فقه حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ يَمَانٍ
وَالْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ».
· تصحيح مفهوم:
إنك لتعجب كل العجب وأنت ترى الشعب اليمني في ثورته ضد الظلم والاستبداد،
تعجب منه وهو "يُخزِّن القات"!!! إلا من رحم ربّي.
تعجب من هذا الشعب الطيب وقد ردد كثير من الناس في هذه الأيام وصف النبي
صلى الله عليه وسلم له بالحكمة!
فهل هذه المصيبة التي وقع فيها الشعب اليمني بتخزينه القات ينافي هذه
الحكمة التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم؟!!
وكيف يصفهم بالحكمة وفيهم روافض؟! بل وفسقة وغير ذلك!
الجواب يسير إن شاء الله، وهو أنه لا يمكن أن يكون من وصفهم النبي صلى الله
عليه وسلم بالحكمة يخزنون القات!! ولا كذلك من الروافض وغيرهم ممن يحاربون هذا
الدِّين.
ولكن، الحديث صحيح، وهو في الصحيحين وكتب السنة الأخرى! ولهذا نسمع هذه
الأيام من ينعت أهل اليمن بأنهم أهل الحكمة، والويل لمن تكلم فيهم!
لا شك أن أهل اليمن من أطيب الشعوب العربية الإسلامية، وقد ابتلوا بهذه
الشجرة الخبيثة، والإنكار عليهم في ذلك لا يعني أننا لا نؤيدهم في ثورتهم ضد الظلم
والقهر والاستبداد الذي يمارس عليهم منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وما زلت أذكر قول الدكتور عائض القرني (دكتوراة في الحديث) أمام الرئيس
اليمني علي عبدالله صالح: "وقد كتبت أنا في (الشرق الأوسط) مقالاً وذكرت
فخامتكم، وقلت: إني أخاطب فيكم الحكمة؛ لأن الإيمان يماني والحكمة يمانية، وصحيح
أن من يأتي ليعلمكم الحكمة مثل من ينقل التمر من صنعاء إلى هجر".
وقبل عدة أيام أحضر لي أحد الأصدقاء الأعزاء كتاباً له لأقرأه، وكان قد ذكر
حكمة أهل اليمن – انطلاقاً من هذا الحديث – في أنهم لم يُستدرجوا إلى حمل السلاح
ضد رئيسهم!
فهل ينطبق هذا الحديث على كلّ أهل اليمن؟!
هذا ما سأبينه إن شاء الله في ما يأتي.
· آراء أهل العلم في مفهوم هذا
الحديث:
روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أَبي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ
أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً وألين قلوباً،
الإيمان يمان والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار
في أهل الغنم».
وفي رواية: «الْفِقْهُ
يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ».
فما هو مفهوم هذا الحديث؟
لأهل العلم في هذا الحديث آراء:
الأول: أنه أراد الأنصار خاصة، وهذا
قول أبي عُبيد صاحب «غريب
الحديث».
قال أبو عبيد داعماً لرأيه:"ومما يبين ذلك أن النبي عليه السلام لما
قدم أهل اليمن قال: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوباً، وأرق أفئدة، الإيمان يمان
والحكمة يمانية، وهم أنصار النبي عليه السلام، ومنه أيضاً: قول النبي عليه السلام:
لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار".
وردّه بعض أهل العلم.
فقال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/352) في حديث أبي مسعود: "قوله:(أشار رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن، فقال: الإيمان) فيه تعقب على من زعم أن المراد
بقوله: يمان الأنصار، لكون أصلهم من أهل اليمن؛ لأن في إشارته إلى جهة اليمن ما
يدل على أن المراد به أهلها حينئذ لا الذين كان أصلهم منها، وسبب الثناء على أهل
اليمن إسراعهم إلى الإيمان وقبولهم".
وقال أيضاً: (8/99): "الإيمان ها هنا وأشار بيده إلى اليمن، أي: إلى
جهة اليمن، وهذا يدل على أنه أراد أهل البلد لا من ينسب إلى اليمن ولو كان من غير
أهلها".
وقال العيني في «عمدة القاري» (15/192): "وقيل: إنما قال هذا
القول للأنصار؛ لأنهم يمانون، وهم نصروا الإيمان والمؤمنين وآووهم فنسب الإيمان
إليهم، وهذا غريب!! وأغرب منه قول الحكيم الترمذي: إنه إشارة إلى أويس القرني!!!".
والثاني: أنه أراد أهل اليمن عامة في كل زمان.
قال الطبراني في «المعجم الصغير» (ص322): "وفسر هذا الحديث أهل
العلم، فقال بعضهم: أراد به الأنصارخاصة، وقال بعضهم: أراد قبائل اليمن
عامة".
