«دُررُ السِّمْطِ» في
ضَعْف أحاديث «الوِصاية بالقِبط».
بقلم:
خالد الحايك.
سُئلت عن أحاديث
الوصاية بالقبط، هل صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ملأت صفحات الإنترنت
والدعوى أنها صحيحة، صححها الشيخ الألباني، واستشهد بها كثير من طلبة العلم؟
فأجبت: لم يصح في
ذلك شيء، والأحاديث الواردة فيها تحتاج إلى تفصيل لبيان عللها، وأبدأ بالحديث الذي
أورده الشيخ الألباني في «صحيحته».
· تصحيح الألباني لحديث معلول!
أورد الألباني في
«سلسلته الصحيحة» برقم: (1374) تحت عنوان: "التوصية بالقبط وسببها":
(إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورَحِماً).
قال الشيخ:
"أخرجه الحاكم (2/553) من طريق معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. وقال: «صحيح على شرط الشيخين».
ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وابن كعب اسمه: عبدالرحمن. وقد تابعه الأوزاعي عن
عبدالرحمن بن كعب به. أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (3/124). وتابعه
إسحاق بن راشد [عن الزهري] عن عبدالرحمن بن كعب به نحوه. وزاد فيه: «إن أم إسماعيل
منهم». أخرجه الطحاوي أيضاً. وإسناده صحيح، وهذه الزيادة في حديث معمر عند الحاكم
مقطوعاً بلفظ: قال الزهري: «فالرحم أن أم إسماعيل منهم». وللحديث شاهد من حديث أبي
ذر مرفوعاً نحوه. أخرجه مسلم (7/190) والطحاوي وأحمد (5/173، 174، 175)"
انتهى كلام الشيخ –رحمه الله-.
قلت: نظر الشيخ
إلى الرواية المرفوعة فقط، ولم يدر أن هناك رواية مرسلة تعلّ هذه التي صححها! وفي
كلامه كلّه نظر سيتبيّن لنا بعد تخريج هذه الروايات والكلام عليها إن شاء الله
تعالى.
· تخريج الحديث:
روى عبدالرزاق في
«المصنف» (باب القبط) (6/58) قال: أخبرنا مَعمر، عن
الزُّهري، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إذا مَلكتم القِبْط فأَحسنوا إليهم، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِماً)).
قال معمر: قلت
للزهري: يعني أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: "لا، بل أم
إسماعيل".
قال عبدالرزاق:
أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك، مثله.
وقال: أخبرنا
الثوري عن إسماعيل بن أمية عن الزهري، مثله.
ورواه ابن سعدٍ
في «الطبقات الكبرى» (8/214) قال: أخبرنا محمد بن عمر – وهو الواقدي- قال:
حدثني معمر ومحمد بن عبدالله، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً)).
قال:
"ورحمهم أن أم إسماعيل ابن إبراهيم منهم، وأم إبراهيم ابن النبي صلى الله
عليه وسلم منهم".
ورواه البيهقي في
«دلائل النبوة» من طريق محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: أخبرني مالك بن أنس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالك: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً؛ فإن لهم
ذمة ورحماً)).
ورواه محمد بنُ
إسْحَاقَ: قال: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بنُ مُسْلِمِ بنِ عُبَيْدِاللّهِ بنِ شِهَابٍ
الزّهْرِيّ: أَنّ عَبْدَالرّحْمَنِ بنَ عَبْدِاللّهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ
الْأَنْصَارِيّ ثُمّ السّلَمِيّ حَدّثَهُ: أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - قَالَ: ((إذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا
بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنّ لَهُمْ ذِمّةً وَرَحِمًا)).
فَقُلْت
لِمُحَمّدِ بنِ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ: مَا الرّحِمُ الّتِي ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - لَهُمْ؟ فَقَالَ: "كَانَتْ هَاجَرُ
أُمّ إسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ".
قلت: فمعمر وابن
عيينة وإسماعيل بن أمية ومالك بن أنس والليث بن سعد وابن إسحاق رووه عن ابن شهاب
مرسلاً.
والتعويل في
رواية معمر على عبدالرزاق لا على الواقدي؛ لأنه متهم، ولكن روايته هذه متابعة
لعبدالرزاق، فلا بأس بذكرها والاستئناس بها.
قال الذهبي في «تاريخ
الإسلام»: "وقال اللّيث وغيره، عن ابن شهاب، عن ابن لكعب بن مالك: أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإنّ
لهم ذمّةً ورحماً)). مرسلٌ مليح الإسناد. وقد رواه موسى بن أعين، عن إسحاق بن
راشد، عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه متّصلاً" انتهى.
قلت: فالليث
وغيره من الثقات رووه عن ابن شهاب مرسلاً، وخالفهم إسحاق بن راشد.
ولكن قبل الكلام
على رواية إسحاق وغيره، يجب الكلام على رواية معمر التي أخرجها الحاكم وكانت عمدة
الشيخ الألباني في هذا.
· علّة الرواية التي اعتمدها الألباني!
قال الحاكم في «المستدرك»
(2/603): أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، قال: أنبأنا الحسن بن علي بن زياد، قال: حدثنا
إبراهيم بن موسى، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن
مالك، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: خالف هشام
بن يوسف عبدالرزاق فوصل الحديث ووهم في ذلك لسلوكه الجادة! والمحفوظ ما رواه
عبدالرزاق دون: "عن أبيه".
وهشام بن يوسف
قاضي صنعاء ثقة ثبت، ولكن إذا اختلف هو وعبدالرزاق في مَعمر فإن الأئمة النقاد
يقدمون رواية عبدالرزاق عليه.
قال عباس الدوري
في «تاريخ ابن معين» (3/130): سمعت يحيى يقول: "كان عبدالرزاق في حديث
معمر أثبت من هشام بن يوسف".
وقال يحيى بن
معين: "ما كان أعلم عبدالرزاق بمعمر وأحفظه عنه، وكان هشام بن يوسف فصيحاً
يبتدع الخطبة على المنبر".
وقال ابن أبي
شيبة في «سؤالاته لابن المديني» (ص149): سمعت علياً يقول: "كان
عبدالرزاق أشبه بأصحاب الحديث من هشام بن يوسف، كان عبدالرزاق يذاكر".
وقال حنبل: سمعت
أبا عبدالله يقول: "إذا اختلف أصحاب معمر فالحديث لعبدالرزاق".
قلت: بل إن هشام
بن يوسف قدّم عبدالرزاق على نفسه:
قال علي بن
المديني: قال لي هشام بن يوسف: "كان عبدالرزاق أعلمنا وأحفظنا".
قال الذهبي
معلقاً على هذا: "قلت: هكذا كان النظراء يعترفون لأقرانهم بالحفظ".
قلت: فالصواب في
هذه الرواية عن معمر الإرسال، وقد وهم هشام بن يوسف في إسناده.
وعليه فلا يصح
تصرف الألباني، ومن قبله الحاكم بتصحيح هذا الإسناد.
· ابن كعب في هذه الرواية:
تقدم قول الشيخ
الألباني: "وابن كعب اسمه: عبدالرحمن".
قلت: يعني الشيخ
أنه: "عبدالرحمن بن كعب بن مالك"، وهذا غير صحيح، والصواب كما في رواية
ابن إسحاق: "عَبْدالرّحْمَنِ بن عَبْدِاللّهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ".
قال أحمد بن
صالح: "لم يسمع الزهري من عبدالرحمن بن كعب شيئاً، إنما روى عن عبدالرحمن بن
عبدالله بن كعب".
قال ابن حجر:
"ولم يذكره النسائي في شيوخ الزهري إنما ذكر ابن أخيه حسب" (تهذيب
التهذيب: 6/233).
· متابعة إسحاق بن راشد عن الزهري:
روى الطبراني في
«المعجم الكبير» (19/61) قال: حَدَّثَنَا خَلْفُ بن عَمْرٍو
الْعُكْبَرِيُّ، قال: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بن سُلَيْمَانَ، قال: حَدَّثَنَا
مُوسَى بن أَعْيَنَ، عَنْ إِسْحَاقَ بن رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ
بن كَعْبِ بن مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((إِذَا فُتِحَتْ مِصْرُ، فَاسْتَوْصُوا
بِالْقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا))، يَعْنِي أَنَّ أُمَّ
إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ مِنْهُمْ.
ورواه االبيهقي
في «دلائل النبوة» عن علي بن أحمد بن عبدان، عن أحمد بن عبيد، عن إسماعيل
بن الفضل، وخلف بن عمرو العكبري، قالا: حدثنا معافى بن سليمان، حدثنا موسى بن
أعين، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن
أبيه، مرفوعاً.
قلت: خالف إسحاق
بن راشد: معمراً ومالك بن أنس والليث بن سعد وابن إسحاق، فإنهم رووه عن ابن شهاب
مرسلاً.
وإسحاق بن راشد
في حديثه عن الزهري اضطراب. وقد تكلموا في سماعه منه!
قال ابن معين:
"ليس هو في الزهري بذاك". قيل له: ففي غير الزهري؟ قال: "ليس به
بأس".
وقال محمد بن
يحيى الذهلي عن صالح بن أبي الأخضر وزمعة بن صالح ومحمد بن أبي حفصة في بعض حديثهم
عن الزهري اضطراب، والنعمان وإسحاق بن راشد الجزريان أشد اضطراباً من أولئك.
وقال النسائي في
السنن الكبرى: "ليس بذاك القوي".
وقال الحافظ ابن
حجر في «تقريب التهذيب» (ص100): "إسحاق بن راشد الجزري أبو
سليمان: ثقة، في حديثه عن الزهري بعض الوهم".
· متابعة أخرى لم يذكرها الألباني!
روى الطبراني في «المعجم
الكبير» (19/61) قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن دُحَيْمٍ الدِّمَشْقِيُّ،
قال: حَدَّثَنَا أَبِي [ح].
وَحَدَّثَنَا
عَبْدَانُ بن أَحْمَدَ، قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بن عَمَّارٍ، وَدُحَيْمٌ، قَالا:
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بن مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكِ بن أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَن عَبْدِالرَّحْمَنِ بن كَعْبِ بن مَالِكٍ، عَنْ كَعْبٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِذَا فَتَحْتُمْ مِصْرَ،
فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا)).
وقال: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بن الْمُعَلَّى الدِّمَشْقِيُّ، قال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بن
عَبْدِالرَّحْمَنِ، قال: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بن مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابن كَعْبِ بن مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثله.
ورواه الطحاوي في
«مشكل الآثار» عن إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي، قال: حدثنا محمد بن
الصباح، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، به.
ورواه أيضاً عن
إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد، قال: حدثني الوليد بن مسلم،
ثم ذكر بإسناده مثله.
قلت: اختلف على
الوليد بن مسلم، فرواه هشام بن عمار ودُحيم عنه عن مالك بن أنس عن الزهري عن
عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن كعب.
ورواه سليمان بن
عبدالرحمن ومحمد بن الصباح والوليد بن شجاع عنه عن الأوزاعي عن الزهري عن ابن كعب
بن مالك عن أبيه.
