«التِبيان» في ضعف
زيادة «إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ
بُرْهَان»
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير
المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:
فإنّ حديث عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في مبايعة
النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث مشهور، وقد خرّجه الشيخان البخاري ومسلم في
صحيحيهما، وغيرهم من أصحاب الصحاح الأخرى والسنن والمسانيد.
ولم أجد من تكلّم على هذا الحديث حتى منّ الله عليّ
بالوقوف على لفظة شاذة فيه جرّت على الأمة الويلات عبر القرون، والله المستعان.
وقد روى الحديث عن عبادة: ابنه الوليد بن عبادة، وجُنادة
بن أبي أُمية:
· حديث الوليد بن عُبادة بن الصامت:
أما حديث الوليد بن عبادة:
فرواه مالكٌ في «الموطأ» (2/445) عَنْ يَحْيَى بنِ
سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بنُ الْوَلِيدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ
الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْيُسْرِ
وَالْعُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ،
وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لانَخَافُ فِي اللَّهِ
لَوْمَةَ لائِمٍ».
ورواه الإمام البخاري في «صحيحه»، كتاب الأحكام، باب
كيف يبايع الإمام الناس، (6/2633) عن إسماعيل بن أبي أُويس عن مالك، به.
ورواه مسلم في «صحيحه» (3/1470) عن أَبي بَكْرِ بنُ
أَبِي شَيْبَةَ، عن عَبْدِاللَّهِ بن إِدْرِيس، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ
وَعُبَيْدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، به.
ثم رواه عن ابن نُمَيْرٍ،عن عَبْداللَّهِ بن إِدْرِيس،عن ابن
عَجْلان وَعُبَيْداللَّهِ بن عُمَر وَيَحْيَى بن سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ
الْوَلِيدِ فِي هَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
ثم رواه عن ابن أَبِي عُمَر، عن عَبْدِالْعَزِيزِ
الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنْ يَزِيدبن الْهَادِ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الْوَلِيدِ، بِمِثْلِ
حَدِيثِ ابنِ إِدْرِيسَ.
ورواه الإمام أحمد في «مسنده» (5/316) يعقوب بن
إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن
الصامت، به.
ورواه ابن أبي عاصم في «كتاب السنة» (2/494) عن عبدالله
بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيدالله بن عمر.
وعن ابن كاسب، عن عبدالعزيز بن محمد وعبدالعزيز بن أبي
حازم، عن يزيد بن عبدالله بن الهاد.
وعن أحمد بن عبدة، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن ابن اسحاق.
وعن زياد بن يحيى بن حسان، عن أبي عتاب،عن شعبة، عن سيّار.
كلّهم عن عبادة بن الوليد بن عبادة، به.
ورواه النسائي في «السنن الكبرى»، كتاب البيعة، باب
البيعة على السمع والطاعة، (4/421)عن عيسى بن حماد قال: أنبأنا الليث، عن يحيى بن
سعيد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه: أن عبادة بن الصامت.
ثم رواه في (باب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله) عن محمد
بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم،عن مالك، عن يحيى بن سعيد، به.
ثم رواه في (باب البيعة على القول بالعدل) عن هارون بن
عبدالله، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن عبادة بن الوليد، به.بلفظ: «وعلى أن
نقول بالعدل أين كنا لا نخاف في الله لومة لائم».
ثم رواه في (باب البيعة على القول بالحق) عن محمد بن يحيى
بن أيوب عن عبدالله بن إدريس عن ابن إسحاق ويحيى بن سعيد عن عبادة بن الوليد، به.
ثم رواه في (باب البيعة على الأثرة) عن محمد بن الوليد، عن
محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سيار ويحيى بن سعيد أنهما سمعا عبادة بن الوليد يُحدِّث
عن أبيه - أما سيار فقال: عن أبيه القاضي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما يحيى
فقال: عن أبيه عن جدّه – قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع
والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا والأثرة عليا وأن لا ننازع الأمر أهله،
وأن نقوم بالحق حيث كان لا نخاف في الله لومة لائم».
قال شعبة :"سيار لم يذكر هذا الحرف «حيث كان»، فذكره
يحيى. قال شعبة: إن كنت زدت فيه شيئاً فهو عن سيار أو عن يحيى".
ورواه ابن ماجة في «السنن»، كتاب الجهاد، باب
البيعة، (2/957) عن علي بن محمد، عن عبدالله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق ويحيى بن
سعيد وعبيدالله بن عمر وابن عجلان، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، به.
ورواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (7/464) عن عبدالله
بن إدريس عن يحيى وعبيدالله وابن إسحاق، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت،
به.
ورواه الشاشي في «مسنده» (3/120) (1184) عن عَبَّاس
الدُّورِيّ، عن أَبي نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنِ دُكَيْنٍ، عن النُّعْمَان بن دَاوُدَ
بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الوَلِيدِ، به.
ثم رواه (3/122) (1187) عن عَلِيّ بن عَبْدِالْعَزِيزِ، عن
أَبي نُعَيْمٍ، به، لكن سقط من إسناده: "عن جدّه"! فلا أدري هل السقط من
المطبوع أم من أصل النسخة!
قلت: هكذا رواه: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعُبيدالله بن
عمر، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن إسحاق، ويزيد بن عبدالله بن الهاد، وسيّار أبو
الحكم، والوليد بن كثير، والنعمان بن داود بن محمد، كلّهم عن عبادة بن الوليد بن
عبادة بن الصامت، عن أبيه عن جدّه عبادة بن الصامت.
· هل سمع عبادة بن الوليد هذا الحديث
من جدّه مباشرة؟!
ورُوي أيضاً عن عبادة بن الوليد عن جدّه عبادة بن الصامت،
لم يذكر أباه:
رواه الإمام أحمد في «مسنده» (1/192) قال: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الوَلِيدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ
الصَّامِتِ: سَمِعَهُ مِنْ جَدِّهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: عَنْ جَدِّهِ
عُبَادَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَعُبَادَةُ
نَقِيبٌ وَهُوَ مِنْ السَّبْعَةِ– «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَلا نُنَازِعُ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، نَقُولُ
بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لانَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ».
قَالَ سُفْيَانُ:"زَادَ بَعْضُ النَّاسِ: مَا لَمْ
تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا".
ورواه الحُميدي في «مسنده» (1/192) عن سفيان بن
عيينة، عن يحيى بن سعيد، مثله، دون ذكر قول سفيان الأخير.
ورواه أحمد في «مسنده» (5/319) عن وكيع، عن أسامة
بن زيد الليثي، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن جدّه عبادة بن الصامت،
به.
ورواه النسائي في «السنن الكبرى»، كتاب البيعة، البيعة
على السمع والطاعة، (4/421) عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث، عن يحيى بن سعيد،
عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن عبادة بن الصامت.
ورواه ابن حبان في «صحيحه» (10/413) عن الحسين بن
إدريس الأنصاري، عن أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه قال: أخبرني
عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت: أنّ عبادة بن الصامت قال، فذكره.
قال أبو حاتم ابن حبان:"سمع عبادة بن الوليد عبادة بن
الصامت".
قلت: كذا جاء في هذه الروايات أن عبادة بن الوليد سمع هذا
الحديث من جدّه مباشرة، وكأنه من أجل هذا أثبت ابن حبان هذا السماع بعد تخريجه
للرواية!
· عبادة بن الوليد لم يسمع من جدّه
عبادة بن الصامت، وأوهام لبعض أهل العلم!
والصواب أن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت لم يسمع من
جدّه عبادة بن الصامت، وهذا الاختلاف في الإسناد على يحيى بن سعيد، والصواب من
قال: "عن أبيه عن جده".
والوليد بن عبادة والد عبادة وُلد في آخر حياة النبي صلى
الله عليه وسلم، ووالده عبادة توفي سنة (34هـ)، وهذا ينفي سماع عبادة بن الوليد من
جدّه. ويؤيد ذلك ما رواه عبادة بن الوليد بن عبادة، قال: حدثني أبي قال: "دخلت
على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني...".
ومن ذكر أن عبادة بن الوليد له رواية عن جدّه إنما اعتمد
بعض هذه الروايات السابقة كالمزي في «تهذيب الكمال»، وابن حجر في «تهذيب
التهذيب»، والسيوطي في «إسعاف المبطأ»! وكل ذلك خطأ.
وأما ما رُوي عن مالك كما عند ابن حبان، فالصواب عن مالك
عن يحيى عن عبادة بن الوليد عن أبيه عن جدّه.
قال الحافظ ابن عبدالبر في «التمهيد» (23/271):
"هكذا روى هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح منهم: ابن
وهب، وابن القاسم، ومعن، وابن بكير، وابن أويس، وغيرهم. وما خالفه عن مالك فليس
بشيء، ورواه القعنبي في جامع الموطأ عن مالك عن يحيى عن عبادة بن الوليد عن
عبادة بن الصامت،ولم يذكر أباه، وتابعه عبدالله بن يوسف، ورواه قتيبة عن مالك
عن يحيى عن عبادة بن الوليد: أخبرني أبي قال: بايعنا رسول الله، ولم يذكر عبادة بن
الصامت، وتابعه أبو مسهر وأبو مصعب عن محمد بن زريق بن جامع عنه.
وقداختلف فيه على يحيى بن سعيد، فرواه بعضهم عنه عن عبادة
بن الوليد عن أبيه قال: وبايعنا رسول الله، الحديث، لم يذكر عبادة بن الصامت، وزعم
أن البيعة المذكورة في هذا الحديث ليست بيعة العقبة، وأن الوليد بن عبادة له صحبة،
وأنه ممكن أن يشاهد هذه البيعة؛ لأنها كانت على الحرب وذلك بالمدينة.
ورواه سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن عبادة بن الوليد
عن جده عبادة بن الصامت، لم يذكر الوليد بن عبادة، هكذا رواه الحميدي عن ابن عيينة.
ورواه أبو إسحاق الفزاري عن يحيى بن سعيد عن الوليد بن
عبادة بن الصامت عن أبيه، لم يذكر عبادة بن الوليد، وهذا عندي غلط، والله أعلم.
والصحيح فيه إن شاء الله: يحيى بن سعيد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت،
عن أبيه، عن جدّه".
قلت: نعم، هذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
قال الدارقطني في «العلل» (11/244): "مالك
وجماعة من الحفاظ ممن رواه عن يحيى بن سعيد رووه: عن يحيى، عن عبادة بن الوليد بن
عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب".
وأما قول ابن عبدالبر السابق: "ورواه القعنبي في جامع
الموطأ عن مالك عن يحيى عن عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت، ولم يذكر أباه"؛
فقد وجدت ما يخالفه وأنه ذكر فيه: "عن أبيه".
كذا رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/145) من
طريق عثمان بن سعيد الدارمي، قال: حدثنا القعنبي فيما قرأ على مالك، عن يحيى بن
سعيد أنه قال: أخبرني عبادة بن الوليد، عن أبيه، عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، الحديث.
وأما رواية أحمد عن وكيع، عن أسامة بن زيد الليثي، عن
عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن جدّه عبادة بن الصامت؛ فقد أخرجه الشاشي
في «مسنده» من طريق زيد بن الحباب عن أسامة بن زيد، عن عبادة بن الوليد بن
عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدّه.
وقد أشار محقق الكتاب إلى أنه في أصل المخطوط قد ضُبِّبَ
على قوله: "عن أبيه".
قلت: يُحتمل أن المحفوظ عن أسامة بن زيد دون ذكره:
"عن أبيه"، فإن صحّ هذا فلا تعمتد روايته في إثبات سماع عبادة بن الوليد
عن جدّه عبادة؛ لأن المحفوظ وجود واسطة بينهما، وأسامة بن زيد صدوق يَهِم.
· هل كان الوليد بن عبادة بن الصامت
في البيعة؟!
وقد روى الإمام أحمد في «المسند» (5/318) عن هاشم
بن القاسم وعفّان، قالا: حدثنا محمد بن طلحة، عن الأعمش، عن الوليد بن عبادة بن
الصامت، عن أبيه، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في
المكره والمنشط والعسر واليسر والأثرة علينا وأن نقيم ألسنتنا بالعدل أينما كنا لا
نخاف في الله لومه لائم».
وسبقت الرواية التي رواها النسائي من طريق سيار ويحيى بن
سعيد أنهما سمعا عبادة بن الوليد يُحدِّث عن أبيه - أما سيار فقال: عن أبيه القاضي
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أشار ابن عبدالبر إلى صحبة الوليد فيما مضى من كلامه.
قال في «الاستيعاب» (4/1552): "الوليد بن
عبادة بن الصامت، له صحبة، قاله هشام بن عمار عن حنظلة عن أبي حرزة يعقوب بن مجاهد
عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: كنت أخرج مع أبي، وكانت له صحبة، فذكر
الحديث".
وقال ابن حجر في «الإصابة» (6/631): "الوليد
بن عبادة بن الصامت الأنصاري... وجاءت رواية توهم أن له صحبة، فعند أحمد من طريق
سيار عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبادة بن الوليد عن أبيه قال: بايعنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، الحديث،
وهذا الحديث إنما هو لعبادة والده، فلعل مراده بقوله: عن أبيه عن جده، وقد أخرجه
الموطأ والشيخان وأحمد أيضاً والنسائي من طرق عن يحيى بن سعيد وغيره عن عبادة بن
الوليد عن أبيه عن عبادة، وأخرج الترمذي من طريق عبدالواحد بن سليم: قدمت مكة
فلقيت عطاء بن أبي رباح، فقال عطاء: لقيتُ الوليدَ بن عبادةَ بن الصامتِ صاحبِ
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما كانت وصية أبيك عند الموت، ذكر حديثاً، فإن
قرئ صاحب بالنصب نعتاً للوليد اقتضى أن يكون صحابياً، وإن قرئ بالجر نعتاً لعبادة
فلا إشكال".
قلت: لا إشكال أصلاً لأن "صاحب" نعت لعبادة كما
هو ظاهر، وقد رواه الترمذي أيضاً في مكان آخر من الطريق نفسها دون هذا النعت (5/424)
عن عبدالواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح، فقلت له: يا أبا محمد،
إن أناساً عندنا يقولون في القدر، فقال عطاء: لقيت الوليد بن عبادة بن الصامت قال:
حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله
القلم، فقال له: اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد»، وفي الحديث قصة.
قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح غريب".
وقال في الحديث الأول: "هذا حديث غريبٌ من هذا
الوجه".
قلت: فالعجب من الترمذي! حكم بغرابته مطلقاً، ثم حكم
بغرابته مع تصحيحه!!
وعبدالواحد بن سليم البصري: هالك.
قال أحمد:"حديثه حديث منكر، أحاديثه موضوعة".
وقال يحيى بن معين ويعقوب بن سفيان: "ضعيف".
وقال البخاري: "فيه نظر".
وقال النسائي:"ليس بثقة".
وقال العقيلي: "مجهول في النقل، وحديثه غير محفوظ،
ولا يتابع".
وقال الذهبي: "حدّث عنه أبو داود وعلي بن الجعد
وسعدويه، له حديث منكرٌ في القدر وخلق القلم، والعجب أن ابن حبان ذكره في الثقات".
وللحديث شاهد رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/264)،
والطبري في «تفسيره» (29/17)، وأحمد في «مسنده» (5/317)، والبخاري
في «التاريخ الكبير» (6/92) من طريق معاوية بن صالح، عن أيوب بن زياد أبي
زيد الحمصي، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه: أنه دخل على عبادة وهو مريض،
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول شيء خلق الله القلم، فقال:
اجر فجرى تلك الساعة بما هو كائن...».
وأبو زيد الحمصي، قال ابن القطان: "لا يُعرف"،
وحسّن ابن المديني حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات (لسان الميزان: 1/481).
وتبع الشيخ شعيب ورفاقه في تحقيقهم للمسند (37/379) حديث
رقم (22705) تبعوا الترمذي فصححوا الحديث.
قلت: أبو زيد ليس بالمشهور، وتفرده لا يُحتمل، ولم يتابعه
أحد عليه من المقبولين، والحديث منكر، والله أعلم.
وأما حديث "محمد بن طلحة، عن الأعمش، عن الوليد بن
عبادة بن الصامت، عن أبيه"؛ فمحمد بن طلحة بن مصرف اليامي الكوفي رجل صدوق،
وتفرده عن الأعمش يُتوقف فيه؛ لأنه لم يروه عن الأعمش إلا هو!!
قال أحمد: "محمد بن طلحة لا بأس به؛ إلا أنه كان لا
يكاد يقول في شيء من حديثه حدثنا".
والخلاصة: أن حديث عبادة
بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدّه، لا خلاف فيه. ولا يوجد فيه
زيادة: «إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ
بُرْهَان».
قال أبو زرعة الرازي في عبادة بن الوليد:"هو مدني ثقة"،
وقال النسائي:"هو ثقة"، قيل له: كيف أحاديثه عن أبيه عن جدّه؟ قال:
"ثقة لا شك فيه".
· حديث جُنادة بن أبي أمية:
وأما حديث جُنادة بن أبي أمية: فروي عنه ببعض الزيادات
التي لا توجد في حديث الوليد بن عبادة عن أبيه.
