الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

رواية عبدالرّحمن بن شماسة المصري التابعي عن أبي ذر وعمرو بن العاص وعائشة، وفوائد مهمة تتعلق بالسماع في «صحيح مسلم».

رواية عبدالرّحمن بن شماسة المصري التابعي عن أبي ذر وعمرو بن العاص وعائشة.

وفوائد مهمة تتعلق بالسماع في «صحيح مسلم».

· ضبط اسم «شماسة»:

قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (2/137): "وشماسة بالشين المعجمة في أوله بفتحها وضمها، ذكرهما صاحب المطالع، والميم مخففة وآخره سين مهملة ثم هاء".

وقال ابن حجر في «التقريب» (ص342): "شماسة بكسر المعجمة، وتخفيف الميم بعدها مهملة".

وكذلك قال في «الفتح» (4/80، 311).

وتبعه العيني في «العمدة» (11/194) فقال: "بكسر الشين المعجمة وتخفيف الميم وبعد الألف سين مهملة".

قلت: الذي يظهر أن الشين المعجمة مثلثة، فيجوز فيها هذه الوجوه الثلاثة، بضمها وفتحها وكسرها، والله أعلم.

· هل سمع عبدالرحمن بن شَماسة من أبي ذر؟

من أثبت سماعه منه اعتمد على ما رواه الإمام مسلم في «صحيحه» (4/1970) قال: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، قال: أَخْبَرَنَا ابنُ وَهْبٍ، قال: أَخْبَرَنِي حَرْمَلَةُ [ح].

وحَدَّثَنِي هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، قال: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ -وَهُوَ ابنُ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ- عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَماسة الْمَهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضاً يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا. فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا)). قَالَ: "فَمَرَّ بِرَبِيعَةَ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ ابْنَيْ شُرَحْبِيلَ ابنِ حَسَنَةَ يَتَنَازَعَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَخَرَجَ مِنْهَا".

قال: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ وعُبَيْدُاللَّهِ بنُ سَعِيدٍ قَالا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ الْمِصْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَماسة، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، نحوه.

ورواه الإمام أحمد في «مسنده» (5/173) عن وَهْب بن جَرِيرٍ، به.

ثُم رواه عن هَارُون، عن ابنُ وَهْبٍ، عن حَرْمَلَةُ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَماسة، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، فَذَكَرَ مَعْنَاهُ.

ورواه ابن حبان في «صحيحه» (5/67) (باب: ذكر الإخبار عن فتح الله جل وعلا على المسلمين أرض بربر) عن محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني حرملة بن عمران، عن عبدالرحمن بن شَماسة المهري، قال: سمعت أبا ذر، فذكره.

ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» (9/206) (باب الوصاة بأهل الذمة) من طريق محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني حرملة بن عمران التجيبي، مثله.

ورواه ابن شبّة في «أخبار المدينة» (2/191) عن أحمد بن عيسى قال: حدثنا عبدالله بن وهب، به.

وزاد: قال ابن وهب: فسمعت الليث - يعني ابن سعد - يقول: "لا أرى رسول الله قال له ذلك إلا للذي كان من أهل مصر في عثمان بن عفان".

ورواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (8/303) قال: حدثنا مطلب بن شعيب، قال: أخبرنا عبدالله بن صالح، قال: حدثني حرملة بن عمران، عن عبدالرحمن بن شَماسة المهري، قال: سمعت أبا ذر يقول، فذكره.

قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد. تفرد به حرملة بن عمران".

· هل أراد مسلم تعليل هذا الحديث أم أنه يرى صحته؟

قلت: يتلخص لدينا من هذا التخريج أن هذا الحديث تفرد به حرملة بن عمران كما قال الطبراني.

وقد اختلف عليه:

فرواه عبدالله بن وهب وعبدالله بن صالح كاتب الليث عنه عن عبدالرحمن بن شَماسة قال: سمعت أبا ذر.

وفي كلّ طرق الحديث صيغة السماع هذه.

ورواه جرير بن حازم عنه عن عبدالرحمن بن شَماسة عن أبي بصرة عن أبي ذر، فزاد فيه واسطة بين عبدالرحمن وأبي ذر، وقد تفرّد به وهب بن جرير عن أبيه.

وقد عرض الإمام مسلم لهذا في تخريجه، وكذلك من قبله الإمام أحمد، فما الذي قصده الإمام مسلم من تخريجه لهذا الحديث؟!

يُحتمل أنه أراد أن يبين الاختلاف في إسناد الحديث بين الوصل والإرسال كعادته في بيان العلل في هذا الباب، ولكن يُشكل على ذلك أنه جاء في رواية ابن وهب عن حرملة: "سمعت أبا ذر"! فيحتمل أنه أراد الاحتجاج بهذا السماع، أو على الأقل تصحيحه لتحقق المعاصرة بين عبدالرحمن بن شَماسة وأبي ذر عنده!

