نكارة القصة التي تُروى
عن عمر بن الخطاب وعَمرو بن العاص في شأن القبطي!
وفيها القول المنسوب
لأمير المؤمنين عمر: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»!!
هذه القصة مشهورة جداً. ولا يكاد قاص أو واعظ أو كاتب إلا
ويستشهد بها. بل إن كثيراً من أهل العلم يوردونها في كتبهم مسلّمين بصحتها!
·
نماذج لبعض أهل العلم ممن قبلها:
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في «تفسير المنار» وهو يتحدث عن
ظلم الإنجليز في مصر: "أَين هذَا مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِي سَاوَى
خَلِيفَتُهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ ابنِ فَاتِحِ مِصْرَ وَقَائِدِ
جَيْشِهَا وَحَاكِمِهَا الْعَامِّ (عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) وَبَيْنَ غُلَامٍ
قِبْطِيٍّ؛ إِذْ تَسَابَقَا، فَسَبَقَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْحَاكِمِ، فَصَفَعَهُ
هَذَا، وَقَالَ: أَتَسْبِقُنِي وَأَنَا ابْنُ الْأَكْرَمَيْنِ؟ فَلَمَّا رُفِعَ
الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَرْضَ إِلَّا أَنْ يَصْفَعَ
الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْفَاتِحِ الْحَاكِمِ كَمَا صَفَعَهُ، وَقَالَ لِعَمْرٍو
كَلِمَتَهُ الذَّهَبِيَّةَ الْمَشْهُورَةَ: يَا عَمْرُو مُنْذُ كَمْ تَعَبَّدْتُمُ
النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا؟ وَلَكِنَّ
الْمُسْلِمِينَ لَمَّا تَرَكُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنَ
الْإِنْكِلِيزِ وَمِمَّنْ دُونَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يُعَلِّمُوهُمُ الْعَدْلَ
وَقَوَانِينَهُ!!".
ويقول الأستاذ الكبير سيّد قطب في «الظلال»: "وقد قال
عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص - عامل مصر- وقد ضرب ابنه مصرياً وافتخر بآبائه
قائلا: خذها من ابن الأكرمين. فاقتص منه عمر-: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم
أحراراً أمهاتهم؟".
وقال الشيخ محمّد الغزالي في بعض خطبه: "والعجيب أن
عمرو بن العاص الذي دخل مصر فبنى هذا المسجد - مسجد عمرو بن العاص - للركع السجود،
والذي أقام حكماً ذوب فيه الفوارق بين الأجناس والألوان، عندما أخذت ابنه نشوة من
نشوات النصر، أو نزوة من نزوات العرب، أو قوة من قوى الجاهلية فأساء إلى أحد
الأقباط، وكان القبطى ماكراً لبيباً، فذهب إلى الرجل الذي أرسل عَمراً، ذهب إلى
عمر نفسه وشكى له!! فجاء عمر صاحب محمد، وتلميذه، جاء بالقبطي المظلوم وبابن عمرو
بن العاص ابن الحاكم، وقال لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحراراً..!؟ ثم قال للقبطي: خذ حقك من ابن الأكرمين!! ثم قال في فترة من فترات
الغضب لله: "لو شئت أدرت السوط على صلعة عمرو بن العاص!!. هذا حكم النبوة،
هذا حكم الإسلام.!!".
وهذه القصة احتج بها وقصّها كثير من المشايخ المعاصرين
أيضاً كالأستاذ محمد قطب في بعض كتبه والشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان العودة
والشيخ محمد بن محمد بن المختار الشنقيطي والشيخ محمد حسّان وغيرهم في خطبهم
ودروسهم.
·
سَند القصّة:
أخرجَها ابن عبدالحكم المصري (ت257هـ) في كتاب «فتوح مصر
وأخبارها» (ص290- دار الفكر)، قال: حُدِّثنا
عن أبي عَبدة، عن ثابت البُناني، وحُميد، عن أنس.. فذكر القصّة.
وجاءت القصة في سياق رواية لابن عبدالحكم عن خطبة لعمر بن
الخطاب.
قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال:
حدثنا سعيد الجريرىّ، عن أبي نضرة، عن أبي فراس: أن عمر بن الخطاب خطب الناس فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال: «أيّها الناس إنه قد أتى عليّ زمان وأنا أحسب أن من قرأ
القرآن إنما يريد به الله وما عنده، وقد خيّل إليّ بآخره أنه قد قرأه أقوام يريدون
به الدنيا ويريدون به الناس، ألا فأريدوا الله بأعمالكم وأريدوه بقراءتكم، ألا
إنما كنّا نعرفكم إذ ينزل الوحي وإذ رسول الله بين أظهرنا، وإذ ينبئنا الله من أخباركم، فقد انقطع الوحي، وذهب
النبي فإنما نعرفكم بما نقول لكم الآن، من رأينا منه خيراً ظننّا به
خيراً وأحببناه عليه، ومن رأينا منه شرّاً ظننّا به شرّا وأبغضناه عليه، سرائركم
فيما بينكم وبين ربّكم، ألا إنّي إنما أبعث عمّالي ليعلموكم دينكم ويعلّموكم
سننكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ولا
يأخذوا أموالكم، ألا فمن أتى إليه شي من ذلك فليرفعه إليّ، فوالذى نفس عمر بيده
لأقصّنّه منه.
فقام عمرو بن العاص فقال: أرأيت يا أمير المؤمنين إن عتب
عامل من عمّالك على بعض رعيّته فأدّب رجلاً من رعّيته إنك لمقصّه منه؟ قال: نعم، والذي نفس عمر بيده لأقصّنّه منه،
ألا أقصّه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصّ من نفسه، ألا لا تضربوا
المسلمين فتذلّوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تجمّروا بهم فتفتنوهم، ولا
تنزلوهم الغياض فتضيعّوهم».
قال ابن عبدالحكم: فأتى رجلٌ من أهل مصر كما حُدّثنا عن
أبي عبدة، عن ثابت البناني وحميد، «عن أنس إلى عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير
المؤمنين، عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذاً، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص
فسبقته، فجعل يضربني بالسّوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره
بالقدوم عليه ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصريّ؟ خذ السوط فاضرب، فجعل
يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الألأمين، قال أنس: فضرب فوالله لقد ضربه ونحن
نحبّ ضربه فما أقلع عنه حتى تمنّينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصريّ: ضع على
صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال
عُمر لعَمرو: مذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير
المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني».
·
من ذكرها من أهل العلم عن ابن
عبدالحكم:
وذكرها ابن الجوزي في «أخبار عمر».
وذكرها الهندي في «كنز العمّال» برقم (36010) وعزاه لابن
عبدالحكم.
وذكرها ابن المِبْرَد الحنبلي في «محض الصواب في فضائل
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب».
وذكرها السيوطي في «حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة»
قال: "أخرج ابن عبدالحكم، عن أنس، قال: أتى رجل من أهل مصر إلى عمر بن
الخطاب...".
وغيرها من الكتب.
·
تحريف القصة!!
قلت: والقصة عندما تنتشر كثيراً تتحرف من الدعاة والقصّاص!
فجاء ذكرها في كثير من الكتب وعلى ألسنة الخطباء بهذا
اللفظ:
«حدث أنَّ ابن عمرو بن العاص فاتح مصر وواليها من قبل
الخليفة عمر بن الخطّاب قد نازع شاباً من دهماء المصريين الأقباط المسيحيين في
ميدان سباق، فأقبلت فرس المصري فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح: "فرسي ورب
الكعبة"، ثُمَّ اقتربت وعرفها صاحبها فغضب محمد بن عمرو ووثب على الرجل يضربه
بالسوط ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوه المصري
فحبسه زمناً.. ومازال محبوساً حتى أفلت وقدم إلى الخليفة لإبلاغه شكواه... قال أنس
بن مالك راوي القصة: فوالله ما زاد عمر على أن قال له أجلس... ومضت فترة إذا به في
خلالها قد استقدم عمراً وابنه من مصر فقدما ومثلا في مجلس القصاص، فنادى عمر رضي
الله عنه: "أين المصري؟… دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين". فضربه حتى
أثخنه، ونحن نشتهي أن يضربه. فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول:
اضرب ابن الأكرمين!.. ثُمَّ قال: "أجلها على صلعة عمرو! فوالله ما ضربك ابنه
إلاَّ بفضل سلطانه… قال عمرو فزعاً: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت، وقال
المصري معتذراً: يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني.. فقال عمر رضي الله عنه:
"أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى يكون أنت الذي تدعه. والتفت إلى
عمرو مغضباً قائلاً له تلك القولة الخالدة: "أيا عمرو! متى استعبدتم الناس
وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"».