وقد أورد هذا الحديث الإمام أحمد في كتابه «فضائل
الصحابة» في
"فضائل أهل اليمن".
وأورده الترمذي في «الجامع» (5/726) في "باب في فضل اليمن".
وبوّب عليه ابن حبان في «صحيحه» (16/286) قال: "ذكر إضافة المصطفى صلى الله عليه
وسلم الإيمان والفقه والحكمة إلى أهل اليمن".
الثالث: أنه أراد أهل الحجاز (مكة والمدينة).
ذكر البيهقي هذا الحديث في «السنن الكبرى» (1/385) تحت "باب ما يستدل به على
ترجيح قول أهل الحجاز وعملهم".
ثم قال: قال الشافعي: ومكة والمدينة يمانيان مع ما دل به على فضلهم في
علمهم، وذكر حديث عبدالرحمن بن بشر بن الحكم، قال: حدثنا سفيان عن ابن جريج عن أبي
الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن
تضربوا أكباد الإبل فلا تجدون عالماً أعلم من عالم المدينة»، رواه
الشافعي في القديم عن سفيان بن عيينة.
وقال الشافعي في «الأم» (1/162): حدثني عمّي محمد بن العباس عن الحسن بن القاسم
الأزرقي قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية تبوك، فقال: «ما ها
هنا شام، وأشار بيده إلى جهة الشام، وما ها هنا يمن وأشار بيده إلى جهة المدينة».
قال العيني في «عمدة القاري» (15/192): "قوله (أشار رسول الله
بيده نحو اليمن)؛ لأنه كان بتبوك، وقال هذا القول وأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد
مكة والمدينة يومئذ بينه وبين اليمن، وقيل: قال هذا القول وكان بالمدينة؛ لأن
كونها هو الغالب عليه، وعلى هذا تكون الإشارة إلى سياق أهل اليمن، وقال النووي:
أشار إلى اليمن وهو يريد مكة والمدينة ونسبهما إلى اليمن لكونهما من ناحيته".
وروى الإمام أحمد في «المسند» (3/335) عن عبدالله بن الحارث المخزومي، عن ابن جريج،
قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله قال: سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم يقول: «غلظ
القلوب والجفاء في أهل المشرق، والإيمان في أهل الحجاز».
ورواه أيضاً في «فضائل الصحابة» (2/863) بهذا الإسناد، وكذلك رواه عن روح
عن ابن جريج، به.
ورواه الإمام مسلم في «صحيحه» (1/73) عن إسحاق بن إبراهيم عن عبدالله بن الحارث
المخزومي، به.
ورواه أبو نُعيم في «المسند المستخرج على صحيح مسلم» (1/14)،
وابن حبان في «صحيحه» (16/285)
(باب ذكر إطلاق اسم الإيمان على أهل الحجاز)، كلاهما منطريق أبي عاصم عن ابن جريج،
به.
ورواه أبو عوانة في «مسنده» (1/60) من طريق حجاج عن ابن جريج، به.
ورواه الإمام أحمد في «مسنده» (3/345) عن موسى بن داود، قال: أخبرنا ابن لهيعة عن أبي
الزبير عن جابر، به.
قلت: الإمام أحمد أورد هذا الحديث في كتاب الفضائل ضمن فضائل أهل اليمن،
وكذلك فعل الإمام مسلم، فإنه بعد أن ساق كل الروايات عن أبي هريرة وغيره ختم الباب
بهذا الحديث! فهل أراد الإمام مسلم أن يبين أنه معلول على رأي من يقول بأنه إذا
أراد أن يبين علة حديث فإنه يورده في آخر الباب؟! أم أنه يرى صحته، وأنه لا ينافي
حديث: «الإيمان
يمان»؟!
وروى أحمد في «الفضائل» (2/867)
عن عبدالله بن الحارث قال: حدثني حنظلة أنه سمع طأوساً يقول: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «أتاكم
أهل اليمن هم ألين قلوباً وأرق أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية»، قال
حنظلة: فقلت، يا أبا عبدالرحمن: ما يعد اليمن؟ قال:"المدينة".
قلت: فهذا تفسير لهذا الحديث من طاوس اليماني أن المقصود بهم أهل المدينة.
وكل ذلك اجتهاد من هؤلاء الأئمة، فيحتمل أن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه
- فهم من هذا الحديث أن المقصود بهم أهل الحجاز، فرواه بفهمه، والله أعلم، ولهذا
أخره الإمام مسلم في آخر الباب لغرابته عن الأحاديث الأخرى التي فيها نصّ على أن
الإيمان يمان، وقيل: حديث «الإيمان في أهل الحجاز» لا
يعارض خبر «الإيمان
يمان»، إذ ليس
فيه النفي عن غيرهم. وقيل: إن مبتدأ الإيمان كان من الحجاز ثم انتشر.
