سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (4).
قال أيوب السّختياني: «جِئتُ لأَسمعَ مِنهُ - أي طاوس -، فرأيتُهُ
بين ثَقِيلينِ.. فترَكتُهُ وذهبتُ».
روى
يعقوب الفسوي في «تاريخه» (3/57) قال: حدثنا أبو بكر الحميدي، قال: حدثنا سفيان،
قال: قلت لأيوب، يا أبا بكر ما منعك أن تسمع من طاووس، يعني تُكثر عن طاووس؟ قال: «جئت
إليه فرأيته بين ثقيلين: ليث بن أبي سليم وعبدالكريم أبي أمية، فرجعت وتركته».
ورواه
العقيلي في «الضعفاء» (4/15) عن بشر بن موسى الأسدي، عن الحُميدي، قال: حدثنا
سفيان، قال: قلت لأيوبَ: يا أبا بكرٍ، مالَكَ لم تُكثر عن طاوسٍ؟ قال: «أتيته لأسمعَ
منه، فرأيته بين ثَقيلين: عبدالكريم أبي أُميّة، وليثِ بن أبي سُليمٍ، فذهبت
وتركته».
ورواه
أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (ص:551) عن مُحَمَّد بن أَبِي عُمَرَ، عن ابنِ
عُيَيْنَةَ، مثله.
ورواه
عبدالله بن أحمد في «العلل» (1/164) عن أبيه، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت أيوب
يقول: جئت إليه - يعني طاووساً-، فرأيته بين اثنين كما شاء الله - يعني عبدالكريم،
وليثاً!
وروى
ابن عَدي في «الكامل» (5/339) عن الساجي، عن عبدالجبار بن العلاء قال: حدثنا سفيان،
قال: قال أيوب: «رأيت طاوس جالساً بين ثقيلين! بين عبدالكريم وليث».
وروى
العقيلي أيضاً في الموضع السابق (4/15) - قبل أن يسوق رواية الحميدي عن سفيان- من
طريق عبدالرزاق: أخبرنا معمر، قال: قلت لأيوب، كيف لم تكثر عن طاوس؟
قال: «وجدته بين ثقيلين: عبدالكريم بن أمية وليث بن أبي سليم».
قلت:
وقع تحريف هنا فمعمر لم يسأله وإنما السائل هو سفيان، والصواب: "عن معمر، قيل
لأيوب".
كذا
في «أمالي عبدالرزاق» (ص46) قال: قال معمر: قيل لأيوب، مالك لم تكثر عن طاووس، وهو
طاووس! وقد رأيته؟ قال: "رأيته عند رجلين استثقلتهما عبدالكريم - يعني البصري
وليثاً".
قلت:
هذا القول يبيّن لنا بعض أسباب عدم إكثار الرواة من بعض الشيوخ، أو ترك السماع
منهم من خلال الوضع الذي يحيط بالشيخ، فإذا كان الشيخ مُحاطاً ببعض الضعفاء، فلا
شك أن هذا سيجعل الثقات أمثال أيوب ينفرون من حضور مجالس الشيخ لما يجدون من تشويش
من هؤلاء الضعفاء، فالضعيف يُكثر السؤال والاستفسار والكلام في أشياء لا علاقة لها
بمجلس الحديث، ولهذا كان يكره الطلبة النجباء أن يأتوا إلى شيخ حوله أمثال هؤلاء.
وهذا
ما حصل مع أيوب - رحمه الله - فإنه لما جاء طاوساً للسماع منه وجد عنده هذين
الثقيلين: عبدالكريم بن أبي المُخارق وليث بن أبي سُليم، فتركه وذهب؛ لأنه يعرف
أنهما يشوشان على مجلس السماع، ووصفه لهما بأنهما ثقيلان يبّين هذا، فلا يوصف
الشخص بهذا الوصف إلا إذا عُرف بذلك، كما يُقال: «ثقيل الدَّم» أي شخص سَمِج مكروه،
ليس مقبولاً، أو «ثقيل الروح» أي مُضجر، مُسئم، مُمِلّ!
والظاهر
أن عبدالكريم وليث بن أبي سليم كانا يلازمان طاوس، ويبدو أن أيوب جاء للسماع منه
لما كان بمكة، وإلا لو كان في بلده في اليمن لرجع إليه مرات ومرات، وأيوب كان يعرف
ليث وهو من أقرانه، وهو الذي أوصاه بأن يشدد على ما يسمعه من طاوس.
قال
مَعْمَر: سَمِعت أيوب يَقُولُ لليث بن أَبِي سليم: "انظر ما سَمِعت من هذين
الرجلين فاشدد بهما يدك - يعني طاوساً ومجاهداً".
وقول
أيوب عن هذين الثقيلين ذكره ابن المرزبان في كتاب «ذمّ الثقلاء» وذكر فيه أخباراً
وأشعاراً في ذمّهم، وهو كتاب لطيف.
·
الإكثار على الشيخ من الثّقل:
والإثقال
على المحدِّث أو الشيخ قد يكون أيضاً بالإكثار عليه في السماع وعدم مراعاة أحواله.
