كتاب ابن قُتيبة «تأويل مختلف
الحديث».
بقلم:
خالد الحايك.
لا شك أن هذا الكتاب من الكتب المهمة في نفي التعارض عن
الأحاديث النبوية، ولا يُستغنى عنه في هذا الباب.
ولكن ابن قُتيبة - رحمه الله - كان يُوفّق - في كثير من
الأحيان - بين روايات صحيحة وروايات ضعيفة، ومنهج أهل العلم أنه إذا كانت الرواية
ضعيفة فإنهم لا يحاولون التوفيق بين الروايات؛ لأن الصحيحة قاضية على الضعيفة.
قال ابن قتيبة (ص238): "قالوا: رويتم عن شعبة، عن
يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه: أنه صلى مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وإذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد، فدعا بها فجاءا ترعد فرائصهما،
فقال عليه الصلاة والسلام: (ما منعكما أن تصليا معنا؟) قالا: قد صلينا في رحالنا.
قال عليه الصلاة والسلام: (فلا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم
يصلّ فليصلّ معه فإنها له نافلة).
ثم رويتم عن معن بن عيسى، عن سعيد بن السائب الطائفي، عن
نوح بن صعصعة، عن يزيد بن عامر قال: جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة،
فجلست ولم أدخل معهم، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألم تُسلم يا
يزيد؟) قلت: بلى يا رسول الله. قال: (فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟) قلت:
إني كنت صليت في منـزلي وأنا أحسب أن قد صليتم. فقال: (إذا جئت للصلاة فوجدت الناس
يصلون فصلّ معهم، وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة).
ثم رويتم عن يزيد بن زريع، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن
سليمان مولى ميمونة قال: أتيت ابن عمر وهو على البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي
معهم؟ قال: (قد صليت، أو ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تصلوا
صلاة في يوم مرتين).
قالوا: وهذا تناقضٌ واختلافٌ، وكلُّ حديث منها يوجب غير ما
يوجبه الآخر؟!
قال أبو محمد: ونحن نقول إنه ليس في هذه الأحاديث تناقض
ولا اختلاف: أما الحديث الأول فإنه قال: (إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام
ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة) يريد أن الصلاة التي صلى مع الإمام نافلة،
والأولى هي الفريضة؛ لأن النية قد تقدمت بأدائها حتى كملت وتقضت والأعمال بالنيات.
وأما الحديث الثاني فقال: (إذا جئت للصلاة فوجدت الناس
يصلون فصل معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة) كأنه قال: تكن لك هذه
الصلاة التي صليت مع الإمام نافلة، وهذه الأخرى التي صليتها في بيتك مكتوبة، ولو
جعل مكان قوله هذه وتلك مكتوبة كان أوضح للمعنى ولا فرق بينهما، وإنما يشكل بقوله (وهذه)
فأغفل بعض الرواة (هذه) في الموضع الأول وذكره في الموضع الثاني وجعله مكان (تلك)
وقد ذكرت لك مثل هذا من إغفال النقلة للحرف والشيء اليسير يتغير به المعنى.
وأما الحديث الثالث الذي ذكر فيه ابن عمر أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) فإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (لا تصلوا فريضة في يوم مرتين) كأنك صليت في منـزلك الظهر مرة ثم صليتها
مرة أخرى، أو صليتها مع إمام ثم أعدتها مع إمام آخر، فاستعمل ما سمع من هذا الحديث
في الموضع الذي أطلق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل ويجعله نافلة،
ولعله لم يكن سمع هذا ولم يبلغه، ومن صلى في منـزله الفريضة وصلى مع الإمام تلك
الصلاة وجعلها نافلة لم يصل صلاة في يوم مرتين لأن هاتين صلاتان مختلفتان إحداهما
فريضة والأخرى نافلة".
قلت: أما الحديث الأول فرواه هُشيم وشعبة وهشام بن حسان
وغيلان بن جامع وأبو خالد الدالاني وأبو عوانة وعبدالملك بن عمير ومبارك بن فضالة
وشريك بن عبدالله وغيرهم عن يعلى بن عطاء، وهو حديث صحيح.
وأما الحديث الثاني فرواه سعيد بن السائب عن نوح بن صعصعة
عن يزيد بن عامر السوائي، وهو حديث مخالف للأول! وقد عدّه أهل العلم شاذاً، وقد
تفرد به سعيد عن نوح، ونوح هذا يروي المراسيل كما قال ابن حبان في الثقات،
فلانتشار الحديث الأول عن يزيد بن الأسود السوائي، روى نوح بن صعصعة حديثه وجعله
عن يزيد بن عامر السوائي وخلط في متنه، فهو حديث منكر مخالف للرواية الصحيحة ولا
يحتج به، فلا حاجة للتوفيق بينهما وأن الرواة أبدلوا (تلك) و (هذه) كما قال ابن
قتيبة! فإنه لا دليل على هذا الإبدال.
