تدليس
الشيوخ وأثره على الجهالة.
ومناقشة
الأخ (د. عبدالسلام أبو سمحة) فيما كتبه حول هذا الموضوع.
بقلم: د. خالد
الحايك
كنت قد كتبت في رسالتي للدكتوراه التي حملت عنوان: «الراوي المجهول - دراسة نظرية وتطبيقية في
تقريب التهذيب لابن حجر (طبقة التابعين)» مبحثاً
لأسباب الجهالة، وتعرضت فيه لتدليس الشيوخ وأثره عليها.
وها أنا أقدّمه بين يدي طلبة العلم ثم أتبعه بما كتبه الأخ الفاضل (د.
عبدالسلام أبو سمحة) حول هذا الموضوع وتعقبي له على صفحات ملتقى أهل الحديث، وقد
بعثت له ما كتبته هنا فيما يتعلق بهذه المسألة الحديثية حيث كان هو الذي بدأ بطرح
هذا الموضوع، وجاء إظهار ما كتبت تعقيباً عليه.
· أسباب الجهالة:
ذكر أهل العلم للجهالة سَببين:
1-
تعددُ
نعوت الراوي بحيث يخفى على بعض أهل العلم.
2- أن يكون الراوي مقلاً من
الحديث.
قال الحافظ ابن حجر ضمن ذكره
لأسباب الطعن في الراوي: "ثم الجهالة بالراوي: وهي السبب الثامن في الطعن.
وسببها أمران: أحدهما: أن الراوي قد تكثُر نُعُوته من اسم أو كنية أو لقب أو صفة
أو حِرفة أو نَسَب، فيُشتهر بشيء منها، فيُذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض
فيظَنُّ أنه آخر، فيحصل الجهل بحاله. وصنفوا فيه، أي في هذا النوع الموضح لأوهام
الجمع والتفريق... والأمر الثاني: أن الراوي قد يكون مقلاً من الحديث فلا يَكثُرُ
الأخذ عنه. وقد صنّفوا فيه الوُحْدان وهو من لم يرو عنه إلا واحد ولو سُمِّي. فممن
جمعه مسلم والحسن بن سفيان وغيرهما. أو لا يُسمَّى الراوي اختصاراً من الراوي عنه.
كقوله: أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم، أو ابن فلان...".
قلت: والسبب الأول الذي ذكره ابن
حجر هو ما يلجأ إليه بعض الرواة بتدليس اسم الراوي.
قال المناوي في «اليواقيت والدرر» (2/130): "أو يروي عنه جمع فيعرّفه كل واحد بغير
ما عرّفه به الآخر، أو يروي عنه واحد فيعرّفه مرة بهذا ومرة بذاك، فيلتبس على من
لا معرفة عنده، بل وعلى كثير من أهل المعرفة. وأكثر من يفعل ذلك المدلسون، ويسمى
عندهم تدليس الشيوخ".
وقال المعلمي اليماني أثناء
تعليقه على «التاريخ
الكبير» للبخاري
(3/467 – حاشية): "قد يكون الراوي معروفاً مشهوراً، ثُم يأتي في رواية باسم
غير اسمه المشهور، فيظن رجلاً آخر، فيقال: مجهول".
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق
العيد مبيناً مفاسد التدليس قوله: "وفيه مفسدة من جهة أنه قد يخفى فيصير
الراوي المدلَّس مجهولاً لا يُعرف، فيسقط العمل بالحديث مع كونه عدلاً في نفس
الأمر".
وتعقبه ابن حجر في «النكت» (ص251)،
فقال: "قلت: وقد نازعته في كونه يصير مجهولاً عند الجميع، لكن من مفسدته أن
يوافق من يدلس به شهرة راوٍ ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه، فيصير الحديث من أجل
ذلك ضعيفاً، وهو في نفس الأمر صحيح".
قلت: تدليس بعض الأئمة لبعض
الضعفاء – وإن اُتفق على جوازه – إلا أن له مفسدة عظيمة، وهو أن تدليسهم لهؤلاء
الضعفاء قد يخفى على بعض أهل العلم فيورده بعضهم في الثقات على شروطهم في ذلك.
قال المناوي في «اليواقيت والدرر» (2/131): "إن كان الغرض إخفاء ضعفه لكونه لو سمي
عُرف حاله كان ذلك قادحاً في فاعله، لأن فيه إخراجاً لذلك الراوي من حيز القطع
وتطرحه لكونه متروكاً، والتسامح بقبوله لصيرورته مجهولاً".
ومن أمثلة ما دلّسه بعض الرواة
وخَفي على بعض الأئمة:
قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/137): "عبدالله بن فَرّوخ مولى عائشة، روى عن
عائشة، روى عنه أبو عبدالجليل. سمعت أبي يقول ذلك".
وقال ابن أبي حاتم (9/406) أيضاً:
"أبو عبدالجليل، روى عن عبدالله بن فروخ عن عائشة قالت: يؤم القوم أقرؤهم
لكتاب الله. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هو مجهول".
قلت: تَبِع في هذا البخاري؛ فإنه
ذكره في «الكنى»
(ص53)، فقال: "أبو عبدالجليل عن عبدالله بن فروخ عن عائشة قالت يؤم
القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم هجرة، فإن كانوا سواء فليؤمهم أحسنهم وجهاً. قاله
جَنْدل بن وَالِق عن هُشَيم بن بَشير عن أبي عبدالجليل".
قلت: وهذا من البخاري تضعيف
لحديثه، وهو حديثٌ منكرٌ. ولكنهما لم يشيرا إلى أنه هو عبدالله بن مَيْسرة الضعيف
الذي كان يدلسه هشيم! مع أنهما ذكرا ابن ميسرة هذا.
وقد خفي على ابن حبان فذكره في «ثقاته» (7/665)
مع أنه ذكر ابن ميسرة في «الضعفاء» (2/32) وأشار إلى أن هشيماً كان يدلسه، قال: "وهو
الذي يروي عنه هشيم ويقول: حدثنا أبو عبدالجليل، وحدثنا أبو ليلى، وحدثنا أبو
إسحاق الكوفي. لا يحلّ الاحتجاج بخبره".
قال الإمام مسلم في «الكنى» (1/40):
"أبو إسحاق عبدالله بن ميسرة، ويقال: أبو ليلى، ويقال: أبو عبدالجليل، عن
مجاهد وإبراهيم ابن أبي حرة، روى عنه مسلم بن إبراهيم".
وقال ابن عَدي في «الكامل»
(4/171): "عبدالله بن ميسرة أبو ليلى، وهو أبو إسحاق الذي يروي عنه هشيم،
وهشيم يكنيه مرة بأبي إسحاق، ومرة يكنيه أبو ليلى، ومرة يكنيه أبو جرير، ومرة
يكنيه أبو عبدالجليل".
وقال أبو داود في «سؤالاته» (ص183):
قلت لأحمد: أبو عبدالجليل [عن] ابن فروخ حدّث عنه هشيم؟ قال: لا ندري من هو! قال
هشيم مرة: ابن فروخ،إلا أن الذي سمعنا نحن منه فروخ، وكان يحدث عن أبي محمد القرشي،
لا يُدرى من هو".
قال ابن حبّان في «المجروحين» (1/91):
"ولا يجوز الاحتجاج بخبرٍ في روايته كنية إنسان لا يُدرى من هو، وإن كان دونه
ثقة، لأنه يحتمل أن يكون كذّاباً كنى عن ذكره".
قلت: يقصد ابن حبان من كان يدلس
عن الضعفاء، وإلا فإن رواية الثقة عن من لا يعرف تنفعه كما هو متفق عليه، وأما إذا
عُرف الثقة بتدليسه للضعفاء فلا يقبل منه تكنيته كما كان يفعل بقية بن الوليد
وسفيان الثوري وغيرهما.
كان سفيان الثوري إذا حدّث عن
بَحر السَّقَّاء يقول: حدثني أبو الفضل، حتى لا يُعرف، وبحر ليس بشيء. [كتاب
المجروحين:1/192].
· ما كتبه الأخ د. عبدالسلام أبو
سمحة حول تدليس الشيوخ وأثره على الجهالة:
قال د.
عبدالسلام فيما نشره على صفحات ملتقى أهل الحديث تحت عنوان: «من أمثلة تدليس بقية للشيوخ/ مطلب في كتاب جديد طور الطباعة: تدليس
الشيوخ وعلاقته بالجهالة».
"بقية بن
الوليد مشهور ومعروف بالتدليس عموماً، وبتدليس الشيوخ على وجه الخصوص مما جعل ابن
المبارك يقول: (نِعْمَ الرَّجُلُ بقية لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ يَكْنِي الْأَسَامِيَ
وَيُسَمِّي الْكُنَى كَانَ دَهْرًا، يُحَدِّثُنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْوُحَاظِيِّ فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ عَبْدُالْقُدُّوس".
وقال يعقوب بن شيبة: "بقية ثقة حسن الحديث إذا حدث عن المعروفين،
ويُحدث عن قوم متروكي الحديث وعن الضعفاء، ويحيد عن أسمائهم إلى كناهم وعن كناهم
إلى أسمائهم، ويُحدث عمن هو أصغر منه".
ونحن هنا نتناول بالعرض شيخ ممن دلسهم بقية بن الوليد لنرى في ذلك كيف نوع
في تغيير الأسماء والكنى وكيف انطلى ذلك على غير واحد من العلماء فجهلوه بينما هو
شيخ من الشيوخ الضعفاء لبقية.
ويأتي هذا المطلب جزء من كتاب أعددته بعنوان: "تدليس الشيوخ علاقته
بالجهالة". نسأل الله أن يخرج قريباً.
عمر بن أبي عمر:
قال المزي مُعرفاً به: "عُمَر بن أَبي عُمَر الكلاعي، أبو محمد الشامي
الدمشقي، ويُقال: هو أبو أحمد بن علي الكلاعي، رَوَى عَن: عَمْرو بن شعيب، ومكحول
الشامي، وأبي الزبير المكي. رَوَى عَنه: بقية بن الوليد".
وبالنظر في ترجمته في كتب الرجال نجده عُرف بأسماء وكنى عديدة نحصرها سعياً
لوقوف على حقيقة شخصيته، وهي على النحو الآتي:
أولاً: "أبو أحمد الكلاعي الدمشقي" و"أبو
أحمد بن علي الكلاعي".
ويتضح ذلك من خلال أقوال العلماء الآتية:
- ابن عساكر في ترجمة أبي أحمد بن علي الكلاعي، حيث قال: "قال أبو أحمد
الحاكم: أبوأحمد الكلاعي الدمشقي روى عنه بقية بن الوليد حديثاً لا يتابع عليه.
قال الحافظ أبو القاسم: كذا ذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لم يقف على اسمه،
وعندي أنه عمر بن أبي عمر الكلاعي".
- المزي، حيث قال: "له ذكر في ترجمة أبي أحمد بن علي الكلاعي".
وفي ترجمة أبي أحمد بن علي الكلاعي كرر ما ذكره في ترجمة عمر بن أبي عمر الدمشقي،
ليدل ذلك على أنها لديه واحد. ولعل الأبلغ في ذلك ما فعله المزي في تحفة الأشراف
إذ قال: "أبو أحمد بن عليَ الكلاعيُّ الدمشقيُّ، عن أبي الزبير، عن
جابر". وأورد حديث ابن ماجه: "تَرِّبوا صُحفكم ....." الذي يُروى
عن عمر بن أبي عمر. وسيأتي ذكره. وهذا لا يدع مجالاً للشك أن أبا أحمد إنما هو عمر
بن أبي عمر.
- ابن حجر، والذي تبع المزي، فقال في ترجمة عمر بن أبي عمر: "له ذكر
في ترجمة أبي أحمد الكلاعي". ونقل جزم ابن عساكر السابق.
- الذهبي، قال في ترجمة عمر بن أبي عمر: "ويقال: إنما هو أبو أحمد بن
علي الكلاعي الذي روى له ابن ماجه حديث: "تَرِّبوا الكتاب، فإن التراب
مبارك"، وكذا سماه ولم يرو عنه غير بقية".
ثانياً: أبو محمد الكلاعي.
- ويظهر ذلك في ترجمته الأصلية التي أوردها المزي وتبعه في ذلك ابن حجر فقد
ذكرا كنيته ضمن اسمه فقالا: "عُمَر بن أَبي عُمَر الكلاعي، أبو محمد الشامي
الدمشقي".
- وقد نص على ذلك ابن عساكر حين قال: "أبو محمد الكلاعي حدث عن عمرو
بن شعيب روى عنه بقية هو عمر بن أبي عمر".
ثالثاً: عمر بن موسى الكلاعي.
وهو من الأسماء التي عرفت لهذا الراوي، عند ابن حجر العسقلاني، حيث قال:
"عمر بن موسى الكلاعي، يأتي في الكنى في أبي أحمد بن علي".
وأبو أحمد هو عمر كما سبق. ولم أقف للنقاد على قول فيه سوى ما ذكره ابن حجر
هنا، ولم يورده المزي في أصل التهذيب.
رابعاً: عمر الدمشقي.
ويظهر هذا في أقوال:
- ابن عدي، فقد أورد لعمر بن أبي عمر ترجمة وافية، أورد فيها أحاديث عدة من
رواية بقية عن عمر الدمشقي مما يدلل على أنه عمر بن أبي عمر. وسيأتي ذكرها.
- ابن عساكر، وفعل بنحو ما فعله ابن عدي.
- أما الذهبي فقد أفرد لعمر الدمشقي ترجمة في ميزان الاعتدال قال فيها:
"عمر الدمشقي. لا يعتمد عليه، ولا يعرف.
ابن راهويه: أخبرنا بقية عن عمر الدمشقي عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حمل بضاعته بيده برئ من الكبر)".
دون الإشارة إلى عمر بن أبي عمر. وسيأتي بيان ان هذا من أحاديث بقية عنه.
- ابن حجر، وقد وافق الذهبي فيما ذهب إليه، وزاد عليه: "لعله الوجيهي".
قلت:
على ضوء ما سبق يتبين لنا أن عمر بن أبي عمر تعددت أسمائه وكناه وهي:
- أبو أحمد الكلاعي.
- وأبو أحمد بن علي الكلاعي.
- وأبو محمد الكلاعي.
- وعمر بن موسى الكلاعي.
- وعمر الدمشقي.
وهذه الأسماء من صنيعة بقية بن الوليد والأحاديث التي رويت بها تبين ذلك.
الأحاديث التي رواها بقية عن عمر بن أبي عمر بأسمائه
التي ذكرنا:
- حديث: "لا زكاة في حجر". رواه بقية فقال: عن عمر الكلاعي، وفي
رواية أخرى قال: عن عمر بن أبي عمر الكلاعي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- حديث: "لا كفالة في حد". رواه بقية فقال: عن عمر الدمشقي، وفي
رواية أخرى قال: عن أبي محمد الكلاعي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال...
- حديث "تَرِّبوا صفحكم أنجحُ لها، إنّ التُّراب مباركٌ". رواه
بقية فقال: عن عمر بن أبي عمر، وفي رواية أخرى قال: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ
الدِّمَشْقِيِّ، من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- حديث "يعلق أحدكم السوط حيث يراه أهل البيت فإن ذلك يردعهم، أو
يخيفهم". رواه بقية عن عمر بن أبي عمر عن أبي الزبير عن جابر: أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال...
- حديث أنس بن مالك قال: "يا رسول الله الحائض تقرب إلى الوضوء في
الإناء فتدخل يدها فيه قال نعم لا بأس به ليس حيضها في يدها". رواه بقية
فقال: عن عمر الدمشقي، وقال في رواية أخرى: عن عُمَرَ بْنِ مُوسَى.
- حديث ابنِ عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلاَةً فَذَكَرَهَا وَهُوَ فِي صَلاَةٍ
مَكْتُوبَةٍ فَلْيَبْدَأْ بِالَّتِي هُوَ فِيهَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا صَلَّى
الَّتِي نَسِيَ". رواه بقية قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ بنُ أَبِي عُمَرَ عن
مكحول به.
- حديث: "ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم على الدابة ثلثي ما
أصابت، وَهُو راكبه وضمن الردف الثلث". رواه بقية قال حَدَّثنا أبو أحمد رجل
كلاعي من أهل دمشق عن مكحول عن واثلة بن الأسقع به.
- حديث: "لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ
جُعِلَتْ لَهُ مَأْدُبَةٌ، فَأَكَلَ مُتَّكِئًا وأَطْلَى، فَأَصَابَتْهُ الشَّمْسُ
فَلَبِسَ الظُّلَّةَ". رواه بَقِيَّةُ بن الْوَلِيدِ عَنْ عُمَرَ
الدِّمَشْقِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ واثلة بن الأسقع به.
- حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأكل في السوق
دناءة". رواه بقية عن عمر الدمشقي عن القاسم به. وفي رواية رواه بقية عن عمر
بن موسى. وفي رواية أخرى قال بقية: عن عمر بن موسى الوجيهي.
- حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حمل
بضاعته فقد بُرِّئ من الكبر". رواه بقية عن عمر بن موسى، وقال في رواية أخرى:
عن عمر الدمشقي عن القاسم به.
