«الضّياءُ الشَّمسِي» في عِلّة الحَديث القُدسي: «يا عِبادي، إِنّي
حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»!
الحمد لله ربّ
العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإنّ الحديث
القدسي في «تحريم الله سبحانه الظلم على نفسه» من الأحاديث المشهورة، وقد أخرجه
الإمام مسلم في «صحيحه»، وغيره من أصحاب الكتب المسندة.
وكنت أثناء
مراجعة بعض المسائل المتعلقة بأحاديث أبي قِلابة وقفت على هذا الحديث، فنظرت في
مجموع طرق الحديث، ثم تبيّن لي أن الحديث فيه علّة!! ففتح الله علينا بهذا. فالحمد
لله على توفيقه.
·
تخريج الحديث:
روى الحديث
أَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُالْأَعْلَى بنِ مُسْهِرٍ الغَسَّانِيُّ، ومَرْوَانُ بن
مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيّ، كلاهما عن سَعِيد بن عَبْدِالعَزِيزِ التّنوخيِّ،
عَنْ رَبِيعَةَ بنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي
ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى
عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ
الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا،
يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي
أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ،
فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ،
فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ
لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ
تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ
وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ
وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ
رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ
فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ
مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا
عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ
إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ
ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».
قالَ سَعِيدٌ:
"كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيُّ، إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الحَدِيثِ،
جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ".
أما حديث أَبي
مُسْهِرٍ فهو في «نسخته» (1).
ورواه عنه:
أبو زُرعة الدمشقي في «الفوائد المعللة» (5).
والبخاري في «الأدب
المفرد» (490).
ومسلم في «صحيحه»
(4/1995) (2577) عن أَبي بَكْرِ محمد بن إِسْحَاقَ الصاغاني.
والبزار في «مسنده»
(9/441) (4053) عن إِبْرَاهِيم بن هَانِىءٍ.
وابن خزيمة في
«التوحيد» (1/21) عن مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهليّ.
والخرائطي في «مساوىء
الأخلاق» (604)، وابن الأعرابي في «معجمه» (1222) عن عَبَّاس بن عبدالله
التَّرْقُفِيّ.
وابن حبان في «صحيحه»
(2/385) (619) عن مُحَمَّد بن مَحْمُودِ بنِ عَدِيٍّ، عن حُميد بن زَنْجُوَيْهِ.
وأبو عوانة في
«مستخرجه» [ط الجامعة الإسلامية] (19/405) (11246) عن يزيد بن محمد بن عبدالصمد
الدمشقي، وعبيد بن يزيد بن عبدالله الكريزي الدمشقي، وعلي بن عثمان النفيلي
الحراني، وأبي العباس عبدالله بن محمد الغزي، ومحمد بن عبدالله بن عبدالحكم.
والطبراني في «مسند
الشاميين» (1/192) (338)، وفي «الدعاء» (14) عن أَبي زُرْعَةَ، وأَحْمَد بن مُحَمَّدِ
بنِ يَحْيَى بنِ حَمْزَةَ.
والحاكم في «المستدرك»
(4/269) (7606) عن أَبي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيم بن فِرَاسٍ المَكِّيّ الفَقِيه، عن يَزِيد
بن عَبْدِالصَّمَدِ الدِّمَشْقِيّ.
والبيهقي في «الآداب»
(847)، وفي «الأسماء والصفات» (1/533) (459)، وفي «شعب الإيمان» (9/300) (6686) عن
أَبي عَبْدِاللَّهِ الحَافِظ، عن أَبي جَعْفَرٍ أَحْمَد بن عُبَيْدٍ الحَافِظ، عن
إِبْرَاهِيم بن الحُسَيْنِ.
وابن عساكر في
«معجمه» (2/701) من طريق أبي بكر عبدالرحمن بن القاسم بن الفرج بن عبدالواحد
الهاشمي [راوي نسخة أبي مُسهر].
وأَبُو
إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُفْيَان النَّيْسَابُوْرِيُّ - راوي
صحيح مسلم - في «زياداته على صحيح مسلم» عن الحَسَن، والحُسَيْن، ابْني بِشْرٍ،
وَمُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي.
كلهم (أبو
زرعة الدمشقي، والبخاري، وأبو بكر بن إسحاق، وإبراهيم بن هانىء، والذهلي،
والترقفي، وابن زنجويه، ويزيد بن عبدالصمد، وعبيد بن يزيد، وعليّ النفيلي، وأبو
العباس الغزي، وابن عبدالحكم، وأحمد بن يحيى، وإبراهيم بن الحسين، وعبدالرحمن
الهاشمي، والحسن والحسين ابني بشر) عن أبي مُسهر، به.
وأما حديث مَرْوَان
بن مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيّ فأخرجه مسلم في «صحيحه» (4/1994) (2577) عن عَبْداللهِ بن
عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ بَهْرَامَ الدَّارِمِيّ.
والبغوي في «شرح
السنة» (5/73) (1291) من طريق أَبي يَزِيدَ حَاتِم بن مَحْبُوبٍ السَّامِيّ، عن
سَلَمَة بن شَبِيبٍ.
كلاهما عن
مَرْوَان بن محمد الدمشقي، به.
· حكم
أهل العلم على الحديث:
صححه مسلم،
وابن حبان، والحاكم، وغيرهم.
قال أبو نُعيم
في «الحلية» (5/126): "صَحِيحٌ ثَابِتٌ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ".
وقال الخطيب
البغدادي في «المهروانيات» (2/911): "هذا حديثٌ صحيح مِنْ حَدِيثِ أَبي
إدْريس الخَوْلانيّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَاريّ، وَمِنْ حَدِيثِ رَبِيْعة بْنِ
يَزيد عَنْ أَبي إِدْرِيسَ، وَرِجَالُ إِسناده مَا بين أَبي ذرّ، وَعَبّاس
التَّرْقُفيّ كلُّهم شاميُّون. انْفَرَدَ مسلمٌ بإِخراجه فِي كِتَابِهِ".
وقال الحاكم:
"هذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ولَمْ يُخَرِّجَاهُ
بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ".
وقال ابن
عساكر في «الأربعون البلدانية» (ص: 39): "وهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ... انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِهِ
فِي صَحِيحِهِ... ورِجَالُ إِسْنَادِهِ كُلُّهُمْ دِمَشْقِيُّونَ إِلَى أَبِي
ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ".
وقال البزار:
"وهَذَا الكَلَامُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ".
وقيل: قال
أَبُو مُسْهِرٍ: "لَيْسَ لأَهْلِ الشَّامِ أَشْرَفُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ".
وقيل أن
الإمام أحمد قال: "هو أشرف حديث لأهل الشام".
وقال العلائي:
"هذَا حَدِيثٌ جَلِيلٌ، شَامِيٌّ".
·
تنبيه:
جاء في الموسوعة
الشاملة من «الفوائد المعللة» لأبي زرعة الدمشقي (ص: 79) بعد أن روى الحديث، وعلّق
عليه - كما سيأتي بيانه -: "صحيح أخرجه مسلم عن محمد بن إسحاق الصغاني عن أبي
مسهر الغساني الدمشقي عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَبْدِالرحمن الدارمي عن مروان
كلاهما عن سعيد بن عبدالعزيز".
هكذا أدخل
أصحاب الموسوعات الحاسوبية هذا النص وكأنه في أصل الكتاب من كلام أبي زرعة! وإنما
هو من كلام محقق الكتاب! فليتنبه!!
وقال ابن رجب
في «جامع العلوم» (2/33): "هذا الحديث خرّجه مسلم من رواية سعيد بن عبدالعزيز
عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر، وفي آخره: قال سعيد بن عبدالعزيز:
كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. وخرّجه مسلم أيضا من
رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم،
ولم يسقه بلفظه، ولكنه قال: وساق الحديث بنحو سياق أبي إدريس، وحديث أبي إدريس
أتم. وخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من رواية شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن
غنم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا
عبادي، كلكم ضال إلا من هديت، فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني
أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيت، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة
واستغفرني، غفرت له ولا أبالي، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم
اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة، ولو أن أولكم
وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما
بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر
بالبحر، فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه، ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد،
عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون»، وهذا
لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن. وخرّجه الطبراني بمعناه من حديث أبي موسى الأشعري عن
النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن إسناده ضعيف".
قلت: هكذا
تفرد به سَعِيد بن عَبْدِالعَزِيزِ التّنوخيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بنِ يَزِيدَ،
عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرّ !!!
وهذا التفرد
غريب جداً في هذه الطبقة!!!
وللحديث طرق
أخرى عن أبي ذر، سأذكرها ثم نتكلم عنه إن شاء الله.
·
طريق شاميّ آخر للحديث عن أبي
ذر!!
ورُوي هذا
الحديث من طريق ثان عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ الأشعري الشاميّ، عَنْ
أَبِي ذَرٍّ.
رواه شَهْرُ
بنُ حَوْشَبٍ الأشعريّ الشاميّ الحمصيّ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ، عَنْ
أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ،
فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، وَمَنْ عَلِمَ أَنِّي أَقْدِرُ عَلَى
الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي بِقُدْرَتِي غَفَرْتُ لَهُ، وَلَا أُبَالِي،
وَكُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ،
وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ، فَاسْأَلُونِي أُغْنِكُمْ. وَلَوْ
أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ
وَيَابِسَكُمْ، اجْتَمَعُوا عَلَى أَشْقَى قَلْبٍ مِنْ قُلُوبِ عِبَادِي، مَا
نَقَصَ فِي مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ
عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي، مَا زَادَ فِي مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَلَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ،
اجْتَمَعُوا، فَسَأَلَنِي كُلُّ سَائِلٍ مِنْهُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ،
فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْهُمْ مَا سَأَلَ، مَا نَقَصَنِي، كَمَا لَوْ أَنَّ
أَحَدَكُمْ مَرَّ بِشَفَةِ الْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ انْتَزَعَهَا،
كَذَلِكَ لَا يَنْقُصُ مِنْ مُلْكِي، ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ صَمَدٌ،
عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ
لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ».
أخرجه أحمد في
«مسنده» (35/294) (21367) عن عَمَّار بن مُحَمَّدِ ابْنِ أُخْتِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ.
وابن أبي شيبة
في «مصنفه» (6/72) (29557) عن عبدالرحمن
بن محمد المحاربي.
وأخرجه الضبّي
في «الدعاء» (130) عن محمد بنِ فُضَيْل بن غزوان.
وأخرجه البزار
في «مسنده» (9/439) (4051) عن يُوسُف بن مُوسَى، عن جَرِير بن عبدالحميد.
وهناد بن
السري في «الزهد» (2/456) عن أَبي الْأَحْوَصِ سلام بن سُليم.
ورواه الترمذي
في «جامعه» (4/238) (2495) عن هَنَّاد.
وأخرجه أبو
عوانة في «مستخرجه - البر والصلة» (11255) [وكما في إتحاف المهرة لابن حجر (14/164)]
عن أبي أمية ويعقوب بن سفيان، كلاهما عن عبيدالله بن موسى، عن شيبان.
وعن تمتام، عن
الحسن بن بشر، عن عمّار بن محمد.
وعن محمد بن
محمد بن رجاء، عن علي بن المديني، عن جرير.
كلهم (عمار بن
محمد، والمحاربي، وابن فضيل، وجرير، وأبو الأحوص، وشيبان) عنْ لَيْثِ بنِ
أَبِي سُلَيْمٍ الكوفيّ.
وأخرجه أحمد
في «مسنده» (35/428) (21540) عن ابن نُمَيْرٍ.
وأخرجه الضبّي
في «الدعاء» (130) عن محمد بنِ فُضَيْل بن غزوان.
وأخرجه البزار
في «مسنده» (9/439) (4051) عن مُحَمَّد بن مَعْمَرٍ، عن يَعْلَى بن عُبَيْدٍ
الطنافسيّ.
وابن ماجه في «سننه»
(5/325) (4257) عن عَبْداللَّهِ بن سَعِيدٍ، عن عَبْدَة بن سُلَيْمَانَ.
وأخرجه أبو
عوانة في «مستحرجه - البر والصلة» (11247) [وكما في إتحاف المهرة لابن حجر (14/164)]
عن محمد بن مسلم بن وارة، عن محمد بن سعيد بن سابق، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور
بن المعتمر.
وعن أبي داود
الحراني، عن يعلى بن عُبيد.
وعن عمار بن
رجاء، عن محمد بن عُبيد الطنافسيّ.
وعن يعقوب بن
سفيان، عن أيوب بن محمد، عن سعيد بن مسلمة، عن الأعمش.
وعن أبي أمية،
عن محمد بن يزيد بن سنان، عن يزيد، عن زيد بن أبي أُنَيْسة.
وأخرجه
البيهقي في «شعب الإيمان» (9/302) (6687) من طريق أَحْمَد بن حَفْصِ بنِ
عَبْدِاللهِ، عن أَبِيه، عن إِبْرَاهِيم بن طَهْمَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ.
كلهم (ابن
نُمير، وابن فُضيل، ويعلى، وعَبدة، ومنصور، ومحمد بن عبيد، والأعمش، وزيد بن أبي
أنيسة) عن أَبي جَعْفَرٍ مُوسَى بن المُسَيَّبِ الثَّقَفِيَّ الكوفيّ.
وأخرجه أحمد
في «مسنده» (35/296) (21368) عن هَاشِم بن القَاسِمِ.
وأخرجه أبو
عوانة في «مستحرجه - البر والصلة» (11254) [وكما في إتحاف المهرة لابن حجر (14/164)]
عن محمد بن حيويه ويزيد بن سنان، قالا عن أبي صالح.
وعن محمد بن
محمد بن رجاء، عن منصور بن أبي مزاحم.
ثلاثتهم
(هاشم، وأبو صالح، ومنصور بن أبي مزاحم) عن عَبْدالحَمِيدِ بن بَهْرَام
المدائني.
وأخرجه أبو
عوانة في «مستحرجه - البر والصلة» (11256) [وكما في إتحاف المهرة لابن حجر (14/164)]
عن الزعفراني، عن عفان، عن مهدي بن ميمون، عن غيلان بن جرير البصري.
أربعتهم (ليث
بن أبي سُليم، وموسى بن المسيب، وعبدالحميد بن بَهرام، وغيلان بن جرير) عنْ شَهْرِ
بنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، به، بنحوه.
وأخرجه أبو
عوانة في «مستخرجه» (11252) عن محمد بن محمد بن رجاء، عن علي بن المديني، قال: حدثنا
عفان بن مسلم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا علي بن زيد، عن شهر بن
حوشب، عن تبيع، قال: إن في التوراة مكتوب يا عبادي كلكم مذنب إلا من غفرت له...
وذكر الحديث.
قال عليّ:
فحدثني سنان بن الحارث، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله بنحوه.
قال علي: "أظن
هذين الحديثين رواهما شهر؛ لأن ألفاظهما مختلفة".
·
تحسين الترمذي للحديث!
وقال الترمذي:
"هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ شَهْرِ بنِ
حَوْشَبٍ، عَنْ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ".
قال البزار:
"وهَذَا الحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ عَنْ شَهْرٍ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ، عَنْ
أَبِي ذَرٍّ غَيْرُ وَاحِدٍ".
وقال البيهقي:
"هَذَا حَدِيثٌ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ".
·
هل روى سيّار أبو الحكم الحديث عن
شهر؟!
وقال المزي في
«تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف» (9/179): "ورواه سيّار أبو الحكم
وغير واحد عن شهر بن حوشب".
قال ابن أبي
حاتم في «العلل» (5/172) (1896): وسمعتُ أَبِي: وحدَّثنا عَنْ هلالِ بْنِ العلاءِ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيدالله بن عَمرو، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيسةَ، عَنْ
سَيَّارٍ أَبِي الْحَكَمِ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عبد الرحمن بْنِ
غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذرٍّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ
اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: عِبَادِي، كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلاَّ مَنْ
عَافَيْتُ...»، وَذَكَرَ الحديثَ بطولِهِ.
قَالَ أَبِي: "حدَّثنا
مُحَمَّدُ بْنِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْدٍ - يَعْنِي: ابنَ
أَبِي أُنَيْسةَ - عَنْ مُوسَى بْنِ المُسَيّب، عن شَهْرٍ، عن عبدالرحمن بْنِ
غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذرٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وهو أَشبهُ".
قلت: فلا يصح
أن سيّارا أبا الحكم رواه عن شهر. وما جاء في رواية أنه رواه عنه إنما هو إسناد
معلول كما بيّن أبو حاتم الرازي.
·
عرض الدارقطني للاختلاف في أسانيد
الحديث على أصحاب شهر!
وَسُئِلَ الدارقطني
في «العلل» (6/249) (1110) عَنْ حَدِيثِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، عَنْ
أَبِي ذَرٍّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ
اللَّهُ: «كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ... الحَدِيثَ»؟.
فقالَ: "يَرْوِيهِ
شَهْرُ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ غنم.
حَدَّثَ بِهِ:
عَبْدُالحَمِيدِ بنُ بهْرَامٍ، ولَيْثُ بنُ أَبِي سُلَيْمٍ، ومُوسَى بنُ المُسَيَّبِ،
وَسَيَّارٌ أبو الْحَكَمِ، عَنْ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ.
واخْتُلِفَ
عَنْ موسى بن المسيب، فرواه عنه مَنْصُورِ بنِ المُعْتَمِرِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ
حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مُسْنَدًا.
وَكَذَلِكَ
رَوَاهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ شَهْرٍ،
قَالَهُ الْأَشَجُّ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بن عثمان، وإنما هو ابن غنم.
وَقَالَ
حُصَيْنٌ عَنْ مُوسَى بْنِ الْمُسَيَّبِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْقُوفًا.
وَاخْتُلِفَ
عَنِ الْأَعْمَشِ، فَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
طَهْمَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ شَهْرٍ.
وَرَوَاهُ
إِدْرِيسُ الْأَوْدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ شَهْرٍ، لَمْ يَذْكُرَا
فِيهِ مُوسَى بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ الْأَعْمَشُ مِنْ شَهْرٍ.
وَالصَّوَابُ
قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
شَهْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتُلِفَ
عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، فَرَوَاهُ شَيْبَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرٍ.
وَخَالَفَهُ
أَبُو عِصْمَةَ نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، فَرَوَاهُ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُوسَى
بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ شَهْرٍ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ
ذِكْرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِمَحْفُوظٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" انتهى.
فالحديث رواه
جماعة عنْ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي
ذَرٍّ.
وقال المزي في
«التحفة» (9/179): "ورواه عامر الأحول، عن شهر، عن معدي كرب، عن أبي ذر بلفظ
آخر: يا ابن آدم! متى ما دعوتني ورجوتني".
ورُوي عن شهر،
عن تُبيعٍ ابن امرأة كعب الأحبار من قوله!
قال ابن أبي
حاتم في «العلل» (5/64) (1804): وسألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ
مُوسَى بن المُسَيّب الثَّقَفي، عَنْ شَهْر بنِ حَوْشَب، عن عبدالرحمن بنِ غَنْم،
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللهُ عَزَّ
وجَلَّ: يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ...، وذَكَرَ الحديثَ؟
فقالا: "رَوَاهُ
حمَّاد بنُ سَلَمة، عَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، عَنْ شَهْر بنِ حَوْشَب، عَنْ
تُبَيْعٍ، قولَهُ".
قالَا: "فكأنَّ
هَذَا يَدْفَعُ ذَاكَ".
قلت: هذه
إشارة إلى أن رواية علي بن زيد بن جدعان البصري - وإن كان ليس بالقوي- عن شهر عن
تُبيع الحِميري ابن امرأة كعب الأحبار تُعلّ الرواية المرفوعة عن شهر.
والظاهر أن
هذا الحديث كان يضطرب فيه شهر بن حوشب (ت112هـ)، وهو شامي عابد ناسك، قدم العراق
على الحجاج، وحّدث بهذا الحديث في العراق، فرواه عنه أهلها.
والظاهر أنه
لم يرو هذا الحديث في الشام، أو ربما رواه لكن لم نجد من يرويه عنه لأنه في الأصل
من كلام تُبيع الحميري، وعادة لا يعتني طلبة العلم كثيراً بأقوال غير النبي صلى
الله عليه وسلم وخاصة في زمن التابعين.
وشهر مشّاه
بعض أهل العلم، وضعّفه آخرون، وهو كثير الإرسال والأوهام، ولا يُحتج بحديثه إذا
انفرد به، لكن يُستفاد من حديثه فهو واسع الرواية! وسنرجع لروايته إن شاء الله عند
تحقيق علّة الحديث.
وليس في حديث
شهر: «يا عبادي إنّي حرمت الظلم على نفسي»!
·
طريق ثالث للحديث عن أبي ذر أصله
شاميّ!
·
حديث أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي
أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ:
والحديث رواه هَمَّامُ
بنُ يَحْيَى العوذيّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ
الرَّحَبِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: «إِنِّي حَرَّمْتُ
الظُّلْمَ يَا عِبَادِي عَلَى نَفْسِي أَلَا فَلَا تَظَالَمُوا، كُلُّ ابْنِ آدَمَ
يُخْطِئُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأَغْفِرُ لَهُ وَلَا
أُبَالِي، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ كَانَ ضَالًّا إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ،
وَكُلُّكُمْ كَانَ عَارِيًا إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، وَكُلُّكُمْ كَانَ جَائِعًا
إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، وَكُلُّكُمْ كَانَ ظَمْآنًا إِلَّا مَنْ سَقَيْتُهُ،
فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، وَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، وَاسْتَطْعِمُونِي
أُطْعِمْكُمْ، وَاسْتَسْقُونِي أَسْقِكُمْ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ
وَآخِرَكُمْ، وَجِنَّكُمْ وَإِنْسَكُمْ، وَذَكَرَكُمْ وَأُنْثَاكُمْ،
وَصَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ، وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ عَلَى قَلْبِ أَتْقَاكُمْ
رَجُلًا وَاحِدًا لَمْ يَزِيدُوا فِي مُلْكِي شَيْئًا، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ
وَآخِرَكُمْ، وَجِنَّكُمْ وَإِنْسَكُمْ، وَذَكَرَكُمْ وَأُنْثَاكُمْ،
وَصَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ، عَلَى قَلْبِ أَكْفَرِكُمْ رَجُلًا لَمْ يَنْقُصْ
فِي مُلْكِي شَيْئًا، إِلَّا مَا يَنْقُصُ رَأْسُ المِخْيَطِ مِنَ البَحْرِ».
أخرجه أبو
داود الطيالسي في «مسنده» (465).
ومسلم في «صحيحه»
(4/1995) (55) عن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ، ومُحَمَّد بن المُثَنَّى، كِلَاهُمَا
عَنْ عَبْدِالصَّمَدِ بنِ عَبْدِالوَارِثِ.
وابن خزيمة في
«التوحيد» (1 21) عن أَبي مُوسَى محمد بن المثنى، عن عَبْدالصَّمَدِ.
والخرائطي في «مساوئ
الأخلاق» (607) عن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيلَ أَبي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيّ، عن عَبْداللَّهِ
بن رَجَاءٍ.
والبيهقي في «القضاء
والقدر» (380) من طريق عَبْداللَّهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ
المَدِينِيّ، عن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيّ، عَبْدالصَّمَدِ بن
عَبْدِالوَارِثِ.
ثلاثتهم
(الطيالسي، وعبدالصمد، وعبدالله بن رجاء) عن هَمَّام، به. وسَاقوا الحَدِيثَ
بِنَحْوِهِ، إلا البيهقي فساقه بطوله.
·
رواية قتادة عن أبي قلابة!
قلت: كذا رواه
همام بن يحيى العوذي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي
أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ!
وقتادة لم
يسمع من أبي قلابة!
قال يحيى بن
معين: قال ابن علية عن أيوب، قال: "لم يسمع قتادة من أبي قلابة شيئا، إنما
وقعت كتب أبي قلابة إليه، ومات أبو قلابة بالشام".
وقال الدوري
عن ابن معين: "لم يسمع قتادة من أبي قلابة، إنما حدّث عن صحيفة أبي قلابة".
وقال أَحْمَدُ
بنُ حَنْبَلٍ: "لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي قِلَابَةَ شَيْئًا
إِنَّمَا بَلَغَهُ عَنْهُ".
وقال أبو
حاتم: "وقتادةُ يُقال: لم يَسْمَعْ من أَبِي قِلابة إِلا أحرفًا؛ فإنه وقع
إِلَيْهِ كتابٌ مِنْ كتبِ أَبِي قِلابة".
وقال أبو حفص
الفلّاس: "لم يسمع قتادة من أبي قلابة".
قلت: وإنما
أخرج مسلم حديث قتادة هذا في «صحيحه» في باب المتابعات، ولهذا لم يسق لفظه.
·
تفرد همام العوذي والكلام في
حفظه! والاختلاف في الإسناد!
والحديث تفرد
به همام بن يحيى العوذي عن قتادة عن أبي قلابة بهذا الإسناد!!
وقد خُولف
قتادة فيه!
خالفه أيوب
السختياني فرواه عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، ولم يذكر: "أبا
أسماء الرحبيّ"، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم!
رواه مَعمر في
«جامعه» [المطبوع مع مصنف عبدالرزاق] (11/182) (20272) عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي
قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ: يَا عِبَادِي إِنِّي
حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا
تَظْلِمُوا الْعِبَادَ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ فَاسْتَغْفِرُونِي فَإِنِّي أَغْفِرُ لَكُمُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
وَلَا أُبَالِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَجِنَّكُمْ
وَإِنْسَكُمْ، وَصَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ، كَانُوا عَلَى قَلْبِ أفْجرِكُمْ لَمْ
يُنْقِصْ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ،
وَجِنَّكُمْ وَإِنْسَكُمْ، وَصَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ، سَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ
لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ لَمْ يُنْقِصْ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي
شَيْئًا، كَرَأْسِ الْمِخْيَطِ يُغْمَسُ فِي البَحْرِ».
وهذا أصحّ من
حديث قتادة عن أبي قلابة! وأيوب أوثق الناس في أبي قلابة.
