سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (6).
قول يحيى القطّان في مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ: «كان
يَقُولُ: أشياخنا أَبُو سَلَمَةَ وَيَحْيَى بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ حَاطِبٍ».
قال
عَلِيُّ بنُ الْمَدِينِيُّ: سَأَلْتُ يَحْيَى - يعني: القطّان -، عن مُحَمَّدِ بنِ
عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ، كَيْفَ هُو؟ قال: «تُرِيدُ الْعَفْوَ أَوْ تُشَدِّدُ؟
قُلْتُ: بل أشدد، قال: فليْسَ هُوَ مِمَّنْ تُرِيدُ، كان يَقُولُ: أشياخنا أَبُو
سَلَمَةَ وَيَحْيَى بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ حَاطِبٍ».
قَالَ
يحيى: وسألت مالك بن أنس عنه؟ فقال نحواً ممَّا قلت لك؛ يعني: أنه سأل مالكاً عن
مُحَمَّد بن عمرو.
وقد
روى ذلك ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير»، وابن عدي في «الكامل» (6/224)،
والعقيلي في «الضعفاء» (4/109).
قلت:
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي كان في المدينة يسمع الحديث، ولم يكن بذاك
الذكاء ولم يكن بالحافظ، فكان إذا قيل له: من حدثك؟ قال: "حدثنا الأشياخ فلان
وفلان..."، يعني أنه يحيل عليهم دائماً سواءاً أكان ذلك صحيحاً أم لا، فهو
يتخذهم صكاً مفتوحاً، ولهذا لما قال ابن معين: "لم يزل الناس يتقون حديث
مُحَمَّد بن عَمْرو"، قيل له: وما علة ذلك؟ قال: "كان مُحَمَّد بن
عَمْرو يحدِّث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدِّث به مرة أخرى عن أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"، يعني لا يدري ما يحدِّث به، ولهذا فضّل الإمام
أحمد العلاء بن عبدالرحمن عليه؛ لأن العلاء كان إذا سئل عمن، قال: فلان، وهو يدري
ما يقول بخلاف محمد بن عمرو، فإنه كان إذا سئل: عمن، قال: أشياخنا فلان وفلان =
يحيل عليهم وهو لا يدري قالوه أم لا!
وقول
يحيى لابن المديني لما سأله عن محمد بن عمرو «تريد العفو أو تشدّد» لا يعني أن
هؤلاء النقّاد كان لهم حالات في نقد الرواة: حالة التساهل وحالة التشدّد! فالأصل
في النّقد أن يكون واحداً بحسب علمه وخبرته بالرجل وحديثه، ولعل المقصود هنا حال الرجل
في السماع، فذلك له حالتان: التسهيل والتشديد، فكانوا يسمعون من هؤلاء الرواة -
محمد بن عمرو وأمثاله ممن وصفوا بسوء الحفظ - أحاديث الفضائل والزهد والرقائق،
وكانوا يتشددون في أحاديث الأحكام فلا يسمعونها منهم ولا يروونها عنهم.
وقد
أورد الترمذي هذا النص في «العلل الصغير» بعد أن قال: "وقد تكلم بعض أهل
الحديث في قوم من جلة أهل العلم، وضعفوهم من قبل حفظهم، ووثقهم آخرون لجلالتهم
وصدقهم، وإن كانوا قد وهموا في بعض ما رووا. وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان في محمد
بن عمرو"، ثم روى عنه: حدثنا أبو بكر عبدالقدوس محمد العطار البصري، قال: حدثنا
علي بن المديني، قال: سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة؟ فقال: تريد
العفو أو تشدد؟. فقلت: لا، بل أشدد، فقال: ليس هو ممن تريد، كان يقول: "أشياخنا
أبو سلمة ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب".
ولنأخذ
مثالاً من رواية محمد بن عمرو عن شيخه يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب:
1-
روى الحميدي في «مسنده» (1/33) قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا محمد بن عمرو بن
علقمة، عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، عن عبدالله بن الزبير قال: «قال الزبير لما
نزلت {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال الزبير: يا رسول الله، أتكرر
علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ فقال: نعم، فقلت: إن الأمر إذاً
لشديد».
2-
قال الحميدي: حدثنا سفيان، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب،
عن عبدالله بن الزبير قال: «قال الزبير لما نزلت {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} قلت:
يا رسول الله، وأي نعيم نُسأل عنه! وإنما هما الأسودان: التمر والماء! قال: إما أن
ذلك سيكون». قال الحميدي: "فكان سفيان ربما قال: قال الزبير، وربما قال: عن
عبدالله بن الزبير، ثم يقول: فقال الزبير".