· رواية البخاري ومسلم:
روى الإمامُ البخاريُّ في «صحيحه»، كتاب الفتن، باب
قول النبي صلى الله عليه وسلم «سترون بعدي أموراً تنكرونها»، (6/2588) قال: حدّثنا
إسماعيلُ، قال: حدَّثني ابن وهب، عن عَمرو– هو: ابن الحارث -،عن بُكير - هو ابن
عبدالله الأشج -، عن بُسْرِ بنِ سعيدٍ، عَنْ جُنَادَةَ بنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ:
دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ
اللَّهُ حدِّث بِحَدِيثٍ يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النبيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعَانَا النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فقال فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى
السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا
وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ
تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ».
ورواه الإمام مسلمٌ في «صحيحه» (3/1470) عن أحمد بن
عبدالرحمن بن وهب بن مسلم عن عمّه عبدالله بن وهب، مثله. ولكن هذه اللفظة منفصلة
في آخر الحديث: "قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله
فيه برهان".
ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/145) من طريق نُعيم
بن حماد عنابن وهب، به. وكذلك فصل هذه اللفظة في آخر الحديث: "قال:
إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان".
فهل "قال" هذه تابعة لقول النبي صلى الله عليه
وسلم أم هي من قول عبادة أم من قول جنادة؟!
ورواه الطبراني – كما قال الحافظ في الفتح: 13/8 - من
رواية أحمد بن صالح عن ابن وهب، وفيه: «كفراً صُراحاً».
وأخرج ابن أبي عاصم في «كتاب السنة» (2/495) حديث
عُبادة من طريق آخر بلفظ: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة
في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله».
ثم رواه عن ابن أخي حزم، قال: حدثنا بشر بن عمر، عن ابن
لهيعة، عن بكير بن عبدالله، عن بسر بن سعيد، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة عن
النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه.
أي بنحو اللفظ السابق، ولم يسق ابن أبي عاصم اللفظ، ولا
نبّه إلى اللفظة التي في حديث ابن وهب: «إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا
عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»، فالله أعلم هل هي في حديث ابن
لهيعة أو لا!!
وعليه فيكون عمرو بن الحارث وابن لهيعة روياه عن بكير
الأشج عن بسر بن سعيد عن جنادة عن عبادة.
وخالفهما محمد بن عجلان فلم يذكر في إسناده: "بُسر بن
سعيد"!!
· رواية ابن عجلان عن بُكير:
وروى ابن أبي عاصم في «كتاب السنة» (2/494) قال: حدثنا
أبو شرحبيل، قال: حدثنا أبو اليمان، عن إسماعيل بن عيّاش، عن محمد بن عجلان، عن بُكير
بن عبدالله بن الأشج، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، مثله. أي بمثل الذي قبله.
قال الشيخ الألباني معلقاً على هذه الرواية: "حديث
صحيح، ورجاله ثقات، إلا أن إسماعيل بن عياش قد ضعّف في روايته عن الحجازيين وهذه
منها، لكنه قد تابعه عبدالله بن إدريس كما تقدم قبل حديث، لكنه أسقط بكير بن الأشج
من السند، وهو المحفوظ عن ابن عجلان، وقد رواه غيره عن بكير كما يأتي في الذي
بعده" يعني حديث بكير عن بسر بن سعيد عن جنادة.
قلت: متابعة عبدالله بن إدريس التي ذكرها الشيخ قبل هي ما
رواه ابن ماجه في «سننه» (2/957) عنه عن محمد بن إسحاق ويحيى بن سعيد
وعبيدالله بن عمر وابن عجلان، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن
عبادة بن الصامت.
وزعم الشيخ أن عبدالله بن إدريس أسقط "بكير بن
الأشج" من السند! وهذه دعوى غير صحيحة؛ لأن الشيخ اعتمد على رواية ابن ماجه!
ولا مدخل لبكير في هذه الرواية، وهي رواية أخرى لابن عجلان عن عبادة بن الوليد بن
عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، وقد تقدم ذكرها.
وابن إدريس لم يسقط "بكير" من الإسناد، فقد روى ابن
أبي شيبة في «المصنف» (7/464) قال: حدثنا عبدالله بن إدريس، عن محمد بن
عجلان، عن بكير بن عبدالله بن الأشج، قال: قال عبادة بن الصامت لجنادة بن أبي أمية
الأنصاري: «تعال حتى أخبرك ماذا لك وماذا عليك: إن عليك السمع والطاعة في عسرك
ويسرك ومنشطك ومكرهك والأثرة عليك، وأن تقول بلسانك، وأن لا تنازع الأمر أهله إلا
أن ترى كفراً براحاً». موقوفاً.
قلت: فهذه هي متابعة إسماعيل بن عيّاش.
وهنا قد خالف ابن عجلان: عمرو بن الحارث وابن لهيعة، فلم
يذكر: "عبدالله بن بسر"، ولفظة: "إلا أن تروا كفراً بواحاً – أو
براحاً-" وفي رواية عمرو بن الحارث زيادة: "عندكم من الله فيه
برهان".
وهنا نرجّح رواية عمرو بن الحارث وابن لهيعة المصريين على
رواية ابن عجلان المدني؛ وابن عجلان له بعض الأخطاء، ومما يرجّح به أيضاً أن بكير
بن الأشج (مدني نزل مصر قديماً) (ت 120هـ) لا تعرف له رواية عن جنادة بن أبي أمية
الشامي (توفي على الراجح سنة 80هـ)، فلا بدّ من واسطة بينهما وهو "بسر بن
سعيد المدني".
وإن ثبت حديث ابن عجلان وضبطه عن بكير بدون ذكر "بسر
بن سعيد"، فيحتمل أن يكون بكيراً أخطأ فيه عندما حدّث به في مصر فزاد فيه
بسراً؛ وله أحاديث عنه، فربما وهم فيه، فتكون رواية بكير عن جنادة مرسلة، والله
أعلم.
وعليه فإن هذا الإسناد تفرد به بكير عن بسر بن سعيد عن
جنادة عن عبادة.
وأهل مصر رووه عنه بلفظ: «وَأَنْ لا
نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا
عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ».
وأهل المدينة رووه عنه بلفظ: «وأن لا تنازع
الأمر أهله إلا أن ترى كفراً براحاً».
وبعض هذه الأحاديث رُويت موقوفة على عبادة، أي أن هذا من
قول عبادة وليس من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأحاديث المصريين كثير منها أصله مدنيّ، ولهذا نجد
أسانيدهم نازلة.
ولكن قد خالفهم أهل الشام في لفظه:
· رواية حيّان أبي النضر الأسدي
وعُمير بن هانئ عن جُنادة:
فروى ابن أبي عاصم في كتاب «السنة» (2/492) عن هشام
بن عمّار، قال: حدثنا مُدْرِك بن سعد، قال: سمعت حيّان أبا النضر قال: سمعت جُنادة
بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «اسمع وأطع
في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثره عليك؛ وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك».
ورواه ابن حبان في «صحيحه» (10/425) عن الحسين بن
عبدالله بن يزيد القطان عن هشام بن عمار، به. ولفظه: «وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك
إلا أن يكون معصية».
ورواه أيضاً (10/428) من طريق الهيثم بن خارجة عن مدرك بن
سعد الفزاري أبي سعيد، به.
ورواه ابن عساكر في «تاريخه» (57/184) من طريق علي
بن حجر عن مدرك بن أبي سعد، به.
وللحديث قصة رواها ابن عساكر في «تاريخه» (15/374)
من طريق أبي علي بن منير: أنَّ محمد بن خريم، قال:حدثنا هشام، قال:حدثنا مدرك بن
أبي سعد قال: أتينا يونس بن حلبس عائدين له في بيته، وكان عنده شيخ أكبر منه يُقال
له: أبو النضر، اسمه حيان القارئ فقال يونس: يا أبا النضر، الحديث الذي حدثتنا،
فقال أبو النضر: حدثني جنادة بن أبي أمية الأزدي عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: «يا عبادة، اسمع وأطع في يسرك وعسرك، ومنشطك ومكرهك،
وأثرة عليك؛ وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، إلا أن يكون معصية بواحاً».
قلت: وهذا الزيادة تفرّد بها مدرك بن سعد، وهو قليل
الحديث، وهو مستور الحال وإن وثقه بعض أهل العلم.
قال يزيد بن محمد بن عبدالصمد وعثمان الدارمي وأبو حاتم
الرازي: "ثقة".
وقال أبو حاتم أيضاً وأبو داود: "لا بأس به".
وقال أبو زرعة الدمشقي عن أبي مُسهر: "صالح".
وقال أيضاً: سألت أبا مسهر عنه؟ فقال: "لا بأس به،
يؤخذ من حديثه المعروف".
قلت: أبو مسهر عالِم الشام ولم يوثقه التوثيق المعتبَر عند
أهل النقد، ومن أطلق التوثيق فيه ليس من أهل الشام العارفين بحديث الرجل، وهو كما
ذكرت مستور الحال، ولهذا قال أبو مسهر: "صالح"، أي يُعتبر بحديثه
ويُكتب، ويحتاج لمُتابِع، وقال: "يؤخذ من حديثه المعروف"، أي الحديث
الذي يُتابع عليه، ويُردّ ما تفرد به.
ونحن لا نشك أنه سمع هذا الحديث من أبي النضر بحسب القصة
التي ساقها ابن عساكر، ولكنه زاد في الحديث لفظة تفرد بها عن أبي النضر، وغير أبي
النضر لا يذكر هذه الزيادة.
وقد خالفه في هذا أيضاً سعيد بن عبدالعزيز عن أبي النضر
كما سيأتي.
روى الإمام أحمد في «المسند» (5/321) عن الوليد بن
مسلم، قال: حدثني الأوزاعي، عن عُمير بن هانئ: أنه حدّثه عن جنادة بن أبي أمية، عن
عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في
عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله، وإن رأيت أن لك».
ثم رواه عن الوليد بن مسلم، قال:حدثنا سعيد بن عبدالعزيز،
عن حَيَّان أبي النضر: أنه سمع من جنادة يُحدث عن عبادة، بمثله.
قلت: فأشار الإمام أحمد إلى رواية سعيد بن عبدالعزيز
التنوخي الدمشقي عن أبي النضر مثل رواية عمير بن هانئ، ليس فيها: «وإن أكلوا
مالك وضربوا ظهرك»!
فيكون مدرك قد خالف سعيد بن عبدالعزيز، ومخالفته هذه لا
يُعتد بها سيما وأن الروايات الأخرى عن جنادة من غير طريق أبي النضر ليس فيها هذه
الزيادة كرواية عُمير بن هانئ، وهي رواية صحيحة لا أعرف لها علة.
فرواية عمير بن هانئ عن جنادة ليس فيها: «إِلاَّ أَنْ
تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»، كما أنّ
رواية المصريين التي أخرجها البخاري ومسلم من حديث جنادة ليس فيها هذه الزيادة: «وإن
أكلوا مالك وضربوا ظهرك».
· تصحيح الشيخ الألباني لرواية حيّان
أبي النضر!
قال الشيخ الألباني أثناء تحقيقه لكتاب «السنة»
حديث رقم (1026) (2/492) في حديث هشام بن عمار عن مدرك عن حيّان: "حديث صحيح،
ورجاله ثقات على ضعف في هشام بن عمّار، فإنه كان يلقن فيتلقن، لكنه توبع...
والحديث أخرجه ابن حبان: أخبرنا الحسين بن عبدالله بن يزيد القطان – بالرقة –
حدثنا هشام بن عمار، به. ثم أخرجه من طريق الهيثم بن خارجة: حدثنا مدرك بن سعيد
الفزاري، به. وتابعه سعيد بن عبدالعزيز عن حيان أبي النضر به. أخرجه أحمد: ثنا
الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبدالعزيز. وتابعه بسر بن سعيد عن جنادة به نحوه كما
سيأتي برقم (1026). وتابعه جماعة عن عبادة" انتهى.
قلت: قد خلط الشيخ بين هذه الروايات، وهو – رحمه الله – لا
يعطي أهمية للاختلاف في المتون والزيادات، وهذا عنده كله من باب زيادة الثقة، وهو
يقبلها مطلقاً! وهذا خلاف منهج أئمة النقد المتقدمين، فإنهم يقبلون الزيادات
بقرائن.
وهذا الاختلاف على جنادة بن أبي أمية في ألفاظ الحديث ليس
من هذه البابة التي يقبلها أهل العلم، لأن هذه الزيادات جاءت مخالفة للصحيح من لفظ
الحديث، مع ما بيّناه من علل فيما مضى.
· رواية ابن ثوبان عن عُمير بن هانئ
وأصل هذه الزيادة:
بعد أن خرّج الإمام أحمد رواية الأوزاعي عن عمير بن هانئ
السابقة أتبعها برواية الوليد بن مسلم قال: حدثني ابن ثوبان - هو: عبدالرحمن بن
ثابت بن ثوبان - عن عمير بن هانئ حدّثه عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال: «ما لم يأمروك بإثم بواحاً».
ورواه ابن أبي عاصم في كتاب «السنة» (2/493) عن
دُحيم عن الوليد بن مسلم، به. دون الزيادة.
وهذه الزيادة ليست في حديث عمير بن هانئ، وإنما حدّثه بها
حُضير السّلمي عن عبادة.
رواه أيضاً الطبراني في «مسند الشاميين» (1/141)
قال: حدثنا محمد بن أبي زرعة الدمشقي، قال:حدثنا هشام بن عمار [ح].
وحدثنا ابن دُحيم، قال: حدثنا أبي، قالا: حدثنا الوليد بن
مسلم، قال:حدثنا ابن ثوبان، قال: حدثني عمير بن هانئ، عن جنادة بن أبي أمية، عن
عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالسمع والطاعة في
عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله، وإن رأيت أنه لك».
قال عُمير: فحدثني خضير أو حضير السُّلمي أنه سمع من عبادة
بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد: «إلا أن يأمرك بإثم بواحاً عندك
تأويله من الكتاب».
قال خضير أو حُضير: قلت لعبادة، فإن أنا أطعته؟ قال:
"يؤخذ بقوائمك فتلقى في النار وليجئ هو فلينقذك".
ورواه ابن عساكر في «تاريخه» (16/452) من طريق أبي
الحسن علي بن عمر الدارقطني، عن ابن الصواف محمد بن أحمد بن الحسن، عن ابن أبي
حسان إسحاق بن إبراهيم، عن هشام بن عمار، عن الوليد، به.
قلت: ذكره البخاري بالحاء المهملة: "حُضير"،
وغيره ذكره بالخاء المعجمة "خُضير"، وغيره وصوبه بالخاء المعجمة:
الدارقطني وابن عساكر. (تاريخ مدينة دمشق: 16/453).
قال البخاري في «التاريخ الكبير» (3/131): "حضير
السلمي: سمع كعباً، روى عنه عمير بن هانئ قوله".
وقال ابن عساكر في «تاريخه» (16/452): "الخضر،
ويقال: خضير بن ربيعة السلمي، روى عن عبادة بن الصامت وكعب بن ماتع الحبر، روى عنه
عمير بن هانئ العنسي الداراني، وكان خضير خاصاً بمعاوية، وله دار بدمشق في سوق
الخشب".
قلت: وهذه الزيادة: «إلا أن يأمرك بإثم بواحاً عندك تأويله
من الكتاب» زادها خضير هذا، ولا يعرف عنه أهل العلم إلا هذا الذي ذكرناه، وهذه
الزيادة التي زادها على رواية عمير منكرة، ولا تقبل منه؛ لأن حاله غير معروفة، ولو
صحّ أنه كان من خواص معاوية كما ذكر ابن عساكر فهذا الذي كنا نخشاه من أن هذه
اللفظة هي التي جعلت أهل الشام يطيعون ويسمعون لمعاوية – رضي الله عنه- ولغيره دون
مناقشة، وكثيراً ما كان أهل الشام يتفردون بألفاظ منكرة تخدم المصالح السياسية
لأمرائهم.
وهل الأمر بالإثم لا يعترض عليه إلا إذا كان براحاً أو
بواحاً؟!!!
فالأصل في المسلم أن لا يفعل المعصية مهما كانت فكيف إذا
أُمِرَ بها!!
والراجح في هذه الروايات هي رواية هانئ بن عُمير وهو من
أصحاب جنادة المقدّمين فيه، ولم يرو هذه الزيادة عنه. وقد ثبت أن هذه الزيادة من
حُضير هذا رواها عن عبادة!!
· كلام بعض المعاصرين على رواية ابن
ثوبان:
قال الشيخ الألباني أثناء تحقيقه لكتاب «السنة»
لابن أبي عاصم حديث ابن ثوبان رقم (1028) (2/493): "إسناده حسن، رجاله ثقات
رجال البخاري غير ابن ثوبان واسمه: عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان، وفيه كلام من قبل
حفظه. ولكنه قد توبع كما يأتي".
وقال الشيخ شعيب ورفاقه أثناء تحقيقهم لمسند أحمد حديث رقم
(22737) (37/404): "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل ابن ثوبان، وقد تابعه
الأوزاعي في الرواية السالفة برقم (22735)".
قلت: هذه المتابعة ليس فيها هذه اللفظة الزائدة، وقد تبيّن
لنا من أين جاءت، وهي ليست في أصل حديث جنادة بن أبي أمية كما بينتها رواية
عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان.