والوهم في
زيادة "أبي أسماء"، وزيادة رفعه إما يكون من قتادة؛ لأنه لم يسمع من أبي
قلابة، وإنما حدّث من كتاب وقع له، وعادة التحديث من كتاب ما دون سماعه أو السماع
من صاحبه يقع فيه الوهم والخطأ!!
أو يكون الخطأ
من همام العوذي، فإنه كان يُحدّث من حفظه فيخطئ كما قال هو نفسه لتلميذه عفّان.
قال عَمْرُو
بنُ عَلِيٍّ الفلاس: "كَانَ يَحْيَى لَا يُحَدِّثُ عَنْ هَمَّامٍ، وَكَانَ
عَبْدُالرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْهُ".
وقال عَمْرُو
بنُ عَلِيٍّ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَرْعَرَةَ، قَالَ لِيَحْيَى: حَدَّثَنَا
عَفَّانُ، عَنْ هَمَّامٍ! قالَ: "اسْكُتْ وَيْلَكَ".
وقال الإمام أَحْمَد:
"لَمْ يَرْوِ يَحْيَى عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى شَيْئًا".
وقال عَبْدُاللَّهِ
بنُ أَحْمَد: سَمِعْتُ أَبِي وَذُكِرَ هَمَّام، فَقَالَ: "كَانَ يَحْيَى
يُنْكِرُ عَلَى هَمَّامٍ أَنْ يَزِيدَ فِي الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ
وَافَقَهُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ".
وقال الحَسَنُ
بن عليّ الحلواني: سَمِعْتُ عَفَّانَ قَالَ: "فَكَانَ هَمَّامٌ لَا يَكَادُ
يَرْجِعُ إِلَى كِتَابِهِ، ولَا يَنْظُرُ فِيهِ، وَكَانَ يُخَالَفُ فَلَا يَرْجِعُ
إِلَى كِتَابِهِ، وَكَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ بَعْدُ فَنَظَرَ
فِي كُتُبِهِ، فَقَالَ: يَا عَفَّانُ، كُنَّا نُخْطِئُ كَثِيرًا، فَنَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ".
وقَالَ أَبُو
حَاتِمٍ: "هَمَّامٌ ثِقَةٌ، فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ".
فالظاهر أن
الزيادة في هذا الإسناد من همام، زاد فيه: "عن أبي أسماء الرحبي"!! فسلك
الجادة! ورفعه!
ورواية
أيوب أصح عن أبي قلابة دون هذه الزيادة.
·
رواية أبي قِلابة عن أبي ذر!
لكن أبا قلابة
لم يسمع من أبي ذر! فروايته مرسلة = منقطعة! والحديث موقوف ليس بمرفوع، ففيه
علتان: الانقطاع، والوقف!
وقد نصّ أهل
النقد على أن أبا قلابة لم يسمع من عائشة، ولا من معاوية، ولا من ابن عمر، وهذه
الطبقة، ولم يدرك الطبقة التي قبلها وهي التي فيها مات "أبو ذر" (ت
32هـ).
وولد بالبصرة،
ثم قدم الشام ومات فيها ما بين سنة (104 - 107هـ)، وترك حمل بغل كتبا، وأوصى بها
لأيوب السختياني، وحُملت إليه من الشام للبصرة.
وقَال ابن عون:
ذكر أيوب لمحمد بن سيرين حَدِيث أَبِي قلابة، فَقَالَ: "أَبُو قلابة إِن شاء
اللَّه ثقة، رجل صَالِح، ولكن عمّن ذكره أبو قلابة".
قلت: وذلك لأن
في حديثه مراسيل!
وكان أيوب سمع
منه بالبصرة، وكان يُحدّث من كتبه.
·
التحديث من كتب أبي قلابة!
وكان يُقرأ
على أيوب من كتب أبي قلابة، ويُعرض عليه الأحاديث منها، ومن ذلك:
1- عرض الحديث
على أيوب وتصريحه بأنه سمعه من أبي قلابة:
روى الروياني
في «مسنده» (1/413) (635) قال: أخبرنا ابنُ إِسْحَاقَ، قال: حدثنا عَبْدُاللَّهِ
بْنُ بَكْرٍ، قال: حدثنا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: قَرَأْتُ فِي
كِتَابِ أَبِي قِلَابَةَ، فَعَرَضْتُهُ عَلَى أَيُّوبَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ
مِنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، أَنَّ
ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا: «إنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ حَتَّى
رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَأَعْطَانِي الْكَنْزَيْنِ: الْأَحْمَرَ
وَالْأَبْيَضَ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا،
وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلَكُوا بِسَنَةٍ».
2- القراءة
على أيوب من هذه الكتب والإقرار بذلك:
روى البخاري
في «صحيحه» (7/128) (5719) قال: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ،
قَالَ: قُرِيءَ عَلَى أَيُّوبَ، مِنْ كُتُبِ أَبِي قِلاَبَةَ، - مِنْهُ مَا
حَدَّثَ بِهِ وَمِنْهُ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا فِي الكِتَابِ -
عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَأَنَسَ بْنَ النَّضْرِ كَوَيَاهُ، وَكَوَاهُ
أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ، وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأَنْصَارِ أَنْ يَرْقُوا
مِنَ الحُمَةِ وَالأُذُنِ» قَالَ أَنَسٌ: «كُوِيتُ مِنْ ذَاتِ الجَنْبِ، وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ، وَشَهِدَنِي أَبُو طَلْحَةَ
وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ كَوَانِي».
وحديث أبي
قلابة عن الشاميين يحتاج الحذر فيه؛ لأن ما يُروى عنه عن الشاميين من كتبه!
ولهذا احتاط
الإمام البخاري فلم يُخرّج من حديث أيوب عن أبي قلابة من حديث الشاميين شيئا!!! وأكثر
من حديثه عن أنس، خرّج له عنه أكثر من (40) حديثاً.
وأما مسلم فخرّج
له بعض الأحاديث عن الشاميين وفيها بعض العلل!! وتحتاج لدراسة منفصلة.
·
أصل الحديث في الشام!
وهذا الحديث
القدسي من حديث الشاميين:
رواه سَعِيد
بن عَبْدِالعَزِيزِ التّنوخيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ
الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرّ، مرفوعاً.
ورواه جماعة عنْ
شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
ورواه عامر
الأحول، عن شهر، عن معدي كرب، عن أبي ذر، بلفظ مختلف!
ورواه علي بن
زيد بن جُدعان، عن شهر، عن تُبيعٍ ابن امرأة كعب الأحبار من قوله!
ورواه: أَيُّوب
السختياني، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، موقوفاً.
فالحديث مروي
عن أبي ذر في الشام منقطعاً موقوفاً، ومتصلاً مرفوعاً!!
واختلف على
شهر فيه، والظاهر أن الاختلاف منه.
أما المنقطع =
المرسل الموقوف فهو مما رواه أبو قلابة في الشام، والمتصل المرفوع فقد تفرد به
سعيد بن عبدالعزيز التنوخي (ت 167هـ) به!! ولم يُتابعه أحد عليه!
وتفرده في تلك
الطبقة غريب جداً!! لم يروه عن أبي ذر إلا أبا إدريس! ولم يروه عن أبي إدريس إلا
ربيعة! ولم يروه عن ربيعة إلا سعيد!!!
والقاعدة أن
الحديث إذا كان فيه تفرد في طبقة متأخرة، وله أصل مرسل أو موقوف صحيح قبله فإن هذا
يكون أصله! فيكون دخل على الراوي الذي تفرد به حديث في حديث أو سلك الجادة ونحو
ذلك!
وسعيد بن
عبدالعزيز التنوخيّ فقيه ثقة، لكنه اختلط في آخر عمره، ولم يكن له كتاب، وعلمه كان
في صدره، ولم يخرِّج له البخاري في الصحيح، وأخرج له الإمام مسلم.
قال أبو مسهر:
سمعت سعيد بن عبدالعزيز يقول: "ما كتبت حديثاً قط ".
وكان سعيد عَسراً
في الحديث!
وكان يقول في
الذين يضعون الأحاديث عند غير أهلها: "وقع العلم عند الحمقى".
ومن كان عنده
عسر في الحديث يؤثر على حفظه؛ لأنه لا يحدّث به باستمرار ولا يراجع محفوظه!! وهذا
من سلبيات التعسر في الحديث.
ولم ينشط عبدالعزيز
في التحديث إلا لما قَدِم الليث بن سعد الشام فجالسه فنشط فحدّث ففرح أهل الشام
بذلك.
وقد وجدت له
بعض التفردات والاضطراب في حديثه! كما بينته مفصلا في بحثي الموسوم بـ "القول
الحسن حول حديث: «إِنَّكُمْ سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا فَجُنْدًا بِالشَّامِ،
وَجُنْدًا بِالعِرَاقِ، وَجُنْدًا بِاليَمَن».
وكان - رحمه
الله - يضطرب في ذلك الحديث، ومن الوجوه التي كان يروي الحديث بها: "عن ربيعة
بن يزيد، عن أبي إدريس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستجندون
أجنادا...»".
فقد يكون الحديث عنده مرسلاً، ويُحدّث به
بِجادّة يروي بها أحاديث أخرى!
فأصل حديث أبي
ذر من مراسيل الشاميين، وحديث أيوب يُعلّ حديث سعيد بن عبدالعزيز!
ومما يؤيد وهم
سعيد فيه: أنّ أبا زرعة الدمشقي ساق الحديث عن أبي مسهر في «الفوائد المعللة» (ص:
79)، ثم قال: "قالوا لأبي مُسهر: إنّ الوليد بن مسلم لا يرفعه! فأثبت رفعه،
وجعل يتعجب".
فهنا لما حدّث
أبو مُسهر بهذا الحديث عن سعيد بن عبدالعزيز مُسنداً، قال أهل الحديث ممن حوله من
أصحابه: إن الوليد بن مسلم يُحدث به عن سعيد بن عبدالعزيز - وهو شيخه - ولا يرفعه،
أي هو يخالفك في إسناده! فبقي على تحديثه كما سمعه بالرفع، وتعجب من مخالفة الوليد
له في وقفه!!
وهذا الفعل من
أبي مسهر لا يعني تصحيح الحديث، بل غاية ما فيه أنه رواه كما سمعه وثبت على ذلك،
فالراوي إذا خالفه قرينه وهو يعلم أنه سمعه هكذا فيثبت على تحديثه كما سمعه،
وتعجبه من مخالفة الوليد له ووقف الحديث فيها دلالة على أنه ربما شيخه لم يضبط
الحديث سيما وهو يقول عنه إنه اختلط كما سيأتي بيانه!
فالاختلاف في
إسناد هذا الحديث بين أبي مسهر والوليد من الشيخ نفسه!
وإيراد أبي
زرعة لهذا الحديث وما نقله من مخالفة الوليد لأبي مسهر في إسناده دليل على اضطراب
سعيد فيه!
ورواية الوليد
الموقوفة ترجح على الرواية المرفوعة إذ رواية أبي قلابة عن أبي ذر موقوفة أيضاً.
وقد نقل المزي
في «تحفة الأشراف» (9/179) عندما خرّج شهر المتقدم قال: "قال علي بن المديني:
وحدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ذر، قال: قال الله
تعالى: إنِّي حرَّمت الظلم على نفسي".
فهذا الذي
نقله المزي عن ابن المديني لا شك أنه نقله من كتابه في العلل، وكأنه يُرجح صواب
رواية أبي قلابة عن أبي ذر الموقوفة، والله أعلم.
وعلى العموم،
فسعيد بن عبدالعزيز حدّث بالحديث على غير وجه! وتفرده بهذا الإسناد مع أوهامه
واضطرابه في حديثه بسبب عدم مراجعته لحفظه وعسره وعدم كتابته لحديثه يجعلنا أن لا
نقبل ما يتفرد به!! فكيف إذا كان للحديث أصل مرسل صح عن مرسله في ذلك البلد!
وعدم توفر
رواية الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبدالعزيز فيما بين أيدينا من كتب فيه إشارة إلى
أن هذا الحديث لم يعتن به أهل الحديث كثيراً ربما لأنه مشتهرا عندهم مرسلاً موقوفاً،
ولو صحّ عندهم مرفوعاً في طبقة متقدمة لاعتنوا به ورواه الكثير منهم.
فمثله يكون من
الفوائد التي تكون عند بعض الرواة، ولو كان مشهوراً لسمعه من دخل عندهم الشام،
والله أعلم.
·
رواية سعيد بن عبدالعزيز من كتب
الإسرائيليات!
والذي أميل
إليه أن الحديث كان عند سعيد بن عبدالعزيز مرسلاً أو عنده سند الرواية من كتب أهل
الكتاب، فلما حدّث به سلك الجادة التي يروي بها بعض الأحاديث: "ربيعة بن يزيد
عن أبي إدريس"، فوهم!
وسعيد كان من
عبّاد أهل الشام، ويروي من كتب أهل الكتاب، وقد أورد الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني
في ترجمته من «حلية الأولياء» (6/125) جملة من ذلك، منها:
ما رواه الوَلِيدُ
بنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ، قالَ: «كَانَ مِنْ دُعَاءِ
دَاودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سُبْحَانَ مُسْتَخْرِجِ الشُّكْرِ بِالْعَطَاءِ
وَمُسْتَخْرِجِ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ».
ومنها: ما
رواه أبو اليمان الحَكَمُ بنُ نَافِعٍ، قال: حدثَنَا سَعِيدُ بنُ عَبْدِالعَزِيزِ،
قَالَ: «قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ أَعْظَمَ
الذُّنُوبِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: اللهُ يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ، وَاللهُ
يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ»
ومنها: ما
رواه أَبُو المُغِيرَةِ عبدالقدوس الخولاني الحمصي، قال: حدثَنَا سَعِيدُ بنُ
عَبْدِالعَزِيزِ، قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلِمَةٍ كَانَتْ تُقَالُ
لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا
الْمِسْكِينُ».
وقال: «قَالَ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ وَلَكِنْ كَمَا تُرِيدُ،
وَلَيْسَ كَمَا أَشَاءُ وَلَكِنْ كَمَا تَشَاءُ».
ومنها: ما
رواه مَرْوَانُ بن محمد الطاطريّ، عَنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ، قَالَ: «كَانَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا خَرَجَ لِلْبَيْعَةِ لِلْأَحْكَامِ بَيْنَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ تَوَكَّأَ عَلَى يُوشَعَ، فَإِذَا بَلَغَ الْبَيْعَةَ جَلَسَ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَقَامَ يُوشَعُ عَلَى رَأْسِهِ،
فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَوْتِ مُوسَى بِسَنَةٍ انْقَطَعَ الْوَحْيُ عَنْ مُوسَى
وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى يُوشَعَ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى
الْبَيْعَةِ تَقَدَّمَ يُوشَعُ بَيْنَ يَدَيْ مُوسَى وَتَوَكَّأَ عَلَى مُوسَى،
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَيْعَةِ جَلَسَ يُوشَعُ يَحْكُمُ بَيْنَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَقَامَ مُوسَى عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ مُوسَى: إِلَهِي إِنِّي لَا
أُطِيقُ هَذَا الذُّلَّ كُلَّهُ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ».
ومنها: ما
رواه الوَلِيدُ بن مسلم، عَنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ، قَالَ: «قَالَ
سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ نَظَرْتُ فِي الْعِلْمِ
فَكَثُرَ هَمِّي، وَنَظَرْتُ فِي الْحِكْمَةِ فَكَبِرَ سِنِّي، وَنَظَرْتُ فَإِذَا
مَعَ الصِّحَّةِ سَقَمًا، وَإِذَا مَعَ الشَّبَابِ كِبَرًا، وَإِذَا مَعَ
الْحَيَاةِ مَوْتًا، وَإِذَا تُرْبَتِي وَتُرْبَةُ السَّفِيهِ وَاحِدَةٌ إِلَّا
أَنْ أَفْضُلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِعَمَلِي».
قلت: فالظاهر
أنه لعبادته وزهده - رحمه الله - كان يقرأ من كتب الإسرائيليات ويروي منها، ولا
أستبعد بأن يكون هذا الحديث منها فأخطأ في إسناده، والله أعلم.
ولسعيد بن
عبدالعزيز عن ربيعة بعض المناكير!!
منها ما رواه الوَلِيدُ
بنُ مُسْلِمٍ، وأَبُو مُسْهِرٍ، ومحمد بن مروان الطاطريّ الدمشقي، قالوا: حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بنُ عَبْدِالعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ الْأَزْدِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ: «اللهُمَّ
اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ».
وفي لفظ آخر لأبي
مُسْهِرٍ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ».
وأشار ابن عساكر
إلى الاختلاف في إسناد هذا الحديث في «تاريخه» (59/79 - 86).
فحديث الظلم
معروف في الشام عن أبي ذر مرسلاً! وكأن أصل الحديث هو من الإسرائيليات! فهو
يُشبهها!
وقد مر معنا
في رواية شهر أنه رُوي عنه عن تُبيع الحميري قوله! كما في «مستخرج أبي عوانة».
ونقله المزي
بعد أن خرّج الحديث في «تحفة الأشراف» (9/179) فقال: "ورواه علي بن زيد بن
جدعان، عن شهر، عن تُبيع قال: إن في التوراة مكتوب: يا عبادي: كلكم مذنب إلا
من غفرت له... وذكر الحديث".
ثم قال:
"قال علي بن المديني: وأظن هذين الحديثين رواهما شهر، لأن ألفاظهما تختلف.
قال علي بن
المديني: وحدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ذر، قال: قال
الله تعالى: إنِّي حرَّمت الظلم على نفسي".
قلت: فكأن هذه
إشارة من علي بن المديني إلى أن أصل الحديث المعروف عن أبي ذر هو ما رواه تُبيع
مما رواه من كتب أهل الكتاب، والله أعلم.
وإنما رجحت
رواية علي بن زيد بن جدعان عن شهر عن تُبيع، وإن كان شهر قد اختلف فيه على عدة
أوجه، وعلي بن زيد سيء الحفظ، لأن الوجوه المروية عن راو ما نستطيع أن نرجّح
أحداها بقرينة، والقرينة هنا ضبطه للحديث أنه من رواية تُبيع من قوله، وكان أهون
على علي بن زيد أن يأتي برواية مرفوعة لو كان أخطأ فيها، وكذا شهر بن حوشب، فإنه
رواه عن عبدالرحمن بن غنم، عن أبي ذر، مرفوعاً، فسلك الجادة، ورواه عن تُبيع من
قوله فضبطه، لأن الإتيان بهذا الوجه لا يدلّ على الوهم أو الخطأ، سيما وأن الحديث
في الشام يُروى عن أبي ذر منقطعا، وعليه فلا بدّ أن يكون له أصل هناك، وهو ما رواه
شهر عن تُبيع، والله أعلم.
·
مراسيل الشاميين!
وأحاديث
الشاميين كثير منها من المراسيل، لعدم اهتمامهم بالأسانيد قديماً حتى جاء الزهري
ونبّههم على أن يُسندوا أحاديثهم! فكان يقول: "ما لأَحَادِيثِكُمْ ليس
لَهَا أزمَّة، ولاَ خُطُمٌ، يَعْنِي الإِسْنَادَ".
ولهذا كان
يُنبّه الإمام الذهبي - رحمه الله - إلى عادة الشاميين في الإرسال!
فالمراسيل قد تغلغلت
في حديثهم فأفسدت الكثير منه!! ومن هنا يُحذر من حديث الشاميين، ويحتاج مزيد
عناية.
وحقيقة كنت أستغرب
من الإمام البخاري، كيف لم يُخرّج حديث هذا مع صحة إسناده في الظاهر! إلا أني لما
وجدت ما دخل حديث سعيد بن عبدالعزيز من أوهام، تبيّن لي لم ترك البخاري تخريج
حديثه بالكلية! وكأنه كان يهاب حديث الشاميين!!
·
الأحاديث
التي أوردها أبو زُرعة الدمشقي في «فوائده المعللة» لسعيد بن
عبدالعزيز، وبيان أنها معلولة!
سبق وأن أشرت إلى أن حديث «تحريم الظلم» أورده أبو زرعة في كتابه «الفوائد المعللة» ومثل هذه
الكتب يجمع فيها المحدِّث ما وقف عليه من فوائد معللة لبعض الأحاديث، وأحياناً
يوردوا فيها فوائد أخرى تتعلق بتراجم بعض الرواة، وهي قليلة يذكرونها بحسب
المناسبة أحياناً.
كما أورد أبو
زرعة في كتابه هذا مثلاً (12) قال: حدثني أبو النضر إسحاق بن
إبراهيم قال: "كنت أسمع وقع دموع سعيد بن عبدالعزيز على الحصير في الصلاة في
المسجد".
فهذه فائدة، لكن لا علاقة لها بالعلل، وقد ذكرها أبو زرعة بعد أن ساق
الأحاديث المعللة لسعيد في كتابه لبيان صلاحه وعبادته - رحمه الله -، فهي فوائد على كل الأحوال.
وإيراد أبي
زرعة لحديث «تحريم الظلم» بسبب أن الوليد بن مسلم خالف أبا مُسهر في روايته للحديث
عن سعيد بن عبدالعزيز! وهذه فائدة عزيزة تفيد في العلل، ولهذا ذكرها في هذا
الكتاب.
وقد أورد كذلك
أحاديث أخرى لسعيد بن عبدالعزيز في هذا الكتاب، وهي:
1- قال أبو
زرعة الدمشقي
في «الفوائد المعللة» (10) - حدثنا أبو مسهر، قال: حدثنا سعيد بن عبدالعزيز،
عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبدالله بن حوالة الأزدي، عن رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ستجندون
أجنادا مجندة: جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن»، فقال الحوالي:
خِر لي يا رسول الله! قال: «عليكم بالشام فمن أبى فليحلق بيمنه، وليستق من غدره، فإن
الله قد تكفل لي بالشام وأهله».
قلت:
قد اضطرب سعيد بن عبدالعزيز في هذا الحديث، ورواه على عدة أوجه كما بينته
في بحثي: «القول
الحسن حول حديث: إِنَّكُمْ سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا فَجُنْدًا بِالشَّامِ،
وَجُنْدًا بِالعِرَاقِ، وَجُنْدًا بِاليَمَن».
وقد خولف سعيد
في بعض طرقه: فرواه محمد بن راشد الخزاعي المكحولي، ومحمد بن عبدالله بن
المهاجر الشعيثي، وعبدالرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الدمشقي، عن مكحول، عن
ابن حوالة، وأسقطوا أبا إدريس من إسناده!
2- وقال أبو
زُرعة في
«الفوائد المعللة» (4): حَدَّثَنَا أَبُو مسهر - سنة اثنتي عشرة ومئتين-
قال: حدثنا سعيد بن عبدالعزيز التنوخي، عن مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن
مسلمة، قال: «شهدت
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نفل الربع».
قال سعيد: "فسّره سليمان بن موسى الربع في البدأة، والثلث في الرجعة".
هذا الحديث رُوي عن محكول الشامي، واختلف عليه فيه.
رواه سعيد بن عبدالعزيز، وسليمان بن موسى، ويزيد بن يريد بن جابر، كلهم عن
مكحول، وقد اختلف على سعيد، وسليمان فيه!
فروي عن سعيد بن عبدالعزيز، عن مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب. وروي عنه
عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن زياد، عن حبيب.
وروي عنه عن سليمان بن موسى، عن زياد، عن حبيب، دون ذكر "مكحول".
وروي عنه عن عطية بن قيس، عن زياد، عن حبيب.
وكأن أبا زرعة أورد هذا الحديث في «فوائده» ليبين أن ما روي عن
سعيد: «الربع في البدأة، والثلث في الرجعة» إنما هو من تفسير سليمان بن
موسى ولم يسمعه من مكحول. ولبيان الاختلاف فيه على سعيد!!
وقد روى ابن
سعد في «الطبقات» (2/189) من طريق ابن المبارك. وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني»
(2/131) من طريق الوَلِيد بن مُسْلِمٍ. والطبراني في «مسند الشاميين» (1/186) (325)
من طريق أَبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ، ثلاثتهم عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ،
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ
حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ، وَفِي
الْقَفْلَةِ الثُّلُثَ».
والحديث رواه
ابن الجارود كما في «المنتقى» (1078) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بنُ عَمْرٍو
الغَزِّيُّ، قَالَ: حدثنا أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ، عَنْ
مَكْحُولٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ حَبِيبِ بنِ مَسْلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَفَلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الخُمُسِ».
ثم رواه (1079)
قال: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بنُ الوَلِيدِ: أَنَّ أَبَاهُ، أَخْبَرَهُ عن سَعِيد
بن عَبْدِالعَزِيزِ قَالَ: حدثنا مَكْحُولٌ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جَارِيَةَ،
عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَفَلَ الرُّبُعَ فِي البَدَأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي
الرَّجْعَةِ».
ورواه أحمد في
«مسنده» (29/11) (17469) قال: حَدَّثَنَا أَبُو المُغِيرَةِ، قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ
بنُ عَبْدِالعَزِيزِ، قال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ
زَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمْسِ فِي
الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ».
فجعله هنا عن
سليمان بن موسى، ولم يذكر "مكحولاً"!
وهذا إنما هو
من تفسير سليمان بن موسى كما قال سعيد نفسه فيما أورده أبو زُرعة في «فوائده».
ورواه أحمد في
«مسنده» (29/8) (17463) عن عَبْدالرَّحْمَنِ بن مهدي، قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ
عَبْدِالعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ
مَسْلَمَةَ، قَالَ: «شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ
الثُّلُثَ».
ورواه أيضاً (17466)
عن يَحْيَى بن سَعِيدٍ، عَنْ سعِيدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ، قال: حَدَّثَنَا مَكْحُولٌ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ».
ورواه (17467)
عن أَبي المُغِيرَةِ، قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ عَبْدِالعَزِيزِ، قال: حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بنُ مُوسَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ
مَسْلَمَةَ، قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الخُمُسِ».
ورواه أيضاً (17462)
و(17468) من طريق سُفْيَانَ، قال: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ،
عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ: «أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الخُمُسِ».
ورواه (17465)
عن حَمَّاد بن خَالِدٍ الخَيَّاط، عَنْ مُعَاوِيَةَ بن صَالِحٍ، عَنْ الْعَلَاءِ
بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ
مَسْلَمَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ
الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ، وَنَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي
رَجْعَتِهِ».