أقوال العلماء في عمر بن أبي عمر:
تباينت فيه الآراء على النحو الآتي:
* الرأي الأول: الجزم في كونه عمر بن موسى الوجيهي. وصاحب هذا الرأي هو أبو
حاتم الرازي، ويظهر ذلك في قول ابنه: "وسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ
بَقِيَّةُ عَنْ عُمَرَ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ
الأَسْقَعِ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ جُعِلَتْ لَهُ
مَأْدُبَةٌ، وَأَكَلَ مُتَّكِئًا، وَاطَّلَى بِالنَّوْرَةِ، وَأَصَابَتْهُ
الشَّمْسُ وَلَبِسَ الْبَرْطَلَةَ. قَالَ أَبِي: هُوَ عَمْرُو بنُ مُوسَى
الْوَجِيهِيُّ، وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِل".
* الرأي الثاني: الشك في كونه عمر بن موسى الوجيهي. ومن ذهب هذا المذهب:
- العلائي، حيث قال في حديث جابر "تَرِّبوا صفحكم أنجحُ لها، إنّ
التُّراب مباركٌ": "وأبو أحمد هذا مجهول، وقيل إنه عمر بن موسى الوجيهي،
وهو كذاب منكر الحديث".
- الذهبي، حيث قال في ترجمته: "وأحسبه عمر بن موسى الوجيهي، ذاك الهالك".
- ابن حجر، حيث قال في ترجمة عمر الدمشقي: "لعله الوجيهي".
قلت: لكنه لم يجزم أن عمر الدمشقي هو عمر بن أبي عمر الكلاعي. وذهب في
تلخيص الحبير إلى تجهيله تعقيباً على حديث ابن عباس السابق تخريجه، حيث قال:
"وفيه بقية عن عمر بن أبي عمر وهو مجهول".
* القول بجهالته. وممن قال بذلك:
- الإمام أحمد بن حنبل, قال أبو طالب: "سألت أحمد بن حنبل في السجن عن
حديث يزيد بن هارون، عن بقية، عن أبي أحمد، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "إذا كتبت كتاباً فتربه، فإنه أنجح للحاجة والتراب
مبارك" فقال: هذا حديث منكر، وما روى بقية عن بحير بن سعيد، وصفوان والثقات
يكتب، وما روى عن المجهولين لا يكتب". فهو بذلك يجهل أبا أحمد.
- الدارقطني في تعليقه على حديث ابن عباس السابق قال: "عمر بن أبي عمر
مجهول".
- ابن عدي، قال: "عمر بن أبي عمر الكلاعي الحميري الدمشقي ليس
بالمعروف حدث عنه بقية منكر الحديث عن الثقات".
وقال ابن عدي بعد إيراده جملة من أحاديث بقية عنه: "وهذه الأحاديث
بهذه الأسانيد غير محفوظات وعمر بن أبي عمر مجهول ولا أعلم يروي عنه غير بقية كما
يروي عن سائر المجهولين".
- البيهقي، معقباً على حديث "لا كفالة في حد". قال:
"تَفَّرَدَ بِهِ بَقِيَّةُ عَنْ أَبِى مُحَمَّدٍ عُمَرَ بْنِ أَبِى عُمَرَ
وَهُو مِنْ مَشَايِخِ بَقِيَّةَ الْمَجْهُولِينَ وَرِوَايَاتُهُ مُنْكَرَة".
- ابن الجوزي، قال معقباً على حديث جابر: "بقية وكان مدلسا يروي عن
الضعفاء والمجاهيل رواه عن عمر بن أبي عمر وهو مجهول"، وقد نقل في التحقيق
قول البيهقي السابق مؤيداً له.
- الزيلعي، فقد نقل أقوال ابن عدي والبيهقي دون التعقيب عليها.
- ابن حجر، قال: "عمر ابن أبي عمر الكلاعي بفتح الكاف ضعيف من شيوخ
بقية المجهولين".
قال: "أبو أحمد ابن علي الكلاعي الدمشقي قيل هو عمر ابن أبي عمر مجهول
من مشايخ بقية".
قال الذهبي: "أبو أحمد الكلاعي عن مكحول، وعنه بقية فيه جهالة، وأتى
بخبر منكر".
- المباركفوي في التحفة قال: "وأبو أحمد الدمشقي مجهول".
الرأي المختار:
نتساءل هنا: هل عمر هذا هو من المجاهيل حقيقة؟ أم أنه من الرواة الذين
دلسهم بقية تدليس شيوخ وأخفى عنا اسمه الحقيقي؟ واخترع وانتقى هذه الأسماء والكنى؛
ذلك أنه لم يرو أحد عن هذه الأسماء والكنى سوى بقية؟
- من خلال التتبع والبحث وجدت أن بقية دلس هذا الراوي تدليس شيوخ ويتضح ذلك
من خلال الكشف عن علاقته بعمر بن موسى الوجيهي والتي نبينها على النحو الآتي:
أولاً: سبق بيان أن عمر بن أبي عمر أُطلق عليه عمر بن موسى، كما نبه عليه
ابن حجر.
ثانياً: تبين مما سبق أيضاً أن عمر بن أبي عمر سمي بعمر الدمشقي، وقد نص
أبو حاتم الرازي على أن عمر الدمشقي هو الوجيهي كما سبق. ومما يؤكد ذلك رواية بقية
لأحاديث عدة عنهما بحكاية الإسناد ذاتها؛ وهي:
- حديث: "الأكل في السوق دناءة". كما سبق تخريجه.
- حديث: "من حمل بضاعته فقد بُرِّئ من الكبر". كما سبق تخريجه.
- حديث: "الحائض تقرب إلى الوضوء في الإناء فتدخل يدها فيه قال نعم لا
بأس به ليس حيضها في يدها. سبق تخريجه.
من هنا نفهم تنبيه ابن حجر على العلاقة بينهما بقوله : "عمر الدمشقي:
لا يعتمد عليه، ولا يعرف، لعله الوجيهي".
ثالثاً: أن الناظر في رواية بقية عن عمر بن أبي عمر وعن عمر بن موسى
الوجيهي يجد تشابهاً كبيراً في حكاية الإسناد عنهما، نوضحها على النحو الآتي، فقد
رويا:
- عن القاسم عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
- وعن مكحول عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وعن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- وعن مكحول عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الاتفاق ليس وليد الصدفة لا سيما إذا ما عرف أن بقية كان يدلس تدليس
الشيوخ.
رابعاً: نص الذهبي على هذا الاحتمال في ترجمة عمر بن أبي عمر بقوله:
"أحسبه عمر بن موسى الوجيهي، ذاك الهالك". وهذا ما نرجحه على ضوء ما سبق".
انتهى.
د. عبدالسلام أحمد أبو سمحة
· تعقبي على كلام د. أبو سمحة:
فعلّقت على كلام أخينا د. عبدالسلام، فقلت:
جزاك الله خيراً يا دكتور عبدالسلام.
واسمح لنا ببعض الملحوظات:
أولاً:
فكرة مثالك هذا قائمة على أن الراوي الذي يدلس شيوخه يؤدي إلى اختراع راو
آخر يظنه بعض أهل العلم غير هذا الشيخ الذي دلسه تلميذه، والتنبيه على هذا جيد لا
شك فيه، وكنت قد تكلمت على هذا في رسالتي للدكتوراة بحمد الله، وسترى مبحثاً في
ذلك عند نهاية هذه الملحوظات إن شاء الله تعالى – وقد تقدّم نشرها-.
والملاحظ على مثالك هذا أن تدليس بقية لشيخه انطلى على غير واحد من أهل
العلم فجهلوه!!
قلت أنت – بارك الله فيك -: "ونحن هنا نتناول بالعرض شيخ ممن دلسهم
بقية بن الوليد لنرى في ذلك كيف نوع في تغييرالأسماء والكنى وكيف انطلى ذلك على
غير واحد من العلماء فجهلوه بينما هو شيخ من الشيوخ الضعفاء لبقية"
.
أقول: لم ينطل ذلك على أهل العلم، بل عرفوه، وهو ضعيف عندهم ومجهول كذلك،
وتضعيفهم له من خلال المنكرات التي رواها عنه بقية، فهو من شيوخه المجاهيل، وبهذه
المنكرات ضعفوه.
فهم لم يعرفوه حقيقة، فبقي من شيوخ بقية المجاهيل الذين تفرد عنهم!! وهؤلاء
حكمهم هو الضعف عند الأئمة النقاد، فلا فرق بين أن يقولوا عنه: "مجهول"
أو "منكر الحديث"، أو: "منكر الحديث، من شيوخ بقية
المجهولين".
قال ابن عدي: "ليس بالمعروف، حدث عنه بقية، منكر الحديث عن الثقات".
وقال البيهقي في حديث لعمر هذا: "تفرد به بقية عن أبي محمد عمر بن أبي
عمر الكلاعي، وهو من مشايخ بقية المجهولين، ورواياته منكرة".
وقال ابن حجر في التقريب: "عمر بن أبي عمر الكلاعي، بفتح الكاف، ضعيف
من شيوخ بقية المجهولين".
والذي يخشاه أهل العلم من تدليس الشيوخ هو أن يكني الراوي شيخه فيتشابه مع
كنية بعض أهل العلم الثقات، فهذا الذي قد ينطلي على بعض أهل العلم لهذا التشابه،
وهذا هو الذي يقصده من يُدلِّس الشيوخ، كما كان يفعل عطية العوفي، فإنه كان يكني
محمد بن السائب الكلبي "أبا سعيد" وكان يقول: "حدثني أبو
سعيد" - يريد به الكلبي، فيتوهمون أنه أراد أبا سعيد الخدري.
قال يعقوب بن سفيان: "وبقية يذكر بحفظ إلا أنه يشتهي الملح والطرائف
من الحديث، ويروي عن شيوخ فيهم ضعف، وكان يشتهي الحديث فيكني الضعيف المعروف باسم،
ويسمي المعروف بالكنية باسمه".
قلت: وهؤلاء الذين يكنيهم بقية هم من شيوخه المجاهيل الذين لا يعرفون،
ومنهم عمر بن أبي عمر هذا.
وأهل العلم متنبهون لهذا.
روى ابن عدي في "الكامل" من طريق أحمد بن أبي يحيى البغدادي قال:
سألت أحمد بن حنبل في السجن عن حديث يزيد بن هارون عن بقية عن أبي أحمد عن أبي
الزبير عن جابر أن النبي قال: (إذا كتبت كتاباً فتربه فإنه أنجح للحاجة، والتراب
مبارك)؟
فقال: "كناه بقية (أبو محمد)، وهذا منكر! وما روى بقية عن بحير وصفوان
والثقات يكتب، وما روى عن المجهولين لا يكتب". [في مطبوع الكامل النص فيه
تحريف قد أصلحته بحمد الله].
قلت: وقد سماه بقية في رواية أخرى فعرفنا من هو:
أخرجه ابن عدي في كامله من طريق كثير بن عبيد: حدثنا بقية عن عمر بن أبي
عمر الكلاعي، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله : (إذا كتب أحدكم كتابا
فليتربه فإن التراب مبارك وهو أنجح للحاجة).
قلت: فهذا يدل على أن بقية كان يسميه أحياناً ويكنيه أحياناً أخرى.
قال إسحاق بن إبراهيم: قال ابن المبارك: "أعياني بقية، يسمي الكنى
ويكني الأسماء".
قلت: فهذا يدل على أنه كان يدلس شيوخه، لأنهم غير معروفين ورواياتهم منكرة،
والذي حمله على ذلك هو شهوة الحديث، مع ما ذكرناه أنه كان يكني أحياناً ويسمي
أحياناً أخرى.
ثانياً:
قول الدكتور: "على ضوء ما سبق يتبين لنا أن عمر بن أبي عمر تعددت
أسمائه وكناه وهي:
- أبو أحمد الكلاعي.
- وأبو أحمد بن علي الكلاعي.
- وأبو محمد الكلاعي.
- وعمر بن موسى الكلاعي.
- وعمر الدمشقي.
وهذه الأسماء من صنيعة بقية بن الوليد والأحاديث التي رويت بها تبين ذلك.
نتساءل هنا: هل عمر هذا هو من المجاهيل حقيقة؟ أم أنه من الرواة الذين
دلسهم بقية تدليس شيوخ وأخفى عنا اسمه الحقيقي؟ وأخترع وانتقى هذه الأسماء والكنى؛
ذلك أنه لميرو أحد عن هذه الأسماء والكنى سوى بقية؟
- من خلال التتبع والبحث وجدت أن بقية دلس هذا الراوي تدليس شيوخ ويتضح ذلك
من خلال الكشف عن علاقته بعمر بن موسى الوجيهي والتي نبينها على النحو الآتي".
قلت: أضف إلى هذا أيضاً: "عمر الكلاعي" كما هو في ترجمته في حديث
عند ابن عدي (5/22).
والسؤال الذي طرحه الدكتور لا أثر له حقيقة! لأن بقية لو سماه أو كناه
فيبقى في دائرة الجهالة، ومعرفة اسمه لا تخرجه من هذه الدائرة، وكأن الدكتور
الفاضل اغتر بتضعيف بعض أهل العلم له، وقد بينا أن هذا التضعيف هو بناء على ما
يرويه من منكرات، وقد سبق أن نقلنا عن أهل العلم أنهم ضعفوه وجهلوه في آن واحد كما
فعل ابن عدي.
نعم، بقية دلسه تدليس شيوخ، فكان ماذا؟!
فيبقى مجهولاً سواء ذكر اسمه أم كناه.
وكلام دكتورنا الفاضل كان يتجه لو كان عمر بن أبي عمر الدمشقي هذا هو نفسه
عمر بن موسى الوجيهي؛ لأن الوجيهي معروف عند أهل العلم بالكذب.
والدكتور نفسه يرى أن من دلسه بقية على هذه الأسماء هو نفسه الوجيهي، وعليه
بنى كل كلامه!!
ولكن الأمر ليس كذلك، فعمر بن أبي عمر الكلاعي غير عمر بن موسى الوجيهي،
وقد اغتر الدكتور – سدده الله – بكلام الذهبي وغيره مع أن كلامهم ليس صريحاً وإنما
هو على الظن، وكذلك اغتر بأن بعض الأحاديث التي رواها بقية عن عمر بن أبي عمر
رواها أيضاً عن عمر بن موسى الوجيهي!
ولكن الأمر ليس كذلك، والذي حصل أنه وقعت بعض الأوهام في هذه الأحاديث،
وسأفصل الأمر بإذن الله.
والعلماء يفرقون بين عمر بن أبي عمر الكلاعي وبين عمر بن موسى الوجيهي.
فالأول من شيوخ بقية المجهولين، والثاني روى عنه غير واحد وهو معروف بالكذب.
قال الدكتور الفاضل: "ثانياً: تبين مما سبق أيضاً أن عمر بن أبي عمر
سمي بعمر الدمشقي، وقد نص أبو حاتم الرازي على أن عمر الدمشقي هو الوجيهي كما سبق.
ومما يؤكد ذلك رواية بقية لأحاديث عدة عنهما بحكاية الإسناد ذاتها؛ وهي:
- حديث: "الأكل في السوق دناءة". كما سبق تخريجه.
- حديث: "من حمل بضاعته فقد بُرِّئ من الكبر". كما سبق تخريجه.
- حديث: "الحائض تقرب إلى الوضوء في الإناء فتدخل يدها فيه قال نعم لا
بأس به ليس حيضها في يدها. سبق تخريجه.
من هنا نفهم تنبيه ابن حجر على العلاقة بينهما بقوله : "عمر الدمشقي:
لا يعتمد عليه، ولا يعرف، لعله الوجيهي".
ثالثاً: أن الناظر في رواية بقية عن عمر بن أبي عمر وعن عمر بن موسى
الوجيهي يجد تشابهاً كبيراً في حكاية الإسناد عنهما، نوضحها على النحو الآتي، فقد
رويا:
- عن القاسم عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
- وعن مكحول عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وعن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- وعن مكحول عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الاتفاق ليس وليد الصدفة لا سيما إذا ما عرف أن بقية كان يدلس تدليس
الشيوخ.
رابعاً: نص الذهبي على هذا الاحتمال في ترجمة عمر بن أبي عمر بقوله:
"أحسبه عمر بن موسى الوجيهي، ذاك الهالك". وهذا ما نرجحه على ضوء ما سبق".
أقول:
1- نسب الدكتور الفاضل إلى أبي حاتم أنه يرى أن عمر بن أبي عمر هذا هو عمر
بن موسى الوجيهي!! وقال بأن أبا حاتم جزم بذلك!! وقد اعتمد الدكتور على سؤال ابنه
له: قال ابن أبي حاتم في "العلل": سألت أبي عن حديث رواه بقية عن عمر
الدمشقي عن مكحول عن واثلة بن الأسقع: (أن رسول الله قال يوم خيبر جعلت له مأدبة
وأكل متكئاً واطلى بنورة وأصابته الشمس ولبس البرطلة)؟
قال أبي: "هو عمر بن موسى الوجيهي، وهذا حديث باطل".
قلت: أبو حاتم جزم بأن "عمر الدمشقي" في هذا الإسناد هو:
"عمر بن موسى الوجيهي"، فأين يجد الدكتور أن أبا حاتم يرى أنه "عمر
بن أبي عمر الكلاعي"؟! فلو أن أبا حاتم قال: "هو عمر بن أبي عمر وهو عمر
بن موسى الوجيهي"، لكان قول أخينا الدكتور صواباً.