فإن قيل: ابن ثوبان متكلم فيه وقد تفرد بهذه الحكاية،
فماذا نصنع؟
أقول: ابن ثوبان وإن تكلم بعض أهل العلم فيه، إلا أن بعضهم
قبله ومشّاه، وهو صدوق في نفسه، ويُكتب حديثه.
فإن كان ضبط هذه الحكاية فبها ونعمت، وإن أبى المعارض
علينا قبولها، فتبقى هذه الزيادة منكرة في أصل الحديث؛ لأن الوليد بن عبادة لم يرو
هذه اللفظة عن أبيه، وكذلك في بعض الروايات عن جنادة عن عبادة لا توجد هذه اللفظة،
وهذا مما يدعم قبول حكاية ابن ثوبان سيما وهي تخدم أمراً سياسياً عند الشاميين،
وهذا كان مما أبتلي به أهل الشام، والله أعلم.
· رواية الأوزاعي عن جُنادة:
روى اللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» (7/1228) من
طريق العباس بن الوليد البيروتي قال: حدثنا عقبة بن علقمة البيروتي قال: أخبرني
الأوزاعي: حدثني جنادة قال: قال لي عبادة بن الصامت: «عليك بالسمع والطاعة في عسرك
ويسرك ومنشطك ومكرهك أو أثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله
بواحاً - يعني خالصاً».
قلت: إسناده موقوف. وقد تفرد به العباس بن الوليد عن عقبة
عن الأوزاعي.
وقد سبق الحديث عن الأوزاعي، رواه الوليد بن مسلم عنه عن عُمير
بن هانئ الشامي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت مرفوعاً دون قوله: «إلا
أن يأمروك بمعصية الله بواحاً».
وقد تكلّم أهل النقد في تفردات عقبة عن الأوزاعي.
قال ابن عدي في «الكامل»(5/280): "عقبة بن
علقمة البيروتي، روى عن الأوزاعي ما لم يوافقه عليه أحد من رواية ابنه محمد بن
عقبة وغيره عنه".
وقال العقيلي في «الضعفاء»(3/354): "عقبة بن
علقمة البيروتي عن الأوزاعي، ولا يُتابع عليه".
· رواية مجاهد وأبي قِلابة عن
جُنادة:
روى عبدالرزاق في «المصنف» (11/331) قال: أخبرنا مَعمر،
عن منصور، عن مجاهد، عن جنادة بن أبي أمية: أنَّ عبادة بن الصامت قال له: «ادن حتى
أخبرك بمالَك وما عليك، إن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومكرهك ومنشطك
والأثرة عليك، وألا تنازع الأمر أهله إلا أن تؤمر بمعصية الله براحاً، فإن أمرت
بخلاف ما في كتاب الله فاتبع كتاب الله».
قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: قال عبادة
بن الصامت لجنادة بن أبي أمية: «يا جنادة ألا أخبرك بالذي لك والذي عليك، إن عليك
السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وفي الأثرة عليك وأن تدع لسانك
بالقول وألا تنازع الأمر أهله إلا أن تؤمر بمعصية الله براحاً، فإن أمرت بخلاف
ما في كتاب الله فاتبع كتاب الله».
قلت: كذا رواه معمر مرة عن منصور عن مجاهد عن جنادة، ومرة
عن أيوب عن أبي قلابة! فهل كلا الإسنادين صحيح أم أنه وَهِم في واحد منهما؟!
قلت: مجاهد كان من أصحاب جنادة وكان قد غزا معه، وإسناد
منصور صحيح، ورواية أبي قلابة الجرمي هذه كأنها مرسلة، وكان أبو قلابة يرسل يروي
عن أناس سمع منهم وأناس عاصرهم ولم يسمع منهم، فيحتمل أن هذا الحديث سمعه من أهل
الشام فأرسله، وكان من ثقات أهل البصرة نزل الشام ومات بها، وأوصى بكتبه لأيوب.
وترجيح أحد الإسنادين على الآخر صعب جداً!! وإنما أردت
الترجيح لأن الإسنادين تفرد بهما مَعمر عن منصور بن المعتمر، والآخر عن أيوب!!
وأستبعد أن يكون كلا الإسنادين محفوظ، والله أعلم..
فإن رجحنا
رواية منصور عن مجاهد فهي رواية صحيحة، وإن رجحنا رواية أبي قلابة فهي مرسلة، وإن
قبلنا كلا الروايتين فحينها نقبل هذه الرواية المرسلة لأن أصلها صحيح من رواية
مجاهد، والقلب أميل إلى أن الصواب هي الرواية المرسلة لأن أصلها من الشام، والظاهر
أن هذه الرواية كانت منتشرة في الشام مرسلة، فتروى عن بعض أهل العلم بالإرسال،
فيحتمل أن معمراً كان يهم في هذه الرواية، والأرجح فيها الإرسال، ومما يدل على ذلك
أن كلا الروايتين رواهما معمر بالوقف على عبادة = يعني أن أصلهما واحد، والله
أعلم.
وعلى كل حال، فإن كانت كلا الروايتين محفوظتين فإن فيهما
زيادة: «إلا أن تؤمر بمعصية الله براحاً، فإن أمرت بخلاف ما في كتاب الله فاتبع
كتاب الله».
وقد روى البزار في «مسنده» (7/143) من طريق الأوزاعي
عن يحيى بن أبي كثير عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال:
قال لي رسول الله: «عليك بالطاعة في عسرك ويسرك وأثره عليك وأن لا تنازع الأمر
أهله إلا أن يأمروك بالكفر صراحاً».
قال البزار: "وقال غير يحيى: «أن يأمروك بمعصية الله».
ولا نعلم روى يحيى بن أبي كثير عن جنادة غير هذا الحديث، وقد روي هذا الكلام عن
عبادة من وجوه كثيرة".
قلت: يُحتمل أن حديث يحيى هذا أخذه من كتب أبي قلابة؛ لأن
بعضهم قال بأنه كتب أبي قلابة وقعت له، وإن أنكر أحمد هذا، وهو لا يُعرف بالرواية
عن جنادة إلا في هذا الحديث، ويحيى كان يدلس، فالأظهر أنه أخذه من آخر فدلّسه،
والله أعلم.
· رواية مرسلة لقتادة عن عبادة:
روى ابن أبي حاتم في «تفسيره» قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بنُ يَحْيَى، قال: أنبأنا العَبَّاسُ بنُ الْوَلِيدِ، قال: حدثنا يَزِيدُ بنُ
زُرَيْعٍ، قال: حدثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {إِنَّمَا
كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}،
وقدْ ذُكِرَ: "أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ كَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا
أَحَدَ نُقَبَاءِ الأَنْصَارِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لا يَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ
لائِمٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَى ابْنَ أُخْتِهِ جُنَادَةَ بْنَ
أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: أَلا أُنَبِّئُكَ مَاذَا عَلَيْكَ وَمَاذَا لَكَ؟
قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ،
وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ، وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أَنْ
تُقِيمَ لِسَانَكَ بِالْعَدْلِ، وَأَنْ لا تُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ
يَأْمُرُوكَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ بَوَاحًا، فَمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ
يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَاتَّبِعْ كِتَابَ اللَّهِ".
قلت: كثير من الزيادات المنكرة التي لا تصح في الأحاديث
المسندة تكون في مثل هذه المراسيل، ومن هذه المراسيل تدخل على بعض الأسانيد
الصحيحة.
والخلاصة أن الرواية عن جُنادة بن أبي أمية عن عبادة فيها
خلاف في ألفاظها:
فرواية بُكير الأشج عن بسر بن سعيد عن جنادة عن عبادة:
رواها عنه أهل مصر بلفظ: «وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ
أَهْلَهُ؛ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ
فِيهِ بُرْهَانٌ».
ورواها أهل المدينة بلفظ: «وأن لا تنازع الأمر أهله؛
إلا أن ترى كفراً براحاً».
وخالفهم أهل الشام في لفظها:
فرواها حيّان أبو النّضر عن جنادة عن عبادة بلفظ: «وإن
أكلوا مالك وضربوا ظهرك».
ورواها عُمير بن هانئ عن جنادة عن عبادة بلفظ: «ولا تنازع
الأمر أهله؛ وإن رأيت أن لك».
ورواها مجاهد عن جنادة عن عبادة بلفظ: «وألا تنازع الأمر
أهله؛ إلا أن تؤمر بمعصية الله براحاً، فإن أمرت بخلاف ما في كتاب الله
فاتبع كتاب الله».
ورواها يحيى بن أبي كثير عن جنادة عن عبادة بلفظ: «وأن لا
تنازع الأمر أهله؛ إلا أن يأمروك بالكفر صراحاً».
قلت: رواية أهل الشام أولى بجنادة بن أمية؛ لأنه شامي،
سيما وأن رواية أهل الشام تناقض رواية المصريين والمدنيين؛ فهؤلاء جعلوا رؤية هذا
الأمر (الكفر أو المعصية) متعلق بالرعية، أي إذا رأى الرعية منه كفراً بواحاً!
وأما روايات أهل الشام فجعلوها متعلقة بولي الأمر، أي إذا
أمرك ولي الأمر بفعل معصية لله!!
وقد يفهم البعض أنه لا خلاف بين اللفظين؛ لأن كل ذلك يرجع
إلى ولي الأمر، سواءً ما يُرى منه أم ما يأمر به، وفيه نظر، سيما إذا استطعنا
ترجيح لفظ على آخر بالأدلة.
والذي يترجّح على قواعد الأئمة النقاد روايات أهل الشام،
وقد بينت العلل في ألفاظها، والصواب ما جاء فيها موافق لرواية الوليد بن عبادة عن
أبيه، وأقربها رواية عمير بن هانئ عن جنادة عن عبادة. وترجيحنا لرواية أهل الشام
على غيرها لا يعني تصحيحها، كيف ذلك، وهي منكرة!
فلا تصح أي زيادة على حديث الوليد بن عبادة؛ لأن هذه
الزيادات منكرة وهي تخدم الحالة السياسية التي كانت سائدة في الشام. ولهذا لم تظهر
هذه الزيادة إلا في تلك الأوقات، وإلا فقد حصل هناك اقتتال كثير على الخلافة بعد
وفاة عبادة بن الصامت صاحب هذا الحديث الذي توفي سنة (34هـ)، وكانت بداية الفتن
بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - الذي قتل سنة (35هـ)، وصار اقتتال بعد ذلك بين
علي - رضي الله عنه - والخوارج، ولم يعرف الناس هذه الزيادة في تلك المرحلة، وإنما
ظهرت وأمثالها في أيام معاوية وما بعدها.
فيبقى الحديث الصحيح دون زيادة إلى قوله صلى الله عليه
وسلم: «ولا تنازع الأمر أهله»، ويؤيده أن هذه هي شروط البيعة التي بايع بها الأنصار
النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اشترط عليهم عدم منازعتهم في هذا الأمر، وهو
الخلافة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الأمر في قريش»، فكان هذا الشرط على
الأنصار أن لا ينازعوا القرشيين في الخلافة.
وهذه الزيادات التي جاءت بعد قوله: «ولا تنازع الأمر أهله»
لا علاقة لها بهذا الأمر.
والزيادة التي في حديث ابن وهب: «إلا أن تروا كفراً بواحاً
عندكم من الله فيه برهان» قد بينا فيما مضى أنها جاءت في الرواية مفصولة عن الحديث
كما هو في حديث الوليد بن عبادة، وهذا يؤيد أنها ليست في أصل حديث جنادة، والله
أعلم.
وعبادة بن الصامت - رضي الله عنه - شهد البيعتين بالعقبة
الأولى والثانية، فالبيعة الأولى بالعقبة، بايعهم النبي صلى الله عليه وسلم بيعة
النساء إلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن يقولوا بالحق لا
تأخذهم لومة لائم، وأن لا ينازعوا الأمر أهله، والبيعة الثانية بالعقبة على حرب
الأحمر والأسود، وضمن لهم بالوفاء بذلك الجنة.
وفي النفس من أن الذي حدث في رواية بكير أنه قد يكون حصل
تحريف في كتابه، فأصل الرواية عند الشاميين: "تؤمروا" أو "تؤمر"،
فيحتمل أن هذه تحرّفت إلى: "تروا" أو "ترى"،
والله أعلم.
وهذه الزيادة في هذا الحديث من الوهم في روايات الأمصار!
فإن كانت محفوظة في حديث المصريين والمدنيين فالأقرب أنها من قول عبادة ليست
مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظ الشاميين أقرب للصواب، فيكون عبادة
أوصى جنادة بما عليه من السمع والطاعة إلا إذا أُمر بمعصية أو كفر براح مخالف
لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة أنه لا
طاعة في معصية.
وهذه الزيادة المختلف فيها لا توجد في حديث الوليد بن
عبادة عن أبيه، ولا يوجد خلاف في حديثه، وعنده: «... وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ
أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لانَخَافُ
فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ».
فهذا النّص هو الصواب، وكأن ما جاء في الرواية عن جنادة
تحريف لهذا النص! ولهذا اختلفوا فيه، ومن هنا أشار سفيان إلى أن بعضهم زاد «مَا
لَمْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا» دون تعيينه! كما سيأتي.
فقول الحقّ كان من شروط البيعة، والزيادة لا تتفق مع ذلك
إذ لا قول للحقّ إلا بحصول الكفر البواح!! ولو كانت تلك اللفظة في تلك البيعة لكان
مناقضاً لها، إذ كيف يشترط عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عدم منازعته الأمر إلا
إذا رأوا كفراً بواحا! فهل يُعقل أن يشترط هذا على نفسه! وهل يعقل أن يقول: لا
تنازعوني الأمر إلا إذا رأيتم مني كفراً صراحاً!! أعوذ بالله!
فإن قيل: هو اشترط ذلك لتكون هذه شروط البيعة عموماً لمن
جاء بعده؟
قلت: لا دليل على ذلك سيما وأن هذه اللفظة منكرة، واللفظة
المحفوظة في قول الحق دون خوف هو المناسب لمن جاء بعده صلى الله عليه وسلم.
·
تطبيق عُبادة لهذا الحديث، وقوله
للحقّ دون خوف!
ومما يدل على ذلك أن عبادة - رضي الله عنه - لما نزل الشام
كان يُنكر على معاوية بعض أفعاله، ويستشهد بما بايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم
من قول الحق وأن لا يخاف في الله لومة لائم. ولم يذكر مسألة الكفر البواح!!
قَالَ الأوزاعي: "أول من تولى قضاء فلسطين عبادة بن
الصامت، وكان معاوية قد خالفه في شيء أنكره عليه عبادة في الصرف، فأغلظ له معاوية في
القول، فقال له عبادة: لا أساكنك بأرض واحدة أبدا، ورحل إلى المدينة. فقالَ له
عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فَقَالَ: ارجع إلى مكانك، فقبح الله أرضا لست فيها ولا
أمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك على عبادة". [الاستيعاب في معرفة
الأصحاب: (2/808)].
وقد رواه ابن ماجه في «سننه» (1/13) (18) قال:
حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ حَمْزَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي بُرْدُ بنُ سِنَانٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ قَبِيصَةَ، عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيَّ النَّقِيبَ، صَاحِبَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ أَرْضَ
الرُّومِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَبَايَعُونَ كِسَرَ الذَّهَبِ
بِالدَّنَانِيرِ، وَكِسَرَ الْفِضَّةِ بِالدَّرَاهِمِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ الرِّبَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَبْتَاعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا
مِثْلًا بِمِثْلٍ، لَا زِيَادَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا نَظِرَةً» فَقَالَ: لَهُ
مُعَاوِيَةُ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، لَا أَرَى الرِّبَا فِي هَذَا، إِلَّا مَا
كَانَ مِنْ نَظِرَةٍ، فَقَالَ عُبَادَةُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ لَئِنْ أَخْرَجَنِي
اللَّهُ لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ لَكَ عَلَيَّ فِيهَا إِمْرَةٌ، فَلَمَّا قَفَلَ
لَحِقَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: مَا أَقْدَمَكَ يَا
أَبَا الوَلِيدِ؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، وَمَا قَالَ مِنْ مُسَاكَنَتِهِ،
فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا الوَلِيدِ إِلَى أَرْضِكَ، فَقَبَحَ اللَّهُ أَرْضًا
لَسْتَ فِيهَا وَأَمْثَالُكَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: لا إِمْرَةَ لَكَ
عَلَيْهِ، وَاحْمِلِ النَّاسَ عَلَى مَا قَالَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ.
وروى الدولابي في «الكنى والأسماء» (3/1064) (1870)
عن مُحَمَّد بن عَوْفٍ الطَّائِيّ.
وابن عساكر في «تاريخه» (26/196) من طريق يحيى بن
محمد بن صاعد، عن محمد بن عبدالملك بن زنجويه.
كلاهما عن إِسْمَاعِيل بن أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبِي، عَنْ أَبِي مَنِيعٍ الوَلِيدِ بنِ دَاوُدَ بْنِ مُحَمَّدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ
الصَّامِتِ، عَنْ عَمِّهِ عُبَادَةَ بنِ الوَلِيدِ قَالَ: كَانَ عُبَادَةُ مَعَ
مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ في عسكره فَأَذَّنَ يَوْمًا، فَقَامَ خَطِيبٌ
يَمْدَحُ مُعَاوِيَةَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ فَقَامَ عُبَادَةُ بِتُرَابٍ فِي يَدِهِ
فَحَثَاهُ فِي فِي الخَطِيبِ فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ، وَقَالَ: مَنْ لِي مِنْكَ يَا
عُبَادَةُ، رَأَيْتَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَيَّ فَحَثَوْتَ فِي فِيهِ التُّرَابَ.