قلت: الحديث
فيه اختلاف على أصحاب مكحول، وسعيد بن عبدالعزيز كان يضطرب فيه، ولهذا أورده أبو
زرعة الدمشقي في «فوائده».
وقد اختلف
العلماء في صحبة حبيب بن مسلمة، فأثبتها أهل الشام، وأنكرها أهل المدينة! وهناك
اختلاف أيضاً في الراوي عنه: زياد بن جارية، فجهّله أبو حاتم، ووثقه النسائي
وغيره. وهذا يحتاج إلى تحقيق.
3- وقال أبو
زرعة
في «الفوائد المعللة» (6): حَدَّثَنَا أَبُو مسهر، قال: حدثنا
سعيد بن عبدالعزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي مسلم
الخولاني، قال: حدثني الحبيب الأمين أما هو إلي فحبيب وأما هو عندي فأمين عوف بن
مالك الأشجعي قال: «كنا عند
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة، فقال: ألا
تبايعون رسول الله، فرددها ثلاث مرات، فقدمنا أيدينا وبايعنا، فقلنا: يا رسول الله،
قد بايعناك، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات
الخمس، وأسر كلمة خفية لا تسألوا الناس شيئا، قال: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط
سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه».
قال أَبُو
زُرْعَةَ: حدثنا أَبُو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي
إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك، وذكر الحديث.
قلت - أي: أبا زرعة -: "ولم يذكر أبا مسلم".
قلت: فهنا بيّن أبو زرعة مخالفة سعيد بن عبدالعزيز لمعاوية بن صالح! فزاد
سعيد فيه: "عن أبي مسلم الخولاني"!!!
وقد رواه مَرْوَانُ بنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ [كما عند مسلم في «صحيحه» (1043)]، والوَلِيدُ
بنُ مُسْلِمٍ [كما عند ابن ماجه في «سننه»
(2867)]، وعمرو بن أبي سلمة [كما عند ابن عساكر في «تاريخه» (47/47)]، ثلاثتهم عن سَعِيد
بن عَبْدِالعَزِيزِ التَّنُوخِيّ، بمثل حديث أبي مُسهر.
قال البزار:
"وهَذَا الحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ إِلَّا عَوْفُ
بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ".
قلت: خولف
سعيد فيه كما بيّن أبو زرعة أعلاه، فالله أعلم.
4- وقال أبو
زرعة
في «الفوائد المعللة» (11): حَدَّثَنَا أَبُو مسهر، قال: حدثنا سعيد بن عبدالعزيز،
عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن ابن الديلمي، عن عبدالله بن عمرو، عن
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن
سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل
الله حين فرغ من بنيان المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه
من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه».
قلت: كذا رواه سعيد بن عبدالعزيز، عن ربيعة، عن أبي إدريس، عن ابن الديلمي،
عن عبدالله بن عمرو!
وقد خولف فيه:
خالفه الْأَوْزَاعِيّ [كما عند أحمد في «مسنده» (6644)]، ومُعَاوِيَة
بن صَالِحٍ [كما عند الفريابي في «القدر» (70)، والطبراني في «المعجم الكبير» (14555)]، فروياه
عن رَبِيعَة بن يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ
عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ فِي حَائِطٍ لَهُ بِالطَّائِفِ يُقَالُ
لَهُ: الْوَهْطُ.. فذكره، وهو حديث طويل.
ولم يذكرا فيه: "عن أبي إدريس"!!
ومن هنا أورد أبو زرعة هذا الحديث في «الفوائد المعللة» لسعيد بن
عبدالعزيز؛ لأنه زاد في إسناده رجلاً، ولم يذكره من روى عن ربيعة!!
وكأنه سلك
الجادة فيه: "عن ربيعة، عن أبي إدريس"! فهو يروي عدة أحاديث بهذا
الإسناد، فوهم في ذلك.
وعليه فيتبيّن
لنا أن أبا زرعة أورد هذه الأحاديث في كتابه «الفوائد المعللة» لبيان وهم سعيد
فيها!! وهذا يؤيد ما ذهبت إليه من أوهامه واضطرابه، وسلوكه جادة "ربيعة بن
يزيد عن أبي إدريس الخولاني"، والله أعلم.
·
أحاديث غريبة لسعيد ذكرها أبو
نُعيم في ترجمته!
وقد ذكر أبو
نُعيم الأصبهاني بعض الأحاديث الغريبة عن سعيد في ترجمته من «الحلية» (6/127)،
والغرابة هذه قد تكون منه أو من الرواة عنه، ومما أظن أن الغرابة منه وتفرد بها:
ما رواه الوَلِيدُ
بنُ مُسْلِمٍ، قال: حدثَنَا سَعِيدُ بنُ عَبْدِالعَزِيزِ: أَنَّ هِشَامَ بنَ
عَبْدِالْمَلِكِ، قَضَى عَنِ الزُّهْرِيِّ، سَبْعَةَ آلَافِ دِينَارٍ ثُمَّ قَالَ:
لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا تُدَانُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: حَدَّثَنِي
سَعِيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُلْسَعُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ
مَرَّتَيْنِ».
قال أبو
نُعيم: "تَفَرَّدَ بِهِ الوَلِيدُ عَنْ سَعِيدٍ".
ومنها: ما
رواه الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ
فَرَسَيْنِ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ».
قال أبو
نُعيم: "غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ! تَفَرَّدَ بِهِ الوَلِيدُ".
ومنها: ما
رواه الوَلِيدِ بنِ مَزْيَدٍ، قال: حدثَنَا سَعِيدُ بنُ عَبْدِالْعَزِيزِ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ».
قال أبو نُعيم:
"غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ، تَفَرَّدَ بِهِ الوَلِيدُ".
ومنها: ما
رواه عَبْدُالْأَعْلَى بنُ مُسْهِرٍ، قال: حدثَنَا سَعِيدُ بنُ عَبْدِالْعَزِيزِ، قال:
حدثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِاللهِ
بْنِ عُمَرَ فِي طَرِيقٍ فَسَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ فَجَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي
أُذُنَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: «هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ».
تفرد به سعيد
عن سليمان بن موسى الأشدق! وهو حديث منكر!!
·
هل سمع أبو إدريس الخولاني من أبي
ذر؟!
قال أبو بكر ابن
أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: "أبو إدريس الخولاني قد سمع من أبي ذر".
[تاريخ دمشق: (26/159)].
وحديث أبي
إدريس عن أبي ذر قليل جداً، وما رُوي عنه عن أبي ذر لا يكاد يتجاوز أصابع اليد
الواحدة، ولا يصح منه شيء!
والبزار على
سعة ما عنده من حديث لم يذكر في ترجمة "أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر"
إلا هذا الحديث الواحد!!
وأهل العلم
عندما يتكلمون عمن لقي "أبو إدريس" من الصحابة لا يذكرون "أبا
ذر" غالباً!!
وأبو إدريس
الخولاني ولد - على ما قيل - في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة حُنين
(8هـ)، ومات سنة (80هـ).
وعليه كان
عمره لما توفي أبو ذر = 24 سنة. فهو لا شك أنه أدركه، لكن هل سمع منه؟!!
·
سماع أبي إدريس من الصحابة!
روى مَعمر في
جامعه - المطبوع مع مصنف عبدالرزاق - (11/363) (20750) وغيرُه عن الزُّهْرِيّ عَن
أبي إدريس، قال: "أدركت عبادة بن الصامت ووعيت عنه، وأدركت أبا الدرداء ووعيت
عنه، وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه، وفاتني معاذ بن جبل".
قال أبو مسهر:
"كان سعيد بن عبدالعزيز يُنكر أن يكون أبو إدريس سمع من معاذ شيئا".
وقال الوليد
بن مسلم: قال سعيد بن عبدالعزيز: "ولد أبو إدريس الخولاني عام حنين وهزيمة
الله هوازن".
وقال عباس
الدوري: سَمِعت يحيى يَقُول: "قَالَ أَبُو إِدْرِيس الخَولَانِيّ: فَاتَنِي
معَاذ فَحَدثني عَنهُ يزِيد بن عميرَة. وَسمع أَبُو إِدْرِيس من أبي ثَعْلَبَة الخُشَنِي".
وقد ذهب بعض
أهل العلم إلى صحة سماعه من معاذ كأبي زرعة الدمشقي، وتبعه ابن عبدالبر وغيره،
وقال الوليد بأنه لقيه وهو ابن عشر سنين!
قال أبو زرعة:
"فإذا كان مولد أبي إدريس عام حنين وهي في سنة ثمان من التاريخ فكان أبو
إدريس لوفاة معاذ بن جبل ابن عشر سنين أو أقل. وأبو إدريس إذا تحدث عن معاذ بن جبل
من حديث الثقات الزهري وربيعة بن يزيد أدخلا يزيد بن عميرة الزبيدي".
وقال ابن أبي
حاتم: قُلْتُ لِأَبِي، سَمِعَ أَبُو إِدْرِيسَ الخُولَانِيُّ مِنْ مُعَاذٍ؟ قال: "يَخْتَلِفُونَ
فِيهِ، فَأَمَّا الَّذِي عِنْدِي فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ".
ولا أشك أنه
ربما لقي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير ورأى بعض الأشياء منهم، لكن
لم تكن سنّه سن تحمّل الحديث آنذاك، ومن المعلوم أن أهل الشام كانوا يتأخرون في
طلب الحديث حتى قال بعض أهل العلم أن غالبهم يطلب الحديث بعد سنّ الثلاثين، لكن
هذا لا يمنع أن يطلبه بعضهم قبل ذلك بكثير.
ويُلاحظ أن
رواية أبي إدريس عن الصحابة قليلة جداً، فغالب من روى عنهم من الصحابة روى عنه
حديثاً، وربما اثنين لبعضهم!
وجعله البخاري
سماعه من معاذ على الاحتمال، فقال في ترجمته من «التاريخ الكبير» (7/83): "ويمكن
أن يكون سَمِعَ من مُعَاذ"!
والذي أراه
أنه لم يسمع منه.
·
عدد الأحاديث التي خرجها البخاري
ومسلم لأبي إدريس عن الصحابة!
فأخرج البخاري
لأَبي إِدْرِيسَ عن حُذَيْفَةَ بن اليَمَانِ حديثاً، وعن أَبي الدَّرْدَاءِ
حديثاً، وعن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ حديثاً، وعن أَبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيّ
حديثين.
وكذا مسلم لم
يُكثر من التخريج له! فأخرج له عن عُقْبَة بنِ عَامِرٍ حديثاً، وعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ حديثين، وعن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ حديثاً، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
حديثاً، وعَنْ حُذَيْفَةَ بن اليَمَانِ حديثين، وعن أَبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيّ
حديثاً، وعن واثلة بن الأسقع حديثاً، وهذا الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ!
فأبو إدريس روى
عن: بلال المؤذن (17 أو 18هـ) (ت)، وأبي بن كعب (19 أو 32هـ) (س)، وأبي ذر الغفاري
(32هـ)، وعبادة بن الصامت (34هـ) (خ م د ت س)، وعويمر أَبي الدَّرْدَاء (35 هـ) (خ
م ت س ق)، وحذيفة بن اليمان (36هـ) (خ م ق)، والمغيرة بن شُعْبَة (50هـ)، وثوبان
مولى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (54هـ) (ت)، وأبي هُرَيْرة
(58هـ) (خ م س ق)، ومعاوية بن أَبي سُفْيَان (60هـ) (س)، وأبي سَعِيد سَعْد بن
مَالِك الخُدْرِيّ (74هـ) (م)، وعوف بْن مَالِك الأشجعي (73هـ)، (خ د ق)، وأبي
ثعلبة الخشني (75هـ) (م 4)، وواثلة بن الأسقع (85هـ) (م ت).
ولا إشكال
عندي في سماعه من الصحابة الذين توفوا بعد سنة (58هـ) ممن نزلوا الشام، لكن
الإشكال فيمن توفوا قبل ذلك!!
فعُبادة نزل
حمص، ثم صار بَعْد إِلَى فلسطين فمات بِهَا، ونزل أَبُو الدرداء دمشق، ولم يزل بها
حَتَّى مَاتَ.
قال عباس
الدوري: سَمِعت يحيى يَقُول: "قد سمع أَبُو إِدْرِيس الخَولَانِيّ من أبي
الدَّرْدَاء، وشَدَّاد بن أَوْس، وَمن عبَادَة بن الصَّامِت، وَمن أبي ثَعْلَبَة
الْخُشَنِي".
وحذيفة حضر
اليرموك سنة (15هـ) وكان البريد لعمر يبشره بذلك النصر، وشارك في فتوحات العراق
وما يليها، واستعمله عمر على المدائن، فلم يزل بها حتى مات بعد قتل عثمان وبعد
بيعة علي بأربعين يوماً، ولم أجد ما يدلّ على أن أبا إدريس لقيه وسمع منه!!
ولا زال أهل
النقد ينفون السماع بين الرواة بعدم اللقاء لاختلاف المواطن.
قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص: 176): "زرارة بن أوفى قاضي
البصرة، روى عن تميم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب به
المرء من عمله صلاته»، قال أحمد بن حنبل: ما أحسب لقي زرارة تميماً، تميم كان
بالشام، وزرارة بصري كان قاضيها".
وأبو ذر نزل الشام ولم تَطل إقامته بها، ثم رجع
المدينة وسكن الربذة حتى مات فيها.
·
تخريج مسلم لرواية أبي إدريس عن
أبي ذر على مذهبه في المعاصرة!
قال العلائي:
"روى عن عمر ومعاذ وأُبي بن كعب وبلال، وقد قيل: إن ذلك مرسل! وروايته
عن أبي ذر في صحيح مسلم؛ وكأن ذلك على قاعدته".
قلت: يقصد
العلائي أن مسلما خرّج حديث أبي إدريس عن أبي ذر لشرطه في المعاصرة، ولا شك أن أبا
إدريس أدركه. ولم يُذكر في الرواية السماع بينهما!
وكان أبو ذر نزل
الشام، ثم تركها في خلافة عثمان لما اختلف مع معاوية، وكان يُنكر عليهم النعيم
الذي هم فيه! فشكاه معاوية لعثمان، فطلبه عثمان فرجع من الشام، وسكن الرَّبَذَة خارج
المدينة حتى مات.
قال أبو زرعة:
"وممن نزل الشام من مصر: أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، نزل بيت المقدس ثم
ارتحله عثمان إلى المدينة" [تاريخ دمشق: (66/175)].
·
عدم توفر معلومات عن أبي ذر لما
نزل الشام!
وقد بحثت في
تاريخ أبي زرعة الدمشقي عن أحوال أبي ذر في الشام فلم أجد له ذكراً إلا في موضع
واحد، روى عنه حديثا هو وبعض الصحابة!!!!
وهذا غريب
جداً!!!! فالغالب نجد في كتب التواريخ أخبار من نزل تلك البلاد! وكأن أبا ذر لم
يجلس طويلاً في الشام، وإقامته هناك لم تكن مستقرة حتى يتفرغ للتحديث والفتوى!
·
عدم ذكر ابن سعد لأبي ذر فيمن نزل
الشام من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم!
والعجيب أن
ابن سعد لم يذكره فيمن نزل الشام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في «طبقاته»!
وكذا غالب من ترجم له! وكأن ذلك - أيضاً - بسبب أنه لم يمكث طويلاً هناك، وترك
الشام وخرج منها.
·
أبو إدريس ذكر بنفسه الصحابة
الذين سمع منهم ممن تقدمت وفاتهم!
والذي يظهر لي
أن أبا إدريس لم يسمع من أبي ذر! ويؤيده ما تقدم نقله عن الزُّهْرِيّ عَن أبي
إدريس، قال: "أدركت عبادة بن الصامت ووعيت عنه، وأدركت أبا الدرداء ووعيت عنه،
وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه، وفاتني معاذ بن جبل".
فهنا ذكر أبو
إدريس من أدركهم من متقدمي الصحابة وسمع منهم في الشام، ولو كان سمع من أبي ذرّ
لذكره!
وهذا النص
الذي نقله الزهري عنه كأنه كان جوابا عن سؤال له: من الصحابة الذين أدركتهم وسمعت
منهم ممن دخلوا الشام؟ وكأن من سأله استغرب روايته عن مثل هؤلاء ممن تقدمت
وفاتهم!! فذكرهم.
وقد يُشكل على
ذلك ذكره هؤلاء ومعهم شداد بن أوس وتوفي في الشام سنة (58هـ)! ولم يذكر من روى
عنهم ممن توفوا في هذه السنة أو بعدها مثل: أبي هريرة، وعقبة بن عامر، وأبي سعيد
الخدري، وأبي ثعلبة الخشني، وواثلة بن الأسقع!!
والجواب: أن
السؤال كان عمن أدرك من الصحابة الذين نزلوا الشام وسمع منهم ووعى عنهم من متقدمي
الصحابة لا ممن كان في الشام من متأخريهم كأبي ثعلبة، وواثلة، وبقية من روى عنهم
كأبي هريرة، وعقبة، وأبي سعيد ممن نزلوا الشام مع عدم ثبوت سماعه من بعضهم!
فسماعه من أبي
ذر لا يصح! فكيف نقبل حديثه الذي تفرد به سعيد بن عبدالعزيز! ولم يتابعه عليه
أحد!!
·
قرائن تضعيف حديث أبي إدريس عن
أبي ذر!
فأبو قلابة
توفي 106 أو 107 هـ، وهو يروي الحديث عن أبي ذر مرسلا، وهذا أولى من رواية سعيد بن
عبالعزيز التنوخي، عن ربيعة، عن أبي إدريس، عن أبي ذر!!
فلو كان هذا
الحديث مُسنداً عن أبي ذر لكان عند أبي قلابة عالم أهل الشام.
مع ما تقدّم
من اختلاط سعيد بن عبدالعزيز ووهمه في حديثه، ومخالفة الوليد بن مسلم لأبي مُسهر
في روايته!
فالحديث معلول
بتفرد سعيد بن عبدالعزيز التنوخي به، والاختلاف عليه في روايته، ووهمه فيه؛ لأن
أصله عند الشاميين مرسل!
وقد رواه شهر،
عن تُبيع قال: إن في التوراة مكتوب: يا عبادي: كلكم مذنب إلا من غفرت له...
فهذا أصل
الحديث عند الشاميين أنه من كتب أهل الكتاب!
وهذا الحديث
لا نجده عند أحفظ أصحاب أبي إدريس، ولا ابنه!
روى أبو زرعة
الدمشقي في «تاريخه» (ص: 345)، قال: حَدَّثَنِي مَعْنُ بنُ الوَلِيدِ بنِ هِشَامٍ
الغَسَّانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبُو مُسْهِرٍ يَقُولُ: "أَحْفَظُ أَصْحَابِ
أَبِي إِدْرِيسَ عَنْهُ: بُسْرُ بنُ عبيدالله".
قلت: لو كان
هذا أجل حديث عند أهل الشام لما تركه بسر عن أبي إدريس! وهو أحفظ أصحابه! فأين هو
عنه؟!
وروى أبو زرعة
أيضاً (ص: 363) قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي المُنْذِرُ بنُ
نَافِعٍ قال: سَمِعْتُ إِدْرِيسَ بنَ أَبِي إِدْرِيسَ يَقُولُ: قَالَ لِي أَبِي:
أَتَكْتُبُ مِمَّا تَسْمَعُ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأْتِنِي بِهِ.
فَأَتَيْتُهُ بِهِ فخرقه.
قلت: فهذا
إدريس ابن أبي إدريس كان يكتب عن أبيه، وحديث أبي إدريس ليس بالكثير، فمع خرقه لما
كتب ابنه عنه لا شك أنه كان يحفظ عنه أيضاً، ولم يروِ هذا الحديث عن أبيه!!!
ولو سَلِم هذا
الحديث لسعيد التنوخي فيُعلّ بالانقطاع؛ لأن أبا إدريس لم يسمع من أبي ذر!
وقد ناظر أبو
زرعة الدمشقي عبدالرحمن بن إبراهيم دُحيم كما في «تاريخه» (ص: 597)، قال: قُلْتُ
لَهُ - أي لدحيم-: فَأَيُّ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَكَ أَعْلَمُ: جُبَيْرُ بنُ نُفَيْرٍ
الحَضْرَمِيُّ أَوْ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ؟ قَالَ: أَبُو إِدْرِيسَ
عِنْدِي المُقَدَّمُ، وَرَفَعَ مِنْ شَأْنِ جُبَيْرٍ لِإِسْنَادِهِ وَأَحَادِيثِهِ،
ثُمَّ ذَكَرَ أَبَا إِدْرِيسَ فَقَالَ: لَهُ مِنَ الحَدِيثِ مَا لَهُ، وَمِنَ اللِّقَاءِ،
وَاسْتِعْمَالِ عَبْدِالَمَلِكِ إِيَّاهُ عَلَى القَضَاءِ بِدِمَشْقَ.
قلت: الذي يظهر
لي من خلال مقارنة دحيم بين جبير وأبي إدريس أن حديث جبير أجود لأنه مسند.. ويكأنه
يقول بأن أبا إدريس يرسل ولا يسند كثيرا!!
وقوله:
"له من الحديث ما له، ومن اللقاء" وقرن ذلك باستعماله في القضاء دليل
على أن حديثه ليس بذاك مقارنة بحديث جبير لإرساله! فجبير يُسند حديثه.
وهذا يدلّ
أيضاً على قلة من لقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلّة حديثه كذلك؛
لأن إشارته لذلك تعني شهرة ذلك عنه.
وتقديم دُحيم
لأبي إدريس على جُبير إنما هو في المكانة لعدة أمور مجتمعة، وأما جبير فهو أجود
حديثاً وإسناداً من أبي إدريس.
·
قاعدة مهمة!
وهنا قضية
مهمة في التفردات المتأخرة كهذا الحديث، وحديث «من عادى لي وليا..»! إذا كان هناك
حديث متقدم في زمان التابعين مرسلا ونحوه، ثم جاءنا هذا الحديث موصولا وفيه تفرد
في طبقة متأخرة.. فلا شك أن الصواب فيه الأرسال، وهناك خطأ في الرواية المتصلة
التي فيها التفرد!
·
الأحاديث التي رُويت عن أبي إدريس
عن أبي ذرّ!
ولإتمام
الفائدة هنا أسوق الأحاديث التي رُويت عن أبي إدريس عن أبي ذر، وأبيّن عدم صحتها،
لئلا يحتج بها بعض الناس على صحة سماع أبي إدريس من أبي ذر!
والحقيقة أن
أبا إدريس لا علاقة له بهذه الأحاديث، ولم يروها أبداً !!!
·
الحديث الأول:
روى الترمذي
في «جامعه» (4/149) (2340) عن عَبْداللهِ بن عَبْدِالرَّحْمَنِ، عن مُحَمَّد بن
المُبَارَكِ.
وابن ماجه في «سننه»
(5/223) (4100) عن هِشَام بن عَمَّارٍ.
كلاهما عن
عَمْرو بن وَاقِدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بنُ مَيْسَرَةَ بنِ
حَلْبَسٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ
الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الحَلَالِ، وَلَا فِي إِضَاعَةِ
الْمَالِ، وَلَكِنِ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي
يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ
الْمُصِيبَةِ، إِذَا أُصِبْتَ بِهَا، أَرْغَبَ مِنْكَ فِيهَا، لَوْ أَنَّهَا
أُبْقِيَتْ لَكَ».
زاد ابن ماجه:
"قَالَ هِشَامٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيُّ، يَقُولُ: مِثْلُ
هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْأَحَادِيثِ، كَمِثْلِ الْإِبْرِيزِ فِي الذَّهَبِ".
قال الترمذي:
"هذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَأَبُو
إِدْرِيسَ الخَوْلاَنِيُّ اسْمُهُ: عَائِذُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَمْرُو
بْنُ وَاقِدٍ مُنْكَرُ الحَدِيثِ".
قلت: هذا حديث
باطل، وعمرو بن واقد ليس بشيء! وأورده ابن عدي في مناكيره في ترجمته من «الكامل»
(6/208).
·
خطأ في «المعجم الأوسط»!!
وقد أخرج
الطبراني هذا الحديث في «المعجم الأوسط» (8/57) (7954) قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بنُ
عِيسَى بنِ المُنْذِرِ الحِمْصِيّ، قال: حدثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُبَارَكِ، قال:
حدثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، عَنْ
أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكره.
ورواه عنه أبو
نُعيم في «الحلية» (9/303).
وقال
الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هذا الحَدِيثَ عَنْ يُونُسَ إِلَّا عَمْرو بنُ
وَاقِدٍ، وَلَا يُرْوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِلَّا بِهَذَا
الْإِسْنَادِ".
قلت: وقع عند
الطبراني أنه "عن أبي الدرداء"! وهو خطأ! فقد رواه الترمذي كما تقدم من
طريق محمد بن المبارك، وجعله "عن أبي ذر"، وكذا حديث هشام بن عمّار من
"مسند أبي ذر".
·
أصل الحديث من كلام يُونُسَ بنِ
مَيْسَرَةَ!
وأصل الحديث
من كلام يونس بن ميسرة، فأخطأ فيه عمرو بن واقد فأسنده ورفعه!
رواه ابن
أَبِي الدُّنْيَا في «الزهد» (107) عن أَبي مُسْلِمٍ الحَرَّانِيّ، عن مِسْكِين بن
بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ يُونُسَ بنِ مَيْسَرَةَ الجُبْلَانِيُّ،
قَالَ: «لَيْسَ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الحَلَالِ، وَلَا
بِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ بِمَا
فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدَيْكَ، وَأَنْ يَكُونَ حَالُكَ فِي
الْمُصِيبَةِ وَحَالُكَ إِذَا لَمْ تُصَبْ بِهَا سَوَاءً، وَأَنْ يَكُونَ
مَادِحُكَ وَذَامُّكَ فِي الحَقِّ سَوَاءً».
ورواه أَبُو
سَعِيدِ ابنُ الْأَعْرَابِيِّ في «الزهد» (6) عن أَبي دَاوُدَ السجستانيّ، عن أَبي
مُسْلِمٍ الحَرَّانِيّ الحَسَن بن أَحْمَد بن أَبي شعيب، به.
