المقالة التي رفضت "جريدة السبيل" نشرها!
الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
بقلم: د. خالد الحايك.
هذه
المقالة كتبتها ردّاً على إحدى الكاتبات الناشئات اللواتي يخضن في
العلوم الشرعية بغير علم.
وهذه
الكاتبة دكتورة في اللغة الانجليزية وعضو في مجلس شورى جبهة العمل الإسلامي! وصدق رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ يقول: ((لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)).
هذه
الكاتبة في نفسها شيء من بعض الفتاوى وعلى رأسها: "سفر المرأة بغير محرم!"
وهذا
ما صرحت به في مقالة لها نشرتها جريدة السبيل، وقام الأخ "وائل البتيري"
- جزاه الله خيراً- بالرد عليها وتفنيد مزاعمها. فما كان من هذه الكاتبة الصحفية
إلا أن عرّضت به في مقالة لها بعد يومين بعنوان: "سياط الواعظين ورحمة سيد العالمين"،
وقد ملأت هذه المقالة بالمغالطات والآراء التي تدل على جهلها في العلوم الشرعية، فرددت عليها في مقالة
أرسلتها لجريدة السبيل، ولكن الجريدة رفضت نشرها!!!
وهذه
هي المقالة مع مقالات الكاتبة الصحفية ورد الأخ البتيري عليها.
"الرجوع
إِلى الحق خيرٌ من التَّمادِي في الباطل".
هذا ما قاله عمر رضي الله عنه في
رسالته لأبي موسى الأشعري في القضاء، وهي وصية جامعة نابعة من حكمته رضي الله عنه.
وكان حفيده عمر بن عبدالعزيز - رحمه
الله - يقول: "ما من طينة أهون عليّ فكاً وما من كتاب أيسر عليّ ردّاً من
كتاب قضيت به، ثم أبصرت أن الحقّ في غيره ففسخته".
قال الجاحظ: "والحق بيّنٌ
لمن التمسه، والمنهج واضح لمن أراد أن يسلكه. وليس في العنود درك فلج. والرجوع إلى
الحق خير من التمادي في الباطل، وترك الذنب أيسر من التماس الحجة، كما كان غض
الطرف أهون من الحنين إلى الشهوة".
ويقول الثعالبي: "الحق ظلٌ
ظليلٌ. من تعدى الحق ضاق مذهبه. قول الحق لم يدع لي صديقاً. ما يضر الحق تسمية أهل
الباطل إياه باطلاً، كما لا يضر السيف تسمية أهل الجهل إياه خشبةً. الحق أبلج
والباطل لجلج. للحق دولةٌ، وللباطل جولةٌ. الحق خير ما قيل. الحق جديدٌ لا يخلق.
العاقل لا يبطل حقاً، ولا يحق باطلاً. الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.
الحق ثقيلٌ مريٌّ، والباطل خفيفٌ وبيٌّ".
ويقول أبو حيّان التوحيدي: "كان
عمارة بن حمزة يمضي على خطئه أنفاً من الرجوع، ويقول: نقض وإبرام في ساعة واحدة؟
الخطأ أهون من هذا. هذا والله الكِبر الصادر عن الجهل، كأنه ما سمع قول عمر -رضي
الله عنه- وهو غرة الحكماء: الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل؛ وما في
نقض وإبرام في ساعة واحدة لمن لا يعلم الغيب، ولا يعدم العيب، والخطأ منه عادة،
والصواب منه هفوة؟ إنه لو عرف نفسه لعلم نقصه".
عجبت من إحدى الكاتبات الصحفيات
إصرارها على الخطأ وتأبى الرجوع إلى الحق! هذه الكاتبة واسمها: "ديمة
طهبوب"، (وهي تحمل دكتوراة في اللغة الانجليزية)، كتبت قبل عدة أيام مقالة في
(صحيفة السبيل) بعنوان: (فتاوى في النفس منها شيء)! وتعرضت لمسألة مجمع
عليها عند أهل العلم وهي (سفر المرأة من غير محرم) ومسألة أخرى لو لم تذكرها لما
تنبه لها الناس.
وهذا المقال ليس في الرد على ما
في نفس الكاتبة، فقد تصدى لما رصفته من كلام الأخ الفاضل (وائل البتيري) فأزاح
الستار عما تلبست به هذه الكاتبة من عدم معرفتها في العلوم الشرعية، فزيّنت لها
نفسها هذه المقالة، ومن تزين للناس بغير ما يعلم الله شانه الله.