فَقَالَ عُبَادَةُ مُجِيبًا لَهُ: «إِنَّكَ يَا مُعَاوِيَةُ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا
حِينَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالعَقَبَةِ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْسَلِنَا، وأَثَرَةٍ عَلَيْنَا،
وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ بِالحَقِّ حَيْثُ
مَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ»، وَقَالَ لَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْثُوا فِي وُجُوهِ
الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ».
وروى أحمد في «مسنده» (37/428) (22769) عن الحَكَم
بن نَافِعٍ أَبي اليَمَانِ، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ عَيَّاشٍ، عَنْ
عَبْدِاللهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، قال: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بنُ عُبَيْدٍ
الْأَنْصَارِيُّ، فَذَكَرَ الحَدِيثَ.
فَقَالَ عُبَادَةُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ
إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّا بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ
وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي
اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا نَخَافَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِيهِ،
وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ
عَلَيْنَا يَثْرِبَ فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا
وَأَبْنَاءَنَا، وَلَنَا الجَنَّةُ فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي بَايَعْنَا عَلَيْهَا فَمَنْ نَكَثَ، فَإِنَّمَا
يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ
صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَّى اللهُ بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ أَنَّ
عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ الشَّامَ وَأَهْلَهُ فَإِمَّا
تُكِفُ إِلَيْكَ عُبَادَةَ، وَإِمَّا أُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ رَحِّلْ عُبَادَةَ حَتَّى تُرْجِعَهُ إِلَى دَارِهِ مِنَ
الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ بِعُبَادَةَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى
عُثْمَانَ فِي الدَّارِ، وَلَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُ رَجُلٍ مِنَ السَّابِقِينَ
أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ قَدْ أَدْرَكَ الْقَوْمَ، فَلَمْ يُفْجَأْ عُثْمَانُ
إِلَّا وَهُوَ قَاعِدٌ فِي جَانِبِ الدَّارِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا
عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ مَا لَنَا وَلَكَ، فَقَامَ عُبَادَةُ بَيْنَ ظَهْرَيِ
النَّاسِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا
الْقَاسِمِ، مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ
سَيَلِي أُمُورَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ،
وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ
فَلَا تَعْتَلُّوا بِرَبِّكُمْ».
وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن غير
أهل بلده، وقد ضعفه أهل العلم في روايته عن غير أهل بلده، لكنه قد تُوبع عليه،
تابعه يحيى بن سُليم الطائفي.
رواه الشاشي في «مسنده» (3/172) (1258) قال: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبَّادٍ المكيّ،
قال: حدثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ،
عَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ عُبَادَةَ بنَ
الصَّامِتِ، مَرَّتْ عَلَيْهِ قِطَارَةٌ وَهُوَ بِالشَّامِ تَحْمِلُ الخَمْرَ
فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ أَزَيْتٌ؟ قِيلَ: لا، بَلُ خَمْرٌ تُبَاعُ لِفُلَانٍ،
فَأَخَذَ شَفْرَةً مِنَ السُّوقِ فَقَامَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَذَرْ مِنْهَا
رَاوِيَةً إِلَّا بَقَرَهَا، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِذْ ذَاكَ بِالشَّامِ فَأَرْسَلَ
فُلَانٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَلَا تُمْسِكْ عَنَّا أَخَاكَ عُبَادَةَ
بْنَ الصَّامِتِ: إِمَّا بِالغَدَوَاتِ فَيَغْدُو إِلَى السُّوقِ فَيُفْسِدُ عَلَى
أَهْلِ الذِّمَّةِ مَتَاجِرَهُمْ، وَإِمَّا بِالعَشِيِّ فَيَقْعُدُ بِالمَسْجِدِ
لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا شَتْمُ أَعْرَاضِنَا وَعَيْبُنَا فَأَمْسِكْ عَنَّا
أَخَاكَ، فَأَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَمْشِي حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُبَادَةَ
فَقَالَ: يَا عُبَادَةُ مَا لَكَ وَلِمُعَاوِيَةَ؟ ذَرْهُ وَمَا حَمَلَ فَإِنَّ
اللَّهَ يَقُولُ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134] قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ
بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؟
بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى
النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُنَا
فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَهُ إِذَا قَدِمَ
عَلَيْنَا يَثْرِبَ فَنَمْنَعَهُ مَا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا
وَأَهْلَنَا وَلَنَا الجَنَّةُ، وَمَنْ وَفَّى وَفَّى اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ
بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ. فَلَا يُكَلِّمُهُ
أَبُو هُرَيْرَةَ بِشَيْءٍ، فَكَتَبَ فُلَانٌ إِلَى عُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ
أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ الشَّامَ وَأَهْلَهُ،
فَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنَّا عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَإِمَّا أَنْ أُخَلِّيَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى فُلَانٍ أَدْخِلْهُ إِلَى
دَارِهِ مِنَ المَدِينَةِ، فَبَعَثَ بِهِ فُلَانٌ حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ
فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ الدَّارَ وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ
السَّابِقِينَ بِعَيْنِهِ وَمَنَ التَّابِعِينَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْقَوْمَ
مُتَوَافِرِينَ فَلَمْ يُهِمَّ عُثْمَانُ بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَاعِدٌ فِي جَانِبِ
الدَّارِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا لَنَا وَلَكَ يَا عُبَادَةُ؟ فَقَامَ
عُبَادَةُ قَائِمًا وَانْتَصَبَ لَهُمْ فِي الدَّارِ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَبَا
الْقَاسِمِ يَقُولُ: «سَيَلِي أُمُورَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ
مَا تُنْكِرُونَ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ
عَصَى اللَّهَ، فَلَا تَضِلُّوا بِرَبِّكُمْ». فَوَالَّذِي نَفْسُ عُبَادَةَ
بِيَدِهِ، إِنَّ فُلَانًا لَمِنْ أُولَئِكَ فَمَا رَاجَعَهُ عُثْمَانُ بِحَرْفٍ.
قلت: وهذا إسناد لا بأس به.
ويحيى بن سليم وثقه بعض أهل العلم، وضعفه آخرون، وهو صدوق
ممن يُكتب حديثه، وعنده أوهام وأخطاء، لكن حديث عن ابن خثيم متقن، وهذا منها.
قال ابن مُحرز: سمعت يحيى بن معين يقول: "قال لي يحيى
بن سليم: إنما قرأناها على ابن خثيم، فإن أردت أن تقرأ عليّ كما قرأتها عليه، فجئني
بمصحف حتى أدفعها إليك". قال يحيى بن معين: "وكان لا يدفعها إلى أحد إلا
برهن مصحف".
وقال الدوري: سَمِعت يحيى يَقُول: "أتيت يحيى بن سليم
الطَّائِفِي وكَانَ يعْطي نسخته وَيَأْخُذ رهنا مُصحفا، فَقلت لَهُ، فَقَالَ: إِن
شِئْت قَرَأت على كَمَا قَرَأت أَنا على ابن خثيم".
وقال عبدالله بن أحمد: سَأَلته - يعني أباه - عَن يحيى بن
سليم؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، وَالله إِن حَدِيثه يَعْنِي فِيهِ شَيْء، وَكَأَنَّهُ
لم يحمده.
وَقَالَ مرّة أُخْرَى: "كَانَ قد أتقن حَدِيث ابن
خثيم كَانَت عِنْده فِي كتاب، فَقُلْنَا لَهُ: أعطنا كتابك، فَقَالَ: أعطوني
مُصحفا رهنا، قُلْنَا: من أَيْن لنا مصحف وَنحن غرباء".
وقد رُوي الحديث مختصراً:
رواه عبدالله بن أحمد في «زياداته على المسند» (37/449)
(22786) عن سُوَيْد بن سَعِيدٍ الهَرَوِيّ، عن يَحْيَى بن سُلَيْمٍ، به، مختصراً،
مقتصراً على المرفوع في آخره.
ورواه الدولابي في «الكنى والأسماء» (1/4) (5) عن
هِلَال بن العَلَاءِ بنِ هِلَالِ بنِ عُمَرَ الرَّقِّيّ، عن حُسَيْن بن عَيَّاشٍ،
عن زُهَيْر بن مُعَاوِيَةَ، عن عَبْداللَّهِ بن عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، به،
مختصراً.
ورواه البزار في «مسنده» (7/164) (2731) عن خَالِد
بن يُوسُفَ، عن أَبِيه، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، به،
مختصراً.
وخالد بن يوسف كذاب!
ورواه الحاكم في «المستدرك» (3/402) من طريق مُسْلِم
بن خَالِدٍ الزنجي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، قَامَ قَائِمًا فِي وَسَطِ دَارِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا أَبَا
الْقَاسِمِ يَقُولُ: «سَيَلِي أُمُورَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ
مَا تُنْكِرُونَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ
عَصَى اللَّهَ، فَلَا تَعْتُبُوا أَنْفُسَكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،
إِنَّ مُعَاوِيَةَ مِنْ أُولَئِكَ» ، فَمَا رَاجَعَهُ عُثْمَانُ حَرْفًا.
قال الحاكم: "وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ فِي وُرُودِ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مُتَظَلِّمًا بِمَتْنٍ مُخْتَصَرٍ".
ومسلم بن خالد فقيه المدينة، وهو ضعيف.
ومخرج هذا الحديث مدني، وطرقه فيها كلام، لكن لو قلنا بأن
ما ذُكر في آخر الحديث من المرفوع فيه ضعيف، فالقصة لها أصل، وهذا مما يقبله أهل
العلم إذ يُخبر عبادة عن بيعته للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن لوازمها إنكار
المنكر وقول الحق، وهذا ما فعله مع معاوية حتى شكاه معاوية لعثمان - رضي الله عنه
-.
وللقصة شاهد مرسل:
رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/526) (37721) عن خَالِد
بن مخَلَّد، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ بِلَالٍ، قال: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بنُ
عَبْدِاللَّهِ بنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنِ الْأَعْشَى سعيد بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ
مُكْمِلٍ، عَنْ أَزهر بن عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: أَقْبَلَ عُبَادَةُ بْنُ
الصَّامِتِ حَاجًّا مِنَ الشَّامِ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ فَأَتَى عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ أَلَا أُخْبِرُكَ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَلَى،
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: «سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءٌ بَعْدِي يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا تَعْرِفُونَ،
وَيَعْمَلُونَ بِمَا تُنْكِرُونَ، فَلَيْسَ لِأُولَئِكَ عَلَيْكُمْ طَاعَةٌ».
ورواه الحاكم في «المستدرك» (3/402) (5531) عن أَبي
العَبَّاسِ مُحَمَّد بن يَعْقُوبَ، عن العَبَّاس بن مُحَمَّدٍ الدُّورِيّ، عن
خالد، به.
وهذا إسناد حسن، والله أعلم.
· إشارة سفيان بن عيينة إلى ضعف هذه
الزيادة:
وقد مر معنا عند الحديث عن حديث عبادة بن الوليد، رواية
ابن عيينة التي أخرجها الإمام أحمد في «مسنده» (1/192) قال: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الْوَلِيدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ
الصَّامِتِ: سَمِعَهُ مِنْ جَدِّهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: عَنْ جَدِّهِ
عُبَادَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَعُبَادَةُ
نَقِيبٌ وَهُوَ مِنْ السَّبْعَةِ - «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي العُسْرِ وَالْيُسْرِ
وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَلا نُنَازِعُ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، نَقُولُ
بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لانَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ».
قَالَ سُفْيَانُ:"زَادَ بَعْضُ النَّاسِ: مَا لَمْ
تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا".
قلت: فقول سفيان هذا إشارة إلى تضعيفه لهذه الزيادة، فهو
يعرف أن بعض أهل المدينة رووا هذه الزيادة في حديث بكير بن الأشج، فأشار - رحمه
الله - إلى تعليلها؛ لأن المحفوظ هو ما في حديث عبادة بن الوليد.
· كيف يُخرِّج البخاري ومسلم بعض
الزيادات المنكرة؟!
وقد يُقال: كيف تضعف رواية أخرجها البخاري ومسلم وقد اتفقا
عليها؟
فأقول: لقد اجتهد الإمام البخاري - رحمه الله - فأخرجها؛
لأن الحديث مشهور ومعروف، وهو عادة يُخرِّج الحديث الذي يوافق تبويبه وإن كان فيه
بعض الألفاظ التي لا تؤثر في استدلاله، وهي شاذة عند غيره، والله أعلم.
وأما الإمام مسلم - رحمه الله - فإنه ساق أولاً عدة روايات
من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبي عن جدّه، ثم ساق رواية بكير
التي فيها الزيادة متابعة لأصل الروايات التي ساقها في الأصول، وهي رواية صحيحة لا
شك، ولكن الزيادة منكرة، فربما أراد – رحمه الله – أن يبين أن هناك زيادة في حديث
جنادة على حديث الوليد بن عبادة، والله أعلم.
· تقييد السمع والطاعة بالحكم بكتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
وبعد؛ فلا أدري كيف أخذ العلماء - رحمهم الله - هذه
الزيادات في هذه الأحاديث وجعلوها مسلّمة وبنوا عليها بنياناً هشّاً ضعيفاً أوهى
من بيت العنكبوت، فحاربوا كلّ من لم يحتج بها، وما درى هؤلاء أنهم دخلوا في باب
الإرجاء الذي سوّغ لمن ولي أمراً من أمور هذه الأمة فعل الأفاعيل دون الاعتراض
عليهم؛ لأن عندهم هذا الحديث وأمثاله الذي يوجب عليهم الطاعة ولو فعلوا الأفاعيل،
ولو أخذوا الأموال وجلدوا الظهور!!
وما زال الأدعياء أفراخ هؤلاء يقفون في وجه كل من عارضهم،
وينسبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً، وهو لم يقله ولم يتفوه به بأبي هو
وأمي.
ويجب أن نتنبه إلى مسألة مهمة وهي «الألفاظ التي تأتي في
بعض الأحاديث» كـ «الأمير» و«الإمارة» و«الأمراء» و«الاستعمال» وغير ذلك كألفاظ «الجور»
وما يشتق منه، فإن هذه الألفاظ يجب أن تحرر وتوضع في مكانها المناسب من خلال النص
النبوي، بحيث لا تعمم هذه الألفاظ الواردة في بعض الأحاديث في مسائل خاصة، وتسحب
على كل زمان ومكان.
وكذلك التوسع في مسألة المفاسد والمصالح والمآلات عند بعض
أهل العلم، فإن التوسع فيها يؤدي إلى نتائج عكسية وجنايات على النصوص النبوية.
وما جاءنا البلاء إلا من بعض الشروحات المتأخرة التي بدأت
في عصرٍ سيطر فيه مذهب المتكلمين على عقل الأمة فدمره فتأخرنا وتخلفنا عن ركب
التقدم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا لا يعني أننا نرفض هذه الشروح برمتها، بل ننبه إلى
أنه دخلها ما دخلها بسبب تعاطي علم الكلام وتسلّط الأمراء.
ومع ذلك فإن كثيراً من طلبة العلم عندما يستشهدون بأقوال
هؤلاء الشرّاح إنما يأخذون منه ما يؤيد مذاهبهم دون النظر في مجمل كلامهم.
وليعلم أنه لا بدّ من وجود خليفة للمسلمين ويجب طاعته ما
دام يحكم الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا طاعة لهم في
معصية الله ومخالفة الكتاب والسنة، وعلى هذا إجماع الأمة.
ولا يجوز الخروج على ولي الأمر الذي وصل إلى الحكم بطريق
شرعيّ ما دام يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو جار في
بعض الأمور، وعلى هذا تُحمل الأحاديث في السمع والطاعة.
والأمة منذ عصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم كانوا يحكمون
بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن تخلل ذلك بعض المخالفات من بعضهم،
ولكن كان الدستور هو كتاب الله لا محيد عنه.
أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث الزهري، عن أبي
سلمة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبدالله
بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: «ويحك ومن يعدل إذا لم
أعدل»، قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه، قال: «دعه، فإن له أصحاباً يحقر
أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية،
يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثم يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ
فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ
شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ في نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قد سَبَقَ
الْفَرْثَ وَالدَّمَ آيَتُهُمْ رَجُلٌإحدى يديه - أو قال: ثدييه - مِثْلُ ثَدْيِ
الْمَرْأَةِ، أو قال: مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَتَدَرْدَرُ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ
فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ».
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: "فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ
هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ
فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ
إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
نَعَتَ".
قال الحافظ في «الفتح» (12/301): "وفيه جواز قتال من
خرج عن طاعة الإمام العادل، ومن نصب الحرب فقاتل على اعتقاد فاسد،
ومن خرج يقطع الطرق ويخيف السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، وأما من خرج عن
طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور؛ ولا يحل
قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته... وقد أخرج الطبري بسندٍ صحيحٍ
عن عبدالله بن الحارث عن رجلٍ من بني نضر عن علي - وذكر الخوارج – فقال: إن خالفوا
إماماً عدلاً فقاتلوهم، وإن خالفوا إماماً جائراً فلا تقاتلوهم؛ فإن لهم مقالاً.