ويُحتمل أنه أراد أن يبين أن ما جاء في رواية وهب بن جرير عن أبيه خطأ! ويُحتمل العكس.

والحقيقة أنني لا أستطيع أن أجزم بالذي أراده الإمام مسلم من هذا التخريج! والميل إلى أنه أراد تصحيح رواية عبدالله بن وهب عن حرملة.

وإن أراد ذلك فيكون قد وهم - رحمه الله -؛ لأن عبدالرحمن بن شَماسة لم يسمع من أبي ذر عند المحققين من أهل النقل، وعليه فيكون السماع الوارد في إسناد هذا الحديث خطأ.

وهذا السماع الخطأ من حرملة بن عمران؛ لاتفاق ابن وهب وعبدالله بن صالح عنه في ذكر السماع.

وحرملة بن عمران من ثقات أهل مصر، وقد اجتنب البخاري تخريج حديثه، وخرّج له في «الأدب المفرد»، وحديثه قليل، وله تفردات، ذكر منها الطبراني في «المعجم الأوسط» أربعة أحاديث: (8/318) رقم (8747)، (9/110) رقم (9272)، (9/132) رقم (9334)، (9/172) رقم (9449).

وحرملة هذا كان آخر من حدّث عن عبدالرحمن بن شَماسة.

قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/243): "عبدالرحمن بن شَماسة المهري: روى عن زيد بن ثابت وعقبة بن عامر وعمرو بن العاص وعبدالله بن عمرو، وروى عن: عائشة مرسل. روى عنه: يزيد بن أبي حبيب وكعب بن علقمة المصري وإبراهيم بن نشيط وحرملة بن عمران، سمعت أبي يقول ذلك".

قال ابن أبي حاتم: "روى عن أبي ذر قال: سمعت منه".

قلت: كيف يكون سمع من أبي ذر قديم الموت (ت32هـ)، وقد بيّن والده أن طبقة سماعه من هؤلاء الصحابة الذين ذكرهم ممن مات متأخراً عنه.

وقد اعتمد ابن أبي حاتم على هذا الحديث الذي فيه هذا السماع الخطأ.

قال البخاري في «التاريخ الكبير» (5/295): "عبدالرحمن بن شَماسة المصري المهري: سمع عقبة بن عامر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما. سمع منه يزيد بن أبي حبيب".

قلت: أراد البخاري أن يبين طبقة شيوخه من الصحابة، ومستحيل أن يكون سمع من أبي ذر. فكيف يسمع منه وموته قديم، وهو قد مات سنة إحدى ومائة أو بعدها.

· حديث مسلم مرسل!

قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص136): "وحديث أبي ذر -رضي الله عنه-: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط)، رواه ابن وهب عن حرملة بن عمران عن عبدالرحمن بن شَماسة عن أبي ذر، ورواه جرير بن حازم عن حرملة بن شَماسة عن أبي بصرة عن أبي ذر، أخرجه مسلم من طريقيهما كذلك، وهي بمجرد إمكان اللقاء، ولعل الأظهر هنا ترجيح الإرسال؛ لأن ابن شَماسة إنما لقي من الصحابة من مات بعد أبي ذر بزمن طويل كعمرو بن العاص وزيد بن ثابت وغيرهما".

قلت: يعني إن مسلماً خرّج حديثه عن أبي ذر لوجود المعاصرة، وإلا فهو لم يلقه؛ لأن أبا ذر مات قديماً سنة (32هـ)، وهو إنما سمع ممن مات بعده بزمن طويل كعائشة (توفيت 57هـ)، وعقبة بن عامر (ت 58هـ)، وعبدالله بن عمرو بن العاص (ت 65هـ).

وقال ابن يونس في «مقدمة تاريخ مصر»، وهو العمدة في المصريين: "وأهل النقل ينكرون أن يكون ابن شَماسة سمع من أبي ذر" (تهذيب التهذيب: 6/176).

وقد روى عبدالرحمن بن شَماسة عن عبدالرحمن بن عُدَيس البلوي الصحابي (ت 36هـ)، وقد قال أهل العلم إنه لم يسمع منه، وإنما يروي عن رجل غير مسمى عنه (انظر: تاريخ ابن عساكر: 35/109).

فإن كان ابن شَماسة لم يسمع من عبدالرحمن بن عديس وهو مصري، وقد توفي بعد أبي ذر، فكيف يسمع من أبي ذر؟!

والخلاصة أن حديث ابن شَماسة عن أبي ذر منقطع، فيكون الحديث الذي رواه مسلم مرسل لا يصح.