وهذا الاضطراب
فيه من الوليد بن مسلم. والمحفوظ عن مالك عن الزهري عن ابن كعب مرسلاً ليس فيه:
"عن كعب". ولا يُعرف عن الأوزاعي إلا من حديث الوليد. والوليد كان يرفع
الأسانيد، وهو كثير الخطأ، وكان يدلس عن الأوزاعي.
قال عبدالله بن
أحمد عن أبيه قال: "كان الوليد رفاعاً".
وقال المروذي عن
أحمد: "كان الوليد كثير الخطأ".
وقال حنبل عن ابن
معين: سمعت أبا مسهر يقول: "كان الوليد ممن يأخذ عن أبي السفر حديث الأوزاعي
وكان أبو السفر كذاباً".
وقال مؤمل بن
إهاب عن أبي مسهر: "كان الوليد بن مسلم يُحدِّث حديث الأوزاعي عن الكذابين ثم
يدلسها عنهم".
وقال الدارقطني:
"كان الوليد يرسل يروي عن الأوزاعي أحاديث عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء عن
شيوخ قد أدركهم الأوزاعي فيسقط أسماء الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعي عن نافع وعن
عطاء".
قلت: فهذه
المتابعة التي رواها الوليد بن مسلم معلولة.
والحديث محفوظ عن
الزهري عن ابن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وقد وهم من وصله
وزاد فيه: "عن كعب" أي: "عن أبيه".
· إشارة البخاري إلى الاختلاف في إسناد هذا الحديث:
قال الإمام
البخاري في «التاريخ الكبير» (5/309): "وقال عبدالله: حدثني الليث عن
ابن شهاب عن عبدالرحمن بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالقبط
خيراً)). وقال حيوة عن بقية عن الزبيدي عن الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب
عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن المنذر: حدثني معن عن مالك عن
ابن شهاب عن ابن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحميدي: حدثنا
الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم مثله".
قلت: بيّن
البخاري اتفاق الليث بن سعد ومالك عن الزهري عن ابن كعب عن النبي صلى الله عليه
وسلم مرسلاً.
وخالف الوليد
فرواه عن الأوزاعي عن الزهري به متصلاً، وقد تقدّم الكلام على هذا الإسناد. وأما
رواية محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري فالزبيدي من أصحاب الزهري الثقات، ولكن
هذه الرواية عنه من رواية بقية بن الوليد، فزاد فيها: "عن بعض أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم"، وهذا يخالف ما رواه الثقات عن الزهري، وبقية متكلّم فيه
كما هو معروف.
والذي أراده
البخاري من هذا العرض لهذه الأسانيد أن يُبين أن الصواب فيه الإرسال، ووهم من
وصله.
· وهم للهيثمي في «مجمع الزوائد»!
قال الهيثمي في «مجمع
الزوائد» (10/63): "وعن كعب بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ((إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيراً؛ فإن لهم دماً ورحماً))، وفي
رواية: ((إن لهم ذمة)) - يعني أن أم إسماعيل كانت منهم. رواه الطبراني بإسنادين
ورجال أحدهما رجال الصحيح".
قلت: قد تبيّن
لنا أن الإسنادين اللذين رواهما الطبراني فيهما علة، ولا يصح الحديث عن كعب بن
مالك، وإنما الصواب: عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك مرسلاً.
· تعليق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وسعيد اللحام على هذا الحديث:
قال محققو «مسند
أحمد» (35/409) في الحاشية: "وفي الباب عن كعب بن مالك عند عبدالرزاق
(9996) و(9997) و(9998)، وابن عبدالحكم في ((فتوح مصر)) ص3، والطحاوي في ((شرح
مشكل الآثار)) (2364) و(2365) و(2366)، والطبراني في ((الكبير)) 19/ (111) و(112)
و(113)، والحاكم 2/553، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) 6/322 مرفوعاً بلفظ: ((إذا
افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً))... وإسناده صحيح"
انتهى.
قلت:
أولاً: خلط هؤلاء المشايخ في التخريج بين الروايات المرسلة والموصولة!
فالروايات التي ساقها عبدالرزاق في مصنفه كلها مرسلة، وظاهر تصرفهم يوهم أنها
متصلة، وليس كذلك كما قدمت الكلام عليها.
ثانياً: قولهم: "إسناده صحيح"! ليس بصحيح، وقد قدمت بيان علل
هذه الروايات التي ذكروها، ولله الحمد.
· الشاهد الذي أخرجه مسلم في «صحيحه»:
روى الإمام مسلم
في «صحيحه» (4/1970) قال: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، قال: أَخْبَرَنَا
ابنُ وَهْبٍ، قال: أَخْبَرَنِي حَرْمَلَةُ [ح].
وحَدَّثَنِي
هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، قال: حَدَّثَنِي
حَرْمَلَةُ -وَهُوَ ابنُ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ- عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ
بنِ شَماسة الْمَهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ
أَرْضاً يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا؛ فَإِنَّ
لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا. فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ فِي
مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا)). قَالَ: "فَمَرَّ بِرَبِيعَةَ
وَعَبْدِالرَّحْمَنِ ابْنَيْ شُرَحْبِيلَ ابنِ حَسَنَةَ يَتَنَازَعَانِ فِي
مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَخَرَجَ مِنْهَا".
قال: حَدَّثَنِي
زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ وعُبَيْدُاللَّهِ بنُ سَعِيدٍ قَالا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بنُ
جَرِيرٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ الْمِصْرِيَّ يُحَدِّثُ
عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَماسة، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ، عَنْ أَبِي
ذَرٍّ، نحوه.
ورواه الإمام
أحمد في «مسنده» (5/173) عن وَهْب بن جَرِيرٍ، به.
ثُم رواه عن
هَارُون، عن ابنُ وَهْبٍ، عن حَرْمَلَةُ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَماسة،
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، فَذَكَرَ مَعْنَاهُ.
ورواه ابن حبان
في «صحيحه» (5/67) (باب: ذكر الإخبار عن فتح الله جل وعلا على المسلمين أرض
بربر) عن محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب،
قال: أخبرني حرملة بن عمران، عن عبدالرحمن بن شَماسة المهري، قال: سمعت
أبا ذر، فذكره.
ورواه البيهقي في
«السنن الكبرى» (9/206) (باب الوصاة بأهل الذمة) من طريق محمد بن عبدالله
بن عبدالحكم، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني حرملة بن عمران التجيبي، مثله.
ورواه ابن شبّة
في «أخبار المدينة» (2/191) عن أحمد بن عيسى قال: حدثنا عبدالله بن وهب،
به.
وزاد: قال ابن
وهب: فسمعت الليث -يعني ابن سعد- يقول: "لا أرى رسول الله قال له ذلك إلا
للذي كان من أهل مصر في عثمان بن عفان".
ورواه الطبراني
في «المعجم الأوسط» (8/303) قال: حدثنا مطلب بن شعيب، قال: أخبرنا عبدالله
بن صالح، قال: حدثني حرملة بن عمران، عن عبدالرحمن بن شَماسة المهري، قال: سمعت
أبا ذر يقول، فذكره.
قال الطبراني:
"لا يروى هذا الحديث عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد. تفرد به حرملة بن
عمران".
· ما الذي أراده الإمام مسلم من تخريجه؟ والسماع الذي لا يصح:
قلت: يتلخص لدينا
من هذا التخريج أن هذا الحديث تفرد به حرملة بن عمران كما قال الطبراني.
وقد اختلف عليه:
فرواه عبدالله بن
وهب وعبدالله بن صالح كاتب الليث عنه عن عبدالرحمن بن شَماسة قال: سمعت أبا ذر.
وفي كلّ طرق
الحديث صيغة السماع هذه.
ورواه جرير بن
حازم عنه عن عبدالرحمن بن شَماسة عن أبي بصرة عن أبي ذر، فزاد فيه واسطة بين
عبدالرحمن وأبي ذر، وقد تفرّد به وهب بن جرير عن أبيه.
وقد عرض الإمام
مسلم لهذا في تخريجه، وكذلك من قبله الإمام أحمد، فما الذي قصده الإمام مسلم من
تخريجه لهذا الحديث؟!
يُحتمل أنه أراد
أن يبين الاختلاف في إسناد الحديث بين الوصل والإرسال كعادته في بيان العلل في هذا
الباب، ولكن يُشكل على ذلك أنه جاء في رواية ابن وهب عن حرملة: "سمعت أبا
ذر"! فيحتمل أنه أراد الاحتجاج بهذا السماع، أو على الأقل تصحيحه لتحقق
المعاصرة بين عبدالرحمن بن شَماسة وأبي ذر عنده!
ويُحتمل أنه أراد
أن يبين أن ما جاء في رواية وهب بن جرير عن أبيه خطأ! ويُحتمل العكس.
والحقيقة أنني لا
أستطيع أن أجزم بالذي أراده الإمام مسلم من هذا التخريج! والميل إلى أنه أراد
تصحيح رواية عبدالله بن وهب عن حرملة.
وإن أراد ذلك
فيكون قد وهم - رحمه الله -؛ لأن عبدالرحمن بن شَماسة لم يسمع من أبي ذر عند
المحققين من أهل النقل، وعليه فيكون السماع الوارد في إسناد هذا الحديث خطأ.
وهذا السماع
الخطأ من حرملة بن عمران؛ لاتفاق ابن وهب وعبدالله بن صالح عنه في ذكر السماع في
كلّ الروايات.
وحرملة بن عمران
من ثقات أهل مصر، وقد اجتنب البخاري تخريج حديثه، وخرّج له في «الأدب المفرد»،
وحديثه قليل، وله تفردات، ذكر منها الطبراني في «المعجم الأوسط» أربعة
أحاديث: (8/318) رقم (8747)، (9/110) رقم (9272)، (9/132) رقم (9334)، (9/172) رقم
(9449).
وحرملة هذا كان
آخر من حدّث عن عبدالرحمن بن شَماسة.
· هل سمع عبدالرحمن بن شَماسة من أبي ذر؟
قد ذكرنا أنه جاء
التصريح بسماعه في الحديث السابق، وعليه اعتمد ابن أبي حاتم.
قال في «الجرح
والتعديل» (5/243): "عبدالرحمن بن شَماسة المهري: روى عن زيد بن ثابت
وعقبة بن عامر وعمرو بن العاص وعبدالله بن عمرو، وروى عن: عائشة مرسل. روى عنه:
يزيد بن أبي حبيب وكعب بن علقمة المصري وإبراهيم بن نشيط وحرملة بن عمران، سمعت
أبي يقول ذلك".
قال ابن أبي
حاتم: "روى عن أبي ذر قال: سمعت منه".
قلت: كيف يسمع من
أبي ذر قديم الموت (ت32هـ)، وقد بيّن والده أبو حاتم أن طبقة سماعه من هؤلاء
الصحابة الذين ذكرهم ممن مات متأخراً عنه.
وقد اعتمد ابن
أبي حاتم على هذا الحديث الذي فيه هذا السماع الخطأ.
قال البخاري في «التاريخ
الكبير» (5/295): "عبدالرحمن بن شَماسة المصري المهري: سمع عقبة بن عامر
وزيد بن ثابت رضي الله عنهما. سمع منه يزيد بن أبي حبيب".
قلت: أراد
البخاري أن يبين طبقة شيوخه من الصحابة، ومستحيل أن يكون سمع من أبي ذر. فكيف يسمع
منه وموته قديم، وهو قد مات سنة إحدى ومائة أو بعدها.