قال
عبدالرَّحْمَن بن عبدالله الخَوَارِزْمِيّ: لقِيت شريك بن عبدالله يَوْمًا بِبَاب
الكرخ أَيَّام الْمَنْصُور، فقلت، يا أبا عبدالله، حَدثنِي بِحَدِيث كذا وكذَا،
فَحَدثني، فقلت، يا أبا عبدالله آخر، فَحَدثني، فقلت آخر، فحدثني، فقلت آخر، فقال
لي بِالْفَارِسِيَّةِ: "أنت ثقيل، ولو كنت ثقيلا فِي العيان هينا، ولكِن
أَنْت ثقيل على القلب".
وأَتَى
شريك بن عبدالله رجل من أَصْحَاب الحَدِيث لَهُ عَن أَطْرَاف كَانَت مَعَه، وكان ذلِك
فِي يَوْم صَائِف وَأكْثر على شريك وَثقل عَلَيْهِ، فصاح شريك: "يا جَارِيَة
تعَالَي اسبلي السّتْر، واحرقي الذُّبَاب".
·
طلب بعض الشيوخ بأن يكون المستملي
ليس ثقيلاً:
وقد
يكون المستملي نفسه ثقيلاً، وهو الذي يستملي على الشيخ، وكان بعض الشيوخ يطلبون أن
يكون المستملي ليس ثقيلاً.
قال
سَلمَة بن شبيب: سَمِعت أَبَا أُسَامَة يَقُول: "إيتوني بمستمل خَفِيف عَن
اللِّسَان، خَفِيف على الْفُؤَاد، إيَّايَ والثقلاء، إيَّايَ والثقلاء".
·
كيفية تعامل أهل الحديث مع
الثقلاء:
وقد
اختلف تعامل شيوخ الحديث مع أمثال هؤلاء الثقلاء:
1-
فمنهم من كان يصبر على هؤلاء الثقلاء فلا ينهرهم كما كان طاوس – رحمه الله- مع أبي
أمية وليث.
2-
ومنهم من كان لا يصرّح بثقلهم بل يُعرِّض بهم بالقول:
قال
أَبُو غَسَّان بن ربيع بن سَلمَة: كان مُحَمَّد بن سِيرِين إِذا أثقل عَلَيْهِ رجل
لم يذكر ذلِك إِلَيْهِ، وَيَقُول: "نَعُوذ بِاللَّه من قرين السوء وجليس
السوء".
3-
ومنهم من كان يحذِّر هؤلاء الثقلاء وإلا منعهم من حضور مجلسه أو يصرّح له بأنه
ثقيل:
قال
مالك بن يحيى بن سعيد لإِنْسَان يُكثر الْكَلَام في مجلسه: "إِمَّا أَن تحسن
مَجْلِسنَا، وإِمَّا أَن تقوم".
وكانَ
رجل يتَكَلَّم عِنْد شريك فيكثر، فقال لهُ شريك: "كراكرّ إن سخت، مَا أثقلك
مَا أثقلك".
وقال
أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: قالَ رجل لِلشَّعْبِيِّ: مَا زلت فِي طَلَبك، فقالَ
الشّعبِيّ: "وما زلت مِنْك فارًّا".
وقال
أبو الْعَبَّاس: سَمِعت مشكان يقول: قلت لأبي أُسَامَة، أَنت والله ثقيل، قال: زد
فِيهَا ووخم.
4-
ومنهم من كان يُعرض عنهم، ولا يلتفت إليهم:
قال
عبدالله بن صَالح بن مُسلم عَن جنار قَالَ: كُنَّا نأتي سماك بن حَرْب نَسْأَلهُ
عَن الشّعْر، ويأتيه أَصْحَاب الحَدِيث، فيدعهم وَيقبل علينا، وَيَقُول: "إِن
هؤُلَاءِ ثقلاء".
وقال
عُثْمَان بن عبدالله الْقرشِي عَن إِبرَاهِيم بن مُحَمَّد قال: كُنَّا نعرض على
أبي عَتيق الْعرض، فَرُبمَا غمض عَيْنَيْهِ، فنمسك عَن العرض! فيقول: مَا لكم؟ فنقول:
ظنناك نَائِما! فيقول: "لا، ولكِن مر بِنَا من أستثقله، فغمضت عَيْني
كَرَاهِيَة أَن أرَاهُ".
5-
ومنهم من كان يضجر من هؤلاء الثقلاء في مجالسهم فيهرب منهم:
قال
أَحمد بن زهيْر: بَلغنِي عَن شُعَيْب بن حَرْب أَنه قال: قالَ سُفْيَان الثَّوْريّ:
"إِنَّه ليَكُون فِي المجْلس عشرَة كلهم يخف عَليّ فَيكون مِنْهُم الرجل
استثقله فيثقلون عَليّ".