وأما الحديث الثالث: فرواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (1/300)،
وأبو داود في ((السنن)) (1/158)، وابن حبان في ((صحيحه)) (6/156)، وابن خزيمة في
((صحيحه)) (3/69)، كلهم عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، به.
قال أبو حاتم ابن حبان: "عمرو بن شعيب في نفسه ثقة
يحتج بخبره إذا روى عن غير أبيه، فأما روايته عن أبيه عن جده فلا تخلو من انقطاع
وإرسال فيه، فلذلك لم نحتج بشيء منه".
وقال الدارقطني في ((السنن)) (1/416): "تفرد به حسين
المعلم عن عمرو بن شعيب، والله أعلم".
وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/303): "تفرد به
الحسين المعلم عن عمرو بن شعيب، والله تعالى أعلم. وهذا إن صح فمحمول على أنه قد
كان صلاها في جماعه فلم يعدها، وقوله لا صلاة مكتوبة في يوم مرتين، أي كلتاهما على
وجه الفرض، ويرجع ذلك على أن الأمر بإعادتها اختيار وليس بحتم، والله تعالى أعلم".
وقال ابن المنذر في ((الأوسط)) (2/407): "وقد كان
إسحاق يقول: معنى حديث ابن عمر: أي لم يفرض الله صلاة في يوم إلا مرة واحدة، وإنما
كان ابن عمر خارجاً من المسجد فإذا كان في المسجد فإنه يصليها لغير معنى قضاء
الفرض، ولكن لحرمة الصلاة في المسجد. وقال غير إسحاق: إنما نهى عن الإعادة على نية
الفرض، أي فلا بأس إذ يصليها على غير نية الفرض، والله أعلم".
وقال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (2/156): "واتفق
أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا
تصلوا صلاة في يوم مرتين) أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد
الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضاً. قالا: وأما من صلى الثانية مع الجماعة
على أنها له نافلة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بذلك، وقوله صلى
الله عليه وسلم للذي أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة إنها لكم نافلة، فليس ذلك ممن
أعاد الصلاة في يوم مرتين؛ لأن الأولى فريضة والثانية نافلة".
وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/29): "روى أبو
داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من حديث سليمان بن يسار عن ابن عمر يرفعه: (لا
تصلوا صلاة في يوم مرتين)، وروى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً سأله
فقال: إني أصلي في بيتي، ثم أدرك الصلاة مع الإمام، أفأصلي معه؟ قال: نعم. قال:
فأيتهما أجعل صلاتي؟ قال ابن عمر: (ليس ذاك إليك، إنما ذلك إلى الله). قال البيهقي:
فهذا يدل على أن ما رواه عنه سليمان محمولٌ على ما إذا صليت في جماعة، قوله: "ولو
صلى في جماعة ثم أدرك أخرى أعادها معهم على الأصح كما لو كان منفرداً لإطلاق الخبر"،
قلت: يشير إلى حديث يزيد بن الأسود السابق وقد ورد ما هو نص في إعادتها في جماعة
لمن صلى جماعة على وجه مخصوص وذلك في حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد قال: (صلى لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فدخل رجل فقام يصلي الظهر، فقال: ألا رجل
يتصدق على هذا فيصلي معه)، رواه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي. قوله: "والجديد
أن الفرض هي الأولى لما سبق من الحديث"، قلت: يعني حديث يزيد بن الأسود أيضاً
وكذلك وقع في حديث أبي ذر وغيره في آخر الحديث حيث قال: (ولتجعلها نافلة). وأما ما
رواه أبو داود من طريق نوح بن صعصعة عن يزيد بن عامر وفي آخره: (إذا جئت الصلاة
فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت صليت ولتكن لك نافلة وهذه مكتوبة) فقد ضعفه النووي،
وقال البيهقي: هذا مخالف لما مضى وذاك أثبت وأولى، ورواه الدارقطني بلفظ: (وليجعل
التي صلى في بيته نافلة) قال الدارقطني: هي رواية ضعيفة شاذة".
وقد ادّعى بعضهم النسخ في حديث ابن عمر!
فقد ذكر ابن شاهين حديثه في ((ناسخ الحديث ومنسوخه))
(ص241)، ثم ذكر حديث محجن وحديث معاذ في إعادتهما الصلاة مع النبي صلى الله عليه
وسلم، ثم قال: "وهذه أحاديث يظن الذي لا يتأملها أنها متضادة أو بعضها ينسخ
بعضاً فإن كانت ناسخة ومنسوخة، فالذي يشبه أن يكون منسوخاً حديث ابن عمر.
