سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (7).
قول عبدالرحمن بن مَهدي: «نظرت في كتاب أبي عوانة وأنا أستغفر
الله».
روى
عبدالله بن أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (3/92) قال: سمعت أحمد بن الدورقي قال:
حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، قال: «نظرت في كتاب أبي عوانة، وأنا أستغفر الله».
وقد
عدّ الدكتور إبراهيم اللاحم في كتابه «الجرح والتعديل» (ص61) هذا النصّ من باب «التلقين
الخفي»!
قال
الدكتور: "فإن التلقين بالقراءة على الراوي من غير حديثه، فيقر به، أو بأن
يدفع إليه من غير حديثه فيقرأه- من التلقين الجلي، وهو أشهر صور التلقين وأكثرها
شيوعاً، وهناك صور من التلقين خفية، مثل: أن يُلقّن حديثه هو، أو يحدّث من كتاب
غيره، أو ينظر في كتاب غيره وهو يحدّث، أو ينسخ من كتاب الغير ما سمعه هو من شيخه،
أو يستفهم جليسه عن شيء من متن الحديث أو إسناده لم يسمعه جيداً من شيخه، وهو
يحدّث، أو يعتمد على إملاء بعض تلامذة الشيخ، أو يروي حديثاً على وجه خاطئ فيصححه
له أحد ممن سمعه، أو يذكّره غيره بحديث كان يحفظه، والضرير إذا كتب له ثم لقن ما
كتب ليحفظه، ونحو ذلك، فالراوي متى حدّث في هذه الصور ولم يبين فهو نوع من
التلقين؛ إذ الأصل في الراوي أن يعتمد على مسموعه ومحفوظه فقط، ولا علاقة له
بغيره، فغيره قد تكون روايته مخالفة لروايته هو، وقد يكون فيها مخطئاً، إما عن
تعمد، أو عن غير تعمد، وبعض الأئمة يتسامحون في بعض هذه الصور، ومنهم من يتشدد،
حتى إن بعضهم إذا اختلف ما يحفظه عما في كتابه هو بين ذلك، فيقول: في حفظي كذا،
وفي كتابي كذا. وكلّ هذه الصور لها صلة بجرح الرواة وتعديلهم، فإذا مرت بالباحث في
راو من الرواة أدرك مقصود الأئمة بالتنبيه عليها، وغرضهم من الإشارة إليها، إذ قد
يخفى هذا الغرض على بعض الباحثين، فيفسر كلام الناقد على غير وجهه، من ذلك أن
أحدهم علّق على قول عبدالرحمن بن مهدي: (نظرت في كتاب أبي عوانة، وأستغفر الله)
بقوله: (لعل استغفار ابن مهدي بعد النظر في كتابه يكون بسبب أنه رأى فيه بدون
إذنه، وليس لأجل التضعيف...). وهذا التعليق بعيد عن المقصود فمراده أنه لم يعتمد
على ما عنده هو، واستعان بكتاب أبي عوانة، وهو نوع من التلقين خفي". انتهى
كلام الدكتور اللاحم.
قلت:
هذا المصطلح «التلقين الخفي»! مصطلح جديد من الدكتور! ولا يوجد ما يثبته، فالتلقين
هو التلقين، والصور التي أتى بها
الدكتور وعدّها أنها من التلقين الخفي قد اتفق الأئمة على قبولها، ولم
يدرجوها في التلقين، ولم يضعفوا الرواة بها.
والمثال الذي أتى به الدكتور لا علاقة له بالتلقين أو ما سماه هو «التلقين الخفي»! وفي هذا المثال يثبت الدكتور أن ابن مهدي يُلقَّن! وهذا فيه تهمة
لابن مهدي من حيث لا يقصد الدكتور الفاضل – حفظه الله-! وإنما أوقعه في ذلك
الاعتراض على (الباحث النّكرة)! وتصحيحه لفهمه هو!
ولم يتبيّن الدكتور الحال الذي قال فيه ابن مهدي هذا الكلام عندما
نظر في كتاب أبي عوانة الوضاح اليشكري! ولو أنه نظر في ترجمته لرأى أن أهل العلم
مجمعون على الإتيان بما يخصّ كتابه وأنه أثبت من حفظه، وهذا يوضّح لنا لماذا نظر
عبدالرحمن في كتاب أبي عوانة، ثم استغفر الله من أجل ذلك.