ولكن الدكتور عبدالسلام - وفقه الله - بنى هذا على ما استقر عليه رأيه من
أن عمر بن أبي عمر هو نفسه عمر بن موسى الوجيهي، وهذا لا يصح، فكيف إذا أضفنا أن
ابن عساكر – وهو من أعلم الناس بالشاميين – يخالف أبا حاتم في رأيه.
فهو يرى أن عمر الدمشقي في هذا الإسناد آخر، وهو "عمر بن سليمان
الدمشقي".
ترجمه في "تاريخ دمشق" (45/78) فقال: "عمر بن سليمان، من
أهل دمشق من أصحاب مكحول، روى عن مكحول وشهر بن حوشب وسعيد بن سنان، روى عنه بقية
وعباد بن كثير وميسرة بن عبدالله".
ثم ساق له هذا الحديث من طريق موسى بن أيوب، قال: حدثنا بقية عن عمر بن
سليمان الدمشقي، قال: أخبرنا مكحول عن واثلة بن الأسقع قال: (لما فتح رسول الله
خيبر جعلت له مائدة فأكل متكئا وأطلى وأصابته الشمس ولبس الظلة).
ثم ساق له حديثاً آخر من طريق هشام بن خالد، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا
عمر الدمشقي، قال: حدثني سعيد بن سنان عن عمرو بن عريب عن أبيه عن جده عن رسول الله
أنه قال في قوله: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} قال: (هم الجن ولن
يخبل الشيطان الإنسان في داره فرس عتيق).
وهذا الحديث رواه أبو الشيخ في كتاب "العظمة" (5/1645) من طريق
موسى بن أيوب عن بقية عن سعيد بن سنان عن يزيد بن عبدالله بن عريب عن أبيه عن جده
عن النبي.
وابن عدي في "الكامل" (3/360) من طريق كثير بن عبيد: حدثنا بقية
عن سعيد بن سنان عن عمرو بن عريب عن أبيه عن جده عن النبي.
فلم يذكرا: "عن عمر الدمشقي" كما هو عند ابن عساكر، وكذلك هناك
اختلاف في اسم شيخ سعيد بن سنان!
وعلى كل حال فما ذكره ابن عساكر هو الأصوب، وهو: "عمر بن سليمان
الدمشقي"، وهو أحد شيوخ بقية المجهولين، وأحاديثه باطلة.
2- وأما ما استدل به دكتورنا الفاضل مما جاء في إسناد حديث: (الأكل في
السوق دناءة)، فأقول:
هذا الحديث قد اتفق ابن عدي والعقيلي والطبراني وابن عساكر على أنه من
رواية عمر بن موسى بن وجيه الوجيهي، وهو عندهم غير عمر بن أبي عمر الكلاعي شيخ
بقية المجهول.
أخرجه ابن عدي في "كامله" والعقيلي في "الضعفاء"
والطبراني في "الكبير" كلهم من طريق محمد بن سليمان لوين قال: حدثنا
بقية عن عمر بن موسى الوجيهي عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله : (الأكل
في السوق دناءة).
ورواه ابن عساكر في "تاريخه" في ترجمة الوجيهي أيضاً، وساقه من
طريق إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا بقية بن الوليد: أخبرني عمر الدمشقي، عن القاسم
عن أبي أمامة عن النبي قال: (الأكل في السوق دناءة).
قلت: فهنا ورد في الإسناد "عمر الدمشقي"، وهو عمر بن موسى
الوجيهي لأن ابن عساكر أورده في ترجمته، ومن رواه غيره ذكر اسمه كاملاً، وهؤلاء
يعرفون أن الوجيهي معروف وليس بمجهول، ولذلك فرقوا بينه وبين عمر بن أبي عمر شيخ
بقية المجهول.
وهذا الحديث رواه سويد بن سعيد عن بقية فلم يضبطه لأنه أكبر من بقية، فقد
ذكر ابن عدي في ترجمة بقية" (رواية من هو أكبر سناً من بقية وأقدم موتاً عن
بقية من الأئمة والثقات)، وساق هذا الحديث من طريق سويد بن سعيد: حدثنا بقية عن
جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي.
ثم ساقه أيضاً من طريق سويد بن سعيد: حدثنا بقية: حدثني من سمع القاسم عن
أبي أمامة قال: قال رسول الله: (الأكل في السوق دناءة).
قلت: لم يضبطه سويد لأنه أكبر من بقية، وعادة الشيوخ أنهم إذا سمعوا من
تلاميذهم فإنهم لا يضبطون ما يسمعونه على قلة ما يسمعون منهم؛ لأن العادة هي أن
يسمع التلميذ من الشيخ، ومن سمع من تلميذه فهذا قليل.
وبناء على هذا كله يتبين لنا أنه لم يذكر أحد من أهل النقد أن عمر بن موسى
الوجيهي هو عمر بن أبي عمر، وأن بقية دلّسه!!
3- وأما حديث: (من حمل بضاعته)، فأقول:
أورده ابن عدي في ترجمة عمر الوجيهي من طريق يحيى بن عثمان، قال: حدثنا
بقية عن عمر بن موسى عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله: (من حمل بضاعته
بيده فقد بريء من الكبر).
ورواه سويد بن سعيد قال: حدثنا بقية عن عمر بن موسى عن القاسم عن أبي
أمامة، به.
وهذا مما توبع سويد عليه.
فالحديث حديث عمر بن موسى الوجيهي ولا دخل لعمر بن أبي عمر المجهول فيه.
وقول الأخ الدكتور: "من هنا نفهم تنبيه ابن حجر على العلاقة بينهما
بقوله: "عمر الدمشقي: لا يعتمد عليه، ولا يعرف، لعله الوجيهي".
أقول: هذا قول الذهبي في الميزان، ومن المعروف أن ابن حجر ينقل في اللسان
قول الذهبي ثم يزيد عليه أو يعقب، وهذا القول منهما صحيح، وهما لم يذهبا إلى أنه
عمر بن أبي عمر.
قال الذهبي في "ميزانه": "عمر الدمشقي: لا يعتمد عليه ولا
يعرف، لعله الوجيهي"، ثم ساق له عن ابن راهويه، قال: أخبرنا بقية عن عمر
الدمشقي عن القاسم عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله: (من حمل بضاعته بيده برىء من
الكبر).
قلت: وهذا حديث الوجيهي، والدكتور الفاضل حمل كل حديث فيه "عمر
الدمشقي" على أنه "عمر بن أبي عمر الكلاعي" شيخ بقية المجهول!!!
وهذا ليس بصواب وإنما هو "عمر بن موسى بن وجيه الوجيهي" الهالك المعروف.
وبقية كان إذا حدث عنه ذكر باسمه ونسبه ولم يكن يكنيه كعادته فيمن أراد تدليسه.
4- وأما حديث: (الحائض تقرب...)، فأقول:
أورده ابن عدي في "كامله" وابن عساكر في "تاريخه" في
ترجمة (عمر بن أبي عمر الكلاعي الحميري الدمشقي).
وروياه من طريق محمد بن عمرو بن حنان، قال: حدثنا بقية: حدثنا عمر الدمشقي:
حدثنا مكحول عن أنس بن مالك عن النبي قال: يا رسول الله، الحائض تقرب إلى الوضوء
في الإناء فتدخل يدها فيه؟ قال: (نعم، لا بأس به ليس حيضها في يدها).
قلت: ليس هناك دليل قوي عندهما على أنه ابن أبي عمر، والأشبه أنه عمر بن
موسى الوجيهي، وقد سماه محمد بن المصفى كذلك.
رواه الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق محمد بن مصفى: حدثنا
بقية بن الوليد عن عمر بن موسى عن مكحول عن أنس، به.
وقد روى ابن مصفى قال: حدثنا بقية عن عمر الدمشقي عن مكحول عن أنس أنه سأل
رسول الله فقال: يا رسول الله، تخرج الحائض الخمرة من المسجد؟ قال: (نعم وتمر إن
كان طريقها فيه).
ورواه الطبراني أيضاً في "مسند الشاميين" من طريق محمد بن مصفى:
حدثنا بقية بن الوليد عن عمر بن موسى عن مكحول، به.
فالحديث حديث عمر بن موسى الوجيهي لا حديث عمر بن أبي عمر.
ثالثاً:
وأما التشابه في رواية بقية عن عمر بن أبي عمر وعن عمر بن موسى الوجيهي،
فهذا لا يدل على أنهما واحد، فكلاهما من شيوخ بقية، وكلاهما دمشقي، وكلاهما حديثه
منكر، وأمثال هؤلاء يحدثون عن شيوخ لم يسمعوا منهم، وقد ثبت ذلك على الوجيهي،
أفنستبعد أن يفعل ذلك ذاك المجهول شيخ بقية! فيروي عن مكحول والقاسم وأبي الزبير
وغيرهم!!
فالتشابه في روايتهما عن بعض المشايخ لا يدل بحال على أنهما واحد. ثم إن
عمر بن موسى بن وجيه الوجيهي أبا حفص هذا اسمه ونسبه وكنيته فإن كان هو نفسه عمر
بن أبي عمر الكلاعي، فكيف يكون بقية قد دلس اسمه؟!!!
وعليه كيف سيكون اسمه الأصلي الكامل؟ وكذلك نسبه وكنيته؟
هل يكون: عمر بن موسى (أبي عمر) بن وجيه الوجيهي الكلاعي، أبو محمد وأبو أحمد
وأبو حفص؟!
وأين نضع هذا الاسم: أبو أحمد بن علي الكلاعي؟!
مع العلم أن الدارقطني ذهب إلى أن أصل عمر الوجيهي كوفي، ولكن ابن عساكر
وهمه في ذلك.
فالحاصل أنه يمتنع أن يكون عمر بن أبي عمر المجهول هو نفسه عمر بن موسى الوجيهي
الكذاب.
قال ابن عساكر في "تاريخه": "عمر بن أبي عمر أبو محمد
الكلاعي، حدث عن عمرو بن شعيب وأبي الزبير ومكحول، روى عنه بقية بن الوليد".
ثم ساق له من طريق عمار بن نصر أبي ياسر، قال: حدثنا بقية عن عمر بن أبي
عمر عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله: (تربوا الكتاب فإن التراب مبارك).
ورواه من طريق محمد بن عمرو بن حنان: حدثنا بقية، قال: حدثني عمر بن أبي
عمر الكلاعي عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله: (إذا كتب أحدكم كتاباً
فليتربه فإن التراب مبارك وهو أنجح لحاجته).
ثم ساق له من طريق أبي همام الوليد بن شجاع: حدثنا بقية: حدثني أبو محمد
الكلاعي.
ومن طريق كثير بن عبيد: حدثنا بقية، عن عمر الدمشقي: حدثني عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: أنّ النبي قال: (لا كفارة في حد).
ونقل قول ابن عدي: "عمر بن أبي عمر الدمشقي منكر الحديث عن الثقات".
وقول البيهقي: "تفرد به بقية عن أبي محمد بن أبي عمر الكلاعي الدمشقي،
وهو من مشايخ بقية المجهولين، وروايته منكرة، والله أعلم".
ثم ختم ترجمته بقول ابن عدي: "عمر بن أبي عمر الكلاعي الدمشقي، ليس
بالمعروف، حدث عنه بقية، منكر الحديث عن الثقات، وعمر بن أبي عمر مجهول، ولا أعلم
يروي عنه غير بقية كما يروي عن سائر المجهولين".
وفي باب "الكنى" ترجم: "أبو محمد الكلاعي، حدث عن عمرو بن
شعيب، روى عنه بقية، هو عمر بن أبي عمر، تقدم ذكره في حرف العين".
وقال الذهبي في "ميزانه": "عمر بن أبي عمر الكلاعي الدمشقي
عن مكحول وعمرو بن شعيب، وعنه بقية، منكر الحديث، قاله ابن عدي، ثم ساق لبقية عنه
عجائب وأوابد، وأحسبه عمر بن موسى الوجيهي ذاك الهالك، ويُقال إنما هو أبو أحمد بن
علي الكلاعي الذي روى له ابن ماجه حديث تربوا الكتاب فإن التراب مبارك، وكذا سماه
ولم يرو عنه غير بقية. قلت: بكل حال هو ضعيف".
قلت: وهذا القول من الذهبي هو مستند أخينا الدكتور عبدالسلام! وكلامه ليس
فصلاً في المسألة، وإنما يحسبه عمر بن موسى، ولا دليل على ذلك، والذهبي أثناء
ترجمته لعمر الكلاعي هذا، تذكر عمر بن موسى هذا فقال ما قال، وهو رأي، ويخالفه
غيره من المتقدمين كابن عدي وابن عساكر وغيرهما ممن ترجم لعمر بن موسى الوجيهي ولم
يشيروا ولو بأدنى إشارة إلى أنه يمكن أن يكون عمر الكلاعي شيخ بقية المجهول.
نعم، دلس بقية كنيته فسماه "أبا أحمد الكلاعي" وقد تنبه أهل
العلم لذلك.
وقد نقلت قول الإمام أحمد في ذلك قبل.
وترجم ابن عساكر في "الكنى" من تاريخه فقال: "أبو أحمد بن
علي الكلاعي الشامي الدمشقي من أهل دمشق، حكى عن مكحول وأبي الزبير وعمرو بن شعيب،
روى عنه بقية بن الوليد، فقال بقية بن الوليد: أخبرنا أبو أحمد الدمشقي عن أبي
الزبير عن جابر أن رسول الله قال، وذكر حديث تتريب الكتاب.
وأخبرنا أبو أحمد رجل كلاعي من أهل دمشق عن مكحول عن واثله قال قال رسول
الله: (يضمن المقدم على الدابة ثلثي ما أصابت وهو راكب ويضمن الرديف الثلث).
قال أبو أحمد الحاكم: أبو أحمد الكلاعي الدمشقي روى عنه بقية بن الوليد
حديثاً لا يتابع عليه.
كذا ذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لم يقف على اسمه وعندي أنه عمر بن أبي عمر
الكلاعي روى أبو ياسر عمار بن نصر ومحمد بن عمرو بن حنان عن بقية عن عمر بن أبي
عمر عن أبي الزبير حديث تتريب الكتاب".
وهذا الحديث جاء في بعض طرقه تسمية شيخ بقية "عمر بن موسى" وهذا
ما أكد عند الدكتور أنه هو نفسه عمر بن أبي عمر الكلاعي!! وهذا فيه نظر!
فالحديث رواه أبو القاسم البغوي قال: حدثنا عمار بن نصر أبو ياسر قال:
حدثنا بقية عن عمر بن أبي عمر عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله: (تربوا
الكتاب فان التراب مبارك).
وخالفه إسحاق بن يعقوب العطار فرواه عن عماربن نصر عن بقية عن عمر بن موسى
عن أبي الزبير!
قلت: رواية البغوي هي الصواب، فالمحفوظ عن عمار بن نصر هو ما رواه البغوي
عنه، ويؤيده أن محمد بن عمرو بن حنان وكثير بن عبيد قد روياه أيضاً عن بقية عن عمر
بن أبي عمر عن أبي الزبير!
فقد تابعا عمار بن نصر في ضبط اسم شيخ بقية، وعليه فتكون رواية إسحاق
العطار معلولة، ولعل الخطأ في تسميته من عمار بن نصر، فمرة قاله على الصواب وظنه
مرة أنه عمر بن موسى! وعمار قد كان ابن معين سيء الرأي فيه، ويحتمل أن يكون الخطأ
من إسحاق العطار، وعموماً فالراجح رواية البغوي عنه لموافقة غيره عليها.
وأما يزيد بن هارون فرواه عن بقية قال: أنبأنا أبو أحمد الدمشقي عن أبي
الزبير عن جابر أن رسول الله قال: (تربوا صحفكم أنجح لها إن التراب مبارك) [رواه
ابن ماجة في سننه، باب تتريب الكتاب، 2/1240].
فهنا قد دلس بقية اسم شيخه وكنّاه، ولما سئل الإمام أحمد عن هذه الرواية
قال: "كناه بقية (أبو محمد)، وهذا منكر! وما روى بقية عن بحير وصفوان والثقات
يكتب، وما روى عن المجهولين لا يكتب".
وأخيراً، فإن الذي جعل الدكتور عبدالسلام أن يجعلهما واحداً هو بعض ما أشار
إليه الإمام الذهبي ونقل ابن حجر له، مع ما بينا سابقاً أن قول الذهبي قائم على
الظن دون دليل.
قال ابن حجر في "اللسان": "عمر الدمشقي: لا يُعتمد عليه ولا
يُعرف، لعله الوجيهي... وفي ثقات ابن حبان: عمر الدمشقي عن أم الدرداء الصغرى وعنه
سعيد بن أبي هلال. قال ابن حبان: لا أدري من هو ولا ابن من هو! فيحتمل أن يكون هو
هذا والراوي عن واثلة الآتي، وكلام ابن حبان وقع في الطبقة الثالثة من الثقات".
ثم قال تبعاً للذهبي: "عمر عن رجل عن القاسم أبي عبدالرحمن في اليمين:
لا يعرف، ولعله الوجيهي".
قلت: الذي ذكره ابن حبان غير هذا الذي نتحدث عنه، وقد ترجمه الإمام البخاري
في كتابه الكبير، ومنه أخذ ابن حبان.
