«إرشاد أولي الألباب»
إلى افتراءات وجهل «الحِمش عداب»!
في مقالة للدكتور عداب الحمش على صفحته في الفيسبوك بعنوان: «عليّ
عليه السلام لم يحرق أحداً بالنار» خلص فيها إلى أن الحديث الذي رواه البخاري في
تحريق عليّ للزنادقة لم يصح، وعلل الرواية ببعض العلل المتوهمة!
وسأنقل قوله كاملاً، ثم اتبعه بالنقد إن شاء الله وأبين الخلل في
فهمه للروايات! وكذلك دعاويه في بعض المسائل الحديثية.
قال عداب: "تحريق عليّ للزنادقة غير صحيح، وعليّ صحابي جليل، لكنه ليس
بمشرع، وماهو بمعصوم، والخطأ في الاجتهاد ممكن من الجميع سوى الرسل.
أخرج البخاري (9922، 3017) وأحمد (1874، 2547، 2548) وأبو داود
(4351) والترمذيّ (1458) والنسائي (4060) والشافعيّ في الأم (1: 428) جميعهم من
حديث أيّوب بن أبي تميمة عَنْ عِكْرِمَةَ مولى ابن عبّاسٍ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ
عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ)
وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه). وأيّوب بن أبي تميمة من العلماء الثقات، لكنّ
عكرمة مولى ابن عبّاس اختلف فيه علماء الحديث، بما لم يختلفوا على أحدٍ مثله.
فمنهم من رفعه إلى مصافّ الثقات الكبار، ومنهم من كذّبه، واتّهمه
حتى بدينه بل إنّ بعض معاصريه اتّهمه بأنه لا يصلّي!
ونحن لن نخوض في شيءٍ من ذلك، لكننا نقول ما نقل ابن حبّان الإجماع
عليه، وهو أن المبتدع الداعية إلى بدعته؛ لا تقبل رواياته التي انفرد بها، وخصوصاً
تلك التي يظهر فيها أثر انتصاره لبدعته، أو اتّهام خصمه.
وقد جاء اتّهام عكرمة برأي الخوارج عن كثيرٍ من معاصريه، ومنهم
أيوب راوي هذا الحديث عنه، وهذا يقودنا إلى عدم قبول حديثه الذي ينفرد به، حتى نجد
له متابعةً أو شاهداً.
والعلّة الثانية: أنّ عكرمة لم يدرك عليّاً، فالحديث منقطع،
والمنقطع من أنواع الحديث الضعيف!
وقد أخرج الإمام الشافعيّ في الأم (1: 428) في باب عقوبة المرتدّ
حديثَ عثمان بن عفان رضي الله عنه مرفوعاً (لا يحلّ دم امرئ إلا بإحدى ثلاث) وصححه.
وأخرج بعده حديث عكرمه عن عليّ في تحريق الزنادقة.
وأخرج بعده حديث زيد بن أسلم مرفوعا: (من بدّل دينه فاقتلوه)،
ثم قال ما نصه: (ولم أر أهل الحديث يثبتون حديث
زيدٍ؛ لأنه منقطع، ولا الحديث قبلَه (يعني حديث عكرمة للسبب نفسه!) وهذا الشافعي
يضعف حديث عكرمة بقوله: لا يثبت!
وقال الحافظ العلائي في جامع التحصيل (ص: 239): (قال أبو زرعة:
عكرمة عن أبي بكر الصديق، وعن علي رضي الله عنهما مرسل) يعني: هو منقطع، مثلما قال
الشافعيّ لكنّ دعوى تحريقِ عليّ لقومٍ من الناس؛ لم يقتصر على عكرمة، وإنما جاء من
حديث أنس رضي الله عنه.
فقد أخرج الإمام أحمد (2968) والنسائي في المجتبى (4065) وفي
الكبرى (3528) و الطبراني في المعجم الكبير (10638) والبيهقي في السنن الكبير
(16637) جميعهم من حديث عَبْدُ الصَّمَدِ بنِ عبدالوارِثِ عن هِشَامِ بنِ أَبِي
عَبْدِاللَّهِ الدستوائيّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِأُنَاسٍ مِنْ الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا
فَأَحْرَقَهُمْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه.
قال أبو الفضل المقدسي في أطراف الغرائب (2285) تفرّد به عبدالصمد
بن عبدالوارث عن هشامٍ، عن قتادة.
وسئل أبو حاتم الرازي عن هذا الحديث، كما في العلل لابنه (1: 449)
فقال: (كذا يرويه عبدالصمد، وإنما هو: قتادة عن عكرمة؛ أنّ عليّاً) فرجع الحديث
إلى عكرمة، وجعله من حديث أنس عن عليّ؛ إنما هو وهمٌ من عبدالصّمد، وقد وصفه بذلك
عدد من الحفاظ، انظر تهذيب ابن حجر (6: 291).
وهناك رواية أخرى في تحريق عليّ رضي الله عنه للزنادقة، أخرجها ابن
أبي شيبة في المصنف (5: 563) وأعاده بأتمّ منه (6: 486) من طريق أبي بكر بن عياش
عن أبي حصين عثمان بن عاصم، عن سويد بن غفلة، عن عليّ.
وهذه الرواية في مسند البزار المعلل (2: 190)، وليس في كتب السنة
المشهورة كلها: أبو بكر بن عياش عن أبي حصين، عن سويد بن غفلة سوى هذه الرواية عند
ابن أبي شيبة والبزار.
وهناك رواية أخرى عند الطحاوي في معاني الآثار (1: 188): أبو بكر
بن عياش عن أبي حصين، عن سويد بن غفلة..وساق قصة له مع الحجاج.
والبخاري الذي ساق رواية عكرمة عن عليّ؛ خرّج من طريق أبي بكر بن
عياش عن أبي حصين عثمان بن عاصم أكثر من عشر روايات، أفلم يكن كتاب شيخه أبي بكر
بن أبي شيبة بين يديه، فلِمَ عَدَل عن رواية سويد بن غفلة عن عليّ، وسويدٌ أوثق من
عكرمة بما لا يقاس!؟
فهذه إذنْ رواية فاذّةٌ شاذّةٌ تحاشاها البخاريّ وغيره.
وإذا كان البخاريّ تحاشى رواية أبي بكر بن عياش عن أبي حصين، عن
سويد بن غفلة؛ فإنّ مسلماً تحاشاه نهائيّاً، فلم يخرّج عنه في صحيحه أيّ رواية،
لما عُرف به من اضطرابه في آخر عمره.
بقي أن أشيرَ إلى ما أورده ابن حجر في فتح الباري (12: 270) إذ قال:
روينا في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص
من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعليّ: إن هنا قوما على باب
المسجد يَدّعون أنك ربّهم فدعاهم، فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟!
قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا!
فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما
تشربون!
إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتّقوا
الله وارجعوا!
فأبوا، فلمّا كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا
يقولون ذلك الكلام!
فقال عليٌّ: أدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث، قال: لئن قلتم
ذلك لأقتلنكم بأخبثِ قِتْلة!
فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر ائتني بفَعَلة معهم مُرورُهم [جمع:
مَرّ، وهي آلة فلاحة] فخدّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا
فأبعدوا في الأرض!
وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إني طارحكم فيها، أو
ترجعوا! فأبوا أن يرجعوا، فقُذف بهم فيها، حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمراً منكرا ... أوقدت ناري، ودعوت قَنبرا!!
قال ابن حجر: وهذا سند حسن!
قال عداب: عبدالله بن شريك العامري، اختلف فيه، فوثقه أحمد وابن
معين ويعقوب بن سفيان الفسويّ، وتركه عبدالرحمن بن مهدي وابن حبان وأبو الفتح
الأزدي (الشيعيّ) وقال: كان مختاريّاً يكذب!
وقال ابن حجر في الإصابة (3: 383): كان عبدالله بن شريك مع المختار
في الكوفة!
قلت: فتحسين ابن حجر له؛ مبنيّ على أمرين:
الأولى: أنّ عبدالله بن شريك مختلف فيه، والمختلف فيه سنده حسن عنده!
والثانية: أنّ الرجل شيعيّ غير متّهم على عليّ.
أقول: حين يرميه الشيعيّ أبو الفتح الأزدي بالكذب، ويتركه ابن
مهدي، ويقول ابن حبان: يستحقّ الترك؛ فلا يستحقّ أن يروى عنه بتاتاً، وحديثه الذي
ينفرد به منكر، والله أعلم.
وهذا يعني أنّ عليّاً لم يحرق أحداً، وإنما هي وهمٌ أو فريةٌ من
عكرمة الخارجيّ. والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين" انتهى كلامه.
قلت: قد وقع (عداب) في أوهام وأخطاء، وافترى على عكرمة وغيره!
وسأبيّن ذلك بالدليل – إن شاء الله تعالى-.
أولاً: حاول (العداب)
غمز عكرمة بقوله: "فمنهم من رفعه إلى مصافّ الثقات الكبار، ومنهم من كذّبه،
واتّهمه حتى بدينه بل إنّ بعض معاصريه اتّهمه بأنه لا يصلّي! ونحن لن نخوض في شيءٍ
من ذلك".
قلت: هذا أسلوب خبيث للطعن في حملة السنة! وهو التشكيك فيه دون
بيان آراء أهل النقد! فمن يقرأ كلامه هذا ممن لا يعرف حال عكرمه يشك في أمره
ويصدّق النتيجة التي سيقولها (عداب)!!
وأما اتهامه بالكذب أو بدينه فلم يصح، وأما أنه لا يصلي فهذا كذب
وافتراء من عداب! ولو كان عند (عداب) ذرة حياء لما تكلم بهذا الأسلوب الخبيث! ولو
كان ما افتراه على عكرمة فيه شمة من الصحة لذكره! ولكن هيهات هيهات من إثبات ما
افتراه هذا الكذاب!