والذي لمسته مما كتبته هذه
الدكتورة هو حقيقة يعبر عما يجول في نفسها ويسوغ لها ما تعانيه من مثل هذه
المسائل، وإلا كان ينبغي لها - وهي الداعية - أن تخضع لقول الله عز وجل: {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
فالنبيّ صلى الله عليه وسلم قد
قضى في سفر المرأة فجاء كلامه واضحاً جلياً لا يحتمل التأويل ولا يقبل الشبه
والتعليل. وهكذا فهم من حملوا لنا هذا الدّين ومن تبعهم. وأما ما تذرع به بعض
المعاصرين ممن مالوا إلى التمييع بأن المرأة تحتاج إلى السفر ولا يوجد لها محرم
وغير ذلك فبحثوا في كتب أهل العلم فوقعوا على قول لإمام يتبع بعض المذاهب فتشبثوا
به ولم يحيدوا عنه وعدّوه هو الدّين! فهل يقبل قول ذلك العالم المخالف للنص الظاهر
عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
وأما الضرورة التي يذكرها بعض
الناس في مثل هذه القضايا فهي ليست الأصل، وإنما هي حالات فردية لا تُعمم مع الأخذ
بأصول أهل العلم في أن هذه الضرورات تُقدر بقدرها، وأن لا تؤدي إلى مفسدة، وغير
ذلك مما هو مبسوط في كتب أهل الأصول.
وكما ذكرت فلست بصدد تعقب الكاتبة
في هذه الفتوى أو تلك، وإنما في اختيارها لعنوان المقالة، فهو يُنبئ عن أن
الدكتورة قد وصلت إلى مرحلة الاجتهاد في الفتوى؛ لأن مثل هذا العنوان لا يقول أهل
العلم إلا بعد سبر وتحقيق. وقد ذكرتني هذه العبارة بقول الإمام الذهبي وهو يتكلم
عن أحاديث التابعي أبي الزبير محمد بن تَدرُس المكيّ عن جابر بن عبدالله الصحابي
رضي الله عنه، قال –رحمه الله- عن حديثه عن جابر: "في القلب منها شيء".
وهذا القول إنما قاله بعد تتبعه لحديثه عن جابر وتحقيقه، وهو قول نابع عن علم، لا
عن هوى في النفس صادم ما فيها.
قد أخطأت الدكتورة في مقالتها
وأساءت لنفسها من حيث لم تشعر وإن كانت عبارتها تمشي على استحياء في رفض فتوى أهل
العلم. وبعد ردّ الأخ وائل على مقالتها وبيان وجه الحقّ في ذلك كأنها لم ترتض ذلك،
فتمادت في الجنوح عن الحقّ فأتبعت ذلك بمقالة ثانية عنوانها: "سياط الواعظين
ورحمة سيد العالمين"!
مضمون هذه المقالة تشبيه من رد
عليها بأنه واعظ يحمل السياط للناس ولا يترفق بهم! وفرق بين الواعظ والعالم! وهذا
فيه ازدراء بالآخر.
كان ينبغي لهذه الكاتبة أن تعلن
أنها أخطأت أو تسكت ولا تتمادى في الباطل! وأقول "الباطل" لما حواه
مقالها الثاني منه كما سأبينه إن شاء الله تعالى.
أولاً: تكلمت الدكتورة عن الرفق
ورحمة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وهذا لا ينكره أحد، بل هو أمر
نعتز به، ولكن التمادي في الانتصار للنفس لا يجعلنا أن نستشهد بمثل هذا الأمر
لإسكات الخصم؛ لأن المسائل العلمية تقوم على الدليل لا على العاطفة.