قال البخاري: "عمر الدمشقي عن أم الدرداء، روى عنه سعيد بن أبي هلال،
منقطع".
وترجمه ابن عساكر في "تاريخه"، فقال: "عمر بن حيان، روى عن
أم الدرداء، ويُقال: روى عن من أخبره عن أم الدرداء".
والحاصل أن الأئمة المتقدمين فرّقوا بين عمر بن أبي عمر الكلاعي الدمشقي
أبو محمد وأبو أحمد شيخ بقية المجهول، وبين عمر بن موسى بن وجيه الوجيهي الدمشقي،
وهو معروف بكذبه ووضعه للحديث.
وقد روى عنهما بقية وحصل بعض الخلط بين حديثيهما كما فصلته آنفاً، ولله
الحمد.
وكتبه:
د. خالد الحايك
15/6/2011م
فعلّق الأخ الدكتور عبدالسلام على كلامي بقوله:
"أخي الدكتور خالد الحايك:
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فأشكر لكم هذا الجهد الطيب وهذه النظرات العليمة الناقدة التي قد نتفق على
بعضها ونختلف على الكثير... لكن الحس النقدي هو ما ينقصنا في التعامل مع كل ما هو
مكتوب ومسموع لأننا بشر نخطئ ونصيب..
في أصل المسألة فرَّق العلماء في نقدهم للرواة بين اعتبارات النقد وإن كانت
في النهاية تصل إلى تضعيف المروي لكنهم مع ذلك وفي بيانهم لمسائل الاعتبار والشاهد
فرقوا بين صنوف التضعيف، وهذا البحث يبين أن ثمة فروق بين تضعيف الراوي على اعتبار
الضبط وبين تضعيفه على اعتبار الجهالة ولا يمكن لنا الخلط بينهما فالناقد لما
يقول: ضعيف لا يعرف؛ فالتضعيف لديه ليس للضبط إنما للجهالة، أما إن بين أنه ضعيف
لضعف ضبطه فالأمر يتعلق بالمقارنات التي أحدثها النقاد لأحاديثه ووصل فيها إلى
الحكم، وقد يجتمعان إذا قام الناقد بمقارنة كل روايات الراوي المجهول وتبين للنقاد
أنها منكرة فيقول إنه مجهول ومنكر الحديث فهو مجهول لأنه لم يعرف شخصه لكنه لما
قورن بغيره تبين أنما رواه مخالف فوصف النكارة... وهذا يفترق تماماً عن قولهم في
الراوي المعروف لديهم أنه منكر الحديث. هذا أولاً.
أما ثانيا: فقد فرق العلماء بين وصف الراوي بالجهالة وتضعيفه ضبطا فقد كشف النووي
عن هذا الفرق وهو يصف نتائج عمل المدلسين لشيوخهم، بما يبين الفرق بين التضعيف
والتجهيل، قال: "فيخرجه - أي الشيخ المُدَلَّسُ ـ عنحاله المعروفة بالجرح المتفق
عليه وعلى تركه، إلىحالة الجهالة التي لا تؤثر عند جماعة من العلماء; بل يحتجون
لصاحبها، وتفضيتوقفاً عن الحكم بصحته أو ضعفه عند الآخرين، وقد يعتضد المجهول
فيحتجبه، أو يرجح به غيره، أو يستأنس به". (النووي، شرح صحيح مسلم، ج1، ص116ـ117).
وأيد ابن حجر هذا الأثر، وهو يبين مفاسد هذا النوع من التدليس فقال:
"من مفسدته أن يوافق ما يدلس به شهرة راو ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه،
فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً وهو في نفس الأمر صحيح. وعكس هذافي حق من يدلس
الضعيف ليخفي أمره فينتقل عن رتبة من يرد خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه".
(ابن حجر، النكت، ج2، ص628). هذا ثانياً.
وأما أخيراً: فأشكر الدكتور خالد على ما لفت الانتباه من بعض الأمثلة التي
قد يكون ثمة خطأ فيها لكننا نبين أن من الأمثلة وعند ابن عساكر ما يثبت أن عمر
الدمشقي هو عمر بن أبي عمر فقال في ترجمته: عمر بن أبي عمر أبو محمد الكلاعي حدث
عن عمرو بن شعيب وأبي الزبير ومكحول، روى عنه بقية بن الوليد وذكر له جملة من
الروايات...
أخبرنا أبو الحسن علي بن عبيدالله بن نصر: أنا أبو جعفر بن المسلمة: أنا
أبو طاهر المخلص: نا يحيى بن محمد: نا محمد بن عمرو بن حنان الحمصي: نا بقية بن
الوليد: حدثني عمر الدمشقي: نا مكحول عن أنس قال: يا رسول الله، الحائض تقرب إلى
الوضوء في الإناء تدخل يدها فيه؟ قال: نعم، لا بأس به، ليس حيضتها في يدها...
فهنا يثبت ابن عساكر في ترجمة عمر بن أبي عمر أنه عمر الدمشقي وينقل
الروايات التي ساقها ابن عدي وكلها مخرجة في البحث.
ولعل لنا وقفة أخرى مع بعض الأمثلة الأخرى". انتهى كلامه.
فعلّقت على كلامه، فقلت:
"حياك الله دكتور عبدالسلام:
أولاً: الحس النقدي هو الحس الذي يكون في أعماق الناقد من خلال تعامله مع
كلام أهل العلم وطرق نقدهم، ولا أظن هذا الحس حكراً على أحد، وإنما هو هبة من الله
عزّ وجلّ.
ثانياً: الفكرة كما ذكرت لك طيبة وقد أنعم الله عليّ أن تكلمت عليها في
رسالتي كما ذكرت لك، ولكن المشكلة في الأمثلة.
ثالثاً: المشكلة أخي ليست في "عمر الدمشقي"، فكلاهما قال عنه
بقية: "عمر الدمشقي"، ولكن في إثبات أن عمر بن أبي عمر هو عمر بن موسى! ولا
يوجد أي دليل علمي أو نقدي أو حسي على هذا!
رابعاً: مسألة تضعيف الرواة باعتبار الضعف أو الجهالة فالذي يهمنا النتيجة،
فالنتيجة واحدة، وقد قال الذهبي بعد أن ذكر كل ذلك فيه: "وبكل حال هو
ضعيف"، أي إذا كان مجهولاً فهو ضعيف لأن حديثه منكر، وإن كان هو عمر بن موسى
فهو ضعيف، فالذي يهم هو النتيجة.
على كل حال: هذا ما عندنا وبارك الله فيك".
وقد علّق أخونا "أبو المظفر السنّاري" - وهو من طلبة العلم
النبهاء - على كلام الأخ عبدالسلام في "ملتقى أهل الحديث"، فقال:
"أولاً: شكر الله للشيخ الفاضل عبدالسلام على هذا المبحث من كتابه،
ولعله يفيدنا بالمزيد منه على صفحات هذا المنتدى ما تيسر له ذلك مشكورًا.
ثانيًا: أحسن الله إلى الشيخ خالد الحايك على تلك التعقبات السديدة التي ما
فَتِيَء يُمتِّع النواظر بها حسبما اتفق له".
ثم علّق على كلام الأخ عبدالسلام: "وهذا البحث يبين أن ثمة فروقاً بين
تضعيف الراوي... لديهم أنه منكر الحديث..."
قال: "هذا فهم بعيد عن شفوف أنظار النقاد ومسالكهم إزاء الحكم على
الرواة والنَّقَلَة! بل قد رأينا النقاد ربما يصفون الراوي المجهول بالكذب والسقوط
بمجرد رواية واحدة لا يعرفون لها أختًا؟! ومع إقرارهم بجهالته عندهم! فهم يرون أن
روايته الساقطة هذه كافية بسقوطه أرضًا حيث لا نُهوض! فضلاً عن سقوط حفظه وضبطه
البتة! ومع هذا تراهم يقرون بكونهملا يعرفونه أصلاً! والأمثلة في هذا الصدد معروفة
مسطورة.
ولعل أظهرها: قول أبي زكريا الغطفاني الحافظ في رواية أحمد بن الأزهر
النيسابوري عن عبدالرزاق لحديث الفضائل المشهور، قال: "مَنْ هَذَا الكَذَّابُ
النَّيْسَابُوْرِيّ الَّذِي حَدَّثَ بِهَذَا عَن عَبْدِالرَّزَّاقِ؟ فَقَامَ أَبُو
الأَزْهَرِ، فَقَالَ: هُوَ ذَا أَنَا. فتبسَّمَ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ، وَقَالَ:
أَمَا إِنَّك لَسْتَ بكذَّابٍ" (والقصة مشهورة عند ابن البيِّع في علوم الحديث).
فانظر: كيف جزم ابن معين بكذب راوي الخبر عن عبدالرزاق قبل أن يعرف من
يكون؟ لكنه رأى أن سقوط متن الخبر، مع انفراد من انفرد به عن عبدالرزاق - أحد
أشياخ ابن معين - كافٍ بسقوط الرواي رأسًا! فضلاً عن سقوط ضبطه واتزان حفْظِه.
فقد يكون الرواي مجهولاً وكذابًا! ومجهولاً وتالف الحديث، ومجهولاً
وضعيفًا، ومجهولاً ومنكر الحديث. وجهالته لا تقف حَجَرَ عَثْرة بين الناقد وبين
رمايته له بالكذب والاضطراب واختلال الحفظ! بل يكفي ما ينقدح في قلب الناقد من
الدلائل القائمة على سقوط هذا المجهول أو اطراحه أو ضعفه البتة.
وقد أخطأ من فهم من تصرفات كبار الأئمة غير ذلك أو دونه!
إذا عرفتَ هذا: أسفر لك أن قول القائل: "فالناقد لما يقول: ضعيف لا
يعرف فالتضعيف لديه ليس للضبط إنما للجهالة"، هو من شِعْبِ ذلك الوادي! والله
المستعان لا ربّ سواه" انتهى كلامه.
ثم علّق الأخ عبدالسلام بقوله:
"أخي الدكتور خالد: ملاحظاتكم موطن تقدير، وأنا بها أفرح منك بها،
فالنقد إنما يأتي من أمثالكم تصويبا وتوضيحا، لكن وكما قلت لكل وجهة هو موليها. ثم
إنني أشكرك شكرا جزيلا مرة أخرى على المبحث الذي أرسلته وبإذن الله أفيد منه،
والذي وجدت أن من الضروري أن أبين للناظر بمزيد تفصيل الخطوط العامة التي قام
عليها الكتاب وهو الآن في طور المراجعة والتدقيق وتأتي ملاحظتكم في وقتها المناسب،
وأنتم من جمال المحامل ومن الرواحل التي تقل في هذا الزمان".
ثم تابع الدكتور عبدالسلام نشر موضوعه، فرفع في بعض المنتديات مثالاً آخر:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=252930
فقال تحت عنوان: "من أمثلة تدليس الشيوخ المؤدية إلى الجهالة
والاضطراب في حال الرواة":
"خالد بن طهمان وتدليسه نافع بن أبي نافع.
يعد هذا الراوي مثالاً مهماً في بيان أثر التدليس على جهالة عين الراوي من
جهة، وأثره أيضاً في الخلط بين الثقات والضعفاء من الرواة من جهة أخرى.
رواية خالد عنه: روى خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع الحديثين الآتيين:
حديث معقل بن يسار: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين
يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من
آخر سورة الحشر، وكَّل الله به سبعين ألف ملك، يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في
ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة".
رواه خالد بن طهمان أبو العلاء الخفاف: حدثني نافع بن أبي نافع عن معقل به.
أخرجه: (الترمذي، السنن، ج5، ص182، أحمد بن حنبل، المسند، ج5، ص26،
الطبراني، المعجم الكبير، ج15، ص164).
حديث معقل بن يسار قال: "وضأت النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم،
فقال: هل لك في فاطمة رضي الله عنها تعودها؟ فقلت: نعم. فقام متوكئاً عليّ فقال:
أما إنه سيحمل ثقلها غيرك، ويكون أجرها لك، قال: فكأنه لم يكن على شيء حتى دخلنا
على فاطمة عليها السلام، فقال لها: كيف تجدينك؟ قالت: والله لقد اشتد حزني، واشتدت
فاقتي، وطال سقمي، قال أبو عبدالرحمن: وجدت في كتاب أبي بخط يده في هذا الحديث
قال: "أو ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما".
رواه خالد يعني بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار به.
أخرجه: (أحمد بن حنبل، المسند، ج5، ص26، الطبراني، المعجم الكبير، ج15،
ص164).
آراء العلماء في بيان حال نافع بن أبي نافع:
اختلف العلماء في بيان حاله إلى آراء متعددة هي:
* الرأي الأول: معرفة عينه، وأنه نفيع بن الحارث أبو داود.
وممن ذهب إلى ذلك:
أبو حاتم الرازي:
قال ابن أبي حاتم: "سئل أبي عنه فقال: هو أبو داود نفيع، وهو ضعيف
الحديث". (ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل، ج8، ص459...).
ابن الجوزي:
قال في ترجمة نفيع بن الحارث أبو داود الأعمى: "ويقال له السبيعي لأنه
مولاهم، يروي عن أنس، وقد دلسه بعض الرواة فقال: "نافع بن أبي نافع"
(ابن الجوزي، الضعفاء والمتروكين، ج3، ص165).
الذهبي:
بيّن أنه نفيع بن الحارث مفرقاً بينه وبين البزاز، فقد قال في ترجمة نفيع
بن الحارث: "وقد دلسه بعض الرواة، فقال نافع بن أبي نافع" (الذهبي،
ميزان الاعتدال، ج4، ص272).
وقال في موضع آخر: "نافع بن أبي نافع عن معبد، لا يعرف. ويقال: هو أبو
داود نفيع أحد الهلكى. فأما نافع بن أبي نافع البزاز، عن أبي هريرة. وعنه ابن أبي
ذئب، وخالد بن طهمان - فقال ابن معين: ثقة" (الذهبي، ميزان الاعتدال، ج4،
ص242).
قلت: غير أنه عد ابن طهمان من تلاميذ البزاز والصواب أنه من تلاميذ الأول.
* الرأي الثاني: التخليط بينه وبين نافع بن أبي نافع البزاز الثقة.
وممن ذهب هذا المذهب:
المزي، قال في تحفة الأشرف: "نافع بن أبي نافع البزاز، عن معقل بن
يسار، حديث من قال حين يصبح ثلاث مرَّات: أعوذ بالله السميع العليم... الحديث. (ت)
في فضائل القرآن عن محمود بن غيلان، عن أبي أحمد الزبيري، عن خالد بن طهمان أبي
العلاء الخفَّاف، عنه به. وقال: غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
(المزي، تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، ج8، ص465..).
ونجد هذا الرأي عنده بوضوح تام في ترجمة نافع بن أبي نافع البزاز فقد خلط
بينه وبين نافع بنأبي نافع فجعل معقل بن يسار في شيوخ البزاز وخالد بن طهمان في
تلاميذه، دامجاً بين الراويين، ناقلاً قول ابن معين في توثيقه. ثم روى بسنده حديث
معقل السابق على اعتباره من حديث البزاز.
(المزي، تهذيب الكمال، ج29، ص293).
النووي، قال: "هو نافع بن أبي نافع البزاز، بالزاي المكررة، مولى أبي
أحمد، وهو تابعي. روى عن أبي هريرة، ومعقل بن يسار. روى عنه ابن أبي ذؤيب. قال
يحيى بن معين: هو ثقة".
(النووي، تهذيب الأسماء واللغات، ج1، ص527).
وهذا ما جعل الألباني يضعف حديث معقل بن يسار "أما ترضين أن زَوَجتُكِ
أقدم أمتي سلما"، بخالد بن طهمان وحده فقال: "وهذا إسناد ضعيف؛ رجاله
ثقات؛ غير خالد بن طهمان؛ فضعفه الأكثرون".
قلت: غير أن نافع ليس من الثقات.
(الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة، ج10، ص534).
* الرأي الثالث: الاضطراب في حاله.
وهذا ما نجده في تتبع أقوال ابن حجر، فقد اضطرب في هذه المسألة، ونرصد ذلك
من خلال ترجمته لنافع بن أبي نافع:
ففي تعجيل المنفعة قال: "نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار وعنه أبو
العلاء الخفاف، قال في الإكمال لا يعرف. قلت: هو البزاز المترجم في التهذيب".
(ابن حجر، تعجيل المنفعة، ص420).