أما ما يتعلق باتهامه بالكذب فلا يصحّ؛ لأنه من رواية الضعفاء!
قال ابن حبان في كتاب «الثقات» (5/230): "وكان جابر بن زيد
يقول: عكرمة من أعلم الناس ومن زعم أنا كنا نتقي حديث عكرمة فلم ينصف، إذ لم نتقي
الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى وذويه. ولا يجب على من شم رائحة العلم أن يعرج على
قول يزيد بن أبي زياد حيث يقول: دخلت على عليّ بن عبدالله بن عباس وعكرمة مقيد على
باب الحش! قلت: من هذا؟ قال: إن هذا يكذب على أبي! ومن أمحل المحال أن يجرح العدل
بكلام المجروح؛ لأن يزيد بن أبي زياد ليس ممن يحتج بنقل حديثه، ولا بشيء يقوله
أيوب بن رزين عن نافع قال: سمعت ابن عمر يقول: يا نافع، لا تكذب عليّ كما يكذب
عكرمة على ابن عباس! قلت: أما عكرمة فحمل أهل العلم عنه الحديث والفقه في الأقاليم
كلها، وما أعلم أحداً ذمّه بشيء إلا بدعابة كانت فيه".
وقال أبو خلف عبدالله بن عيسى الخراز عن يحيى البكاء: سمعت ابن عمر
يقول لنافع: "اتق الله، ويحك لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. كما
أحل الصرف وأسلم ابنه صيرفيا".
قال الذهبي معقباً على هذه الحكاية: "البكّاء واهٍ".
وقال أحمد: "يحيى البكاء غير ثقة".
وقال ابن حجر في «مقدمة فتح الباري»: "وقال ابن جرير: إن ثبت
هذا عن ابن عمر فهو محتمل لأوجه كثيرة لا يتعين منه القدح في جميع روايته، فقد
يمكن أن يكون أنكر عليه مسألة من المسائل كذبه فيها. قلت: وهو احتمال صحيح؛ لأنه
روى عن ابن عمر أنه أنكر عليه الرواية عن ابن عباس في الصرف، ثم استدل ابن جرير
على أن ذلك لا يوجب قدحاً فيه بما رواه الثقات عن سالم بن عبدالله بن عمر أنه قال:
إذ قيل له إن نافعاً مولى ابن عمر حدث عن ابن عمر في مسألة الإتيان في المحل
المكروه: كذب العبد على أبي! قال ابن جرير: ولم يروا ذلك من قول سالم في نافع جرحاً،
فينبغي أن لا يروا ذلك من ابن عمر في عكرمة جرحاً.
وقال ابن حبان: أهل الحجاز يطلقون [كذب] في موضع [أخطأ]، ذكر هذا
في ترجمة برد من كتاب الثقات، ويؤيد ذلك إطلاق عبادة بن الصامت قوله [كذب أبو محمد]
لما أخبر أنه يقول: (الوتر واجب)، فإن أبا محمد لم يقله رواية، وإنما قاله اجتهاداً،
والمجتهد لا يُقال إنه كذب إنما يقال: إنه أخطأ. وذكر ابن عبد البر لذلك أمثلة
كثيرة. وأما قول سعيد بن المسيب فقال ابن جرير: ليس ببعيد أن يكون الذي حكي عنه
نظير الذي حكي عن ابن عمر. قلت: وهو كما قال، فقد تبين ذلك من حكاية عطاء الخرساني
عنه في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة، ولقد ظُلم عكرمة في ذلك فإن هذا
مروي عن ابن عباس من طرق كثيرة أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها
وهو محرم. ونظير ذلك ما تقدم عن عطاء وسعيد بن جبير ويقوي صحة ما حكاه ابن حبان
أنهم يطلقون الكذب في موضع الخطأ ما سيأتي عن هؤلاء من الثناء عليه، والتعظيم له،
فإنه دال على أن طعنهم عليه إنما هو في هذه المواضع المخصوصة، وكذلك قول ابن سيرين:
الظاهر أنه طعن عليه من حيث الرأي، وإلا فقد قال خالد الحذاء: كلّ ما قال محمد بن
سيرين: نُبئت عن ابن عباس، فإنما أخذه عن عكرمة، وكان لا يسميه؛ لأنه لم يكن يرضاه".
قلت: وهؤلاء الذين كانوا يكذّبون عكرمة لم يكن عندهم الحجة في ذلك،
وكانوا يتهمونه من خلفه!! وقد ردّ عليهم هو نفسه.
قال سليمان بن حرب: قال حماد بن زيد: قال أيوب: قال عكرمة: "رأيت
هؤلاء الذين يُكذبوني من خلفي أفلا يكذبوني في وجهي!" يعني أنهم إذا واجهوه
بذلك أمكنه الجواب عنه والمخرج منه.
وقال سليمان بن حرب: "وجه هذا أنهم إذا رموه بالكذب لم يجدوا
عليه حجة".
وروى ابن فضيل عن عثمان بن حكيم قال: "كنت جالساً مع أبي
أمامة بن سهل إذ جاء عكرمة، فقال: يا أبا أمامة، أذكرك الله، هل سمعت ابن عباس
يقول: ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه، فإنه لم يكذب عليّ! فقال أبو أمامة: نعم".
قال أيوب عن عمرو بن دينار: دفع إليّ جابر بن زيد مسائل أسأل عكرمة
وجعل يقول: "هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه".
وعن يحيى بن معين قال: حدثني من سمع حماد بن زيد يقول: سمعت أيوب -
وسئل عن عكرمة - كيف هو؟ قال: "لو لم يكن عندي ثقة لم أكتب عنه".
وروى خالد بن خراش قال: قال رجل لأيوب، أكان عكرمة يُتهم؟ قال: "أما
أنا فلم أتهمه، ولكن أردت أن أخرج إليه حتى قدم علينا".
وقال عفّان: حدثنا وهيب قال: شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري وأيوب،
فذكرا عكرمة، فقال يحيى بن سعيد: "كان كذاباً"، وقال أيوب: "لم يكن
بكذاب".
قال عبدالرحمن ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عكرمة مولى ابن عباس؟
فقال: "هو ثقة"، قلت: يُحتج بحديثه؟ قال: "نعم، إذا روى عنه الثقات،
والذي أنكر عليه يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك فبسبب رأيه".
وقال الإمام البخاري في «التاريخ الكبير» (7/49): "ليس أحد من
أصحابنا إلا احتج بعكرمة".
وقال ابن حبان في «مشاهير علماء الأمصار»: "عكرمة مولى ابن
عباس أبو عبدالله، من أهل الحفظ والإتقان والملازمين للورع في السر والإعلان، ممن
كان يرجع إلى علم القرآن مع الفقه والنسك، ممن كان يسافر في الغزوات مات سنة سبع
ومائة".
وروى جعفر بن أبي عثمان الطياليسي عن يحيى بن معين قال: "إذا
رأيت إنساناً يقع في عكرمة وفي حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام".
قال الذهبي معقباً على هذا: "قلت: هذا محمول على الوقوع فيهما
بهوى وحيف في وزنهما، أما من نقل ما قيل في جرحهما وتعديلهما على الإنصاف فقد أصاب،
نعم إنما قال يحيى هذا في معرض رواية حديث خاص في رؤية الله تعالى في المنام وهو
حديث يستنكر، وقد جمع ابن مندة فيه جزءاً سماه صحة حديث عكرمة".
وقال ابن عدي في «الكامل» (5/271): "وعكرمة مولى ابن عباس لم
أخرج ها هنا من حديثه شيئاً؛ لأن الثقات إذا رووا عنه فهو مستقيم الحديث، إلا أن
يروي عنه ضعيف، فيكون قد أتي من قبل ضعيف لا من قبله، ولم يمتنع الأئمة من الرواية
عنه، وأصحاب الصحاح أدخلوا أحاديثه إذا روى عنه ثقة في صحاحهم، وهو أشهر من أن
يحتاج أن أجرح حديثاً من حديثه، وهو لا بأس به".
وقال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (7/240): "وقال ابن منده في
صحيحه: (أما حال عكرمة في نفسه فقد عدّله أمة من نبلاء التابعين فمن بعدهم، وحدّثوا
عنه واحتجوا بمفاريده في الصفات والسنن والأحكام. روى عنه زهاء ثلاثمائة رجل من
البلدان، منهم زيادة على سبعين رجلاً من خيار التابعين ورفعائهم، وهذه منزلة لا
تكاد توجد لكثير أحد من التابعين، على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك من الرواية
عنه ولم يستغنوا عن حديثه، وكان يتلقى حديثه بالقبول ويحتج به قرناً بعد قرن
وإماماً بعد إمام إلى وقت الأئمة الأربعة الذين أخرجوا الصحيح وميزوا ثابته من
سقيمه، وخطأه من صوابه، وأخرجوا روايته، وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي،
فاجمعوا على إخراج حديثه واحتجوا به، على أن مسلماً كان أسوأهم رأياً فيه، وقد
أخرج عنه مقروناً، وعدّله بعدما جرحه).
وقال أبو عبدالله محمد بن نصر المروزي: (قد أجمع عامة أهل العلم
بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل
عصرنا منهم: أحمد بن حنبل وابن راهويه ويحيى بن معين وأبو ثور، ولقد سألت إسحاق بن
راهويه عن الاحتجاج بحديثه؟ فقال: عكرمة عندنا إمام الدنيا، تعجب من سؤالي إياه!
وحدثنا غير واحد أنهم شهدوا يحيى بن معين وسأله بعض الناس عن الاحتجاج بعكرمة
فأظهر التعجب!
وعكرمة قد ثبتت عدالته بصحبة ابن عباس وملازمته إياه، وبأن غير
واحد من العلماء قد رووا عنه وعدلوه. وكلّ رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد
حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه).