ثانياً: استهلال الكاتبة بما
يُنسب للنبي صلى الله عليه وسلم: "إئذن لي بالزنى"! لم يكن موفقاً من
ناحيتين: الأولى: أن الزنى أمر مستبشع، ولا ينبغي ذكره في مقام الرفق وإن حاولت
الكاتبة الاستشهاد به لإقرار رفق النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذه الأمور
المستبشعة! والثانية: أن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإن
صححه بعض المعاصرين -! فهو حديث قد رواه الإمام أحمد في "مسنده" من طريق
حَريز بن عثمان عن سُليم بن عامر عن أبي أُمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا
الإسناد ظاهره الصحة وبه صححه من أشرنا إليهم، ولكن حريز هذا متكلّم فيه عند أهل
العلم، وكذلك في الحديث نكارة، ولهذا عدّه الحافظ ابن عدي في منكرات حريز كما في
ترجمته من كتاب "الكامل". ووجه النكارة واضح في أن الحال الذي كان عليه
شباب المسلمين على عهده صلى الله عليه وسلم ليس كما الحال فيمن بعدهم، ونحن لا
ننزههم عن الخطأ، ولكن نستبعد صدور هذا منهم لما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم
من حسن الخلق والآيات الكثيرة المنفرة عن هذه الجريمة! نعم هذه القصة تستهوي
كثيراً من الناس، ولكن فيها إساءة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم
كان يغضب إذا انتهكت محارم الله، فكيف لا يغضب من هذا الشاب –لو صحت القصة-؟!
ألم يغضب صلى الله عليه وسلم لما
جاءه الحبّ بن الحبّ أسامة بن زيد ليشفع للغامدية التي سرقت؟! فلم لم يرفق بها
ويقبل شفاعة أسامة لما فيه من مصلحة الدعوة آنذاك؟
ألم يغضب عندما قال أبو ذر لبلال
رضي الله عنهما: يا ابن السوداء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك
امرؤ فيك جاهلية".
ألم يغضب من ذاك الخطيب الذي قال:
ومن يعصهما (الله ورسوله)، فقال له: "بئس خطيب القوم أنت، أجعلتني لله
نداً"؟
ما هو ميزان الرفق التي تنادي به
الدكتورة؟!
ألم يدعو النبي صلى الله عليه
وسلم شهراً كاملاً على بعض القبائل؟! لم لم يرفق بهم؟
إن بعض الذين يدعون إلى الرفق
إنما هم يميعون الدّين من حيث لا يشعرون! نعم الرفق مطلوب، ولكنه أيضاً مرفوض في
كثير من المواطن.
ثالثاً: تمادت الكاتبة في أصل
الإيمان! فقالت كلاماً لا تفهمه ولا تستوعبه، وهذا من باب الإعذار لها؛ لأن قولها
فيه من الخطورة الشيء الكثير! ونحن لا نتهم أحداً ولا نكفّر، وإنما نعلّم.
قالت الكاتبة: "فالرسول صلى
الله عليه وسلم كان يأخذ بسياسة الرفق في كل شيء حتى في أمور العقيدة".
فهذا كلام خطير ناجم عن جهل
بالدّين! فلتأت لنا الكاتبة بمثال واحد أخذ به صلى الله عليه وسلم
"بسياسة" الرفق كما تزعم في أمور العقيدة!!!
ويكفي في الرد عليها قوله تعالى
للذين استهزؤوا ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتذروا له بأنهم كانوا
يمزحون: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.
وانظر إلى تسمية الرفق:
"بسياسة الرفق" وكأن الرفق شيء مصطنع لا يوجد أصالة في الإنسان!!
وقالت الكاتبة أيضاً: "حتى
قضية الإيمان نفسه لم يجعلها الرسول من المسلمات، فعلّمنا أن الإيمان يزيد
بالطاعات وينقص بالمعاصي".
وهذه طامة كبيرة! فكيف لم يجعل
النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان من المسلمات؟ إذا كان الإيمان ليس من المسلمات
فهذا يعني أن الدّين كله قائم على أسس غير مسلمة، فكيف إذا كان أس الدّين ودعامته
وهو الإيمان ليس مبنياً على المسلمات؟ إذن لا حرج في من يكفر! وفي من يفسق؟
لم تفهم الكاتبة معنى زيادة
الإيمان ونقصه؛ لأنها ليست من أهل التخصص فأتت بهذه الطامة الكبرى التي تنشق لها
الأرض والجبال وتخر لها! ومن خاض في غير فنه أتى بالعجائب.
رابعاً: زعمت الكاتبة بأن العلماء
والدعاة بحاجة إلى النظر في دلالات السيرة النبوية وعدم الاكتفاء بمعرفة الأحداث
وروايتها في موضع الاستدلال، بل بإحيائها في واقع الأمة، ومثلت على ذلك بما حدث
معه صلى الله عليه وسلم في الطائف وقول جبريل له.