وعَن
ابن ادريس قال: كنت أَمْشِي مَعَ الْأَعْمَش فمررنا بِجَمَاعَة، فقالَ أَحدهمَا
للْآخر الَّذِي يَلِيهِ: من هذا؟ قال: سُليمَان الْأَعْمَش، فقالَ الْأَعْمَش: "فقدتكما
وفقدت الْأَعْمَش من أجلكما".
وعن
قيس بن الرّبيع قال: كُنَّا عِنْد الْأَعْمَش، فدخل الثقال علينا، فمَا لبث أَن
خرج ثمَّ رَجَعَ، فقالَ: "فرَرْت مِنْكُم إِلَى الْبَيْت فإِذا ثمَّ من هُوَ أثقل
مِنْكُم فَرَجَعت إِليكُم" - يَعْنِي زوج ابْنَته.
وروى
إبرَاهِيم بن بشار الرَّمَادِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قال: "كان الأَعْمَش
يدع أَصْحَاب الحَدِيث وَيذْهب إِلى حائك فِي جواره يحدثه استثقالا مِنْهُ لهُم".
·
أسباب عدم إكثار بعض الرواة
السماع من بعض الشيوخ:
1-
أن يكون الشيخ محاطاً ببعض الضعفاء ممن يُستثقلون ويشوشون مجلس الشيخ بكثرة
سؤالاتهم ومشاغباتهم وكلامهم.
قال
سفيان بن عيينة: قلت لأيوب، يا أبا بكر ما منعك أن تسمع من طاووس، يعني تُكثر عن
طاووس؟ قال: «جئت إليه فرأيته بين ثقيلين: ليث بن أبي سليم وعبدالكريم أبي أمية،
فرجعت وتركته».
2-
إذا كان الشيخ ممن يخلط في الحديث ولا يأتي به على وجهه الصحيح.
قال
عبدالرَّزَّاق، قالَ: قُلتُ لمعمر: ما لك لم تكثر عنِ ابن شروس؟ قَال: «كان
يُثَبِّجُ الحديث».
فمعمر
لم يكثر عن ابن شروس لأنه «كان يُثَبِّجُ الحديث»، أي لا يأتي بالحديث على وجهه
فيخلط فيه ويضطرب.
3-
أن يكون الشيخ له هيبة بحيث يخشى الطالب سؤاله.
قال
معمر: قيل لأيوب، لِمَ لَمْ تُكثر عن الحسن؟ قال: "إني كنت أهابه".
4-
أن تكون هيئة الشيخ ليست هئية النسّاك.
قال
البرذعي: قال لي أبو زرعة، قلت لابن نُمير - أي عبدالله -: لِمَ لَمْ تكثر عن زكريا
بن أبي زائدة، إنما أكثر عنه الغرباء؟ فقال: "لم تكن هيئته هيئة النساك".
5-
أن يكون الشيخ به نوع من المرض الذي يؤثر على عقله كالصرع - وهو ضرب من الجنون -
ونحوه.
قيل
لشَريك: لِمَ لَمْ تكثر عن حماد - وهو ابن أبي سليمان -؟ قال: "كنت أجاوزه
إلى غيره، كان به لَمم، وكنت أقول: لا أكتب عن المجانين".
وقد
صرّح شَريك القاضي بأن حماداً كان يُصرع.
قال
عباد بن يعقوب: سمعت شريكاً - وسأله إنسان يحمل العلم عن المجنون الذي يصرع؟ فقال:
"رأيت حماد بن أبى سليمان وإنه يصرع وما بيني وبينه إلا كذا، وأشار عباد بيده،
وقد حمل الناس عنه".
6-
أن يجلس طالب الحديث في مكان بعيد عن الشيخ بحيث لا يسمع كلّ شيء، بسبب كثرة الناس
في مجلس الشيخ، أو أن يعتني الشيخ بتسميع السيّد ولا يتلفت إلى عبده ويجلسه في
مكان بعيد.
روى
أَحْمد بن حَرْب قال: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن زِيَاد بن الحكم، عَن أَبِيه أَو عمّه،
قالَ: قلت للأعمش، ما أَرَاك كتبت على الشّعبِيّ إِلَّا يَسِيراً! قال: "ويحك
كيفَ كنت أسمع من رجل لم آته قطّ مَعَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ إِلا أقعدني خلف الأُسْكُفَّةُ
من الْبَاب، ثمَّ يقْعد إِبْرَاهِيم فِي مَجْلِسه، ويتمثل بِهذا البَيْت ويومي
إِليّ:
لا
ترفع العَبْد فَوق سَيّده // مَا دَامَ مِنْهَا بظهره شرف".
قلت:
الأُسْكُفَّةُ هي عتبة الباب السفلى التي يوطأ عليها.
7-
إذا كان الشيخ يسكن في مكان بعيد!
قيل
للبرقاني: لِمَ لَمْ تكثر عن ابن مكرم؟ فقال: "كان ينزل في آخر البلد عند دار
معز الدولة فلم أتمكن من الإكثار عنه لبعده".
وكتب:
خالد الحايك.
شاركنا تعليقك