· ابن شَماسة يروي عن أبي ذر بواسطة:

روى سعيد بن منصور في «سننه» (2/204) قال: حدّثنا عبدالله بن وهب، قال: أخبرنى عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبدالرحمن بن شَماسة، عن معاوية بن حُدَيج: أنه مرَّ على رجلٍ بالمضمار ومعه فرسه ممسكٌ برسنة على ظل كثيب، فأرسل غلامه لينظر من هو، فإذا هو بأبي ذر، فأقبل ابن حديج إليه، فقال: يا أبا ذر، إني أرى هذا الفرس قد عناك، وما أرى عنده شيئاً! فقال أبو ذر: "هذا فرس قد استجيب له"، فقال له ابن حديج: وما دعاء بهيمة من البهائم؟ فقال أبو ذر: "إنه ليس من فرسٍ إلا أنه يدعو الله كل سَحَر يقول: اللَّهُمَّ أَنْتَ خَوَّلْتَنِي عَبْدًا مِنْ عبيدك وَجَعَلْتَ رِزْقِي في يدِهِ، اللهمَّ فَاجْعَلْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ".

ورواه أحمد في «مسنده» (1/162) عن حجّاج وهاشم قالا: حدثنا ليث: حدثني يزيد بن أبي حبيب، مثله.

قال أحمد: "ووافقه عمرو بن الحارث عن ابن شماسة".

ورواه ابن عبدالحكم في «فتوح مصر» (ص254) عن أحمد بن عمرو عن ابن وهب، به.

ثم رواه عن أبيه عبدالله بن عبدالحكم وشعيب بن الليث قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة: أنّ معاوية بن حديج حدَّثه: أنه مر على أبي ذر، فذكره.

قلت: فهذا يدلّ على أن ابن شماسة لم يلق أبا ذر، وإنما حدثه عنه: معاوية بن حُديج.

· وهم في رفع هذا الحديث، ووهم آخر! واستدراك على الدارقطني.

ورواه الإمام أحمد في «مسنده» (5/170) قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِالْحَمِيدِ بنِ جَعْفَرٍ، قال: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سُوَيْدِ بنِ قَيْسٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ حُدَيْجٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ إِلا يُؤْذَنُ لَهُ مَعَ كُلِّ فَجْرٍ يَدْعُو بِدَعْوَتَيْنِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ خَوَّلْتَنِي مَنْ خَوَّلْتَنِي مِنْ بَنِي آدَمَ فَاجْعَلْنِي مِنْ أَحَبِّ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إِلَيْهِ - أَوْ أَحَبَّ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إِلَيْهِ)).

قَالَ عبدالله بن أحمد: قَالَ أَبِي: "خَالَفَهُ عَمْرُو بنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَمَاشَةَ. وقَالَ لَيْثٌ عَنْ ابن شمَاشَةَ أَيْضاً".

وكذلك هو في «العلل ومعرفة الرّجال» (3/403).

ورواه البزار في «مسنده» (9/339) عن محمد بن المثنى. والنسائي في «السنن الكبرى» (3/36) عن عمرو بن عليّ الفلاّس. والحاكم في «المستدرك» (2/156) من طريق مُسدد، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد القطّان، به.

قال البزار: "وهذا الكلام لا نعلمه يُروى عن رسول الله إلا من هذا الوجه، ومعاوية بن حديج هذا قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث".

ورواه الحاكم في«المستدرك» (2/101) من طريق الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا رَوح بن عبادة، قال: حدثنا عبدالحميد بن جعفر، به.

قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

قلت: بل هو معلول من وجهين: الأول: أن الصواب فيه الوقف على أبي ذر، فلا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن راويه عن معاوية بن حديج هو: عبدالرحمن بن شماسة.

وقد سُئل الدارقطني في«العلل» (6/266) عن هذا الحديث؟ فقال: "يرويه يزيد بن أبي حبيب، واختلف عنه: فرواه عبدالحميد بن جعفر عن يزيد عن سويد بن قيس عن معاوية بن حديج عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ذلك: يحيى القطان عن عبدالحميد، ووقفه غير يحيى عن عبدالحميد، وكذلك رواه الليث عن يزيد بن أبي حبيب موقوفاً أيضاً، وهو المحفوظ".

قلت: قد تابع يحيى على وقفه عن عبدالحميد: روح بن عبادة عند الحاكم كما سبق، وكأن الدارقطني يرى أن هذا الوهم من يحيى القطان، وليس كذلك! وكأن عبدالحميد كان يقفه أحياناً ويرفعه أخرى إن ثبت عنه الوقف! ولم ينبه الدارقطني أيضاً إلى الاختلاف في إسناده أيضاً بذكر عبدالحميد في إسناده: "سويد بن قيس"! والصواب أن الحديث لابن شماسة.

والوهمان في هذا الإسناد من عبدالحميد بن جعفر، وهو وإن كان ثقة؛ إلا أنه له بعض الأوهام، وقد أخرج له البخاري حديثاً واحداً معلقاً وقفه وخالفه غيره فرفعه، ولم يكثر عنه مسلم، وروى له في المتابعات والشواهد.