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وأبو عبدالله الحاكم وأبو عمر
بن عبدالبر فيه نحوا مما تقدم عن محمد بن نصر، وبسط أبو جعفر الطبري القول في ذلك
ببراهينه وحججه في ورقتين، وقد لخصت ذلك وزدت عليه كثيراً في ترجمته من مقدمة شرح
البخاري، وسبق إلى ذلك أيضاً المنذري في جزء مفرد، وأما ما تقدم من أنهم لم يشهدوا
جنازته فلعل ذلك إن ثبت كان بسبب تطلب الأمير له وتغيبه عنه حتى مات كما تقدم،
والذي نقل أنهم شهدوا جنازة كثير وتركوا عكرمة لم يثبت؛ لأن ناقله لم يُسم".
وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (5/34): "خرّج له مسلم
مقروناً بطاووس في الحج، فالذين أهدروه كبار، والذين احتجوا به كبار، والله أعلم
بالصواب".
قلت: أهدروه يعني أنهم لم يرووا له وليس لأنه متهم في دينه! ومسلم
لم يرو له في الأصول لتشدده في مسألة البدعة بخلاف الإمام البخاري.
وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (5/116): "عكرمة مولى ابن
عباس: أحد أوعية العلم، تُكلِّم فيه لرأيه لا لحفظه، فاتهم برأي الخوارج، وقد وثقه
جماعة واعتمده البخاري، وأما مسلم فتجنبه، وروى له قليلاً مقروناً بغيره، وأعرض
عنه مالك وتحايده إلا في حديث أو حديثين".
ومن تكلّم في عكرمة إنما تكلّم بسبب أنه يروي بعض الأشياء في
التفسير عن ابن عباس وغيره يخالفه، وهي قليلة، وتُحمل على أن ابن عباس كان يقول
هذا وهذا، فلا يُكذّب عكرمة في ذلك.
قال أيوب: "اجتمع حفاظ ابن عباس فيهم: سعيد بن جبير وعطاء
وطاوس على عكرمة، فأقعدوه فجلعوا يسألونه عن حديث ابن عباس. قال: فكلما حدثهم
حديثاً، قال سعيد بن جبير بيده هكذا فعقد ثلاثين، حتى سئل عن الحوت؟ فقال عكرمة:
كان يسايرهما في ضحضاح من الماء! فقال سعيد: أشهد على ابن عباس أنه قال: كانا
يحملانه في مكتل. فقال أيوب: أراه كان يقول القولين جميعاً".
وأما رميه برأي الخوارج! فهذا مما لم يفهمه عداب!!
قال يحيى بن بكير: "قدم عكرمة مصر ونزل هذه الدار، وخرج إلى
المغرب، فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا".
وقال عليّ بن المديني: "كان عكرمة يرى رأي نجدة الحروري".
وهذا إنما نقله ابن لهيعة!
وقال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين يقول: "إنما لم يذكر
مالك عكرمة - يعني في الموطأ – قال: لأن عكرمة كان ينتحل رأي الصفَّرية".
وروى عمر بن قيس المكي عن عطاء بن أبي رباح قال: "كان عكرمة
إباضياً". وعمر بن قيس متروك منكر الحديث.
وعن أبي مريم قال: "كان عكرمة بيهسياً". [البيهسية طائفة
من الخوارج، يُنسبون إلى أبي بيهَس، وهو رأس فرقة من طوائف الخوارج من الصفرية،
وهو موافق لهم في وجوب الخروج على أئمة الجور، وكلّ من لا يعتقد معتقدهم عندهم
كافر، لكن خالفهم بأنه يقول أن صاحب الكبيرة لا يكفر إلا إذا رفع إلى الإمام فأقيم
عليه الحد فإنه حينئذ يحكم بكفره].
وقال إبراهيم الجوزجاني: سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة، أكان يرى رأي
الإباضية؟ فقال: "يُقال إنه كان صفرياً"، قلت: أتى البربر؟
قال: "نعم، وأتى خراسان يطوف على الأمراء يأخذ منهم".
وقال علي بن المديني: حُكي عن يعقوب الحضرمي عن جدّه
قال: "وقف عكرمة على باب المسجد، فقال: ما فيه إلا كافر"!!
وقال مصعب بن عبدالله الزبيري: "كان عكرمة يرى رأي الخوارج،
وادّعى على عبدالله بن عباس أنه كان يرى رأي الخوارج".
قال الذهبي معقباً على قول مصعب: "هذه حكاية بلا إسناد".
قلت: فكأن ما ذكره بعض أهل العلم عن عكرمة أنه من الخوارج تتابعوا
عليه دون الإتيان بأيّ دليل عليه! فكل ما يذكرونه: "يُقال.. حُكي..
يزعمون"!!!
قال العجلي: "عكرمة مولى ابن عباس: ثقة، وهو بريء مما يرميه
الناس به من الحرورية".
وقال ابن يونس إمام أهل مصر: "وبالمغرب إلى وقتنا هذا قوم على
مذهب الإباضية يعرفون بالصفرية يزعمون أنهم أخذوا مذهبهم عن عكرمة
مولى ابن عباس".
قلت: وكأن عكرمة كان يرى الخروج على الظلمة وأئمة الجور بالسيف،
فنُسب إلى مذهب الخوارج، وليس كل من رأى هذا يُنسب إليهم، فقد خرج على أئمة الجور
جلّة من السلف وما نعتهم أحد بأنهم من الخوارج الحرورية والصفرية! فكيف بمن رأى
هذا الرأي ولم يفعله؟!
وكثرة القيل والزعم في أمر عكرمة مرة بنسبته "إباضياً"
ومرة بأنه "صفرياً" وأخرى بأنه "بيهسياً" ومرة بأنه
"حرورياً"! – وإن كانت هذه كلها تدخل تحت مسمى الخوارج- فهذا يدل على أن
هذا لا يصح! فهؤلاء لهم عقائدهم الخاصة وعكرمة بعيد كل البعد عن ذلك.
وكأن من نسبه لمذهب الخوارج
احتج بما رواه خلاد بن سليمان الحضرمي المصري، عن خالد بن أبي عمران قاضي
أفريقية وعالمهم، قال: "دخل علينا عكرمة مولى ابن عباس بأفريقية في وقت
الموسم، فقال: وددت أني اليوم بالموسم بيدي حربة أضرب بها يميناً وشمالاً"،
وفي رواية: "فأعترض بها من شهد الموسم". قال خالد: "فمن يومئذ رفض
به أهل أفريقية".
قلت: فهذه الحكاية فيها إشارة إلى أنه كان يرى جواز الخروج بالسيف
على الظلمة، والموسم هو "الحج" ويقصد بذلك الأمير ومن معه، فإن الولاة
هم من كانوا يحجّون بالناس وحاشيتهم معهم، وليس قصده أن يضرب الناس ويقتلهم...
ويؤيده رواية "فأعترض بها من شهد الموسم" – أي من هؤلاء الظلمة، وعكرمة
من أهل العلم الثقات لا يُظنّ به أنه يُكفِّر المسلمين ويدعو لقتالهم! ولم يُنقل
عنه أي شيء في هذا من تلاميذه وأصحابه. ولم يُنقل أنه خرج مع الخوارج أو أنهم
جاؤوا إليه وجلس معهم!
ويؤيده ما ذكرنا أنه ربما كان يرى جواز الخروج على الظلمة ما قاله مصعب
بن عبدالله بن مصعب بن ثابت الزبيري: "كان عكرمة يرى رأي الخوارج، فطلبه بعض
ولاة المدينة فتغيَّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده". وكان دَاوُد بن
الحصين المدني فَصِيحًا عَالِمًا وَيُتَّهَمُ بِرَأْيِ الخَوَارِجِ، وروى عنه
مالك. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: "لولا أَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنْهُ
لَتُرِكَ حَدِيثُهُ".
والذي كان على المَدِينَةِ ومَكَّةَ وَالطَّائِفِ في سنة (105هـ) (عَبْدُالوَاحِدِ
النَّضْرِيُّ) ولاه يزيد بن عبدالملك المدينة من سنة (104هـ)، فلما تولى هشام بن
عبدالملك عزل عبدالواحد النضري عن مكة والمدينة والطائف سنة (106هـ)، وولى ذلك
خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي.
ثم وجدت كلاماً نفيساً لذهبي هذا العصر المعلمي اليماني يُبيّن فيه
قول أهل النقد في بعض الرواة: "كان من الخوارج"، قال – رحمه الله-: "المحدّثون
قد يطلقون «الخوارج» على مطلق الخارجين على السلطان وإن كانوا بريئين عن سائر
أقوال الخوارج.. وقد يغفل بعض الأئمة عن هذا؛ فيقول في أحد هؤلاء إنه من الحرورية؛
يبنيه على ما فهمه من قول غيره: «من الخوارج»".
وما رُوي من ذمّ مالك وغيره له بسبب ما نُسب إليه من هذا الرأي.
قال معن وغيره: "كان مالك لا يرى عكرمة ثقة، ويأمر أن لا يؤخذ
عنه".
قال يحيى بن معين: "كان مالك يكره عكرمة"، قيل: فقد روى
عن رجل عنه؟ قال: "شيء يسير".
وقال ابن المديني: "لم يسم مالك عكرمة في شيء من كتبه إلا في
حديث ثور عن عكرمة عن ابن عباس في الذي يصيب أهله وهو محرم، قال: يصوم ويهدي.
وكأنه ذهب إلى أنه يرى رأي الخوارج، وكان يقول في كتبه: رجل".