وخالف هذا الرأي في التهذيب فقال: "الذي وثقه ابنمعين هو الذي روى عن
أبي هريرة وروى عنه ابن أبي ذئب وحديثه في السنن... ومسلم وأحمد وصحيح ابن حبان
ولفظهم: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل" وقد وصفه بالبزاز، ولم يذكر
البخاري وأبو حاتم راويا له إلا ابن أبي ذئب، وقال ابن المديني: مجهول، وذكره ابن
حبان في الثقات فقال: نافع البزاز مولى أبي أحمد بن حجر يكنى أبا عبدالرحمن، يعد
في أهل المدينة يروي عن أبي هريرة في السبق. روى عنه ابن أبي ذئب. وأما الذي يروي
عن معقل بن يسار فقد أفرده ابن أبي حاتم عن الراوي عن أبي هريرةفقال: يروي عن معقل
روى عنه أبو العلاء وسئل أبي عنه فقال: هذا أبو داود نفيع وهو ضعيف. قلت: وسيأتي
في ترجمته بعد قليل، وقد عرف اسم الراوي عنه من رواية الترمذي، فإنه أخرج حديثه في
فضائل القرآن من طريق أبي أحمد الزبيري عن أبي العلاء خالد بن طهمان عن نافع بن
أبي نافع، ولم ينسبه، عن معقل بن يسار رفعه: "من قال حين يصبح أعوذ بالله
السميع العليم من الشيطان الرجيم وثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله تعالى ألف ملك
يصلون عليه حتى يمسي... الحديث". وقال: "حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا
الوجه انتهى". ولم يصفه إلا بنافع بن أبي نافع، وكذلك أخرجه الدارمي في مسنده
عن أبي هريرة من طريق أبي أحمد الزبيري، وأخرج الحليمي في مسنده عن أبي أحمد
الزبيري ثلاثةأحاديث أحدها هذا الحديث ووصفه في الجميع بنافع ابن أبي نافع حسب.
وخالد بن طهمان الذي دلس أبا داود كنيته فسماه بما لم يشتهر به وكناه فيه فقال وهو
معدود فيمن اختلط. فظهر من هذا أن نافع بن أبي نافع اثنان. وقال الذهبي في
الميزان: نافع بن أبي نافع عن معبد لا يعرف هو أبو داود نفيع".
(ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج10، ص366-367).
وقال في اللسان: "نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار لا يعرف، ويقال هو
أبو داود نفيع أحد الهلكى".
(ابن حجر، لسان الميزان، ج6، ص146).
* الرأي الرابع: تجهيله:
ابن المديني، ذهب إلى تجهيله، وهذا ما أيده العراقي، قال في حديث معقل بن
يسار "أما ترضين أن زَوَجتُكِ أقدم أمتي سلما": "نافع بن أبي نافع
هذا مجهول، قاله علي بن المديني، وجعله أبو حاتم نُفيعا أبا داود أحد الهلكى، وأما
المزي فجعله آخر ثقة تبعا لصاحب الكمال. والأول هو الصواب".
(العراقي، التقييد والإيضاح، ص311).
الحسيني: "نافع بن أبي نافع عن معقلبن يسار وعنه أبو العلاء الخفاف لا
يعرف".
(الحسيني، الإكمال بمن في مسند أحمد من الرجال سوى من ذكر في تهذيب الكمال،
ص433).
وخلاصة القول في نافع بن أبي نافع:
أمام هذه الجملة من الحقائق نقف عند تدليس خالد بن طهمان لأبي داود وهو
نفيع بن الحارث الذي كذبه قتادة وقال يحيى فيه: ليس بشيء. وقال مرة: لم يكن ثقة.
وقال النسائي والفلاس والدارقطني متروك. وقال أبو زرعة: لم يكن بشيء". قال
ابن الجوزي: "نفيع بن الحارث أبو داود الأعمى الكوفي ويقال له السبيعي لأنه
مولاهم يروي عن أنس وقد دلسه بعض الرواة فقال: "نافع بن أبي نافع".
ونجد أن تدليس الشيوخ الذي قام به خالد بن طهمان أدى لأن يوصف نافع بن أبي
نافع بالجهالة من ابن المديني والذهبي. وأدى إلى كل التخليط الحاصل في هذا الراوي؛
المؤدي إلى التناقض في بيان حاله لدى العلماء". انتهى كلامه.
فرددت على كلام الأخ عبدالسلام، فقلت:
جزى الله الأخ الدكتور عبدالسلام خير الجزاء على مشاركاته العلمية. ولأن
العلم رحم بين أهله فليسمح لي أن أعلق على ما جاء في مثاله هذا راجياً من الله عزّ
وجلّ أن يوسع صدره لهذا وأن لا يظن بنا إلا خيراً.
أقول:
هذا المثال الذي ذكره الدكتور عبدالسلام لا علاقة له في موضوع كتابه!! وذلك
أن هناك فرقاً بين أن يدلس الراوي شيخه لتعميته إن كان ضعيفاً، وبين أن يكون هذا
الراوي قد اختلط كما هو الحال في خالد بن طهمان، فكيف إذا استمر هذا الاختلاط عنده
فترة طويلة جداً زادت على عشر سنوات؟!
وهذا نقد ونقض لكلام الأخ الدكتور عبدالسلام:
أولاً: خالد بن طهمان موضوع البحث لم يصفه أحد من أهل العلم
النقاد بالتدليس! وإنما أول من أشار إلى ذلك هو ابن الجوزي، وأخذ ذلك منه الذهبي
ثم ابن حجر.
وطالما أن الأئمة النقاد قد وصفوه بالتخليط فإن ما ينفرد به عن الثقات أو
المعروفين أو ما تبين أنه خطأ يعزى إلى وهمه لا إلى أنه كان يدلس بعض شيوخه، ولا
يوجد دليل واضح على أن خالد بن طهمان الكوفي سمع من نفيع ودلّسه!
وقد روى خالد عن عطية العوفي وهو مشهور بالضعف، فلم لم يدلسه؟!
ثانياً: قرر الأخ عبدالسلام في بداية كلامه أن هذا المثال لهذا
الراوي من الأمثلة المهمة في بيان أثر التدليس على جهالة عين الراوي والخلط بين
الضعفاء والثقات!! وهذا كله بناه على حصول التدليس من جهة خالد بن طهمان! وهذا فيه
نظر، وقد حصل بعض الخلط في بعض التراجم لم يتنبه لها الأخ عبدالسلام وإنما كان
هدفه هو التركيز على مسألة التدليس المتوهمة!!
وهذه مسألة منهجية ينبغي أولاً إثباتها ثم دعمها بالأدلة الصحيحة الصريحة،
لا البناء على الأوهام!
ثالثاً: أما الرأي الأول الذي ذكره الدكتور عبدالسلام في حال
شيخ خالد بن طهمان وهو: "معرفة عينه، وأنه نفيع بن الحارث أبو داود"،
ونسب ذلك إلى أبي حاتم الرازي وابن الجوزي والذهبي! ففيه مجازفة واضحة منشؤها عدم
التحقيق في أقوال أهل العلم!
فأبو حاتم لم يذهب إلى أن الذي يروي عنه خالد بن طهمان هو "أبو داود
بن نفيع" كما في النص الذي نقله من كتاب ابن أبي حاتم!
فابن أبي حاتم ذكر في آخر ترجمة ممن اسمه نافع، قال: "نافع بن أبي
نافع: روى عن معبد، روى عنه..."، ثم قال: "سئل أبي عنه فقال: هو أبو داود
نُفيع، وهو ضعيف الحديث".
فأين من هذا النص أن أبا حاتم يرى أن نافع بن أبي نافع الذي يروي عنه خالد
بن طهمان هو نفسه هذا الذي قال عنه: "هو أبو داود نفيع"؟!!!
فالذي يتحدث عنه أبو حاتم هنا هو نافع بن أبي نافع الذي يروي عنه معبد، ولا
ندري من هو معبد هذا، ولا ندري من الراوي عنه؛ لأن ابن أبي حاتم قد بيّض له!!
فقول الأخ عبدالسلام: "وممن ذهب إلى ذلك: أبو حاتم الرازي: قال ابن
أبي حاتم: "سئل أبي عنه فقال: هو أبو داود نفيع، وهو ضعيف الحديث". (ابن
أبي حاتم، الجرح والتعديل، ج8، ص459...)"! فيه مجازفة واضحة اعتماداً على هذا
النصّ!
وكان ينبغي على الدكتور أن يفصّل في هذه الترجمة فيبين من هو الذي أراده
أبو حاتم، وأن ابنه قد بيّض للراوي عنه بحسب النسخة التي بين أيدينا!!
فكأنه مرّ به حديثاً لنافع هذا يروي عن شخص اسمه معبد، فسئل عنه، فقال إنه
نفيع هذا، وهو ضعيف.
ومن هنا قال ابن الجوزي في ترجمة أبي داود نفيع: "وقد دلسه بعض الرواة
فقال: نافع بن أبي نافع"!!
وقد تبع الذهبي ابن الجوزي على هذا، وهذا الذي جعل الدكتور عبدالسلام نسبة
هذا الرأي لهؤلاء العلماء.
ولكن يمكن أن ننسب هذا الرأي لأبي حاتم من خلال ما نقله عنه ابنه في ترجمة
"نفيع" حيث قال (8/489): "نفيع بن الحارث أبوداود الأعمى الهمداني القاص،
روى عن زيد بن أرقم، ومعقل بن يسار، وأبي برزة الأسلمي، والبراء بن عازب، وبريدة الأسلمي،
وأنس بن مالك. روى عنه: أبو إسحاق الهمداني، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش.. وخالد
بن طهمان أبوالعلاء، وزياد بن المنذر، وزهير وأبو الأحوص. سمعت أبي يقول
ذلك".
قلت: فهذا واضح في أن أبا حاتم يرى أن الذي روى عنه خالد بن طهمان هو نفيع
هذا.
وبناء على هذه الترجمة يمكن أن ننسب إلى أبي حاتم ما قاله الدكتور، وهذه
فائدة لم يتنبه لها.
ويبقى رأي أبي حاتم هذا محتمل، وهو إنما يعتمد على الأسماء التي في
الأسانيد في ذكر الرواة.
وبعد هذا كلّه إنما أردت في ما بدأت به هذا الكلام أن أُحاكم الأخ الدكتور
عبدالسلام إلى ما ينقله من كتب أهل العلم، وكل من ينقل عنهم يجب عليه أن يتحقق مما
ينقله.
وأرجع فأقول: إن النّص الذي نقله من كتاب ابن أبي حاتم لا يدلّ على ما ذهب
إليه، وقد وقع في النص تحريفٌ وبياض في نسخة "الجرح والتعديل" مما حدا
بنا أن نستدرك على الأخ عبدالسلام فحاكمناه إلى ما نقل، فلما جاء أوان تحرير هذا
الأمر نقول له:
إن أبا حاتم أفرد ترجمة "نافع بن أبي نافع" الذي يروي عنه خالد
بن طهمان، وهي هذه الترجمة الأخيرة التي ذكرها ابنه، والنص الصواب فيها كما يأتي:
قال ابن أبي حاتم: "نافع بن أبي نافع: روى عن [معقل]، روى عنه: [خالد
بن طهمان]"، ثم قال: "سئل أبي عنه فقال: هو أبو داود نُفيع، وهو ضعيف
الحديث".
فهذا هو الصواب من كتاب ابن أبي حاتم، قد تحرف "معقل" إلى
"معبد"! وسقط "خالد بن طهمان".
ولله الحمد والمنة.
رابعاً: أخطأ الأخ عبدالسلام في نسبة هذا الرأي للإمام الذهبي
وأنه هو نفسه نفيع الأعمى!!
قال الأخ ناسباً هذا الرأي للذهبي: "بيّن أنه نفيع بن الحارث مفرقاً
بينه وبين البزاز، فقد قال في ترجمة نفيع بن الحارث: "وقد دلسه بعض الرواة،
فقال نافع بن أبي نافع" (الذهبي، ميزان الاعتدال، ج4، ص272).
وقال في موضع آخر: "نافع بن أبي نافع عن معبد، لا يعرف. ويقال: هو أبو
داود نفيع أحد الهلكى. فأما نافع بن أبي نافع البزاز، عن أبي هريرة. وعنه ابن أبي
ذئب، وخالد بن طهمان - فقال ابن معين: ثقة" (الذهبي، ميزان الاعتدال، ج4،
ص242). قلت: غير أنه عد ابن طهمان من تلاميذ البزاز والصواب أنه من تلاميذ
الأول" انتهى.
قلت: رأي الذهبي أن الذي يروي عنه خالد بن طهمان هو نفسه الذي يروي عنه ابن
أبي ذئب، وهو نافع بن أبي نافع الثقة، وقد فصل هذه الترجمة عن ترجمة نافع الذي
يروي عن معبد التي قال أبو حاتم أنه هو أبو داود الأعمى، ولكن الأخ عبدالسلام خلط
كل ذلك!!
ذكر الذهبي في "الميزان": "خالد بن طهمان" ثم أورد هذا
الحديث من غرائبه!
أبوأحمد الزبيري: حدثنا خالد بن طهمان، عن نافع بن أبي نافع، عن معقل بن يسار،
عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح - ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع
من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك
يصلون عليه حتى يمسى، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا. وقال: من قالها حين يمسى
كان بتلك المنزلة)).
قال الذهبي: "لم يحسنه الترمذي، وهو حديث غريب جدا، ونافع ثقة".
وقال في "الكاشف" (2/315): "نافع بن أبي نافع البزاز عن أبي
هريرة ومعقل بن يسار، وعنه خالد بن طهمان وابن أبي ذئب، ثقة".
وقال أيضاً في "الميزان": "نافع بن أبي نافع عن معبد: لا
يُعرف، ويُقال: هو أبو داود نفيع أحد الهلكى، فأما نافع بن أبي نافع البزاز عن أبي
هريرة وعنه ابن أبي ذئب وخالد بن طهمان، فقال ابن معين: ثقة".
وأما ما ذكره الذهبي في ترجمة "نفيع" من "الميزان":
"وقال النسائي: متروك، ويقال لأبي داود هذا السبيعي لأنهم مواليه، وقد دلسه
بعض الرواة فقال نافع بن أبي نافع كذبه قتادة، وقال الدارقطني وغيره: متروك الحديث،
وقال أبو زرعة: لم يكن بشيء...".
فهذا إنما أخذه من كتاب ابن الجوزي في "الضعفاء" من ترجمة
"نفيع".
قال ابن الجوزي: "نفيع بن الحارث أبو داود الأعمى الكوفي، ويقال له
السبيعي؛ لأنه مولاهم، يروي عن أنس، وقد دلسه بعض الرواة فقال: نافع بن أبي نافع،
كذبه قتادة.. وقال النسائي والفلاس والدارقطني: متروك، وقال أبو زرعة: لم يكن بشيء..".
قلت: فالذهبي – رحمه الله – عادة يلخص ما عند ابن الجوزي فنقل كلام ابن الجوزي
دون تحقيق.
وعليه فكان ينبغي على الأخ عبدالسلام أن يدخل الذهبي في الرأي الثاني عنده،
وهو: "التخليط بينه وبين نافع بن أبي نافع البزاز الثقة"، مع التحفظ على
هذا العنوان كما سيأتي إن شاء الله.
وأضيف هنا أن الطبراني ذهب إلى أن نافع بن أبي نافع الذي يروي عنه خالد بن
طهمان هو أبو داود نفيع، وذلك من خلال الأحاديث التي أوردها في ((المعجم الكبير))
(20/229-230) لنافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار، فإنه ذكر الحديثين اللذين أشار
إليهما الدكتور عبدالسلام، ثم زاد الطبراني حديثاً آخر لأبي داود نفيع بن الحارث
عن معقل بن يسار.
رواه الطبراني من طريق محمد بن سلمة، عن أبي عبدالرحيم، عن زيد بن أبي
أنيسة، عن نفيع بن الحارث، عن معقل بن يسار قال: ((أمرني رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن أقضي بين قومي، فقلت: ما أحسن! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله مع
القاضي ما لم يحف عمداً)).
ثم رواه من طريق إبراهيم الصائغ، عن أبي خالد محمد بن خالد الضبي، عن أبي
داود، عن معقل بن يسار، به.
ورواه في "الأوسط" من هذا الطريق الأخير، ثم قال: "لا يروى
هذا الحديث عن معقل بن يسار إلا بهذا الإسناد! تفرد به إبراهيم الصائغ، وأبو خالد
الضبي الذي روى عنه إبراهيم الصائغ هذا الحديث هو محمد بن خالد الضبي، وأبو داود
نفيع بن الحارث".
قلت: وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" من طريق إسماعيل
بن عياش، عن أبي شيبة يحيى بن يزيد، عن زيد بن أبي أنيسة، عن نفيع بن الحارث، به.
ورواه الحاكم في "المستدرك" (3/668) من طريق إبراهيم بن ميمون
الصائغ، به.
وذكره ابن حجر في "المطالب العالية" من مسند أحمد بن منيع قال:
حدثنا النضر بن إسماعيل: حدثنا بعض المشيخة عن نفيع أبي داود عن عمران بن حصين -
رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى مع القاضي
ما لم يتعمد حيفاً أو ما لم يحف عمداً ويوفقه للحق ما لم يرد غيره)).
فجعله من مسند عمران بن حصين، وفيه مجهول!
وعلى كل حال، فهذا اجتهاد أيضاً من الإمام الطبراني أن الذي يروي عنه خالد
بن طهمان هو نفيع بن الحارث استناداً إلى هذا الحديث.
خامساً: ذكر الأخ عبدالسلام حديثين فقط رواهما خالد بن طهمان
عن نافع، وفاته ثالث رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5/26) بعد روايته
للحديثين المتقدمين اللذين ذكرهما الدكتور عبدالسلام.
قال أحمد: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا خالد، عن نافع، عن معقل بن يسار،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى
يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله حتى يولد في الجور من لا يعرف
غيره، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور
مثله حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره)).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/196): "رواه أحمد، وفيه
خالد بن طهمان، وثقه أبو حاتم الرازي وابن حبان وقال: يخطىء ويهم، وبقية رجاله ثقات".