قال النسائي في كتاب الضعفاء: "ليس بقوي".

وقال ابن حبان: "ربما أخطأ".

وقال الحافظ في «التقريب» (ص333): "صدوق، رمي بالقدر، وربما وهم".

قلت: وقول ابن حجر هو أعدل الأقوال فيه بخلاف من استدرك عليه في بعض التسويدات!.

تنبيه:

قد بينت أن رواية ابن شماسة عن أبي ذر منقطعة، ولا يُحتج علينا بما جاء عند مسلم وغيره بعد روايته للحديث الأول من طريق وَهْب بن جَرِيرٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ الْمِصْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَماسة، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، نحوه.

فهذا الحديث رواه جرير بن حازم عن حرملة عن ابن شماسة عن أبي ذر بواسطة أبي بصرة، وهذا يؤيد أن روايته عن أبي ذر بواسطة!

أقول: نعم، روايته عن أبي ذر بواسطة، ولكن ذكر: "أبي بصرة" هنا لا يصح؛ وهو وهم من وهب بن جرير أو أبيه؛ لأن عبدالله بن وهب وأبا صالح عبدالله بن صالح كاتب الليث روياه عن حرملة دون الواسطة، وهما أعلم بحديث أهل مصر من جرير بن حازم، وقد فصّلت هذا – بحمد الله وكرمه- في موضع آخر.

· هل سمع عبدالرحمن بن شَماسة من عمرو بن العاص؟

سبق كلام أبي حاتم الرازي والعلائي أن عبدالرحمن بن شَماسة روى عن عمرو بن العاص، وهذا هو رأي أبي سعيد بن يونس عالم أهل مصر.

وقد اختلف في سنة وفاة عمرو بن العاص على أقوال:

الأول: أنه توفي سنة (42هـ)، وهذا رأي أبي موسى هارون بن عبدالله، ومحمد بن المثنى، وأبي عُبيد القاسم بن سلام. قال أبو عبيد: "سنة اثنتين وأربعين فيها توفي عمرو بن العاص بمصر وهو أميرها يوم الفطر"، ثم قال: "ويُقال إن عمرو بن العاص توفي هذه السنة يعني ثلاث وأربعين".

وقد نسب الذهبي في «السير» (3/77) تبعاً للمزي في «تهذيب الكمال» (22/83) إلى محمد بن عبدالله بن نُمير أنه قال: إنه توفي سنة اثنتين وأربعين، وذكر المزي أنه قال في موضع آخر سنة ثلاث وأربعين. والذي رواه ابن عساكر في «تاريخه» (46/200) من طريق محمد بن عبدوس بن كامل، قال: أخبرنا محمد بن عبدالله بن نمير، قال: "مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر سنة ثلاث وأربعين". فالله أعلم.

الثاني: أنه توفي سنة (43هـ)، وهذا رأي جمهور أهل العلم، منهم: عمرو بن شعيب، وقتادة، والليث بن سعد، ويحيى بن بُكير، ويحيى بن معين، وخليفة بن خياط، ومحمد بن عبدالله بن نُمير، والهيثم بن عدي، والواقدي، وابن سعد، والمدائني، والعجلي، وابن البرقي، وأبو سعيد بن يونس.

الثالث: أنه توفي سنة (48هـ)، ذكره المزي في «تهذيب الكمال» ولم ينسبه لأحد!

الرابع: أنه توفي سنة (51هـ)، وقد نقل هذا ابن سعد عن الهيثم بن عدي. (تاريخ ابن عساكر: 46/203).

قال الذهبي في «السير» (3/77): "ويروى عن الهيثم: أنه توفي سنة إحدى وخمسين، وهذا خطأ".

الخامس: أنه توفي سنة (58هـ)، وهذا منسوب إلى أهل الكوفة.

روى ابن عساكر في «تاريخه» (46/203) من طريق الحسن بن حماد، قال: أخبرنا طلحة أبو محمد - شيخ من أهل الكوفة - قال: سمعت أشياخنا يذكرون قالوا: "مات عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة في خلافة معاوية بن أبي سفيان في سنة ثمان وخمسين".

قال الذهبي في «السير» (3/77): "وعن طلحة القَنَّاد، قال: توفي سنة ثمان وخمسين، وهذا لا شيء".

قلت: إنما نسب طلحة هذا إلى أشياخه كما سبق.

وأما المغيرة بن شعبة فقد قال الخطيب البغدادي إن أهل العلم أجمعوا على أنه مات سنة (50هـ).

السادس: أنه توفي سنة (61 أو 62هـ)، وهذا هو رأي الإمام البخاري. ولم يذكره الذهبي في ترجمة عمرو بن العاص عندما ذكر بعض الأقوال السابقة، وقد ضعف الذهبي رأي من قال بأنه توفي سنة (51هـ) وسنة (58هـ)، وهذا يعني أنه لو وقف على قول البخاري هذا لضعفه أيضاً.