وكتب الأستاذ علي الطنطاوي في بداية كتابه «قصص من التاريخ»
مقالة اسمها: «نحن المسلمين» قال فيها: "نحن المسلمون، سلوا كل سماء في
السماء عنا، وسلوا كل أهل الأرض عنا من الذي أعتق الإنسان وكان عبداً، عمر رضي
الله عنه وأرضاه يأتيه رجل من مصر قبطي، فيقول: يا أمير المؤمنين! ضربني محمد بن
عمرو بن العاص، ابن أمير مصر، قال: ولِمَ؟ قال: سابقته بفرسي فسبقته، وقال:
أتسبقني وأنا ابن الأكرمين، فنزل فلطمه حتى لم يعد يدري أين يتجه، فذهب إلى الهيئة
العليا، إلى عمر - الذي يوقف الشيطان عند حده - بل يأتي عمر من طريق والشيطان من
طريق، عمر الإسلام والعدل والخير- فاستدعى عمرو بن العاص واستدعى ابنه محمداً،
وجمع الناس، ولما قدم عمرو لم يدر بالخبر، ولما رآهم عمر قبل أن يُسلِّموا، أخذ
الدرة وهي درة فيها علاج يخرج الشياطين من الرءوس، في صيدلية عمر بن الخطاب، شارع
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: والله لا يحول بيني وبينهما أحد،
ثم أخذ عمرو بن العاص، فبطحه أرضاً.
كل بطاح من الناس له يوم بطوح!
ثم بطح ابنه محمد ثم أخذ العصا واعتلاهم على صدورهم يضربهم، ويقول: (متى استعبدتم الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحراراً) هذه تكتب بماء الذهب، وأصبحت كلمة عمرية".
هكذا تحرفت عند كثير من الكتّاب والقصاص والوعّاظ! فزادوا
فيها أشياء منكرة جداً فوق نكارتها! ظناً منهم أنها صحيحة، والله المستعان.
·
علل سند القصة!
القصة ذكرها ابن عبدالحكم بقوله: حُدِّثنا عن أبي
عَبدة، عن ثابت البُناني، وحُميد، عن أنس..
فالقصة معلولة إسناداً من وجهين:
الأول: ابن عبدالحكم لم يذكر من حدَّثه بهذه القصة، فلا نعرف الواسطة
بينه وبين أبي عبدة هذا!
فابن عبدالحكم توفي سنة (257هـ)، وأبو عبدة توفي تقريباً (167هـ
أو بعدها أو قبلها بقليل).
فبينهما تقريباً (90) سنة أو يزيد.
الثاني: ضعف أبي عبدة وتفرده بها عن ثابت
وحميد! وهو يتفرد عنهما بمناكير!!
قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: يوسف
بن عبدة أبو عبدة؟ قال: "له أحاديث مناكير عن حميد وثابت"، وكأنه ضعفه.
وقال عبدالرحمن ابن أبي حاتم: سألت أبي عن يوسف بن عبدة؟
فقال: "شيخ ليس بالقوي، ضعيف" [الجرح والتعديل: 9/226].
وذكره العُقيلي في «الضعفاء» (4/456) ونقل قول أحمد فيه.
وذكر له حديثاً منكراً أنكره عليه حماد بن سلمة - وهو من أقرانه - وهو حديثه عن
ثابت عن أنس: «أنه أوصى إذا مات أن يوضع في فمه شعر من شعر النبي صلى الله عليه
وسلم»!!
رواه عنه أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكيّ.
قال أبو سلمة: فحدثت به حماد بن سلمة فأنكره! وحرك رأسه، وقال:
"إذا حدثك هؤلاء الشيوخ عن ثابت بشيء فاتهمهم".
وقال الأصمعي: "رآني حماد بن سلمة عند يوسف بن عبدة
فقال: ما هذه الروضة التي وقعت عليها!!" [ميزان الاعتدال: 7/300].
قلت: يعني حديث يوسف لا شيء!
ولا يعكّر على ذلك ذكر ابن حبان له في «الثقات» (7/639)!
قال ابن حبان: "يوسف بن عبدة أبو عبدة العتكي مولى
يزيد بن المهلب من أهل البصرة، ختن حميد الطويل، يروي عن الحسن وابن سيرين وحميد
الطويل، روى عنه الأصمعي وأهل البصرة، وقد كتب عنه الحسن بن موسى الأشيب".
قلت: هذا يرده قول حماد بن سلمة، وكذلك قول أحمد وأبي
حاتم. فالرجل منكر الحديث، وكأن ابن حبان لم يقف على ما ينكر من حديثه؛ لأن حديثه
قليل!! وابن حبان كثيراً ما يخالف الأئمة النقاد فيورد في الثقات من ضعفوه،
وأحياناً هو يتناقض في ذلك.
فإسناد القصة منكر! ولا تُعرف هذه القصة في أي كتاب من كتب
أهل العلم قبل كتاب ابن عبدالحكم وانتشرت من طريقه!!
·
نكارة متن القصة!