قلت: وعلى ذلك يُحمل ما وقع للحسين بن عليّ ثم لأهل المدينة في الحرة ثم لعبدالله
بن الزبير ثم للقرّاء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث،
والله أعلم".
قلت: لم يتعرض عليّ - رضي الله عنه -، ولا ابن حجر ولا
غيرهما لمسألة الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا لو أن الحاكم
لم يحكم بهما فهذا أمره معروف أنه يجب أن يقاتل، وهذا لم يكن ببالهم أصلاً، ولو
أنه حصل أو خطر ببالهم لما تأخروا في القول بوجوب الخروج عليه.
والنظر إلى الحجاج من باب أنه كان جائراً لا أنه كان
كافراً، وإن كفره بعض أهل العلم، ولكن الأمر تعلّق بجوره لا بتحكيمه لكتاب الله أم
لا!
فإذا كان الخروج على الإمام الجائر الذي يتخذ القرآن
دستوراً ويحكم به عمّاله في الأمصار جائز عند السلف، فكيف بمن عطّل شرع الله،
وحيّد القرآن والسنة، وقدّم عليهما القوانين البشرية؟!!
وقد يظن البعض بأن تضعيفنا لهذه الزيادة يعني أن الخروج
على الحاكم لا يجوز البتة؛ لأن الخروج بحسبها مقيّد بظهور الكفر البواح منه،
وبتضعيف هذه اللفظة، فلا يجوز الخروج أبداً!!
وهذا فهم سقيم عقيم! لأن التعامل مع الحديث يجب أن يكون
بمجموع الروايات كلها، وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن السمع والطاعة للحاكم منوط
بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما حصل من خروج من السلف على
بعض الأمراء إنما كان من أجل الظلم والجور، لا من أجل عدم تحكيم كتاب الله، وهذا
يدعم ما ذهبنا إليه من ضعف هذه الزيادة؛ لأنها لو صحت ما كان ينبغي لهؤلاء الذين
خرجوا أن يخرجوا لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الخروج الذي تضمنته هذه الزيادة لن يحصل أبداً لوجود
التأويل الذي يختلف فيه أهل العلم، وقد نصت الزيادة على أن يكون الكفر صريحاً!!
وهذا لن يكون مع انتشار مذهب المرجئة الخبيث!!
· شرح ابن حجر لحديث عُبادة واعتماده
على شرح من قبله، ومناقشته وغيره فيه.
قال الحافظ في «الفتح» (13/8): "قوله: (عَلَى
السَّمْع وَالطَّاعَة): أَيْ لَهُ.
(فِي مَنْشَطِنَا): بِفَتْحِ الْمِيم وَالْمُعْجَمَة
وَسُكُون النُّون بَيْنَهُمَا. (وَمَكْرَهِنَا) أَيْ فِي حَالَة نَشَاطنَا وَفِي
الْحَالَة الَّتِي نَكُون فِيهَا عَاجِزِينَ عَنْ الْعَمَل بِمَا نُؤْمَر بِهِ.
وَنَقَلَ اِبْن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْمُرَاد الْأَشْيَاء الَّتِي
يَكْرَهُونَهَا، قَالَ اِبْن التِّين: وَالظَّاهِر أَنَّهُ أَرَادَ فِي وَقْت
الْكَسَل وَالْمَشَقَّة فِي الْخُرُوج لِيُطَابِقَ قَوْله مَنْشَطنَا. قُلْت:
وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عُبَيْد بْن رِفَاعَة عَنْ
عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَد "فِي النَّشَاط وَالْكَسَل".
قَوْله: (وَعُسْرنَا وَيُسْرنَا) فِي رِوَايَة
إِسْمَاعِيلَ بْن عُبَيْد: "وَعَلَى النَّفَقَة فِي الْعُسْر
وَالْيُسْرِ"، وَزَادَ: "وَعَلَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي
عَنْ الْمُنْكَرِ".
قَوْله: (وَأَثَرَة عَلَيْنَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَة
وَالْمُثَلَّثَة، وَالْمُرَاد أَنَّ طَوَاعِيَتهمْ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ
لَا تَتَوَقَّف عَلَى إِيصَالهمْ حُقُوقهمْ بَلْ عَلَيْهِمْ الطَّاعَة وَلَوْ
مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ.
قَوْله: (وَأَنْ لا نُنَازِع الْأَمْر أَهْله) أَيْ
الْمُلْك وَالْإِمَارَة، زَادَ أَحْمَد مِنْ طَرِيق عُمَيْر بْن هَانِئ عَنْ جُنَادَةَ:
"وَإِنْ رَأَيْت أَنَّ لَك" - أَيْ وَإِنْ اِعْتَقَدْت أَنَّ لَك - فِي
الْأَمْر حَقًّا فَلَا تَعْمَل بِذَلِكَ الظَّنّ بَلْ اِسْمَعْ وَأَطِعْ إِلَى
أَنْ يَصِل إِلَيْك بِغَيْرِ خُرُوج عَنْ الطَّاعَة، زَادَ فِي رِوَايَة حِبَّان
أَبِي النَّضْر عَنْ جُنَادَةَ عِنْدَ اِبْن حِبَّانَ وَأَحْمَد: "وَإِنْ
أَكَلُوا مَالَك وَضَرَبُوا ظَهْرَك"، وَزَادَ فِي رِوَايَة الْوَلِيد بْن
عُبَادَةَ عَنْ أَبِيهِ: "وَأَنْ نَقُوم بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا
نَخَاف فِي اللَّه لَوْمَة لَائِم".
قَوْله: (إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا) بِمُوَحَّدَةٍ
وَمُهْمَلَة. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: "مَعْنَى قَوْله بَوَاحًا يُرِيد
ظَاهِرًا بَادِيًا مِنْ قَوْلهمْ بَاحَ بِالشَّيْءِ يَبُوح بِهِ بَوْحًا
وَبَوَاحًا إِذَا أَذَاعَهُ وَأَظْهَرَهُ"، وَأَنْكَرَ ثَابِت فِي
الدَّلَائِل بَوَاحًا وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوز بَوْحًا بِسُكُونِ الْوَاو
وَبُؤَاحًا بِضَمِّ أَوَّله ثُمَّ هَمْزَة مَمْدُودَة، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ:
مَنْ رَوَاهُ بِالرَّاءِ فَهُوَ قَرِيب مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَصْل الْبَرَاح
الْأَرْض الْقَفْرَاء الَّتِي لَا أَنِيس فِيهَا وَلَا بِنَاء، وَقِيلَ الْبَرَاح
الْبَيَان يُقَال بَرَحَ الْخَفَاء إِذَا ظَهَرَ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ فِي
مُعْظَم النُّسَخ مِنْ مُسْلِم بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضهَا بِالرَّاءِ. قُلْت:
وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَة أَحْمَد بْن صَالِح عَنْ اِبن وَهْب
فِي هَذَا الْحَدِيث "كُفْرًا صُرَاحًا"، بِصَادٍ مُهْمَلَة مَضْمُومَة
ثُمَّ رَاء، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة حِبَّان أَبِي النَّضْر الْمَذْكُورَة:
"إِلَّا أَنْ يَكُون مَعْصِيَة لِلَّهِ بَوَاحًا"، وَعِنْدَ أَحْمَد
مِنْ طَرِيق عُمَيْر بْن هَانِئ عَنْ جُنَادَةَ: "مَا لَمْ يَأْمُرُوك
بِإِثْمٍ بَوَاحًا"، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن عُبَيْد عِنْدَ أَحْمَد
وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْحَاكِم مِنْ رِوَايَته عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَادَةَ:
"سَيَلِي أُمُوركُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَال يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ
وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَة لِمَنْ عَصَى
اللَّه"، وَعِنْدَ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيق أَزْهَر بن
عَبْداللَّه عَنْ عُبَادَةَ رَفَعَهُ: "سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاء
يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا تُنْكِرُونَ فَلَيْسَ
لِأُولَئِكَ عَلَيْكُمْ طَاعَة".
قَوْله: (عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّه فِيهِ بُرْهَان) أَيْ
نَصّ آيَة أَوْ خَبَر صَحِيح لا يَحْتَمِل التَّأْوِيل، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ
لا يَجُوز الْخُرُوج عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلهمْ يَحْتَمِل التَّأْوِيل،
قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَة، وَمَعْنَى الْحَدِيث:
لا تُنَازِعُوا وُلاة الْأُمُور فِي وِلايَتهمْ وَلا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلا
أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الإسْلام؛
فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ
حَيْثُمَا كُنْتُمْ اِنْتَهَى. وَقَالَ غَيْره: الْمُرَاد بِالْإِثْمِ هُنَا
الْمَعْصِيَة وَالْكُفْر، فَلَا يُعْتَرَض عَلَى السُّلْطَان إِلَّا إِذَا وَقَعَ
فِي الْكُفْر الظَّاهِر، وَاَلَّذِي يَظْهَر حَمْل رِوَايَة الْكُفْر عَلَى مَا
إِذَا كَانَتْ الْمُنَازَعَة فِي الْوِلايَة فَلا يُنَازِعهُ بِمَا يَقْدَح فِي
الْوِلَايَة إِلَّا إِذَا اِرْتَكَبَ الْكُفْر، وَحَمْل رِوَايَة الْمَعْصِيَة
عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْمُنَازَعَة فِيمَا عَدَا الْوِلَايَة، فَإِذَا لَمْ
يَقْدَح فِي الْوِلَايَة نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَة بِأَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ
بِرِفْقٍ وَيَتَوَصَّل إِلَى تَثْبِيت الْحَقّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْف، وَمَحَلّ
ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا، وَاَللَّه أَعْلَم. وَنَقَلَ اِبن التِّين عَنْ
الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاء فِي أُمَرَاء الْجَوْر أَنَّهُ
إِنْ قَدَرَ عَلَى خَلْعه بِغَيْرِ فِتْنَة وَلَا ظُلْم وَجَبَ، وَإِلَّا
فَالْوَاجِب الصَّبْر. وَعَنْ بَعْضهمْ: لا يَجُوز عَقْد الْوِلَايَة لِفَاسِقٍ
اِبْتِدَاء، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي
جَوَاز الْخُرُوج عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح الْمَنْع إِلا أَنْ يُكَفِّر فَيُجِبْ
الْخُرُوج عَلَيْهِ" انتهى.
قلت: هكذا شرح الحديث ابن حجر ونقل كلام أهل العلم
المتأخرين فيه، ولم يفرّق بين الاختلاف في ألفاظه، ولم يُرجّح! وهذا هو منهج
الشروحات المتأخرة، والسلف لم يكن عندهم شروحات هكذا، بل لم يصنّفوا في ذلك، وأقدم
من شرح كتاب البخاري هو الإمام الخطابي، ولكن شرحه كان مختصراً جداً.
ومن بعد ابن حجر اعتمد كتاب «الفتح» كالشوكاني في «نيل
الأوطار».
وقال ابن بطّال في «شرحه على البخاري»: "في هذه
الأحاديث حجة فى ترك الخروج على أئمة الجور، ولزوم السمع والطاعة لهم، والفقهاء
مجمعون على أن الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته
خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: «سترون بعدي أثرةً وأمورًا تنكروها»، فوصف أنهم سيكون
عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة،
ولا يعدلون فيها، وأمرهم بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور، وذكر
علي بن معبد، عن علي بن أبي طالب أنه قال: لا بد من إمامة برة أو فاجرة. قيل له:
البرة لابد منها، فما بال الفاجرة؟ قال: تقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويقسم
بها الفئ، ويجاهد بها العدو. ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس:
«من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهليةً». وفي حديث عبادة: « بايعنا رسول الله
على السمع والطاعة» إلى قوله: «وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا»
فدل هذا كله على ترك الخروج على الأئمة، وألا يشق عصا المسلمين، وألا يتسبب إلى
سفك الدماء وهتك الحريم، إلا أن يكفر الإمام ويظهر خلاف دعوة الإسلام، فلا طاعة
لمخلوق عليه".
قلت: أما مسـألة الإمام المتغلّب فليس هذا مكان نقاشها،
وأما ما ذكره من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «سترون بعدي أثرةً وأمورًا
تنكروها» فهذا قد حصل – والخطاب كان موجهاً للأنصار – ومع هذا فكان الحكم بكتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان الجهاد قائماً، وأما قوله الأخير بمنع
الخروج مطلقاً إلا إذا أظهر الإمام خلاف دعوة الإسلام فهذا لن يحصل بوجود التأويل
الذي ذكرناه قبل!!
وقال النووي في «شرحه على كتاب مسلم»: "وَمَعْنَى
الْحَدِيث: لَا تُنَازِعُوا وُلَاة الْأُمُور فِي وِلَايَتهمْ، وَلَا تَعْتَرِضُوا
عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ
قَوَاعِد الْإِسْلَام، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ،
وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ، وَأَمَّا الْخُرُوج عَلَيْهِمْ
وَقِتَالهمْ فَحَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَة
ظَالِمِينَ.وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث بِمَعْنَى مَا ذَكَرْته، وَأَجْمَعَ
أَهْل السُّنَّة أَنَّهُ لَا يَنْعَزِل السُّلْطَان بِالْفِسْقِ، وَأَمَّا
الْوَجْه الْمَذْكُور فِي كُتُب الْفِقْه لِبَعْضِ أَصْحَابنَا أَنَّهُ يَنْعَزِل،
وَحُكِيَ عَنْ الْمُعْتَزِلَة أَيْضًا، فَغَلَط مِنْ قَائِله، مُخَالِف
لِلْإِجْمَاعِ.قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب عَدَم اِنْعِزَاله وَتَحْرِيم الْخُرُوج
عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْفِتَن، وَإِرَاقَة الدِّمَاء،
وَفَسَاد ذَات الْبَيْن، فَتَكُون الْمَفْسَدَة فِي عَزْله أَكْثَر مِنْهَا فِي
بَقَائِهِ. قالَ الْقَاضِي عِيَاض: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْإِمَامَة
لَا تَنْعَقِد لِكَافِرٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْر
اِنْعَزَلَ، قَالَ: وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَة الصَّلَوَات وَالدُّعَاء
إِلَيْهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ عِنْد جُمْهُورهمْ الْبِدْعَة، قَالَ: وَقَالَ بَعْض
الْبَصْرِيِّينَ: تَنْعَقِد لَهُ، وَتُسْتَدَام لَهُ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّل، قَالَ
الْقَاضِي: فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ كُفْر وَتَغْيِير لِلشَّرْعِ أَوْ بِدْعَة
خَرَجَ عَنْ حُكْم الْوِلَايَة، وَسَقَطَتْ طَاعَته، وَوَجَبَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ الْقِيَام عَلَيْهِ، وَخَلْعه وَنَصْب إِمَام عَادِل إِنْ
أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَقَع ذَلِكَ إِلَّا لِطَائِفَةٍ وَجَبَ
عَلَيْهِمْ الْقِيَام بِخَلْعِ الْكَافِر، وَلَا يَجِب فِي الْمُبْتَدِع إِلَّا
إِذَا ظَنُّوا الْقُدْرَة عَلَيْهِ، فَإِنْ تَحَقَّقُوا الْعَجْز لَمْ يَجِب
الْقِيَام، وَلْيُهَاجِرْ الْمُسْلِم عَنْ أَرْضه إِلَى غَيْرهَا، وَيَفِرّ
بِدِينِهِ، قَالَ: وَلَا تَنْعَقِد لِفَاسِقٍ اِبْتِدَاء، فَلَوْ طَرَأَ عَلَى
الْخَلِيفَة فِسْق، قَالَ بَعْضهمْ: يَجِب خَلْعه إِلَّا أَنْ تَتَرَتَّب عَلَيْهِ
فِتْنَة وَحَرْب، وَقَالَ جَمَاهِير أَهْل السُّنَّة مِنْ الْفُقَهَاء
وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ وَالظُّلْم
وَتَعْطِيل الْحُقُوق، وَلَا يُخْلَع وَلَا يَجُوز الْخُرُوج عَلَيْهِ بِذَلِكَ،
بَلْ يَجِب وَعْظه وَتَخْوِيفه؛ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ، قَالَ
الْقَاضِي: وَقَدْ اِدَّعَى أَبُو بَكْر ابن مُجَاهِد فِي هَذَا الْإِجْمَاع،
وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضهمْ هَذَا بِقِيَامِ الْحَسَن وَابْن الزُّبَيْر
وَأَهْل الْمَدِينَة عَلَى بَنِي أُمَيَّة، وَبِقِيَامِ جَمَاعَة عَظْمِيَّة مِنْ
التَّابِعِينَ وَالصَّدْر الْأَوَّل عَلَى الْحَجَّاج مَعَ اِبن الْأَشْعَث،
وَتَأَوَّلَ هَذَا الْقَائِل قَوْله: أَلَّا نُنَازِع الْأَمْر أَهْله فِي
أَئِمَّة الْعَدْل، وَحُجَّة الْجُمْهُور أَنَّ قِيَامهمْ عَلَى الْحَجَّاج لَيْسَ
بِمُجَرَّدِ الْفِسْق، بَلْ لَمَّا غَيَّرَ مِنْ الشَّرْع وَظَاهَرَ مِنْ الْكُفْر،
قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا الْخِلَاف كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ حَصَلَ
الْإِجْمَاع عَلَى مَنْع الْخُرُوج عَلَيْهِمْ. وَاَللَّه أَعْلَم".