قال العلائي في «جامع
التحصيل» (ص136): "وحديث أبي ذر -رضي الله عنه-: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر
فيها القيراط)، رواه ابن وهب عن حرملة بن عمران عن عبدالرحمن بن شَماسة عن أبي ذر،
ورواه جرير بن حازم عن حرملة بن شَماسة عن أبي بصرة عن أبي ذر، أخرجه مسلم من
طريقيهما كذلك، وهي بمجرد إمكان اللقاء، ولعل الأظهر هنا ترجيح الإرسال؛ لأن ابن
شَماسة إنما لقي من الصحابة من مات بعد أبي ذر بزمن طويل كعمرو بن العاص وزيد بن
ثابت وغيرهما".
قلت: يعني إن
مسلماً خرّج حديثه عن أبي ذر لوجود المعاصرة، وإلا فهو لم يلقه؛ لأن أبا ذر مات
قديماً سنة (32هـ)، وهو إنما سمع ممن مات بعده بزمن طويل كزيد بن ثابت (ت 55)،
وعائشة (ت57هـ)، وعقبة بن عامر (ت58هـ)، وعبدالله بن عمرو بن العاص (ت65هـ).
وقال ابن يونس في
«مقدمة تاريخ مصر»، وهو العمدة في المصريين: "وأهل النقل ينكرون أن يكون ابن
شَماسة سمع من أبي ذر" (تهذيب التهذيب: 6/176).
وقد روى
عبدالرحمن بن شَماسة عن عبدالرحمن بن عُدَيس البلوي الصحابي (ت 36هـ)، وقد قال أهل
العلم إنه لم يسمع منه، وإنما يروي عن رجل غير مسمى عنه (انظر: تاريخ ابن عساكر:
35/109).
فإن كان ابن
شَماسة لم يسمع من عبدالرحمن بن عديس وهو مصري، وقد توفي بعد أبي ذر، فكيف يسمع من
أبي ذر؟!
والخلاصة أن حديث
ابن شَماسة عن أبي ذر منقطع، فيكون الحديث الذي رواه مسلم مرسل لا يصح.
وأما روايته عن
عمرو بن العاص فهي كذلك مرسلة؛ لأن عَمْراً توفي سنة (43هـ) كما حققته – بفضل الله
وكرمه- في موضع آخر. (انظر: علوم الرّجال: رواية عبدالرحمن بن شَماسة
المصري التابعي عن أبي ذر وعمرو بن العاص وعائشة).
وأما روايته عن
عائشة فهي متصلة - إن شاء الله تعالى - كما حققته أيضاً في الموضع المشار إليه.
· الرواية التي فيها زيادة "عن أبي بصرة":
روى وَهْبُ بنُ
جَرِيرٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ الْمِصْرِيَّ يُحَدِّثُ
عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شَماسة، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ، عَنْ أَبِي
ذَرٍّ، نحوه.
وعلى هذه الرواية
اعتمد من ذكر عبدالرحمن بن شَماسة في الرواة عن أبي بصرة الغفاري الصحابي، كابن
يونس في «تاريخه» نقله عنه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (34/434) قال:
"وروى عن عمرو بن العاص وعبدالله بن عمرو وزيد بن ثابت وأبي بصرة
الغفاري...". وتبعه على ذلك ابن عساكر والمزي وابن حجر، وغيرهم.
· تعليق الشيخ شعيب وعادل مرشد وسعيد اللحام على هذا الحديث:
قال محققو «مسند
أحمد» (35/409) في الحاشية: "إسناده صحيح على شرط مسلم... وأبو بصرة: هو
حُميل – بضم الحاء المهملة، وقيل: بفتحها، وقيل: بالجيم – بن بَصرة بن وقاص
الغفاري، وهو صحابي سكن مصر".
قلت: تبعوا في
هذا المزي، حيث قال في «تحفة الأشراف»: "أبو بصرة الغفاريُّ واسمه
حُميل بن بصرة، عن أبي ذر".
وتبعه أيضاً
الذهبي في «تاريخ الإسلام» فقال: "أبو بصرة الغفاري، اسمه حُميل بن
بصرة، له صحبة ورواية، وروى عن أبي ذر أيضاً".
قلت: لقد حققت
بحمد الله الاختلاف في اسم أبي بصرة في غير هذا الموضع، ولكن الذي يعنينا هنا: هل
أبو بصرة في هذا الإسناد هو الصحابي أم هو آخر؟
قلت: ير الترمذي
أن أبا بصرة في هذا الإسناد ليس بالصحابي، وإنما هو رجل آخر ليس بصحابي!
قال الترمذي في «الجامع»
(2/315) مفرقاً بين الصحابي وهذا الآخر: "وأبو بصرة الغفاري رجلٌ آخر يروي عن
أبي ذر، وهو ابن أخي أبي ذر".
قلت: ما قاله
محتمل، ولكن الأكثر على أنه الصحابي، ومع هذا فلا تصح هذه الرواية.
وهذا الإسناد
بزيادة "عن أبي بصرة" تفرد به وهب بن جرير عن أبيه! والحديث محفوظ عند
المصريين بدون الزيادة، رواه عبدالله بن وهب وعبدالله بن صالح كاتب الليث عن حرملة
بن عمران عن عبدالرحمن بن شَماسة، عن أبي ذر. وقد تقدّم الكلام عليه.
والوهم في هذا
الإسناد إما من وهب بن جرير، فإنه كان –رحمه الله- يتفرد عن أبيه بأشياء. وهو ثقة،
وكان يخطئ.
قال ابن حبان في
«الثقات» (9/228): "وهب بن جرير بن حازم أبو العباس العتكي الأزدي من
أهل البصرة، يروى عن شعبة وأبيه، روى عنه بندار وأهل البصرة، مات سنة ست أو سبع
ومائتين، كان يخطىء".
وإما أن يكون من
أبيه جرير، وكان - رحمه الله - يهم في الشيء بعد الشيء؛ لأنه كان يحدّث من حفظه،
وحديثه عن المصريين لا يعتمد إذا خالفهم، فالعمدة في ذلك أهل مصر.
والظاهر أن الوهم
من جرير - رحمه الله - دخل عليه من الحفظ، فلما كان يحفظ بعض الأحاديث عن أبي بصرة
الغفاري عن أبي ذر، سلك في هذا الحديث الجادة، فأغرب في الإسناد! ويحتمل أنه في
كتابه هكذا، والله أعلم. وقد وجدت لوهب عن أبيه أحاديث من هذه البابة.
· سبب
خروج أبي ذرّ من مصر - كما في الرواية -: «فإذا رَأَيْتَ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ
فيها في مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَاخْرُجْ منها. قال: فَرَأَيْتُ عَبْدَالرحمن بن
شُرَحْبِيلَ بن حَسَنَةَ وَأَخَاهُ رَبِيعَةَ يَخْتَصِمَانِ في مَوْضِعِ لَبِنَةٍ
فَخَرَجْتُ منها».
قلت: هذا نكارة
في الحديث! فكيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخروج منها بسبب النزاع في موضع
لبنة؟!!
النزاع بين الناس
يكون في كل مكان، فلم يخص الخروج من مصر إذا حدث النزاع فيها؟ وهذا سيؤدي إلى ترك
البلاد بأكملها في نهاية المطاف!!
وأما عبدالرحمن
بن شرحبيل بن حسنة وأخوة ربيعة:
فقال ابن حجر في
«الإصابة» (2/504): "ربيعة بن شرحبيل بن حسنة، له رؤية، سيأتي ذكر
أبيه. قال ابن يونس: شهد فتح مصر، ويقال: إن عمرو بن العاص كان يستعمله على بعض
العمل، وروى عنه ابنه جعفر ويناق مولاه".
ثم قال:
"ربيعة بن شرحبيل بن حسنة، ذكره محمد بن الربيع بن سليمان الجيزي فيمن دخل
مصر من الصحابة، فقال: وممن شهد فتحها وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو
غلام، وأخوه عبدالرحمن بن شرحبيل".
قلت: هما واحد،
ولا أدري لما فصلهما!!
وقال أيضاً
(5/38): "عبدالرحمن بن شرحبيل بن حسنة، تقدم ذكر أبيه، وأما هو فذكره محمد بن
الربيع الجيزي فيمن دخل مصر من الصحابة وشهد فتحها، وكان قد أدرك النبي صلى الله
عليه وسلم، ولا يعرف له عنه حديث هو وأخوه ربيعة، وذكره ابن حبان في ثقات
التابعين، وقال: يروي عن أبيه وله صحبة، روى عنه أهل مصر. قلت: والضمير في قوله:
وله صحبة، لأبيه".
قلت: هما معدودان
في أهل مصر، ولهذا جاء ذكرهما في هذه الرواية، ولكن جعل نزاعهما هو السبب في خروح
أبي ذر من مصر فيه نظر! ولو كان هذا صحيحا لانتشر عند المصريين، والله تعالى أعلم.
· شواهد
أخرى:
للأحاديث السابقة
شواهد أخرى، هي:
الأول: روى أبو يعلى «مسنده» (3/51) عن أبي
خيثمة زهير بن حرب، قال: حدثنا عبدالله بن يزيد، قال: حدثنا حيوة، قال: أخبرني أبو
هانئ حميد بن هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبدالرحمن الحبلي - وهو عبدالله بن يزيد -
وعمرو بن حريث، وغيرهما يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم
ستقدمون على قوم جعد رؤوسهم، فاستوصوا بهم خيراً؛ فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم
بإذن الله - يعني قبط مصر-)).
ورواه ابن حبان
في «صحيحه» (15/69) (باب: ذكر الإخبار عن تقوي المسلمين بأهل المغرب على
أعداء الله الكفرة) عن أبي يعلى، به.
قال الهيثمي في «المجمع»
(10/64): "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح".
قلت: هذا مرسل،
ولا أدري كيف صححه ابن حبان! وكأنه اشتبه عليه بعمرو بن حريث الصحابي، وسيأتي
الكلام عليه قريباً إن شاء الله.
قال عبّاس الدوري
في «تاريخ ابن معين» (4/447): سمعت يحيى يقول: "عمرو بن حريث الذي روى
عنه أبو هانئ: استوصوا بالقبط خيراً، هو عمرو بن حريث ولم يسمع من النبي صلى الله
عليه وسلم شيئاً، إنما هو رجلٌ من أهل مصر".
وقال البخاري في
«التاريخ الكبير» (6/321): "عمرو بن حريث عن النبي صلى الله عليه
وسلم، مرسل. روى عنه حميد بن هانئ".
وكذا قال أبو
حاتم الرازي: "عمرو بن حريث، مصري. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل.
روى عنه: حميد بن هانئ".
وقال يعقوب
الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/264): حدثنا المقرىء: حدثنا حيوة بن شريح
-وهو كندي شريف ثقة عدل رضي، يكنى أبا زرعة توفي سنة ثمان وخمسين ومائة- قال:
أخبرني أبو هانىء حميد بن هانىء، خولاني: أنه سمع عمرو بن حريث: "وهذا مصري
ليس له سماع، ولا رواية، ولا صحبة، وهو ليس بعمرو بن حريث المخزومي، كوفي، له رواية".