· رأي غريب جداً للإمام البخاري!!

قال البخاري في «التاريخ الأوسط» (1/123) في (عشر من مات بين الستين إلى السبعين): حدثني الحسن بن واقع - هو الرملي -، قال: حدثنا ضمرة - هو ابن ربيعة الرملي - قال: "مات عمرو بن العاص في ولاية يزيد سنة إحدى أو اثنتين وستين".

وقال في «التاريخ الكبير» (6/303): "عمرو بن العاص أبو محمد السهمي القرشي - رضي الله عنه-. قال الحسن عن ضمرة: مات سنة إحدى أو اثنتين وستين في ولاية يزيد. أصله مكي نزل المدينة، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، ثم سكن مصر، ومات بها".

قلت: كأن ابن عساكر استنكر ذلك، فإنه لما نقل هذا عن البخاري، قال: "هكذا ذكره البخاري في الصغير!" (تاريخ ابن عساكر: 46/116).

قلت: هذا الذي ذهب إليه البخاري غريب جداً! والإشارة التي قدمنا عنه في أن طبقة سماع عبدالرحمن بن شَماسة الصحابة الذين توفوا سنة (55هـ) فما بعدها تناقض ما ذهب إليه من أن وفاة عمرو بن العاص كانت سنة (62 أو 63 هـ)!! فهو – رحمه الله- لم يذكر في ترجمة ابن شَماسة أنه روى عن عمرو بن العاص.

ويُحتمل أن ضمرة أراد بهذا وفاة "عبدالله بن عمرو بن العاص"، فسقط اسم: "عبدالله" من الكتاب، والله أعلم.

وعبدالله مات سنة (65هـ) على رأي الجمهور، وقال أحمد: "مات سنة 63هـ". والصواب ما رآه الجمهور.

والعجب من تبني البخاري لهذا الرأي! لأنه من المعروف تاريخياً أن وفاة عمرو بن العاص كانت متقدمة، وقد اتفقوا على أنه مات قبل معاوية، ومعاوية الخليفة مات سنة (60هـ).

قال البلاذري في «فتوح البلدان»: "وقال الواقدي: ثم إن علياً - رضي الله عنه - ولّى قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري مصر، ثم عزله واستعمل عليها محمد بن أبي بكر الصديق، ثم عزله وولى مالكاً الأشتر، فاعتل بالقلزم، ثم ولى محمد بن أبي بكر ثانية ورده عليها، فقتله معاوية بن حُديج وأحرقه في جوف حمار، وكان الوالي عمرو بن العاص من قبل معاوية بن أبي سفيان، فمات عمرو بمصر يوم الفطر سنة اثنتين وأربعين، ويُقال: سنة ثلاث وأربعين، وولي عبدالله بن عمرو ابنه بعده، ثم عزله معاوية بن حديج فأقام بها أربع سنين...".

وقال الطبري في «تاريخه» (3/133): "ثم دخلت سنة سبع وأربعين... وفيها عزل عبدالله بن عمرو بن العاص عن مصر ووليها معاوية بن حديج...".

وقال ابن الجوزي في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (5/220): " ثم دخلت سنة سبع وأربعين، فمن الحوادث فيها... وفيها عزل عبدالله بن عمرو بن العاص عن مصر، ووليها معاوية بن حديج".

قال: "ثم دخلت سنة خمسين، وفي هذه السنة عزل معاوية بن حديج عن مصر وولي مسلمة بن مخلد مصر وإفريقية والمغرب كله".

قلت: فهؤلاء الذين ولاهم معاوية على مصر كانوا بعد وفاة عمرو بن العاص؛ فكيف تكون وفاته قد تأخرت؟ ومن المعروف أنه ولي مصر منذ أن فتحها في عهد عمر رضي الله عنه، وبقي واليها إلى أن توفي في عهد معاوية، فوليها بعده ابنه عبدالله ثم معاوية بن حديج.

· ترجيح رواية ابن لهيعة وليث بن سعد على الرواية التي أخرجها مسلم:

وقد روى الإمام مسلم حديثاً يدلّ على أن ابن شَماسة سمع من عمرو بن العاص.

قال مسلم في «صحيحه» (1/112): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ وَإِسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ -وَاللَّفْظُ لابنِ الْمُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ ابنِ شَماسة الْمَهْرِيِّ، قَالَ:حَضَرْنَا عَمْرَو بنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلاً، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا، قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاثٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإسْلامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلابَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلالاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي".

قلت: فهذا الحديث يدلّ على أن عبدالرحمن بن شَماسة قد سمع من عمرو بن العاص.

