«تنزيل النصوص على الواقع وتكييف الواقع لمطابقة النصوص»(1) الدكتور خالد الحايك* مقدمة: تعتبر النصوص المتعلقة بالملاحم والفتن وأشراط الساعة من المسائل الهامة في الإسلام، نظراً لكونها تختص ببيان الحوادث المستقبلية الكائنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقوع الساعة، فهي من عوالم الغيب الذي يجب الإيمان به، وتصديقه، فلا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام شرعية وأخبار غيبية في الماضي والحاضر والمستقبل، وقد أوْلَت المصنفات العقدية عنايتها بمسائل الفتن والملاحم وأشراط الساعة، كجزء لا ينفصل عن الإيمان بالغيب، فالإمام الطحاوي يقرر في عقيدته القول: "ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها" ، ويقول الإمام ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصحّ به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه"، كما أن كافة فرق أهل الإسلام اعتبرت هذه الأخبار من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه. ولعل المكانة التي تتمتع بها النصوص الخاصة بالفتن والملاحم في الإسلام ومنزلتها الإيمانية حملت طائفة كبيرة من العلماء على إفرادها بالتصنيف والتأليف، حيث تكونت مؤلفات ومصنفات واسعة على مر التاريخ الإسلامي، وقد ازدادت العناية في هذا الباب مع تعاقب الأزمان وبروز الأزمات، حيث شهد عالم الإسلام اليوم عناية فائقة بالفتن والملاحم، نظراً لما تعانيه الأمة الإسلامية من أزمات وحصار وغياب الإسلام عن عالم الحكم والسيادة والحاكمية، إلا أن تعامل المعاصرين مع النصوص الخاصة بالملاحم والفتن وتنزيلها على الوقائع والأحداث شهد حالة من الفوضى والارتباك، حيث باتت النصوص نهباً للنزاعات والصراعات والتأويلات التي خرجت عن مقاصدها الإيمانية الصريحة وجعلتها ألعوبة سياسية سلطوية قبيحة. في هذا السياق فإن الإشكالية الكبرى تتمثل (بتنزيل النصوص على الواقع وتكييف الواقع لمطابقة النصوص) لأغراض خاصة منفصلة عن الجانب الإيماني، وتدخل في باب المغالبة والكيد السياسي أحياناً وتعبر عن حالة من ضعف القراءة العلمية وشيوع الخرافات والأساطير أحياناً أخرى، فتنزيل النصوص على الوقائع المعينة الماضية والحاضرة والمستقبلية وتكييفها لمطابقة ما ورد في باب الفتن والملاحم وأشراط الساعة، كتقييدها بشخصيات أو أوقات أو أمكنة أو أحوال معينة مخصوصة دون دليل راجح، والتوسع باستخدام الأخبار المنقولة عن بعض السلف والتابعين والعلماء، فضلا عن الإسرائيليات، يخرج عن المقاصد الشرعية الأساسية للإيمان. ومن تأمل في جملة من الكتب المصنفة في الفتن والملاحم وأشراط الساعة في القديم والحديث يلحظ أنها لا تقتصر في الاستدلال على المصادر الأصلية للإسلام المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، إذ يتم تجاوز هذين المصدرين وتستند إلى مصادر متعددة تتلقى منها وتصدر عنها، وهذه سمة بارزة في كتب أولئك العابثين من المعاصرين. ويبدو أن التوسع في الاعتماد على مصادر مظنونة غير موثوقة، ثم تفسيرها وتنزيلها على وقائع متخيلة بات شائعاً نظراً لتسارع الأحداث التي تعصف بهذه الأمة وسهولة الاتصالات والتواصل بين الناس، ونتيجة الضعف الذي نعيشه، وكثرة الاختلافات بين الناس، وانتشار الفرق والأحزاب، حيث لجأ كثير من الناس إلى استغلال كثير من النصوص وخاصة الأحاديث النبوية وإسقاطها على الواقع الذي نعيشه. فما أن يحدث أو يقع أمر حتى نجد الأحاديث تنتشر في كونها تنطبق على ذلك الأمر دون النظر في صحة هذه الأحاديث، حتى لو بُيّن لمن يعتقد بمطابقتها لواقع معين أنها ضعيفة لجأ إلى أن الواقع يُصحح هذا الضعيف! نعم، هناك أحداث حصلت وجاءت بعض النصوص مطابقة لها، كما في إخباره صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من ثقيف كذاب ومُبير، فكان الكذاب هو المختار ابن أبي عُبيد الثقفي، والمبير – وهو كثير القتل- هو الحجّاج بن يوسف الثقفي. وقد اتفق العلماء على هذا التفسير لذلك الواقع، لكن لا يجوز استخدام هذا الحديث في واقع آخر؛ لأن الخبر يحدث مرة واحدة ولا يتكرر. وإسقاط النصوص على الواقع كان في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فقد اختلفوا في أن (ابن صيّاد) هو الدّجال لوجود بعض الأوصاف فيه، وكان على طريقة الكهنة يخبر بالخبر فيصح تارة، ويفسد أخرى فشاع ذلك بين الناس، فكان جابر يحلف بالله أنه هو الدّجال، وقال بأن عمر كان يحلف على ذلك أيضاً أمام النبي صلى الله عليه وسلم، في حين بيّن ابن صياد لأبي سعيد الخدري لما سافر معه بأنه ليس هو الدجال بدليل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عن الدجال: "هو كَافِرٌ وأنا مُسْلِمٌ" وقال: "هو عَقِيمٌ لا يُولَدُ له وقد تَرَكْتُ وَلَدِي بِالمَدِينَةِ"، وقال: "لا يَدْخُلُ المَدِينَةَ ولا مَكَّةَ وقد أَقْبَلْتُ من المَدِينَةِ وأنا أُرِيدُ مَكَّةَ". وكثير من النصوص وخاصة في الفتن والملاحم لا بدّ أن نأخذها في سياقها، وأن يكون الواقع منطبق تماماً على النص. فإذا أردنا أن نُسقط نصّاً على واقع معين، فلا بدّ أولاً أن يكون صحيحاً، ولا نعوّل على الضعيف، فإن الأصل أن لا نصحح الحديث بالواقع، بل الواقع نخضعه للصحيح، وهنا يأتي الشرط الثاني وهو أن يطابق الواقع الحديث من كلّ جوانبه، مع الأخذ بعين الاعتبار إلى أن الواقع قد يُخيّل لبعض الناس أنه يتشابه في أزمنة متكررة، فكيف أسقطناه على عدّة حوادث في هذه الأزمنة المختلفة؟! ومن هنا سوف نعالج في هذه السلسلة إن شاء الله النصوص التي أُسقطت على واقع معين وبيان مدى انطباقها على ذلك. 23/11/2014 * دكتور في الحديث وباحث في شؤون الجماعات الإسلامية http://islamion.com/news/show/17945
شاركنا تعليقك