قلت: يظهر مما
جاء في إسناد أبي يعلى: "وغيرهما يقولون" والأسانيد السابقة أن
الحديث منتشر بين المصريين، ولكنه مرسل، وهو ضعيف لا يُحتج به، سيما وهو في فضل
بلدهم.
· خلط
لابن حبان وأبي يعلى وعبد بن حُميد وغيرهم:
روى ابن حبان هذا
الحديث في «صحيحه» ومقتضاه أنه صحيح عنده، أي متصل! وكأنه خلط بين عمرو بن
حريث الصحابي الكوفي، وعمرو بن حريث التابعي المصري!
ذكر في الصحابة
في «الثقات» (3/272): "عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبدالله بن
عمرو بن مخزوم، أبو سعيد المخزومي القرشي، ولد يوم بدر، وهو أخو سعيد بن حريث، سكن
الكوفة ومات بمكة سنة خمس وثمانين، وكانت تحته ابنة جرير بن عبدالله البجلي".
وعمرو بن حريث في
حديثنا هو التابعي المصري، وحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل.
وقد ذكره ابن
حبان في التابعين من «ثقاته» (5/179) قال: "عمرو بن حريث المدني
المخزومي، يروي عن ابن عباس وأبي هريرة، روى عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري وأهل
مصر".
قلت: هذا ليس
بمخزومي، وإنما المخزومي الصحابي.
وكأن الذي حدث
لابن حبان أنه كعادته نقل هاتين الترجمتين من كتاب البخاري، وزاد في الثانية أشياء
وهم فيها، ثم في الصحيح تبع أبا يعلى الموصلي؛ لأنه هو الذي ذكر هذا الحديث في
"مسند عمرو بن حريث، رجل آخر ذكره أبو خيثمة" بعد أن ذكر: "مسند
عمرو بن حريث الصحابي الكوفي"، وابن حبان إنما روى هذا الحديث عن أبي يعلى،
وساق أبو يعلى حديثاً آخر قلده فيه أيضاً ابن حبان، فذكره في صحيحه، وأشار إليه في
ثقاته.
قال في «الثقات»
(4/149): "أبو هانئ: اسمه حميد بن هانئ، من أهل مصر، قال: حدثنا عمرو بن
حريث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما خففت عن خادمك من عمله كان لك
أجراً في موازينك))، رواه عنه سعيد بن أبي أيوب، وقد ذكرناه في كتاب مسند
الصحيح".
قلت: وهذه
العبارة تدلّ على أنه يرى صحبة عمرو هذا، ولهذا خرّجه في «الصحيح» (10/153)
قال: أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا أبو خيثمة، قال: حدثنا عبدالله بن يزيد، قال:
حدثني سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني أبو هانئ، قال: حدثني عمرو بن حريث: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما خففت عن خادمك من عمله، كان لك اجراً في
موازينك)).
وهذا عند أبي
يعلى في «مسنده» (3/50).
وقد وهم عبد بن
حميد أيضاً في هذا؛ فذكر الحديث في «مسنده» (ص119) في "مسند عمرو بن
حريث رضي الله عنه".
قال: حدثنا
عبدالله بن يزيد: حدثنا سعيد بن أبي أيوب: حدثني حميد بن هانئ، قال: أخبرني عمرو
بن حريث، فذكره.
قلت: وهذا الحديث
ذكره في حديث عمرو بن حريث الصحابي الكوفي، فوهم - رحمه الله -.
قال ابن حجر في «التقريب»
(ص420): "عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشي
المخزومي، صحابي صغير، مات سنة خمس وثمانين".
ثم قال: "عمرو
بن حريث، آخر، مصري، مُختَلفٌ في صحبته، أخرج حديثه أبو يعلى، وصححه ابن حبان،
وقال ابن معين وغيره: تابعي، وحديثه مرسل. (تمييز)".
وقال في «تهذيب
التهذيب» (8/17) بعد أن ذكر الصحابي: "(تمييز): عمرو بن حريث، غاير أبو
يعلى الموصلي في سند بينه وبين المخزومي، ونقل عن أبي خيثمة أن له صحبة، وقال صالح
بن أحمد: قلت لأبي: عمرو بن حريث الذي يروي عنه أهل الشام هو الكوفي؟ قال: لا، هو
غيره. وأخرج أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة: حدثنا عبدالله بن يزيد المقرئ: حدثنا سعيد
بن أبي أيوب: حدثني أبو هانئ: حدثني عمرو بن حريث: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: ((ما خففت عن خادمك من عمله كان لك أجراً في موازينك))، وأخرجه ابن حبان
في النوع الثاني من القسم الأول، ومقتضاه أن يكون عنده صحابياً أو اعتقد أنه
المخزومي، وقد جزم بأن راوي هذا الحديث ليس هو المخزومي جماعة من الأئمة، وجزم
البخاري بأن هذا الحديث مرسل، فقال: حديث عمرو بن حريث الذي رواه عنه حميد بن هانئ
مرسل، وجاء عن ابن وهب سنده: عمرو بن حريث عن أبي هريرة حديث آخر، وكذا قال يحيى
بن معين: عمرو بن حريث المصري تابعي وحديثه مرسل. قلت: ولم يذكر الخطيب في «المتفق»
سوى المخزومي والمعافري، فقال: عمرو بن حريث المعافري المصري، روى عن أبي هاني
حميد بن هاني الخولاني وسالم بن غيلان ويزيد بن عبدالله الهذلي، وأسند عن ابن معين
هذا الذي حدث عنه أهل مصر لم ير النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو الكوفي - يعني
المخزومي الماضي، وأغفل الخطيب التنبيه على ما وقع لأبي يعلى وسائر ما
ذكرناه".
وذكر الصحابي
الكوفي في «الإصابة» (4/619) ثم ذكر هذا فقال: "عمرو بن حريث آخر،
فرّق أبو يعلى بينه وبين الأول، ونقل عن أبي خيثمة أن له صحبة. وقال ابن الأثير:
لما رآه أبو خيثمة وأبو يعلى يروي عنه المصريون وهو كوفي ظناه غير الأول. قلت:
وظنهما موافق للحق بالنسبة إلى أنه غيره، وأما الصحبة فمختلف فيها، وقد قاله صالح
بن أحمد بن حنبل في المسائل، قلت لأبي: عمرو بن حريث الكوفي هو الذي يُحدِّث عنه
أهل الشام؟ قال: لا، هو غيره. وأخرج أبو يعلى من طريق سعيد بن أيوب: حدثني أبو
هانئ: حدثني عمرو بن حريث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما خففت عن
خادمك من عمله كان لك أجراً في موازينك))، وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، ومقتضاه
أن يكون لعمرو صحبة، وقد أنكر ذلك البخاري، فقال: عمرو بن حريث روى عنه حميد بن
هانئ مرسلاً، وقال: روى ابن وهب بإسناده إلى عمرو بن حريث: سمع أبا هريرة. وقال
ابن أبي حاتم عن أبيه: حديثه مرسل. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: تابعي وحديثه
مرسل. والله أعلم. وأخرج ابن المبارك في «الزهد» عن حيوة بن شريح عن أبي
هانئ: سمعت عمرو بن حريث وغيره يقولون: ((إنما نزلت هذه الآية في أهل الصفة {ولو
بسط الله الرزق لعباد لبغوا في الأرض} وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا الدنيا فتمنوا
الدنيا، فنزلت))، قال ابن صاعد عقب روايته في «كتاب الزهد»: عمرو هذا من
أهل مصر، ليست له صحبة، وهو غير المخزومي".
الثاني: روى الطبراني في «المعجم الكبير»
(23/265) قال: حدثنا محمد بن صالح النرسي، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا
وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي سلمة،
عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته، فقال: ((الله الله
في قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم، يكونون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله)).
قال الهيثمي في «المجمع»
(10/63): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".
وذكره الألباني
في «صحيحته» برقم (3113)، قال: "أخرجه الطبراني في الكبير
(23/265/561) قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي: ثنا بُندار. ح حدثنا
محمد بن صالح النَّرسي: حدثنا محمد بن المثنى قالا: حدثنا وهب بن جرير: حدثنا أبي
عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي سلمة عن أم سلمة: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أوصى عند وفاته فقال... فذكره.
قلت: وهذا إسناد
صحيح لا أعرف له علة؛ فإن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير شيخي الطبراني، لكن
الأول منهما زكريا الساجي؛ فهو ثقة حافظ مترجم في «تذكرة الحفاظ»، وقال في
«الميزان»: «أحد الأثبات، ما عرفت فيه جرحاً أصلاً». وشيخه بُندار اسمه محمد بن
بشار أبو بكر، وقد تابعه محمد بن المثنى، وهو المعروف بـ «الزَّمِن»، وكلاهما من
رجالهما، قال الحافظ في«التقريب»: «وكان هو وبندار فَرَسي رهان، وماتا في سنة
واحدة». لكن الراوي عنه محمد بن صالح النرسي لم أجد له ترجمة، وقد روى له الطبراني
في «المعجم الصغير» حديثاً واحداً (129/147 – الروض النضير).
وبالجملة:
فالحديث من طريق الساجي صحيح، وطريق النرسي شاهد قوي له. والحديث قال الهيثمي في
«مجمع الزوائد»: (10/63): «رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح»" انتهى كلام الألباني.
قلت: على كلامه
مؤاخذات:
أولاً: نظر الشيخ إلى ظاهر الإسناد فصححه ونفى أن يكون
له علة! مع أن أهل العلم تكلموا في رواية يحيى بن أيوب المصري وقالوا بأنه سيء
الحفظ يضطرب في حديثه، فهو ليس بالقوي، ولهذا انتقى له البخاري وأخرج له مقروناً
بغيره.
ومع هذا فإن
العلة الحقيقية هي في رواية وهب بن جرير عن أبيه عن يحيى؛ فقد نصّ بعض أهل النقد
أن هذه النسخة التي يرويها وهب بن جرير عن أبيه عن يحيى اشتبهت على وهب، وإنما هي
نسخة أبيه جرير بن حازم عن ابن لهيعة.
قال أبو عبيد
الآجري: سمعت أبا داود يذكر: (عن وهب بن جرير عن أبيه عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن
أبي حبيب عن أبي وهب الجيشاني)، ثم قال أبو داود: "جرير روى هذا عن ابن
لهيعة، طلبتها بمصر فما وجدت منها حديثاً واحداً عند يحيى بن أيوب، وما فقدت منها
حديثاً واحداً من حديث ابن لهيعة فأراها صحيفة اشتبهت على وهب بن جرير".
وقال أبو سعيد
ابن يونس - وهو العمدة في المصريين - عن «يحيى بن أيوب»: "كان أحد الطلابين
للعلم حدث عن أهل مكة والمدينة والشام وأهل مصر والعراق وحدث عنه الغرباء بأحاديث
ليست عند أهل مصر عنه، فحدَّث عنه يحيى بن إسحاق السالحيني عن يزيد بن أبي حبيب عن
ربيعة بن لقيط عن ابن حوالة: ((من نجا من ثلاث))؛ ليس هذا بمصر من حديث يحيى بن
أيوب. وروى عنه أيضاً عن يزيد عن ابن شَماسة عن زيد بن ثابت: ((طوبى للشام))
مرفوعاً؛ وليس هو بمصر من حديث يحيى. وأحاديث جرير بن حازم عن يحيى بن
أيوب ليس عند المصريين منها حديث، وهي تشبه عندي أن تكون من حديث ابن لهيعة،
والله أعلم. وروى زيد بن الحباب عن يحيى بن أيوب عن عياش بن عباس عن أبي الحصين
حديث أبي ريحانة: ((نهى عن الوشر والوشم))؛ وليس هذا الحديث بمصر من حديث يحيى بن
أيوب، إنما هو من حديث ابن لهيعة والمفضل وحيوة وعبدالله بن سويد عن عياش بن
عباس" (تهذيب الكمال ج31/ص236، سير النبلاء: 8/6).