وعندي أنه مستبعدٌ جداً؛ لأن أهل العلم على أن عمرو بن العاص توفي سنة (42هـ) أو (43هـ)، والراجح الأخير، وهذا يعني أن رواية عبدالرحمن بن شَماسة هذه عن عمرو مرسلة؛ لأن طبقة سماعه من الصحابة الذين ماتوا سنة (55هـ) فما بعدها.

وعليه فيكون ما جاء في رواية مسلم من قول ابن شَماسة: "حضرنا..."! خطأ، ولا بدّ.

وصوابه ما رواه ابن المبارك في «الزهد» (ص147) قَالَ: أَخْبَرَنَا ابنُ لَهِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بنَ شَماسة: حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ الْوَفَاةُ بَكَى، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُاللَّهِ: لِمَ تَبْكِي أَجَزَعًا عَلَى الْمَوْتِ؟ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ، وَلَكِنْ مِمَّا بَعْدُ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتَ عَلَى خَيْرٍ، فَجَعَلَ يُذَكِّرُهُ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُتُوحَهُ الشَّامَ، فَقَالَ عَمْرو: "تَرَكْتَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ: شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى ثَلاثَةِ أَطْبَاقٍ لَيْسَ فِيهَا طَبَقٌ إِلا قَدْ عَرَفْتُ نَفْسِي فِيهِ، كُنْتُ أَوَّلَ شَيْءٍ كَافِرًا فَكُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ مِتُّ حِينَئِذٍ وَجَبَتْ لِي النَّارُ، فَلَمَّا بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْهُ فَمَا مَلأْتُ عَيْنِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا رَاجَعْتُهُ فِيمَا أُرِيدُ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيَاءً مِنْهُ، فَلَوْ مِتُّ يَوْمَئِذٍ قَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لِعَمْرٍو أَسْلَمَ وَكَانَ عَلَى خَيْرٍ فَمَاتَ فَرُجِيَ لَهُ الْجَنَّةُ، ثُمَّ تَلَبَّسْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّلْطَانِ وَأَشْيَاءَ فَلا أَدْرِي عَلَيَّ أَمْ لِي، فَإِذَا مِتُّ فَلا تَبْكِيَنَّ عَلَيَّ وَلا تُتْبِعْنِي مَادِحًا وَلا نَارًا، وَشُدُّوا عَلَيَّ إِزَارِي، فَإِنِّي مُخَاصِمٌ، وَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا فَإِنَّ جَنْبِيَ الأيْمَنَ لَيْسَ بِأَحَقَّ بِالتُّرَابِ مِنْ جَنْبِي الأيْسَرِ، وَلا تَجْعَلَنَّ فِي قَبْرِي خَشَبَةً وَلا حَجَرًا، فَإِذَا وَارَيْتُمُونِي فَاقْعُدُوا عِنْدِي قَدْرَ نَحْرِ جَزُورٍ وَتَقْطِيعِهَا أَسْتَأْنِسْ بِكُمْ".

رواه الإمام أحمد في «المسند» (4/199) عن علي بن إسحاق عن عبدالله بن المبارك، به.

ورواه ابن عبدالحكم في «فتوح مصر» من طريق عبدالله بن وهب عن ابن لهيعة، نحوه.

وروى أحمد أيضاً (4/205) عن يَحْيَى بنُ إِسْحَاقَ، قال: أَخْبَرَنَا لَيْثُ بنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ ابْنِ شَماسة: أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ: ((لَمَّا أَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِي الإسْلامَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَنِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ فَقُلْتُ: لا أُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمْرُو، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ، يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإسْلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ)).

ورواه أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن منده في «فتح الباب في الكنى والألقاب» (ص458) من طريق يحيى بن بُكير، عن الليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن عبدالرحمن بن شماسة أخبره: أن عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة دمعت عيناه، فقال عبدالله بن عمرو: أبا عبدالله جزعاً من الموت.

قلت: فهذه الروايات ليس فيهما ما يدلّ على حضور ابن شَماسة وفاة عمرو بن العاص ولا السماع منه، والراجح عندي أن روايته عن عمرو مرسلة، وهذه القصة في وفاة عمرو بن العاص مرسلة، وقد رُويت من طرق أخرى مرسلة كذلك، والله أعلم.

ورواية مسلم التي فيها أنه حضر وفاة من عمرو بن العاص، تفرد بها أبو عاصم النبيل الضَّحَّاك بن مخلد البصري عن حيوة بن شُريح المصري عن يزيد بن أبي حبيب المصري!

والضحاك ثقة ثبت ولا شك في ذلك، ولكن أهل مصر الذين رووا هذا الحديث (الليث بن سعد وابن لهيعة) عن يزيد بن أبي حبيب تُقدّم روايتهم على رواية الضحاك البصري، سيما مع اختلاف متن حديثه وتفرده عن حيوة.