3-
قال الحميدي: حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن
يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير بن العوام قال: «لما
نزلت {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال الزبير: يا رسول الله، أيكرر
علينا الذي كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب! فقال: نعم، حتى تؤدوا إلى كل ذي
حق حقه».
قلت:
هذه الأحاديث الثلاثة تفرد بها محمد بن عمرو عن يحيى بن عبدالرحمن بهذا الإسناد!
وقد صحح بعضها بعض أهل العلم كالترمذي وغيره!
ولكن
هذه الأحاديث فيها نظر! فيبعد أن يكون عند الراوي مجموعة أحاديث في الموضوع نفسه،
ومتونها غريبة جداً! فليس من عادة الصحابة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم مثل
هذه الأمور، وكأن في هذه الأسئلة اعتراض ما!
وهذا
كله يُستفاد من كتب المسانيد، فجمع أحاديث الصحابي في مسند واحد يبيّن لنا مدى صحة
هذه الأحاديث المروية عنه، ولو أنها فرِّقت في تفسير كلّ آية لما تنبهنا أن فيها
شيء من النكارة!!
·
تخريج هذه الأحاديث:
أما
الحديث الأول والثالث فهما حديث واحد:
أخرجه
أحمد في «مسنده» (1/167) عن ابن نُمَيْرٍ، قال: حدثنا مُحَمَّدٌ - يَعْنِى ابن
عَمْرٍو- عن يحيى بن عبدالرحمن بن حَاطِبٍ، عن عبداللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، عَنِ
الزُّبَيْرِ بن الْعَوَّامِ قال: لَمَّا نَزَلَتْ هذه السُّورَةُ على رسول اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يوم
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، قال الزُّبَيْرُ: أي رَسُولَ
اللَّهِ، أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا ما كان بَيْنَنَا في الدُّنْيَا مع خَوَاصِّ
الذُّنُوبِ؟ قال: "نعم، لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ حتى يُؤَدَّى إلى كل ذي
حَقٍّ حَقُّهُ"، فقال الزُّبَيْرُ: "والله إن الأَمْرَ لَشَدِيدٌ".
والطبري
في «تفسيره» (24/1) عن الدراوردي عن محمد بن عمرو، به.
والترمذي
في «سننه» (5/370) عن ابن أبي عمر، عن سفيان.
وأبو
يعلى في «مسنده» (2/31) عن أبي خيثمة عن محمد بن عُبيد الطنافسي.
والبزار
في «مسنده» (3/179) عن محمد بن المثنى عن محمد بن أبي عدي. وعن أحمد بن أبان عن
ابن عيينة.
والحاكم
في «المستدرك» (2/272) عن أبي مُحَمَّدٍ أَحْمَد بن إِبْرَاهِيمَ بنِ هاشِمٍ
الحَافِظُ، عن تَمِيم بن مُحَمَّدِ بنِ طَمْغَاجٍ، عن عُثْمَان بن أَبِي شَيْبَةَ،
عن سفيان بن عيينة وأبي أسامة حماد بن أسامة وعبدة بن سليمان.
وفي
(2/472) عن أبي زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيّ، عن مُحَمَّد بن عَبْدِالسَّلَامِ، عن إِسْحَاق،
عن أَبي أُسَامَةَ، وَعَبْدَة بن سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ
عَلْقَمَةَ.
وفي
(4/616) من طريق أبي حاتم الرازي عن محمد بن عبدالله الأنصاري.
كلّهم
عن محمد بن عمرو بن علقمة، به.
قال
الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وقال
البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا
الوجه بهذا الإسناد".
وقال
الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وقال
الشيخ الألباني: "حسن الإسناد".
وقد
رواه بعضهم فلم يسنده عن الزبير، وإنما عن ابن الزبير.
رواه
الطبراني في «المعجم الكبير» برقم (303) قال: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بنُ
إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بنُ أَبِي شَيْبَةَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو،
قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ
بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}.
والحاكم
في «المستدرك» (2/472) عن عَبْدالرَّحْمَنِ بن أَبِي الزُّبَيْرِ، قال: حدثنا
أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِاللَّهِ
الْأَنْصَارِيُّ، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو اللَّيْثِيُّ، عَنْ
يَحْيَى بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ،
قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي
إِسْنَادِهِ الزُّبَيْرَ «صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ».