وقال ابن حجر في
«هدي الساري» (ص450): "وهب بن جرير بن حازم البصري، أحد الثقات، ذكره
ابن عدي في الكامل، وأورد قول عفان فيه: إنه لم يسمع من شعبة، وقال أحمد عن ابن
مهدي: ما كنا نراه عند شعبة، قال أحمد: وكان وهب صاحب سنة. ووثقه ابن معين والعجلي
وابن سعد، وقال أبو داود: سمع أبوه من ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب نسخة
فاشتبهت عليه فحدَّث بها عن أبيه عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب، وأشار ابن
يونس في ترجمة يحيى بن أيوب إلى نحو ذلك. قلت: ما أخرج له البخاري من هذه
النسخة شيئاً، واحتج به الأئمة، وأوردوا له من حديثه عن شعبة ما توبع عليه".
قلت: فالحديث
حديث ابن لهيعة، وقد رواه ابن عبدالحكم في «فتوح مصر» من طريق الليث بن سعد
وابن لهيعة وعمرو بن الحارث، كلهم عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي سلمة بن عبدالرحمن،
مرسلاً.
والحديث من مرسل
أبي سلمة بن عبدالرحمن، ولا يصح مرفوعاً.
فتحصّل من هذا أن
الحديث معلول من وجهين: الأول: أنه ليس من حديث يحيى بن أيوب، وإنما من حديث ابن
لهيعة. والثاني: أنه من مرسل أبي سلمة بن عبدالرحمن، فوهم فيه وهب بن جرير أو أبوه
جرير، فجعله من مسند أم سلمة.
ثانياً: قول الشيخ: "فالحديث من طريق الساجي صحيح،
وطريق النرسي شاهد قوي له"، لا يصح؛ لأن الحديث ليس بصحيح، وكذلك إسناد
الساجي لا دخل له بهذا الحديث، والذي حصل للشيخ أنه أخطأ في سياقة الحديث من كتاب
الطبراني.
أورد الطبراني في
«المعجم الكبير» (23/265) ترجمة: «يزيد بن أبي حبيب عن أبي سلمة عن أم
سلمة»، ثم قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي: حدثنا بندار [ح]. وحدثنا محمد بن صالح
النرسي: حدثنا محمد بن المثنى، قالا: حدثنا وهب بن جرير: حدثنا أبي، عن يحيى بن
أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب)).
قال: وبإسناده
عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته فقال: الله الله في
قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم يكون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله)).
قلت: ففهم الألباني
أن الحديث الأخير ساقه الطبراني بالإسنادين السابقين للحديث الأول، وليس كذلك،
فالحديث الأخير ساقه بإسناد النرسي فقط، لا بإسناد زكريا الساجي، والله أعلم.
الثالث: روى ابن ماجه في «سننه» (1/484) قال:
حَدَّثَنَا عَبْدُالْقُدُّوسِ بنُ مُحَمَّدٍ، قال: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بنُ شَبِيبٍ
الْبَاهِلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ عُثْمَانَ، قال: حَدَّثَنَا
الْحَكَمُ بنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ((لَمَّا
مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ:
إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ، وَلَوْ عَاشَ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَلَوْ
عَاشَ لَعَتَقَتْ أَخْوَالُهُ الْقِبْطُ وَمَا اسْتُرِقَّ قِبْطِيٌّ)).
ورواه ابن عدي في
«الكامل» (7/167) في ترجمة "إبراهيم بن عثمان" عن حسين بن
عبدالله القطان، قال: حدثنا موسى بن مروان، قال: حدثنا يوسف بن الغرق بن لمازة
قاضي الأهواز، عن إبراهيم بن عثمان، به.
وذكره ابن حجر في
«الإصابة» (1/173)، وقال: "وفي سنده أبو شيبة الواسطي إبراهيم بن
عثمان، وهو ضعيف، وأخرجه ابن منده من هذا الوجه، ووقع لنا من طريقه بعلو، وقال:
غريب".
وذكره أيضاً في «فتح
الباري» (10/579) وسكت عنه!!
قلت: إبراهيم بن
عثمان العبسي قاضي واسط ليس بثقة وهو متروك الحديث، وكلام ابن حجر إنه ضعيف فقط
يوهم أن ضعفه هذا يمكن أن ينجبر، وليس كذلك، فهو ساقط واه، وأحاديثه لا أصل لها،
يشبه أن تكون موضوعة.
والراوي عنه:
"يوسف بن الغرق" متروك الحديث. قال أبو الفتح الأزدي:
"كذاب"، وقال أبو علي الحافظ: "منكر الحديث".
وقد روى ابن
عساكر متابعة لهذا الحديث في «تاريخه» (3/144):
قال: أخبرنا أبو
عبدالله الفراوي، قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي، قال: أنبأنا علي بن أحمد بن عبدان،
قال: أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: أنبأنا محمد بن يونس، قال: أنبأنا سعد بن
أوس أبو زيد الأنصاري، قال: أنبأنا شعبة عن الحكم، نحوه.
قلت: تفرد به
محمد بن يونس وهو الكُديمي البصري، متروك الحديث، وقد اتهم بسرقة الحديث ووضعه،
وكان بعض أهل العلم يطلق فيه الكذب.
قال ابن حبان:
"كان يضع على الثقات الحديث وضعاً، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث".
وقال موسى بن
هارون - وهو متعلق بأستار الكعبة -: "اللهم إني أشهدك أن الكديمي كذاب يضع
الحديث".
وقال القاسم بن
زكريا المطرز: "أنا أجاثي الكديمي بين يدي الله وأقول كان يكذب على رسولك
وعلى العلماء".
الرابع: روى عبدالرزاق في «المصنف» (6/57) عن
ابن جريج قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أوصى عند موته بأن لا
يترك يهودي ولا نصراني بأرض الحجاز، وأن يمضى جيش أسامة إلى الشام، وأوصى بالقبط
خيراً فإن لهم قرابة".
قلت: وهذا معضل.
والخلاصة أنه لم
يصح شيء في الوصاية بالقبط، وكل ما رُوي في ذلك من المراسيل، وهي ضعيفة، والله تعالى
أعلم.
· تنبيه
مهم حول تسمية القبط بأخوال المسلمين!!!
جاء في هذا
الحديث الباطل تسمية القبط بأخوال إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد
ابتلينا في هذا الزمان ببعض الجهّال الذين ينتسبون إلى العلم الشرعي، وينصبون
أنفسهم كـ "مشائخ في الحديث والعقيدة" فسحبوا هذا وعمموه على كل
المسلمين، فقال أحدهم: "«الله الله في قبطِ مِصرَ؛ فإنَّكم ستظهرونَ عليهم،
ويكونُون لكم عُدَّةً وأعواناً في سبيل الله» «الصحيحة» (1313) (كذا! وهو خطأ) عن
أم سلمة رضي الله عنها. هذه وصية نبيكم في أخوالكم الأقباط... ونقول لأخوالنا الأقباط...".
كذا قال هذا
الجاهل! جعل النصارى أخوالاً للمسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وهذه التسميات
يجب أن تكون شرعية، فهي ليست جائزة عند أهل العلم في المسلمين فكيف تجوز في
النصارى!
فقد ردّ أهل
العلم على من يقول عن معاوية رضي الله عنه: "خال المؤمنين"؛ سحباً على
أن أخته "أم المؤمنين"، فكيف يكون الأمر فيمن يسحب هذا على النصارى!
فالله المستعان.
· «قبط»
اسم أحد أحفاد حام بن نوح عليه الصلاة والسلام!
«القبط» اسم
يطلق على ساكني مصر قديماً.
جاء في «مختار
الصحاح» (ص217): "القبط بوزن السبط: أهل مصر، وهم
بنكها، أي أصلها، ورجل قبطي".
وقال
في «اللباب في تهذيب الأنساب» (3/13): "القبطي، بكسر القاف وسكون الباء
الموحدة بعدها طاء مهملة، هذه النسبة إلى ثلاثة أشياء، أحدها: إلى القبط، وهم أهل
مصر نسبوا إلى قبط ابن قوط بن حام، وقيل: إلى قبطي بن مصر، ينسب إليهم كثير منهم:
إبراهيم بن مسلم بن يعقوب القبطي مولى بني فهم، كان فقيهاً وكان جده يعقوب ممن
بعثه المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع مارية، حدّث إبراهيم عن أبي علقمة
مولى ابن عباس، حدث عنه بكر بن عمرو وحيي بن عبدالله المعافريان".
وقال ابن طاهر في
«المؤتلف والمختلف» (ص113): "القبطي والقبطي والقبطي، الأول: منسوب إلى قبط
مصر، منهم: جبر بن عبدالله القبطي مولى بني غفار رسول المقوقس بمارية إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأهل مصر ينسبونه إلى ولاء أبي بصرة الغفاري، ومسلم بن
يعقوب القبطي مولى لبني فهر وأبوه يعقوب كان أحد رسل المقوقس، وأبو رافع مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، يقال: اسمه أسلم، ويقال: هرمز، ويقال: إبراهيم، ويقال:
ثابت، وكان قبطياً، وإبراهيم بن مسلم بن يعقوب القبطي..".
وفي «معجم
البلدان» (5/140): "وأما سكان أرض مصر فأخلاط من الناس مختلفو الأصناف من قبط
وروم وعرب وبربر وأكراد وديلم وأرمن وحبشان وغير ذلك من الأصناف والأجناس إلا أن
جمهورهم «قبط» والسبب في اختلاطهم تداول المالكين لها والمتغلبين عليها من
العمالقة واليونانيين والروم والعرب وغيرهم فلهذا اختلطت أنسابهم واقتصروا من
الانتساب على ذكر مساقط رؤوسهم وكانوا قديماً عباد أصنام ومدبري هياكل إلى أن ظهر
دين النصرانية بمصر فتنصروا وبقوا على ذلك إلى أن فتحها المسلمون في أيام عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، فأسلم بعضهم وبقي البعض على دين النصرانية وغالب مذهبهم
يعاقبة".
وهذا الاسم بقي
يطلق على من لم يدخل في الإسلام وبقي على النصرانية.
وقد روى سَالِم
بن عبدالله بن عمر، عن أبيه: «كان عُمَرُ يَأْخُذُ من الْقِبْطِ من الْحِنْطَةِ
وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ الحمل إلَى
الْمَدِينَةِ، وَيَأْخُذُ من الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ من تِجَارَاتِهِمْ».