الرابع: أنه أراد أهل تهامة خاصة، وهذا
رأي سفيان بن عيينة.
روى الحميدي في «المسند» (2/452) هذا الحديث عن سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو
الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم
أهل اليمن، هم ألين قلوباً وأرق أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية، والجفاء
والقسوة وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر عند أصول أذناب الإبل من ربيعة ومضر».
قال سفيان: "وإنما يعني قوله أتاكم أهل اليمن: أهل تهامة؛ لأن مكة يمن
وهي تهامة، وهو قوله الإيمان يمان والحكمة يمانية".
وقد ردّ هذا الطحاوي، وقال: لا يصح؛ لأن أكثرهم من مضر.
قال في كتابه «مشكل
الآثار»: "فنظرنا
فيما قالوا من ذلك هل هو كما قالوه أم لا؟ فوجدنا علي بن معبد قد حدثنا قال: حدثنا
يزيد بن هارون، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود
الأنصاري قال: أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن فقال: «الإيمان
هاهنا، ألا وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين أصحاب الإبل حيث يطلع قرن الشيطان
في ربيعة ومضر»، فأضاف القسوة وغلظ القلوب إلى الفدادين من ربيعة ومضر، فكان في
ذلك ما قد دل على أن المضاف إليهم من الإيمان، والحكمة والفقه هم أضدادهم الذين
ليسوا من ربيعة ولا مضر، وفي ذلك ما ينبغي أن يكون أراد بما في الآثار التي في
الفصل الأول أهل تهامة؛ لأن أولئك أو أكثرهم من مضر، ثم وجدنا عنه عليه السلام في
هذا المعنى ما هو أكشف من هذا الحديث، وهو ما حدثنا أبو قرة محمد بن حميد الرعيني،
حدثنا عبدالله بن يوسف الكلاعي الدمشقي، حدثنا يحيى بن حمزة، عن أبي حمزة العنسي
من أهل حمص، - قال أبو جعفر: وهو عيسى بن سليم الرستني: قد حدث عنه عمرو بن الحارث
وعيسى بن يونس وغيرهما - أنه حدثه عن عبدالرحمن بن جبير الحضرمي وراشد بن سعد
المقرئي وشبيب الكلاعي، عن جبير بن نفير، عن عمرو بن عبسة قال: عرضت الخيل على
رسول الله عليه السلام - وعنده عيينة بن بدر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعيينة: «أنا أفرس بالخيل منك»، فقال عيينة: إن تكن أفرس بالخيل مني فأنا أفرس
بالرجال منك، قال: وكيف؟ قال: إن خير رجال لبسوا البردووضعوا سيوفهم على عواتقهم
وعرضوا الرماح على مناسج خيولهم رجال نجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كذبت بل هم أهل اليمن والإيمان يمان إلى لخم، وجذام وعاملة ومأكول حمير خير من
أكلها وحضرموت خير من بني الحارث» وسمى الأقيال، والأنكال. ففيما روينا في هذا الحديث
عن رسول الله عليه السلام تبيانه أهل اليمن الذين أرادهم بما في الآثار الأول
وأنهم أهل هذه القبائل اليمانية لا من سواهم.
ووجدنا يونس قد حدثنا قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن
أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
عام الحديبية فذكر حديثاً طويلاً فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ليأتين أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم»، قلنا: من هم يا رسول الله، أقريش؟ قال:
«لا، أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً»، فقلنا: هم خير منا يا رسول الله؟
فقال: «لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه! إن فضل ما
بيننا، وبين الناس هذه الآية: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح}» الآية، فكان
في هذا ما قد دل على حقيقة أهل اليمن الذين أرادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الفصل الأول من هم، وأنهم خلاف أهل تهامة على ما ذكره ابن عيينة.
ثم وجدنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قد حدثنا قال: حدثنا أحمد بن منيع،
حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«يقدم قوم هم أرق منكم أفئدة» فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى، فجعلوا يرتجزون،
ويقولون: غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه، ففي ذلك ما قد دل أيضاً على أن أهل اليمن
المرادين كما في الآثار الأول هم الأشعريون، وأمثالهم من القادمين من حقيقة اليمن
دون من سواهم".
الخامس: أنهم الأشعريون رهط أبي موسى، وأمثالهم من القادمين من حقيقة اليمن
دون من سواهم، كما قال الطحاوي، في ذلك الزمان لا في كل زمان.
قال الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» في شرح
الحديث: "وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري ومن كان على طريقه من علماء
أهل اليمن ثم إلى مثل أبي موسى الخولاني وأويس القرني وطاوس ووهب بن منبه وغيرهم
من علماء أهل اليمن، وكلّ هؤلاء من العلماء الربانيين الخائفين لله، فكلهم علماء
بالله يخشونه ويخافونه وبعضم أوسع علماً بأحكام الله وشرائع دينه من بعض ولم يكن
تمييزهم عن الناس بكثرة قيل وقال ولا بحث ولا جدال".