·
ما يدلّ على خلاف القصة من حال
عمرو بن العاص:
أولاً: هذه القصة ذكرها بن عبدالحكم في سياق خطبة لعمر بن
الخطاب وبين عمّاله، وكان إيرادها بسبب سؤال من عمرو بن العاص لعمر حول الرعية،
وكان مما أورده ابن عبدالحكم بعد هذه القصة ما يدل على خلاف هذه القصة المنكرة من
حال عمرو بن العاص، ومن ذلك:
قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا محمد بن خازم، عن
الحجّاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: «كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن
الخطّاب يسأله عن رجل أسلم ثم كفر ثم أسلم ثم كفر حتى فعل ذلك مراراً، أيقبل منه
الإسلام؟ فكتب إليه عمر أن اقبل منه، اعرض عليه الإسلام، فإن قبل فاتركه، وإلّا
فاضرب عنقه».
وقال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا محمد بن خازم، عن
الحجّاج، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: «كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن
الخطاب يسأله عن عبدٍ وَجد جرّة من ذهب مدفونة، فكتب إليه عمر: أن ارضخ له منها
بشىء، فإنه أحرى أن يؤدّوا ما وجدوا».
قلت: هكذا كان حال أمير مصر عمرو بن العاص مع الخليفة عمر،
وحرصه على ما يحدث في مملكته يبعد أن يجعله يحابي ابنه على حساب واحد من الرعية
سواءً أكان مسلماً أم غير مسلم.
وكان يطبق الحكم الشرعي حتى على ابن الخليفة عمر.
روى الزهري، عن سالم بن عبدالله بن عمر: أن عبدالله بن عمر
قال: "شرب أخي عبدالرحمن بن عمر وشرب معه أبو سروعة عقبة بن الحارث
ونحن بمصر في خلافة عمر، فسكرا، فلما صحوا انطلقا إلى عمرو بن العاص - وهو أمير
مصر - فقالا: طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه! فقال عبدالله بن
عمر: ولم أشعر أنهما أتيا عمرو بن العاص. قال: فذكر لي أخي أنه قد سكر، فقلت له:
ادخل الدار أطهرك فآذنني أنه قد حدث الأمير. قال عبدالله بن عمر: قلت، والله لا
يحلق اليوم على رءوس الناس، ادخل أحلقك وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحد، فدخل معه
الدار. قال عبدالله بن عمر: فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهم عمرو بن العاص، فسمع عمر
بذلك فكتب إليّ ابعث إليّ بعبدالرحمن بن عمر على قتب، ففعل ذلك عمرو، فلما قدم
عبدالرحمن على عمر جلده وعاقبه من أجل مكانه منه، ثم أرسله فلبث شهراً صحيحاً، ثم
أصابه قدره، فحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر، ولم يمت من جلده" [تاريخ
مدينة دمشق: 44/324].
·
تحريف العقّاد لهذه القصة!
وأما ما جاء في كتاب «عمرو بن العاص» لعبّاس محمود العقاد،
(طبعة دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة – القاهرة)، (ص157) حيث قال: "ولقد
حاسبه على إعفاء ابنه - أي ابن الخليفة - كما حاسبه على إعفاء ابنه هو من الجزاء
الذي استحقه بالعدوان على بعض رعاياه. فقد ذهب عبدالرحمن بن عمر بن الخطاب إلى
عمرو يبلغه أنه شرب مسكراً، ويطلب إليه أن يقيم الحد عليه. فتغاضى قليلاً، ثم أذن
بحده على أن يعفى من حلق رأسه على مشهد من العامة، فجاءه التأنيب من الخليفة مع
البريد يقول فيه: عجبت لك با ابن العاص ولجرأتك عليَّ وخلاف عهدي.. فما أراني إلا
عازلك فمسيء عزلك. تضرب عبدالله في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا
يخالفني؟ إنما عبدالرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين".
قلت: هكذا ساق العقاد هذه القصة وقد حرّفها لما عُرف من
طعنه في عمرو بن العاص في كتابه هذا!! فهو ينتهز كل فرصة ليطعن فيه، فطعن فيه من
جهة أمه في مقدمة كتابه، ثم حرّف كثيراً من القصص للطعن فيه ولبيان أنه كان سيئاً
في إمارته، وأنه كان يخالف الخليفة عمر، ولطالما وبخه عمر!
وهذا كله كذب وافتراء من العقاد. وقد نقلنا القصة بإسنادها
وراويها هو عبدالله بن عمر أخو عبدالرحمن.
وسيأتي زيادة تفصيل حول تحريفات العقاد لهذه القصص أيضاً
إن شاء الله.
·
أين تثبت عُمر؟!
ثانياً: يستدل الناس بهذه القصة على عدل عمر رضي الله عنه وعدله
ثابت بحمد لله دون هذه القصة المنكرة!