وما جاء في رواية مسلم من قول عبدالله بن عمرو لأبيه: "يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا"، في هذا نكارة واضحة!! لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُبشّر عمرو بن العاص بشيء!

والذي في رواية الليث بن سعد وابن لهيعة: "فَجَعَلَ يُذَكِّرُهُ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُتُوحَهُ الشَّامَ".

وهذا أصح مما في رواية مسلم. والتذكير بصحبته النبي صلى الله عليه وسلم شرف عظيم له، وكذلك ما شارك فيه من فتوحات عظيمة، رضي الله عنه.

والذي أميل إليه أن رواية مسلم هذه لا تصح، وكأن الخلل فيها من الضحاك، ورواية الليث وابن لهيعة تقدّم عليها، وظاهر روايتهما أنه لم يحضر وفاة عمرو بن العاص، والله أعلم.

· هل سمع عبدالرحمن بن شَماسة من عائشة؟

سبق قول أبي حاتم: "وروى عن عائشة مرسل".

وقال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (6/176): "وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: روايته عن عائشة مرسله. وقال اللالكائي: سمع منها".

قلت: روى مسلم في «صحيحه» (3/1458) قال: حَدَّثَنِي هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، قال: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ شَماسة، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئاً، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ. فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: ((اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ)).

وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ حَاتِمٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ مَهْدِيٍّ، قال: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ حَرْمَلَةَ الْمِصْرِيِّ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَماسة، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِهِ.

قلت: وهذا يدل على أنه سمع من عائشة، وهو قد أدركها.

وعند الإمام أحمد في «المسند» (6/258) عن وهب بن جرير قال: حدثني أبي: قال: سمعت حرملة المصري يحدث عن عبدالرحمن بن شَماسة المهري قال: دخلت على عائشة، فقالت: من أنت... فذكره.

ورواه أحمد أيضاً (6/257) عن عبدالرحمن بن مهدي قال: حدثني جرير - يعني بن حازم- عن حرملة المصري عن عبدالرحمن بن شَماسة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم من ولي من أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه)).

ورواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (9/172) من طريق سعيد بن سليمان النشيطي عن جرير بن حازم عن حرملة بن عمران المصري، به.

قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن عبدالرحمن بن شَماسة عن عائشة إلا بهذا الإسناد، تفرد به حرملة بن عمران".

قلت: هذا الحديث رواه عبدالله بن وهب وجرير بن حازم، كلاهما عن حرملة، به.

وقد رواه عن ابن وهب جماعة، منهم: هارون بن سعيد الأيلي، وهارون بن معروف، وعيسى بن أحمد العسقلاني، وموهب بن يزيد بن خالد الرملي.

ورواه عن جرير بن حازم جماعة أيضاً، منهم: ابنه وهب، وعبدالرحمن بن مهدي، وسعيد بن سليمان النشيطي، وأبو سلمة موسى بن إسماعيل.

وقد توبع حرملة عليه، ولم يتفرد به كما قال الطبراني.

أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» (59/25) من طريق حرملة بن يحيى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا علي الهمداني حدَّثه: أن رجلاً حدّثه: إنه دخل على عائشة، فسألته عن معاوية بن حُديج؟ فأثنى عليه خيراً، وقال: إن هلك بعير أخلف بعيراً، وإن هلك فرس أخلف فرساً، وإن أبق خادم أخلف خادماً، فقالت حينئذ: ((أستغفر الله، اللهم اغفر لي إن كنت أبغضه، إنه قتل أخي، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه)).

قال عمرو: وأخبرني بمثلها أبو وهب الجيشاني بمثله عن عاصم بن عمرو المهري، عن امرأة منهم حجّت مع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: وإبهام هذا الرجل الذي روى عنه أبو علي لا يضر، فقد عرفنا من هو، وهو عبدالرحمن بن شماسة، ويؤيده أن رواية الجيشاني عن عاصم وهو مهري، وابن شماسة مهري كذلك، فالحديث حديثه.

وهذا الحديث حدّثت به عائشة تقريباً سنة (50هـ)؛ لأن منصرف الجيش الذي كان مع معاوية كان في تلك السنة.

قال أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (ص24): "قال ابن لهيعة: وقال يزيد بن أبي حبيب: إن معاوية بن حديج غزا إفريقية ثلاث غزوات، أما الأولى: فسنة أربع وثلاثين، والثانية: سنة أربعين، والثالثة: سنة خمسين".

وقال خليفة بن خياط: "وفيها - يعني سنة خمسين - وجه مسلمة بن مخلد وهو أمير بمصر معاوية بن حديج إلى بلاد المغرب فأصاب سبياً وقفل سالماً، ووجه ابن حديج جيشاً فنزلوا على مدينة فسألوا الصلح فصالحهم، وانصرف في سنة إحدى وخمسين".