وقال محققو "مسند أحمد" بإشراف الشيخ شعيب (33/423): "ولم نقف
على هذا الحديث عند غير المصنف".
قلت: رواه الروياني في "مسنده" (2/327) قال: حدثنا ابن إسحاق،
قال: أخبرنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا خالد بن طهمان، عن نافع شيخ من همدان،
عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يلبث الجور
بعدي إلا يسيراً حتى يطلع كلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله حتى يولد في
الجور من لا يعرف غيره. قال: قلت، يا رسول الله، من أهل العدل؟ قال: فضرب بيده على
صدره، وقال: نحن أهل العدل نحن أهل العدل. قال: قلت، فمن أهل الجور؟ قال: فأخبره
بهم وأخبره كم يملكون)).
قلت: فهنا قد صرّح خالد بن طهمان بأن شيخه نافع هذا هو شيخ من همدان، وهو
مجهول لا يُعرف.
نعم، نفيع بن الحارث همداني، ولكن لا يوجد ما يدلّ على أنه هو الذي روى عنه
خالد بن طهمان، ولا أنه أراد تدليسه.
والذي أميل إليه أنه رجل آخر مجهول من مشايخ خالد بن طهمان، وهو همداني كما
وصفه، والله أعلم.
وقد ذكر ابن حجر في "التقريب" نفيع بن الحارث وخالد بن طهمان في
الطبقة نفسها، أي الخامسة! وقد يدلّ ذلك على أن نافعاً شيخ خالد ليس هو نفيع،
والله أعلم.
ونفيع ذكره البخاري في "الأوسط" في فصل من مات من العشرين إلى
الثلاثين.
ومعقل بن يسار بصري يروي عنه البصريون، ورواية الكوفيين عنه غريبة! وإنما
تأتي هذه الغرائب عنه من رواية الضعفاء والمجاهيل من غير أهل البصرة. وقد وجدت
رواية أخرى رواها خالد بن طهمان عن نافع!
روى الخطيب في "تاريخه" (4/43) في ترجمة "أحمد بن أيوب بن
زيد البغدادي" عنه قال: حدثنا سليمان بن داود، قال: حدثنا الصلت بن الحجاج،
قال: حدثنا أبو العلاء الخفاف، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((من كفن ميتاً كان له بكل شعرة منه حسنة)).
قال الخطيب: "تفرد به أبو العلاء خالد بن طهمان الخفاف عن نافع، وعنه
الصلت، ولم أكتبه إلا من هذا الوجه".
قلت: ظن الدارقطني أن نافعاً هنا هو مولى ابن عمر، فذكره في "الغرائب
والأفراد" – كما في الأطراف: 3/446) (خالد بن طهمان الخفاف عن نافع: حديث من
كفن ميتاً الحديث).
قال: "تفرد به أبو العلاء خالد عنه، وتفرد به عنه الصلت بن حجاج".
قلت: ليس هو بنافع مولى ابن عمر، وإنما هو نافع شيخ خالد بن طهمان، وهذا
يؤكد لنا أنه غير نفيع بن الحارث، والله أعلم.
سادساً: عبارة الأخ عبدالسلام: "الرأي الثاني: التخليط
بينه وبين نافع بن أبي نافع البزاز الثقة" تحتاج إلى إعادة صياغة!!
فالتخليط هو إفساد الأمر، وما رآه المزي والنووي هو أنهما واحد، وكثيراً ما
يرى بعض أهل العلم أن فلاناً وفلاناً واحداً، وغيرهم يرى أنهما اثنان، وهكذا، فلا
نقول في مثل ذلك تخليطاً!!
والتخليط وصف في الراوي ناتج عن سوء الحفظ، ولا نستخدمه هنا في مثل ما رآه
المزي والنووي، فليتنبه لهذا.
وعليه فإن رأي المزي والنووي هو أنهما واحد فقط، ولا يسمى
هذا تخليطاً، ويضاف
إليهما الذهبي كما بينته فيما سبق.
وهنا نستدرك على المزي أنه يرى أن نافع بن أبي نافع الذي يروي عن أبي هريرة
وعن معقل بن يسار واحداً، ولكنه خالف نفسه في ذكره في ترجمة "نفيع بن
الحارث" أنه يروي عن معقل بن يسار، ويروي عنه خالد بن طهمان، وهذا هو رأي أبي
حاتم كما مر، وكأنه تبع في هذا صاحب الأصل - أي صاحب الكمال - ولم يتنبه لهذا!!
قال في "تهذيب الكمال" (30/10): "نفيع بن الحارث أبو داود
الأعمى الدارمي، ويقال: الهمداني السبيعي الكوفي القاص، ويقال: اسمه نافع. روى عن
أنس بن مالك... وعمران بن حصين، ومعقل بن يسار وأبي برزة الأسلمي... روى عنه:
إسماعيل بن أبي خالد، وأيوب بن خوط، وخالد بن طهمان أبو العلاء الخفاف...".
وتبعه على هذا ابن حجر في "تهذيب التهذيب"!!!
سابعاً: نسب الدكتور ابن حجر إلى "الاضطراب في حال نافع
بن أبي نافع" في الرأي الثالث!! وهذا فيه نظرٌ شديد!! فابن حجر لم يضطرب في
هذه المسألة.
نعم، ذكر في "تعجيل المنفعة" أنه هو البزاز الذي يروي عن أبي
هريرة، ولكنه قد فصّل ذلك جلياً في ترجمته من "تهذيب التهذيب"، فأقصى ما
يقال: إنه لم يحرر ذلك في التعجيل وحرر ذلك في التهذيب، وهذا كثير عند ابن حجر،
فربما مر على ترجمة في كتاب من كتبه وخاصة الصغير منها فلا يحرر، وإذا جاء إلى هذه
الترجمة من التهذيب حررها بتحرير رائع.
فهل إذا وجدنا هذا عنه في بعض التراجم قلنا: إنه اضطراب؟!!
لا أظن أحداً من أهل العلم يقول بهذا!
وقد أيد الدكتور هذا الاضطراب بنقله ما في "اللسان": "نافع
بن أبي نافع عن معقل بن يسار: لا يُعرف، ويقال هو أبو داود نفيع أحد الهلكى".
أقول: هذا حجة عليه لا حجة له! فابن حجر إنما نقل ما في أصل ميزان الذهبي،
ولا يوجد أدنى إشارة إلى هذا الاضطراب المزعوم!! بل إن الذهبي لما ذكر هذه الترجمة
نبّه القارئ إلى أن هناك آخر اسمه نافع بن أبي نافع يروي عن أبي هريرة ومعقل بن
يسار وهو غير هذا وهو ثقة.
فاقتطاع الدكتور عبدالسلام لهذه الترجمة هكذا لا يصح! وكان ينبغي عليه أن
يجمع كل هذه التراجم، وابن حجر نفسه قد ذكر في نهاية ترجمة "نافع بن أبي نافع
البزار" وتفرقته بينه وبين الراوي عن معقل بن يسار، قال: "وقال الذهبي
في الميزان: نافع بن أبي نافع عن معبد لا يعرف هو أبو داود نفيع".
والأمر الواضح البيّن من كلام ابن حجر أنه على الرأي الأول الذي ذكره
الدكتور عبدالسلام، فابن حجر فرّق بين نافع الذي يروي عن أبي هريرة، وبين من يروي
عن معقل بن يسار، وعدّ هذا الأخير هو نفيع بن الحارث، وقد وضّح هذا بأقصر عبارة في
كتابه "التقريب" مما يبعد عنه الاضطراب المدّعى، ولا أدري كيف غفل الأخ
عبدالسلام عن كتابه هذا؟!!
قال في "التقريب": "نافع بن أبي نافع البزاز أبو عبدالله
مولى أبي أحمد: ثقة من الثالثة، د ت س".
ثم قال: "نافع بن أبي نافع، هو نُفيع أبو داود الكوفي، وجَعْلُ
المِزِّيِّ الراويَ عن مَعقل والراويَ عن أبي هريرة واحداً: وَهَمٌ، قد شرحتُه في
تهذيب التهذيب".
قلت: فكلام ابن حجر متسق ومنسجم إلا فيما ذكره في "التعجيل" ويبدو
أنه تعجّل في ذلك، والله أعلم.
ثامناً: إن مما يؤسف له أن الأخ الدكتور عبدالسلام ينقل
النصوص من الكتب عن طريق "الموسوعات الحديثية" - ولا عيب في هذا - ولكن
ينبغي على طالب العلم أن يراجع الكتب الأصيلة؛ لأن التحريف والسقط والخلط كثير في
هذه الموسوعات وكذلك في الكتب المطبوعة، وقد يكون في بعض الكتب بعض البياض الذي لم
يستطع المحقق قراءته فيدخله أصحاب الموسوعات متتالياً دون بيان ذلك فيختلط الكلام
كما حدث هنا في كتاب "تهذيب التهذيب"، وكان مما نقله في ترجمة نافع
من "التهذيب": "... عن معقل بن يسار رفعه: "من قال حين يصبح
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله
تعالى ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي... الحديث". وقال: "حسن غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه انتهى". ولم يصفه إلا بنافع بن أبي نافع، وكذلك أخرجه
الدارمي في مسنده عن أبي هريرة من طريق أبي أحمد الزبيري، وأخرج
الحليمي في مسنده عن أبي
أحمد الزبيري ثلاثة أحاديث أحدها هذا الحديث ووصفه في الجميع بنافع ابن أبي نافع
حسب...".
قلت: سقط لفظ: "سبعين"، والصواب: "سبعين ألف ملك".
وما جاء هنا: "وأخرج الحليمي"! تحريف! وإلا فمن الحليمي هذا صاحب
المسند؟!!!
والصواب: "وأخرج أحمد في مسنده...".
والحديث الثالث: قال فيه: "نافع" دون نسبة، ولكن قد نسب في
الحديثين اللذين قبله وثلاثتها بالإسناد نفسه، ولهذا قال ابن حجر: "ووصفه في
الجميع بنافع بن أبي نافع حسب".
والذي يظهر لي أن شيخ خالد بن طهمان - كما بينت سابقاً - هو رجل مجهول اسمه
نافع، وخالد كان قد اختلط، فربما أخطأ فسماه ابن أبي نافع، فهو يذكر أن اسمه
نافعاً، ولما لم يتذكر نسبه سماه هكذا، وهذا صحيح، فوالد الرجل هو أبو هذا الرجل،
فنافع هو ابن أبي نافع، والله أعلم.
وما جاء هنا: "وقال الذهبي في الميزان: نافع بن أبي نافع عن معبد لا
يعرف هو أبو داود نفيع".
والصواب: "عن معقل"، وقد تحرفت إلى: "معبد"!
وما جاء أيضاً: "وخالد بن طهمان الذي دلس أبا داود كنيته فسماه بما لم
يشتهر به وكناه فيه فقال وهو معدود فيمن اختلط..."! هذه العبارة غير مستقيمة!
وخالد بن طهمان لم يكني نافعاً! ولم يدلسه!! ومن هو الذي قال: "وهو معدود
فيمن اختلط"؟!! والظاهر أن هناك سقطا، والصواب: "وكناه فيه
فقال..." فسقط شيء هنا، - وفي النسخة المطبوعة بياض بمقدار كلمة -، ثم تابع
ابن حجر قوله: "وهو معدود فيمن اختلط".
وقد رجعت إلى نسخة "عادل مرشد" فوجدت كل هذه الأخطاء عنده
أيضاً، فأين التحقيق العلمي؟!!! فالله المستعان.
تاسعاً: كان ينبغي على الدكتور أن يحقق كلام الترمذي في هذا
الحديث! فإن ابن حجر نقل أنه قال: "حسن غريب"!
وقال المنذري في "الترغيب والترهيب": "رواه الترمذي من
رواية خالد بن طهمان، وقال: حديث غريب، وفي بعض النسخ: حسن غريب".
قلت: والصواب أنه لم يحسنه كما قال الذهبي في ترجمة خالد من الميزان. قال:
"لم يحسنه الترمذي وهو حديث غريب جداً"!!
والاعتماد في نقل كلام الترمذي في الأحاديث على ما ينقله المزي في كتبه؛
لأنه قد ضبط كل ذلك.
وقد نقل في "التحفة" (8/465) وفي "تهذيب الكمال"
(29/295): وقال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
عاشراً: من أشد الأخطاء التي وقع فيها الأخ عبدالسلام هو نسبته
لابن المديني تجهيله لنافع بن أبي نافع الراوي عن معقل بن يسار!! وقد تبع في هذا
الحافظ العراقي!
قال الأخ عبدالسلام: "الرأي الرابع: تجهيله. ابن المديني، ذهب إلى
تجهيله، وهذا ما أيده العراقي، قال في حديث معقل بن يسار "أما ترضين أن
زَوَجتُكِ أقدم أمتي سلما": "نافع بن أبي نافع هذا مجهول، قاله علي بن
المديني، وجعله أبو حاتم نُفيعا أبا داود أحد الهلكى، وأما المزي فجعله آخر ثقة
تبعا لصاحب الكمال. والأول هو الصواب".
قلت: ابن المديني قال مجهول في الراوي عن أبي هريرة لا في الراوي عن معقل
بن يسار.
قال ابن حجر في "التهذيب": "الذي وثقه ابن معين هو الذي روى
عن أبي هريرة، وروى عنه ابن أبي ذئب، وحديثه في السنن ومسلم وأحمد وصحيح ابن حبان
ولفظهم: ((لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل))، قد وصفوه بالبزاز، ولم يذكر البخاري
وأبو حاتم راوياً له إلا ابن أبي ذئب، وقال ابن المديني: مجهول، وذكره ابن حبان في
الثقات فقال: نافع البزاز مولى أبي أحمد بن حجر يكنى أبا عبدالرحمن، يعد في أهل
المدينة، يروي عن أبي هريرة في السبق، روى عنه ابن أبي ذئب. وأما الذي يروي عن
معقل بن يسار فقد أفرده ابن أبي حاتم عن الراوي عن أبي هريرة...".
قلت: وقول ابن المديني في هذا الراوي الثقة: "مجهول" لا يعني
تضعيفه لما عُرف من منهج ابن المديني أنه يطلق لفظ مجهول على من لم يرو عنه إلا
واحد وإن كان ثقة، وقد حققت هذه المسألة بحمد الله وكرمه في رسالتي للدكتوراه.
حادي عشر: وصف الأخ عبدالسلام خلاصة قوله بأنه ذكر جملة من
الحقائق غير صحيح لما بيناه من أن هذه الحقائق المتوهمة ليست حقيقية!
والأدهى أن الأخ عبدالسلام - سامحه الله - قد جزم بتدليس خالد بن طهمان
فبنى على ذلك نتيجة هي أوهى من بيت العنكبوت، وهي قوله: "ونجد أن تدليس
الشيوخ الذي قام به خالد بن طهمان أدى لأن يوصف نافع بن أبي نافع بالجهالة من ابن
المديني والذهبي. وأدى إلى كل التخليط الحاصل في هذا الراوي؛ المؤدي إلى التناقض
في بيان حاله لدى العلماء"!!!
فلا أدري كيف أدى تدليس خالد بن طهمان المزعوم إلى وقوع ابن المديني في
تجهيل نافع بن أبي نافع؟!!
وكذلك: أين هذا التخليط المزعوم والتناقض في بيان حاله بسبب هذه الدعوى
المتوهمة؟!
أقول: لو فرضنا جدلاً أن خالد بن طهمان قد دلّس نفيع بن الحارث الهالك
فسماه: "نافع بن أبي نافع"، فالعلماء مثل أبي حاتم وغيره قد قالوا بأنه
هو هو، فأين التخليط والتناقض؟ فهم قد عرفوه.
فالتدليس المزعوم لو صح لما كان له أي أثر على أقوال هؤلاء الأئمة.
والذي أقول به أنه لم يصح، وما ذهب إليه أبو حاتم والمزي وابن حجر إنما هو
اجتهاد منهم لما بين أيديهم من أسانيد وأقوال، وقد فصلت في كل ذلك، ولله الحمد
والمنة.
وأنا لا أنفي أن يكون شيخ خالد بن طهمان هو نفيع الأعمى ولكن لاختلاط الرجل
أخطأ في اسم شيخه فحاول تذكره فقال: عن نافع شيخ من همدان، فهذا محتمل، ولكن
البعيد أن يكون خالد بن طهمان قد دلّس اسمه، فأياً كان ترجيحنا فإنه لا يخرج عن
وهم خالد في ذلك أو أن يكون له شيخ اسمه نافع، وهو مجهول، والله تعالى أعلم وأحكم.
تنبيه: قول الحافظ ابن حجر عن حديث نافع بن أبي نافع البزاز:
"وحديثه في السنن ومسلم وأحمد".
قوله: "ومسلم" خطأ، فهو لم يرو له في "صحيحه"، وكأن
الخلل من النسخة المطبوعة، فهي سقيمة، وهناك بياض قبل هذه اللفظة!
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
وكتب: خالد الحايك
13/7/2011
فرد الأخ عبدالسلام على تعقباتي له بقوله:
"أشكر الأخ الدكتور خالد على ملاحظاته العلمية التي أوردها على هذا
المطلب وأكرر الاعتذار عن تأخر الرد بسبب الإجازة والتي حالت دون رؤيتي للملاحظات...