·
الحديث الثاني:
روى ابن ماجه
في «سننه» (5/300) (4218) عن عَبْداللَّهِ بن مُحَمَّدِ بنِ رُمْحٍ.
والطبري في «تاريخه»
(1/152، 170، 312، 451) عن أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ وَهْبٍ.
كلاهما (ابن
رمح، وأحمد بن عبدالرحمن) عن عَبْداللَّهِ بن وَهْبٍ، عَنِ المَاضِي بنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ عَلِيِّ بنِ سُلَيْمَانَ.
وفي رواية
الطبري: "عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ".
ورواه
الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (48) عن عَلِيّ بن دَاوُدَ القَنْطَرِيّ، عن سَعِيد
بن سَابِقٍ الرَّشِيدِيّ، عن بِشْر بن خَيْثَمَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ أَبِي
زِيَادٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْفِلَسْطِينِيِّ.
ورواه ابن
شاهين في «الترغيب في فضائل الأعمال» (262) من طريق بَقِيَّة بن الوَلِيدِ.
والخطيب
البغدادي في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (2/542) من طريق تَمَّام بن مُحَمَّدٍ
الرَّازِيّ.
كلاهما (بقية،
وتمام) عن أَبي زُرْعَةَ الفِلَسْطِينِيُّ، عَنِ القَاسِمِ بنِ
مُحَمَّدٍ، به. قال الخطيب: "أَبُو زُرْعَةَ الفِلَسْطِينِيُّ: وهُوَ يَحْيَى بنُ أَبِي عَمْرو
السيباني".
ثلاثتهم (علي
بن سليمان، وأبو سليمان الفلسطيني، وأبو زرعة الفلسطيني) عَنِ القَاسِمِ بنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ،
وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الخُلُقِ».
قلت: هذا حديث
باطل!! وكلا الإسنادين منكر!
فالماضي بن
محمد الغافقي ضعيف جداً!
وعلي بن
سليمان
وأبو سليمان الفلسطيني مجهولان! وأخشى أن يكون علي بن سليمان هو نفسه أبو سليمان
الفلسطيني، ذكره الماضي بالاسم، وذكره إسماعيل بن أبي زياد بالكنية والنسبة، وعادة
يسمي الشخص ابنه باسم والده، فهو أبو سليمان وهو ابن سليمان، ويؤكد ذلك رواية
الطبري "عن أبي سليمان"، والله أعلم.
قال الذهبي في
«الميزان» (3/132): "علي بن سليمان: عن مكحول. شيخ حدث بمصر، لا يكاد يعرف".
وقال المزي في
«تهذيب الكمال» (20/454): "قال عَبْدالرَّحْمَنِ بن أَبي حاتم، عَن أبيه: «علي
بن سُلَيْمان، روى عن مكحول، روى عنه يزيد بن أَبي حبيب». ونحو ذلك قال البخاري،
وأبو سَعِيد بن يونس. وزاد: يقال إنه دمشقي صار إلى مصر".
وتعقبه ابن
حجر في «تهذيب التهذيب» (7/328) فقال: "قلت: وذكره ابن حبان في الثقات، وذكره
ابن يونس في الغرباء، وقال: «صاحب مكحول قدم مصر، حدّث عنه يزيد بن أبي حبيب»، وكأن
المزي لما رأى رواية الماضي عنه وهو مصري جوّز أن يكون هو صاحب مكحول! والذي يظهر
لي أنه غيره؛ لأن القاسم بن محمد مدني، ولو كان كما ظنّ لم يخف على ابن يونس، وهو
أعلم الناس بمن دخل مصر من المحدثين، فما كان ليغفل رواية الماضي عنه، وقد توارد
من ذكرت من الأئمة".
قلت: الظاهر
أنه هو صاحب مكحول، وأما كون "القاسم بن محمد" مدني ففيه نظر! فالإسناد
شامي، والقاسم هذا مجهول! ولو صح أنه "القاسم بن محمد بن أبي بكر" فهو
موضوع عليه!
والعجب من ابن
حجر فإنه تبع المزي في قوله بأن القاسم هذا شامي.
قال المزي في «تهذيب
الكمال» (23/442): "(ق): القاسم بن مُحَمَّد. أظنه شامياً".
وقال ابن حجر
في «تهذيب التهذيب» (8/336): "القاسم بن محمد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي
ذر: حديث لا عقل كالتدبير، وعنه علي بن سليمان. أظن أنه شامي".
ثم وجدت أن
ابن عساكر نسبه في «تاريخه» (23/276) فقال: "رواه عن أبي إدريس الخولاني: القاسم
بن محمد الثقفي".
وذكره في «تاريخه»
(49/155): "القاسم بن محمد بن أبي سفيان الثقفي، من أهل دمشق. روى عن معاوية
بن أبي سفيان، وأسماء بنت أبي بكر. روى عنه: عثمان بن المنذر الدمشقي، وقيس بن
الأحنف الثقفي".
قال الذهبي في
«تاريخه» (3/143): "وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي رَوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ هُوَ
الْقَاسِمُ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ".
قلت: ذكره ابن
حبان في الثقات! لكنه مجهول لا تُعرف حاله!!
وأما
أبو سليمان الفلسطيني فهو مجهول منكر الحديث!
قال ابن
عبدالبر في «الاستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى» (3/1557): "أبو
سليمان الفلسطيني، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن أبي إدريس الخولانى، عن أبي
ذر الغفارى حديثا منكرًا طويلا في قصة الأنبياء".
وقال الذهبي
في «المغني في الضعفاء» (2/789)، وفي «ميزان الاعتدال» (4/533): "أَبُو
سُلَيْمَان الفلسطيني عَن القَاسِم بن مُحَمَّد، وَعنهُ إِسْمَاعِيل ابْن أبي
زِيَاد. قَالَ البُخَارِيّ: لَهُ حَدِيث طَوِيل مُنكر فِي القَصَص".
وإِسْمَاعِيلُ
بنُ أبي زِيَادٍ فأكثر اهل العلم على أنه السَّكُونِيُّ قَاضِي المَوْصِلِ.
وَهُوَ
هَالِكٌ لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَيُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ بنُ مُسْلِمٍ كُوفِيُّ.
قَالَ ابْنُ
مَعِينٍ: "كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ يَضَعُ".
وَقَالَ ابْنُ
حِبَّانَ: "إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ دَجَّالٌ، لا يَحِلُّ ذِكْرُهُ فِي
الْكُتُبِ إِلا عَلَى سَبِيلِ الْقَدْحِ فِيهِ".
وقال البرذعي
في «سؤالاته» لأبي زرعة: سمعته - يعني - أبا زرعة يقول: "إسماعيل بن أبي زياد
يروي أحاديث مفتعلة". قلت: من أين هو؟ قال: "كوفي له أحاديث غير صحيحه،
لا أعلم يحدّث عنه صاحب حديث".
قال مغلطاي:
"ونظرت في كتاب «الطبقات» لأبي زكريا الموصلي، فلم أره ذكره فيها، فيتجه على
هذا قول من قال إنه كوفي".
قلت: أرى أنه
الذي ذكره الخليلي في «الإرشاد» (1/448) قال: "شَيْخٌ ضَعِيفٌ عَنْ يُونُسَ
بنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيُّ
صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، سَكَنَ بَغْدَادَ فِي خِدْمَةِ المَهْدِيِّ".
وأما
أبو زُرعة الفلسطيني فقد ذهب الخطيب إلى أنه "يَحْيَى بنُ أَبِي عَمْرو السيباني"!
وفيه نظر! فيحيى نعم شامي لكنه حمصي، وليس بفلسطينيّ! والظاهر أنه هو نفسه
"أبو سليمان الفلسطيني"، والله أعلم.
وروي الحديث
من طريق آخر في سياق حديث طويل جداً:
أخرجه أَبُو
الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ الحَسَنِ بنِ الحُسَيْنِ الخُلَعِيُّ في «الخلعيات» [كما في
المنتقى منها] (26) عن أَبي مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيل بن رَجَاءِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ
عَبْدِاللَّهِ العَسْقَلَانِيّ، عن أَبي بَكْرٍ مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ
الحُنْدُرِيّ المُقْرِئ العَسْقَلَانِيّ، عن أَبي مُحَمَّدٍ عَبْداللَّهِ بن
أَبَّانِ بنِ شَدَّادٍ، عن أَبي الدَّرْدَاءِ هَاشِم بْن مُحَمَّدٍ
الْأَنْصَارِيّ، عن عَمْرو بن بَكْرٍ السَّكْسَكِيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ
القَاسِمِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ:
دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَالِسٌ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّ لِكُلِّ
شَيْءٍ تَحِيَّةً، وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَانِ، فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا».
فَقُمْتُ
فَرَكَعْتُهُمَا ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَمْشِي، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ:
بِأَبِي وَأُمِّي أَمَرْتَنِي بِالصَّلَاةِ فَمَا الصَّلَاةُ؟ قَالَ: «خَيْرُ
مَوْضُوعٍ اسْتُكْثِرَ أَوْ اسْتُقِلَّ».
قَالَ:
قُلْتُ: فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ».
قَالَ:
فَقُلْتُ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلَهُمْ إِيمَانًا؟ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ
خُلُقًا».
قَالَ:
قُلْتُ: فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ
يَدِهِ وَلِسَانِهِ» قَالَ: قُلْتُ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ
هَجَرَ السَّيِّئَاتِ».
قَالَ:
قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «طُولُ الْقَنُوتِ».
قَالَ:
قُلْتُ: فَأَيُّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جَوْفُ اللَّيْلِ الغَابِرُ».
قَالَ:
قُلْتُ: فَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «فَرْضٌ مُجْزِئٌ عِنْدَ اللَّهِ
وَعِنْدَ اللَّهِ أَضْعَافٌ كَثِيرَةٌ».
قَالَ: قُلْتُ:
فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ، وَسِرٌّ بِه إِلَى
فَقِيرٍ».
قَالَ:
قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا
عِنْدَ أَهْلِهَا».
قَالَ:
قُلْتُ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ هُرِيقَ دَمُهُ وَعُقِرَ
جَوَادُهُ».
قَالَ:
قُلْتُ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: «آيَةُ
الْكُرْسِيِّ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضونَ السَّبْعُ
فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ،
وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ تِلْكَ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ».
قَالَ:
قُلْتُ: فَبِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَكَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ
وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا» قُلْتُ: فَكَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ:
«ثَلَاثُمِائَةٌ وَثَلَاثَةُ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ».
قُلْتُ:
فَمَنْ كَانَ أَوَّلُهُمْ؟ قَالَ: «آدَمُ».
قَالَ:
قُلْتُ: آدَمُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ
وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ثُمَّ سَوَّاهُ قَبْلًا، يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ
سُرْيَانِيُّونَ آدَمُ وَشِيثُ وَخُنُوعُ، وَهُوَ إِدْرِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَنُوحٌ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ
وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، وَإِبْرَاهِيُم مِنْ كوُثا رِيا،
وَسَائِرُهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ آدَمُ
وَآخِرُهُمْ أَنَا، وَأَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَآخِرُهُمْ
عِيسَى، قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَمْ كِتَابًا
أَنْزَلَ اللَّهُ؟ قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ،
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى شِيثَ بْنِ آدَمَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَى خُنُوعَ وَهُوَ إِدْرِيسُ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى مِنْ قَبْلُ
التَّوْرَاةَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ» قَالَ: فَقُلْتُ: فَمَا كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ؟
قَالَ: «كَانَتْ أَمْثَالًا كُلُّهَا كَانَ فِيهَا، أَيُّهَا الْمَلِكُ
الْمُسَلَّطُ الْمَغْرُورُ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا
بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ
الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ، وَكَانَ
فِيهَا عَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ
لَهُ سَاعَاتٌ، سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُفَكِّرُ فِي صُنْعِ
اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يُحَدِّثُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو بِذِي
الْجَلَالِ، وَإِنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ عَوْنٌ عَلَى تِلْكَ السَّاعَاتِ، وَكَانَ
فِيهَا عَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ لَا
يَكُونَ ظَاعِنًا إِلَّا فِي ثَلَاثٍ، تَزَوُّدٌ لِمَعَادٍ، وَمَرَمَّةٌ
لِمَعَاشٍ، وَلَذَّةٌ فِي غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَكَانَ فِيهَا عَلَى الْعَاقِلِ مَا
لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ
مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ وَمَنْ حَسِبَ الْكَلَامَ مِنْ
عَمَلِهِ يُوشِكُ أَنْ يُقِلَّ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ».
قُلْتُ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَمَا كَانَ فِي صُحُفِ مُوسَى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَرًا
كُلُّهَا، كَانَ فِيهَا: عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ كَيْفَ هُوَ
يَضْحَكُ، وَعَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ هُوَ يَفْرَحُ، وَعَجَبًا
لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا وَهُوَ يَطْمَئِنُّ
إِلَيْهَا، وَعَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ، وَعَجَبًا
لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا وَهُوَ لَا يَعْمَلُ.
قُلْتُ:
بِأَبِي وَأُمِّي هَلْ بَقِيَ مِمَّا كَانَ فِي صُحُفِهِمَا؟ قَالَ: " نَعَمْ
يَا أَبَا ذَرٍّ اقْرَأْ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
يَعْنِي إِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَوْصِنِي قَالَ:
«أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ رَأْسُ أَمْرِكَ كُلِّهِ».
قَالَ:
قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: «عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، تَذَكَّرِ اللَّهَ
كَثِيرًا فَإِنَّهُ يَذْكُرُكَ فِي السَّمَاءِ».
قُلْتُ:
زِدْنِي، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ».
قُلْتُ:
زِدْنِي، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ فَإِنَّهَا مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ،
وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى دِينِكَ».
قُلْتُ:
زِدْنِي، قَالَ: «إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ، فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ،
وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ».
قُلْتُ:
زِدْنِي، قَالَ: «حِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ».
قُلْتُ:
زِدْنِي، قَالَ: «قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا».
قُلْتُ:
زِدْنِي، قَالَ: «لَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ».
قُلْتُ:
زِدْنِي، قَالَ: «صِلْ رَحِمَكَ وَلَوْ قَطَعُوكَ».
قُلْتُ:
زِدْنِي، قَالَ: «رَدُّكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِكَ، وَكَفَى
بِالْعَبْدِ عَيْبًا أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا يَجْهَلُ مِنْ نَفْسِهِ،
وَتَكَلَّفَ مَا لَا يَعْنِيهِ، يَا أَبَا ذَرٍّ لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ،
وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ».
قلت: هذا
الحديث بطوله من صنع عَمْرو بن بَكْرٍ السَّكْسَكِيّ الشامي، أو سرقه من غيره!
فجعله عَنْ مُحَمَّدِ بنِ القَاسِمِ!!
قال ابن حبان
في «المجروحين» (2/79): "يروي عن الثِّقَات الأوابد والطامات الَّتِي لَا يشك
من هَذَا الشَّأْن صناعته أَنَّهَا معمولة أَو مَقْلُوبَة لَا يحل الِاحْتِجَاج
بِهِ".
واتهمه بالكذب
في «الثقات» (7/438) فقال في ترجمة «محمد بن عبدالواحد الأفطس»: "رَوَى
عَنْهُ: عَمْرو بْن بكر السكْسكِي، يُعْتَبر حَدِيثه من غير رِوَايَة عَمْرو
عَنْهُ؛ فَإِن عَمرًا يكذب".
وقال ابن عدي
في «الكامل» (6/251): "ولِعَمْرِو بنِ بَكْرٍ هَذَا أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ
عَنِ الثِّقَاتِ".
وروي هذا
الحديث بطوله من طريق آخر:
رواه ابن حبان
في «صحيحه» (2/76) (361) عن الحَسَن بنِ سُفْيَانَ الشَّيْبَانِيّ، والحُسَيْنِ بنِ
عَبْدِاللَّهِ القَطَّانُ، وَابنِ قُتَيْبَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ
هِشَامِ بن يحيى بن يحيى بن الغَسَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ
جَدِّي، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ
المَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ
وَحْدَهُ، فذكر الحديث بطوله.
قال ابن حبان:
"أبو إدريس الخولاني هذا هو عائذ اللَّهِ بنُ عَبْدِاللَّهِ وُلِدَ عَامَ
حُنَيْنٍ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَ
بِالشَّامِ سَنَةَ ثَمَانِينَ. ويَحْيَى بنُ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ مِنْ كِنْدَةَ
مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الشَّامِ وَقُرَّائِهِمْ، سَمِعَ
أَبَا إدريس الخولاني وهو ابن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَوْلِدُهُ يَوْمَ
رَاهِطَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَوَلَّاهُ
سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ قَضَاءَ الْمَوْصِلِ، سَمِعَ سَعِيدَ بنَ
المُسَيِّبِ وَأَهْلَ الحِجَازِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى القَضَاءِ بِهَا حَتَّى
وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالعَزِيزِ الخِلَافَةَ فَأَقَرَّهُ عَلَى الحُكْمِ،
فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا أَيَّامَهُ وَعُمِّرَ حَتَّى مَاتَ بدمشق سنة ثلاث
وثلاثين ومئة".
ورواه بعض أهل
العلم في مصنفاتهم من طريق إبراهيم هذا بأجزاء منه:
فروى الطبراني
جزءاً منه في «المعجم الكبير» (2/157) (1651)، وفي «مكارم الأخلاق» (1)، وفي «الأوائل»
(13) عن أَحْمَد بن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ الدِّمَشْقِيّ المُقْرِئ.
ورواه أبو بكر
الآجري في «الأربعون» (44).
وأبو نُعيم في
«الحلية» (1/166) عن مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ.
كلاهما
(الآجري، ومحمد بن أحمد) عن أَبي بَكْرٍ جَعْفَر بن مُحَمَّدٍ الفِرْيَابِيّ.
ورواه أبو
نُعيم أيضاً عن الطبراني.
ورواه ابن
عبدالبر في «التمهيد» (9/199) عن مُحَمَّد بن خَلِيفَةَ.
والقضاعي في «مسند
الشهاب» (1/378) (651)، و(2/39) (837) عن أَبي مُحَمَّدٍ عَبْدالرَّحْمَنِ بن
عُمَرَ التُّجِيبِيّ البزار، عن أَبي مَرْوَانَ عَبْدالمَلِكِ بن يَحْيَى بْنِ
شَاذَانَ.
ورواه أيضاً (1/431)
(740) عن أَبي الفَتْحِ مُحَمَّد بن الحَسَنِ الحَمْرَاوِيّ، عن أَبي بَكْرٍ
مُحَمَّد بن الحُسَيْنِ الْآجِرِيّ.
وابن الجوزي
في «البر والصلة» (354) من طريق أَبي بَكْرٍ مُحَمَّد بن أَحْمَدَ الشِّمْشَاطِيّ.
أربعتهم (محمد
بن خليفة، وابن شاذان، والآجري، والشمشاطي) عن جَعْفَر الفِرْيَابِيّ.
ورواه الخطابي
في «غريب الحديث» (2/157) عن أَحْمَد بن إِبْرَاهِيمَ بنِ مَالِكٍ، عن الحسن بن
سفيان.
وابن بشران في
«أماليه - الجزء الثاني» (1528) عن مُحَمَّد بن المُظَفَّرِ، عن أَبي الحَسَنِ
مُحَمَّد بن الفَيْضِ بنِ الفَيَّاضِ الدمشقيّ.
والبيهقي في «شعب
الإيمان» (6/357) (4325) من طريق أَبي سَعِيدٍ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ رُمَيْحٍ
النَّسَوِيّ. و(10/384) (7668) من طريق أَبي بَكْرٍ أَحْمَد بن سَعِيدِ بنِ
فَرْضَخٍ الْأَخْمِيمِيّ، كلاهما عن مُحَمَّد بن الحَسَنِ بنِ قُتَيْبَةَ.
كلهم (أحمد بن
أنس الدمشقي، والفريابي، والحسن بن سفيان، ومحمد بن الفيض، ومحمد بن الحسن بن
قتيبة) عن إِبْرَاهِيم بن هِشَامِ بن يحيى بن يحيى بن الغَسَّانِيّ.
وأشار إليه
ابن حبان أيضاً في كتاب «المجروحين»، فإنه ذكر فيه «يحيى بن سعيد الشهيد» (3/129)،
ثم قال: "شيخ يروي عَن ابن جريج المقلوبات وَعَن غَيره من الثِّقَات الملزقات
لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ إِذَا انْفَرد. رَوَى عَنْ ابن جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ،
عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ
وَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَ لِي
يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ
الحَدِيثَ الطَّوِيلَ فِي وَصِيَّةِ أَبِي ذَرٍّ".
ثم قال: "ولَيْسَ
من حَدِيث ابن جُرَيْجٍ وَلا عَطَاءٍ وَلا عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَشْبَهُ مَا
فِيهِ رِوَايَةُ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَخْبَرَنَاهُ
الْقَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى
الْغَسَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَولَانِيّ،
عَن أبي ذَر بِطُولِهِ".
قلت: هذا حديث
منكر باطل!!!
قال الذهبي في
«تاريخ الإسلام» (5/478): "الحديث الطّويل المُنْكَر الَّذِي يُروى أيضًا
عَنْ أَبِي إدريس الخَوْلانيّ، عَنْ أَبِي ذَرّ".
وقال في ترجمة
«إبراهيم» من «تاريخ الإسلام» (5/779): "وهو صاحب حديث أبي ذرّ الطّويل.
تفرَّد به، عن أبيه، عن جدّه. قال الّطبرانيّ: لم يروه عن يحيى إلا ولده، وهم
ثقات. وذكره ابن حبان في الثقات. وخرج حديثه الطّويل وصحّحه".
قلت: العجب من
ابن حبان كيف صححه!! وراويه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني متّهم بالكذب!!
وقال ابن أبي
حاتم في «الجرح والتعديل» (2/142): قلتُ لأبي: لِمَ لا تحدّث عن إبراهيم بن هشام
الغسّانيّ؟ فقال: "ذهبتُ إلى قريته، فأخرج إليّ كتابًا، زعم أنّه سمعه من
سعيد بن عبدالعزيز، فنظرتُ فيه فإذا فيه أحاديث ضَمْرة عن رجاء بن أبي سلمة، وعن
ابن شوذب، ويحيى بن عمرو السيباني. فنظرت إلى حديث فاستحسنْتُه من حديث اللّيث بن
سعد، عن عقيل، فقلت له: اذكر هذا. فقال: حدثنا سعيد بْن عبدالعزيز، عن ليث بْن
سعد، عن عَقِيل - بالكسر -. ورأيتُ في كتابه أحاديث عن سُوَيْد بن عبدالعزيز، عن
مغيرة وحصين قد أقلبها على سعيد بن عبدالعزيز! فقلت له: هذه أحاديث سويد بن عبدالعزيز؟
فقال: حدثنا سعيد بن عبدالعزيز عن سويد! وأظنه لم يطلب العلم، وهو كذاب".
قال ابن أبي
حاتم: ذكرت لعلي بن الحسين بن الجنيد بعض هذا الكلام عن أبي، فقال: "صدق أبو
حاتم، ينبغي أن لا يُحدَّث عنه".
ونقل ابن
الجوزي عن أبي زُرعة أنه قال فيه: "كذاب"!
وقال الذهبي
في «الميزان» (4/378): "إبراهيم بن هشام: أحد المتروكين الذين مشّاهم ابن
حبان فلم يُصب".
وقد روى بعض
أهل العلم في مصنفاتهم أجزاء من هذا الحديث الطويل المكذوب على أبي إدريس
الخولاني!!
روى محمد بن
عثمان بن أبي شيبة في كتاب «العرش» (58) عن الحَسَن بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ
أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ، عَنِ المُخْتَارِ
بْنِ غَسَّانَ العَبْدِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي
إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَحْدَهُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ
آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَيْكَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «آيَةُ الْكُرْسِيُّ، مَا السَّمَاوَاتُ
السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ العَرْشِ
عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ تِلْكَ الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ».
رواه ابن بطّة
في «الإبانة الكبرى» (7/181) (136) عن أَحْمَد بن سَلْمَانَ، عن مُحَمَّد بن
عُثْمَانَ، به.
قلت: هذا
إسناد فيه جهالة!! المختار بن غسان مجهول لا يُعرف! وإسماعيل إن كان هو المكي فهو
ليس بشيء! وإن كان العبدي البصري فهو ثقة، إلا أن بينه وبين أبي إدريس الخولاني
مفاوز!!
وروى الخرائطي
في «مكارم الأخلاق» (16) قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ القَنْطَرِيُّ، قال:
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ سَابِقٍ الرَّشِيدِيُّ، قال: حَدَّثَنَا بِشْرُ بنُ
خَيْثَمَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ
الْفِلَسْطِينِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ
أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ: «أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا».
قلت: تقدم
الكلام على رواة هذا الإسناد! وجاء "القاسم بن محمد" منسوباً! وأظنه
خطأ!
وروى تمّام في
«فوائده» (2/59) (1138) قال: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ
عَمْرِو بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ، قال: حدثنا أَبِي
أَبُو الحَسَنِ عَمْرُو بْنُ دُحَيْمٍ، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفًّى، قال:
حدثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قال: حدثنا أَبُو زُرْعَةَ الْفِلَسْطِينِيُّ - وَهُوَ
يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيُّ-، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ النَّاسُ
مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».
قال: أَخْبَرَنَا
أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، قال: حَدَّثَنِي
أَبُو الْحَسَنِ عَمْرُو بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ،
مِثْلَهُ.
قلت: هذا
إسناد ضعيف!
قال أبو زرعة
الدمشقي: "كان صفوان بن صالح ومحمد بن مصفى يُسوّيان الحديث كبقية بن الوليد".
ومحمد بن مصفى
فيه ضعف ويروي المناكير!
قال فيه أبو
حاتم: "صدوق".
وقال النسائي:
"صالح".
وقال صالح بن
محمد البغدادي: "كان مُخلطا، وأرجو أن يكون صادقا، وقد حدث بأحاديث مناكير".
وقال ابن
حبان: "وَكَانَ يخطىء".
