
شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ»، قَالُوا: فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ
اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ
فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِيكَ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: «وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ».
ثم حديث خَالِد الواسطي، عَنْ
سُهَيْلٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِ، قَالَ
سُهَيْلٌ: قَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ، أَشْهَدُ عَلَى أَخِيكَ أَنَّهُ
زَادَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «وَمَنْ غَرِقَ فَهُوَ شَهِيدٌ».
ثم بحديث وُهَيْب، حَدَّثَنَا
سُهَيْلٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَفِي حَدِيثِهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ
بْنُ مِقْسَمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَزَادَ فِيهِ: «وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ».
ثم ختم بحديث عَبْدالوَاحِدِ بن
زِيَادٍ، عن عَاصِم الأحول، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، قَالَتْ: قَالَ لِي
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: بِمَ مَاتَ يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ:
بِالطَّاعُونِ، قَالَتْ: فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».
ثم ساق حديث عَلِيّ بن مُسْهِرٍ،
عَنْ عَاصِمٍ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ.
فالحديث لا يوجد عن أبي صالح إلا
من طريقين: طريق سمي، وطريق سهيل، أما البخاري فاكتفى بطريق سمي لثقته وجلالته،
وأعرض عن حديث سهيل لأنه خالف سمياً في متنه كما هو ظاهر.
وأما مسلم فإنه ذكره في المتابعات
وهو أصلاً يحتج بسهيل.
ومما يدل على خطأ فهم هذا
(المتعالم) في هذا المثال الذي ذكره أن الإمام البخاري ذكر (بَاب مَا يُذْكَرُ فِي
الطَّاعُونِ)، ثم ساق حديث إِبْرَاهِيمَ بن سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ
بْنَ زَيْدٍ، يُحَدِّثُ سَعْدًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا،
وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» فَقُلْتُ:
أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ سَعْدًا، وَلاَ يُنْكِرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
ثم ساق حديث عَبْدِاللَّهِ بْنِ
عَبْدِاللَّهِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ،
حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُوعُبَيْدَةَ
بْنُ الجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ
بِأَرْضِ.. الحديث بطوله.
ثم ساق حديث ابنِ شِهَابٍ، عَنْ
عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَامِرٍ - أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا
كَانَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ - فَأَخْبَرَهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ،
وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ».
ثم حديث مَالِك، عَنْ نُعَيْمٍ
المُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَدْخُلُ المَدِينَةَ المَسِيحُ،
وَلاَ الطَّاعُونُ».
ثم حديث عَبْدالوَاحِدِ بن زياد، عن
عَاصِم: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ، قَالَتْ: قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَحْيَى بِمَ مَاتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الطَّاعُونِ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّاعُونُ
شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».
ثم ختم الباب بحديث سُمَيٍّ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «المَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالمَطْعُونُ شَهِيدٌ».
فها هو البخاري قد أورد ستة
أحاديث في هذا الباب مستوعباً ما صح فيه، ومنها حديث أنس، وحديث سمي عن أبي هريرة.
فليس الأمر كما زعم هذا
(المتعالم)!!
وأحياناً يشير البخاري لرواية
سهيل إشارة للاختلاف عليه في الإسناد، وللاختلاف في بعض متنه فيما يرويه عن أبيه!
ففي (بَاب الدُّعَاءِ بَعْدَ
الصَّلاَةِ) ساق البخاري حديث وَرْقَاءُ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ
بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ. قَالَ: «كَيْفَ ذَاكَ؟» قَالُوا: صَلَّوْا
كَمَا صَلَّيْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ
أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ. قَالَ: «أَفَلاَ أُخْبِرُكُمْ
بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ
بَعْدَكُمْ، وَلاَ يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلَّا مَنْ جَاءَ
بِمِثْلِهِ؟ تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا،
وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا».
قال البخاري: تَابَعَهُ عُبَيْدُاللَّهِ
بْنُ عُمَرَ، عَنْ سُمَيٍّ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ سُمَيٍّ، وَرَجَاءِ بْنِ
حَيْوَةَ.
وَرَوَاهُ جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِالعَزِيزِ
بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن رجب في «فتح الباري» (7/408):
"ومراده - أي البخاري-: المتابعة على إسناده. ورواية عبيدالله بن عمر، هي
التي خرجها في هذا الباب. ورواية ابن عجلان، هي التي خرجها مسلمٌ. ورواية سهيلٍ،
خرجها مسلمٌ - أيضاً - بمثل حديث ابن عجلانٍ، عن سمي، وزاد في الحديث: يقول سهيلٌ:
إحدى عشرة إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثةٌ وثلاثون".