قلت: فكما ترى: إن الخلاف قائم بين أهل العلم في هذه
المسألة، وأما ادّعاء الإجماع فلا ينهض؛ لأنه لا إجماع بعد عصر الصحابة، والإجماع
على حرمة الخروج على الفاسق الظالم لا يصح؛ لأن جماعة عظيمة من التابعين قد خرجوا
على الفاسقين الظالمين، ولا يصح تأويل ذلك أنهم خرجوا على اعتبار أن الحجاج كان
كافرا؛ لأن الناس – ومنهم بعض الصحابة – كانوا يصلون خلفه، وكان يبعث البعوث للجهاد،
وهذا لا يفعله الكافر، وإنما خرجوا عليه لفسقه وظلمه وإراقته للدماء.
وهذا المنهج الذي اتخذه المتأخرون وإيرادهم الإجماع وغيره
إنما كان نابعاً من تسلط الأمراء على كثير من أهل العلم في زمانهم، ثم مضى الناس
على ذلك: يرددون ما في هذه الكتب!! فإذا عورضوا بخروج التابعين قالوا: لقد
أخطأوا!! وهذا لا يصح البتة؛ لأن هؤلاء كانوا من خيار أهل العلم.
وأما مسألة نجاح هذه الخروجات أو عدمها، فهذا ليس له ههنا
مدخل في أصل المسألة! فأصل الخروج شيء، ومسألة النجاح وعدمه شيء آخر، ولا يُحتج
بقول ابن تيمية وغيره من أنه لم تنجح هذه الخروجات وأن فتنتها كانت عظيمة! فهذا
كله نابع من اجتهاد هؤلاء الأئمة في أزمنة كثيرة مضت والدستور هو القرآن والسنة،
فما بالك لو أنهم عاشوا في زمان قد أبدل فيه هذا الدستور بقوانين وضعية!! وهل كان
هؤلاء الأئمة سيرضون أن يُحيّد شرع الله ويُستبدل به قول البشر.
قال الشوكاني: "وقدْ اسْتَدَلَّ القَائِلُونَ
بِوُجُوبِ الخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَمُنَابَذَتِهِمْ السَّيْفَ
وَمُكَافَحَتِهِمْ بِالْقِتَالِ بِعُمُومَاتٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي
وُجُوبِ الأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلا شَكَّ وَلا
رَيْبَ أَنَّ الأحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا المُصَنِّفُ فِي هذَا الْبَابِ
وَذَكَرْنَاهَا أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، وَهِيَ
مُتَوَافِرَةُ الْمَعْنَى كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَنَسَةٌ بِعِلْمِ
السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ
مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ
الْجَوْرِ فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى
لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جَاءَ
بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
كَالْكَرَّامِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ
حَتَّى حَكَمُوا بِأَنَّ الْحُسَيْنَ السِّبْطَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ
بَاغٍ عَلَى الْخِمِّيرِ السِّكِّيرِ الْهَاتِكِ لِحُرُمِ الشَّرِيعَةِ
الْمُطَهَّرَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ مَقَالاتٍ
تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ وَيَتَصَدَّعُ مِنْ سَمَاعِهَاكُلُّ جُلْمُودٍ".
قلت: قدّم الشوكاني هذه الأحاديث وهي خاصة على العمومات،
وهذا لا غبار عليه، ولكن الاعتماد في هذه الأحاديث المخصصة كان على بعض الألفاظ
التي لم تصح فيها، والأمر على عدم الخروج ما دام الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم، واللافت للنظر أن الشوكاني قد جعل خروج السلف على أئمة الجور، لا
على من ظهر منه كفر صراح؛ لأن هذا الكفر الذي يتطلبه بعض أهل العلم كما في حديث
عبادة صعب التحقق!
وطالما أن هذا الفعل كان من هؤلاء السلف كان باجتهاد منهم،
فهذا يعني أنه لم يصح عندهم دليل بعدم الخروج؛ لأنه لا اجتهاد مع وجود النص.
فالأصل عدم الخروج على الإمام العادل الذي يحكم بكتاب الله
وسنة رسوله، وإما إن كان جائراً ويحكم بكتاب الله ويقيم الجهاد، فهذا هو الذي كره
الأئمة الخروج عليه منعاً للفتنة وسفك الدماء، وأما من لم يحكم بكتاب الله، فهذا
مما لا خلاف فيه في وجوب القيام عليه.
روى ابن سعد في «الطبقات الكبرى» [القسم: متمم الصحابة -
الطبقة الرابعة] (ص: 123) قال: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ
الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ قالَ:
حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ،
أَنَّهُ قَدِمَ وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَضَى
حَاجَتَهُ ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: "يَا مِسْوَرُ: مَا فَعَلَ طَعْنُكَ عَلَى
الْأُمَّةِ؟" قالَ الْمِسْوَرُ: «دَعْنَا مِنْ هَذَا وَأَحْسِنْ فِيمَا
قَدِمْنَا لَهُ».
قالَ مُعَاوِيَةُ: «لا أَدَعُكَ حَتَّى تَكَلَّمَ بِذَاتِ
نَفْسِكَ وَالَّذِي تَعِيبُ عَلَيَّ»!
قالَ المِسْوَرُ: «فَلَمْ أَدَعْ شَيْئًا أَعِيبُهُ
عَلَيْهِ إِلَّا بَيَّنْتُهُ».
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: «لَا أَبْرَأُ مِنَ الذَّنْبِ،
فَهَلْ تَعُدُّ لَنَا يَا مِسْوَرُ مِمَّا نَلِي مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي أَمْرِ
النَّاسِ شَيْئًا، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، أَمْ تَعُدُّ
الذُّنُوبَ وَتَتْرُكُ الْإِحْسَانَ».
قالَ المِسْوَرُ: «لا وَاللَّهِ مَا نَذْكُرُ إِلَّا مَا
نَرَى مِنْ هَذِهِ الذُّنُوبِ».
قالَ مُعَاوِيَةُ: «فَإِنَّا نَعْتَرِفُ بِكُلِّ ذَنْبٍ
أَذْنَبْنَاهُ، فَهَلْ لَكَ يَا مِسْوَرُ ذُنُوبٌ فِي خَاصَّتِكَ تَخْشَى أَنْ
تُهْلِكَكَ إِنْ لَمْ يَغْفِرْهَا اللَّهُ لَكَ؟».
قالَ المِسْوَرُ: «نَعَمْ».
قالَ مُعَاوِيَةُ: «فَمَا يَجْعَلُكَ بِأَحَقَّ بِرَجَاءِ
الْمَغْفِرَةِ مِنِّي؟ فَوَاللَّهِ لَمَا أَلِي مِنَ الْإِصْلَاحِ أَكْثَرُ مِمَّا
تَلِي، وَلَكِنِّي، واللَّهِ لا أُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنَ اللَّهِ
وَغَيْرِهِ إِلَّا اخْتَرْتُ اللَّهَ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَإِنِّي لَعَلَى دِينٍ
يُقْبَلُ فِيهِ الْعَمَلُ وَيُجْزَى فِيهِ بِالْحَسَنَاتِ وَيُجْزَى فِيهِ
بِالذُّنُوبِ إِلَّا أَنْ يَعْفَوَ اللَّهُ عَنْهَا، وَإِنِّي لَأَحْتَسِبُ كُلَّ
حَسَنَةٍ عَمِلْتُهَا بِأَضْعَافِهَا مِنَ الْأَجْرِ، وَإِنِّي لَأَلِي أُمُورًا
عِظَامًا لَا أَحْصِيهَا، وَلَا يُحْصِيهَا مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا:
إِقَامَةَ الصَّلَوَاتِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَالحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالْأُمُورَ الَّتِي لَسْتُ
أُحْصِيهَا وَإِنْ عَدَدْتُهَا، فَتَفَكَّرْ فِي ذَلِكَ».
قَالَ المِسْوَرُ: «فَعَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ خَصَمَنِي
حِينَ ذَكَرَ مَا قَالَ».
قالَ عُرْوَةُ: «فَلَمْ أَسْمَعِ المِسْوَرَ بَعْدُ
يَذْكُرُ مُعَاوِيَةَ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ».
ورواه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/208) من طريق شعيب بن
حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، به.
ورواه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (58/167) من طريق عقيل،
عن ابن شهاب الزهري، به.
ورواه عبدالرزاق في «المصنف» (11/344) عن مَعمر، عن الزهري،
عن حميد بن عبدالرحمن، قال: حدثني المسور بن مخرمة أنه وفد على معاوية، قال: فلما
دخلت عليه - حسبت أنه قال -: سلمت عليه، ثم قال: ما فعل طعنك على الائمة يا مسور؟
قال: قلت، ارفضنا من هذا أو أحسن فيما قدمنا له. قال: لتكلمن بذات نفسك. قال: فلم
أدع شيئاً أعيبه به إلا أخبرته به. قال: لا أبرأ من الذنوب، فهل لك ذنوب تخاف أن
تهلك إن لم يغفرها الله لك! قال: قلت، نعم. قال: فما يجعلك أحق بأن ترجو المغفرة
مني، فوالله لما آلي من الإصلاح بين الناس وإقامة الحدود والجهاد في سبيل الله،
والأمور العظام التي تحصيها أكثر مما تلي، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات
ويعفو عن السيئات، والله مع ذلك ما كنت لأخير بين الله وغيره إلا اخترت الله على
ما سواه. قال: ففكرت حين قال لي ما قال فوجدته قد خصمني. فكان إذا ذكره بعد ذلك
دعا له بخير.
وروى الإمام مسلم في «صحيحه» (6/427) من طريق يَحْيَى بنِ
حُصَيْنٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الحُصَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: حَجَجْتُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ... ثُمَّ
سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ - حَسِبْتُهَا
قَالَتْ: أَسْوَدُ - يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْمَعُوا لَهُ
وَأَطِيعُوا».
وروى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر
بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
وقال علي بن أبي
طالب - رضي الله عنه -: "حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي
الأمانة، فإذا فعل ذلك كان حقاً على المسلمين أن يسمعوا ويطيعوا".
قال ابن عبدالبر في «الاستذكار» (5/16): "وأما قوله (ألا
ننازع الأمر أهله) فقد اختلف الناس في ذلك: فقال القائلون منهم: أهله أهل العدل
والإحسان والفضل والدين مع القوة على القيام بذلك، فهؤلاء لا ينازعون لأنهم أهله،
وأما أهل الجور والفسق والظلم فليسوا بأهل له. واحتجوا بقول الله عز وجل لإبراهيم {إني
جاعلك للناس إماماً. قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}.
ذهب إلى هذا طائفة من السلف الصالح واتبعهم بذلك خلف من
الفضلاء والقراء والعلماء من أهل المدينة والعراق، وبهذا خرج ابن الزبير والحسين
على يزيد، وخرج خيار أهل العراق وعلمائهم على الحجاج، ولهذا أخرج أهل المدينة بني
أمية عنهم وقاموا عليهم فكانت الحرة.
وبهذه اللفظة وما كان مثلها في معناها مذهب تعلقت به طائفة
من المعتزلة وهو مذهب جماعة الخوارج.
وأما جماعة أهل السنة وأئمتهم فقالوا: هذا هو الاختيار: أن
يكون الإمام فاضلاً عالماً عدلاً محسناً قوياً على القيام كما يلزمه في الإمامة
فإن لم يكن فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته
والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي الدهماء وتبييت
الغارات على المسلمين والفساد في الأرض وهذا أعظم من الصبر على جور الجائر".
· وجوب تنصيب الخليفة للأمة، وطريقة ذلك.
قال القرطبي في «تفسيره» (1/264) في قوله تعالى: {وَإِذْ
قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}: "هذه
الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة.
ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الائمة إلا ما روي
عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كلّ من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه،
قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الامة متى أقاموا حجهم وجهادهم،
وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على
أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا
إماماً يتولى ذلك.
ودليلنا قول الله تعالى: {إني جاعل في الارض خليفة }
[البقرة: 30]، وقوله تعالى: {يا داود إنا
جعلناك خليفة في الأرض} [ ص: 26 ]، وقال: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات ليستخلفنهم في الارض} [ النور: 55 ] أي يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من
الآي.
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين
المهاجرين والانصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منا أمير
ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إن العرب لا تدين
إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش.
فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما
ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا
في غيرهم، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه
لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا
ولا عليك، فدلّ على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين،
والحمد لله رب العالمين.
وقالت الرافضة: يجب نصبه عقلاً، وإن السمع إنما ورد على
جهة التأكيد لقضية العقل، فأما معرفة الإمام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل.
وهذا فاسد؛ لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن،
وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل، وهذا واضح.
فإن قيل وهي: الخامسة - إذا سلم أن طريق وجوب الإمامة
السمع، فخبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه
وسلم، أم من جهه اختيار أهل الحل والعقد له، أم بكمال خصال الائمة فيه، ودعاؤه مع
ذلك إلى نفسه كاف فيه؟.
فالجواب أن يقال: اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت الإمامية
وغيرها إلى أن الطريق الذي يعرف به الإمام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل
للاختيار فيه.
وعندنا: النظر طريق إلى معرفة الإمام، وإجماع أهل الاجتهاد
طريق أيضاً إليه، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن
القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شيء أصلاً، وأبطلوا القياس أصلاً وفرعاً.
ثم اختلفوا على ثلاث فرق: فرقة تدعي النص على أبي بكر،
وفرقة تدعي النص على العباس، وفرقة تدعي النص على علي بن أبى طالب رضي الله عنهم.
والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى
الله عليه وسلم لو فرض على الأمة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى
غيره لعلم ذلك، لاستحالة تكليف الامة بأسرها طاعة الله في غير معين، ولا سبيل لهم
إلى العلم بذلك التكليف، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه
أدلة العقول أو الخبر، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الامامة لشخص معين، وكذلك
ليس في الحبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين، لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواتراً
أوجب العلم ضرورة أو استدلالاً، أو يكون من أخبار الآحاد، ولا يجوز أن يكون طريقه
التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه
العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين الله عليه، كما أن كل مكلف علم أن
من دين الله الواجب عليه خمس صلوات، وصوم رمضان، وحج البيت ونحوها، ولا أحد يعلم
ذلك من نفسه ضرورة، فبطلت هذه الدعوى، وبطل أن يكون معلوماً بأخبار الآحاد
لاستحالة وقوع العلم به.
وأيضاً فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الإمام بأي
وجه كان، وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس، لأن لكل واحد منهما قوماً ينقلون النص
صريحاً في إمامته، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد - على ما يأتي بيانه
- كذلك الواحد، إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر.
وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار
والاجتهاد.
فإن تعسف متعسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي
أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم
أيضاً في جملتها مقام النص، ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص، وهم
الخلق الكثير والجم الغفير.
والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد
مخالفي الامامية، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين
الاقصى وغيرهما".
ثم قال: "واختلف فيما يكون به الإمام إماماً وذلك في
ثلاث طرق، أحدها: النَّص، وقال به الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري
وبكر ابن أخت عبدالواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج.
وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالإشارة،
وأبو بكر على عمر. فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق، أو على جماعة
كما فعل عمر، وهو الطريق الثاني، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل
الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
الطريق الثالث: إجماع أهل الحل والعقد، وذلك أن الجماعة في
مصر من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك
المصر الذي هو حضرة الإمام وموضعه إماماً لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من
خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام، إذا لم
يكن الإمام معلناً بالفسق والفساد، لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد
التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة
ولاة الامر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة)".
قال: "فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت
ويلزم الغير فعله، خلافاً لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل
والعقد ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة
ذلك، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود.
قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد
فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال: وهذا مجمع عليه".
قال: "فإن تغلّب من له أهلية الإمامة وأخذها بالقهر
والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقاً رابعاً، وقد سئل سهل بن عبدالله التستري: ما
يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام؟ قال: تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه،
ولا تنكر فعاله ولا تفر منه، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه.
وقال ابن خويز منداد: ولو وثب على الامر من يصلح له من غير
مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة، والله أعلم".
· آراء أهل العلم في الشهادة على عقد الإمامة.
قال القرطبي: "واختلف في الشهادة على عقد الإمامة،
فقال بعض أصحابنا: إنه لا يفتقر إلى الشهود، لأن الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع،
وليس ها هنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة.
ومنهم من قال: يفتقر إلى شهود، فمن قال بهذا احتج بأن قال:
لو لم تعقد فيه الشهادة أدى إلى أن يدعى كل مدع أنه عقد له سراً، وتؤدي إلى الهرج
والفتنة، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان، خلافاً للجبائي حيث قال
باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له، لأن عمر حيث جعلها شورى في ستة دلّ على ذلك.
ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة،
وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر".