قال ابن حجر في مقدمة الفتح: "وأما ذم مالك فقد بين سببه وأنه
لأجل ما رُمي به من القول ببدعة الخوارج، وقد جزم بذلك أبو حاتم. قال ابن أبي حاتم:
(سألت أبي عن عكرمة؟ فقال: ثقة، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: نعم، إذا روى عنه الثقات،
والذي أنكر عليه مالك إنما هو بسبب رأيه). على أنه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه
كان يرى ذلك، وإنما كان يوافق في بعض المسائل فنسبوه إليهم، وقد برأه أحمد والعجلي
من ذلك، فقال في كتاب الثقات له: عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما مكي تابعي
ثقة بريء مما يرميه الناس به من الحرورية. وقال ابن جرير: لو كان كل من اُدّعي
عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما اُدعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته
بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به
عنه. وأما قبوله لجوائز الأمراء فليس ذلك بمانع من قبول روايته، وهذا الزهري قد
كان في ذلك أشهر من عكرمة، ومع ذلك فلم يترك أحد الرواية عنه بسبب ذلك".
قلت: فمن نسبه لمذهب الخوارج فعليه إثبات ذلك! والعجب من الإمام
مالك يروي عن داود بن الحصين وهو متهم برأي الخوارج، ويترك الرواية عن عكرمة بسبب
اتهامه بهذه البدعة! وكذلك العجب من الإمام مسلم فإنه ترك عكرمة وروى لداود بن
الحصين، وكأنه تبع مالكا في ذلك؛ فإنه روى له ما رواه مالك عنه!
وأما أنه كان لا يصلي فهذا من افتراءات (عداب)! فكيف يكون خارجياً –
على فرض صحة ذلك- ولا يصلي؟!! أليس الخوارج يعدّون الكبائر كفراً!
فالذي رُوي في هذا أنه لم يكن يحسن الصلاة! لا أنه كان لا يصلي!!
فهل يعي (عداب) ماذا يخرج من رأسه؟! وهل صح أنه كان لا يحسن الصلاة؟!
قال ابن أبي خيثمة في «تاريخه»: "ورَأَيْتُ فِي كتاب عَلِيّ
بن المَدِيْنِيّ: سمعت يَحْيَى بن سعيد يقول: حدثوني والله عن أيوب أنه ذُكِرَ له
أن عِكْرِمَة لا يحسن الصَّلاة، قالَ أيوب: وكان يصلي".
قلت: هذا إسناد لا يُحتج به؛ لأننا لا نعرف من هؤلاء الذين حدثوا
بذلك عن أيوب.. ولو صح ذلك فإن هذا قد يحمل على أمر معين في مخالفته لبعضهم في بعض
المسائل المتعلقة بالصلاة.
قال يَحْيَى بنُ مَعِيْن: حدثنا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَان، عَنْ
أَبِي عُبَيْدَة، عَنْ عِمَارَة بنِ حَيَّان: "أَنَّ عِكْرِمَة كَانَ لا
يُصَلِّي خَلْفَ مَن لا يَجْهَرْ".
فهذا فيه نقض لافتراء (عداب) بأنه كان لا يصلي!
ثم إن أيوب ممن لازمه وسمع منه فكيف يكون لا يحسن صلاته ويسمع منه!
قال حَمَّاد بنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قالَ: "أَرَدْتُ أَنْ
أَرْحَلَ إِلَى عِكْرِمَة إِلَى أُفُقٍ مِنَ الآفَاقِ فإنِّي لَفِي سُوقٍ
بِالْبَصْرَةِ إِذَا رَجُلٌ عَلَى حمارٍ فَقِيلَ لِي: عِكْرِمَة، فَاجْتَمَعَ
النَّاسُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَمَا قَدَرْتُ عَلَى شيءٍ
أَسْأَلُهُ عَنْهُ ذَهَبَتِ الْمَسَائِلُ مِنِّي، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِ حِمَارِهِ
وَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ وَأَنَا أَحْفَظُ".
ومسألة أنه لا يحسن يصلي قد اتهم بها من هو خير من عكرمة. ففي
الصحيح من حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ قال: «شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إلى
عُمَرَ رضي الله عنه فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عليهم عَمَّارًا، فَشَكَوْا حتى
ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي فَأَرْسَلَ إليه، فقال: يا
أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي! قال
أبو إِسْحَاقَ: أَمَّا أنا والله فَإِنِّي كنت أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رسول
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما أَخْرِمُ عنها أُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ
فَأَرْكُدُ في الْأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ في الْأُخْرَيَيْنِ. قال: ذَاكَ الظَّنُّ
بِكَ يا أَبَا إِسْحَاقَ».
قلت: فكان ينبغي لعداب لو كان حسن النية أن يبين ما رُمي به عكرمة
من تهم ويأتي بأقوال أهل العلم في ذلك، لا أن يُشكك فيه ويمضي حتى يصوّر للقارئ
أنه متّهم! والصحيح أنه من كبار الثقات.
ثانياً: علّل عداب
رواية عكرمة بعلتين: الأولى: أن هذه الرواية تؤيد بدعة راويها الخارجي (عكرمة)!
والثانية: انقطاع الرواية لأن عكرمة لم يسمع من عليّ.
أما فيما يتعلق بالعلة الأولى فهذه من اختراع (عداب)! فهو بناها
على أنه خارجي وأنه كان داعية لبدعته! وأسقط كلام ابن حبان عليه!
قال ابن حجر في مقدمة الفتح وهو يُفصّل مذاهب أهل العلم في قبول
رواية المبتدع: "فقيل: يقبل مطلقاً، وقيل: يرد مطلقاً، والثالث: التفصيل بين
أن يكون داعية لبدعته أو غير داعية، فيقبل غير الداعية ويرد حديث الداعية، وهذا
المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة، وادّعى ابن حبان إجماع أهل النقل
عليه، لكن في دعوى ذلك نظر".
قلت: فهذا ابن حجر لم يوافق ابن حبان في دعوى الإجماع هذه! وقد احتج
البخاري بعمران بن حطان وهو من الدعاة الخوارج، واحتج البخاري ومسلم بعبدالحميد بن
عبدالرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء.
فدعوى ابن حبان فيها نظر وهي فيمن كان داعية لبدعته، وعكرمة مختلف
في نسبته لبدعة الخوارج ولم يقل أحد أنه كان داعية لبدعته! فكيف يسقط (عداب) قول
ابن حبان عليه وهي لا تنطبق عليه!
قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (7/154) بعد أن ذكر قولاً لابن
معين في حديث أهل البدع: "قلت: هذه مسألة كبيرة، وهي القدري والمعتزلي
والجهمي والرافضي إذا علم صدقه في الحديث وتقواه ولم يكن داعياً إلى بدعته، فالذي
عليه أكثر العلماء قبول روايته والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية: هل يؤخذ عنه؟ فذَهبَ
كَثِيْرٌ مِنَ الحُفَّاظِ إِلَى تَجَنُّبِ حَدِيْثِهِ، وَهُجْرَانِهِ، وَقَالَ
بَعْضُهُم: إِذَا عَلِمْنَا صِدْقَهُ، وَكَانَ دَاعِيَةً، وَوَجَدْنَا عِنْدَهُ
سُنَّةً تَفَرَّدَ بِهَا فَكَيْفَ يَسُوغُ لَنَا تَرْكُ تِلْكَ السُّنَّةِ?
فَجَمِيْعُ تَصَرُّفَاتِ أَئِمَّةِ الحَدِيْثِ تُؤْذِنُ بِأَنَّ المُبتَدِعَ إِذَا
لَمْ تُبِحْ بِدعَتُه خُرُوْجَه مِنْ دَائِرَةِ الإِسْلاَمِ، وَلَمْ تُبِحْ
دَمَهُ, فَإِنَّ قَبُولَ مَا رَوَاهُ سَائِغٌ. وهذِهِ المَسْأَلَةُ لَمْ تَتَبَرْهنْ
لِي كَمَا يَنْبَغِي، وَالَّذِي اتَّضَحَ لِي مِنْهَا: أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي
بِدعَةٍ، وَلَمْ يُعَدَّ مِنْ رُؤُوْسِهَا، وَلاَ أَمْعَنَ فِيْهَا, يُقْبَلُ
حَدِيْثُه, كَمَا مَثَّلَ الحَافِظُ أَبُو زَكَرِيَّا بِأُوْلَئِكَ
المَذْكُوْرِيْنَ، وَحَدِيْثُهُم فِي كُتُبِ الإسلام لصدقهم وحفظهم".
وقال المعلمي اليماني في تنكيله: "وقد مر تحقيق علة رد
الداعية، وتلك العلة ملازمة أن يكون بحيث يحق أن لا يؤمن منه ما ينافي في العدالة،
فهذه العلة إن وردت في كل مبتدع روى ما يقوي بدعته ولو لم يكن داعية وجب أن لا
يحتج بشيء من مرويات من كان كذلك ولو فيما يوهن بدعته، وإلاّ - وهو الصواب - فلا
يصح إطلاق الحكم بل يدور مع العلة، فذاك المروي المقوي لبدعة راويه إما غير
منكر فلا وجه لرده فضلاً عن رد راويه، وإما منكر، فحكم المنكر معروف، وهو أنه ضعيف،
فأما راويه فإن اتجه الحمل عليه بما ينافي العدالة كرميه بتعمد الكذب أو اتهامه به
سقط ألبتة، وإن اتجه الحمل على غير ذلك كالتدليس المغتفر والوهم والخطأ لم يجرح
بذلك، وإن تردد الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول، وإلا أخذ بقول من هو أعرف منه
أو وقف، وقد مر أوائل القاعدة الثانية بيان ما يمكن أن يبلغه أهل العصر من التأهل
للنظر فلا تغفل. وبما تقدم يتبين صحة إطلاق الأئمة قبول غير الداعية إذا ثبت صلاحه
وصدقه وأمانته، ويتبين أنهم إنما نصوا على رد المبتدع الداعية تنبيهاً على أنه لا
يثبت له الشرط الشرعي للقبول وهو ثبوت العدالة".
قلت: وقد روى مسلم في «صحيحه» من حديث عَدِيِّ بن ثَابِتٍ، عن
زِرٍّ، قال: قال عَلِيٌّ: «والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إنه
لَعَهْدُ النبي الْأُمِّيِّ صلى الله عليه وسلم إليّ: أَنْ لَا يُحِبَّنِي إلا
مُؤْمِنٌ، ولا يُبْغِضَنِي إلا مُنَافِقٌ».