وقال ابن عبدالبر في «الاستيعاب» (3/1414): "قكان معاوية بن حديج قد غزا إفريقية ثلاث مرات مفترقات فيما ذكر ابن وهب وغيره، أصيبت عينه فى مرة منها، وقيل: بل غزا الحبشة مع ابن أبى سرح فأصيبت عينه هناك، وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث بإسناده، وعن عمرو بن حرملة بن عمران بإسناده: أن عبدالرحمن بن شماسة المهرى قال: دخلنا على عائشة... قال أهل السير: غزا معاوية بن حديج فى ذلك العام فنزل جبلاً فأصابته أمطار فسمي الجبل الممطور، ثم غزا معاوية في ذلك العام مرة أخرى فقَتَل وسبَى. قال ابن لهيعة: حدثنى بكر بن الأشج عن سليمان بن يسار قال: غزونا مع معاوية بن حديج إفريقية".

ففي سنة (50هـ) فتح معاوية بن حديج فتحاً بالمغرب، وكان قد جاءه عبدالملك بن مروان في مدد أهل المدينة، وهذه أول غزاة لعبدالملك.

وكان ممن غزا مع معاوية بن حديج إفريقية سنة خمسين: جبلة بن عمرو الأنصاري، وكان له صحبة.

قال ابن يونس: "توفي معاوية بن حديج سنة اثنتين وخمسين، وولده بمصر إلى اليوم".

·  تحريف في مطبوع تاريخ البخاري وكتاب ابن أبي حاتم وثقات ابن حبان!

سبق الحديث الذي أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» (59/25) من طريق حرملة بن يحيى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا علي الهمداني حدَّثه: أن رجلاً حدّثه: إنه دخل على عائشة، فسألته عن معاوية بن حُديج؟ فأثنى عليه خيراً، وقال: إن هلك بعير أخلف بعيراً، وإن هلك فرس أخلف فرساً، وإن أبق خادم أخلف خادماً، فقالت حينئذ: ((أستغفر الله، اللهم اغفر لي إن كنت أبغضه، إنه قتل أخي، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه)).

قال عمرو: وأخبرني بمثلها أبو وهب الجيشاني بمثله عن عاصم بن عمرو المهري، عن امرأة منهم حجّت مع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد اعتمد البخاري هذا الحديث في الترجمة لـ "عاصم بن عمرو":

قال في «التاريخ الكبير» (6/482): "عاصم بن عمرو الفهمي عن امرأة عن عائشة رضي الله عنها، مرسل. روى عنه أبو وهب الجيشاني. وقال [ابن] وهب عن عمرو: أخبرني أبو وهب الجيشاني عن عاصم بن عمرو الفهري، عن امرأة حجّت مع عائشة رضي الله عنها".

وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (6/349): "عاصم بن عمرو الفهمي، روى عن امرأة عن عائشة، مرسل. روى عنه أبو وهب الجيشاني، سمعت أبي يقول ذلك".

وقال ابن حبان في «الثقات» (7/257): "عاصم بن عمرو الفهري، يروي عن امرأة عن عائشة، روى عنه أبو وهب الجيشاني، عداده في أهل مصر".

قلت: كلّ هذا تحريف، والصواب: "عاصم بن عمرو المَهْري".

وهذه نسب ثلاثة مختلفة:

"المَهْري": بفتح الميم وسكون الهاء وفي آخرها الراء، هذه النسبة إلى مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وهي قبيلة كبيرة يُنسب إليها أبو الحجاج رشدين بن سعد المهري من أهل مصر.

و"الفَهمي": بفتح الفاء وسكون الهاء، هذه النسبة إلى فَهم، وفهم من قيس غيلان، وممن يُنسب إليها الليث بن سعد.

و"الفِهري": بكسر الفاء وآخره راء، وهذه النسبة إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة إليه تنسب قريش، ومنهم أبو عبيدة بن الجراح.

والحديث السابق رواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (1/115) قال: حدثنا أحمد بن رِشْدين قال: حدثنا أبو صالح الحراني، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، عن أبي علي الهمداني، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((اللهم من ولي أمر أمتي فرفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه)).

قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن الحارث إلا ابن لهيعة، واسم أبي علي الهمداني ثُمامة بن شُفَيّ".

قلت: بل رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي علي الهمداني: أن رجلاً حدّثه: إنه دخل على عائشة.

فأسقط ابن لهيعة الرجل المبهم، وهذا الرجل هو: عبدالرحمن بن شماسة، كما بينته آنفاً.

والخلاصة أن رواية عبدالرحمن بن شَماسة عن أبي ذر وعمرو بن العاص مرسلة، وروايته عن عائشة متصلة، والله تعالى أعلم.

وكتب: خالد الحايك

6/1/2011.

 

شاركنا تعليقك