روى الإمام أحمد في «مسنده» (2/258) عن عبدالرزاق، عن عقيل بن معقل، عن همام بن
منبه قال: قدمت المدينة فرأيت حلقة عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت،
فقيل لي: أبو هريرة، قال: فسألت، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل اليمن، فقال: سمعت
حبي- أو قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم يقول: «الإيمان يمان والحكمة
يمانية، هم أرق قلوباً والجفاء في الفدادين أصحاب الوبر وأشار بيده نحو المشرق».
وقال ابن الصلاح في «صيانة صحيح مسلم» (ص209-213):
"لو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره
وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه ولما تركوا الظاهر ولقضوا بأن المراد بذلك:
اليمن وأهل اليمن على ما هو مفهوم من إطلاق ذلك، إذ من ألفاظه: «أتاكم أهل اليمن»،
والأنصار من جملة المخاطبين بذلك فهم إذاً غيرهم. وكذلك قوله: «جاء أهل اليمن»،
وإنما جاء حينئذ غير الأنصار، ثم إنه وصفهم صلى الله عليه وسلم بما يقضي بكمال إيمانهم،
ورتب عليه قوله: «الإيمان يمان»، فكان ذلك نسبة للإيمان إلى من أتاهم من أهل اليمن
لا إلى مكة والمدينة.
ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره وحمله على أهل اليمن حقيقة؛ لأن من
اتصف بشيء وقوي قيامه به وتأكد اضطلاعه به نسب ذلك الشيء إليه إشعاراً بتميزه به
وكمال حاله فيه، وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الإيمان وحال الوافدين منهم في
حياته صلى الله عليه وسلم وفي أعقاب موته كأويس القرني وأبي مسلم الخولاني
وأشباههماممن سلم قبله وقوي إيمانه، فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعاراً بكمال
إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي لذلك عن غيرهم، فلا منافاة بينه وبين قوله:
«الإيمان في أهل الحجاز».
ثم إن المراد بذلك: الموجودون منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان، فإن
اللفظ لا يقتضيه هذا، والله أعلم".
وقد ارتضى هذا النووي فنقله في شرحه على كتاب مسلم، ولم يتعقبه، وكذلك
المناوي في «فيض
القدير» (3/186)
حيث قال: "ثم المراد الموجودين حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمن".
وذهب الحافظ ابن حجر إلى ما هو أعم من هذا، فقال في «فتح
الباري» (8/99):
"ولا مانع أن يكون المراد بقوله الإيمان يمان ما هو أعم مما ذكره أبو عبيد
وما ذكره ابن الصلاح، وحاصله أن قوله يمان يشمل من ينسب إلى اليمن بالسكنى
وبالقبيلة، لكن كون المراد به من ينسب بالسكنى أظهر بل هو المشاهد في كل عصر من
أحوال سكان جهة اليمن وجهة الشمال فغالب من يوجد من جهة اليمن رقاق القلوب
والأبدان، وغالب من يوجد من جهة الشمال غلاظ القلوب والابدان... وأورد البخاري هذه
الأحاديث في الأشعريين، لأنهم من أهل اليمن قطعاً، وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس:
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قال: الله أكبر إذا جاء نصر الله
والفتح، وجاء أهل اليمن نقية قلوبهم حسنة طاعتهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة
يمانية".
· الرأي المختار:
قلت: إيراد البخاري له في باب الأشعريين فيه إشارة إلى أنه يرى أن المراد
بهذا الحديث هم الأشعريون رهط أبي موسى ومن كان على طريقه من علماء أهل اليمن الموجودين
حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمن، وهذا هو رأي جمهور أهل العلم كما تقدم عنهم، وهو
الصواب إن شاء الله.
وتعميم ابن حجر بغالب المشاهدة فيه نظر!
نعم، أهل اليمن رقاق القلوب والأبدان، ويمتازون بالبساطة بخلاف أهل المشرق
الذين يمتازون بقسوة القلوب، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل اليمن
صحيح، فهم كذلك، وإخباره عنهم بذلك شيء، وإشارته إلى الإيمان والفقه والحكمة شيء
آخر، فالإخبار الأول عام في أهل اليمن، والإخبار الثاني خاص في أبي موسى ومن كان
على طريقه من علماء أهل اليمن في ذلك الزمان بدليل ذكر الفقه والحكمة فيهم، وقد
برز في ذلك الوقت من كانت فيهم هذه الصفات، والله تعالى أعلم وأحكم.
وكتب: خالد الحايك 25/5/2011م.
شاركنا تعليقك