وقال ابن حجر في «فتح الباري» (11/135):
"(قَوْلُهُ: وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ):
وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ سُهَيْلٍ فَسَاقَ
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ
وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، قَالَ سُهَيْلٌ:
إِحْدَى عَشْرَةَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ فَذَلِكَ كُلُّهُ ثَلَاثٌ
وَثَلَاثُونَ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ من رِوَايَة اللَّيْث عَن ابن عَجْلَانَ
عَنْ سُهَيْلٍ بِهَذَا السَّنَدِ بِغَيْرِ قِصَّةٍ وَلَفْظٌ آخَرُ قَالَ فِيهِ:
مَنْ قَالَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً وَثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً وَيَقُولُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يَعْنِي تَمَامَ الْمِائَةِ
غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ
وَجْهٍ آخَرَ عَنَ اللَّيْثِ عَن ابن عَجْلَانَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَزِيدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ
عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ عَلَى سُهَيْلٍ،
وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
فالحديث فيه اختلاف على سهيل!
وفيه بعض الألفاظ التي تفرد بها.
تاسعاً: وأما المثال الآخر الذي
ذكره بأن البخاري أتى بطريق سهيل ليرجح رفع حديث الأعمش عن أبي صالح لمخالفة شعبة
للأعمش فوقفه! فوهم منه! فشعبة لم يخالف الأعمش، بل خالف جريرا، لأن شعبة يرويه عن
الأعمش موقوفاً، وجرير يرويه عن الأعمش مرفوعاً.
والحديث رواه البخاري من حديث جَرِير
بن عبدالحميد، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ
لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ،
فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى
حَاجَتِكُمْ" قَالَ: «فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا» قَالَ: "فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ،
مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ
وَيُمَجِّدُونَكَ" قَالَ: "فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟" قَالَ:
"فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ؟" قَالَ: "فَيَقُولُ:
وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟" قَالَ: "يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا
أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ
تَسْبِيحًا" قَالَ: "يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟" قَالَ: «يَسْأَلُونَكَ
الجَنَّةَ» قَالَ: "يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟" قَالَ:
"يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا" قَالَ: "يَقُولُ:
فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟" قَالَ: "يَقُولُونَ: لَوْ
أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا،
وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟" قَالَ:
"يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ" قَالَ: "يَقُولُ: وَهَلْ
رَأَوْهَا؟" قَالَ: "يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا"
قَالَ: "يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟" قَالَ: "يَقُولُونَ:
لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا
مَخَافَةً" قَالَ: "فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ
لَهُمْ" قَالَ: "يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلاَنٌ
لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى
بِهِمْ جَلِيسُهُمْ".
قال البخاري: "رَوَاهُ
شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قلت: نعم، أشار البخاري لرواية
سهيل عن أبيه لأنها مرفوعة، وهو قد رجّح رواية جرير عن الأعمش المرفوعة، وبيّن أن
شعبة خالفه ووقف الرواية عن الأعمش. ورواية سهيل تقوّي رواية جرير عن الأعمش
المرفوعة.
وقد أخرج مسلم رواية سهيل محتجاً
بها مِنْ حَدِيثِ وَهَيْبٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ قَالَ: فَقَالَ: "قَدْ
أَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا. فَيَقُولُونَ: رَبِّ
فِيهِمْ فُلَانُ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ:
فَيَقُولُ: وَلَهُ قَدْ غَفَرْتُ وهُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ".
ولم يورد مسلم إلا هذا الحديث.
ودعوى هذا (المتعالم) أن مسلماً
ليس عنده طريق الأعمش الذي عند البخاري، لذا لم يورده مع بقية الطرق، ولو كان عنده
لاحتج به أولاً ثم أتى بحديث سهيل، كما فعل مع سمي عن أبي صالح! دعوى من خياله!
ولا دليل عليها! فما أدراك أن طريق الأعمش ليست عنده! وأن لو كانت عنده لذكرها
وقدمها ثم ثنّى بحديث سهيل؟!!
وبهذا يسقط كلامه الأخير: "إن
ترك البخاري لسهيل لا يعني ضعف سهيل ولا تركه! بل لأمور وأسباب تتعلق بمنهجية الإمام
البخاري في صحيحه، لا كما توهمه الأخ الدكتور خالد"!!
فالبخاري تركه لخلطه وتفرداته لا
لأمور وأسباب تتعلق بمنهجيته! فهذا نسج من خيال هذا (المتعالم) الواسع!!
- وقال المْحِمْدِي: "وإن
عجبي لا يكاد ينتهي من قول أخي الدكتور في تفسير كلام حماد بن زيد في بشر بن حرب:
"قلت: الذي يظهر لي أن حماد بن زيد لما قرأ حديث بشر على أيوب، وقال أيوب:
"كأني أسمع حديث نافع"، ففهم حماد بن زيد أن أيوب يطريه، وليس كذلك،
والذي يظهر لي أن أيوب إنما استنكر حديثه، فكأنه كان يأخذ حديث نافع ويحدث به"
أ.هـ كلام د.خالد.