وعدي بن ثابت رُمي بالتشيّع.
فهل يرد (عداب) هذا الحديث كما رد حديث عكرمة؟!
وهذا كلّه إذا ثبت أن عكرمة كان خارجياً وكان داعية! فقد أثبت أنه
لم يصح ما رُمي به!
ولا أدري كيف يسقط (عداب) كلام ابن حبان على عكرمة، وابن حبان نفسه
لم يسقط كلامه على عكرمة، بل دافع عنه في هذا الباب، وصرّح بأنه ليس داعية إلى
بدعته، فسقط استدلال عداب بقول ابن حبان!
قال ابن حبان في كتاب «الثقات» (6/284) في ترجمة «داود بن الحصين
المدني» - وهو الذي تخفى عنده عكرمة حتى مات-: "وكان يذهب مذهب الشراة، وكل
من ترك حديثه على الإطلاق وهم؛ لأنه لم يكن بداعية إلى مذهبه، والدعاة يجب مجانبة
رواياتهم على الأحوال، فمن انتحل نحلة بدعة ولم يدع إليها وكان متقنا كان جائز
الشهادة محتجاً بروايته، فان وجب ترك حديثه وجب ترك حديث عكرمة؛ لأنه كان
يذهب مذهب الشراة مثله".
قلت: فهذا ابن حبان يقبل حديث عكرمة ويشير إلى أن أهل العلم قبوله،
فمن ترك حديث داود لأنه كان صاحب بدعة فوجب ترك حديث عكرمة لأنه كان يرى البدعة
نفسها، وهي جواز الخروج بالسيف على أئمة الجور.
وإنما صار بعض السلف ممن يرى جواز الخروج بالسيف على أئمة الجور
يُنسبون للخارجية؛ لأن الخوارج هم أول من خرجوا على الولاة بالسيف، وليس المعنى أن
من نٌسب بأنه خارجي أنه يرى عقائدهم الباطلة، والخروج بالسيف على أئمة الظلم هو
مذهب كثير من السلف وأهل العلم، ولم ينسبهم أهل العلم إلى مذهب الخوارج.
ومن هؤلاء «علي بن الحصين بن مالك التميمي» ممن وفد على عمر بن عبد
العزيز، وهو ضعيف لا يُحتج به. قال ابن عيينة: "رأيته يرى رأي الخوارج".
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "كان يذهب مذهب الشراة".
وقال البخاري في «التاريخ الأوسط» قال عليّ بن المديني: قلت لسفيان،
كان قتل؟ قال: "نعم، خرج وخرجوا فذهب من ههنا، فلما كان الموسم غزاهم أهل
المدينة فتركوهم مثل الحصيد"، قال: "فقتل عليّ"، قال: "فتسوروا
إليه وهو في غرفته فقتلوه".
ثالثاً: قول عداب: "وقد جاء اتّهام عكرمة برأي الخوارج عن كثيرٍ من معاصريه،
ومنهم أيوب راوي هذا الحديث عنه، وهذا يقودنا إلى عدم قبول حديثه الذي ينفرد به،
حتى نجد له متابعةً أو شاهداً"، قول ليس
بصحيح! فلم أجد من معاصريه من اتهمه بالخارجية! فكيف يهوّل (عداب) الأمر ويقول:
"عن كثير من معاصريه"!!
وقوله بأن أيوب اتهمه بذلك كذب مفضوح منه! فأين اتهام أيوب له
بذلك؟!
وقد سبق أن أيوب سئل عن عكرمة، كيف هو؟ فقال: "لو لم يكن عندي
ثقة لم أكتب عنه".
وروى خالد بن خراش قال: قال رجل لأيوب، أكان عكرمة يُتهم؟ قال: "أما
أنا فلم أتهمه، ولكن أردت أن أخرج إليه حتى قدم علينا".
وسيأتي الكلام على شواهد الحديث إن شاء الله لدحض كلام المفتري
الكذاب (عداب)!
رابعاً: دعوى (عداب) أن
هذا الحديث مما ينصر بدعة عكرمة دعوى لا دليل عليها! فالحديث يتكلم عن حكم من يرتد
عن الإسلام وأنه يُقتل، ولا علاقة لهذا برأي من يرى جواز الخروج على أئمة الجور
الذي كان يراه عكرمة. والخروج لا يعني الردة!
ومشكلة (عداب) في تنزيل النصوص لهوى في نفسه! فهو قد أسقط هذا
الحديث على الخوارج الذين كانوا يُكفّرون المسلمين ويستحلون دماءهم! وحاشا عكرمة
من هذا المذهب الخبيث!!
ثم إن هذا الحديث له شاهد صحيح رواه البخاري ومسلم من حديث عبداللَّهِ
بن مسعود قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنِّي رسول اللَّهِ إلا بِإِحْدَى
ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، والمفارق لدينه
التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ».
وما رواه عبدالرَّزَّاقِ عن مَعْمَر، عن أَيُّوبَ، عن حُمَيْدِ بن
هِلاَلٍ العَدَوِيّ، عن أبي بُرْدَةَ، قال: «قَدِمَ على أبي مُوسَى مُعَاذُ بن
جَبَلٍ بِالْيَمَنِ فإذا رَجُلٌ عِنْدَهُ. قال: ما هذا؟ قال: رَجُلٌ كان
يَهُودِيًّا فأسلم، ثُمَّ تَهَوَّدَ، وَنَحْنُ نُرِيدُهُ على الإِسْلاَمِ مُنْذُ –
قال: أَحْسَبُهُ- شَهْرَيْنِ، فقال: والله لا أَقْعُدُ حتى تَضْرِبُوا عُنُقَهُ،
فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فقال: قَضَى الله وَرَسُولُهُ أن من رَجَعَ عن دِينِهِ
فَاقْتُلُوهُ - أو قال: من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
خامساً: العلة الثانية
التي علل بها عداب الحديث "أنّ عكرمة لم
يدرك عليّاً، فالحديث منقطع، والمنقطع من أنواع الحديث الضعيف!" ونقله تضعيف الرواية عن الشافعي ونقل كلام بعض أهل العلم
أن عكرمة لم يسمع من عليّ!
فهذا كله يدل على جهل (عداب) بأصول علم الحديث!! فكيف يدّعي أنه من
أساطين هذا العلم! – المُسيكين-!! فهو إما حقيقة جاهل أو أن الهوى حمله على ذلك!
الحديث لا يرويه عكرمة عن عليّ، وهل يخفى على البخاري أنه لم يسمع
منه؟! مع أن الذهبي جوّز ذلك، فقال في «تذكرة الحفاظ»: "وروايته عن علي بن
أبي طالب في سنن النسائي، وذلك ممكن؛ لأن ابن عباس ملّكه عندما ولي البصرة
لعليّ".
وقال في «سير أعلام النبلاء»: "حدّث عن ابن عباس وعائشة وأبي
هريرة... وعلي بن أبي طالب، وذلك في النسائي، وأظنه مرسلاً".
وذهب بعض أهل العلم إلى أن رواية عكرمة عن عليّ مرسلة. لكن الحديث
يرويه عكرمة عن ابن عباس، وإنما سبب تحديث ابن عباس للحديث بعد أن فعل عليّ ما
فعله بالزنادقة. وليس الأمر كما توهم الشافعي بأن الحديث يرويه عكرمة عن عليّ،
واحتج بذلك عداب!
وابن عباس كان والياً على البصرة لعليّ، فلما فعل عليّ ما فعل
بالزنادقة بلغ الخبر لابن عباس فقال ما قال، والظاهر أن عكرمة كان شاهداً لما وصل
الخبر ابن عباس، فهو كان في حد الشباب حينها.
فعليّ مات سنة (40هـ) وعكرمة مولى ابن عباس مات سنة (105هـ) وهو
ابن ثمانين سنة، وهذا يعني أن ولادته كانت تقريباً سنة (25هـ).
قال الذهبي في «تاريخ الإسلام»: "مَلَكَهُ ابنُ عَبَّاسٍ،
إِذْ وُلِّيَ البَصْرَةَ، لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلا يَبْعُدُ سَمَاعُهُ
مِنْ عَلِيٍّ. قَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: كَانَ عِكْرِمَةُ بَرْبَرِيًّا
لِلْحُصَيْنِ بنِ أَبِي الحُرِّ العَنْبَرِيِّ، فوهبه لابن عَبَّاسٍ حِينَ وُلِّيَ
البَصْرَةَ".
قلت: وكان عليّ استخلف ابن عباس على البصرة بعد وقعة الجمل بخمسين
يوماً كما قال الإمام الشعبي، وكانت الجمل بالبصرة سنة (36هـ)، فيكون عمر عكرمة
آنذاك (11) سنة تقريباً، وتحريق عليّ للزنادقة كان أثناء ولاية ابن عباس على
البصرة (37-40)، ولا ندري في أي سنة بالضبط، وعلى كل الأحوال فعكرمة كان يافعاً
أدرك هذه الحادثة وسمع ما قال ابن عباس عنها.
والحديث رواه سفيان بن عُيينة وحمّاد بن زيد وإسماعيل بن عُليّة
وغيرهم، عن أَيُّوبَ، عن عِكْرِمَةَ قال: «أتى عَلِيٌّ رضي الله عنه بِزَنَادِقَةٍ
– وفي رواية: ناساً ارتدوا عن الإسلام- فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذلك ابن عَبَّاسٍ،
فقال...».
ورواه سعيد بن أبي عروبة ومَعمر، كلاهما عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن
عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بدّل دينه فاقتلوه».