وهذا من الكاتبة تزكية لنفسها
أنها تعرف دلالات السيرة والعلماء والدعاة بحاجة إلى معرفة ذلك وأنهم يكتفون
برواية الأحداث في موضع الاستدلال! وهذا كلام ينقض آخره أوله. فمن يروي هذه
الأحداث في مواضع الاستدلال يعني أنه يستدل به في مواضعها، وينزلها على الواقع،
ولكن أي واقع.
إن أحداث السيرة لا يستدل بها على
كل حدث معاصر لاختلاف الزمان. وهذه قضية مهمة لا تعرفها الكاتبة فوقعت فيما حذرت
منه. فكون النبي صلى الله عليه وسلم رفض أن يلحق الله عز وجل بأهل الطائف العذاب
لا يعني أننا نسحب هذا الأمر على كل حدث يحصل.
وأحداث السيرة منها ما كان مؤقتاً
في زمن معين قبل أن تستقر الأحكام وتقف الدعوة قوبة في وجه مناوئيها. فكان المطلوب
في أول الدعوة ممن يدخل في الإسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله فيدخل الجنة إذا
مات وهو لم يصلي ركعة لله قبل فرض الصلاة. فهل يدخل الإنسان الجنة الآن بهذه
الشهادة دون الصلاة؟!
فأحداث السيرة لها أثر كبير ولكن
تنزيلها على الواقع يحتاج إلى بعد نظر.
خامساً: قالت الكاتبة: "جاء
في الحديث: يا آدم ذنب تذل به...."!
فهل الكاتبة عالمة في الحديث؟ من
أين جاءت به كي تقول: جاء في الحديث؟ هذا الحديث لا يوجد له إسناد ولا أصل له، وهو
حديث موضوع!
وقد تقول الكاتبة وغيرها: إنك لم
تترفق بها! فأقول: تعترف بخطئها وترجع، فنقول لها: جزاك الله خيراً وندعو لها
بالمغفرة.
ولكن لا تكن كمن: {وَإِذَا قِيلَ
لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}.
والراجح في معنى هذه الآية - كما
يقول شيخ المفسرين الطبري -: عُني بها الآمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر. وذلك أن
الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين: أحدهما منافقٌ يقول بلسانه خلافَ ما في نفسه، وإذا
اقتدر على معصية الله ركبها، وإذا لم يقتدر رَامَها، وإذا نُهى أخذته العزّة
بالإثمٌ بما هو به إثم، والآخر منهما بائعٌ نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان
الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها
للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية.
فلتتق الكاتبة الله ولا تشغل
نفسها بأمور الدّين ولتسمع للعلماء. ولتكن داعية على علم، والله الموفق.
د. خالد الحايك.
28/4/2010م.
المقالة الأولى للكاتبة: "فتاوى
بقي في النفس منها شيء"!
"حوار مفتوح مع شيخي الدكتور
صلاح الخالدي والدكتور أحمد حوى...".
لقد دأبت منذ زمن على استفتاء
شيخي الفاضلين د. صلاح الخالدي، ود.أحمد حوى، فكلاهما من أصحاب الفضل على كثير من
غير خريجي العلم الشرعي، حيث كانا وما يزالان يخصصان لنا وقتا ليعلمانا مما علمهما
الله، تفسيرا وفقها وشريعة، جعلتنا نرتقي إلى مستوى المعلوم من الدين بالضرورة،
وفروض العين الواجب تحصيلها على كل مسلم.
والشيخ صلاح أَبَوِيُّ النصح والحرص،
يشفق على الفتيات وكأنهن كلهن بناته، ومن دمه ولحمه، والشيخ أحمد صاحب عزيمة، وبالرغم
من تعامله مع أطياف المجتمع على اختلاف مستوى التزامهم الديني من خلال الإعلام،
إلا أنه ما بدل تبديلا، ولا أصبح صاحب رخصة، والله حسيبهما ولا نزكيهما عليه.