وأود أن أقف معه عن النقاط الآتية:
أولاً: وهي الأساس الذي بنى عليه الأخ الدكتور رأيه الذي أقدر له حرصه
العلمي وقدرته الفائقة على تتبع الأقوال وروح النقد لديه، الأساس هو: أن خالد ليس
مدلس، وضرب بعرض الحائط قول ابن الجوزي، والذهبي وابن حجر، وزعم أن الذهبي وابن
حجر إنما أخذاه من ابن الجوزي، ولا دليل على ذلك لديه فما أتوقع سوى السبق، وهو
دليل لا حجة فيه. انظر تاسعاً أيضاً.
ثانياً: الذي جعلني أجزم بأن نافع هذا إنما هو نفيع بن الحارث هو ذاك
الاشتراك بينهما في التلميذ والشيخ فليس غريبا أن يكون الراوي عن نافع بن أبي نافع
هو خالد بن طهمان وحده ولم أقف على من روى عنه بهذه الصيغة. وعلى هذا يحمل قول أبي
حاتم الرازي في حال نافع بن أبي نافع، لا سيما إن ابن حجر يؤيد هذا بقوله: "وأما
الذي يروي عن معقل بن يسار فقد أفرده ابن أبي حاتم عن الراوي عن أبي هريرة فقال
يروي عن معقل روى عنه أبوالعلاء وسئل أبي عنه فقال هذا أبو داود نفيع وهو ضعيف.
ومع ذلك فالشكر موصول للأخ الدكتور على بيان التحريف الذي عجزت عن إداركه،
ولعل التصويب الذي ذكره من نسخة أخرى غير نسخة الدار العثمانية أم من اجتهاده وهو
مشكور له فعله وسأثبته في الطبعة القادمة من الكتاب منوهاً بفضل الدكتور في ذلك إن
شاء الله.
ثالثاً: من هنا أرى من الضروري أن أعيد أقوال الذهبي وابن حجر في بيان
تدليس خالد لنافع...
قال ابن حجر وقد فرق بينه وبين البزاز الثقة: "وسيأتي في ترجمته بعد
قليل وقد عرف اسم الراوي عنه من رواية الترمذي فإنه أخرج حديثه في فضائل القرآن من
طريق أبي أحمد الزبيري عن أبي العلاء خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع ولم ينسبه
عن معقل بن يسار رفعه: من قال حين يصبح أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم وثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله تعالى ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي
الحديث. وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انتهى. ولم يصفه إلا بنافع بن
أبي نافع. وكذلك أخرجه الدارمي في مسنده عن أبي هريرة من طريق أبي أحمد الزبيري
وأخرج الحليمي في مسنده عن أبي أحمد الزبيري ثلاثة أحاديث أحدها هذا الحديث ووصفه
في الجميع بنافع ابن أبي نافع حسب...".
ثم قال: " وخالد بن طهمان الذي دلس أبا داود كنيته فسماه بما لم يشتهر
به وكناه... فيه فقال وهو معدود فيمن اختلط فظهر من هذا أن نافع بن أبي نافع اثنان
وقال الذهبي في الميزان نافع بن أبي نافع عن معبد لا يعرف هو أبو داود نفيع".
وقول ابن حجر يظهر أنه ليس مجرد ناقل عن ابن الجوزي إنما محقق ومدقق لما يورد
لا سيما كشفه عن الروايات وتحريه عن الرواة.
وقال الذهبي: "وقد دلسه بعض الرواة، فقال نافع بن أبي نافع". وقد
يكون الذهبي هنا مجرد ناقل، لكن لا نقلل من عمله فهو مدرك لما ينقل، لا سيما أنه
كرر ذلك في غير موضع من كتابه.
رابعاً: بخصوص رأي الذهبي في نافع بن أبي نافع فأنا أؤيد ما ذهب إليه
الدكتور خالد أنه رأي الذهبي يوضع في أصحاب الرأي الثاني من خلط فيه وذلك بسبب
قوله في ترجمة خالد بن طهمان في حق نافع أنه ثقة ولعلي من انتبه لقوله في هذه
الترجمة، والشكر موصول للدكتور على ذلك وسأثبته في الطبعة القادمة ذاكراً لأهل
الفضل فضلهم.
خامساً: بخصوص رواية الطبراني لم تك بعيدة عني لكنني أدقق النظر فقط فيما
رواه خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع فحسب، غير أن هذه الرواية تؤكد وتؤيد أن
خالداً يروي عن نفيع لأن حكاية الإسناد واحدة بينهما... والله أعلم.
سادساً: ذكر الأخ الدكتور أنه فاتني حديثان، والشكر له موفور على ذلك،
لكنني اختلف تماماً معه في النتيجة الت يذهب إليها بل إن الحديث الذي ذكره إنما
جاء ليؤيد ما ذهبت إليه في هذا المثال، فالناظر في شؤون المدلسين؛ المدقق في طريقة
تدليسهم يتأكد له بالحس النقدي أن هذا الذي فعله خالد إنما هو تدليس شيوخ لا شك فيه:
فطريقة المدلس أن يكني أو ينسب أو يصغر أو يكبر الاسماء بما يحيلها إلى أن لا
يعرفها النظار إليها... وكل الإشارات والدلائل تؤكد على أن نافعا وهو شيخ همداني
كما في الرواية هو نفيع بن الحارث... فنافع تكبير لنفيع.... ونفيع همداني... ثم
الأدهى من ذلك وهو ما فات الأخ الفاضل وهو حكاية الإسناد...
حكاية الإسناد لها حكاية:
فقد أورد الدكتور الفاضل من أحاديث نفيع عن معقل ما أخرجه الطبراني وغيره
وهذا أمر واضح لكل مراجع لرواية نفيع....
فهل من باب المصادفة البحتة:
* أن يروي خالد عن نافع بن أبي نافع بذات الإسناد....
* وثم يروي عن نافع شيخ من همدان بذات الإسناد...
ليس هذا من المصادفة إنما هو عمل مخطط ومصنوع بدقة مدلس ماكر...
وهذا ما عرف عن طرائق من احترف صنعة تدليس الشيوخ...
ولا استبق القول ـ وسآتي له ـ إن قلت أن هذا أبعد كذلك عن الاختلاط الذي
خلص الدكتور إلى أنه سبب كل هذا العمل من خالد.
أما حديث أبي العلاء عن نافع عن ابن عمر فالحال مختلف تماماً عما نحن فيه
لأن حكاية الإسناد مختلفة تماماً... مع احتمال موقوع التدليس فيه لا سيما أن نفيعا
يروي عن ابن عمر...
وهذا مما سأعود له وأركز البحث فيه، والشكر فيه للأخ الكريم موفور أيضاً.
سابعاً: في بعض الملاحظات:
الملاحظة السادسة: محط تقدير ـ وكل الملاحظات كذلك ـ وسأعمل على تصحيح العبارة
في قادم الطبع بإذن الله.
وأما الملاحظة السابعة: فقد نختلف في التوصيف بين تعجل واضطرب فمن قال:
تعجل في التعجيل قد يعتمد البعض على هذا التعجيل في التعجيل... ثم نحن لا نستطيع
الجزم بأن الكتاب كذا تعجل به صاحبه والكتاب كذا أبطأ به وتروى... رغم أن تحقيق
مسألة ما هو دليل يصلح دليلا لذلك...
النتيجة ظني واحدة في محاكمة رأي ابن حجر أن له رأيان مخلتفان... تعجلا أم
اضطرابا؟؟؟؟!!!!
أما الملاحظة الثامنة: فنقول أننا ابتلينا حقا بالموسوعات غير المدققة
لكنني أفرغت كل وسعي في التثبت من النصوص ما وسعني الجهد .... ولعلي أراجع ذلك
كله.... لا سيما أن الشاملة الآن أصدر بنسخة مربوطة بالكتب المصورة
pdf
أما الملاحظة التاسعة: فإن نقل كلام الترمذي لم يكن على سبيل التحقيق ولا
هو مراد بذاته ولم يكن لدقة عبارته أي علاقة فيما ذهبت إليه غنما جاء في سياق كلام
ابن حجر في التهذيب ونحن هنا ننقل كلام ابن حجر والعهدة عليه... صحيح أن الأكمل
التدقيق في ذلك... لكن هذا الأصل أن لا يعاب علينا.... لا سيما أن النسخ التي في
زمن الحافظ من سنن الترمذي ليست التي نحقق كلامه عليها الآن...
ثامناً: قال الشيخ: "من أشد الأخطاء التي وقع فيها الأخ عبدالسلام هو
نسبته لابن المديني تجهيله لنافع بن أبي نافع الراوي عن معقل بن يسار!! وقد تبع في
هذا الحافظ العراقي"!!!
قلت: وهذه من أشد العبارات التي ارعبتني خوفا من الوقوع بفحش القول أو
الاستدلال..... لكن أقول:
بخصوص قول ابن المديني فالحديث يرويه نافع الذي جهله ابن المديني هو عن
معقل إنما هو الحديث الثاني الذي ذكرناه في هذا المطلب... كما أخرجه أحمد
والطبراني.... لا حديث أبي هريرة كما ذهب إليه الأخ الفاضل...
أنا اعترف أنني اعتمدت على قول العراقي! لكن أخي الدكتور خالد: اعتمد على من؟؟!!
اعتمد على قول ابن حجر في ذلك... وهذا لا ضير فيه ... لكن الضير في أن ينكر علينا
الاعتماد على الشيخ وهو يعتمد التلميذ...
ثم هلا كشف لنا عن الراوي الذي يروي حديث أبي هريرة.... إن سياق الحديث يدل
على أنه نافع بن أبي نافع البزاز والذي وثقه الأئمة فهل يعقل تجهيل ابن المديني
له.... وهو يروي عنه أكثر من راو... وليس ممن تفرد برواية عنه راو واحد فقد روى
عنه ابن أبي ذئب وخالد وقد سبق وعارضتني بأنه من الخطأ القول أن خالد لا يروي عن
البزاز ؟؟؟؟....
ثم: رأي ابن المديني في المجهول رأي أحترمه لك، لكن هذا الرأي لا نلزم به
فهو نتيجة عملك أنت والذي لم يقدر لنا الله الاطلاع عليه.. حتى تجعل ما وصلت إليه
من أشد الاخطاء وذلك على ضوء دراستك أنت فليس هذا بسبيل قويم...
ومع ذلك: وعلى فرض صواب رأيك في منهج ابن المديني في المجهول..... فمن قال
أنه يخالف ما نحن بصدده؟؟؟؟؟ إن المدقق في تدليس الشيوخ والممارس له يجد الآتي:
حتى نجزم بوقوع تدليس الشيوخ من المدلس لا بد من تحقق جملة من القرائن لعل
الكتاب أتى على بعضها ولا أستطيع أن أدعي الإحاطة... لكن ما يخدم ما نحن فيه هو:
أن يتفرد المدلس عن شيخه الذي غير اسمه أو كنيته.... فلو لم يتفرد به عنه
لما كان ذلك تدليس شيوخ لأنه لا يكون هو صاحب التغيير إنما هو اسم معروف اشتهر به
الشيخ...
من هنا فإن قول ابن المديني مجهول في حق نافع بن أبي نافع يحقق الأمرين:
1- يحقق ما ذهبت إليه في رسالتك من رواية راو واحد عنه...
2- ويحقق لنا جهالة عينه بسبب تدليس الشيوخ والذي أدى لأن يروي عنه راو
واحد فقط... والله أعلم.
تاسعاً: أما قولك أخي الحبيب: "والأدهى أن الأخ عبدالسلام - سامحه
الله - قد جزم بتدليس خالد بن طهمان فبنى على ذلك نتيجة هي أوهى من بيت العنكبوت..."
كنت أتمنى أن تشفق عليَّ في نهاية ملاحظاتك فتخفف العبارة ـ هي على قلبي
منك نسمة صبا بل نسمة عطرة تذكي روح الإخوة بيني وبينك والله شاهد على ما أقول ـ لكن
لكن لكن:
ليس هذا الأدهى: بل العبارة في نهايتها تحتاج قبل العلماء إلى بعض هذا فحسب....
الأدهى: أن تختصر ما ذهب إليه أبو حاتم والمزي وابن حجر بقولك: "إنما
هو اجتهاد منهم لما بين أيديهم من أسانيد وأقوال، وقد فصلت في كل ذلك" وكأن
أبا حاتم والمزي وابن حجر يمرون بالأسانيد هكذا فهي ما بين أيديهم..... قد أقبل هذا
القول في حق ابن حجر والمزي أما أبو حاتم...... فهذه كبيرة يا شيخ خالد!!!!!!!
الأدهى يا أخانا الحبيب: أن تنسب كل ما قام به خالد إلى اختلاطه.... فتقول:
"ولكن لاختلاط الرجل أخطأ في اسم شيخه فحاول تذكره فقال: عن نافع شيخ من
همدان، فهذا محتمل، ولكن البعيد أن يكون خالد بن طهمان قد دلّس اسمه....".
وهذا من أعجب ما قرأته لك في الملاحظات وليتك لم تقله:
أولاً: وقوع الاختلاط من خالد لا ينفي تهمة تدليس الشيوخ عليه، فلا حجة في
أنه اختلط لنفي التدليس.
ثانياً: وأعود بك إلى المقام الأول: عدم اعتبارك لقول ابن الجوزي والذهبي
وابن حجر في إثبات تدليس خالد لم تأت عليه بدليل واحد سوى قولك: "لم يصفه أحد
من أهل العلم النقاد بالتدليس" وهذا لا يعد دليلا...
وأنت تعرف أنني من مدرسة اعتز وأصرح بالانتساب لها... مدرسة إعمال أقوال
النقاد الأوائل.... مدرسة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين.... المدرسة
المليبارية.... وهذا مما أفتخر به.... لكن ما تعلمناه من الدكتور حمزة ليس هذا من
سياقه:
فأقوال المتقدمين تتقدم ولا يعارضها قول أحد من المتأخرين...
أما ما لا قول لهم فيه فلا مانع من أخذه ما لم يعارض منهجهم النقدي الذي
رسخوه....
فعدم قولهم ليس دليل يحتج به على ما ذهبت إليه....
أما أن تقول أنهم وصفوه بالاختلاط فهذا لا يعد دليلا أيضاً لعاملين هما:
1- يمكن أن يكون التدليس سابقا للاختلاط....
2- الفعل الذي يقوم به المختلطون خلاف ما قام به خالد ألبته، فتجد في فعل
خالد بن طهمان الآتي:
* يدلس أحاديث محددة السند.... محددة الحكاية... فالتدليس لنفيع في روايته
عن معقل لا يتعداها....
* وأنا أعرف أن المختلط يخطأ في حديث ما لكن أن يخطأ في سلسلة.... فهذا
يحتاج إلى وقفة؟؟؟!!!
* ما جاء اختلاط خالد إلا ليصف نافعا بشيخ من همدان... ونفيع بن الحارث
همداني...
* إن هذا إن كان اختلاطا فهو اختلاط ماكر لا اختلاط من ذهب حفظه....
* إن الفعل الذي قام به خالد يحتاج إلى دهاء منه،،، ولعلك تقول أنه
اكتشف.... أقول صحيح اكتشف لكنه اكتشف من دهاة النقاد أيضا فداهية بداهية....
أخيراً:
أكرر شكري العميق لأخي وحبيبي الدكتور خالد على ملاحظاته والتي أفدت منها
كثيرا وسأثبت ما جانبني الصواب فيه في الطبعة القادمة من الكتاب بإذن الله منوهاً
كما سبق بفضل أهل الفضل.
والحمد لله رب العالمين".
وقد كتبت على كلامه تعليقاً سريعاً؛ لأن الأخ عبدالسلام يناكف عن رأي هو
يعتقده مهما أتيت له من أدلة!!!
فقلت:
جزى الله الأخ الفاضل د. عبدالسلام خير الجزاء على سعة صدره وعلى أدبه الجم.
أخي عبدالسلام:
هذا هو الأصل، فهو غير مدلس، وأنت عليك أن تأتي بالدليل على ذلك، وإلا يبقى
الأصل. وأنا لم أضرب أقوال العلماء بعرض الحائط وإنما بينت أن أول من أشار إلى
تدليسه هو ابن الجوزي وتبعه الذهبي وابن حجر على ذلك، فأين ضرب أقوالهم عرض الحائط؟!
وطالما أنك من مدرسة تعتز بها - كما نعتز بها كذلك - فينبغي أن يكون
المنتسب لهذه المدرسة رجّاعاً إلى أهل العلم المتقدمين في هذه المسائل، فهم أوسع
وأقرب من غيرهم ممن جاء بعدهم.
فكون الأئمة النقاد لم يصف أحد منهم خالداً بالتدليس، فهذا يجب أن يُعتبر،
إلا إذا جاء ما يثبت هذا بالدليل القطعي أو بالقرائن.
وأين الدليل والقرائن؟
أهي هذه الرواية الواحدة التي تعتقد أنه دلس فيها اسم شيخه - نفيع-!! على
فرض أنه شيخه؟!!!
فأنت أولاً منازع في إثبات أنه شيخه، مع الاحترام والتبجيل لقول أبي حاتم
أنه هو. ومع ذلك فجزم أبي حاتم أنه هو ومع ذلك لم يصفه بالتدليس.