قال المسعودي في
«مروج الذهب» في «من نزل مصر من أبناء نوح»: "وقد ذكر جماعة من الشرعيين أن:
بيصر بن حام بن نوح لما انفصل عن أرض بابل بولده وكثير من أهل بيته غَرًبَ نحو
مصر، وكان له أولاد أربعة: مصر بن بيصر، وفارق بن بيصر، وماح وياح، فنزل بموضع
يُقال له منف، وبذلك يسمى إلى وقتنا هذا، وكان عدمهم ثلاثين فسميت ثلاثين بهم، كما
سميت مدينة ثمانين من أرض الجزيرة وبلاد الموصل من بلاد بني حمدان، وإنما نسبت إلى
عدد ساكنيها ممن كان مع نوح في السفينة، وكان بيصر بن حام قد كبر سنه، فأوصى
إلى الأكبر من ولده، وهو مصر، واجتمع الناس إليه وانضافوا إلى جملتهم، وأخصبت
البلاد، فتملك عليهم مصر بن بيصر، وملك من حد رفح من أرض فلسطين من بلاد الشام،
وقيل: من العريش، وقيل: من الموضع المعروف بالشجرة، وهو آخر أرض مصر، والفرق بينها
وبين الشام، وهو الموضع المشهور بين العريش ورفح - إلى بلاد أسوان من أرض الصعيد
طولاً، ومن أيلة - وهي تخوم الحجاز - إلى برقة عرضاً، وكان لمصر أولاد
أربعة، وهم: قبط، وأشمون، وإتريب، وصا، فقسم مصر الأرض بين أولاده الأربعة
أرباعاً، وعهد إلى الأكبر من ولده -وهو قبط - وأقباط مصر يضافون إلى
النسب إلى أبيهم قبط بن مصر، وأضيفت المواضع إلى ساكنيها، وعرفت
بأسمائهم، فمنها أشمون وقبط، وصا، فى تريب، وهذه أسماء هذه المواضع إلى هذه
الغاية، واختلطت الأنساب، وكثر ولد قبط، وهم الأقباط، فغلبوا على سائر الأرض، ودخل
غيرهم في أنسابهم؟ لما ذكرنا من الكثرة، فقيل لكل قبط مصر وكل فريق منهم يعرف نسبة
واتصاله بمصر بن بيصر بن حام بن نوح إلى هذه الغاية".
· «المُقوقس»
أمير «القبط» قٌبيل الفتح الإسلامي وفتح مصر:
وكان يُطلق على
أمير القبط قُبيل الإسلام «المُقوقس».
يقول ابن حجر في
«الإصابة» (6/374): "المقوقس هو لقب، واسمه جريج بن مينا بن قرقب، ومنهم من
لم يذكر مينا كما جزم به أبو عمر الكندي في أمراء مصر، فقال: المقوقس بن قرقوب
أمير القبط بمصر من قبل ملك الروم. وذكره ابن منده في الصحابة، فقال: مقوقس صاحب
الإسكندرية. روى عنه عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، ثم ساق من طريق حسين بن حسن
الأسواري، قال: حدثنا مندل بن علي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيدالله،
قال: حدثني المقوقس قال: (أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدح قوارير وكان
يشرب فيه). قال: ورواه إسماعيل بن عمرو عن مندل بإسناده، فقال: عن ابن عباس قال:
إن المقوقس أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وأخرجه أبو نعيم كذلك،
وأخرجه ابن قانع قبلهما، لكنه لم يقل صاحب الإسكندرية، وساق الحديث من طريق الحسين
بن الحسن. وقد أنكر ابن الأثير ذكره! فقال: لا مدخل له في الصحابة، فإنه لم يسلم
وما زال نصرانياً، ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر فلا وجه لذكره، ولهما أمثال
هذا. قلت: لولا قول ابن منده صاحب الإسكندرية لاحتمل أن يكون ظنه غيره كما هو ظاهر
صنيع ابن قانع وإن كان لم يصب بذكره في الصحابة، وإهداء المقوقس إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقبوله هديته مشهور عند أهل السير والفتوح.
قال أبو القاسم
بن عبدالحكم في «فتوح مصر»: حدثنا هشام بن إسحاق وغيره قالوا:
"لما كانت سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من الحديبية
بعث إلى الملوك فبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس فلما انتهى إلى الإسكندرية
وجده في مجلس مشرف على البحر فركب البحر فلما حاذى مجلسه أشار بالكتاب بين إصبعيه،
فلما رآه أمر به فأوصل إليه فلما قرأه قال: ما منعه إن كان نبياً أن يدعو علي
فيسلط علي، فقال له حاطب: ما منع عيسى أن يدعو على من أراده بالسوء! قال: فوجم
لها، ثم قال له: أعد فأعاد، ثم قال له حاطب: إنه كان قبلك رجل زعم أنه الرب الأعلى
فانتقم الله منه فاعتبر به وإن لك ديناً لن تدعه إلا إلى دين هو خير منه، وهو
الإسلام وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارته بمحمد، ولسنا ننهاك عن دين عيسى بل
نأمرك به، فقرأ الكتاب فإذا فيه: من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم
القبط، سلام على من اتبع الهدى، فذكر مثل الكتاب إلى هرقل، فلما فرغ أخذه
فجعله في حق من عاج وختم عليه، ثم ساق من طريق أبان بن صالح قال: أرسل المقوقس إلى
حاطب فقال أسالك عن ثلاث، فقال: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، قال: إلام يدعو محمد؟
قلت: إلى أن يعبد الله وحده ويأمر بالصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام
رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم إلى أن قال: صفه لي؟
قال: فوصفته فأوجزت، قال: قد بقيت أشياء لم تذكرها في عينيه حمرة قلما تفارقه وبين
كتفيه خاتم النبوة يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالتمرات والكسر ولا يبالي
من لاقى من عم ولا ابن عم. قال: هذه صفته وقد كنت أظن أن مخرجه بالشام، وهناك كانت
تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب = في أرض جهد وبؤس، والقبط لا
تطاوعني في اتباعه وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا
على ما ها هنا وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفاً، ولا أحب أن يعلم بمحادثتي إياك
أحد. قال أبو القاسم: وحدثنا هشام بن إسحاق وغيره قال: ثم دعا كاتباً يكتب
بالعربية فكتب: لمحمد بن عبدالله من المقوقس، سلام، أما بعد فقد قرأت كتابك وذكر
نحو ما ذكر لحاطب، وزاد: وقد أكرمت رسولك وأهديت إليك بغلة لتركبها وبجاريتين لهما
مكان في القبط، وبكسوة، والسلام. وقال أبو القاسم أيضاً: حدثنا هانئ بن المتوكل،
قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن المقوقس لما أتاه الكتاب
ضمه إلى صدره وقال: هذا زمان يخرج فيه النبي الذي نجد نعته في كتاب الله، وإنا نجد
من نعمته أنه لا يجمع بين أختين، وأنه يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، وأن جلساءه
المساكين، ثم دعا رجلاً عاقلاً، ثم لم يدع بمصر أحسن ولا أجمل من مارية وأختها،
فبعث بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث بغلة شهباء وحماراً أشهب وثياباً
من قباطي مصر وعسلاً من عسل بنها، وبعث إليه بمال وصدقة وأمر رسوله أن ينظر من
جلساؤه وينظر إلى ظهره: هل يرى شامة كبيرة ذات شعرات، ففعل ذلك فقدم الأختين
والدابتين والعسل والثياب، وأعلمه أن ذلك كله هدية، فقبل رسول الله صلى الله عليه
وسلم الهدية، ولما نظر إلى مارية وأختها أعجبتاه وكره أن يجمع بينهما فذكر
القصة... قال: وكانت البغلة والحمار أحب دوابه إليه، وسمى البغلة: دلدل، وسمى
الحمار: يعفور، وأعجبه العسل فدعا في عسل بنها بالبركة، وبقيت تلك الثياب حتى كفن
في بعضها وكذا قال، والصحيح ما في الصحيح في حديث عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كفن
في ثياب يمانية. وذكر الواقدي، قال: حدثنا محمد بن يعقوب الثقفي عن أبيه قال:
حدثنا عبدالملك بن عيسى وعبدالله بن عبدالرحمن بن يعلى بن كعب الثقفيان وغيرهم كل
حدثني بطائفة من الحديث، عن المغيرة بن شعبة في قصة خروجهم من الطائف إلى المقوقس
بأنهم لما دخلوا على المقوقس قال لهم: كيف خلصتم إلى ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟
قالوا: لصقنا بالبحر، قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟ قالوا: ما تبعه منا رجل
واحد، قال: فكيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحداثهم، وقد لاقاه من خالفه في مواطن
كثيرة، قال: فإلى ماذا يدعو؟ قالوا: إلى أن نعبد الله وحده ونخلع ما كان يعبد
آباؤنا، ويدعو إلى الصلاة والزكاة ويأمر بصلة الرحم، ووفاء العهد، وتحريم الزنا
والربا والخمر، فقال المقوقس: هذا نبي مرسل إلى الناس كافة ولو أصاب القبط والروم
لاتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى، وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله
وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر، فقالوا:
لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا معه فأنغص المقوقس رأسه، وقال: أنت في اللعب، ثم
سألهم عن نحو ما وقع لهم في قصة هرقل، وفي آخره: فما فعلت يهود يثرب؟ قلنا:
خالفوه، فأوقع بهم، قال: هم قوم حسد، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف، فذكر
قصة المغيرة فيما فعله برفقته ثم إسلامه بطولها.
وقد ذكر بن
عبدالحكم في «فتوح مصر» عن عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن عبدالله بن أبي جعفر
وغيره في حصار عمرو بن العاص القبط في الحصن إلى أن قال: فلما خاف المقوقس على
نفسه ومن تبعه فحينئذ سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه فذكر القصة، ومن طريق
خالد بن مرثد عن جماعة من التابعين أن المقوقس سبح هو وخواص القبط إلى الجزيرة
واستخلف الأعيرج على الحصن، ثم ذكر عن المقوقس استمراره على الصلح مع المسلمين لما
نقض الروم العهد إلى غير ذلك مما يدل على أنه تمادى على النصرانية إلى أن مات
وقصته في ذلك شبيهة بقصة هرقل".
قلت: فأصل القبط
أنهم أولاد قبط بن مصر، فينسبون إلى قبط أو مصر، فيقال: قبطي أو مصري.
· لفظ
«القبط» في كتب التفسير:
ولفظ «قبط» قد
ذكرها أهل العلم في كتب التفاسير أثناء الحديث عن قصص بني إسرائيل في مصر، وكانوا
هم أهل مصر الأصليين تمييزاً لهم عن بني إسرائيل.
والذي كان على
القبط يلقّب بـ «فرعون» وهو ملك القبط بالديار المصرية.
قال ابن كثير في
«تفسيره» (3/335) في قوله تعالى: {فجمع السحرة لميقات} من سورة «الشعراء»:
"ذكر الله تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى عليه السلام والقبط في سورة
الأعراف وفي سورة طه وفي هذه السورة، وذلك إن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله
بأفواههم فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وهذا شأن الكفر والإيمان ما
تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق
ولكم الويل مما تصفون}، {وقل جاء الحق وزهق الباطل} الآية، ولهذا لما
جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم
وأشدهم تخييلاً في ذلك، وكان السحرة جمعاً كثيراً وجماً غفيراً، - قيل: كانوا اثني
عشر ألفاً، وقيل: خمسة عشر ألفاً، وقيل: سبعة عشر ألفاً، وقيل: تسعة عشر ألفاً،
وقيل: بضعة وثلأثون ألفاً، وقيل: ثمانون ألفاً، وقيل: غير ذلك، والله أعلم
بعدتهم-".