فيا رعاك الله: كيف تخطيء الإمام
حماد بن زيد؟ في حادثة هو شهدها؟! ثم قلت بتوهم حماد وكأنه لا يعرف عبارة شيخه؟
علماً أنه قد جاء ما ينفي عنه هذا التأويل الخاطيء، ففي تاريخ ابن أبي خيثمة:
"قلت ليحيى: كيف حديثه - يريد بشر بن حرب- ؟،
فقال: لم يزل عندي متروكاً حتى بلغني عن أيوب قوله: كأنه سمع حديث نافع".
ولذا نص الذهبي أن حماداً كان يمدحه! ثم ابن حجر يقول: صدوق فيه لين، والذهبي كأنه
يقوي حاله؟" انتهى.
أقول:
أنا لم أخطئ حماد بن زيد ولم
أوهّمه!! ولا أدري كيف يقرأ هذا (المتعالم)! وكيف يفهم الأمور؟!!
هذا ما قلته في البحث:
"وهو - أي بشر بن حرب - متفقٌ
على ضعفه.
قال عبّاس
الدّوري «تاريخ ابن معين» (رواية الدوري) (4/298): حدثنا يحيى، قال: حدثنا عارم،
عن حماد بن زيد، قال: جعلت أُحدِّث أيوب بحديث بشر بن حرب، فقال: "كأني أسمع
حديث نافع"، قال يحيى: "كأنه مدحه".
قلت: يعني
كأن بشر بن حرب سمع حديث نافع؛ لأن ما حدّث به حماد بن زيد أيوبَ من حديثه إنما
يُشبه حديث نافع. فهو هنا على الاحتمال.
ويُفسره ما
جاء في «تاريخ ابن أبي خيثمة» قال: قلت ليحيى: كيف حديثه؟ فقال: "لم يزل عندي
متروكاً، حتى بلغني عن أيوب قوله: كأنه سمع حديث نافع"! [إكمال تهذيب الكمال:
2/392].
فُيحتمل أنه
كان يأخذ حديث نافع عن ابن عمر ويحدّث به عن ابن عمر، أو ما يُنسب لنافع عن ابن
عمر، ولهذا نجد له مناكير عن ابن عمر لم يحدّث بها حتى نافع! فربما ذكر نافعاً في
حديثه وربما أسقطه!
على أنه جاء
في رواية الدوري عن ابن معين: "كأني أسمع" أو "كأنك
تسمع"، يعني أن حديثه موافق لحديث
نافع، أي عن ابن عمر.
قال يعقوب
بن شيبة: حدثني محمد بن إسماعيل، عن أبي داود، قال يحيى بن معين: "بشر بن حرب
كان حماد بن زيد يُطريه، وليس هو كذلك إلى الضعف ما هو".
فهو ضعيف
عند ابن معين، وكان متروكاً عنده حتى بلغه كلام أيوب فيه، فهو ضعيف يُكتب حديثه،
ولا تترك روايته.
وقال الذهبي
في «الميزان» (2/25): "وكان حماد بن زيد يمدحه".
وقول الذهبي
هذا إنما حكاه عن ابن خراش، وابن خراش إنما أخذه من ابن معين، وإلا فالذهبي قال
عنه في «ديوان الضعفاء»: "تابعي لَيِّن".
فكلمة أيوب
لا ترفع من شأن بشر بن حرب على التحقيق، وقد حكى ابن معين إطراء حماد ثم ردَّه
عليه".
فأنا نقلت إطراء حماد بن زيد عليه
وردّ ابن معين لذلك.
ثم أتيت بهذا النص الذي ذكره هذا
(المتعالم) من تاريخ ابن أبي خيثمة، وكذا قول الذهبي وبينته.
ثم نقلت أقوال أهل العلم فيه
ووضحتها.
- وقال المْحِمْدِي: "والأغرب
من هذا قوله - حفظه الله-: ((وأورد له ابن عدي بعض المناكير في ترجمته من "الكامل"
(3/4) ثم قال: "وبشر بن حرب له غير ما ذكرت من الروايات، ولا أعرف في رواياته
حديثا منكراً، وهو عندي لا بأس به)).
وأظن أن هناك سبق قلم من أخي
الدكتور لما قال: (أورد له بعض المناكير) فابن عدي نص (لا أعرف له حديثاً منكراً) وهو
قد نقله بحرفه!
وتنصيص ابن عدي - على تقدمه في
هذا الفن- أن الرجل ليس له ما يستنكر وهو لا بأس به، حجة في استقامة رواياته؟
فالرجل كما نص ابن حجر: صدوق فيه لين فهو ما لم يخالف فحديثه مستقيم!" انتهى.