ومن عدل عمر أنه كان يستثبت قبل أن يتصرف، فكيف يأتيه هذا
الرجل، ثم يرسل مباشرة إلى عمرو أن ائتني أنت وابنك! وهل هذا الأمر بهذه السهولة؟!
إن ذلك يتطلب زمناً طويلاً. وكان يكفيه رضي الله عنه أن يرسل لعمرو يسأله عن هذه
الفصة ثم يتصرف بعد ذلك.
وظاهر القصة أن عمر بن الخطاب لم يتثبت من قضية ضرب ابن
عمرو لهذا المصري بدليل أن عمراً لما قدم وابنه، قال عمر مباشرة: "أين
المصري؟ خذ السوط فاضرب.."! ولو كان قد تثبت من ذلك لما قال له عمرو بعد أن
ضرب المصري ابنه: "لم أعلم ولم يأتيني"!!
فهل عدل عمر أنه يصدّق أي إنسان ادّعى دعوى على آخر ومباشرة
يطلق حكمه دون تثبت؟!
بل إنّ هذا يخالف مبدأ عمر في التثبت الذي عُرف به، وهو
مبدأ إسلامي أصيل لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وما جاء في القصة من تحريفات -
وليست في أصل ابن عبدالحكم - من أن عَمراً حبسه ثم هرب.. إلخ
فهذا من الكذب على الكذب!
وعمرو هو الذي فتح مصر في سنة عشرين، ووليها من سنة عشرين
إلى مقتل عمر سنة (23هـ)، وقدم عمرو عليه فيها قدمتين، وهاتين القدمتين ذكرهما أهل
العلم الكبار وأهل التاريخ، ولم يذكر واحد منهم أنه قدم إلى عمر بسبب هذه القصة!
·
طعن في واحد من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم!
ثالثاً: هذه القصة فيها طعن في واحد من أصحاب رسول الله
صلى الله وسلم وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وهو قد عرف بحزمه ودهائه. يقول الإمام الذهبي عنه:
"داهية قريش، ورجل العالم، ومن يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم"
[السير: 3/55].
وقال أيضاً: "وقد تأمر على مثل أبي بكر وعمر لبصره
بالأمور ودهائه".
وقال قبيصة بن جابر: "قد صحبت عمرو بن العاص فما رأيت
رجلاً أبين أو أنصع رأياً ولا أكرم جليساً منه، ولا أشبه سريرة بعلانية منه".
·
من هو هذا ابن عمرو بن العاص؟!
رابعاً: لم يسم ابن عمرو بن العاص صاحب القصة مع المصريّ،
وجاء في الروايات المحرفة أن اسمه: "محمد"!!
وعمرو بن العاص هو: أبو عبدالله، وكان ابنه عبدالله من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل في كنية عمرو: أبو محمّد.
وعلى أي حال فإن كان اسمه محمد وهو ولده الكبير فهذا يعني
أن ابنه هذا كان كبيراً في السن وليس صغيراً، فإن عَمراً كان شاباً من فرسان قريش
وأبطالهم في الجاهلية وقد أخبر أنه يذكر الليلة التي ولد فيها عمر بن الخطاب.
فهل رجل كبير وأمير مثل عمرو يكون له من الولد من يعامل
الناس هكذا بسبب أن رجلاً آخر سبق فرسه!!
·
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} وتصحيح المصري لهذا المفهوم لعمر!!
خامساً: من عدل عمر أنه يعاقب من ارتكب الذنب، ولا يعديه
إلى غيره. فبحسب القصة أمر عمر المصري أن يضرب ابن عمرو فضربه، ثم قال له:
"ضع على صلعة عمرو"! فقال له المصري: "يا أمير المؤمنين، إنما ابنه
الذي ضربني وقد اشتفيت منه"!
فالمصري صحح هذا المفهوم لعمر، أنه: {وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}!! فهل هذا المصري يعرف هذا المبدأ وعمر لا يعرفه؟!!
فهذه نكارة واضحة في هذه القصة!!
وهو يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «أَبْغَضُ الناس إلى
اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ في الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ في الْإِسْلَامِ سُنَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ»،
أخرجه البخاري من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً.
قال ابن حجر في «الفتح»: "قوله (ومبتغ في الإسلام سنة
الجاهلية) أي: يكون له الحق عند شخص فيطلبه من غيره ممن لا يكون له فيه مشاركة
كوالده أو ولده أو قريبه، وقيل: المراد من يريد بقاء سيرة الجاهلية أو أشاعتها أو
تنفيذها، وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه من أخذ
الجار بجاره والحليف بحليفه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك ما كانوا يعتقدونه...".