فقد اتفق غالب أهل العلم أن أبا
عوانة إذا حدث من كتابه أتقن مما إذا حدث من حفظه، فإنه إذا حدث من حفظه ربما وهم.
قال أبو قدامة السرخسي: سمعت
عبدالرحمن بن مهدي يقول: "أبو عوانة وهشام كسعيد بن أبي عروبة وهمام. إذا كان
الكتاب فكتاب أبي عوانة صحيح، وإذا كان الحفظ فحفظ هشام، وإذا كان الكتاب فكتاب
همام وإذا كان الحفظ فحفظ سعيد".
وقال أحمد بن سنان: سمعت عبدالرحمن
بن مهدي يقول: "كتاب أبي عوانة أحبّ إليّ من حفظ هُشيم، وحفظ هشيم أحب إلي من
حفظ أبي عوانة".
وقال يحيى بن سعيد القطان:
"أبو عوانة من كتاب أحبّ إليّ من شعبة من حفظه".
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا الفضل -
وهو: ابن زياد - قال: وسئل أحمد بن محمد بن حنبل عن جرير الرازي وأبي عوانة: أيهما
أحب إليك؟ قال: "أبو عوانة من كتابه". قال الفضل: وسئل: أبو عوانة أثبت
أو شريك؟ فقال: "إذا حدث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدث من غير كتابه
ربما وهم".
وعن
أبي عبيدة الحداد، قال: قال لي أبو عوانة: ما يقول الناس فيّ؟ قلت: يقولون: كل شيء
تحدث من كتاب فهو محفوظ، وما لم تجيء به من كتاب فليس بمحفوظ، قال: لا يدعوني.
قلت: فتبين من هذا أن عبدالرحمن بن
مهدي كان عنده شك في ما يُحدِّث به أبو عوانة من حفظه، أي أنه يخطئ! فنظر في كتابه
من أجل ذلك فوجد أن كتابه أثبت مما يُحدِّث به من حفظه، واستغفار ابن مهدي - رحمه
الله - يدلّ على ورعه، وإن كان الفعل الذي فعله لا يؤاخذ عليه، بل يؤجر عليه إن
شاء الله؛ لأنه ما فعل ذلك إلا حسبة لله وصيانة لحديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ومما يؤيد ذلك ما حكاه الحسينِ بن
الحسن المروزيُّ قال: سمعتُ عبدالرحمن بن مهديّ يقولُ: «كنتُ عند أبي عَوانةَ فَحدَّثَ بحديثِ الأعمش، فقلتُ: ليس هذا من
حديثك!! فقال: لا تفعل يا أبا سعيد، هو عندي مكتوب، قلت: فهاته، قال: يا سلّامة
هاتِ الدَّرْج [الذي يُكتب فيه] فأخرجه فنظر فيه، فإذا ليس الحديث فيه، فقال:
صدقتَ يا أبا سعيد، صدقتَ يا أبا سعيد، ومَنْ أينَ أُتيتُ بهِ؟ قلتُ: ذُوكِّرتَ
بهِ وأنت شابٌ فعَلَقَ بِقَلبك فظننتَ أنَّك سمعتَهُ» [التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح: (3/1201)].
فعبدالرحمن كان يعلم أن هناك بعض
الأحاديث التي يرويها أبو عوانة من حفظه أخطأ فيها، وكأنه لم يراجعه في بعضها،
ولهذا نظر هو في كتابه ليتأكد، فوجد أن كتابه صحيح، وهذا الحديث الذي قال له بأنه
ليس من حديثه لم يجده في كتابه.
ثمّ فسّر له كيف بقي في حفظه وهو
أنه سمعه من بعضهم في شبابه أيام الطلب، فعلق بقلبه وظنّ أنه سمعه، وهو حقيقة لم
يسمعه، وإنما أخذه في المذاكرة.
فلله درّ الإمام الناقد عبدالرحمن
بن مهدي.
وعليه فما قاله الدكتور اللاحم عن
ابن مهدي خطأ، ولم يفهم هذه النصوص كما ينبغي!
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ
العالمين.
وكتب: خالد الحايك.
شاركنا تعليقك