والضياء
المقدسي في «المختارة» (9/348) من طريق أحْمَد بن مَنِيعٍ، عن يَزِيد بن هارون ومُحَمَّد
بن عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيّ، عن مُحَمَّد بن عَمْرٍو.
وسئل
عنه الدارقطني فذكر جماعة رووه من مسند الزبير، وقال: "رواه عبدة بن سليمان
ومحمد بن بشر العبدي عن محمد بن عمرو عن يحيى عن ابن الزبير قال، والقول قول من
أسنده عن ابن الزبير عن الزبير، والله أعلم".
فالحديث
تفرد به محمد بن عمرو، ولا يُحتمل تفرده.
وأما
الحديث الآخر:
فأخرجه
أحمد في «مسنده» (1/164) عن سُفْيَان، عن مُحَمَّدِ بن عَمْرٍو، عن يحيى بن عبدالرحمن
بن حَاطِبٍ، عنِ ابن الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه – قال: «لمَّا
نَزَلَتْ {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال الزُّبَيْرُ: أي
رَسُولَ اللَّهِ، أي نعيم نُسْأَلُ عنه! وَإِنَّمَا هُمَا الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ
وَالْمَاءُ، قال: أَمَا إن ذلك سَيَكُونُ».
والترمذي
في «سننه» (5/448)، وابن ماجه في «سننه» (5/262)، كلاهما عن مُحَمَّد بن يَحْيَى
بنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيّ، عن سفيان بن عيينة، به.
والبزار
في «مسنده» (3/178) عن أحمد بن أبان القرشي، عن ابن عيينة، به.
والطبراني
في «المعجم الكبير» (13/123) عن أبي مُسْلِمٍ الْكَشِّيّ، عن إِبرَاهِيم بن
بَشَّارٍ الرَّمَادِيّ، عن ابن عيينة، به.
قال
الترمذي: "هذا حديث حسن".
وقال
البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يُروى بهذا اللفظ إلا عن الزبير بهذا الإسناد".
وقال
الشيخ الألباني: "حسن الإسناد".
وسئل
الدارقطني عنه؟ فقال: "حدّث به سفيان بن عيينة عن محمد بن عمرو عن يحيى عن
عَبدالله بن الزبير عن الزبير، ورواه زياد بن أيوب عن ابن عيينة فلم يذكر فيه ابن
الزبير، قصَّر به وأرسله، والقول قول من وصله".
ورواه
الترمذي في «سننه» (5/448) عن عبد بن حُميد، عن أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياش،
عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: «لما نزلت هذه الآية {ثم لتسألن
يومئذ عن النعيم} قال الناس: يا سول الله، عن أي النعيم نسئل؟ فإنما هما الأسودان
والعدو حاضر وسيوفنا على عواتقنا! قال: إن ذلك سيكون».
قال الترمذي: "وحديث ابن عيينة عن محمد بن
عمرو عندي أصح من هذا، سفيان بن عيينة أحفظ وأصح حديثاً من أبي بكر بن عياش".
وقال
الشيخ الألباني: "حسن لغيره".
قلت:
رجّح الترمذي إسناد ابن عيينة على إسناد أبي بكر بن عيّاش فلا يصلح أن نقول فيه
"حسن لغيره"؛ لأنه إسناد معلول!
ورواه
ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن مُحَمَّد بن بِشْرٍ العبديّ الكوفيّ، قال: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، قال: حدَّثَنَا صَفْوَانُ بنُ سُلَيْمٍ، عَنْ مَحْمُودِ
بنِ لَبِيدٍ، قال: «لمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى
الله عليه وسلم: {أَلْهَاكُمَ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمَ الْمَقَابِرَ} حَتَّى
بَلَغَ {ثم لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالُوا: أَيْ رَسُولَ
اللهِ، عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ، إنَّمَا هُمَا الأَسْوَدَانِ: الْمَاءُ
وَالتَّمْرُ! وَسُيُوفُنَا عَلَى رِقَابِنَا وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ
نَعِيمٍ نُسْأَلُ، قال: إنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ».
قلت:
الظاهر أن محمد بن عمرو بن علقمة كان يضطرب فيه! فالحديث ضعيف.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
وكتب:
أبو صهيب خالد الحايك.
شاركنا تعليقك