وهذا إسناد متصل صحيح لا غُبار عليه، ومن زاد فيه قصة تحريق عليّ
لمن ارتدوا عن الإسلام لا يجعله منقطعاً. وما جاء في الحديث "فبلغ ابن
عباس" أي وصل إليه الخبر لا أن "بلغ" هنا بمعنى الانقطاع كما في
مصطلح الحديث. ولو أن الخبر لم يكن صحيحاً لما قال ابن عباس ما قال فيه.
سادساً: قول الشافعي في
تضعيف الحديث بالانقطاع إنما نظر فيه إلى أن عكرمة رواه عن عليّ، وهو لم يسمع من
عليّ! لكن قد بينت أن عكرمة رواه عن ابن عباس وإنما جاء ذكر فعل عليّ وهو ثابت،
ولو لم يكن ثابتاً لما احتاج ابن عباس بأن يذكر ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه
وسلم.
والعجب من (عداب) ترك تصحيح أهل العلم للحديث وتعلّق بتضعيف
الشافعي له، وهو يعلم أن الشافعي ليس من أهل التصحيح والتضعيف والنظر في علل
الأحاديث! ولا شك أن له إمامته في الفقه وغيره، وهو نفسه كان يطلب من أحمد أن
يخبره عن صحة الأحاديث وضعفها.
فالبخاري صحح الحديث بإخراجه له في «صحيحه» في موضعين.
وقال الترمذي في «الجامع»: "هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
وقال الدارقطني إمام العلل في كتاب «السنن» (3/108): "هذا
ثابت صحيح".
وقال ابن عبدالبر في «التمهيد» (5/304): "والحديث معروف ثابت
مسند صحيح من حديث ابن عباس".
سابعاً: وأما تضعيفه
لرواية أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عثمان بن عاصم، عن سويد بن غفلة، عن عليّ!
وأنها رواية شاذة! فليس بصحيح! والأدلة التي أيد بها شذوذ هذه الرواية أدلة واهية
ووهمية!
أما دليله الأول: "ليس في كتب
السنة المشهورة كلها: أبو بكر بن عياش عن أبي حصين، عن سويد بن غفلة سوى هذه
الرواية عند ابن أبي شيبة والبزار"! ورواية أخرى عند الطحاوي في مشكل الآثار.
قلت: عدم وجود رواية بسند ما إلا في موضع أو اثنين لا يعني عدم
صحتها! وخاصة إذا كان بعض الرواة من المقلّين في الحديث كسويد بن غفلة صاحب عليّ
رضي الله عنه.
وأما دليله الثاني: أن البخاري تحاشا إخراج هذه الرواية وهي عند
شيخه ابن أبي شيبة مع أنه "خرّج من
طريق أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عثمان بن عاصم أكثر من عشر روايات"!، "وسويدٌ
أوثق من عكرمة بما لا يقاس!؟"
قلت: البخاري كما معلوم لا يستوعب كلّ أحاديث الراوي، وقد انتقى من
كتاب شيخه وغيره ما كان على شرطه، وعدم تخريج البخاري لبعض الروايات لا يدل على
ضعفها عنده، فهو نفسه يُصحح أحاديث خارج الصحيح.
وأما أن سويداً أوثق من عكرمة فهذا ليس بصحيح، فكلاهما ثقة، وعكرمة
أكثر رواية من سويد، وهو أفقه وأعلم منه، ويكفيه أنه حامل علم ابن عباس.
والحديث له إسناد آخر صحيح، رواه الطبري في «تهذيب الآثار - مسند
عليّ» (3/79) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ،
قالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قالَ: حَدَّثَنِي
نُعَيْمُ بنُ أَبِي هِنْدٍ، قالَ: حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ، قالَ: «ارْتَدَّ
نَاسٌ مِنَ السُّودَانِ عَنِ الإِسْلَامِ، قالَ: فَأَمَرَ بِهِمْ عَلِيُّ أَنْ
يُحْرَقُوا، قالَ: فجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَنْظُرُ إِلَى
الْأَرْضِ، وَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَقَ اللَّهُ , وَبَلَّغَ الرَّسُولُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، احْفِرُوا ها هُنَا , فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً
أَوْ مَرَّتَيْنِ, أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَدَخَلَ،
قَالَ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى ضَرَبْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ, قالَ: فَقِيلَ: مَنْ
هذَا؟ قُلْتُ: سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ، قالَ: فَذَهَبَ لِيَجْلِسَ فَأَخَذْتُ
بِيَدِهِ، قالَ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذِهِ الشِّيعَةَ
قَدْ شَمِتَتْ بِنَا، فَأَخْبِرْنِي: أَرَأَيْتَ نَظَرَكَ إِلَى السَّمَاءِ,
وَنَظَرَكَ إِلَى الْأَرْضِ, وَقَوْلَكَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَقَ اللَّهُ,
وَبَلَّغَ الرَّسُولُ؟ عَهِدَ إِلَيْكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هذَا؟ قالَ: فَقَالَ: لَأَنْ أَقَعَ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ أَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَمْ يَقُلْ، «هلْ عَلَيَّ بَأْسٌ أَنْ أَنْظُرَ إِلى السَّمَاءِ؟ هلْ عَلَيَّ
بَأْسٌ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى الْأَرْضِ؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ
بَأْسٌ أَنْ أَقُولَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ:
«فَإِنِّي رَجُلٌ مُكَايِدٌ».
قلت: فهذا إسناد صحيح، وهو يؤيد حديث أبي بكر بن عياش عن أبي حصين
عن سويد. فأين الشذوذ الذي ادّعاه (العداب)؟!!
والعجب من (عداب) نقل تضعيف الشافعي لرواية عكرمة عن ابن عباس،
والشافعي نفسه روى قصة التحريق في كتابه أيضاً «الأم» باب الحدود (7/182) ولم
يضعفها! ولكنه خالف رأي عليّ في ذلك والزم العراقيين بمخالفة رأي عليّ في ذلك.
قال الشَّافِعِيُّ: أخبرنا أبو بَكْرِ بن عَيَّاشٍ [وعند البيهقي
في معرفة السنن والآثار: قال الشافعي فيما بلغه عن أبي بكر بن عياش]، عن أبي حصَيْنٍ،
عن سُوَيْد بن غَفَلَةَ: «أَنَّ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه أتى بِزَنَادِقَةٍ
فَخَرَجَ بِهِمْ إلَى السُّوقِ فَحَفَرَ لهم حُفَرًا فَقَتَلَهُمْ ثُمَّ رَمَى
بِهِمْ في الْحُفَرِ فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ». [في رواية ابن أبي شيبة أنه حرقهم
ولم يذكر أنه قتلهم ثم حرقهم!].
قال الشافعي: "وهُمْ يُخَالِفُونَ هذا! فيَقُولُونَ لا
يُحَرِّقُ بِالنَّارِ أَحَدٌ. أَمَّا نَحْنُ فَرَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُعَذِّبَ أَحَدٌ بِعَذَابِ اللَّهِ فَقُلْنَا بِهِ،
ولا نُحَرِّقُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا".
ثم ساق الشافعي عن أبي عَمْرٍو السيْبَانِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا تَنَصَّرَ
بَعْدَ إسْلَامِهِ فأتي بِهِ إلَى عَلِيٍّ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه فَجَعَلَ
يَعْرِضُ عليه، فقال: لا أَدْرِي ما تَقُولُ غير أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ
الْمَسِيحَ بن اللَّهِ فَوَثَبَ إلَيْهِ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ تعالي عنه فَوَطِئَهُ،
وَأَمَرَ الناس أَنْ يطؤوه، ثُمَّ قال: كُفُّوا فَكُفُّوا عنه فإذا هو قد مَاتَ».
قال الشافعي: "وهُمْ لا يَأْخُذُونَ بهذا! يَقُولُونَ: لا
يَقْتُلُ الْإِمَامُ أَحَدًا بِهَذِهِ الْقِتْلَةِ وَلَا يَقْتُلُ إلَّا
بِالسَّيْفِ".
قال البيهقي: "أوردهما – أي الشافعي- إلزاماً للعراقيين في
خلاف علي رضي الله عنه".
قلت: فإيراد الشافعي لهذين الأثرين من فعلّ عليّ يريد إلزام
العراقيين بمخالفة عليّ إذ لا يقولون بهما، ففي ذلك إشارة منه إلى صحة ما رُوي عن
عليّ في ذلك.
وقوله: "أَمَّا نَحْنُ فَرَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُعَذِّبَ أَحَدٌ بِعَذَابِ اللَّهِ فَقُلْنَا بِهِ"،
فهذا يُروى في حديث ابن عباس الذي ضعّفه، وكذلك في حديث لأبي هريرة، ولم يشير إلى
هذا الحديث، وأكبر ظنّي أنه احتج بهذا بحديث عكرمة عن ابن عباس، والله أعلم.
ثامناً: العجب من
(عداب) كيف ساق رواية واحدة من كتاب ابن أبي شيبة وضعّفها! وأعرض عن بقية الروايات
في الباب نفسه!!
ذكر ابن أبي شيبة في «المصنف» (5/563) باب «في الزَّنَادِقَةِ مَا
حَدُّهُمْ؟» وساق أولاً حديث سويد بن غفلة، ثم ساق رواية ثانية قال: حَدَّثَنَا
عَبْدُالرَّحِيمِ بنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ عُبَيْدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، قالَ: «كانَ أُنَاسٌ يَأْخُذُونَ العَطَاءَ وَالرِّزْقَ وَيُصَلُّونَ
مَعَ النَّاسِ، كَانُوا يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ فِي السِّرِّ، فَأُتِيَ بِهِمْ
عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَضَعَهُمْ فِي المَسْجِدِ، أَوْ قالَ: فِي
السِّجْنِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا تَرَوْنَ فِي قَوْمٍ كَانُوا
يَأْخُذُونَ مَعَكُم العَطَاءَ وَالرِّزْقَ، وَيَعْبُدُونَ هذِهِ الأَصْنَامَ؟
قالَ النَّاسُ: اقْتُلْهُمْ، قالَ: لا، ولَكِنْ أَصْنَعُ بِهِمْ كَمَا صُنِعَ
بِأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ صلوات الله عليه، فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ».