وقد استفتيتهما في أمرين، وما استطعت
أن أناقش، هيبة وتوقيرا للعالم والعلم، وفي العادة تنزل فتواهما بردا وسلاما على
القلب، إلا أن الأمر اختلف هذه المرة، وبقي شيء في النفس يبحث عن فهم أعمق، وراحة
أكبر، كما قال سيدنا إبراهيم عليه السلام للمولى سبحانه وقد سأله أن يبين له أمر
إحياء الموتى، ليس قدحا في إيمانه كما أخبر القرآن، ولكن طلبا لطمأنينة القلب.
أما القضية الأولى فتخص سفر
المرأة بدون محرم، ولقد اتفق الشيخان أن الأمر لا فصال فيه، وأن اعتبارات الأمن
والمسافة وغيرها لا تغير من الحكم شيئا، ومع علمنا بأن المحرم إنما شرع كميزة وحفظ
للمرأة، وليس تقييدا لها، ولكن عدم وجوده يخلق الكثير من المشاكل والعقبات، فماذا
إن لم يتوفر المحرم، أو أقعده مرض أو عرض أو قطيعة رحم؟ ماذا عن 96 ألف امرأة في
بلدنا بلغن سن الثلاثين دون زواج كما ورد في آخر إحصائية؟ ماذا تفعل هؤلاء النسوة؟ هل تتوقف حياتهن إذا
كانت تقتضي السفر لعلم أو عمل أو خبرة لعدم وجود المحرم؟ هل نحل مشكلتهن بتعدد
الزوجات الذي أصبح في كثير من الأحيان سببا لكثير من المآسي والمظالم لعدم وجود
العدل؟ هل تحرم النساء من زيارة
بيت الله الحرام الذي تهفو القلوب إليه فرضا وسنة لعدم وجود المحرم؟ هل نحرم من متعة السفر وفوائده، ورؤية
بديع خلق الله التي ذكرها الشاعر فقال:
تغرَّبْ عن الأوطان في طَلَبِ
العلا // وسافر ففي الأسفار خمس فوائدِ
فـرُّجُ هـمّ واكتسـابُ معيشـةٍ
// وعلـمٌ وآدابٌ وصحبـةُ ماجدِ
هل نحرم من هذه كلها لمجرد أننا
إناث من غير محارم؟ أعترف بجهلي بتفاصيل الحكم الشرعي، ولكنَّ ما أعرفه أن الله لم
يجعلنا في ضيعة ومنقصة أو تقييد بخلقنا كإناث قدر الله لهن عدم وجود المحارم لعلة
ما!! ألا ينطبق على هذا المثال قاعدة "إن الله إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب".
أما الأمر الآخر الذي قد يظنه
البعض أمرا مرفوضا من البداية، بالرغم من خطورته، وكونه يشكل لنا ولأولادنا وللأجيال
القادمة تحديا كبيرا، ويتعلق بالتكنولوجيا ثلاثية الأبعاد( 3 دي)، والتي أصبحت
منتشرة في الأفلام وألعاب الفيديو وبرامج الحاسوب، وانتشرت بين الشباب انتشار
النار في الهشيم فما عاد بيت يخلو منها إلا فيما ندر، ومشاهدة الأفلام بهذه
التقنية غير ممكن إلا في دور العرض (السينما) لأنها تحتاج إلى مناظير خاصة، وقد
نصح الشيخان بعدم مشاهدتها، وبالذات إذا كانت تعرض في السينما، لكونها مكانا
مشبوها، وأتساءل: إذا انتفت المشاهد البذيئة من هذه الأفلام، ألا يمكن اعتبارها من
المتعة المباحة؟ أليس من الخير أن يكون المسلم مطلعا على كل ما جد واستجد من
التطورات؟ إن الشباب مقبلون على هذه الأمور، فهل نعاملهم بسياسة الحرمان، فيصبح كل
ممنوع مرغوبا؟ هل المشكلة في المكان (السينما) أم ما يعرض فيه؟ وإذا كانت المشكلة
في المكان، فلماذا كان الدعاة يذهبون للمقاهي ودور العرض، ويخالطون الناس فيها لو
كان دخولها حراما على الإطلاق؟ أليس من الحكمة أن نرافق أولادنا إلى هذه الأماكن
التي تجتذبهم، ونربيهم على مراقبة الله ومخافته لتكون هي الفيصل أينما كانوا ومهما
شاهدوا، بوجود الرقيب البشري أو غيابه؟
كيف ننقل للنساء والشباب رحابة
الإسلام ومتانته التي تحتاج إلى رفق لإيصالها؟ كيف يرجع الناس إلى حضن الإسلام وهم
يعيشون جاهلية أشد من الجاهلية الأولى ونقنعهم بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان،
وأن الطيب حلال واسع، بينما الخبيث محصور محدود؟ وهل الفتوى تتعلق بالشيخ المفتي
فتصدق تصانيف العامة من متشدد ومتساهل، ونبحث في سوق الفتاوى عما يناسب الحال
فيصبح الأمر اتباعا للهوى، لا نزولا عند الحق؟ أم أن في الأمور فسحة يجب الأخذ بها
من الجميع في هذا الزمن المعوج؟ فسحة تستنير بقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ}.