والخلاصة أنه
لم يصح أيّ حديث عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذرٍّ الغفاري.
·
هل ما جاء في آخر الحديث من قول
سَعِيد بن عبدالعزيز: "كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيُّ، إِذَا حَدَّثَ
بِهَذَا الحَدِيثِ، جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ" يدلّ على أنه صحّ عن أبي إدريس؟!
وقد يقول
قائل: ما جاء من قول سَعِيد بن عبدالعزيز راوي الحديث: "كَانَ أَبُو
إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيُّ، إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الحَدِيثِ، جَثَا عَلَى
رُكْبَتَيْهِ" دليل على صحته إلى أبي إدريس، فكيف نردّه؟
أقول: الجواب
عن ذلك من وجوه:
الأول: لو صحّ
أن أبا إدريس روى هذا الحديث عن أبي ذر، وكان يفعل ذلك إذا حدث به، فهذا لا يدلّ
على صحة الحديث؛ إذ رجحت بأنه لم يسمع من أبي ذر! فيكون الحديث أعجبه، وكان إذا
حدّث به جثا على ركبتيه من أجل ذلك!
الثاني: قد
يكون رُوي عن أبي إدريس مثل هذا القول في حديث آخر، فدخل على سعيد بن عبدالعزيز في
هذا الحديث!
الثالث: هذه
الأفعال التي تُنقل عن بعض الرواة إذا حدث بحديث ما مشهورة عند بعض الرواة
الشاميين!!
فنجد بعض
الرواة الضعفاء والمتهمين يقولون: "لوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا"،
أو: "لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ عَشْرًا أَوْ
عِشْرِينَ مَا حَدَّثْتُ بِهِ"!!
وقد مر آنفا
حديث عَمْرو بن وَاقِدٍ القُرَشِيّ وفي آخره: "قَالَ هِشَامٌ: كَانَ أَبُو
إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيُّ، يَقُولُ: مِثْلُ هَذَا الحدِيثِ فِي الْأَحَادِيثِ،
كَمِثْلِ الْإِبْرِيزِ فِي الذَّهَبِ"!
وعمرو هذا
منكر الحديث!
وفي حديث
الوليد بن مسلم الدمشقي عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر: "قالَ ابنُ جَابِرٍ:
فَقُلْتُ: - يَعْنِي لِرُزَيْقٍ - حِينَ حَدَّثَنِي بِهَذَا الحَدِيثِ: آللَّهِ،
يَا أَبَا المِقْدَامِ، لَحَدَّثَكَ بِهَذَا، أَوْ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ مُسْلِمِ
بْنِ قَرَظَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ
القِبْلَةَ، فَقَالَ: "إِي وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ،
لَسَمِعْتُهُ مِنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ
مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وهذا حديث
ضعيف كما فصلت في غير هذا الموضع!
وروى أبو أحمد
الحاكم في «فوائده» (37) من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه، عن عرفجة بن
شراحيل الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون هنات
وهنات - ومدّ صوته بالآخرة - فمن أراد أن يفرق بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وأمرها جامعٌ فاقتلوه كائناً من كان».
ثم استقبل
عرفجة القبلة، فقال: "والله الذي لا إله إلا هو لقد قال: اقتلوه كائناً من
كان، ما استثنى أحداً".
وهذا الحديث
أصله عراقي عن عرفجة، وليس فيه ما جاء في آخره: "ثم استقبل عرفجة..."!!
وخالد بن يزيد
بن أبي مالك دمشقي، وهو ضعيف جداً، يروي المناكير، وتركه بعض أهل العلم!!
وهذه
المبالغات تدلّ في الغالب على وهن الرواية! فلا تحتاج الرواية لمثل هذه الألفاظ لو
كان الحديث مضبوطاً!!
·
الخلاصة والفوائد:
لقد خلصت من
خلال هذا البحث إلى جملة من الفوائد، منها:
1- الحديث
القدسي المشهور: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي،
وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ
ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ...»، حديث شاميّ:
رواه سَعِيد
بن عَبْدِالعَزِيزِ التّنوخيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ
الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرّ، مرفوعاً.
ورواه:
أَيُّوب السختياني، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، موقوفاً.
ورواه شهر بن
حوشب في العراق! واختلف عنه:
فرواه جماعة عنْ
شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
ورواه عامر
الأحول، عن شهر، عن معدي كرب، عن أبي ذر، بلفظ مختلف!
ورواه علي بن
زيد بن جُدعان، عن شهر، عن تُبيعٍ ابن امرأة كعب الأحبار من قوله!
2- حديث سعيد
بن عبدالعزيز التنوخي صححه مسلم، وابن حبان، والحاكم، وأبو نُعيم الأصبهاني
وغيرهم.
3- لم يثبت أن
أبا زُرعة الدمشقي صححه كما في فوائده المعللة!
4- حسّن
الترمذي حديث شهر بن حوشب المرفوع! والأقرب للصواب في حديث شهر أنه عن تُبيع قوله
من الإسرائيليات، وهو أصل الأحاديث الأخرى المرفوعة والمرسلة.
5- لم يسمع قتادة
من أبي قلابة البصري، وإنما روى عنه من كتبه.
6- وَهِمَ هَمَّام
بن يَحْيَى العوذيّ في روايته لهذا الحديث عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ،
عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فزاد فيه: "عن أبي أسماء الرحبي"،
وزاد فيه الرفع!
والصواب كما
رواه أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي ذر، موقوفا.
7- احتاط
الإمام البخاري فلم يُخرّج من حديث أيوب عن أبي قلابة من حديث الشاميين شيئا! وأكثر
من حديثه عن أنس. وأما مسلم فخرّج له بعض الأحاديث عن الشاميين وفيها بعض العلل!
8- الحديث إذا
كان فيه تفرد في طبقة متأخرة، وله أصل مرسل أو موقوف صحيح قبله فإن هذا يكون أصله!
فيكون دخل على الراوي الذي تفرد به حديث في حديث أو سلك الجادة ونحو ذلك!
9- سعيد بن
عبدالعزيز التنوخيّ فقيه ثقة، لكنه اختلط في آخر عمره، ولم يكن له كتاب، وعلمه كان
في صدره، ولم يخرِّج له البخاري في الصحيح، وأخرج له الإمام مسلم، وله اضطراب في
بعض حديثه.
وقد اختلف
عليه في هذا الحديث، فرواه عنه جماعة مرفوعاً، ورواه عنه الوليد بن مسلم موقوفاً!
وقد تفرد
برواية هذا الحديث عن ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر،
مرفوعاً!
وتفرده به في
هذه الطبقة غريب جداً!
وقد وهم فيه،
والمحفوظ ما يُروى عن أبي قلابة منقطعاً موقوفاً.
10- كان سعيد
بن عبدالعزيز يهم في حديث، ويضطرب فيه، وقد أدرك هذا الإمام الحافظ أبو زرعة
الدمشقي، فأورد حديث «تحريم الظلم»، وأربعة أحاديث أخرى له في «الفوائد المعللة»
لبيان وهم سعيد فيها!! وكان أحياناً يسلك جادة "ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس
الخولاني"، فيزيد في بعضها: "عن أبي إدريس"! ويخالف غيره أحياناً
أخرى! ويروي إسناد بعض الأحاديث على أوجه أحياناً! وكلّ ذلك يدلّ على عدم حفظه
بسبب عدم كتابته لحديثه ومراجعته وتعسره فيه لزهده وعبادته – رحمه الله -.
11- متن
الحديث يُشبه ما في التوراة من الإسرائيليات، والأقرب أنه من رواية تُبيع الحميري
ابن امرأة كعب الأحبار، قوله، من كتب الأوائل.
12- سمع أبو
إدريس الخولاني من الصحابة القدماء الذين نزلوا الشام وسكنوها، وهم: عبادة بن
الصامت، وأبي الدرداء، وشداد بن أوس.
13- لم يُدرك
أبو إدريس الخولاني معاذ بن جبل، ولم يسمع من أبي ذر، ولا من حذيفة بن اليمان!
14- رُوي عن
أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر بعض الأحاديث، لكن لا يصح منها شيء.
وآخر دعوانا أن
الحمد لله ربّ العالمين
وكتب: خالد
الحايك - عفا الله عنه -.
1 شعبان
1440هـ.
·
اعتراضات
وإجابات!
بعد أن نشرت البحث طالعه بعض طلبة العلم، وكعادته كان لأحد الإخوة الأحبة
بعض الاعتراضات من باب المذاكرة وإثراء البحث، وهذا - والله - مما يفرح به الإنسان
من أجل الوصول للحقّ ضمن منهج أهل العلم، فالمرء بإخوانه، والوصول للنتائج المرضية
هي هدف طلبة العلم ومن يحملونه، وليس الأمر أن يعجب المرء بنفسه، وألا يستمع لأحد،
بل يشكر الله ويحمده أن هيأ له من إخوانه من يذاكره وينبهه إلى بعض الأمور التي قد
يغفل عنها.
وقد طرح هذا الأخ الحبيب والدكتور الزميل الأريب بعض الاعتراضات، سأوردها،
ثم أجيب عنها:
أولا: ألا تدل جملة سعيد التنوخي في الرواية: "كان أبو إدريس الخولاني
إذا حدث بهذا الحديث يجثو على ركبتيه"- ألا تدل على ضبطه؟
قلت:
قد أجبت عن هذا الاستشكال فيما مضى، وبيّنت أن هذا يكون في حديث الشاميين
في بعض الروايات التي لا تصح! وكأن بعضهم يدخلها في الرواية لإكسابها القبول!
وإذ قررت أن سعيد بن عبدالعزيز تفرد بإسناده، ولا يحفظ هذا الحديث من
الطريق الذي رواه به، وهو يهم ويضطرب في حديثه، فلا بدّ أن يكون للحديث إسناد آخر
سمع هذا الحديث به، وفيه أن أبا إدريس كان يفعل ذلك لما يحدّث به، وهذا يحتاج
لإثبات أن الحديث صح عن أبي إدريس أولاً!! ولو صح أن أبا إدريس روى الحديث فهو لم
يسمع من أبي ذر، فالحديث مرسل منتشر عند الشاميين، وهو قد أعجبه هذا الحديث فكان
يفعل ذلك عند التحديث به، ولا يدل ذلك على أنه سمع الحديث وضبطه، والله أعلم.
وفي الحديث الذي رواه سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة عن أبي إدريس الخولاني في
الأجناد، وهو ضعيف كما بينته في بحث خاص، جاء في آخره: "وكَانَ أَبُو إِدْرِيسَ
إِذَا حَدَّثَ بِهَذا الحَدِيثِ الْتَفَتَ إِلَى ابنِ عَامِرٍ، فَقَالَ: مَنْ
تَكَفَّلَ اللَّهُ بِهِ فَلا ضَيْعَةَ عَلَيْهِ"!!
يعني كل حديث يروونه عن أبي إدريس ينقلون فعلاً له عندما يحدّث بالحديث!!
وهذا لا يصح!
وقد وردت مثل هذه المؤكدات في عدد من أحاديث أهل الشام المعلولة أو الضعيفة
كالاستحلاف، واستقبال القبلة، وادعاء سماع ذلك مرات عديدة من الراوي أو من النبي
صلى الله عليه وسلم، وقد أحصيت - بحمد الله- عددا منها وتكلمت عن بعضها في بحوث
سابقة، ولعلي أفردها ببحث مستقل إن شاء الله تعالى.
ثانياً: تضعيف هذا الحديث ينسف أصلاً في "تحريم الظلم"، والعلماء
يوردونه في هذا الأصل؟!
قلت:
هذا الأصل العظيم = أقصد تحريم الظلم قائم على آيات قرآنية كثيرة، وأحاديث
صحيحة أخرى، فتضعيف هذا الحديث لا علاقة له بنسف هذا الأصل!! فيبقى الأصل ثابتاً
بغيره.
لكن لما كان هذا الحديث مشهوراً على ألسنة العلماء والوعاظ قد يُكبر من
يسمع تضعيف الحديث فلا يعجبه، فيقول هذا القول!!
وقد روى البخاري هذا الحديث في كتابه "الأدب المفرد" في آخر
"بَاب الظُّلْم ظُلُمَات" بعد أن أورد تحت هذا الباب أحاديث صحيحة
ومشهورة، وختم الباب بهذا الحديث.
ثالثاً: رواية تُبيع الحميري، أغلب الظن إنْ لم يكن جزما أن الإمام مسلم وقف
عليها، وهو إمام العلل فلماذا لم يقم بتوظيفها في سبر الروايات.
قلت:
هذا اعتراض كثيراً ما نسمعه عند الاجتهاد في تضعيف بعض الأحاديث! هل غفل
فلان عن هذا، وهو إمام في العلل؟ وإمام في كذا وكذا؟
من أنت حتى نستمع لقولك دون فلان؟ وأين أنت من علمه؟
معاذ الله أن ننتقص من هؤلاء الأئمة، أو أن ندعي زوراً مساواتهم، وما نحن
إلا عيال عليهم - رحمهم الله -. من معينهم نستقي، ومن علمهم نرتوي، فهم تيجان
الرؤوس.
وهم أنفسهم كانوا يختلفون، فيضعف بعضهم حديثاً ويُعلّه في حين يصححه الآخر،
والعكس! فهناك أحاديث أعلها الإمام البخاري خرجها مسلم في صحيحه، فهل نقول: كيف لم
يطلع عليها مسلم وهو إمام في العلل؟ بل هو تلميذ البخاري؟!
وهناك أحاديث أخرجها البخاري في صحيحه أعلها الإمام أحمد، والعكس، وهما
إمامان في العلل، فهل نقول: كيف غابت هذه العلة عن فلان وهو إمام في العلل؟!!
إن فتحنا هذا الباب سندور في حلقة مفرغة ولن نخرج منها أبداً، ولن نهتدي
إلى الصواب!!
فكل إنسان يتكلم بما عنده من أمور، وقد تغيب عنه أشياء، وقد يكون مطلعا على
أمور لكنه لا يراها تؤثر فيما يذكره من تصحيحه لحديث ما، تبعا لشرطه أو منهجه وغير
ذلك.
ومن المعلوم أن مسلما يُنازع في أصل الشرط الذي يخرّج به الأحاديث عموما في
كتابه = ألا وهو شرط المعاصرة بين الراويين، وهذه المسألة قد أخذت مساحة واسعة عبر
القرون، ولا تزال! فيثبتها كثير من أهل العلم، وينفيها آخرون، وحصل بسبب ذلك تخبط
كبير، وكل هذا بنوه على أصل هذا الاعتراض أن مسلما إمام في العلل، وهذا ما لا
ننكره، لكن هو له اجتهاداته، ويُخالف في بعضها، وقد يُخطئ في بعض ما يذهب إليه،
وهذه المسألة تحتاج لضبط وتحرير، والله الموفق.
ثم ما أدرانا أن مسلما وقف على رواية تُبيع!! أطّلعنا على الغيب! فهذا حديث
التربة الذي رواه في صحيحه، أعلّه البخاري بأنه من الإسرائيليات! فهل نقول بأن
الإمام مسلم اطلع على رواية كعب الأحبار، لكنه لم يأبه بها وصحح الحديث؟!
ثم لو كان مسلم وقف على هذه الرواية لربما كان رأيه مثل رأي أبي حاتم إمام
العلل واعتداده بهذه الرواية كما بينت في ثنايا البحث.
فهذه الفرضيات لا تنفع في علم التعليل، ونحن نتحاكم إلى ما بين أيدينا من
حجج ضمن منهج أهل النقد.
فمن اقتنع فبها ونعمت، وإلا فلا نُضيّق على المخالف، وليسعه التقليد.
رابعاً: لماذا رجّحتم عدم سماع الخولاني من معاذ، ومن الثابت في ترجمة
الخولاني أنه كان له دور في فتنة الأسود العنسي باليمن، والقضاء عليها، ومعاذ رضي
الله عنه أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن في أخريات حياته، وأبو مسلم
قدم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟
قلت:
خلط صاحبنا
هنا بين "أبي إدريس الخولاني" الذي يُروى عنه هذا الحديث، وبين
"أبي مسلم الخولاني"!
فأبو مسلم هو
من أتى المَدِيْنَةَ وقدْ قُبِضَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
واسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وهو من قيل بأن الأسود العنسي لما تنبأ أتى به، وقال
له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع؟ قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم،
قال: فأمر بنار عظيمة ثم ألقي أبا مسلم فيها فلم تضره، فقيل للأسود بن قيس: إن لم تنف
هذا عنك أفسد عليك من اتبعك فأمره بالرحيل، فقدم المدينة وقد قبض النبي صلى الله
عليه وسلم واستخلف أبو بكر، فأناخ راحلته بباب المسجد ودخل المسجد فقام يصلي إلى
سارية فبصر به عمر بن الخطاب فقام إليه فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل اليمن، فقال:
ما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبدالله بن ثوب، قال: فنشدتك بالله أنت
هو؟ قال: اللهم نعم، قال: فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين
أبي بكر الصديق، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله
عليه وسلم من صنع به كما صنع بإبراهيم خليل الرحمن.
وننبه هنا على
وهم وقع لأبي نُعيم الأصبهاني، وكنت قد أشرت إلى أن مولد أبي إدريس كان يوم حنين.
قال أبو نُعيم
في «معرفة الصحابة» (3/1604) في ترجمة «أبي مسلم الخولاني»: "كَانَ
مَوْلِدُهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وهُوَ الصَّحِيحُ".
فتعقبه ابن
عساكر في «تاريخه» (27/197) بعد أن نقل هذا، وقال: "هذا وهم فإن الذي مولده
يوم حنين: أبو إدريس لا أبو مسلم".
فكما خلط أبو
نُعيم هنا بينهما، خلط صاحبنا بينهما!
خامساً: هل تعسّر التنوخي بالضرورة يقضي بضعف ضبطه؛ إذ لا تلازم بينهما؟
وإذا حملناه على أنه باعث على ذلك - وهو على الاحتمال- فما الذي يمنع
المتعسّر في الرواية عموما عن المذاكرة في الرواية. لكن لا يحملُ عنه الرواة في
تلك الحال؟
ثم التنوخي فقيه، ومن كانت سمته كذلك يلزم أن الحديث يجري في عقله مثل الدم
في عروقه لحاجته إليه في المسائل والفُتيا؟
قلت:
التعسر مبحث مهم يجب ضبطه في سبر أحوال الرجال، وله آثار إيجابية وله آثار
سلبية، وصاحبنا له بحث في هذا، لكنه لم يتنبه إلى الآثار السلبية للتعسر!
فمن كان متعسراً في الحديث وهو أصلا لا يكتب ولا يراجع حفظه ومنشغل بأمور
الفتيا والقضاء، فلا بدّ له من ضعف الحفظ حينها، فتعسره وعدم تحديثه باستمرار أدّى
إلى عدم مراجعة حفظه فوقع في الأوهام والأخطاء.
فالتعسر في أصله ليس ملازماً للضعف، بل على العكس، بل قد يزيد الثقة تثبتا،
وليس هذا موضع الكلام على ذلك.
وأما مسألة المذاكرة للمتعسر فهذا يحتاج أولاً لإثبات، فإني لا أعرف أن
المتعسر في التحديث كان ينبسط في المذاكرة!! بل مثل سعيد التنوخي يتعسر في التحديث
وفي المذاكرة، ولا أعرف أنه كان يُذاكر أصلاً!
وأما أنه كان فقيها وهذا يجعل الحديث يجري في دمه وعروقه فهذا ليس بصحيح!!
فليس كل فقيه محدث والعكس، وكم من فقيه ضعيف في الرواية، بل إن كثيراً من القضاة
كانوا ضعفاء في الحديث، بل وكثير منهم متّهم أو متروك.
فالرواية شيء، والفقه شيء آخر.
وسعيد بن عبدالعزيز من أهل الرواية ولا ننكر ذلك، لكنه يهم في حديثه ويضطرب
كما سبق وبينته.
والرجل كان قاضيا، والراوي إذا انشغل بالقضاء أثّر ذلك على روايته في
العموم إلا بعض الأفراد الذين لم يؤثر القضاء على روايتهم.
سادساً: كيف دخلت صيغة الحديث القدسي إلى المتن؟
دخلت لأن الحديث القدسي من قول الله تعالى لكن بلفظ النبي صلى الله عليه
وسلم، وما في التوراه إنما هي في الأصل من الله كتبها الأنبياء ودخلها ما دخلها من
التحريف على مر السنين.
فالمرفوع فيه:
"قال الله تعالى..."، والذي عن تبيع: "إن في التوراة مكتوب يا
عبادي كلكم مذنب إلا من غفرت له...".
فهكذا دخل ما
في كتب أهل الكتاب إلى أن صار الحديث قُدسياً!
سابعاً: أعلّ الدارقطني بعض أسانيد هذا الحديث، فلم لم يُعلّه؟ وكذا لم
يورده في كتابه "الإلزامات"؟
قلت:
الدارقطني أعلّ بعض أسانيد حديث شهر، ولم يتعرض لإسناد أبي إدريس الخولاني
عن أبي ذر، ومعروف أن الدارقطني يتوسع في كتابه فيما يتعلق بالإسناد الذي سُئل
عنه.
فلو سئل عن حديث أبي إدريس ولم يعلله لقلنا بأنه يراه صحيحاً، فعدم التعرض
له بإعلال لا يعني أنه يرى صحته كذلك.
وعدم إيراده أيضاً في كتابه "الإلزامات" لا يعني أنه يراه
صحيحاً؛ لأنه لم يقل لنا بأن ما في الصحيحين من أحاديث منتقدة هي هذه فقط التي في
هذا الكتاب وما عداها صحيح!! فلا نلزمه ما لا يلتزمه، ولا نقوّله ما يقل! بل إن
الدارقطني أعلّ أحاديث في الصحيح في كتابه "العلل" ولم يتكلم عن إعلالها
في "التتبع"، وتستحق الدراسة لمقارنة طريقته في الإعلال.
فكلما تكلمنا عن حديث في الصحيحين ضمن منهج أهل الحديث خرج علينا بعض الناس
بقولهم: هذا لم ينتقده الدارقطني في كتابه، فهو يراه صحيحا، وهل أنت أعلم منه؟!!
حاشا وكلا أن نزعم ما ليس فينا، فما نحن أمام هذا الجبل - رحمه الله -، لكن
ليس كل ما تكلم عليه الدارقطني نقبله بإطلاق، قد نخالفه بالدليل ونناقشه، وقد
يفوته بعض الأشياء، وقد تفوته أحاديث لم يحررها ويتكلم عنها، فلا يجوز حينها أن
نقول: لم ينتقدها فهي صحيحة!! فهذا مما لا دليل عليه! ولا يقبل أبداً!
ثامناً: متن رواية تبيع هل هي نفسها متن رواية أبي إدريس الخولاني؟ فإن لم
تكن مثلها، فكيف يكون أصل حديث أبي إدريس رواية تُبيع؟
عندما ذكر أهل العلم رواية تُبيع ذكروا أولها واختصروها كما هي عادة أهل
العلل.
فها هو ابن
أبي حاتم ذكر رواية شَهْر بنِ حَوْشَب، عن عبدالرحمن بنِ غَنْم، عَنْ أَبِي ذَرٍّ،
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: يَا عِبَادِي،
كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ...، وذَكَرَ الحديثَ؟
ثم نقل قول
أبيه وأبي زرعة: "رَوَاهُ حمَّاد بنُ سَلَمة، عَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، عَنْ
شَهْر بنِ حَوْشَب، عَنْ تُبَيْعٍ، قولَهُ".
فهذا يدل على
أن المتن هو هو في هاتين الروايتين.
ورواية شهر في
أغلبها موافقة لما رُوي عن أبي إدريس الخولاني، وإن كان هناك بعض الأشياء ليست
موجودة في رواية منها فهذا لا يدل على أنها ليست أصلها، فالروايات المرسلة عموماً
يدخلها أشياء تختلف عن غيرها نظراً لأنها مرسلة ليست مضبوطة، فما بالك في الروايات
المرسلة المنتشرة عند الشاميين!! ففيها العجب العجاب لمن أدمن النظر فيها وعرف حال
القوم وكيف كانوا يروون هذه المراسيل، وكيف تنتشر!!
ويكفي عند أهل
العلم أن يعللوا رواية ما بأن أصلها رواية أخرى وإن كان هناك اختلاف قليل بينهما،
بل إن هذا الاختلاف يؤيد هذا الأصل إذ لو كانت تلك الرواية ليست أصل الأخرى
لوجدناها عند الثقات بأسانيد نقية لا أوهام فيها، والله أعلم.
·
شبهات
وتفنيدها!
ثمّ أرسل لي أحد الإخوة الأحبة تسجيلا في نحو عشرين دقيقة لأخ أديب فاضل في
بعض المجموعات يعترض على تضعيفي للحديث، ورد على كلامي في هذا الحديث.
وسأنقل كلامه في نقاط ثم أجيب عنه وأبينه بتفصيل - وإن كنت قد أجبت عن غالب
هذه الشبهات والاعتراضات في أثناء البحث - لكن لا بأس من مزيد تفصيل.
1- قال الأخ - وفقه الله تعالى -: "إن الشيخ يرتكز على نقطة واحدة في
تعليل الحديث، وهي تفرد سعيد بن عبدالعزيز التنوخي. وأخذ هذا أكثر من مظهر عند
الشيخ في تعليله مثل: عدم احتمال سعيد لهذا التفرد! وأيضاً عدم ضبطه للحديث من حيث
أوهامه مما وقف عليه الشيخ واضطرابه! ومما بينه الشيخ وارتكازه في عدم احتمال تفرد
سعيد لهذا الحديث اختلاطه! وكذلك الطرق المرسلة والموقوفة التي ذكرها الشيخ حتى
يبين فيها عدم ضبط سعيد لهذا الحديث! فالأصل فيه أنه مرسل أو موقوف! وكذلك مما
ارتكز عليه الشيخ مسألة الانقطاع بين أبي إدريس الخولاني وبين أبي ذر...".
قلت:
جزى الله خيراً هذا الأخ الذي لا أعرفه، وأشكره على أدبه الجمّ حقيقة..
والعتب عليه أنه استعجل التعقيب!!