· الشروط الواجب توافرها في الإمام.
قال القرطبي: "شرائط الإمام، وهي أحد عشر:
الأول: أن يكون من صميم قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(الأئمة من قريش). وقد اختلف في هذا.
الثاني: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين
مجتهداً لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث، وهذا متفق عليه.
الثالث: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير
الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم.
الرابع: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع
من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار.
والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم، لأنه لا
خلاف بينهم أنه لا بدّ من أن يكون ذلك كله مجتمعاً فيه، ولأنه هو الذي يولي القضاة
والحكام، وله أن يباشر الفصل والحكم، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته، ولن يصلح لذلك
كله إلا من كان عالماً بذلك كله قيماً به. والله أعلم.
الخامس: أن يكون حراً، ولا خفاء باشتراط حرية الإمام
وإسلامه وهو السادس.
السابع: أن يكون ذكراً، سليم الأعضاء وهو الثامن.
وأجمعوا على أن المراة لا يجوز أن تكون إماماً، وإن
اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه.
التاسع والعاشر: أن يكون بالغاً عاقلاً، ولا خلاف في ذلك.
الحادي عشر: أن يكون عدلاً؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا
يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم، لقوله عليه السلام:
(أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون). وفي التنزيل في وصف طالوت: {إن الله
اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} [ البقرة: 247 ] فبدأ بالعلم ثم ذكر ما
يدل على القوة وسلامة الأعضاء. وقوله: {اصطفاه} معناه اختاره، وهذا يدل على شرط
النَّسب.
وليس من شرطه أن يكون معصوماً من الزلل والخطأ، ولا عالماً
بالغيب، ولا أفرس الأمة ولا أشجعهم، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من
قريش، فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعثمان وليسوا من بني هاشم.
الثانية عشرة: يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة
وألا يستقيم أمر الأمة، وذلك أن الامام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد
الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على
أهلها.
فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي
لأجلها ينصب الإمام كان ذلك عذراً ظاهراً في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ويدل
على ذلك أيضاً علم عمر وسائر الأمة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول، وقد
أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى المصلحة إلى ذلك، واجتمعت كلمتهم عليه من غير
إنكار أحد عليهم، والله أعلم.
الثالثة عشر: الإمام إذا نصب، ثم فسق بعد انبرام العقد،
فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم؛ لأنه قد ثبت أن الإمام
إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في
أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور
والنهوض بها.
فلو جوزنا أن يكون فاسقاً أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله،
ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم
له، وكذلك هذا مثله.
وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو
الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة، لقوله عليه السلام في حديث عبادة: (وألا
ننازع الامر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، وفي حديث
عوف بن مالك: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) الحديث، أخرجهما مسلم.
وعن أم سلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يستعمل
عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع
- قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال: لا، ما صلوا)، أي من كره بقلبه وأنكر
بقلبه. أخرجه أيضاً مسلم".
ثم قال: "إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد
أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر،
لئلا تفترق كلمة المسلمين.
وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأول وقتل الآخر، واختلف في
قتله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته. والأول أظهر، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)، رواه أبو سعيد الخدري،
أخرجه مسلم.
وفي حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
سمعه يقول: (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه أن استطاع فإن جاء
آخر ينازعه فاضربوه عنق الآخر). رواه مسلم أيضاً، ومن حديث عرفجة: (فاضربوه بالسيف
كائناً من كان).
وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين، ولأن ذلك يؤدي إلى
النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت
كالأندلس وخراسان جاز ذلك".
وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/221) في قوله تعالى: {وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}: "وقد
استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما
يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن
تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام،
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي
بكر، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل
الصديق بعمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو
باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند
الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم، أو بقهر واحد الناس على
طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نص عليه الشافعي.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال:
لا يشترط، وقيل: بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما
ترك عمر رضي الله عنه، الأمر شورى بين ستة، فوقع الأمر على عاقد وهو عبدالرحمن بن
عوف، ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين، وفي
هذا نظر، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكرًا، حرًا، بالغًا، عاقلاً، مسلمًا، عدلاً،
مجتهدًا، بصيرًا، سليم الأعضاء، خبيرًا بالحروب والآراء، قرشيًا على الصحيح، ولا
يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الروافض.
ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا
ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه
برهان).
وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه
وسلّم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك.
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه
الصلاة والسلام: (من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان).
وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام الحرمين، وقالت
الكرامية: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة، قالوا:
وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة؛ لأن النبوة أعلى رتبة
بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا
تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا
يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب".
قلت: هذا الذي قاله ابن كثير مختصر من كلام القرطبي
السابق، وعليه أهل العلم. وأما مسألة عزل الإمام بالفسق فالخلاف في ذلك نظراً لما
نُسب للنبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً...)، والراجح عدم صحته
كما بينته في هذا البحث.
· كلام مُفصّل لابن حزم في وجوب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وكيفيته.
قال ابن حزم في «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (2/12):
"اتّفقت الْأمة كلهَا على وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن
المُنكر بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم لقَوْل الله تَعَالَى {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ
إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر}.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي كيفيته:
فَذهب بعض أهل السّنة من القدماء من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمن بعدهمْ،
وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره، وَهُوَ قَول سعد بن أبي وَقاص، وَأُسَامَة
بن زيد، وَابن عمر، وَمُحَمّد بن مسلمة وَغَيرهم إِلَى: أَن الغَرَض من ذَلِك
إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ فَقَط ولَا بد، وباللسان إِن قدر على ذَلِك وَلَا يكون
بِالْيَدِ وَلَا بسل السيوف وَوضع السِّلَاح أصلاً، وَهُوَ قَول أبي بكر ابن
كيسَان الْأَصَم، وَبِه قَالَت الروافض كلهم وَلَو قتلوا كلهم، إِلَّا أَنَّهَا لم
تَرَ ذَلِك إِلَّا مَا لم يخرج النَّاطِق، فَإِذا خرج وَجب سل السيوف حِينَئِذٍ
مَعَه وَإِلَّا فَلَا، واقتدى أهل السّنة فِي هَذَا بعثمان رَضِي الله عَنهُ
وَمِمَّنْ ذكرنَا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وبمن رأى الْقعُود مِنْهُم
إِلَّا أَن جَمِيع الْقَائِلين بِهَذِهِ الْمقَالة من أهل السّنة إِنَّمَا رَأَوْا
ذَلِك مَا لم يكن عدلاً، فَإِن كَانَ عدلاً وَقَامَ عَلَيْهِ فَاسق وَجب عِنْدهم
بِلَا خلاف سل السيوف مَعَ الإِمَام الْعدْل. وَقد روينَا عَن ابن عمر أنه قَالَ: (لَا
أَدْرِي من هِيَ الفئة الباغية وَلَو علمنَا مَا سبقتني أَنْت وَلَا غَيْرك إِلَى
قتالها). وهَذَا الَّذِي لَا يظنّ بأولئك الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم غَيره.
وذَهَبت طوائف من أهل السّنة وَجَمِيع المُعْتَزلَة
وَجَمِيع الْخَوَارِج والزيدية إِلَى أَن سلّ السيوف فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَاجِب إِذا لم يُمكن دفع الْمُنكر إِلَّا بذلك. قَالُوا: فَإِذا كَانَ أهل
الْحق فِي عِصَابَة يُمكنهُم الدّفع وَلَا ييئسون من الظفر فَفرض عَلَيْهِم ذَلِك
وَإِن كَانُوا فِي عدد لَا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كَانُوا فِي سَعَة من ترك
التَّغْيِير بِالْيَدِ، وَهَذَا قَول: عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وكل من
مَعَه من الصَّحَابَة، وَقَول أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وكل من كَانَ مَعَهم من الصَّحَابَة، وَقَول مُعَاوِيَة،
وَعَمْرو، والنعمان بن بشير وَغَيرهم مِمَّن مَعَهم من الصَّحَابَة رَضِي الله
عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَهُوَ قَول عبدالله بن الزبير، وَمُحَمّد، وَالحسن بن عَليّ
وَبَقِيَّة الصَّحَابَة من المُهَاجِرين وَالْأَنْصَار والقائمين يَوْم الحرَّة
رَضِي الله عَن جَمِيعهم أَجْمَعِينَ، وَقَول كل من أَقَامَ على الْفَاسِق
الْحجَّاج وَمن وَالَاهُ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم جَمِيعهم كأنس بن
مَالك وكل من كَانَ مِمَّن ذكرنَا من أفاضل التَّابِعين: كَعبدالرَّحْمَن ابن أبي
ليلى، وَسَعِيد بن جُبَير، وَابْن البحتري الطَّائِي، وَعَطَاء السّلمِيّ
الْأَزْدِيّ، وَالحسن الْبَصْرِيّ، وَمَالك بن دِينَار، وَمُسلم بن يسار، وَأبي الجوْزاء،
وَالشعْبِيّ، وَعبدالله بن غَالب، وَعقبَة بن عبدالغافر، وَعقبَة بن صهْبَان،
وماهان، والمطرّف بن المُغيرَة بن شُعْبَة، وحَنْظَلَة بن عبدالله، وَأبي شيخ الهُنائِي،
وطلق بن حبيب، والمطرف بن عبدالله بن الشّخير، والنضر بن أنس، وَعَطَاء بن
السَّائِب، وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد التَّيْمِيّ، وجبلة بن زحر، وَغَيرهم، ثمَّ من
بعد هَؤُلَاءِ من تَابِعِيّ التَّابِعين وَمن بعدهمْ كَعبدالله بن عبدالْعَزِيز بن
عبدالله بن عمر، وكعبدالله بن عمر، ومُحَمّد بن عجلَان، وَمن خرج مَعَ مُحَمَّد بن
عبدالله بن الحسن، وهاشِم بن بشر، ومطر، وَمن خرج مَعَ إِبْرَاهِيم بن عبدالله،
وَهُوَ الَّذِي تدل عَلَيْهِ أَقْوَال الْفُقَهَاء كَأبي حنيفَة، وَالحسن بن حيّ،
وَشريك، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَدَاوُد، وأصحابهم، فَإِن كل من ذكرنَا من
قديم وَحَدِيث إِمَّا نَاطِق بذلك فِي فتواه وَإِمَّا الْفَاعِل لذَلِك بسل سَيْفه
فِي إِنْكَار مَا رَآهُ مُنْكراً".
قالَ ابن حزم: "احتجت الطَّائِفَة المَذْكُورَة أَولا
بِأَحَادِيث فِيهَا: (أنقاتلهم يَا رَسُول الله؟ قالَ: لَا، مَا صلوا)، وَفِي
بَعْضهَا: (إِلَّا أَن نر كفراً بواحاً عنْدكُمْ فِيهِ من الله برهَان)، وَفِي
بَعْضهَا وجوب الضَّرْب: (وَإِن ضرب ظهر أَحَدنَا وَأخذ مَاله)، وَفِي بَعْضهَا: (فَإِن
خشيت أَن يسهرك شُعَاع السَّيْف فاطرح ثَوْبك على وَجهك، وَقل إِنِّي أُرِيد أَن
تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار)، وَفِي بَعْضهَا: (كن عبد الله
المَقْتُول وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل)، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {واتل عَلَيْهِم
نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قرباناً فَتقبل من أَحدهمَا وَلم يتَقَبَّل من
الآخر} الْآيَة.
وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لما قد تقصيناه غَايَة
التَّقَصِّي خَبراً خَبراً بأسانيدها ومعانيها فِي كتَابنَا الموسوم بالإيصال
إِلَى فهم معرفَة الخِصَال، وَنَذْكُر مِنْهُ إِن شَاءَ الله هَاهُنَا جملاً
كَافِيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد:
أما أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصبرِ على أَخذ
المَال وَضرب الظّهْر فَإِنَّمَا ذَلِك بِلَا شكّ إِذا تولى الإِمَام ذَلِك بِحَق
وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ أَنه فرض علينا الصَّبْر لَهُ وَإِن امْتنع من ذَلِك بل
من ضرب رقبته إِن وَجب عَلَيْهِ فَهُوَ فَاسق عَاص لله تَعَالَى، وَإِمَّا إِن
كَانَ ذَلِك بباطل فمعاذ الله أَن يَأْمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالصبرِ على ذَلِك، برهَان هَذَا قَول الله عز وَجل {وتعاونوا على الْبر
وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان}، وَقد علمنَا أَن كَلَام رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُخَالف كَلَام ربه تَعَالَى. قَالَ الله عز
وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى}، وَقَالَ تَعَالَى
{وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح أَن كل مَا
قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ وَحي من عِنْد الله عز وَجل
وَلَا اخْتِلَاف فِيهِ وَلَا تعَارض وَلَا تنَاقض، فَإِذا كَانَ هَذَا كَذَلِك
فيقين لَا شكّ فِيهِ يدْرِي كل مُسلم أَن أَخذ مَال مُسلم أَو ذمِّي بِغَيْر حق
وَضرب ظَهره بِغَيْر حق إِثْم وعدوان وَحرَام. قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ حرَام عَلَيْكُم) فَإذْ
لَا شكّ فِي هَذَا وَلَا اخْتِلَاف من أحد من الْمُسلمين فالمسلم مَاله للأخذ ظلماً
وظهره للضرب ظلماً وَهُوَ يقدر على الِامْتِنَاع من ذَلِك بِأَيّ وَجه أمكنه معاون
لظالمه على الْإِثْم والعدوان وَهَذَا حرَام بِنَصّ الْقُرْآن.
وَأما سَائِر الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرنَا وقصة ابْني آدم
فَلَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهَا:
أما قصَّة ابْني آدم فَتلك شَرِيعَة أُخْرَى غير شريعتنا.
قَالَ الله عز وَجل {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً}.
وَأما الْأَحَادِيث فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من رأى مِنْكُم مُنْكراً فليغيره بِيَدِهِ إِن اسْتَطَاعَ فَإِن
لم يسْتَطع فبلسانه فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان) لَيْسَ
وَرَاء ذَلِك من الْإِيمَان شَيْء. وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لا طَاعَة فِي مَعْصِيّة إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الطَّاعَة وعَلى أحدكُم
السّمع وَالطَّاعَة مَا لم يُؤمر بِمَعْصِيَة، فَإِن أَمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع
وَلَا طَاعَة)، وَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: (من قتل دون مَاله فَهُوَ
شَهِيد)، والمقتول دون دينه شَهِيد، والمقتول دون مظْلمَة شَهِيد. وَقَالَ
عَلَيْهِ السَّلَام: (لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليعمنكم
الله بِعَذَاب من عِنْده) فَكَانَ ظَاهر هَذِه الْأَخْبَار مُعَارضاً للْآخر، فصح
أَن إِحْدَى هَاتين الجملتين ناسخة لِلْأُخْرَى لَا يُمكن غير ذَلِك، فَوَجَبَ
النّظر فِي أَيهمَا هُوَ النَّاسِخ، فَوَجَدنَا تِلْكَ الْأَحَادِيث الَّتِي
مِنْهَا النَّهْي عَن الْقِتَال مُوَافقَة لمعهود الأَصْل وَلما كَانَت الْحَال
فِيهِ فِي أول الْإِسْلَام بِلَا شكّ، وَكَانَت هَذِه الْأَحَادِيث الْأُخَر
وَارِدَة بشريعة زَائِدَة وَهِي الْقِتَال، هذَا مَا لَا شكّ فِيهِ، فقد صَحَّ نسخ
معنى تِلْكَ الأحاديث وَرفع حكمهَا حِين نطقه عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذِهِ
الْأُخَر بِلَا شكّ، فَمن المحَال المحرم أَن يُؤْخَذ بالمنسوخ وَيتْرك النَّاسِخ
وَأَن يُؤْخَذ الشَّك وَيتْرك الْيَقِين، وَمن ادّعى أَن هَذِه الْأَخْبَار بعد
أَن كَانَت هِيَ الناسخة فَعَادَت مَنْسُوخَة فقد ادّعى الْبَاطِل وَقفا مَا لَا
علم لَهُ بِهِ فَقَالَ على الله مَا لم يعلم، وهذَا لا يحل، وَلَو كَانَ هَذَا لما
أخلا الله عز وَجل هَذَا الحكم عَن دَلِيل وبرهان يبين بِهِ رُجُوع الْمَنْسُوخ
نَاسِخاً لقَوْله تَعَالَى فِي الْقُرْآن {تبياناً لكل شَيْء}، وبرهان آخر وَهُوَ
أَن الله عز وَجل قَالَ: {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا
بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى
تفيء} لم يخْتَلف مسلمان فِي أَن هَذِه الْآيَة الَّتِي فِيهَا فرض قتال الفئة
الباغية محكمَة غير مَنْسُوخَة، فصح أَنَّهَا الحاكمة فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث
فَمَا كَانَ مُوَافقاً لهَذِهِ الْآيَة فَهُوَ النَّاسِخ الثَّابِت وَمَا كَانَ
مُخَالفا لَهَا فَهُوَ الْمَنْسُوخ الْمَرْفُوع، وَقد ادّعى قوم أَن هَذِه الْآيَة
وَهَذِه الْأَحَادِيث فِي اللُّصُوص دون السُّلْطَان! وهَذَا بَاطِل مُتَيَقن
لِأَنَّهُ قَول بِلَا برهَان وَمَا يعجز مُدع أَن يَدعِي فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث
أَنَّهَا فِي قوم دون قوم وَفِي زمَان دون زمَان، وَالدَّعْوَى دون برهَان لَا تصح،
وَتَخْصِيص النُّصُوص بِالدَّعْوَى لا يجوز؛ لِأَنَّهُ قَول على الله تَعَالَى
بِلَا علم، وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن سَائِلًا
سَأَلَهُ عَن من طلب مَاله بِغَيْر حق فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا تعطه.