فأما حديث ابن عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا
تصلي صلاة في يوم مرتين) إذا تعمد قصد الإعاده لصلاة خرجت على التمام لفريضة ولا
صلاة عليه فيما تقدم. وأما حديث محجن فإنه حضر الصلاة فكره له النبي صلى الله عليه
وسلم أن لا يصلي وإن كان قد صلى، وكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم لغير محجن في
حديث آخر. وأما حديث معاذ فإنه كان يصلي فريضة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم
يأتي قومه وكان إمامهم فيصلي بهم فتكون له نافلة ولهم فريضة، ولا خلاف بين أهل
النقل للحديث أنه حديث صحيح الإسناد. وقد اختلف الفقهاء: هل تجوز الصلاة إذا
اختلفت النيتان نية الإمام والمأموم أم لا؟ فأجازها قوم وردها آخرون. وسمعت أحمد
بن سلمان الفقيه يقول: سمعت إبراهيم بن إسحاق يسأله رجل من أهل خراسان: إذا صلى
الإمام تطوعاً ومن خلفه فريضة؟ قال: لا يجزيهم. قال: فأين حديث معاذ بن جبل؟ قال إبراهيم
الحربي: حديث معاذ قد أعيا القرون الأولى".
وادعى الحنفية النسخ في حديث ابن عمر أيضاً. قال الطحاوي
في ((شرح معاني الآثار)) (1/316) بعد أن ذكر حديث ابن عمر في النهي عن الصلاة في
اليوم مرتين: "فالنهى لا يكون إلا بعد الإباحة فقد كان المسلمون هكذا يصنعون
في بدء الإسلام يصلون في منازلهم ثم يأتون المسجد فيصلون تلك الصلاة التي أدركوها
على أنها فريضة، فيكونوا قد صلوا فريضة مرتين حتى نهاهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك وأمر بعد ذلك من جاء إلى المسجد فأدرك تلك الصلاة أن يصليها ويجعلها
نافلة.
وترك ابن عمر الصلاة مع القوم يحتمل عندنا ضربين: يحتمل أن
يكون تلك الصلاة صلاة لا يتطوع بعدها فلم يكن يجوز أن يصليها إلا على أنها فريضة
فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى فريضة في يوم مرتين، أي فلا يجوز
أن أصليها فريضة لأني قد صليتها مرة، ولا أدخل معهم لأني لا يجوز لي التطوع في ذلك
الوقت.
ويحتمل أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن
إعادتها على هذا المعنى الذي نهى عنه، ثم رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
ذلك أن تصلى على أنها نافلة فلم يسمع ذلك ابن عمر رضي الله عنهما فنظرنا في ذلك،
فإذا ابن أبى داود قد حدثنا قال: حدثنا الوهبي قال: حدثنا الماجشون، عن عثمان بن
سعيد بن أبي رافع قال: أرسلنى محرز بن أبي هريرة رضي الله عنه إلى ابن عمر أسأله:
إذا صلى الرجل الظهر في بيته، ثم جاء إلى المسجد والناس يصلون فصلى معهم، أيتهما
صلاته؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: (صلاته الأولى). ففي هذا الحديث أن ابن عمر
قد رأى أن الثانية تكون تطوعاً، فدلّ ذلك على أن تركه للصلاة في حديث سليمان إنما
كان لأنها صلاة لا يجوز أن يتطوع بعدها، فإن كانت في حديث أبي بكرة وجابر اللذين
ذكرنا كان أولى الحكم ما وصفنا أن من صلى فريضة جاز أن يعيدها فتكون فريضة فلذلك
صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين بالطائفتين وذلك هو جائز لو بقي الحكم
على ذلك، فأما إذا نسخ فنهى أن تصلى فريضة مرتين فقد ارتفع ذلك المعنى الذي له صلى
بكل طائفة ركعتين وبطل العمل به فلا حجة لهم في حديث أبي بكرة وجابر لاحتمالهما ما
ذكرنا".
ورد الشافعية النسخ، فقال البيهقي: "ودعوى من ادعى
نسخ هذه الأخبار باطلة لا يشهد بها له تاريخ ولا سبب، وإذا أمكن الجمع بين الأخبار
فهو أولى، والله أعلم".
قلت: إذا كان هذا الحديث منسوخاً عند قوم، فهو ليس كذلك
عند ابن عمر، فإن الدعوى أن ذلك كان في بداية الإسلام، وابن عمر إنما فعل ذلك بعد
موته صلى الله عليه وسلم، فأين النسخ؟!
وكتب،
خالد الحايك.
24
شعبان 1429هـ.
شاركنا تعليقك