فبحث قضيت فيه زمناً.. نقضه في "دقائق معدودة" بأمور عامة -
أعرفها بفضل الله تعالى - بعيدة عن روح ما تكلمت عليه كما سأبينه إن شاء الله
تعالى.
فالأخ يذكر أنني ارتكزت على نقطة واحدة في تعليل الحديث وهي
"التفرد"! ثم يناقض ذلك، ويذكر مسألة الانقطاع بين أبي إدريس وأبي ذر.
فلم أعتمد فقد على التفرد، بل على الانقطاع أيضاً، وكذا على أن أصل الحديث
عند الشاميين. وسأفصّل في ذلك كله إن شاء الله.
2- ثم قال الأخ: "تفرد سعيد في ظني أنه مقبول؛ لأمور:
أولاً: أن سعيد هو من طبقة الإمام مالك وشعبة والثوري والأوزاعي وغيرهم،
وهذه الطبقة كما هو معلوم تنفرد بشيء من الأحاديث، فانفراد أمر هذه الطبقة ليس
أمرا غريبا، وأيضا ليس مدعاة للرد والإعلال! يُنظر من احتمل تفرده لسعة ما يروي،
ولجلالة قدره، واتقانه وضبطه، فيقبل تفرده، ومن خف ضبطه وكثرت أوهامه وغيرها من
القوادح والعوارض التي تعرض للرواة فإن تفرده لا يُحتمل! فسعيد من طبقة الإمام
مالك وشعبة..".
قلت:
أصّل الأخ القاعدة في أن هذه الطبقة يُحتمل تفردها بإطلاق! ثم نقض ذلك بأنه
فصّل فيها: فيحتمل تفرد من كان واسع الرواية، وكان كبير القدر ومتقن وضابط، ومن خف
ضبطه وكثرت أوهامه فلا يقبل!
وهذا الذي نذهب إليه! فلما سبرت أحاديث سعيد التنوخي وجدت أن فيها أوهام،
وعدم ضبطه للحديث، فقلت بعدم احتمال تفرده! فضلا عن أننا نتردد في وصفه بسعة
الرواية فلا يقارن عدد مروياته التي وصلتنا بمرويات كبار أهل طبقته كالليث
والأوزاعي ومالك وسفيان بل هم أكثر منه بأضعاف مضاعفة.
ثم هو على جلالة قدره ومكانته في أهل الشام إلا أن أهل العلم لم يشيروا إلى
أن حديثه مقبول بإطلاق!
نعم، هو ثقة، ولا نشك في ذلك، لكن إذا تبين لنا أنه أخطأ، أو وهم، فنرد
حديثه هذا الذي فيه خطأ، ولا ينفعه حينها إطلاق التوثيق فيه!
والحديث بهذا الإسناد غريب مع وجود أسانيد قبله تخالفه!
وها هو أبو داود يقول في «رسالته لأهل مكة» (ص: 29): "فَإِنَّهُ لا يحْتَج
بِحَدِيث غَرِيب وَلَو كَانَ من رِوَايَة مَالك وَيحيى بن سعيد والثقات من
أَئِمَّة العلم".
فمسألة التفرد يُنظر فيها للراوي وكذا للطبقة وحاله من الرواية وقرائن
أخرى، وأصل التفرد ليس علة، وإنما يعدّ علة بقرائن.
3- قال: "وأيضاً سعيد من أصح أهل الشام حديثاً كما ذكر الإمام أحمد..
فلتفرده مزية = يعني ليست مظنة علة وضعف، بل من كان في مثل هذا الحال فالتفرد شيء
ظاهر في حديثه.
وأيضاً هو الحجة كما ذكر ابن معين في ترجمته.. قال: الحجة فلان وفلان
وسعيد..
فهو حجة عند ابن معين. وكذلك هو لأهل الشام كمالك في أهل المدينة، وهذا كلام
الإمام أبي عبدالله الحاكم.. فمثل هذا يُقبل تفرده".
قلت:
لا ننازع في
أن سعيد بن عبدالعزيز من الثقات، وهو من أئمة أهل الشام، لكن المنازعة في بعض
الأحاديث التي يرويها - على قلة روايته - هي أصاب فيها أم لا؟!
فهذه
الإطلاقات من أهل العلم لا تعني قبول كلّ ما يُروى عنه!
نعم، قال فيه أحمد كما في «العلل ومعرفة الرجال» (3/53): "لَيْسَ
بِالشَّام رجل أصح حَدِيثا من سعيد بن عبدالعَزِيز التنوخي".
ولما أخرج أحمد في «المسند» حديث حَبِيبِ بنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: «شَهِدْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الخُمْسِ
فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ».
وبعد أن خرجه
من عدة روايات، ختم بهذه الرواية من حديث سعيد بن عبدالعزيز، ثم قال عبدالله بن
أحمد: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "لَيْسَ فِي الشَّامِ
رَجُلٌ أَصَحُّ حَدِيثًا مِنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ - يَعْنِي
التَّنُوخِيَّ".
والذي يظهر أن أحمد قال هذا في رواية سعيد هذه؛ لأنه ذكر بعض الروايات عن
مكحول، وهو من أصحاب مكحول وضبط عنه حديثه، وكأنه قصد به هذا الحديث، والله أعلم.
ورفع أحمد لمكانته أيضاً حيث سواه مع الأوزاعي.
قال عبدالله: سُئِلَ أبي عَن الْأَوْزَاعِيّ وَسَعِيد بن عبدالعَزِيز،
فَقَالَ: "هما عِنْدِي سَوَاء".
وكأنه سوّى بينهما في المرتبة والمكانة والفقه؛ لأن الأوزاعي في الحديث
أحفظ منه بكثير.
روى الدارمي في «سننه» (1/669) (1000) قال: أَخْبَرَنَا
مَرْوَانُ بنُ مُحَمَّدٍ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ شُعَيْبٍ، قال: حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بنُ سُلَيْمَانَ الْأَفْطَسُ، قَالَ: سَمِعْتُ العَلَاءَ بنَ الحَارِثِ،
عَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: "الْمَرْأَةُ تَنْتَظِرُ مِنَ الْغُلَامِ ثَلَاثِينَ
يَوْمًا، وَمِنَ الْجَارِيَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَعْنِي: النُّفَسَاءَ".
قَالَ مَرْوَانُ: "هُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ"،
وقالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "هُمَا سَوَاءٌ".
وهذا يُظهر لنا لزوم سعيد لمكحول والقول برأيه، وكان مكحول أفقه أهل الشام.
قال إسحاق بن سيار: قال عبدالله بن يوسف: "لم يكن في أصحاب مكحول أصح
حديثا من سليمان بن موسى، وسعيد بن عبدالعزيز، والعلاء بن الحارث".
قال أبو زرعة: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ: أَنَّ سَعِيدَ بنَ عَبْدِالعَزِيزِ
حَدَّثَهُ، أَنَّ كِتَابَ مَكْحُولٍ فِي الحَجِّ أَخَذَهُ مِنَ العَلَاءِ بنِ الحَارِثِ.
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال:
سمعت أبي يقول: "كان الأوزاعي إذا سئل عن مسألة وسعيد بن عبدالعزيز حاضر قال:
سلوا أبا محمد".
قال العباس: فظننت إنما كان يفعل ذلك لسنّ سعيد بن عبدالعزيز حتى سألت أبا
مسهر عن سنهما، فقال: سمعت سعيد بن عبدالعزيز يقول: "ولد الأوزاعي قبل أن
يجتمع أبواي".
قال: سمعت العباس يقول: "إنما فعله تعظيما له".
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "كان أبو مسهر يقدم سعيد بن
عبدالعزيز على الأوزاعي".
قلت: وهذا التقديم كله في الفقه ولا يلزم أن يكون في الرواية المسندة
للأحاديث المرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفقه يعتمد أيضاُ على نقل
الآثار بالأسانيد عن الصحابة والتابعين.
وأكثر حديث سعيد عن مكحول من آرائه في الفقه، ويُروى عنه من رأيه هو أيضاً
في الفقه، وحديثه المرفوع قليل جداً.
فقد ذكر الطبراني في «مسند الشاميين» - وهو
أجمع كتاب لأحاديث الشاميين - (89) أثراً وحديثاً (من 262 - 351)، ومنها ما أسنده عن
الشاميين (73) حديثاً (من 278 – 351).
قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (7/140): "وقَدْ جَمَعَ
الطبراني مرويات سعيد في جزء واحد".
وقال في «تذكرة
الحفاظ» (1/162): "لم يخرج له البخاري، وما حديثه
بالكثير".
قلت: وله أحاديث مراسيل وأقوال في الزهد والعبادة كما في ترجمته من «الحلية» يذكر
فيها أقوالا عن عيسى وموسى وسليمان عليهم الصلاة والسلام.
وهذا أحمد الذي احتج بقوله الأخ يقول في حديث لسعيد بأنه منكر!!
قال عبدالله في «العلل» (2/372): حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ:
حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، عَنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ
مُوسَى، عَنْ رَجَاءِ بنِ حَيْوَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو
بنِ العَاصِ قَالَ: «عِدَّةُ
أُمِّ الوَلَدِ عِدَّةُ الحُرَّةِ».
قَالَ أَبِي: قلت للوليد: مَن حَدثكُمْ؟ قَالَ: سَعِيد.
قَالَ أَبِي: "هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ".
قلت: الحديث منكر عند أحمد، فسأل الوليد من حدثك به؛ لأنه خشي أن يكون
دلسه، فلما قال بأنه سمعه من سعيد، أي صح من رواية سعيد حكم عليه بالنكارة.
وقد ذكرت في ثنايا البحث الحديث المنكر الذي رواه في فضل معاوية.
وقد ذكر الذهبي في ترجمته في «السير» (7/143) من حديث أَبي زُرْعة، قال: حَدَّثَنَا
أَبُو مُسْهِرٍ، قال: حَدَّثَنِي سَعِيْدٌ، عَنْ رَبِيْعَةَ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ
عَبْدِالرَّحْمَنِ بن أَبِي عَمِيْرَة المُزَنِيّ، قال: سَمِعْتُ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ لِمُعَاوِيَةَ: «اللَّهُمَّ
اجْعَلْهُ هَادِياً مَهْدِيّاً وَاهْدِهِ وَاهْدِ بِهِ».
ثم ذكره من
طريق الوَلِيْد بن مُسْلِمٍ، قال: حَدَّثَنَا سَعِيْدٌ،
عَنْ يُوْنُسَ - هُوَ ابْنُ مَيْسَرَةَ- عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ أَبِي
عَمِيْرَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَذَكَرَ مُعَاوِيَة، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِياً مَهْدِيّاً، وَاهْدِ بِهِ».
ثم قال الذهبي: "فَهَذِهِ عِلَّةُ الحَدِيْثِ قَبْلَهُ".
ثم ساقه من طريق أَبي زُرْعَةَ، وأَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى،
قَالاَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، قال: حَدَّثَنَا سَعِيْدُ بنُ عَبْدِالعَزِيْزِ،
عَنْ رَبِيْعَةَ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ أَبِي عَميرة
المُزَنِيِّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِمُعَاوِيَةَ: «اللَّهُمَّ
عَلِّمْهُ الكِتَابَ، وَالحِسَابَ، وقِهِ العذاب».
وأما قول الحاكم: "سعيد
بن عبدالعزيز التنوخي لأهل الشام كمالك بن أنس في التقدم والفضل والفقه والأمانة".
فهذا أيضاً لا يُنكر، فهو من المقدمين في الفقة والفضل كمالك بن أنس في
المدينة، وليست المشابهة هنا في الحديث، فتنبه.
وأما ما نقله عن ابن معين:
قال أبو زرعة: وقُلْتُ لِيَحْيَى بنِ مَعِينٍ - وَذَكَرْتُ لَهُ الْحُجَّةُ
- فَقُلْتُ لَهُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: "كَانَ ثِقَةً،
إِنَّمَا الحُجَّةُ: عُبَيْدُاللَّهِ بنُ عُمَرَ، ومَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِالعَزِيزِ".
قلت: وهنا أيضاً ظاهر الكلام الحديث عن إمامته في الفقه.
ولهذا قال أبو زرعة بعد هذا: وسَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: "كَانَ
الْأَوْزَاعِيُّ من الأئمة".
وقال أبو زرعة: وَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي نُعَيْمٍ: مَا كَانَ
بِالشَّامِ أَحَدٌ، قَالَ: "بَلْ كَانَ بِهَا الْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بنُ
عَبْدِالعَزِيزِ، وَمُوسَى بْنُ علي بن رباح".
وقوله: "ما كان بالشام أحد" أي من الأئمة الفقهاء، فرد عليه بأن
فيها الأوزاعي، وسعيد بن عبدالعزيز، وموسى بن علي بن رباح، وهم من كبار الفقهاء.
وعليه فلا يصح قول الأخ بأن هؤلاء الأئمة قدموا سعيد بن عبدالعزيز في
الرواية، بل كلامهم كان منصبا على إمامته في الفقه والفتوى، وقوله بأن "لتفرده
مزية = يعني ليست مظنة علة وضعف، بل من كان في مثل هذا الحال فالتفرد شيء ظاهر في
حديثه" كلام مرسل لا دليل عليه وغير مُحرر!!
وهذه حال بعض إخواننا - غفر الله لهم - يراجعون بعض كتب التراجم وينظرون
لما فيها من أقوال فيبنون عليها أحكاماً، ويعترضون بها على غيرهم! وما هكذا تورد
الإبل!
4- وقال:
"وأيضاً هو إمام أهل الشام في الجرح والتعديل كما نصّوا على ذلك، وهو من أوثق
أهل الشام على الإطلاق في طبقته، حتى أنه قُرن بالأوزاعي من حيث الإمامة والجلالة والإتقان
والضبط. فمن كان هذا حاله فتفرده مقبول. وذكر أحد الأئمة أن أصح أهل الشام حديثا
ثلاثة أو أربعة منهم سعيد هذا. فقول الشيخ بتعليل الحديث بتفرده مردود بشهادة
هؤلاء الأئمة: أنه أصح أهل الشام حديثا".
قلت:
في هذا الكلام
أشياء متوهمة زادها الأخ من كيسه ولا توجد في ترجمة سعيد!!
فلم ينص أحد
من أهل العلم أن سعيد بن عبدالعزيز هو "إمام أهل الشام في الجرح
والتعديل"!!! ولا أدري من أين أتى بها! وكأنه توهم ذلك!!
وكذا
"أنه أوثق أهل الشام في طبقته على الإطلاق حتى أنه قرن بالأوزاعي من حيث
الإمامة والجلالة والاتقان والضبط"!!
فهذا التعبير
ليس بسليم! فأهل العلم قدموه في طبقته من ناحية الإمامة في الفقه، لا في الرواية
التي يستخدم لها أهل العلم لفظ "الثقة" ونحوها، فهو رأس الطبقة في
الفقه.
وأما قرنه
بالأوزاعي فصحيح من حيث الإمامة والجلالة، لكن زاد عليها الأخ: "والاتقان والضبط"!!
وهذا لم يذكروه عندما قارنوا بينه وبين الأوزاعي! وإنما زادها الأخ من كيسه؛ لأنه
بصدد رد كلامي حول قولي أنه لم يكن يضبط بعض حديثه ويهم فيه!! فتوهم من أقوال أهل
العلم برفعة منزلته وقرنه بالأوزاعي أنه كذلك في رواية الحديث أيضاً!! وهذا ليس
بصحيح!
5- وقال:
"وقول شيحنا أن سعيدا لديه أوهاما واضطرابا نقول: ليس من شرط الثقة أن لا يهم
وأن لا يخطئ وهذا أمر ظاهر عند شيخنا ولكن حسُن التنبيه عليه، فالأصل في رواية
سعيد هي القبول، وليس التوقف وطلب الشهادات وطلب التثبت فيها".
قلت:
تنبيهي على
أنه له أوهاما واضطرابا لا يعني تضعيفه! وهو كما ذكر الأخ: "ليس من شرط الثقة
أن لا يهم وأن لا يخطئ".
وأما أن الأصل
في رواية سعيد القبول وليس التوقف، فهذا الأصل في كل الثقات، لكن إذا تبين لنا أنه
وهم أو أخطئ فيكون الكلام منصباً على الرواية التي أخطأ أو وهم فيها، لكن إذا
وجدنا للراوي وهو قليل الحديث حصلت له الأوهام في عدة أحاديث مما جعلنا نتوقف في
حديثه حتى نرى أنه ضبطه، وحينها لا نقبل تفرده خاصة إذا كان يتفرد عن راو مشهور لا
نجد هذا الحديث عند أصحابه، ونجده في طبقات متقدمة لكن بأسانيد أخرى مما يقوي
مسألة الوهم والخطأ على هذا الراوي.
وقد سبق لي
الحديث عن اضطرابه في حديث الأجناد، وبعض تفرداته لأحاديث مناكير!
فهل بعد هذا
نقول: الأصل قبول حديثه ولا نطلب التثبت فيه؟!!
فهذا ليس من
منهج أهل النقد، فالراوي مهما كان ثقة إذا تبين لنا وهمه صرحنا به، وهذا لا يرد
بأقوال أهل العلم العامة التي يجدها أي طالب علم في كتب التراجم، وإنما يجب إعمال
فقه التراجم وكيفية الوصول للعلة والوهم.
6- وقال:
"كذلك مسألة الاختلاط: من المعروف أن المختلط يتبين حديثه متى بدأ اختلاطه،
ثم يُنظر من روى عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط، ومن روى عنه هنا هو: مروان وأبو
مسهر، وأبو مسهر هو عبدالأعلى و أوثق أهل الشام وأعرفهم برجاله! وبشهادة صاحبه
مروان أنه المقدّم في حديث سعيد، وأوثق أهل الشام ثلاثة: أبو مسهر، ومروان،
والوليد.. طبعا وغيرهم، لكن هؤلاء الثلاثة اجتمعوا في هذا الحديث.. نعم الوليد
رواه موقوفا، وأبو مسهر ومروان روياه مرفوعا، لكن أبو مسهر له مزية على غيره فقد
جالس سعيدا ثنتي عشرة سنة، وهو أحفظ أصحابه كما ذكر هو عن نفسه... قال: إني أحفظ
أصحابه غير أني نسيت، وهذا النسيان أمر عارض، لكن مروان يقول هو المقدم في أصحاب
سعيد، وابن سعد يقول: هو راوية سعيد، فهو المقدم في سعيد، كيف وقد وافقه على
روايته صاحبه مروان، فهذه كلها تقوي رد مسألة الاختلاط، وعدم ضبط سعيد
للحديث!".
قلت:
أنا لما تعرضت
للكلام على حال سعيد في الجملة أشرت إلى أنه اختلط كما قال أهل العلم، لكن لم أقل
أنه اختلط في هذا الحديث! ولم أجعل الاختلاط سببا لتضعيفي له!!
فالوهم عند
الراوي قد يكون بسبب الاختلاط وقد يكون من غير الاختلاط، والاختلاط حالة ملازمة
للراوي إذا أصيب بذلك بخلاف من يحدّث من حفظه فيهم دون أن يكون قد اختلط.
وكان قولي:
"وسعيد بن عبدالعزيز التنوخيّ فقيه ثقة، لكنه اختلط في آخر عمره، ولم يكن له
كتاب، وعلمه كان في صدره، ولم يخرِّج له البخاري في الصحيح، وأخرج له
الإمام مسلم".
ومن المعلوم أنه لا بد من معرفة من سمع من المختلط قبل وبعد الاختلاط! لكن
قد لا يُحدد العلماء ذلك لأنه لم يتبين لهم، فليس كل راو عرف أهل العلم من سمع منه
قبل الاختلاط وبعده.
ولهذا قال شعيب الأرنؤوط ورفاقه في تعليقهم على حديث لسعيد في «مسند أحمد» (28/370): "قلنا:
في إسناد المرسل سعيدُ بنُ عبدالعزيز التنوخي الدمشقي، اختلط في آخر عمره، غير أنه
ثم يذكر الأئمةُ من سمع منه قبل الاختلاط أو بعده، فالظاهرُ أنه لم يُحَدِّث حال
اختلاطه، وهو من أخصّ أصحاب مكحول".
والذي يظهر لي
أنه لم يُحدّث في حال اختلاطه، والوهم كان منه قبل ذلك.
قَالَ أَبُو مسْهر: "كَانَ سعيد بن عبدالعَزِيز قد اخْتَلَط قبل مَوته،
وَكَانَ يعرض عَلَيْهِ قبل أَن يَمُوت، وَكَانَ يَقُول: لا أجيزها".
وقال أيضاً: رأيت أصحابنا وصدقة بن خالد يعرضون على سعيد بن عبدالعزيز.
وقال: رأيت أصحابنا يعرضون على سعيد بن عبدالعزيز حديث المعراج عن يزيد بن
أبي مالك عن أنس، فقلت: يا أبا محمد، أليس حدثتنا عن يزيد بن أبي مالك قال: حدثنا
أصحابنا عن أنس بن مالك؟ قال: نعم، إنما يقرؤون على أنفسهم.
وقال الذهبي: "شَاخَ، وضَاقَ خُلُقُهُ، واشْتَغَلَ بِاللهِ عَنِ
الرِّوَايَةِ".
وأما الاختلاف في الرواية عليه بين أبي مسهر ومروان والوليد، فلم أتعرض
للترجيح بينهم فثلاثتهم من الثقات، والاختلاف من سعيد، فهو من رواه مرفوعاً
وموقوفاً. وعلى أي وجه كان فتبقى المشكلة في تفرده به بهذا الإسناد!
وأما قول الأخ
عن ملازمة أبي مسهر لسعيد فهذا معروف، والأخ لا يزال يتوهم أن الأمر في الترجيح
بين روايات هؤلاء الثلاثة (أبو مسهر، ومروان بن محمد، والوليد بن مسلم)، فلا نحتاج
لأن نرجح بينهم.
وقد تجاوز
الأخ في فهم كلام مروان بن محمد عن أبي مسهر، فقال: "وبشهادة صاحبه
مروان أنه المقدّم في حديث سعيد"!
هو لم يقدمه
في سعيد، بل كان يقول: "أين أنا من أبي مسهر، كان سعيد بن عبدالعزيز يسند أبا
مسهر معه في صدر المجلس، وأنا بين يدي سعيد في طيلساني عشرون رقعة".
فهو يقدمه في
المكانة لا في الرواية، وهذا كما قال سعيد نفسه لأبي مسهر: "ما رأيت أحسن
مسألة منك بعد سليمان بن موسى".
وقد عرض الأخ
لمسألة أن أبا مسهر هو راوية سعيد كما قال ابن سعد، وهو كذلك، وأكثر ما رُوي عن
سعيد من روايته. لكن لا ينبغي الإعراض عما صرح هو عن نفسه بأنه نسي من حديث سعيد،
ودفع الأخ له بقوله: "وهذا النسيان أمر عارض"!!
فقول أبي مسهر
لا يدل على أن نسيانه كان عارضاً كما توهم الأخ!!
فقد قال:
"جالست سعيد بن عبدالعزيز ثنتي عشرة سنة، وما كان أحد من أصحابي أحفظ لحديثه
مني غير أني نسيت".
وفي رواية:
"لم يكن عندنا أحد أروى عن سعيد بن عبدالعزيز مني كنت قد سمعت عامة حديثه،
ولكن اتكلت على حفظي فذهب عني".
فهذا تصريح
منه أنه ذهب عنه، فكيف يكون عارضاً كما ادّعى الأخ!!
على أني لا
أستبعد أن الاختلاف من سعيد في هذا الحديث بين الرفع والوقف كان في فترة اختلاطه،
والله أعلم.
7- وقال:
"ما ذكره شيخنا من أن عُسر سعيد في الحديث أثر
عليه وأثر على حفظه لأنه لا يحدث به باستمرار، ولا يراجعه، وهذا عجيب من شيخنا!
مسألة العسر وعدمها لا علاقة لها بالحفظ، بل قد يُقلب الاستدلال فتدل على أنه من
إتقانه وشدة تحرزه وحرصه على الحديث لا يرويه إلا لمن هو من أهل الحديث".
قلت:
ولم العجب؟!!
لو كان الأخ - غفر الله له - عرف التعسر عند الرواة وآثاره الإيجابية
والسلبية على الرواية لما تعجب!! فأخشى أن عجبه نابع من عدم خبرته في ذلك!!
نعم، التعسر له علاقة بالحفظ، فقد يؤثر ذلك على الراوي بسبب عدم تحديثه
باستمرار، وهذا يجعله لا يراجع حفظه ولا يذاكره، وبالتالي يؤدي إلى النسيان والوهم
والاضطراب.
وأما قلبه الاستدلال بأن عسر الراوي يدل على التثبت والتحرز والحرص على عدم
التحديث إلا لمن هو أهل له فهذا صحيح في بعض المتعسرين، فقد يكون الراوي متعسرا
على بعض الطلبة وينبسط لآخرين، وقد يكون متعسرا على الجميع إلا ما يضطر أحيانا
للتحديث حول بعض المسائل، وفي حالة سعيد بن عبدالعزيز فالظاهر من خلال ما وقفت
عليه من ترجمته أنه كان متعسرا في الأغلب ويدل عليه قلة روايته، وأما ما يروى عنه
من أقوال وآثار فهذا ليس من باب الرواية المسندة المرفوعة للنبي صلى الله عليه
وسلم التي يتعسر فيها على التلاميذ.
والراوي المتعسر لا يعني أنه لا يحدث أبدا، بل يحدث لكن ليس كثيرا، وقد
ذكرت في ثنايا البحث أن سعيدا انبسط في التحديث لما قدم الليث الشام واجتمع عليه
الطلبة، فحدث حينها ولم يتعسر في فترة وجود الليث في تلك الفترة.
والمسألة هذه لا تعدو أن تكون قرينة حاولت من خلالها تفسير كيف حصل الوهم
لسعيد بن عبدالعزيز في حديثه؛ لأنه لم يكن يكتب الحديث، وكان متعسرا في الرواية،
فإذا حدث حدث من حفظه، ولعدم تحديثه باستمرار وعدم مراجعته لحديثه وقعت الأوهام
له، وأحيانا اضطرب في روايته، وقد قدمت شواهد على ذلك.