قلت: عبدالرحيم بن سليمان الكناني الكوفي ثقة من رواة الصحيحين،
وعبدالرحمن بن عبيد مستور الحال.
قال ابن حجر في «الإصابة» (4/332): "عبدالرحمن بن عبيد
النميري، ذكره ابن أبي عاصم في الوحدان، وأبو نعيم من طريقه، وأخرج من طريق يحيى
بن أبي عمرو السيباني - بالمهملة - عن عبدالله بن الديلمي، عن عبدالرحمن بن عبيد
النميري، قال: «إن للإسلام خمس عشرة وثلاثمائة شريعة... الحديث». قال ابن أبي عاصم:
لم أره في كتابي مرفوعاً، وقد رواه حماد عن أبي يسار عن المغيرة بن عبدالرحمن بن
عبيد عن أبيه عن جدّه مرفوعاً، واستدركه أبو موسى".
قلت: وهذا الحديث الصواب فيه الوقف على عبدالرحمن بن عبيد.
قال البخاري في «التاريخ الكبير»: "عَبْدالرَّحْمَن بن
عُبَيْد عن مُعَاوِيَة، وروى ابن ابن الديلمي عَنْ عَبْدالرَّحْمَن بن عُبَيْد
النميري قَوْله، فإن لم يكن صاحب مُعَاوِيَة فلا أدري".
ووالد عبدالرحمن عُبيد قيل له صحبة.
قال البخاري في «التاريخ الكبير»: "مغيرة بْن عَبْدالرَّحْمَن
بن عُبَيْد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَه حماد بن
سلمة عَنْ عيسى بْن سنان".
وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (6/6): "عُبيد: جد
المغيرة بن عبدالرحمن بن عبيد. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان
ثلاثمائة وثلاث وثلاثون شريعة»، ورأى عثمان رضي الله عنه. وروى عن المغيرة بن حديج،
روى عنه ابن ابنه المغيرة بن عبدالرحمن بن عبيد بن حديج. سمعت أبي يقول ذلك".
قلت: فهذا الأثر يُحتج به في إثبات أصل قصة التحريق، وهو شاهد
قويّ. فإن قيل: عبدالرحمن بن عبيد مجهول، فيجاب: رواية الثقة وهو عبدالرحيم عنه
ترفع عنه الجهالة، وما رواه ليس منكراً، فأقل أحواله أنه مستور الحال، وعُبيد
والده إن لم يكن صحابياً فالأقرب أنه كان من أصحاب عليّ رضي الله عنه.
ثم ساق ابن أبي شيبة في كتابه رواية أخرى قال: حَدَّثَنَا
مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بنِ نُعْمَانَ، قالَ: «شَهِدْتُ
عَلِيًّا فِي الرَّحْبَةِ، وَجَاءَ رَجُلٌ، فقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ،
إِنَّ هَاهُنَا أَهْلَ بَيْتٍ لَهُمْ وَثَنٌ فِي دَارِهِمْ يَعْبُدُونَهُ ،
فَقَامَ عَلِيٌّ يَمْشِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى الدَّارِ، فَأَمَرَهُمْ فَدَخَلُوا،
فَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ تِمْثَالَ رُخَامٍ، فَأَلْهَبَ عَلِيٌّ الدَّارَ».
قلت: أيوب بن النعمان فيه كلام.
قال البخاري في «التاريخ الكبير» (1/424): "أَيوب بن النعمان.
قالَ مُحَمد بن عُبَيد، قال: حدَّثنا أَيوب بن النعمان، قالَ: صليتُ خلف زيد بْن
أَرقم على جِنازةٍ، فَكَبَّرَ عليها خمساً. حديثُه فِي الكوفِيين".
وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/260): "أيوب بن
النعمان بن سعد: روى عن زيد بن أرقم، وعن أبيه. روى عنه: مروان بن معاوية (173هـ)
ومحمد بن عبيد (هو: الطنافسيّ ت 203هـ). يُعدّ في الكوفيين. سمعت أبي وأبا زرعة
يقولان ذلك غير أن أبا زرعة لم يذكر روايته عن أبيه فقط".
وقال الدارقطني: "أيوب بن النعمان: ليس بقوي".
ونقل ابن حجر في «لسان الميزان» (1/490) عن الأزدي أنه قال فيه:
"ليّن، وسمى جدّه: عبدالله بن كعب".
قلت: كأنه لينه فيما يسنده مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم،
وأما ما يرويه مما شاهده من فعل الصحابة فهذا مما يُقبل سيما وأنه قد توبع على هذا
الأمر، فروايته هذه تعدّ شاهداً لقصة تحريق عليّ للزنادقة ممن ارتدوا عن الإسلام
بسبب عبادتهم للأصنام أو أي فعل آخر قاموا به صاروا به مرتدين عن الإسلام.
فهذه الطرق تشهد لحديث سويد وكذلك لحديث عكرمة في قصة تحريق عليّ
لمن ارتد عن الإسلام، وأسانيدها كوفية تدلّ على شهرة القصة عندهم، فكيف يأتي (العداب)
وينفي القصة من أساسها!! هل هذا هو التحقيق العلمي لأهل الحديث؟!!
تنبيه:
ذهب الطبري في «تهذيب الآثار - مسند عليّ» (3/77) إلى أن تحريق
عليّ للزنادقة الذين ارتدوا عن الإسلام كان بعد أن قتلهم، وساق بعض الروايات في
ذلك، وكذلك ساق الروايات المطلقة التي فيها التحريق دون ذكر القتل، وذكر حديث «لا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ» ثم قال: "هذَا
خَبَرٌ صَحِيحٌ غَيْرُ مُدَافَعٍ، مَعْنَاهُ مَعْنَى مَا رَوَى عَلِيٌّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ بِإِحْرَاقِ جِيفَةِ
الْمُشْرِكِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ عَلَى قَتْلِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَا تَعْذِيبَ عَلَى مَقْتُولٍ أَوْ مَيِّتٍ فِي إِحْرَاقِ جِيفَتِهِ،
وَإِنَّمَا التَّعْذِيبُ لَهُ فِي إِحْرَاقِهِ حَيًّا، وَهُوَ الْإِحْرَاقُ
الَّذِي رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إِحْرَاقُ حَيٍّ بِالنَّارِ،
لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ أَنْ يُعَذِّبَ
أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا بِالنَّارِ، مُشْرِكًا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا، فَأَمَّا
إِحْرَاقُ جِيفَتِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ، إِذَا كَانَ الْمُحَرَّقَةُ
جِيفَتُهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الشِّرْكِ، أَوْ عَلَى كَبِيرَةٍ مُصِرٍّ
عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْقَتْلُ قَتْلًا عَلَى الرِّدَّةِ، فَقَدْ
فَعَلَ ذَلِكَ الصِّدِّيقُ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُهَاجِرِينَ بِكَثِيرٍ مِنْ
أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَأَحْرَقَ جِيَفَهُمْ بَعْدَ الْقَتْلِ، وَفَعَلَهُ أَيْضًا
مِنْ بَعْدِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَوْمٍ
ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ".
قلت: لم يثبت أن علياً حرقهم بعد قتلهم، وإنما حرقهم مباشرة كما
دلّ عليه حديث عكرمة وغيره، ومن ثم أجاز بعض أهل العلم الحرق ابتداء إذا كان الفعل
عظيماً، فقالوا: إن علياً حرقهم لشناعة فعلهم وهو أنهم كانوا يعبدون الأصنام، وفي
بعض الروايات أن هؤلاء ممن جعلوه إلهاً! وأخذ بعضهم به امتثالاً للحديث «عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ» فعدوا هذا سنة من
عليّ.
وعلى الاختلاف بين العلماء في مسألة جواز العقاب بالتحريق ابتداء
أو قصاصاً، وأهل العلم على جوازه قصاصاً كما ذهب إليه البخاريّ وغيره.
ثامناً: احتجاجه في
تضعيف الحديث بأن أبا بكر بن عيّاش كان مضطرباً في حديثه حجّة واهية! إذ لا يلزم
من وصف بعض أهل النقد لراو أنه يضطرب في الحديث أن نضعّف كل حديثه، وعليه يجب أن
نثبت أنه قد اضطرب في حديثه الذي نتكلم عليه! إضافة إلى أن أبا بكر قد وثقه كثير
من أهل النقد وقالوا بأنه يهم ويخطئ ومن يسلم من هذا، وكونه كان يخطئ في آخر عمره،
فقد نصّ بعض أهل العلم على أنه إذا حدث من كتابه فإنه يضبط، فالأمر يحتاج إلى
تفصيل.
ثم إنه لم يتفرد بالحديث حتى نحكم بضعفه لأنه يضطرب ولم يخرّج له
الإمام مسلم، فقد توبع عليه كما بينت، فسقط كلام (العداب)!
تاسعاً: وأما دعواه بأن
حديث "عبدالله بن شريك العامري عن أبيه عن عليّ" منكر! لأنه تفرد به،
وهو لا يستحق أن يروى عنه بتاتاً لأنه قد رمي بالكذب من الشيعي الأزدي، وتركه ابن
مهدي!! فهذه دعاوى باطلة من رجل يعدّ نفسه مُحدثاً!!! – والله المستعان-.
أما قوله بأن أبا الفتح الأزدي شيعيّ فهذا كلام ليس بصحيح، وقد
بينت ذلك في رسالتي العلمية بالأدلة المستفيضة. وإنما أراد (عداب) رد رواية
عبدالله بن شريك وهو متهم بالتشيع برمي الشيعي الأزدي له بالكذب!! وهذا منهج خبيث
في الانتصار للرأي وهوى من صاحبه!
ثم إن الأزدي لم يرمه بالكذب! وإنما قال فيه: "من أصحاب
المختار، لا يُكتب حديثه" [تهذيب التهذيب: 5/223].