ولم يكن في زمن
موسى عليه الصلاة والسلام وفرعون نصارى في مصر، وإنما اعتنق الأقباط النصرانية لما
سيطرت عليهم دولة الروم.
روى الليث بن
سعد، عن يزيد بن أبي حبيب: "أن المقوقس الذي كان على مصر كان صالح عمرو بن
العاص على أن يفرض على القبط دينارين دينارين. فبلغ ذلك هرقل صاحب الروم فتسخطه
أشد التسخط وبعث الجيوش فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب فقاتلهم،
وكتب إلى عمر بن الخطاب: أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى فتح علينا الإسكندرية
عنوة قسراً بلا عهد ولا عقد".
· لفظ
«القبط» في كتب اهل العلم:
فمن أسلم من
القبط ودخل في الإسلام فهو مسلم، ولكنه قبطي في الأصل، ولكن أهل العلم ينسبونه
«مصري» في الغالب، وأما من بقي على النصرانية فينسبونه «قبطي» في الغالب أيضاً،
وقد نسبوا بعضهم قبطي كما مر سابقاً.
فإذا أطلق لفظ
«قبطي» في كتب أهل العلم فيقصدون أنه نصراني غالباً – وخاصة بعد عصر التابعين وفي
العصور المتأخرة-، وأما من أسلم منهم فيقولون عنه: مصري باستثناء بعض من روى
الحديث من التابعين.
قال الزرقاني في
«شرحه» (3/401): "الثوب القبطي، بضم القاف، ثياب تنسب إلى القبط بالكسر،
نصارى مصر على غير قياس، وقد تكسر القاف في النسبة على القياس".
وقد أكثر أهل
العلم في مصنفاتهم التي تتعلق بتاريخ مصر من ذكر الحوادث التي كانت تحصل مع
الأقباط.
قال السخاوي في
«الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»: "إِبْرَاهِيم بن بَريَّة برهَان الدّين
مُسْتَوْفِي البيمارستان المنصوري، وَأحد مسالمة النَّصَارَى من كتاب الأقباط،
ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام وَعرض عَلَيْهِ مرَارًا الرُّجُوع فَأبى بل أصر على ردته
وَلم يبد سَببا لذَلِك فَضربت عُنُقه بِبَاب الْقلَّة من القلعة فِي سنة احدى
بِحَضْرَة الطواشي شاهين الحسني اُحْدُ خاصكية السُّلْطَان".
وقال المقريزي في
«السلوك لمعرفة دول الملوك» في حوادث «سنة أَربع عشر وَسَبْعمائة»: "وفِي نصف
الْمحرم: اتّفق أَنه كَانَ لِلنَّصَارَى مُجْتَمع بالكنيسة الْمُعَلقَة بِمصْر،
واستعاروا من قناديل الْجَامِع الْعَتِيق جملَة. فَقَامَ فِي إِنْكَار ذَلِك
الشَّيْخ نور الدّين عَليّ بن عبدالْوَارِث الْبكْرِيّ، وَجمع من البكرية وَغَيرهم
خلائق، وَتوجه إِلَى الْمُعَلقَة وهجم على النَّصَارَى وهم فِي مجتمعهم وقناديلهم
وشموعهم تزهر، فأخرق بهم وأطفأ الشموع وَأنزل الْقَنَادِيل. وَعَاد الْبكْرِيّ
إِلَى الْجَامِع، وَقصد القومة، فاحتجوا أَن الْخَطِيب الْقُسْطَلَانِيّ هُوَ
الَّذِي أَمر بإرسال الْقَنَادِيل إِلَى الْكَنِيسَة، فَأنْكر عَليّ الْخَطِيب
فعله. وَجمع الْبكْرِيّ النَّاس مَعَه على ذَلِك، وَقصد الإخراق بالخطيب، فاختفى
مِنْهُ وَتوجه إِلَى الْفَخر نَاظر الْجَيْش وعرفه بِمَا وَقع، وَأَن كريم الدّين
أكْرم هُوَ الَّذِي أَشَارَ بعارية الْقَنَادِيل فَلم يَسعهُ إِلَّا مُوَافَقَته.
فَلَمَّا كَانَ الْغَد عرف الْفَخر السُّلْطَان بِمَا كَانَ، وَعلم الْبكْرِيّ أَن
ذَلِك قد كَانَ بِإِشَارَة كريم الدّين، فَسَار بجمعه إِلَى القلعة وَاجْتمعَ
بالنائب وأكابر الْأُمَرَاء، وشنع فِي القَوْل وَبَالغ فِي الْإِنْكَار، وَطلب
الِاجْتِمَاع بالسلطان. فأحضر السُّلْطَان الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَطلب
الْبكْرِيّ، فَذكر الْبكْرِيّ من الْآيَات وَالْأَحَادِيث الَّتِي تَتَضَمَّن
معاداة النَّصَارَى، وَأخذ يحط عَلَيْهِم، ثمَّ أَشَارَ إِلَى السُّلْطَان
بِكَلَام فِيهِ جفَاء وغلظة حَتَّى غضب مِنْهُ عِنْد قَوْله: "أفضل الْمَعْرُوف
كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر. وَأَنت وليت القبط المسالمة، وحكمتهم
فِي دولتك وَفِي الْمُسلمين، وأضعت أَمْوَال الْمُسلمين فِي العمائر والإطلاقات
الَّتِي لَا يجوز"، إِلَى غير ذَلِك، فَقَالَ السُّلْطَان لَهُ: "وَيلك!
أَنا جَائِر؟". فَقَالَ: "نعم} أَنْت سلطت الأقباط على الْمُسلمين،
وقويت دينهم". فَلم يتَمَلَّك السُّلْطَان نَفسه عِنْد ذَلِك، وَأخذ السَّيْف
وهم بضربه. فَأمْسك الْأَمِير طغاي يَده، فَالْتَفت السُّلْطَان إِلَى قَاضِي
الْقُضَاة زين الدّين بن مخلوف، وَقَالَ: "هَكَذَا يَا قَاضِي يتجرأ عَليّ؟
إيش يجب أفعل بِهِ؟ قل لي؟! وَصَاح بِهِ. فَقَالَ لَهُ ابن مخلوف: "مَا قَالَ
شَيْئا يُنكر عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا يجب عَلَيْهِ شَيْء، فَإِنَّهُ نقل حَدِيثاً
صَحِيحاً". فَصَرَخَ السُّلْطَان فِيهِ وَقَالَ: "قُم عني".
فَقَامَ من فوره وَخرج. فَقَالَ صدر الدّين بن المرحل - وَكَانَ حَاضراً - لقَاضِي
الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الشَّافِعِي: "يَا مَوْلَانَا!
هَذَا الرجل تجرأ على السُّلْطَان، وَقد قَالَ الله تَعَالَى أمرا لمُوسَى
وَهَارُون حِين بعثهما إِلَى فِرْعَوْن {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر
أَو يخْشَى}. فَقَالَ ابن جمَاعَة للسُّلْطَان: "قد تجرأ وَلم تبْق إِلَّا
مراحم مَوْلَانَا السُّلْطَان". فانزعج السُّلْطَان انزعاجاً عَظِيماً، ونهض
عَن الْكُرْسِيّ، وَقصد ضرب الْبكْرِيّ بِالسَّيْفِ، فَتقدم إِلَيْهِ طغاي وأرغون
فِي بَقِيَّة الْأُمَرَاء، وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أمسك عَنهُ، وَأمر بِقطع
لِسَانه، فَأخْرج الْبكْرِيّ إِلَى الرحبة، وَطرح إِلَى الأَرْض، والأمير طغاي
يُشِير إِلَيْهِ أَن يستغيث، فَصَرَخَ الْبكْرِيّ وَقَالَ: "أَنا فِي جيرة
رَسُول الله"، وكررها مرَارًا حَتَّى رق لَهُ الْأُمَرَاء، فَأَشَارَ إِلَيْهِم
طغاي بالشفاعة فِيهِ، فنهضوا بأجمعهم وَمَا زَالُوا بالسلطان حَتَّى رسم
بِإِطْلَاقِهِ وَخُرُوجه من مصر. وَأنكر الْأَمِير أيدمر الخطيري كَون الْبكْرِيّ
قوى نَفسه أَولا فِي مُخَاطبَة السُّلْطَان، ثمَّ إِنَّه ذل بعد ذَلِك، وَنسب
إِلَى أَنه لم يكن قِيَامه خَالِصاً لله..".
وقال ابن تَغري
بَردي في «المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي» في ترجمة «ابن أبي الفرج
784-821هـ»: "عبدالغني بن عبدالرزاق بن أبي الفرج بن نقولا الأرمني الأصل
القبطي، الأمير فخر الدين بن الوزير تاج الدين، الشهير بابن أبي الفرج.
قال الشيخ تقي
الدين المقريزي: كان جدّه من جملة نصارى الأرمن وأسلم، وكان أبوه ممن ولي الوزارة
والإستادارية، ومولد فخر الدين هذا في شوال سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وعرف
الحساب، وكتب الخط الجيد، ولما نقل أبوه من ولاية قطيا إلى الوزارة في الأيام
الظاهرية برقوق ولاه موضعه بقطياً، وحملت إليه الخلعة في أول يوم من جمادى الأولى
سنة إحدى وثمانمائة فباشر ولاية قطيا ونظرها مدة وزارة أبيه، ثم صرف عنها وأعيد
إليها عدة مرات في الأيام الناصرية فرج، ثم ولي كشف الشرقية في سنة ثلاث عشرة
وثمانمائة، فوضع السيف في العرب، وأسرف في سفك الدماء وأخذ الأموال،
وتجاوز عن الحد والمقدار في الظلم، ثم طلب الزيادة في الظلم والفساد وبذل للناصر
أربعين ألف دينار، فولاه وظيفة الأستادارية، عوضاً عن تاج الدين عبدالرزاق بن
الهيصم في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر ربيع الآخرة سنة أربع عشرة وثمانمائة، فوضع
يده في الناس بأخذ أموالهم بغير شبهة من شبهة الظلمة حتى داخل الرعب كل بريء، وكثر
الشناعة عليه وساءت القالة فيه، فصرف في ذي الحجة من السنة وسر الناس بعزله سروراً
كثيراً، وعوقب عقوبة لم تعهد مثلها في الكثرة حتى أيس منه كل أحد ورق له أعداؤه،
وهو في ذلك يظهر من قوة النفس وشدة الجلد ما لا يوصف، ثم خلي عنه وعاد إلى ولاية
قطيا، ثم صرف عنها، وخرج مع الناصر إلى دمشق من غير وظيفة، وشهد واقعته بها، فلما
قتل الناصر تعلق بحواشي الأمير شيخ وقدم معهم إلى القاهرة وأعيد إلى كشف الوجه
البحري. انتهى كلام المقريزي باختصار.