على كل حال: سآتي على كلامك كله إن شاء الله تعالى إذا فرغت له.
وكان الأخ "أبو المظفّر السنّاري" - وفقه الله- كتب تعليقاً
مفيداً في هذا، فقال:
"أولاً: الشكر موصول للشيخ خالد الحايك على تقييداته
النافعة التي
لولاها ما كان الشيخ عبدالسلام ليصلح جملة مما ينبغي إصلاحه في الطبعة القادمة كما
وعد بذلك.
وهذا في الحقيقة من ثمرات مذاكرة العلم مع الأخذ فيه والرد.
وثانيًا: شكر الله الشيخ عبدالسلام على أدبه وسعة صدره لانتقادات إخوانه؛
زيادة عن تقبله وإقراره لما يكون قد أخطأ فيه أو سهى.
وهكذا ينبغي أن يكون العلم (رَحِمًا بين أهله).
وللعبد الفقير كُلَيْمة
لاح لي برْقُها في هذا المكان. فأقول:
قضية الجزم بكون ابن طهمان لا يدلس فيها نظر عندي! وكذا الجزم باستبعاد أن
يكون ما وقع لابن طهمان في هذا الحديث من قبيل الاختلاط أيضًا!
بل الأمران يدوران في دائرة الاحتمال عند التحقيق.
ومن كان مُخَلِّطًا أو مُتَكلَّمًا في حفظه بما ذكروه في حال ابن طهمان لا
يُسْتَنْكَر على مثله التدليس حيثما وُجِدَتْ دلائله.
ولا يمنع من هذا أن يكون دلس بعض شيوخه الضعفاء في وقت، ثم أمسك عن التدليس
في حق البعض في وقت آخر!
أما قضيتنا هنا: فالذي أميل إليه أن يكون ابن طهمان لم يدلس أبا داود
الأعمى، وإنما اعتراه ما يصيب أمثاله من المختلطين بآخرة!
وهذا قد يقع للراوي المختلط الذي لا نعلم أحدًا- يُعْتَمَدُ عليه - رماه
بتدليس أصلا!
فهذا الليث ابن أبي سليم إمام المختلطين! كان ربما ذكر اسم شيخه على ضروب
متباينة؛ دون أن
يكون داعيه إلى ذلك التدليس! وإنما هي آفة الاختلاط!
فقد روى حديثًاً عن شيخ له عن أبي هريرة، ثم اضطرب في اسم شيخه؟
فتارة يقول: (عن زياد بن أبي المغيرة أو زياد بن المغيرة) هكذا بالشك! وتارة
لا يشك ويقول: (عن زياد أبي المغيرة)! وتارة يقول: (عن زياد بن الحارث)! وتارة يقول:
(عن زياد)؟! ولا ينسبه!
ومعلوم أن الليث لم يكن في الحديث بالليث! وكان على ضعفه قد اختلط بأخرة حتى
صار يصرخ بالآذان في غير وقته! وكثرت مناكير الروايات في حديثه!
وقد كان يمكن أن يكون شيخه هذا كذابًا أو دجالاً، فلذلك تلوَّن في روايته
بامتطاء مركب التدليس! أعني تدليس الشيوح. وله من هذا القبيل نماذج ملموسة.
ومع هذا ما علمنا أحدًا من حُذاق
المتقدمين قد نصَّ
على كونه كان يدلس! بل انفرد بذلك - فيما نعلم - الحافظ النورُ الهيثمي في مواضع
كثيرة من (كتبه)! وتعقبه الحافظ على ذلك!
فقد قال الهيثمي في (كشف الأستار): "وليث بن أبي سليم ثقة، ولكنه مدلس"!
فتعقبه الحافظ في (مختصر زوائد البزار قائلا: "قلت: ما علمت أحدا صرح بأنه
ثقة، ولا من وصفه بالتدليس قبل الشيخ"!
هذا والحافظ يدري أن مثل الليث لا يبعد في حقه التدليس! لكنه ربما نازع هنا
لعلمه بكثرة أوهام شيخه الهيثمي إزاء الحكم على الرواة والنَّقَلَة. فكما وهم
الرجل في دعواه أن الليث ثقة، فلا يبعد أيضًا أن يكون واهمًا في رمْيِه بالتدليس!
وتدليس الرواة إنما يُدْرَك بأمرين:
الأول: أن ينصَّ عالم متقدم حاذق على ذلك.
الثاني: أو يهتدي الباحث المحقق إلى هذا بالنظر الثاقب وما يتلوه من القرائن.
وخالد بن طهمان لم ينص
أحدٌ من المتقدمين على تدليسه مع علم
جماعة من الحذاق منهم بكونه روى عن أبي داود الأعمى!
فأبو حاتم الرازي قد جزم بروايته عنه. وعندما ترجم ابنه لـ (نافع بن أبي
نافع) قال: "نافع بن أبي نافع: روى عن [معقل]، روى عنه: [خالد بن
طهمان]"، ثم قال: "سئل أبي عنه فقال: هو أبو داود نُفيع، وهو ضعيف الحديث"
[على ما صوَّبه الشيخ الحايك].
فلو كان أبو حاتم يرى هذا من قبيل
التدليس لوصف ابن
طهمان بذلك.
وابن الجوزي لم يصف ابن طهمان بالتدليس! لكنه فهمه من عبارة أبي حاتم!
وأغلب الظن أن يكون الذهبي وابن حجر فَهِمَا منه كذلك.
وهذا الفهم يحق لغيرهم أن ينازعهم فيه بما قام عنده من برهان يدل على نقيضه
أو خلافه.
فالحاصل: أن ابن طهمان جائز عليه التخليط في أسماء بعض شيوخه بما لا يكون
من قبيل التدليس! وإنما هو من قبيل سوء الحفظ وعدم الضبط! تمامًا كما كان يقع لليث
بن أبي سليم بما ذكرنا بعض نماذجه آنفًا.
فالليث: كان ربما يضطرب في اسم بعض شيوخه على عدة ألوان؟ ويكون صنيعه مما
يماثل أو يشبه صنيع من كان يحترف (تدليس الشيوخ) من الضعفاء!
ومع ذلك فلم نحفظ أن عالمًا من حُذَّاق المتقدمين قد رماه بالتدليس!
وكذلك خالد بن طهمان! فقد اضطرب في اسم أبي داود الأعمى - والراجح عندي
ثبوت روايته عنه - على ألوان! فتارة يقول: (عن نافع بن أبي نافع) وتارة يقول: (عن
نافع شيخ من همدان) وتارة يقول: (عن نافع) ولا ينسبه! وتارة يقول عنه غير ذلك!
ومع هذا فلم نحفظ أن عالمًا من حُذَّاق المتقدمين قد رماه بالتدليس!
هذا ما عندي الآن. والله المستعان"
انتهى كلام الأخ السنّاري.
وقد علّق الأخ عبدالسلام بقوله:
"لا يمكن أن نعتبر
عدم تنصيص المتقدمين على حكم ما في حق راوي ما أنه مانع من قبول رأي المتاخرين فيه
ما لم يخالف المنهجية المتبعة لديهم.... عدم ذكر المتقدمين لتدليس خالد ليس دليلاً
على نفي ذلك عنه... ولا تعارض بين وصفهم له بالاختلاط وبين وصفه بالتدليس... هذا
أولا،
أما ثانياً: كيف قاد الاختلاط خالد
بن طهمان لجعل نفيع نافعا...... ثم وصفه بشيخ من همدان..... فلولا أنه قام بهذا...
لألصق الأمر بالاختلاط وكفى..... لكن هذا السلوك أقرب إلى فعل المدلسين منه إلى
فعل المختلطين..... والله أعلم".
فعلقت عليه بقولي:
بل يجب أن تعتبره إلا إذا أتيت بدليل قاطع وبقرائن
قوية عليه، والحال في خالد أنه لا يدلس، وأول من أشار إلى تدليسه هو ابن الجوزي
اجتهاداً منه. وذكرنا لك أن أبا حاتم الذي يرى أن نافع بن أبي نافع شيخ خالد بن
طهمان هو نفسه نفيع الأعمى لم يصفه بالتدليس!!!
هذا على فرض أنه هو، فكيف تثبت أن نافعاً هذا
هو نفيع الأعمى؟!!!
ومن هنا ما زلت تردد: إنه دلس لأنه قال عن
"نفيع" وهو مصغر "نافع" وهو مكبر!! هذا يحتاج إلى دليل ناهض
لاعتباره، ولا بأس أن تذكر لنا أمثلة لهذا النوع من التدليس، أعني من دلس اسم شيخه
بأن يكون مصغراً فكبره! مثل ما فعل خالد - بحسب قولك - قال عن "نفيع":
"نافع"!
وأما قولك الأخير بتقريرك أنه لا يقبل نفي
التدليس بالكلية على النحو الذي ذكرت، فأقول لك: إنا على الأصل، وهو نفي التدليس
إلا إذا كان هناك ما يقطع بحصوله من خالد بن طهمان.
وقد تتبعت كل روايات خالد بن طهمان، فلم أجد
هناك رواية يمكن أن يقال إن فيها شبهة تدليس، وكل ما أتي منه من الاختلاط الذي
أصابه، وأهل النقد قد أكدوا ذلك.
فوصف راو بالتدليس من خلال رواية واحدة يظن أن
فيها تدليس بحسب إشارة ابن الجوزي غير معتبر، والله أعلم.
ثمّ علّق الأخ أبو المظفر السناري على قولي
المتقدم: "فهذا الذي ذكرته محتمل، ويحتمل أنه لم يضطرب في شيخه، وهذا
"نافع" هو آخر غير الأعمى، وهذا الذي أميل إليه، إذ لا يوجد قرينة ترجح
أحد الأمرين على الآخر"...
فقال: "قد وجدتُ ما ربما يقوي قولكم في هذا:
فقال الخطيب في تلخيص المتشابه [1/834] بعد أن ذكر جماعة كلهم يقال له: (نَافِعِ
بنِ أَبِي نَافِعٍ) قال: (ونَافِعُ بنُ أَبِي نَافِعٍ الهَمْدَانِيُّ، أَظُنُّهُ
كُوفِيًّا، حَدَّثَ عَنْ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ، رَوَى عَنْهُ خَالِدُ بنُ
طَهْمَانَ السَّلُولِيّ).
ثم ساق من طريقه حديثًاً بهذه الترجمة عن معقل
بن يسار. وفي هذا ما لعله يكون إشارة إلى كون الخطيب كان يفرِّق بين (نفيع بن
الحارث أبي داود الأعمى) وبين (نافِعِ بنِ أَبِي نَافِعٍ الهمداني) شيخ خالد بن
طهمان.
فإن قيل: وما يدرينا لعل الخطيب لم يفطن إلى
كون ابن طهمان قد اضطرب - أو دلَّس- في اسم أبي داود الأعمى كما أشار إليه أبو حاتم الرزاي؟!
قلنا: هذا قد يكون بعيدًا، لكون كتاب ابن أبي
حاتم (الجرح والتعديل) كان من موارد الخطيب في (كتبه) عامة وفي كتابه (تلخيص
المتشابه) خاصة. فقد نقل منه عدة نقولات مباشرة يقول فيها: (ذَكَرَهُ
عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ الْجَرْحِ
وَالتَّعْدِيل).
وقد اعتمد على هذا الكتاب كثيرًا في (تاريخ
بغداد) واقتبس منه (349 نصًّا) كما ذكر الشيخ البحاثة أكرم ضياء العمري في كتابه
النفيس (موارد الخطيب البغدادي في تاريخه [ص/365-366].
وهذا الكتاب معدودًا من مرويات الخطيب الحافظ.
قرأه على جماعة من شيوخه، فيبعد أن لا يكون قد وقف على كلام أبي حاتم الرازي في
ترجمة (نافع بن أبي نافع)!
وإذا كان قد وقف على كلامه ثم لم يذكر في كتابه
(التلخيص) أن (نافع بن أبي نافع) هو نفسه أبو داود الأعمى
- فكأنه كان بذلك الصنيع يرى التفريق بين هذا وذاك!" انتهى كلام الأخ السناري.
وعلّق بعدها الأخ عبدالسلام دون أدلة علمية،
وختمت كلامي له بقولي تعليقاً على فائدة أبي المظفر السابقة:
وهذا يدل - كما ذكرت - أن الخطيب قد فرق بين
شيخ خالد هذا وهو الهمداني، وبين نفيع أبي داود، ولا شك أن كلام الخطيب وفهمه مقدم
على فهم ابن الجوزي في تدليس خالد بن طهمان لشيخه، والذي اتكأ عليه الأخ عبدالسلام.
وما زلنا ننتظر من الأخ عبدالسلام أن يفيدنا
بأمثلة قد دلس فيها بعض الرواة بعض الشيوخ بتصغير أسماءهم او تكبيرها! كما حصل هنا
بحسب كلامه، فقد دلس خالد بن طهمان شيخه: نفيع" وسماه: "نافعاً"!!!
4/10/2011م.
الخلاصة:
ما طرحه الأخ الدكتور عبدالسلام أبو سمحة من أن تدليس الشيوخ من بعض الرواة
يؤدي إلى ظهور راو جديد قد لا يعرفه أهل العلم أنه مما دلّه ذلك الشيخ فيجهلونه،
وهذا قد يغيب عن بعض أهل النقد ولا يغيب عن بعضهم.
وقد ذكر الأخ عبدالسلام مثالين لهذا وضمنهما كتابه المتعلق بهذا الموضوع –
وفي أصلها بحوث مُحكّمة في بعض الجامعات – لكنه تعسّف في إثبات ما طرحه باستخدام
هذين المثالين البعيدين كل البعد عن أصل البحث.
أما المثال الأول: وهو ما رواه بقية عن عمر بن أبي عمر الكلاعي، وبقية
معروف بالتدليس، فذهب الأخ عبدالسلام إلى أن هذا الراوي هو نفسه "عمر بن موسى
الوجيهي" المعروف بالكذب وأن بقية دلّسه بعدة أسماء وكنى، فغفل أهل العلم عن
ذلك فجهلوه!! واعتمد في ذلك عن ظنّ لبعض أهل العلم أنه قد يكون هو هذا الوجيهي،
وخلط بين الأحاديث التي ذكرها أهل العلم للوجيهي وبين التي ذكروها لعمر الكلاعي أو
الدمشقي!!!
لكن الذي ذهب إليه أهل النقد أن شيخ بقية هذا هو غير الوجيهي، ولم يدلسه
بقية - وإن كان مدلساً - وإنما هو آخر من شيوخ بقية المجاهيل، ومعروف أن بقية يروي
عن شيوخ مجاهيل كُثر.
ولم يأت الدكتور بأيّ دليل أو قرينة على أن بقية دلّس الوجيهي هذا!
وأما المثال الآخر: وهو تدليس خالد بن طهمان لنُفيع الهمداني، دلّسه فسماه:
نافع بن أبي نافع، فانطلى على أهل العلم وجهّلوه!
وحقيقة الأمر أن خالداً لم يدلسه، ولم يعرف أنه دلّس قط! وإنما اعتمد
الدكتور في هذا على وصف ابن الجوزي له بذلك، مع أن المتقدمين الذين يزعم الدكتور
أنه يسير على منهجهم لم يصفه أحد بذلك!! فاعتمد على قول متأخر مظنون!!
والمعروف أن خالد بن طهمان كان قد اختلط واستمر اختلاطه طويلاً، فإن كان
نافع هذا هو نفيع الهمذاني فإن هذا لا يعدّ تدليساً وإنما وهماً منه بسبب اختلاطه،
وهذا كان يحدث لليث بن أبي سُليم وكان قد اختلط أيضاً، ومع ذلك لم يصفه أحد من أهل
العلم بالتدليس.
فكيف للدكتور أن يصف راوياً بالتدليس بل ويصفه بأنه "عمل مخطط ومصنوع بدقة مدلس ماكر...
وهذا ما عرف عن طرائق من احترف صنعة تدليس الشيوخ..."!!!
فهل يوصف خالد بن طهمان بأنه مدلس ماكر! وأنه خطط لهذا وصنعه بدقة كما
ادّعى الدكتور بسبب مثال واحد لم يثبت عنه؟!!
أهكذا هو التحقيق العلمي؟!! أهكذا هو منهج المتقدمين المُدّعى؟!!!
اثبت العرش ثم انقش... اثبت أيها الدكتور أن خالداً كان يدلس هذا التدليس
ويخطط له وأنه احترف صنعة تدليس الشيوخ على حدّ تعبيرك؟!!!
ومن هنا يظهر أن مشكلة كثير ممن يشتغلون بالحديث أنهم يبنون على مثال واحد
بحوثاً وكتباً هي أوهى من بيت العنكبوت عند التحقيق العلمي، فكيف إذا كان ذاك
المثال لا ينطبق على ما يريدونه!!! وأنه فهم ذلك المثال خطأً أو أنه اعتمد على قول
لإمام وتشبث به وكأن ذلك القول هو الحقّ الذي لا محيد عنه!!!
وكذلك أيضاً الدفاع عن الرأي دون حجة قوية! وشدة المناكفة عن ذلك وعدم
الاعتراف بالخطأ!!
نسأل الله أن يهدينا للحقّ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
شاركنا تعليقك