أستميحكم عذرا يا علماءنا إن كنت أخاطبكم
بلغة العامة وجهلهم، ولكن ما يعرض لنا من أمور الحياة كثير وجلل، وإنا كما نريد
عقلا واعيا راسخا لا تسيره الأهواء، نريد كذلك قلبا مطمئنا إلى أمر الله لنعمل به
ونبلغه، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم تختلف فتواه ونصحه باختلاف السائل والمكان
والزمان.
وإننا من قبل ومن بعد لنقول لربنا
سبحانه وتعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
24/4/2010.
رد الأخ وائل البتيري: "فتاوى
ليس في النفس منها شيء".
جانبت إحدى الكاتبات المحترمات
الصواب في مقالة نشرتها في إحدى الصحف اليومية تحت عنوان «فتاوى بقي في النفس منها
شيء».. وبعيداً عن الخوض في المقدمات نستعرض المحورين الرئيسين في المقالة اللذين
في نفس الكاتبة منهما شيء:
المحور الأولى: تحريم سفر المرأة
بدون محرم بغض النظر عن اعتبارات الأمن والمسافة وغيرها، بحيث لو وُجد الأمن مثلاً
بقيت حرمة السفر بدون محرم، ولم تذكر لنا الكاتبة وجهة نظرها في هذه الاعتبارات،
فهي ناقشت الحكم الشرعي طارحةً أسئلة عامة في معزل عنها.
تقول الكاتبة: «عدم وجود المحرم
يخلق الكثير من المشاكل والعقبات». ولهذا وجبَ وجوده، لكنها تقصد مشاكل وعقبات
أخرى غير التي لأجلها شُرِّع الحكم.. ولكن ما هي؟
تقول: «ماذا عن 96 ألف امرأة في
بلدنا بلغن سن الثلاثين دون زواج؟... ماذا تفعل هؤلاء النسوة؟ هل تتوقف حياتهن إذا
كانت تقتضي السفر لعلم أو عمل أو خبرة لعدم وجود المحرم؟».
ولا أدري هل خطر في بال الكاتبة
المحترمة أن هذا العدد من النساء العوانس لهن محارم أيضاً من أخ وأب وعم وخال
وحفيد وجد وابن أخ وابن أخت؟ وهل خطر في بالها أن معظم هؤلاء النساء ربما لا
يفكّرن في السفر أصلاً؟ ماذا بعد ذلك سيتبقى من الـ 96 ألف امرأة؟ سيتبقى عدد قليل
من قليل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً
كما بدأ، فطوبى للغرباء»، سيتبقى العدد الذي يتقي الله فيجعل له مخرجا.. ولكن،
سبحان الله! عندما تطغى على الإنسان المادية المقيتة، أو حب الدنيا الزائلة، وربما
العاطفة غير المهذبة التي تعمي وتصم؛ فإنه ينسى أن ما عند الله خير وأبقى، وأن
التزام الحكم الشرعي وترك مخالفته لله، سيعوّض المرء خيراً مما ترك، وسيورث القلب
حلاوة تغنيه عن هذه المخالفة، وتمنحه سفر الروح إلى ملكوت الله تعالى.
وتواصل كاتبتنا التساؤل فتقول:
«هل نحلّ مشكلتهن (تقصد الـ 96 ألف امرأة) بتعدد الزوجات الذي أصبح في كثير من
الأحيان سبباً لكثير من المآسي والمظالم لعدم وجود العدل؟».