قلت: واستمر فخر
الدين المذكور في كشف الوجه البحري إلى أن قبض الملك المؤيد شيخ على الأمير بدر
الدين حسن بن محب الدين في ثامن شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وثمانمائة ورسم
بإرسال تشريف الأستادارية إلى فخر الدين هذا - وهو بالبحيرة - فحمل إليه، وقدم فخر
الدين إلى القاهرة في يوم خامس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور، واستقر أستاداراً
على ما بيده من كشف الوجه البحري، وسلمه ابن محب الدين وأمره بعقوبته، فعوقب ابن
محب الدين المذكور وصودر وأخذت منه أموال لا تحصى.
واستمر فخر الدين
في الأستادارية، وعظم أمره. وزادت حرمته، وظهر من الملك المؤيد إقبال زائد إليه
لكثرة ما يحمله لخزانته من الأموال والتقادم والتحف، لكنه أخرب من مدته اليسيرة
كثيراً من بلاد الصعيد، وأفتى بالقتل خلائق من مشايخ عربانها، ثم سافر المذكور إلى
البحيرة وعاد في يوم السبت ... ذي القعدة من سنة تسع عشرة، ففي يوم قدومه أخلع عليه
خلعة الوزارة مضافاً إلى الأستادارية، بعد موت تقي الدين عبدالوهاب بن أبي شاكر،
فباشر الوظيفتين مدة، ثم بلغه عن الملك المؤيد ما داخله الخوف منه، فاختفى وفر إلى
بغداد وأقام بها مدة، ثم قدم بعد أن أرسل إليه الملك المؤيد أماناً، وأعيد إلى
الأستادارية، واستمر أستاداراً إلى أن توفي يوم الاثنين نصف شوال سنة إحدى وعشرين
وثمانمائة، وجفن بمدرسته التي أنشأها بين السورين بظاهر القاهرة، وصولح السلطان
على تركته بمائتي مثقال.
قال المقريزي:
وكَانَ جباراً قاسيا شَدِيداً جلداً عبوساً بَعيداً عَن الاسلام قتل من عباد الله
من لَا يُحْصى وَخرب اقليم مصر بِكَمَالِهِ وأفقر أَهله ظلماً وعتواً وَفَسَادًاً
فِي الأَرْض ليرضى سُلْطَانه فَأَخذه الله أخذاً وبيلاً. انتهى كلام المقريزي.
قلت: لَا يستكثر
عَلَيْهِ مَا كَانَ يَفْعَله من الظلم والجَور؛ فإنه من بَيت ظلم وعسف، وكان
عِنْده جبروت الأرمن، ودهاء النَّصَارَى، وشيطنة الأقباط، وظلم المكسة! فإنَّ
أَصله من الأرمن، وربي مَعَ النصارى، وتدرب بالأقباط، وَنَشَأ مَعَ المكسة بقطيا،
فاجتمع فيه من قلة الدين وخصائل السوء ما لا يوصف كثرة، لعمري هو أحق
بقول القائل:
مساوٍ لو قسمنَ
على الغواني // لما أمهرنَ إلاَّ بالطلاقِ
قيل: إنه لما دفن
بمدرسته سمعه جماعة من الصوفية وغيرهم وهو يصيح في قبره، وتداول هذا الخبر على
أفواه الناس. قلت: وما خفاهم أعظم إن شاء الله تعالى، فلله الحمد والمنة بهلاك مثل
هذا الظالم في عنفوان شبيبته إذ لو طال عمره لكان ظلمه وجوره يملأ الأقطار"
انتهى.
وقال الجَبرتي في
«عجائب الآثار» في حوادث «سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف»: "واستهل شهر جمادى
الأولى.. فيه نودي على طائفة المخالفين للملة من الأقباط والأروام بأن
يلزموا زيهم من الأزرق والأسود ولا يلبسوا العمائم البيض؛ لأنهم خرجوا عن الحد في
كل شيء ويتعممون بالشيلان الكشميري الملونة والغالية في الثمن، ويركبون الرهونات
والبغال والخيول وأماهم وخلفهم الخدم بأيديهم العصي يطردون الناس عن طريقهم،
ولايظن الرائي لهم إلا أنهم من أعيان الدولة، ويلبسون الأسلحة وتخرج الطائفة منهم
إلى الخلاء ويعملون لهم نشاباً يضربون عليه بالبنادق الرصاص وغير ذلك فما أحسن هذا
النهي لو دام..".
· إرجاع
كلمة «القبط» إلى الديانات القديمة!!
ويرى بعض
الباحثين أن كلمة «قبط» ترجع إلى إلى كلمة: «آجبه» أي: "أرض الفيضان"،
وهي كلمة ذات أصول مصرية، أو تعبير: «حـ . ت كا - بتاح» وتعني: «مقر قرين الإله
بتاح»، وهو: "إله مدينة منف" (ميت رهينة الحالية)، وهو الاسم الذي كانت
تعرف به المدينة. وهو أحد أسماء الدولة المصرية القديمة التي كانت تعرف باسم "كيميت".
ولما كان تغيير
بعض الحروف بحروف أخرى، أو إسقاط بعضها أمرًا واردًا مع اختلاف طبيعة النطق في
اللهجات المختلفة وتباينها من شَعب إلى آخر، أو حتى من وقت لآخر في البلد
الواحد، فقد تحولت «الحاء» إلى «هاء»، وأسقط حرف «التاء» لتصبح الكلمة «هكاتباه»
ثم صُحِّفَت هذه الصيغة في اليونانية لتصبح «الهاء»: همزة، والـ «كا»: «جيما»،
وأضيفَت إليها النهاية اليونانية، لتجيء على هذا النحو: «آيجيبتوسAegyptus »، لترتبط بها مجموعة من الروايات الأسطورية كان من بينها: أن اسم
«منف» الذي حملته هذه المدينة، هو في الأصل اسم لابنة الملك الذي بناها، وهي
الفتاة التي تدلّه بحبها إله النيل (!)، وأنجب منها: «آيجيبتوس» الذي اشتهر بالفضيلة،
فأطلق الناس اسمه على مصر.
ومن المعروف
أيضًا أن شاعر الإغريق الأعظم (!): «هوميروس»، ذَكَر نهر النيل في ملحمته:
«الأوديسة»، باسم: «إيجيبتوس»، وذلك عندما قصّ علينا رحلة: «منلاوس»، وما فعلته
الرياح به، ويقول على لسانه: في نهر «آيجيبتوس مكثت سفينتي».
وعلى هذا النحو
نفسه، انتقلت هذه الصيغة اليونانية، إلى اللغات الأوربية الحديثة، مع
إسقاط النهاية: (US)، وللإبقاء على جذر الكلمة، لنراها في الإنجليزية: (Egypt)،
كما عُرفَت في العربية مع التصحيف بـ: «قبط»، بعد حذف
(Ae) اليونانية، والإبقاء على جذر الكلمة الرئيسي «gypt»، وهكذا فقد أضحت كلمة «قبط» بعد حذف: (Ae)،
تعني: مصر، كما تعني أيضًا: أهلها، وهي في هذه الأخيرة تستخدم في صيغة الجمع.
[بتصرف من كلام الدكتور رأفت عبدالحميد في «الفكر المصري في العصر المسيحي» ص12- 14].
قلت: وبناء على
هذا ذهب الدكتور رأفت إلى أن: "«القبط»، هم: المصريون، ومفردها: «قبطي»، أي:
مصري، وقد تجمع أحيانًا على: «أقباط»، أي: مصريين. القبطية إذن ليست دينًا، فمن
الخطأ البيّن القول بـ: «الديانة القبطية»، إلا إذا انصرف الذهن إلى الآلهة
المصرية القديمة (!)، و«القبطية» بالتالي لا تعني «المسيحية»، وليست بديلًا عنها.
ومن ثم فإن كلمة: «الأقباط»، تعني: المصريين جميعًا، المسلمين والمسيحيين على
السواء، فهذا «قبطي»، أي: «مصري» مسلم، وهذا «قبطي»، أي: مصري مسيحي، تضمّهم
جميعًا بين أحضانها البلد العظيم.. مصر. ومن ثم القول بـ: «مصر القبطية»، أي: «مصر
المصرية»، أو «مصر في العصر القبطي» أي: «مصر في العصر المصري»: لا يستقيم مع
التاريخ، ولا مع المنطق" انتهى.
· تعقّب:
قلت: بنى الدكتور
كلامه على أصل هذه اللفظة في الديانات الأخرى، وقد قدمنا أن أصل التسمية عند كثير
من أهل العلم إلى أحد أحفاد حام بن نوح عليه الصلاة والسلام وهو «قبط بن مصر».
وكذلك بينت أن
أهل مصر كانوا يطلق عليهم «القبط» ولكن لما فتحت مصر في عهد عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - ودخل كثير من أهلها في الإسلام، بقي أناس على دين النصرانية الذي كان
قد هيمن على المصريين قبيل الإسلام، فبقيت التسمية لمن لم يدخل في الإسلام: «قبطي»
أي: نصراني ليس بمسلم.
وعليه فلا ضير أن
نسمي ما يدين به الأقباط بـ «الديانة القبطية» أي النصرانية، خلافاً لرأي الدكتور.
وقد أخطأ الدكتور
في قوله: "ومن ثم فإن كلمة: «الأقباط»، تعني: المصريين جميعًا، المسلمين
والمسيحيين على السواء"! لأن التسمية اختلفت على مرّ الزمان حتى أصبح يطلق
على المصري الذي يدين بالنصرانية بـ «قبطي»، وأما المصري المسلم فلا يُطلق عليه
القبطي.
وقد بينا كذلك أن
بعض أهل العلم المتأخرين كانوا أحياناً ينسبون بعض الأقباط الذين دخلوا في الإسلام
بنسبة «القبطي» مع بيان أنه مسلم، ولكن إذا أطلقوا اللفظ فإنهم يعنون به القبطي
المصري النصراني.
فالأقباط الآن هم
نصارى مصر بلا خلاف.
جاء في كتاب
«دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية»: "الأقباط: الآن هم نصارى مصر، وهم
أكثر نصارى العرب عدداً ويفترقون الآن إلى ثلاث فرق: فرقة على القول بالطبيعة
الواحدة، ويسمون الأقباط الأرثوذكس، وفرقة تركت هذا القول ووافقت الكاثوليك على
قولهم بالطبيعتين، ويسمون الأقباط الكاثوليك وفرقة وهي أقل عدداً أخذوا بقول
البروتستانت".
قلت: وقد حاول
بعض الباحثين إثبات أن لفظ القبطي يطلق على المصري المسلم وغير المسلم هروباً من
تعزيز مقولة أن أصل السكان في مصر هم الأقباط النصارى!!
وهذا غير مقبول،
فالقبط سكان مصر الأصليين مروا بمراحل كثيرة في دياناتهم، فمن الإلحاد إلى
النصرانية إلى الإسلام.
فالإسلام هو الذي
سيطر على مصر وحكمها فأصبحت إسلامية، ولا يهمنا ماذا كانت من قبل، فمن أسلم فهو
مصري مسلم، ومن بقي على ما كانوا عليه من الدين النصراني فيطلق عليه قبطي، والله
تعالى أعلم وأحكم.
وآخر دعوانا أن
الحمد لله ربّ العالمين.
وكتب: خالد
الحايك
10/1/2011.
شاركنا تعليقك