وسبب تعسر سعيد بن عبدالعزيز أنه كان صالحاً عابداً زاهداً.
8- وقال: "كذلك مما ذكره شيخنا مما يستدل به على عدم ضبط سعيد للحديث
أنا أبا مسهر تعجب من رواية الوليد الموقوفة! فهذا دلالة كما قال شيخنا على أنه لم
يضبط الحديث! ونقول: بل هو دلالة على أن أبا مسهر يتعجب كيف يروي الوليد هذا
الحديث موقوفا، وهو قد سمعه من سعيد مرفوعاً، ووافقه على ذلك مروان، وهما من أوثق
تلاميذ سعيد، ويكفي أبا مسهر في ترجيح روايته المرفوعة! وهو المقدم فيه، فيقدم عند
الاختلاف. على أن رواية الوليد تثبت أن الحديث متصل إلى أبي ذر، فتبقى مسألة
المرفوع والموقوف، فيظهر أنها للمرفوع".
قلت:
ما هي القرينة عند الأخ على أن تعجب أبي مسهر من الوليد كيف يرويه
موقوفا؟!!
بل الظاهر أنه تعجب كيف أن شيخه حدّث بالحديث موقوفاً، وهو سمعه منه
مرفوعا! ولهذا ثبت الرفع كما سمعه.
ولا علاقة لهذا النص بمسألة موافقة مروان له على رفعه! فنحن لا نشكك في أن
أبا مسهر رواه عن شيخه مرفوعا، لكن المسألة في أن الشيخ حدث به موقوفا بخلاف ما
سمعه أبو مسهر، ومن هنا جاء العجب!!
وكأني به يقول: كأن الشيخ وهم فيه! حدثنا به مرفوعا، وحدث غيرنا به
موقوفاً! فرواه مرفوعا كما سمعه؛ لأنه سمعه هكذا منه.
وإقحام الأخ مسألة تقديم أبي مسهر على غيره في الرواية هذا يكون إذا جزمنا
أن الاختلاف من التلاميذ لا من الشيخ! فالأخ لا يزال يتوهم أن الخلاف ليس من
الشيخ، ويعيد ويكرر أن رواية أبي مسهر هي المقدمة لموافقة مروان له!!
لكن هذا لا يرد رواية الوليد فهو ثقة كذلك، وهو قد ضبط ما سمعه من شيخه،
وهذا يدل على أن الاختلاف من الشيخ نفسه.
9- وقال: "وكذلك ما ذكره شيخنا من الطرق المرسلة يعل بها هذا الحديث
المتصل، وأن تفردات سعيد لا تحتمل، فتقول: شيخنا قد كفانا المؤونة فهو بنفسه يُعلّ
رواية شهر بن حوشب، وكذلك ما جاء عن أبي قلابة، فهذه الطرق معلولة عند الشيخ، فإذا
كانت معلولة فإنها لا تقاوم الإسناد الصحيح الثابت عن سعيد، على أنها تدلّ على أن
للحديث أصلا عن أبي ذر".
قلت:
هذا من أعجب الكلام الذي مر بي في الكلام على علل الأحاديث!!!
تعليل بعض الروايات المتقدمة بالإرسال أو الاضطراب وضعف بعض الرواة لا يعني
أن هذه الطرق لا تقاوم الإسناد الصحيح المزعوم!!! فكم من حديث متصل ظاهره الصحة
أعله أهل النقد بطريق آخر مرسل أو موقوف أو راويه ضعيف!
ومن نظر في كتب العلل وعرف هذا العلم يستحيل يخرج منه هذا الكلام!!
فالحديث صح أن أبا قلابه رواه عن أبي ذر موقوفا، وهذا معلول لأن أبا قلابة
لم يسمع من أبي ذر، فهل هذه العلة تمنعنا من تعليل إسناد سعيد المتصل لأننا عللنا
رواية أبي قلابة؟!!
سبحان الله! هذا أعجب فهم مر بي في حياتي!!!
فهذا حديث يرويه البخاري من طريق هَمَّام بن يحيى العوذي، عَنْ إِسْحَاقَ
بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ، سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ
ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصُ وَأَقْرَعُ وَأَعْمَى..» الحديث.
فذكره العقيلي
في «الضعفاء الكبير» (4/370)، ثم ساقه من طريق عِكْرِمَة بْن عَمَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: «كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ» فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
ثم ساقه من
طريق سُفْيَان بن عيينة، قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ
عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ، يَقُولُ: «كَانَ ثَلَاثَةٌ: أَعْمَى، وَمُقْعَدٌ، وَآخَرُ
بِهِ زَمَانَةٌ - قَدْ ذَكَرَ لَنَا عَمْرٌو فَنَسِيتُهَا - وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ،
فَأُعْطِيَ هَذَا بَقَرَةً، وَهَذَا شَاةً»، وَذَكَرَ الحَدِيثَ.
قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ العُقَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَهَذَا أَصْلُ الحَدِيثِ مِنْ كَلَامِ
عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَصَصُهُ كَانَ يَقُصُّ بِهِ".
فهذا حديث
متصل يرويه همام في طبقة متأخرة، وإسناد آخر من طبقة متقدمة من قول إسحاق بن
عبدالله، ثم إسناد آخر أقدم منه من كلام عُبيد بن عُمير، وبيّن العقيلي أن أصل
الحديث المتصل المرفوع هو هذا الحديث المعلول المقطوع، فهل نقول بأن هذا لا يُعلّ
المتصل بحسب رأي الأخ؟!!
ومثل هذا كثير
في كتب العلل.
10- وقال: "وكذلك حديث قتادة وأيوب عن أبي قلابة، فأيوب خالف قتادة،
لكن مسألة الرواية عن كتاب يعلم أن هناك مجموعة من الرواة يروون من صحف وروايتهم
صحيحة مقبولة متصلة عند أهل العلم فلا وجه للإعلال بها.
أما طريق شهر: فشهر مضطرب الحديث فلا يحتمل تفرده فكيف تحتمل مخالفته
لغيره! وطالما أن الشيخ يُعلّ طريق أبي قلابة وطريق شهر فكيف يعلّ به الإسناد
الصحيح؟!".
قلت:
سبحان الله! قد فصّلت في هذه الروايات، وبينت أن قتادة لم يسمع من أبي
قلابة، وإنما روى من كتب وقعت له، وأن أوثق الناس في أبي قلابة هو أيوب السختياني،
وكان أبو قلابة قد أوصى بكتبه له، وكان الناس يقرؤون من كتب أبي قلابة على أيوب،
فروايته ترجح على رواية قتادة.
وأما أن هناك عدداً من الرواة يروون من صحف ورواياتهم صحيحة مقبولة فليس
هذا مما نحن فيه، فلا شك أن من كانت عنده صحف له ويروي منها فهي مقبولة، لكن أن
يروي راو من كتب ليست له فهذا مما لا يقبل؛ لأن الخلل ينشأ من عدم اتقان الرواية
منها مثل من كان يروي من كتب أبي قلابة، وخاصة قتادة.
ونفيد الأخ بمثال يستفيد منه في هذا الباب:
فقد قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/434): سألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ معاذ
بْن هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلابة، عَنْ خَالِدِ بْنِ
اللَّجْلاج، عَنِ ابن عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ
وَجَلَّ...، وَذَكَرَ الحديثَ فِي إسباغِ الوُضُوء ونحوِهِ؟
قَالَ أَبِي: "هَذَا رَوَاهُ الوليدُ بْن مُسْلِم، وصَدَقَةُ، عَنِ
ابْنِ جَابِر؛ قَالَ: كنَّا مَعَ مكحولٍ، فمرَّ بِهِ خالدُ بنُ اللَّجْلاج،
فَقَالَ مكحولٌ: يا أبا إِبْرَاهِيم، حَدِّثنا، فَقَالَ: حدَّثني ابنُ عايش
الحَضْرَمي، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم".
قَالَ أَبِي: "وَهَذَا أشبَهُ، وقتادةُ يُقال: لم يَسْمَعْ من أَبِي
قِلابة إِلا أحرفًا؛ فإنه وقع إِلَيْهِ كتابٌ مِنْ كتبِ أَبِي قِلابة، فلم
يميِّزوا بين عبدالرحمن بْن عايش، وبين ابن عَبَّاس".
قَالَ أَبِي: "ورَوَى هَذَا الحديثَ جَهْضَمُ بن عبدالله اليَمَامي،
وموسى بْن خلف العَمِّي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّم،
عَنْ جَدِّه مَمْطُور، عن أبي عبدالرحمن السَّكْسَكي، عَنْ مَالِكِ بْنِ
يَخَامِرَ، عَن معاذ بْن جبل، عَنِ النبيِّ صلى اله عليه وسلم".
قَالَ أَبِي: "وَهَذَا أشبَهُ من حديث ابن جابر".
قلت: فهذا حديث يرويه قتادة من كتاب أبي قلابة فلم يضبطه فقال: "عن
ابن عباس" بدل: "ابن عائش"، فصار الحديث موصولاً بعد أن كان
مرسلاً!!
فهل نقول هنا مثل ما قال الأخ: "فلا وجه للإعلال بها"!!
هذا قول من لا يعرف العلل!
وأما الكلام على رواية شهر فسيأتي لاحقا.
ورجع الأخ يدندن حول إعلال طريق شهر وأبي قلابة فكيف أعلّ بها الطريق
المتصل؟!!
وقد سبق الكلام على هذا، وأن الأخ - هداه الله – ليس متمرساً في علم العلل!
فيظن أنه يرد بهذه الأقوال هذه التعليلات التي لو مشينا فيها على طريقته لأسقطنا
علم العلل بالكلية!!! والله المستعان.
11- وقال: "ثم إعلاله على أن ما رواه علي بن زيد من الإسرائيليات،
فنقول: علي بن زيد مجمع على ضعفه، ويرويه عن شهر، وهو قد اضطرب في هذا الحديث على
وجه عدة، فهذه ظلمات بعضها فوف بعض! فلا وجه لإعلال إسناد الحديث الصحيح
المتصل".
قلت:
قد بينت أن شهر بن حوشب كان يضطرب في رواية الحديث، وهو مختلف فيه، لكن
الأرجح أنه ضعيف، لكن حديثه لا يسقط بالكلية فهو من أعمدة الرواية، والحديث
المضطرب لا يحتج به إذا تساوت وجوه الإسناد فيه فلا نستطيع الترجيح بينها، وأما
إذا استطعنا أن نرجّح وجها من الوجوه بقرينة فهذا الطريق لا يُعد مضطربا حينها،
ومن عانى علم العلل عرف هذا المسلك عند أئمة النقد، وهنا شهر بن حوشب رواه عن
تُبيع الحميري من قوله من كتب أهل الكتاب فضبط هذا الوجه، واضطرب في الأوجه الأخرى
المسندة، وروايته للحديث عن تبيع هو مظنة الاتقان بذكره الحديث عن تبيع من قوله،
ولهذا لما كان يسنده كان يضطرب فيه ولم يضبطه، ومن هنا قدمنا روايته وقلنا بأنها
أصل الحديث المرفوع، وكذا المراسيل الأخرى المنتشرة في الشام، وشهر من علماء
الشام.
وأما علي بن زيد فنعم هو ضعيف، لكنه إمام واسع الرواية، وكان يقلب الأسانيد
وكان رفاعا، وفي حديثه هذا لم يرفعه ولم يقلب الإسناد، بل ضبطه ووقفه، ومن هنا
رجّحنا روايته.
فكونه متكلم فيه ولا يحتج بحديثه أي المرفوع المسند إلا انه لا يترك
بالكلية فتعلّ بعض الأحاديث الأخرى بروايته إن كان ضبطها.
وقول الأخ عن "علي بن زيد عن شهر: ظلمات بعضها فوق بعض"! كلام
مردود لا يُقبل! فهذا المصطلح لا يقال في مثل هذين الإمامين وإن كانا ضعيفين،
وإنما يقال ذلك في الهلكى والمتروكين.
وقد أثنى الإمام أحمد على مكانة علي بن زيد بن جدعان، فقال أبو داود في «سؤالاته»:
سمعت أحمد، قال: "علي بن زيد، وجعفر بن محمد، وعاصم بن عُبيدالله، وعبدالله
بن محمد بن عقيل، ما أقربهم من السواء، ننقاد بهم". فهؤلاء وإن كان مُتكلم في
حديثهم إلا إنهم أئمة ويُقتدى بهم.
12- وقال: "الانقطاع بين أبي ذر وبين أبي إدريس، وأن أبا إدريس لم
يسمع من أبي ذر، فنقول: أولا: الشيخ يثبت أن ابن معين صرح بسماع أبي إدريس
الخولاني من أبي ذر، فإذا كان ابن معين يثبت هذا السماع، فكيف يُتوقف في قبوله،
خاصة أنه لم يوجد أحد من علماء الحديث الكبار النقاد تكلم على هذه السلسلة، وهي
سلسلة أبي إدريس عن أبي ذر! لم يوجد أحد نفى سماع أبي إدريس من أبي ذر! وابن معين
إمام الجرح والتعديل يثبت هذا".
قلت:
إن أهل العلم يختلفون في إثبات السماعات بين الرواة، وقد يتفرد إمام من
الأئمة بإثبات سماع ما من شيخ ونخالفه في ذلك بدليل وحجة، وإثباته للسماع ليس
قطعيا، وإنما هو اجتهد فيه.
فابن معين لا شك أنه أثبت سماع أبي إدريس من أبي ذر بهذا الحديث! لكننا لم
نجد عند التحقيق ما يدل على ذلك فخالفناه! ولم نجد ما يدل على هذا الإثبات!
فكون إمام من الأئمة مثل ابن معين أثبته لا يعني أن نقبله بإطلاق، والويل
لمن خالفه لأنه من كبار الأئمة! نعم هو كذلك، لكن لا بدّ لنا من دليل وحجة لهذا
الإثبات إن كانت القرائن على خلافه، فلما لم نجد حجة ظاهرة وكانت القرائن على
خلافه حسن لنا مخالفته رحمه الله.
وأما قوله الأخ بأنه لا يوجد أحد قد تكلم في هذه "السلسلة = سلسلة أبي
إدريس عن أبي ذر" فعن أي سلسلة يتكلم الأخ؟!!!
لا توجد هذه السلسلة أصلا حتى يتكلم عليها أهل النقد! فقد بينت أنه روي عن
أبي إدريس عن أبي ذر حديثين، وهما باطلين!
ويبقى فقط هذا الحديث محل البحث، ونحن ننازع أصلا في صحة ثبوته عن أبي
إدريس! فكيف نثبت سماعه من أبي ذر به!!
13- قال الأخ: "ثم ذكر شيخنا نصا ذكر فيه أبو إدريس عددا ممن سمع منهم
من الصحابة، ثم قيّد الشيخ حفظنا الله وإياه هؤلاء بأهل الشام = أن المقصود بهم من
أدركه من الصحابة بالشام، وهذا تحكّم من شيخنا، فالتص واضح أن هؤلاء من سمع منهم، نعم
ثبت غيرهم، فالأولى أن يُقال من غير تقييد، فلا يقال من أهل الشام أو غيرهم، بل
يقال: سئل عن قدماء الصحابة أو نحو ذلك، وأما تقييدهم بـأهل الشام فتقييد بلا
دليل".
قلت:
لا أدري ما الخلل في تقييد هؤلاء ممن سمع منهم في الشام؟!! فهؤلاء كلهم من
قدماء الصحابة الذين نزلوا الشام، ولهذا قيدت ذلك بالشام، ثم هو شامي، فأين التحكم
في ذلك؟
ولو لم أقيد ذلك وأطلقت ذلك أو قلت: سئل عن قدماء الصحابة! فهل هذا سيغير
من الأمر شيء؟! الجواب: لا، لأن الذين ذكرهم من قدماء الصحابة ممن نزلوا الشام،
ولم يذكر غيرهم من غير الشام!
فهذا الاعتراض من أجل الاعتراض فقط!!!
14- وقال - وفقه الله-: "وكذلك ذكر الشيخ المناظرة بين أبي زرعة
ودُحيم في أيهم أصح حديثا، فذكر مما يقدّم فيه أبو إدريس ما له من اللقاء والحديث،
والعجيب أن شيخنا بارك الله فيه قلب هذا الدليل فجعله من الأمور التي تنتقد فيها
رواية أبي إدريس، والنص واضح: ما له من اللقاء يعني أنه لقي من لم يلقه جُبير،
وهذا بيان على أن لأبي إدريس على جبير وهو قرينه في الطبقة ما ليس لجبير من إدراك
عدد من الصحابة القدماء، وله من الحديث ما ليس لجبير".
قلت:
بل العجيب أن الأخ هو من قلب الدليل ولم يتضح له على أصوله! ففهم أقوال
الأئمة النقاد ليس بالأمر الهين!
فالتص الذي استهان به الأخ وجعله واضحا في أن أبا إدريس لقي من لم يلقه
جبير، وأنه أدرك عددا من الصحابة القدماء الذين لم يدركهم جبير! نص عميق يحتاج
لفهم خاص لا كما فهمه الأخ فأفسده!!
ولو أن الأخ - هداه الله - يعرف من هو "جُبير بن نفير" لما وقع
في هذا الخطأ الشنيع!!
فجبير بن نفير الحضرمي الحمصي كان جاهليا إسلاميا، أدرك النبي صلى الله
عليه وسلم وقدم دمشق وسمع بها. فمثله أدرك قدماء الصحابة ممن لم يدركهم أبو إدريس
الخولاني.
فروى عن ثوبان، وخالد بن الوليد، وذي مخبر الحبشي، وسبرة بن فاتك، وسفيان
بن أسيد، وسلمة بن نفيل التراغمي، وشداد بن أوس، وشرحبيل بن السمط، وعبادة بن
السمط، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عمرو ابن العاص، وعمرو بن عنبسة،
وعوف بن مالك الأشجعي، وكعب بن عياض، والمقداد بن الأسود، والنواس بن سمعان، وأبي
أيوب الأنصاري، وأبي ثعلبة الخشني، وأبي الدرداء، وأبي ذر، وعائشة. وروى عن أبي
بكر مرسلاً، وروى عن عمر بن الخطاب، وفي سماعه منه نظر!
وأكثر هؤلاء لم يدركهم أبو إدريس ولم يسمع منهم، فكيف يقول الأخ بأن أبا
إدريس أدرك طبقة قدماء الصحابة ممن لم يدركهم جبير؟!!
قال النسائي: "ليس أحد من كبار التابعين أحسن رواية عن الصحابة من
ثلاثة: قيس ابن أبي حازم، وأبي عثمان النهدي، وجبير بن نفير".
فالذي أراده دحيم من قوله أن جبير بن نفير أسند للحديث من أبي إدريس؛ لأن
أبا إدريس يرسل، ومسنده قليل جداً بالمقارنة مع ما يسنده جبير، ومن تتبع كتب
الرواية وجد هذا جليا.
15- وقال: "المسألة الأخيرة: القاعدة التي ذكرها الشيخ في أن الحديث
إذا ورد في الطبقات المتأخرة موصولا، ووجد في الطبقات المتقدمة مرسلا أو موقوفا
فإنها تعلّ به، فأولا: هذه القاعدة لم أرها لغير الشيخ، وربما هذا لقلة اطلاعي
وقصر باعي في هذا العلم! على أن الشيخ بارك فيه وفي علومه نقض قاعدته بنفسه لأن
الطرق التي جعلها معلة للطريق الصحيحة الموصولة هو نفسه يُعلها، ولم يذكر طريقا
وإلا ذكر له علة، والعلة فيها لا تقاوم الطريق الصحيح = طريق سعيد بن
عبدالعزيز".
قلت:
نعم هذه القاعدة أصّلتها من خلال متابعتي لكتب العلل، وطريقة أهل النقد في
تعليل الأحاديث، ويمكن استفادتها من بعض نصوص الإمام ابن رجب الحنبلي في "شرح
العلل".
وأما أني نقضت هذه القاعدة بنفسي فهذا لأن الأخ لا يعرف حقيقة علم العلل!!
وقد بينت مرارا فيما سبق أنه الأخ جعل تعليلي لطريقي الحديث = طريق أبي
قلابة، وطريق شهر لا يعلان الحديث المتصل = حديث سعيد بن عبدالعزيز!!
وقد ضربت مثالاً على طريقة أهل النقد في هذا كما في حديث: «أبرص،
وأعمى..»، وكذا في
بحثي حول حديث: «من
عادي لي وليا فقد آذنته بالحرب...».
16- وقال: "ثم ذكر أن سعيداً ربما يكون سلك الجادة، وشيخنا يقول أن
حديث أبي إدريس عن أبي ذر ضعيف والأصل فيه الانقطاع، وأن أبا إدريس لم يسمع من أبي
ذر، فأين الجادة؟ فإذا كان حديث أبي إدريس عن أبي ذر قليل جدا ونص شيخنا على أن
البزار لم يجد إلا هذا الحديث يورده من حديث أبي إدريس عن أبي ذر، فإذا كان الأصل
القلة والندرة فأين الجادة التي سلكها سعيدا".
قلت:
قول الأخ هنا يرد به على نفسه فيما مضى بقوله عن سلسلة أبي إدريس عن أبي
ذر! وأنه ليس له إلا هذا الحديث!
ثم قولي بالجادة هنا عنيت به الجادة التي يروي بها سعيد عدة أحاديث:
"عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس"، فسلك سعيد هذه الجادة ثم وهم في
الحديث فرواه "عن أبي ذر"؛ لأن الحديث أصلا مشهور في الشام "عن أبي
ذر"! فهو سلك الجادة في شيخه عن شيخه، ثم ذكر أبا ذر، وهذا يدل على أن أصل
الإسناد الذي عنده هو من طريق أبي ذر، ويشبه أن يكون مثل حديث أبي قلابة عن أبي
ذر، والله أعلم.
17- وقال: "مما أختم به أن الحديث صححه: أبو مسهر لأنه يظهر من تعجبه
أن الحديث عنده متصل، وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، والنقاد الكبار للحديث،
فتعجبه دليل على صحة الحديث عنده وأنه مرفوع غير موقوف، وكذلك الإمام أحمد ونص على
أن هذا الحديث أشرف حديث لأهل الشام، وكذلك الإمام مسلم، وهؤلاء من الأئمة النقاد
الكبار، وكذلك ابن حبان، والحاكم، والخطيب، وأبو نُعيم، وابن عساكر، والعلائي،
وكذلك ابن رجب، فإنه من عادة ابن رجب إذا تكلم على الحديث فإنه يذكر ما جاء في
الحديث من كلام، ولهذا في شرح الأربعين رد الأسانيد الأخرى ولم يتكلم على هذا
الإسناد عند الإمام مسلم فأقره على تصحيحه، فأبو مسهر وأحمد ومسلم هؤلاء من أئمة
النقاد الكبار صححوا الحديث، ولم يرد عن أحد من الأئمة الكبار إعلال الحديث، وقد
ورد عن علي بن المديني ما يشبه التصريح على أن الحديث صحيح عن أبي ذر متصلا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم حينما تكلم على طريق شهر بن حوشب، وإنما الحديث جاء
بألفاظ مختلفة، فيثبت أن الحديث له أصل عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، ورضي عن
شيخنا، وبارك في علومه، وجزاه عنا خير الجزاء، وليسمح لي بهذه المخالفة التي هو
عودنا عليها في بحوثه...".
قلت:
أما مسلم فلا شك أنه صححه؛ لأنه خرجه في صحيحه، ومن جاء بعده قد تبعه في
تصحيحه، كابن حبان، والخطيب، وأبي نعيم، والحاكم، وابن عساكر، وغيرهم من
المتأخرين.
وأما قوله بأن أبا مسهر صححه من خلال تعجبه من رواية الوليد الموقوفة فليس
كذلك!! وقد بينت هذا في موضعه، وأن تعجبه لا يدل على تصحيحه الحديث، وإنما أثبته
مرفوعا كما سمعه من شيخه فقط.
وأما تصحيح أحمد له ففيه نظر!!
فقد رُوي عن
الإمام أحمد أنه قال عن هذا الحديث: "هو أشرف حديث لأهل الشام".
ومن هنا قال
الأخ وغيره بأن أحمد صححه!
وهذا الذي روي
عن الإمام أحمد لم أجده في أي كتاب قديم ممن اعتنى بنقل أفوال أحمد!
وفي «الأربعون
البلدانية» لابن عساكر (ص: 39): "وَحُكِيَ عَن عَبْدِاللَّهِ (!) أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بن حَنْبَل رَحمَه الله أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِأَهْلِ الشَّامِ
حَدِيثٌ أَشْرَفُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ هَذَا".
كذا فيه:
"عبدالله أحمد.."، وكأن الصواب: "عبدالله [بن] أحمد بن محمد بن
حنبل"، فإن صح هذا فالقول يكون محكيا عن عبدالله لا عن أبيه! ويُحتمل أنه
"عن أحمد بن محمد بن حنبل"، ويكون "عبدالله" مقحما في النص!
وعلى كلا
الحالين فهذا محكيّ عن عبدالله أو عن أبيه أحمد، ولا إسناد له! ولهذا قال ابن
عساكر: "وحكي..".
وقاله ابن
عساكر في «الأربعون الأبدال العوالي» (ص: 59): "وهَذَا أَشْرَفُ حَدِيثٍ
لأَهْلِ الشَّامِ"، ولم ينسبه لأحد!
ونسب قوام
السنة الأصبهاني في «العوالي الموافقات» (63) هذا القول لأبي مسهر! فقال بعد أن
أخرج الحديث: "وقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: لَيْسَ لأَهْلِ الشَّامِ أَشْرَفُ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ".
والله أعلم
بصحة ذلك!
وأما قول الأخ
بأن ورد عن علي بن المديني ما يشبه التصريح بتصحيحه من خلال كلامه حول هذا الحديث
فليس بصحيح!!
روى علي بن
المديني قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: حدثني أبو جعفر البجلي - وهو موسى بن
المسيب-، عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن غنم، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: يا عبادي...
قال علي بن
المديني: وحدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال؟: حدثنا علي بن زيد،
عن شهر بن حوشب، عن تبيع قال: إن في التوراة مكتوب يا عبادي كلكم مذنب إلا من غفرت
له... وذكر الحديث.