·
ألفاظ منكرة!!
سادساً: ما جاء في القصة من ألفاظ منكرة لا يمكن أن يتفوّه
بها عمر رضي الله عنه.
ومنها: «ابن الألأمين»! فلو أن القصة حدثت فعلاً وقال له
ابن عمرو: "أنا ابن الأكرمين"، لكان ينبغي أن يقول له: "اضرب ابن
الأكرمين"، لا أن يأتي بكلمة جارحة يصيب بها أهله، وهم لا ذنب لهم بفعلة
ابنهم!!
و«الألأمين» جمع «اللأم» وهو «اللئيم».
وفي «الصحاح»: "اللئيم: الدنيء الأصل، الشحيح
النفس".
فاللئيم هو الذي جمع الشح، ومهانة النفس، ودناءة الآباء.
فهل يُعقل أن عمر بن الخطاب يخالف أصلاً شرعياً في تعيير
الناس في أصولهم!! هذا إن كان هناك شيء في أصل عمرو! فكيف وهو عربي قرشي أصيل؟!!
·
طعن العقاد في عمرو بن العاص
واتهامه بأنه ولد زنا!!
وأما ما طعن به عباس العقاد في كتابه «عمرو بن العاص» (ص9)
حيث قال: "وعلى قدر ذلك الفخر بأبيه كان خجله من نسبه إلى أمه واجتراء الناس
عليه بمسبتها كلما تعمدوا الغضَّ منه والإساءة إليه. فكان حساده والنافسون عليه
يلاحقونه بذكرها وهو على دست الإمارة ومنبر الخطبة، وخاطر بعضهم رجلاً أن يقوم
إليه وهو على المنبر فيسأله: من أمُّ الأمير؟.. فأمسك من غضبه وقال: النابغة بنت
عبدالله. أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها عبدالله بن جدعان، ووهبها
للعاص بن وائل، فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئاً فخذه.!
ويؤخذ من بعض هذه المعايرات أنها كانت تؤجر للغناء بمكة
فإن عمراً شتم أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بمجلس معاوية، فانتهرته قائلة: (وأنت
يا ابن النابغة تتكلم، وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن لأجرة؟. اربع على
ظلعك، واعن بشأن نفسك، فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها
ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش كلهم يزعم أنه أبوك، فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم
أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به)..!!
ومن كلامه عنها في بعض ما نقل عنه: (إنها سلمى بنت حرملة
تلقب بالنابغة من بني عَنَزَة، ثم أحد بني جلاَّن، أصابها رماح العرب، فبيعت
بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة. ثم اشتراها منه عبدالله بن جدعان. ثم صارت إلى
العاص بن وائل).
ويروى أنها كانت على صلة بالعاص وأبي لهب وأمية بن خلف
وأبي سفيان. فولدت عمراً فألحقته بالعاص. وسئلت في ذلك فقالت: إنه كان ينفق على
بناتي.
وأياً كان شان المبالغة في الثَّلب والتعييرن فالمتفق عليه
أنها كانت سبية مغلوبة على أمرها، فلم تقارف البغتء سقوطاً منها وابتذالاً لعرضها،
ومثل هذه لا تحسب عليها زلاتها كما تحسب على المرأة التي تزل واها مندوحة عن
الزلل، وتهوى في موضع الصون والكرامة. وانجاب هذه ومثيلاتها للنوابغ من البنين ليس
مما يخالف المألوف من سنن النسب والوراثة" انتهى كلامه.
·
كلام ساقط ومتهافت!!
قلت: فهذا الكلام متهافت وصاحبه ادعى فيه أن عمرو بن العاص
ولد زنا!! وقد كذب والله.
وصدق فيه قول الرافعي - رحمه الله -:
وللسَّفُّود نارٌ لو تَلَقتْ // بِجَاحِمِها حديداً ظُنَّ
شَحْمَا
ويَشوي الصَّخرَ يترُكُه رَماداً // فكيف وقد رميتُكَ فيه
لَحْمَا
·
مصادر العقاد!!
وهذه القصة كذب ومصدرها كتاب «العقد الفريد» لابن عبد
ربّه، وهو كتاب أدبي معروف جمع فيه صاحبه كثير من القصص المكذوبة!!
فقد ذكر هذه القصة في (وفود أروى بنت عبد المطلب علي
معاوية)، قال: "العباس بن بكار قال: حدّثني عبدالله بن سليمان المدني وأبو
بكر الهذلي: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة؛
فلما رآها معاوية قال: مرحباً بك وأهلاً يا عمة، فكيف كنت بعدنا؟
فقالت: يا ابن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك
الصحبة، وتسمّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا
سابقة في الإسلام، بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتعس الله منكم
الجدود، وأضرع منكم الخدود، وردّ الحقّ إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا
هي العليا، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المنصور، فولّيتم علينا من بعده، تحتجون
بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر؛
فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد
نبينا بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة وغايتكم النار.
فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوز الضالة، وأقصري
عن قولك مع ذهاب عقلك، إذ لا تجوز شهادتك وحدك.
فقالت له: وأنت يا ابن النابغة تتكلم! وأمك كانت أشهر
امرأة تغني بمكة، وآخذهن لأجرة! اربع على طلعك، واعن بشأن نفسك؛ فو الله ما أنت من
قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها؛ ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش، كلهم يزعم
أنه أبوك فسئلت أمك عنهم، فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب
عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به...".
قلت: حاشا أروى بنت عبد المطلب عمة نبينا صلى الله عليه
وسلم أن تتهم الناس بأنهم أولاد زنا!!
·
العباس بن بكّار متّهم!!
وإن صح النقل عن العباس بن بكّار البصري عن خاله أبي بكر
الهذلي وعبدالله بن سليمان، فالعباس هذا منكر الحديث وهو متروك، وقد اتهمه بعض أهل
العلم، فقال فيه الدارقطني: "كذاب".
وقد تلقّف هذه الرواية بعض الشيعة وأوردوها في كتبهم مثل
كتاب «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد. وذكر هذه القصة عن الزمخشري في كتاب
«ربيع الأبرار» وزاد عليها: "قالوا: وكان أشبه بأبي سفيان، وفي ذلك يقول أبو
سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في عمرو بن العاص:
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت // لنا فيك منه بينات
الشمائل"!!!.
قلت: وهذا كذب وافتراء أيضاً.
وأما ما ذكر من أن رجلاً سأل عمراً عن أمه فهذه ليس فيها
أن عمراً ولد زنا، وغاية ما في الأمر أنها كانت سبية، ثم تزوجها العاص بن وائل.
·
رواية دون سند وبصيغة التمريض
(التضعيف)!
هذا إن صحت القصة، ولهذا أوردها ابن عبدالبر بصيغة التمريض
أي التضعيف.
قال في «الاستيعاب»: "عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم
بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي، يكنى أبا عبدالله،
ويقال: أبو محمد. وأمه النابغة بنت حرملة سبية من بني جلان بن عنزة بن أسد بن
ربيعة بن نزار، وأخوه لأمه عمرو بن أثاثة العدوي كان من مهاجرة الحبشة وعقبة بن
نافع بن عبد قيس بن لقيط من بني الحارث بن فهر، وزينب بنت عفيف بن أبي العاص أم
هؤلاء وأم عمرو واحدة وهي بنت حرملة سبية من عنزة، وذكروا أنه جعل لرجل ألف درهم
على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه وهو على المنبر، فسأله، فقال: أمي سلمى بنت
حرملة تلقب النابغة من بني عنزة، ثم أحد بني جلان أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ،
فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبدالله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص
بن وائل فولدت له فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخذه".
فهذه هي مصادر العقاد التي اعتمد عليها في الطعن في عمرو
بن العاص رضي الله عنه.
·
تحريف العقاد لقصة المصريّ!!
ونعود لقصتنا الأصل لنرى كيف حرّفها العقاد أيضاً، وتحريفه
هذا اعتمده كثير من القصاص!!
قال في كتابه «عمرو بن العاص» (ص157): "أما حساب
الخليفة له على غلطة ابنه محمد، فخلاصته أن عمراً أجرى الخيل، فأقبلت فرس رجل من
المصريين، فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح: فرسي وربّ الكعبة! ثم اقتربت وعرفها
صاحبها، فغضب محمد، ووثب على المصري يضربه بالسوط ويقول له: خذها وأنا ابن
الأكرمين! وبلغ ذلك أباه، فخشي أن يشكوهما المصري. فحبسه زمناً حتى أفلت وقدم إلى
الخليفة يرفع إليه مظلمته.. فاستقدم الخليفة عَمراً وابنه، وقال للمصري: دونك الدرَّة
فاضرب بها ابن الأكرمين! ثم قال له: أجِلْها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا
بفضل سلطانه. ففزع عمرو، واعتذر للمصري قائلاً: قد ضربت من ضربني! والتفت الخليفة
إلى المصري يقول له: (أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي
تدعه)، ثم إلى عمرو بن العاص يقول تلك الكلمة التي تعد من جلائل الأعمال، ولا تحصى
في جلائل الأقوال وكفى: (أيا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحراراً)!" انتهى.