أقول:
قد بينت في البحث ما قصدت من هذا،
فقلت:
"وقولنا: إن ابن عدي أورد له
بعض المناكير لا يتعارض مع قول ابن عدي في آخر ترجمته: "ولا أعرف في رواياته
حديثاً منكراً، وهو عندي لا بأس به".
فقد يتسرع بعض القرّاء ويظنون
هذا! فأنا لم أقل بأن ابن عدي أنكر عليه جملة من حديثه، وإنما جزَمْتُ بكونه أورد
له مناكير، ولا يلزم من هذا أن ابن عدي يراها كذلك. فهي مناكير عندي لا أرتاب
فيها، ولابن عدي رأيه في أفراد هذا الشيخ، فهو إمام مجتهد لا تثريب عليه، وهذا
رأيه الخاص، ويقابله تنصيص ابن معين وجماعة من الكبار- وهم أقعد بهذا الفن من ابن
عدي بلا ريب- على ضَعْفِ الرجل - أي بشر- جملة واحدة!
وقد تتبعت حديثه عن ابن عمر فوجدت فيه بعض
المناكير والتفردات! وهو بحسب ما يرويه صحب ابن عمر وخرج معه للسوق ولا نشكك في
سماعه منه، لكنه يبدو أنه لم يكن متقناً في الحديث، ولم يحفظ عن ابن عمر، فكأنه
كان يأخذ حديث نافع عن ابن عمر فيحدث عن ابن عمر به مع عدم اتقان له!
وهنا في حديث: «اللهم بَارِكْ لنا في مَدِينَتِنَا،
وفي صَاعِنَا، وَمُدِّنَا»! ولا يُحفظ ذلك عن ابن عمر!
على أن قول ابن عدي عنه: (لا بأس
به)، فكثيرًا ما يُطْلِق تلك العبارة ولا يريد بها أكثر من أن صاحبها صدوقًا في
نفْسِه لا يتعمد الكذب، كما نصَّ عليه المعلمي اليماني في بعض حواشيه على «الفوائد
المجموعة»".
- وقال المْحِمْدِي: "وأعجب
منه - أخي الفاضل- تغليطك أستاذنا العلامة شعيب الأرنؤوط بما لا يغلط فيه، فقلت:
"والخلاصة أن هذا الحديث بهذا الإسناد منكر! والعجب من الشيخ شعيب ورفاقه
يقولون في تعليقهم على "مسند أحمد" (ط الرسالة: 10/244): حديث صحيح،
رجاله ثقات رجال الشيخين غير بشر- وهو ابن حرب الأزدي - فقد روى له النسائي وابن
ماجه، وفيه ضعف، لكن يُعتبر به في المتابعات والشواهد. قلت: قولهم "فيه
ضعف" يوهم أنه يمكن تمشية حديثه وليس كذلك، وإنما هو أقرب إلى الترك، وحديثه
ليس بشيء، فكيف يعتبر بالمتابعات والشواهد"!! قلت: بل الرجل لا بأس به، كما
رجحه ابن عدي، والذهبي وابن حجر وغيرهم" انتهى.
أقول:
أولاً: لم العجب! وقد غضضت الطرف
عن كلامي بعد هذا! وهو:
"بل الأعجب أن ابن حجر لما
قال عنه في «التقريب»: (صدوق فيه لين)، تعقّبه شعيب الأرنؤوط وصاحبه بشار في
«تحرير التقريب» (1/171) فقالا: "بل: ضعيفٌ، ضعَّفه علي ابن المديني، ويحيى
بن معين، ومحمد بن سعد، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، والنسائي، وسليمان بن حرب.
وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال ابن خراش: متروكٌ. وذكره ابن حبان في المجروحين،
وقال: روى عنه الحمادان، وتركه يحيى القطان، وكان ابن مهدي لا يرضاه"!.
فها هو شعيب الأرنؤوط ضعفه ونقل
فيه كلام أهل العلم الذي يدل على أنه شبه متروك! فلم تعاميت عن ذلك؟!
ثانياً: ثم كيف تحكم عليه بأنه لا
بأس به، وهذه أقوال أهل النقد فيه شديدة؟!
وقد بينت لك ما معنى "لا بأس
به" عند ابن عدي، وكذا بينت لك أن الذهبي ليّنه، وابن حجر كذلك ليّنه.
وهذا آخر ما تعقبني به هذا
(المتعالم) وقد رددت على كل كلمة قالها!
وقد تبين للقارئ الكريم أنه لم
يأت بفائدة جديدة واحدة في كلامه! وإنما دلت اعتراضاته على جهله وضعفه في هذا
العلم الشريف!
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ
العالمين.
وكتب: د. خالد الحايك
الحادي والعشرون من شهر الله
المحرّم لسنة 1441هـ.
شاركنا تعليقك