قال علي: "أظن
هذين الحديثين رواهما شهر؛ لأن ألفاظهما مختلفة".
قلت: يعني علي
بن المديني أن شهرا عنده كلا الحديثين لاختلاف ألفاظهما، وليس في ذلك أي إشارة
لتصحيح الحديث، فهو يتحدث عن حديث شهر لا عن حديث سعيد بن عبدالعزيز.
بل إنه أشار
إلى أن الحديث معلول؛ لأنه أورد بعد ذلك حديث أبي قلابة المرسل.
قال: وحدثنا
عبدالرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ذر، قال: قال الله عَزَّ
وَجَلَّ: إني حرمت الظلم على نفسي، وهو عليكم محرم فلا تظالموا العباد... وذكر
الحديث.
وبعد.. فهذا
ما تسير لي كتابته على عجالة في الجواب على اعتراضات وشبهات بعض الإخوة، شاكرا لهم
ذلك، مثنيا على أدبهم في الرد والاعتراض زادنا الله وإياهم أدبا وعلما ولا عدمنا
الناصحين من إخواننا المعينين لنا على الحق والهدى والرشاد، والله أسأل أن ينفعنا
وإياهم بالعلم النافع والعمل الصالح.
·
بعض الفوائد من المناقشات
السابقة:
1- لم يصح عن
الإمام أحمد وصف حديث «يا عبادي» بأنه أصح أو أشرف حديث لأهل الشام.
2- ما جاء من
أقوال مطلقة في الثناء على سعيد بن عبدالعزيز التنوخي وتوثيقه تحمل على مكانته في
الدين والفقه والقضاء والعبادة، وهو ثقة، لكنه يهم في حديثه.
3- يُضاف في
عدد من أحاديث أهل الشام المعلولة أو الضعيفة بعض الأفعال
والأحوال من أجل قبولها! والدلالة على ضبطها!! كالاستحلاف، واستقبال القبلة،
وادعاء سماع ذلك مرات عديدة من الراوي أو من النبي صلى الله عليه وسلم.
4- مسألة التفرد يُنظر فيها للراوي وكذا للطبقة وحاله من الرواية وقرائن
أخرى، وأصل التفرد ليس علة، وإنما يعدّ علة بقرائن.
5- الأحاديث التي لم ينتقدها الدارقطني في "التتبع" لا يعني أنها
كلها صحيحة عنده! فهو لم يُلزم نفسه بهذا! ولا نلزمه نحن به.
6- التعسر في
التحديث له إيجابيات وسلبيات تؤثر على مرويات الراوي، وقد يؤثر على حفظ الراوي
عموما.
7- سبب تعسر سعيد بن عبدالعزيز أنه كان صالحاً عابداً زاهداً.
8- إعلال
الأئمة حديثا مرفوعا بحديث مرسل أو موقوف قبله ولو كان في إسناد الثاني ضعف جادة
مطروقة عند الأئمة النقاد، ولعل الله ييسر كتابة بحث مستقل في ذلك.
9- كثير
من العبارات الواردة في تأكيد ثبوت الحديث اختص بها أهل الشام، ونجدها وردت في عدد
من الأحاديث المعلولة أو الضعيفة، ومثل هذه الألفاظ قد تحمل على مزيد بحث في
الحديث لا كما يفهم منها غالب المشتغلين بالحديث أنها تفيد صحة الحديث مطلقا، ولعل
الله ييسر كتابة بحث مستقل في ذلك.
10- على
الباحث ألا يسلم مطلقا لما ورد من صيغ سماع صريحة في أسانيد الحديث وخاصة في
مرويات أهل الشام.
وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب: أبو
صهيب خالد الحايك
13 شعبان
1440هـ.
·
كُليمة في التعليل..!!
إنّ الله عزّ وجلّ يفتح على عباده بما شاء كيفما شاء وقتما شاء، فالعلوم
مِنح إلهية، وهبة رحمانية.
ومن فضل الله علينا أن استعملنا في علوم الشريعة وفي علم الحديث خاصة،
فأفرغنا له الوسع الكبير، فله سبحانه المنّة والفضل في ذلك.
وكلما نشرت شيئاً جديداً خرج علينا بعض الإخوة - هداهم الله- أو المبتدعة
-أخزاهم الله - ببعض التشغيبات التي في حقيقتها لا تُسمن ولا تُغني من جوع بحجة أن
الأئمة النقاد لم يتكلموا بما تتكلم به!
وهل خفي عليهم هذا الذي تدعيه وهم
من هم في علم النقد والعلل؟! وهل أنت أعلم من البخاري أو مسلم أو فلان وفلان؟!
وغير ذلك من الكلام الذي لا يمت بعلاقة للدراسات التي نقدمها ونعرضها للقارئ ولا بطالب
الحديث خاصة أو المشتغلين بمسائله بعد أشهر بل ربما سنوات من التحقيق والتتبع
والدراسة والبحث.
وهؤلاء الإخوة - هداهم الله - إذا
قرأ - على فرض أنه قرأ، من باب حسن الظنّ - يقرأ نُتفاً من هنا وهناك ويركز على
فكرة معينة في البحث الذي يريد نقضه! وينسى الأدلة والشواهد والقرائن الأخرى التي
يكون عليها الاعتماد أو بمجموعها حصلت النتيجة.
فيجلس خلف شاشة حاسوبه، ويبحث
سريعا فلا يجد شيئاً جديدا فيأتي بما أتيت به في صلبي بحثي ويرده بطرق عجيبة!
حتى قال أحد أصحابنا مرة:
"وددت أن أجد في الردود على د. خالد الحايك معلومة جديدة يأتي بها الرادون لم
يذكرها د. خالد في صلب بحثه"!
ويكأن هؤلاء المشغبين أو
المعترضين لم يعرفوا منهج أهل النقد الذي ينادون به صباح مساء!!
فما أتكلم عليه ليس أجنبياً عن
كلام أئمة النقد، ولم أخرج عن منهجهم، وليس ذنبي ألا يعي الحجة من يعترض بها عليّ!
فلقد اعترض على أبي حاتم وأحمد والبخاري حين أعلوا بعض الأحاديث بأجوبة سخيفة لا
قيمة لها! فهل نسلم نحن وما نحن فيمن سبقنا من الأئمة إلا كبقل في أصول نخل عظام!
ناقشني أحدهم ويحمل الدكتوراه في
الحديث - وكم جنت علينا هذه الشهادات من ويلات!- في تضعيفي لحديث «يَا عِبَادِي
إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي..»، وهذا الحديث لم أكن أعلم أنه معلول
إلا بعد أن وقفت على أشياء تتعلق به، فبحثت فيه فوصلت إلى علته. وقد أكون مصيباً،
وقد أكون مخطئاً، لكن حسبنا أننا اجتهدنا وأفرغنا الوسع في هذا.
وهنا سألخص ما يتعلق بمسألة تعليل
الحديث ولِم عللته، لتكون الصورة متكاملة لا التركيز على جهة دون أخرى - كما يفعل
كثير من الإخوة - ثم نترك الأمر للفهم بأن يزن الأمور بميزان أهل العلم وخاصة أهل
النقد والعلل للحكم بنفسه بعيدا عن الإسقاطات والتشنجات وغير ذلك.
ومن أراد الاستزادة فليراجع البحث
الأصلي والإجابات الملحقة به ففيها الغنية إن شاء الله.
الحديث رواه الإمام مسلم من طريق
أَبي مُسْهِرٍ عَبْدُالْأَعْلَى بنِ مُسْهِرٍ الغَسَّانِيّ، ومَرْوَانَ بن
مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيّ، كلاهما عن سَعِيد بن عَبْدِالعَزِيزِ التّنوخيِّ، عَنْ
رَبِيعَةَ بنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهو صحيح عند مسلم، وصححه كذلك
ابن حبان والحاكم، وغيرهم، ولم أجد من تكلم عليه قط.
وأول ما يواجهنا من كلام الإخوة:
طالما أن أحداً من أهل النقد قديما لم يتكلموا عليه فهذا إجماع على صحته! فكيف
تخالف الإجماع؟!
أقول: هذه مسألة خيالية! فليس ثم
إجماع على الحقيقة! فلا نعرف أن كل ناقد وقف عليه ثم قال هذا صحيح أو شبه ذلك حتى
ننقل ما يسمى بهذا الإجماع!
ثم من هم أهل النقد بعد ظهور هذه
الكتب؟ أشهرهم الإمام الدارقطني، وهو لم يستوعب تتبع كل حديث في الصحيحين، ومن
ينسب له ذلك فقد ضلّ ضلالا بعيداً!
فحقيقة لا يوجد إجماع قط.. نعم،
من جاء بعد مسلم وافقوه على تصحيحه متابعين له، والسلام.
فهذا الحديث بهذا الإسناد مُثقلٌ
بالجِرَاح !!!
1- اختلف على سعيد بن عبدالعزيز
فيه:
فرواه أَبو مُسْهِرٍ
الغَسَّانِيّ، ومَرْوَانَ بن مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيّ، عن سَعِيد بن
عَبْدِالعَزِيزِ التّنوخيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ
الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وخالفهما الوليد بن مسلم، فرواه
عن سعيد بن عبدالعزيز، عن ربيعة، عن أبي إدريس، عن أبي ذر، موقوفاً.
2- الحديث ذكره أبو زرعة الدمشقي
عن أبي مسهر في «الفوائد المعللة»، ثم قال: "قالوا لأبي مُسهر: إنّ الوليد بن
مسلم لا يرفعه! فأثبت رفعه، وجعل يتعجب".
3- فالاختلاف من سعيد نفسه.
وسعيد فقيه ثقة، لكنه اختلط في
آخر عمره، ولم يكن له كتاب، وعلمه كان في صدره، ولم يخرِّج له البخاري في الصحيح،
وأخرج له الإمام مسلم.
وقد تفرد به بهذا الإسناد مع
أوهامه واضطرابه في حديثه بسبب عدم مراجعته لحفظه وعسره في تحديث الطلبة وعدم
كتابته لحديثه كما فصّلته من خلال ترجمته.
4- لسعيد بعض المناكير التي ينفرد
بها!
منها ما رواه الوَلِيدُ بنُ
مُسْلِمٍ، وأَبُو مُسْهِرٍ، ومحمد بن مروان الطاطريّ الدمشقي، قالوا: حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بنُ عَبْدِالعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ الْأَزْدِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ: «اللهُمَّ
اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ»، وقد صرح بإعلال أحاديث هذا الباب
جمع من النقاد ليس هذا محل ذكرهم.
5- ذكر أبو زرعة الدمشقي في «الفوائد
المعللة» لسعيد أربعة أحاديث خالف فيها غيره من الثقات أو اضطرب فيها!
ومنها حديث: «ستجندون أجنادا
مجندة: جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن»، فقال الحوالي: خِر لي يا رسول
الله! قال: «عليكم بالشام فمن أبى فليحلق بيمنه، وليستق من غدره، فإن الله قد تكفل
لي بالشام وأهله».
فقد اضطرب سعيد بن عبدالعزيز في
هذا الحديث، ورواه على عدة أوجه كما بينته في بحثي: «القول الحسن حول حديث:
إِنَّكُمْ سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا فَجُنْدًا بِالشَّامِ، وَجُنْدًا
بِالعِرَاقِ، وَجُنْدًا بِاليَمَن».
ومن هذه الوجوه الوجه الذي روى به
حديث تحريم الظلم!
رواه أبو مسهر، قال: حدثنا سعيد
بن عبدالعزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبدالله بن حوالة
الأزدي، عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فذكره.
وقد خولف سعيد في بعض طرقه: فرواه
محمد بن راشد الخزاعي المكحولي، ومحمد بن عبدالله بن المهاجر الشعيثي، وعبدالرحمن
بن يزيد بن تميم السلمي الدمشقي، عن مكحول، عن ابن حوالة، وأسقطوا أبا إدريس من
إسناده!
وفي هذا إشارة إلى أنه كان يُقحم
"أبا إدريس" في بعض أحاديثه وهماً!!
فهل نقبل تفرد سعيد (ت167هـ) بهذا
الحديث بعد أن رأينا حاله ومخالفته واضطرابه في حديثه؟!!
وسعيد يروي بهذه الجادة بعض
الأحاديث: "عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني"!
فمظنّة سلوك الجادة هنا كبير كما
وجدت في بعض حديثه، ولم يرو هذا الحديث من أصحاب ربيعة عنه كمعاوية بن صالح مثلاً!
فتعيّن أن يكون سعيد بن عبدالعزيز وهم فيه!
وأين أهل الشام الثقات عن هذا
الحديث حتى ينفرد به سعيد في هذه الطبقة؟!!
وسعيد بن عبدالعزيز كان عابدا
زاهداً، وكان يروي من كتب أهل الكتاب! فهو يروي الإسرائيليات وهذا الحديث منها.
6- لما نظرنا من روى الحديث عن
أبي ذر قبل سعيد، وجدنا أن أبا قِلابة (ت 104 - 107هـ) رواه عن أبي ذر قال: قال
الله تعالى... موقوفاً على أبي ذر، ومرسلا لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو قلابة لم يسمع من أبي ذر،
وهذا من مراسيله.
وهذا رواه عن أبي قلابة أيوب
السختياني وهو أوثق تلاميذ أبي قلابة وكان أوصى بكتبه له، فحملت من الشام -ودقِقِ
النظر في الشام- إليه في البصرة.
ورواه هَمَّامُ بنُ يَحْيَى
العوذيّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ
الرَّحَبِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ.. الحديث.
وقتادة لم يسمع من أبي قلابة
وإنما كان يحدث من كتبه التي وقعت له لما حُملت من الشام إلى البصرة.
وهمام بن يحيى العوذي ثقة إلا أن
له بعض الأخطاء في الرفع، فيكون أصل الحديث موقوفاً فيهم ويرفعه.
وحديث أيوب هو الصواب عن أبي قلابة.
وهذا الحديث مما كتبه أبو قلابة
في الشام، ولم يُحدّث به في البصرة، ولا يعرف الحديث أصلا في البصرة! فمن يقول بأن
مخرج هذا الحديث: البصرة! فهو لا يعرف عن أبي قلابة وحديثه شيئاً!
قَال ابن عون: ذكر أيوب لمحمد بن
سيرين حَدِيث أَبِي قلابة، فَقَالَ: "أَبُو قلابة إِن شاء اللَّه ثقة، رجل
صَالِح، ولكن عمّن ذكره أبو قلابة".
قلت: وذلك لأن في حديثه مراسيل!
فهذا الحديث مرسل في الشام، فهو
من الأحاديث المنتشرة عندهم هناك، والتي كان الذهبي يحذر منها مرارا بقوله:
"على عادة الشاميين في المراسيل"!
7- ثم وجدنا أن الحديث يرويه شهر
بن حوشب (ت112هـ) وهو شامي عابد ناسك، قدم العراق على الحجاج، وحّدث بهذا الحديث
في العراق، فرواه عنه أهلها. وروي عنه على عدة أوجه:
رواه جماعة عنْ شَهْرِ بنِ
حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
ورواه عامر الأحول، عن شهر، عن معدي
كرب، عن أبي ذر، بلفظ مختلف!
ورواه علي بن زيد بن جُدعان، عن
شهر، عن تُبيعٍ ابن امرأة كعب الأحبار من قوله!
وهذا يُظهر لنا أن شهراً كان
يضطرب فيه! وشهر كان ضعيفاً، فالحديث منتشر في الشام عن أبي ذر مرسلاً، فوهم شهر
في روايته واختلف عليه فيه، وإن كان أقربها للصواب ما رواه علي بن زيد بن جدعان
عنه؛ لأنه ضبطه بذكر "تبيع"، وكان أهون عليه أن يمشي على الجادة السابقة
"عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر" أو "معدي كرب عن أبي ذر"!! سيما
وقد اختلف أيضاً في متنه بعدة ألفاظ!
ولهذا رجّح إمام العلل علي بن
المديني كلا الروايتين عن شهر لاختلاف متنيهما، وهذا لا يعني تصحيحه للرواية كما
قد يفهم بعضهم! وإنما أراد أن يبين أن كليهما روى شهر.
وشهر كثير الإرسال والأوهام وهو
واسع الرواية، فلما حدث بهذا الحديث في العراق اضطرب فيه على أوجه.
والظاهر أن أصل هذا الحديث من
رواية "تُبيع الحميري" ابن امرأة كعب الأحبار وهو شامي حمصي، وكان يروي
الإسرائيليات؛ لأنه لا بدّ لهذا الحديث من أصل في الشام، وفي روايته يقول:
"إن في التوراة مكتوب يا عبادي كلكم مذنب إلا من غفرت له...".
وفي كتاب «العقد الفريد» (3/88)
لابن عبد ربه قال: "وفي بعض الكتب القديمة المنزلة: يقول الله عز وجل يوم
القيامة: يا عبادي طالما ظمئتم، وتقلّصت في الدنيا شفاهكم، وغارت أعينكم عطشا
وجوعا: فكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية".
8- أبو إدريس الخولاني لم يسمع من
أبي ذر!
نعم، قال أبو بكر ابن أبي خيثمة:
سمعت يحيى بن معين يقول: "أبو إدريس الخولاني قد سمع من أبي ذر". [تاريخ
دمشق: (26/159)].
فأثبت ابن معين سماعه منه! فعلى
أي شيء اعتمد ابن معين في ذلك؟!
فحديث أبي إدريس عن أبي ذر قليل
جداً، وما روي عنه عن أبي ذر ثلاثة أحاديث مما وقفت عليه: حديث تحريم الظلم،
وحديثان آخران منكران لم يصحا عن أبي إدريس.
والبزار على سعة ما عنده من حديث
لم يذكر في ترجمة "أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر" إلا هذا الحديث
الواحد!!
وأهل العلم عندما يتكلمون عمن لقي
أبو إدريس من الصحابة لا يذكرون "أبا ذر" غالباً!!
وأبو إدريس الخولاني ولد - على ما
قيل - في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة حُنين (8هـ)، ومات سنة
(80هـ)، وعليه كان عمره لما توفي أبو ذر = 24 سنة. فلا شك أنه أدركه، لكن هل سمع
منه؟! ومن المعلوم أن أهل الشام كانوا يتأخرون في طلب الحديث حتى قال بعض أهل
العلم أن غالبهم يطلب الحديث بعد سنّ الثلاثين، لكن هذا لا يمنع أن يطلبه بعضهم
قبل ذلك.
فكيف ينفرد عن أبي ذر بهذا الحديث
ولم يروه أصحاب أبي ذر الملازمين له؟!
ويمكن أن يكون رأي يحيى تغير في
ذلك! فيحيى له بعض الأقوال التي غيرها.
فقد قال عباس الدوري: سَمِعت يحيى
يَقُول: "قد سمع أَبُو إِدْرِيس الخَولَانِيّ من أبي الدَّرْدَاء، وشَدَّاد
بن أَوْس، وَمن عبَادَة بن الصَّامِت، وَمن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي".
والدوري من أكثر الملازمين ليحيى
وهنا لم يذكر يحيى أن أبا إدريس سمع من أبي ذر وهو في مقام ذكر الصحابة الذين سمع
منهم!
وقد روى الزُّهْرِيّ عَن أبي
إدريس، قال: "أدركت عبادة بن الصامت ووعيت عنه، وأدركت أبا الدرداء ووعيت
عنه، وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه، وفاتني معاذ بن جبل".
وظاهر كلام أبي إدريس أنه ذكر من
أدركهم من متقدمي الصحابة وسمع منهم في الشام، ولو كان سمع من أبي ذرّ لذكره!
وهؤلاء الذين ذكرهم أبو إدريس أنه
سمع منهم أخرج حديثهم البخاري ومسلم في صحيحيهما.
فأخرج البخاري لأَبي إِدْرِيسَ عن
أَبي الدَّرْدَاءِ حديثاً، وعن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ حديثاً، وعن أَبي
ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيّ حديثين. وأخرج له أيضاً عن حذيفة حديثاً واحداً.
وكذا مسلم لم يُكثر من التخريج
له! فأخرج له عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ حديثاً، وعن أَبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيّ
حديثاً. وأخرج له أيضاً عن واثلة بن الأسقع حديثاً، وهذا الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ!
وعن عُقْبَة بنِ عَامِرٍ حديثاً، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حديثين، وعن أَبي سَعِيدٍ
الخُدْرِيّ حديثاً.
وكان أبو ذر نزل الشام، ثم تركها
في خلافة عثمان لما اختلف مع معاوية، وكان يُنكر عليهم النعيم الذي هم فيه! فشكاه
معاوية لعثمان، فطلبه عثمان فرجع من الشام، وسكن الرَّبَذَة خارج المدينة حتى مات،
رضي الله عنهم.
قال أبو زرعة: "وممن نزل
الشام من مصر: أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، نزل بيت المقدس ثم ارتحله عثمان إلى
المدينة".
فلا يوجد ما يثبت سماع أبي إدريس
من أبي ذر إلا ما نقله ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين، وكأن ابن معين أثبته بهذا
الحديث.
على أنه يمكن مخالفة ابن معين في
ذلك كونه لا توجد قرينة على أنه لقيه وسمع منه.
وقد خولف ابن معين في إثباته بعض
السماعات، وهذا أمر عادي.
فهذا جعفر بن برقان، قال الإمام
أحمد: "لم يسمع من الزهري"، وقد أثبت له يحيى بن معين وغيره السماع منه.
وقال ابن معين: "لم يسمع
يحيى بن أبي كثير من أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، ولا من عبدالرحمن الأعرج،
ولا من زيد بن سلام".
قال العلائي: "قلت أثبت له
أبو حاتم السماع من زيد".
فمخالفة يحيى في إثباته السماع
محتملة لأنه لا يوجد ما يثبتها.
وأما مسلم فإنه أخرج حديثه لشرطه
في المعاصرة لا كما قد يدعيه البعض أنه أثبت سماعه منه!!
قال العلائي: "روى عن عمر ومعاذ
وأُبي بن كعب وبلال، وقد قيل: إن ذلك مرسل! وروايته عن أبي ذر في صحيح مسلم؛ وكأن
ذلك على قاعدته".
فالعلائي يقصد أن مسلما خرّج حديث
أبي إدريس عن أبي ذر لشرطه في المعاصرة، ولا شك أن أبا إدريس أدركه. ولم يُذكر في
الرواية السماع بينهما!
وفي هذا إشارة من العلائي إلى عدم
ثبوت سماع أبي إدريس من أبي ذر، وإلا لما ذكر أن مسلما أخرج حديثه في صحيحه بناء
على قاعدته في المعاصرة.
9- عدم توفر معلومات عن أبي ذر
لما نزل الشام! وقد بحثت في تاريخ أبي زرعة الدمشقي عن أحوال أبي ذر في الشام فلم
أجد له ذكراً إلا في موضع واحد، روى عنه حديثا هو وبعض الصحابة!
وهذا غريب جداً! فالغالب نجد في
كتب التواريخ أخبار من نزل تلك البلاد! وكأن أبا ذر لم يجلس طويلاً في الشام،
وإقامته هناك لم تكن مستقرة حتى يتفرغ للتحديث والفتوى! ولهذا لم نجد أحداً من أهل
الشام الثقات المعروفين يروي عنه إلا جبير بن نفير الحضرمي الحمصي، وهو مخضرم،
وأبو مسلم الخولاني الزاهد وكان رحل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فلم يدركه وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية، وهما لا شك سمعها منه.
10- عدم ذكر ابن سعد لأبي ذر فيمن
نزل الشام من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم! والعجيب أن ابن سعد لم يذكره فيمن
نزل الشام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في «طبقاته»! وكذا غالب من ترجم له!
وكأن ذلك - أيضاً - بسبب أنه لم يمكث طويلاً هناك، وترك الشام وخرج منها.
ما جاء في آخر الحديث من قول
سَعِيد بن عبدالعزيز: "كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيُّ، إِذَا حَدَّثَ
بِهَذَا الحَدِيثِ، جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ" فيه دلالة على أن أبا إدريس
كان يحدث بهذا الحديث مراراً! فكيف ذلك ولم يروه إلا سعيد بن عبدالعزيز؟! مع النظر
في دلالة (كان) عند الأصوليين فبعضهم جوز أن يدل إطلاقها على المرة الواحدة وبعضهم
اشترط غير ذلك وبسط المسألة في كتب الأصول.
ثم هذه الأمور التي تذكر في بعض
أحاديث الشاميين منتشرة عندهم لإكساب الحديث صحة! فتكون الأحاديث مرسلة أو غير
صحيحة فيذكر بعض الرواة ذلك توهماً أو خطأ كما جاء في الحديث الذي رواه هِشَام بن
عَمَّارٍ، عن عَمْرو بن وَاقِدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بنُ
مَيْسَرَةَ بنِ حَلْبَسٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ
الغِفَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَيْسَ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الحَلَالِ، وَلَا فِي إِضَاعَةِ
الْمَالِ، وَلَكِنِ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي
يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ
الْمُصِيبَةِ، إِذَا أُصِبْتَ بِهَا، أَرْغَبَ مِنْكَ فِيهَا، لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ
لَكَ».
قَالَ هِشَامٌ: "كَانَ أَبُو
إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيُّ، يَقُولُ: مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْأَحَادِيثِ،
كَمِثْلِ الْإِبْرِيزِ فِي الذَّهَبِ".
وهذا حديث منكر!!
قال الترمذي: "هذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَأَبُو إِدْرِيسَ
الخَوْلاَنِيُّ اسْمُهُ: عَائِذُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ
مُنْكَرُ الحَدِيثِ".
فهذا الذي ذكرناه من أحوال رواية
سعيد بن عبدالعزيز التنوخي وطرق الحديث، والقرائن التي تحتف بالرواية والرواة
بمجموعها تؤكد لنا أن هذا الحديث لا يصح عن أبي ذر - رضي الله عنه -.
ويبقى هذا في دائرة الاجتهاد مما
تعلمناه من أهل النقد ومنهجهم في ذلك، فإن أصبنا فالحمد لله، وإن أخطأنا فنستغفر
الله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وكتبه: أبو صهيب خالد الحايك.
28 محرم 1441 هـ.
هيثم هلال :
جمع الله لك إجابة كل دعوة صلاح منك ومن غيرك
شاركنا تعليقك