قلت: فهذه القصة كما حرّفها العقاد وزاد فيها أشياء باطلة
لم ترد في الرواية الأصل التي رواها ابن عبدالحكم، وهي:
«عن أنس إلى عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ
بك من الظلم، قال: عذت معاذاً، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني
بالسّوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه ويقدم
بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصريّ؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول
عمر: اضرب ابن الألأمين، قال أنس: فضرب فوالله لقد ضربه ونحن نحبّ ضربه فما أقلع
عنه حتى تمنّينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصريّ: ضع على صلعة عمرو، فقال: يا
أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عُمر لعَمرو: مذ كم
تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم
يأتني».
ومما جاء في القصة من ألفاظ منكرة: ما نُسب لعمر قوله: «ضع
على صلعة عمرو»!! فهذا فيه نوع من التعيير وعمر أبعد الناس عن ذلك.
ثم كيف يأمر هذا المصري بالضرب على صلعة عمر - يعني على
رأسه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يضرب الوجه، ويدخل الرأس في هذا النهي؛ لأن
الوجه في الرأس، بل الضرب على الرأس أخطر من الضرب على الوجه!!
·
السياق التاريخي للقصة.
سابعاً: وأما هذه القولة التي تغنى بها الناس كثيراً: «مذ
كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟» أو بعد تحريفها: «متى استعبدتم
الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟»!!
فهذه المقولة لا نستطيع إخراجها عن سياقها التاريخي!
نعم، هي كلمة عظيمة في الحرية كما هو الظاهر! لكن في عهد
عمر وبعده كان هناك أناس يولدون عبيداً لا أحراراً!
والحرية لا تعني التمرد على الشريعة وأحكامها كما يريد
الناس الذين يرددون هذه المقولة، فالحرية لها حدود تقف عندها.
نعم، أهل الذمة لهم حقوق وليسوا عبيداً، ولكنهم كذلك
مقيدون في ظل الدولة الإسلامية.
وهذه المقولة التي تُنسب لعمر منكرة؛ لأن خطأ أي فرد من
أفراد المجتمع المسلم مع فرد آخر ذمي أو غيره لا يعني إطلاق كلمة الحرية هكذا دون
قيود، وأن هذا الفعل دلّ على استعباد الناس!
وليس المقصود بالاستعباد هنا الاستعباد الذي يكون لله وحده
- كما قد يفهمه البعض -، فهذا لا خلاف فيه. وإنما المقصود به هنا أن يتخذ الناس
عبيداً أو معاملتهم معاملة العبيد.
ولا شك أن الإسلام قد شرع تشريعات لتحرير العبيد، ولكن ذلك
كان ما يزال في عهد عمر، وليس المقصود أن نهضم غير المسلمين حقوقهم، فهي محفوظة في
ظل الدولة الإسلامية طالما أنهم يؤدوا ما عليهم من جزية.
وكثير من الليبراليين والعلمانيين في زماننا يتشدقون بهذه
المقولة للتفلت من حكم الشرع، وهذا أيضاً - كما ذكرناه - لا ينبغي أن نخرج المقولة
عن سياقها التاريخي.
·
كتاب د. أكرم ضياء العمري ونقد
الروايات التاريخية!!
وبعد، فالعتب الشديد على الدكتور أكرم ضياء العمري فإنه
ارتضى هذه القصة وغيرها وهو يتحدث في كتاب مهم له عن نقد الروايات التاريخية.
قال في كتابه «عصر الخلافة الراشدة - محاولة لنقد الرواية
التاريخية وفق منهج المحدثين» (ص126) وهو يتحدّث عن خلافة عمر بن الخطاب وحاله مع
عمّاله: "كما كان يحقق في شكاوى الرعية ضدهم، ولما ضرب ابن لعمرو بن العاص
أحد الأقباط وبلغ عمر شكواه، أراد أن يقتص للقبطي وخاطب عمراً بعبارته المشهورة: (متى
استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)... كما غضب عمر على عمرو بن العاص
لأنه أنفذ حد شرب الخمر على عبدالرحمن بن عمر بن الخطاب في بيته، والحق أن ينفذه
علناً أمام الناس ليعتبروا، وتحقيقاً لمبدأ المساواة أمام الشريعة..".
قلت: فكان ينبغي للدكتور وهو يتحدث عن نقد الروايات
التاريخية وفق منهج المحدثين أن ينظر في أسانيد هذه القصص ويحقق في شذوذها كما
أشار في مقدمة كتابه!! وعدم قبولها لشهرتها على ألسنة الناس!!
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
وكتب: خالد الحايك.
5 ربيع الأول 1433هـ.
28/1/2012.
شاركنا تعليقك