قَالَ: فَإِن قاتلني؟ قَالَ: قَاتله. قال: فَإِن قَتلته؟ قَالَ: إِلَى النَّار.
قَالَ: فَإِن قتلني؟ قَالَ: فَأَنت فِي الْجنَّة) - أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ -.
وَصَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ: (الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يسلمه
وَلَا يَظْلمه)، وَقد صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: (فِي الزَّكَاة من
سَأَلَهَا على وَجههَا فليعطها وَمن سَأَلَهَا على غير وَجههَا فَلَا يُعْطهَا)
وَهَذَا خبر ثَابت روينَاهُ من طَرِيق الثِّقَات عَن أنس بن مَالك عَن أبي بكر
الصّديق عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهذَا يبطل تَأْوِيل من تَأْول
أَحَادِيث الْقِتَال عَن المَال على اللُّصُوص لَا يطْلبُونَ الزَّكَاة وَإِنَّمَا
يَطْلُبهُ السُّلْطَان فاقتصر عَلَيْهِ السَّلَام مَعهَا إِذا سَأَلَهَا على غير
مَا أَمر بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو اجْتمع أهل الْحق مَا قاواهم أهل
الْبَاطِل نسْأَل الله المعونة والتوفيق.
ومَا اعْترضُوا بِهِ من فعل عُثْمَان فَمَا علم قطّ أَنه
يقتل وَإِنَّمَا كَانَ يراهم يحاصرون فَقَط، وهم لَا يرَوْنَ هَذَا الْيَوْم
للْإِمَام الْعدْل بل يرَوْنَ الْقِتَال مَعَه ودونه فرضا فَلَا حجَّة لَهُم فِي
أَمر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ.
· رد ابن حزم على من قال بأن الخروج على الإمام
الفاسق يؤدي إلى سفك الدماء وهتك الأستار!
وقالَ بَعضهم: إِن فِي القيام إِبَاحَة الحَرِيم وَسَفك
الدِّمَاء وَأخذ الْأَمْوَال وهتك الأستار وانتشار الْأَمر! فَقَالَ لَهُم
الْآخرُونَ: كلا، لِأَنَّهُ لَا يحل لمن أَمر بِالمَعْرُوفِ وَنهي عَن المُنكر أَن
يهتك حريماً وَلَا أَن يَأْخُذ مَا لاً بِغَيْر حق، ولا أَن يتَعَرَّض لمن لَا
يقاتله، فَإِن فعل شَيْئا من هَذَا فَهُوَ الَّذِي فعل مَا يَنْبَغِي أَن يُغير
عَلَيْهِ، وَأما قَتله أهل الْمُنكر قَالُوا أَو كَثُرُوا فَهَذَا فرض عَلَيْهِ،
وَأما قتل أهل الْمُنكر النَّاس وَأَخذهم أَمْوَالهم وهتكهم حريمهم كُله من
الْمُنكر الَّذِي يلْزم النَّاس تَغْيِيره، وَأَيْضًا فَلَو كَانَ خوف مَا ذكرُوا
مَانِعا من تَغْيِير الْمُنكر وَمن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ لَكَانَ هَذَا
بِعَيْنِه مَانِعا من جِهَاد أهل الحَرْب، وَهَذَا مَا لا يَقُوله مُسلم وَإِن
ادّعى ذَلِك إِلَى سبي النَّصَارَى نسَاء الْمُؤمنِينَ وَأَوْلَادهمْ وَأخذ
أَمْوَالهم وَسَفك دِمَائِهِمْ وهتك حريمهم وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي أَن
الْجِهَاد وَاجِب مَعَ وجود هَذَا كُله وَلَا فرق بَين الْأَمريْنِ، وكل ذَلِك
جِهَاد وَدُعَاء إِلَى الْقُرْآن وَالسّنة.
وَيُقَال لَهُم: مَا تَقولُونَ فِي سُلْطَان جعل اليَهُود
أَصْحَاب أمره، وَالنَّصَارَى جنده، وألزم المُسلمين الجِزْيَة، وَحمل السَّيْف
على أَطْفَال المُسلمين، وأباح المسلمات للزِّنَا، وَحمل السَّيْف على كل من وجد
من المُسلمين، وَملك نِسَاءَهُمْ وأطفالهم، وأعلن العَبَث بهم، وَهُوَ فِي كل
ذَلِك مقرّ بِالْإِسْلَامِ مُعْلنا بِهِ لَا يدع الصَّلَاة؟!
فَإِن قالُوا: لا يجوز القيام عَلَيْهِ، بل قيل لَهُم أَنه
لَا يدع مُسلما إِلَّا قَتله جملَة وَهَذَا أَن ترك أوجب ضَرُورَة أَلا يبْقى
إِلَّا هُوَ وَحده وَأهل الْكفْر مَعَه، فَإِن أَجَازُوا الصَّبْر على هَذَا
خالفوا الْإِسْلَام جملَة وانسلخوا مِنْهُ.
وَإِن قَالُوا: بل يُقَام عَلَيْهِ وَيُقَاتل، وَهُوَ
قَوْلهم، قُلْنَا لَهُم فَإِن قتل تِسْعَة أعشار الْمُسلمين أَو جَمِيعهم إِلَّا
وَاحِد مِنْهُم وَسبي من نِسَائِهِم كَذَلِك وَأخذ من أَمْوَالهم كَذَلِك فَإِن
منعُوا من الْقيام عَلَيْهِ تناقضوا، وَإِن أوجبوا سألناهم عَن أقل من ذَلِك وَلَا
نزال نحيطهم إِلَى أَن نقف بهم على قتل مُسلم وَاحِدًا أَو على امْرَأَة وَاحِدَة
أَو على أَخذ مَال أَو على انتهاك بشرة بظُلْم، فَإِن فرقوا بَين شَيْء من ذَلِك
تناقضوا وتحكموا بِلَا دَلِيل، وَهَذَا مَا لا يجوز، وَإِن أوجبوا إِنْكَار كل
ذَلِك رجعُوا إِلَى الْحق ونسألهم عَمَّن غصب سُلْطَانه الجائر الفَاجِر زَوجته
وَابْنَته وَابْنه ليفسق بهم أَو ليفسق بِهِ بِنَفسِهِ أهوَ فِي سَعَة من إِسْلَام
نَفسه وَامْرَأَته وَولده وَابْنَته للفاحشة أم فرض عَلَيْهِ أَن يدْفع من أَرَادَ
ذَلِك مِنْهُم؟ فَإِن قَالُوا: فرض عَلَيْهِ إِسْلَام نَفسه وَأَهله أَتَوا بعظيمة
لَا يَقُولهَا مُسلم، وَإِن قَالُوا: بل فرض عَلَيْهِ أَن يمْتَنع من ذَلِك
وَيُقَاتل رجعُوا إِلَى الْحق وَلزِمَ ذَلِك كل مُسلم فِي كل مُسلم وَفِي المَال
كَذَلِك.
والْوَاجِب أَن وَقع شَيْء من الجور وَإِن قل أَن يكلم
الإِمَام فِي ذَلِك وَيمْنَع مِنْهُ فَإِن امْتنع وراجع الْحق وأذعن للقود من
الْبشرَة أَو من الْأَعْضَاء ولإقامة حد الزِّنَا وَالْقَذْف وَالْخمر عَلَيْهِ
فَلَا سَبِيل إِلَى خلعه وَهُوَ إِمَام كَمَا كَانَ لَا يحل خلعه، فَإِن امْتنع من
إِنْفَاذ شَيْء من هَذِه الْوَاجِبَات عَلَيْهِ وَلم يُرَاجع وَجب خلعه وَإِقَامَة
غَيره مِمَّن يقوم بِالْحَقِّ لقَوْله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى
وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَلَا يجوز تَضْييع شَيْء من وَاجِبَات
الشَّرَائِع، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق" انتهى كلامه - رحمه الله-.
· الخلاصة:
تبيّن لنا في هذا البحث:
1- حديث عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في مبايعة النبيّ صلى
الله عليه وسلم حديث مشهور، وقد رواه عنه: ابنه الوليد بن عبادة، وجُنادة بن أبي
أُمية.
2- أما حديث الوليد، فرواه: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعُبيدالله بن
عمر، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن إسحاق، ويزيد بن عبدالله بن الهاد، وسيّار أبو
الحكم، والوليد بن كثير، والنعمان بن داود، كلّهم عن عُبَادَة بن الوَلِيدِ بنِ
عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «بَايَعْنَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَأَنْ لا
نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا
كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ».
وقد اتفقوا على هذا اللفظ. ولا يوجد فيه زيادة: «إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا
عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَان».
3- وأما حديث جُنادة فله روايات مصرية ومدنية وشامية.
وقد تفرد به عند المصريين والمدنيين: بُكير الأشج، عن بُسر بن
سعيد، عن جنادة عن عبادة.
وأهل مصر رووه عنه
بلفظ: «وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ
تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ».
وأهل المدينة رووه
عنه بلفظ: «وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن ترى كفراً براحاً».
وبعض هذه الأحاديث رُويت موقوفة على عبادة، أي أن هذا من قول عبادة
وليس من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأحاديث المصريين كثير منها أصلها مدنيّ، ولهذا نجد أسانيدهم
نازلة.
وخالفهم أهل الشام في لفظه:
فرواه حيّان أبو النضر الأسدي، عن جُنادة، عن عبادة بن الصامت،
بلفظ: «اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثره عليك؛ وإن أكلوا
مالك وضربوا ظهرك».
ورواه عُمير بن هانئ، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة، بلفظ: «عليك
السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، ولا تنازع
الأمر أهله، وإن رأيت أن لك».
4- فرواية عمير بن هانئ عن جنادة ليس فيها: «إِلاَّ أَنْ
تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»، كما أنّ
رواية المصريين التي أخرجها البخاري ومسلم من حديث جنادة ليس فيها هذه الزيادة: «وإن
أكلوا مالك وضربوا ظهرك».
5- زاد ابن ثوبان في روايته عن جنادة: قال عُمير: فحدثني خضير
أو حضير السُّلمي أنه سمع من عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وزاد: «إلا أن يأمرك بإثم بواحاً عندك تأويله من الكتاب».
قال خضير أو حُضير: قلت لعبادة، فإن أنا أطعته؟ قال: "يؤخذ
بقوائمك فتلقى في النار وليجئ هو فلينقذك".
وهذه الزيادة: «إلا أن يأمرك بإثم بواحاً عندك تأويله من الكتاب»
زادها خضير هذا، ولا يعرف عنه أهل العلم إلا هذا، وهذه الزيادة التي زادها على
رواية عمير منكرة، ولا تقبل منه؛ لأن حاله غير معروفة، ولو صحّ أنه كان من خواص
معاوية كما ذكر ابن عساكر فهذا الذي كنا نخشاه من أن هذه اللفظة هي التي جعلت أهل
الشام يطيعون ويسمعون لمعاوية – رضي الله عنه- ولغيره دون مناقشة، وكثيراً ما كان
أهل الشام يتفردون بألفاظ منكرة تخدم المصالح السياسية لأمرائهم.
وهل الأمر بالإثم لا يعترض عليه إلا إذا كان براحاً أو بواحاً؟!!!
فالأصل في المسلم أن لا يفعل المعصية مهما كانت فكيف إذا أُمِرَ
بها!!
6- الراجح في هذه الروايات هي رواية هانئ بن عُمير وهو من أصحاب
جنادة المقدّمين فيه، ولم يرو هذه الزيادة عنه. وقد ثبت أن هذه الزيادة من حُضير
هذا رواها عن عبادة!!
7- رواية أهل الشام أولى بجنادة بن أمية؛ لأنه شامي، سيما وأن
رواية أهل الشام تناقض رواية المصريين والمدنيين؛ فهؤلاء جعلوا رؤية هذا الأمر
(الكفر أو المعصية) متعلق بالرعية، أي إذا رأى الرعية منه كفراً بواحاً! وأما
روايات أهل الشام فجعلوها متعلقة بولي الأمر، أي إذا أمرك ولي الأمر بفعل معصية
لله!!
وقد يفهم البعض أنه لا خلاف بين اللفظين؛ لأن كل ذلك يرجع إلى ولي
الأمر، سواءً ما يُرى منه أم ما يأمر به، وفيه نظر، سيما إذا استطعنا ترجيح لفظ
على آخر بالأدلة.
والذي يترجّح على قواعد الأئمة النقاد روايات أهل الشام، وقد بينت
العلل في ألفاظها، والصواب ما جاء فيها موافق لرواية الوليد بن عبادة عن أبيه،
وأقربها رواية عمير بن هانئ عن جنادة عن عبادة. وترجيحنا لرواية أهل الشام على
غيرها لا يعني تصحيحها، كيف ذلك، وهي منكرة! فلا تصح أي زيادة على حديث الوليد بن
عبادة؛ لأن هذه الزيادات منكرة وهي تخدم الحالة السياسية التي كانت سائدة في
الشام. ولهذا لم تظهر هذه الزيادة إلا في تلك الأوقات، وإلا فقد حصل هناك اقتتال
كثير على الخلافة بعد وفاة عبادة بن الصامت صاحب هذا الحديث الذي توفي سنة (34هـ)،
وكانت بداية الفتن بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - الذي قتل سنة (35هـ)، وصار
اقتتال بعد ذلك بين علي - رضي الله عنه - والخوارج، ولم يعرف الناس هذه الزيادة في
تلك المرحلة، وإنما ظهرت وأمثالها في أيام معاوية وما بعدها.
فيبقى الحديث الصحيح دون زيادة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا
تنازع الأمر أهله»، أي عدم منازعته صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ولا يتفق ذكر
«الكفر البواح» مع شروط البيعة إذ المُبايَع هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف
يخرج منه الكفر!!! فهم يبايعونه على السمع والطاعة وأن لا ينازعوه في الأمر، فكيف
يقول: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان»!! وهل يخرج الكفر ممن
جاء يحاربه ويدعو للتوحيد!!
والزيادة التي في حديث ابن وهب: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم
من الله فيه برهان» قد بينا فيما مضى أنها جاءت في الرواية مفصولة عن الحديث كما
هو في حديث الوليد بن عبادة، وهذا يؤيد أنها ليست في أصل حديث جنادة، والله أعلم.
وعبادة بن الصامت - رضي الله عنه - شهد البيعتين بالعقبة الأولى
والثانية، فالبيعة الأولى بالعقبة، بايعهم النبي صلى الله عليه وسلم بيعة النساء
إلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن يقولوا بالحق لا تأخذهم
لومة لائم، وأن لا ينازعوا الأمر أهله، والبيعة الثانية بالعقبة على حرب الأحمر
والأسود، وضمن لهم بالوفاء بذلك الجنة.
وفي النفس من أن الذي حدث في رواية بكير أنه قد يكون حصل تحريف في
كتابه، فأصل الرواية عند الشاميين: "تؤمروا" أو "تؤمر"،
فيحتمل أن هذه تحرّفت إلى: "تروا" أو "ترى"،
والله أعلم.
وهذه الزيادة في هذا الحديث من الوهم في روايات الأمصار! فإن كانت
محفوظة في حديث المصريين والمدنيين فالأقرب أنها من قول عبادة ليست مرفوعة إلى
النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظ الشاميين أقرب للصواب، فيكون عبادة أوصى جنادة
بما عليه من السمع والطاعة إلا إذا أُمر بمعصية أو كفر براح مخالف لكتاب الله وسنة
نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة أنه لا طاعة في معصية.
وهذه الزيادة المختلف فيها لا توجد في حديث الوليد بن عبادة عن
أبيه، ولا يوجد خلاف في حديثه، وعنده: «... وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ
نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللَّهِ
لَوْمَةَ لائِمٍ».
فهذا النّص هو الصواب، وكأن ما جاء في الرواية عن جنادة تحريف لهذا
النص! ولهذا اختلفوا فيه، ومن هنا أشار سفيان بن عُيينة إلى أن بعضهم زاد: «مَا
لَمْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا» دون تعيينه!
فقول الحقّ كان من شروط البيعة، وهذه الزيادة لا تتفق مع ذلك إذ
قول الحقّ يكون عند الكفر البواح وغيره، ولا يقتصر على الكفر فقط!
وقد طبّق ذلك عبادة لما كان يُنكر على معاوية بعض الأمور، وشكاه
إلى عمر، ثم إلى عثمان بعده، وكان يحتج بهذا الحديث أنه بايع النبي صلى الله عليه
وسلم على قول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم.
ولو كانت البيعة على رؤية الكفر البواح لما أنكر على معاوية وما
رآه في الشام من منكرات، وهذا يُبطل هذه الزيادة الشاذة في الحديث.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
وكتب: خالد الحايك.
شاركنا تعليقك