والذي رماه بالكذب هو الجوزجاني السعدي، فقال: "عبدالله بن
شريك مختاري كذاب".
قال ابن عدي في «الكامل» (4/174): "وقول السعدي: مختاري، أي
هو من أصحاب مختار بن أبي عبيد، وليس له من الحديث إلا الشيء اليسير".
وقال ابن حجر في «التقريب» (ص307): "عبدالله بن شريك العامري
الكوفي: صدوق يتشيع، أفرط الجوزجاني فكذّبه".
وقال الذهبي في «الميزان» (4/119): "وكان في أوائل أمره من
أصحاب المختار، ولكنه تاب".
فأهل النقد مختلفون في أمره كما قال (عداب) لكنه استغل النصوص
وحاول إيهام القارئ أن كلامه هو الصحيح؛ لأنه يريد أن يحكم على القصة بالنكارة
ويرد على ابن حجر بتحسين الإسناد.
قال أحمد وابن معين وأبو زرعة ويعقوب بن سفيان: "ثقة".
وقال الدارقطني: "لا بأس به".
وقال أبو حاتم والنسائي: "ليس بقوي". وقال النسائي في
موضع آخر: "ليس به بأس".
ولم يكذبه إلا الجوزجاني، وكأنه كذبه لأنه كان من أصحاب المختار بن
أبي عبيد الكذاب، لكنه تاب كما قال الإمام الذهبي.
وترك ابن مهدي لحديثه لا يضره، فكم من راوٍ تركه ابن مهدي ولم
يتركه غيره، والعكس. وأما ابن حبان فإنه ذكره في «الثقات» في التابعين (5/22)
وقال: "عبدالله بن شريك العامري: يروي عن ابن عمر، عداده في أهل الكوفة، روى
عنه الثوري وشريك".
ثم أعاده في اتباع التابعين (7/41) وقال: "عبدالله بن شريك
العامري: كوفي، يروي عن جماعة من التابعين، روى عنه أهل الكوفة".
ثم ذكره في كتاب «المجروحين» (2/26) وقال: "عبدالله بن شريك
العامري: يروي عن أهل الكوفة، روى عنه أهلها، كان غالياً في التشيع، يروي عن
الأثبات ما لا يشبه حديث الثقات، فالتنكب عن حديثه أولى من الاحتجاج به، وقد كان
مع ذلك مختارياً".
فالرجل صدوق وإن وجدنا رواية أخطأ فيها أو فيها نكارة فإننا نردها،
ووالده شريك العامري من أصحاب عليّ - رضي الله عنه- وكان عليّ ينزل عليه.
والقصة التي رواها ليست منكرة ولم يتفرد بها، فقد رواها الطبري في «تهذيب
الآثار – مسند عليّ» (3/82) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ خَلَفٍ، قالَ:
حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ عُمَرَ، عَنْ عَلِيِّ بنِ هاشِمٍ، عَنْ مَعْرُوفِ بنِ
خَرَّبُوذَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عامر بن واثلة، قَالَ: «أُتِيَ عَلِيٌّ
بِقَوْمٍ زَنَادِقَةٍ، فَقَالُوا: أَنْتَ هُوَ، قالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ
هُوَ، قَالَ: وَيْلَكُمْ مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَبُّهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ:
إِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ غَضِبُوا لِآلِهَتِهِمْ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَرِّقُوا
إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَغْضَبَ لِرَبِّنَا، ثُمَّ
قَالَ: يَا قَنْبَرُ، دُونَكَهُمْ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ حَفَرَ لَهُمْ
حُفَرَ النَّارِ، وَأَلْقَاهُمْ فِيهَا، فَأَنْشَأَ النَّجَاشِيُّ الْحَارِثِيُّ
يَقُولُ:
لِتَرْمِ بِيَ الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ ... إِذَا لَمْ تَرْمِ
بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ
إِذَا مَا قَرَّبُوا حَطَبًا، وَنَارًا ... فَذَاكَ الْهُلْكُ
نَقْدًا غَيْرَ دَيْنٍ».
قلت: وهذا إسناد حسن، ومعروف بن خربوذ صدوق شيعي، وكان يهم، وفي
حديثه أن علياً ضرب أعناقهم ثم حرقهم، وهذا وهم، وهذا ما احتج به الطبري على مذهبه
الذي أشرت إليه سابقاً، لكن في رواية شريك العامري أنه طرحهم في النار مباشرة،
ويؤيد ذلك حديث عكرمة عن ابن عباس.
فالقصة صحيحة معروفة وليست منكرة كما ادّعى (العداب)! ولما روى
الإمام الحميدي حديث عكرمة في «مسنده» (1/244) عن سفيان عن أيوب، قالَ سُفْيَانُ: «فَقَالَ
عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ - وَهُوَ فِي المَجْلِسِ: مَجْلِسِ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ - وَأَيُّوبُ
يُحَدِّثُ بِهَذَا الحَدِيثِ: "إِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَحْرِقْهُمْ! إِنَّمَا
حَفَرَ لَهُمْ أَسْرَابًا وَكَانَ يُدَخِّنُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا حَتَّى قَتَلَهُمْ".
فقَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ: أَمَا سَمِعْتَ قَائِلَهُمْ وهُوَ يَقُولُ:
لِتَرْمِ بِيَ الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ ... إِذَا لَمْ تَرْمِ
بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ
إِذَا مَا قَرَّبُوا حَطَبًا وَنَارًا ... هُنَاكَ الْمَوْتُ
نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ».
قلت: فها هم أكابر أهل العلم يصححون الرواية.
وروى ابن شاهين في السنة عن عمرو بن سعيد، قال: «أتي علي بقوم من
الزنادقة فأمر بحفرتين فحفرنا وأوقد فيهما النار، ثم قذفهم فيها، وأنشأ يقول:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا".
فالقصة صحيحة ومشهورة، وبهذا يتبيّن لنا أن كلام (عداب) في آخر
مقاله: "أنّ عليّاً لم يحرق أحداً،
وإنما هي وهمٌ أو فريةٌ من عكرمة الخارجيّ"!!! كلام غير صحيح، والوهم والافتراء منه! وعكرمة ليس خارجياً ولا
مُفترياً! وإنما (عداب) هو المفتري (الكذاب).
تتمة:
ورد في بعض الروايات أن علياً لما وصله كلام ابن عباس، قال: «ويح
ابن عبّاس». وهذا الكلام لا يوجد في الصحيح، فالبخاري روى الحديث في موضعين ولم
يذكر هذا الكلام.
بل قد اختلفت الرواية على أيوب في ذلك:
فرواه أحمد في «المسند» (1/282) عن وُهيب، عن أَيُّوبَ، عن
عِكْرِمَةَ. وفي آخره: «فَبَلَغَ عَلِيًّا ما قال ابن عَبَّاسٍ، فقال: وَيْحَ
ابن أُمِّ عَبَّاسٍ».
ورواه الدارقطني في «السنن» (3/108) عن إسماعيل بن عُلّية. ورواه
الحاكم في «المستدرك» (3/620) من طريق عبدالوارث بن سعيد، كلاهما عن أيوب. وفي
آخره: «ويح ابن عبّاس».
ورواه البُلاذري في «أنساب الأشراف» (4/35) عن عَمْرو بن
مُحَمَّدٍ، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابنِ عَوْنٍ [كذا
فيه وهو خطأ! والصواب: أيوب] عَنْ عِكْرِمَةَ. وزاد فيه: «فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا
فقَالَ: لِلَّهِ دَرُّ ابنِ عَبَّاسٍ».
ورواه الترمذي في «الجامع» (4/59) من طريق عَبْدالوَهَّابِ
الثَّقَفِيّ، عن أيوب. وفيه: «فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَقَالَ: صَدَقَ
ابنُ عَبَّاسٍ».
ورواه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/281) من طريق جرير
بن حازم، عن أيوب. وزاد فيه: «فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه، فقال: ويح ابن
أم الفضل، إنه لغواص على الهَنات».
وقد عرض ابن حجر لبعض هذه الاختلافات أثناء شرحه للصحيح، فقال في «الفتح»
(12/271): "زاد إسماعيل بن علية في روايته: «فبلغ ذلك علياً فقال: ويح أم ابن
عباس»! كذا عند أبي داود وعند الدارقطني بحذف أم، وهو محتمل أنه لم يرض بما اعترض
به ورأى أن النهي للتنزيه كما تقدم بيان الاختلاف فيه، وسيأتي في الحديث الذي يليه
مذهب معاذ في ذلك، وأن الامام إذا رأى التغليظ بذلك فعله، وهذا بناء على تفسير ويح
بأنها كلمة رحمة فتوجع له لكونه حمل النهي على ظاهره فاعتقد التحريم مطلقاً فأنكر،
ويُحتمل أن يكون قالها رضا بما قال وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير
ويح أنها تقال بمعنى المدح والتعجب كما حكاه في النهاية، وكأنه أخذه من قول الخليل:
هي في موضع رأفة واستملاح كقولك للصبي: ويحه ما أحسنه، حكاه الأزهري".
قلت: كلا الأمرين مُحتمل، وبعض الروايات السابقة في الاختلاف على
أيوب تدلّ على أن علياً رجّح قول ابن عباس، ولكن أكثر الرواة – وهيب وعبدالوارث
وابن علية- عن أيوب على الاحتمال دون مدح قول ابن عباس: «ويح ابن عبّاس»
أو «ويح ابن أمّ عبّاس» وهذا ربما الذي جعل ابن حجر لا يرجّح شيئاً
في ذلك وأن الأمر محتمل. ويُحتمل أن ما جاء في رواية عبدالوهاب وجرير أنها رُويت
بالفهم، والوصف «إنه لغواص على الهَنات»، فالهنات: الشرور والفساد،
فهل يتوافق معنى الغوص على هذا! فالله أعلم.
شاركنا تعليقك