وأنا أستغرب لماذا تُقحَم مسألة
تعدد الزوجات هنا، أم أنها العقدة التي تعاني منها أكثر النساء تجاه هذا الحكم
الشرعي الذي شرعه الله سبحانه وتعالى الذي خلق البشر وهو أعلم بما ينفعهم ويُصلح
أحوالهم؟ وهل تعدد الزوجات سيحل ما زعمت الكاتبة أنه مشكلة؟ وإن كان سيحل المشكلة
أليس الأولى بنا أن نشجّع عليه مع الحض على العدل، بدلاً من الترهيب منه؟ وهل
المرأة المتزوجة تملك أن يسافر معها زوجها متى شاءت فتخضع لها ظروف الزوج حيث
تقول: كن؟ وهل المآسي والمظالم التي تتحدث عنها الكاتبة في تعدد الزوجات محصورة في
التعدد فقط؟ أم أن كثيراً من النساء يعانين من أزواجهن أكثر مما تعاني من يعدد
زوجها؟ وهل وجود العدل شرط في التعدد؟ ووو... أسئلة كثيرة ستذهب بنا بعيداً عن الموضوع
الأساسي الذي نتحدث عنه.
ثم تتساءل الكاتبة - غفر الله لها
-: «هل تُحرم النساء من زيارة بيت الله الحرام الذي تهفو القلوب إليه فرضاً وسنّةً
لعدم وجود المحرم؟».. ولعلّ الكاتبة - سامحها الله - غفلت عن حديث ابن عباس رضي
الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب: «لا تسافر
المرأة إلا مع ذي محرم»، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإنني
قد اكتُتِبتُ في غزوة كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انطلق فحج مع
امرأتك» رواه البخاري ومسلم.
هل للمسلم - وقد ارتضى الإسلام
ديناً، والإسلام هو الاستسلام لأمر الله ونهيه - إلا أن يعتز بإسلامه ويقول: إنني
من المسلمين المستسلمين لأمر الله تعالى، ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان
لهذا الرجل الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل محمداً فيقول: كيف أترك
الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام لأرافق امرأة؟ ولماذا أرافقها وهي امرأة متدينة
تخرجت من بيت عفاف وحياء والتزام؟ ولماذا لا أذهب معك يا رسول الله للجهاد وأرسل
مع امرأتي نساءً يرافقنها في حجها؟... اعتذارات ومخارج كثيرة كان بإمكان هذا الرجل
أن يجادل بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الإسلام ربّاه على السمع
والطاعة والتسليم لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام.
ثم تواصل كاتبتنا المحترمة
تساؤلاتها فتقول: «هل نُحرم من متعة السفر وفوائده، ورؤية بديع خلق الله... لمجرد
أننا إناث من غير محارم؟». ما يقال في السفر من أجل الحج الأكبر (جهاد النساء)
أولى أن يقال في السفر للمتعة والتفكر.. وبصراحة واختصار: نعم تُحرم من متعة السفر
وفوائده إذا لم يتوفر المحرم، وهذا هو حكم الشرع الواضح الصريح في المسألة،
والحياة السعيدة، والمتعة الأكيدة في التزام أمر الله تعالى وأمر رسوله عليه
الصلاة والسلام، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم
لما يُحييكم}. ثم تقول كاتبتنا - نفع الله بها وغفر لنا ولها -: «أعترف بجهلي
بتفاصيل الحكم الشرعي، ولكن ما أعرفه أن الله لم يجعلنا في ضيعة ومنقصة أو تقييد
يخلقنا كإناث قدّر الله لهن عدم وجود المحارم لعلة ما!! ألا ينطبق على هذا المثال
قاعدة «إن الله إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب».
نقدر جداً تواضع الكاتبة
واعترافها بجهلها بتفاصيل الحكم الشرعي، ونود أن لا نعدّ هذا إلا من التواضع وحسب،
فإن الجاهل حقه أن يسكت، وأن يسأل أهل العلم إن كان لا يعلم فيقلّدهم فيما يفتونه.
وأما قاعدة «إذا أخذ ما أوهب؛
أسقط ما أوجب» فمن أشهر تطبيقاتها عند الفقهاء أن العقل مناط التكليف، وأن المرء
إذا فقد عقله بصورة من الصور فإن التكليف يسقط عنه.
ولو أردنا تطبيق القاعدة على
طريقة الكاتبة والتي لا علاقة لها بالقاعدة أصلاً؛ فإننا حينئذ سنفتح باباً واسعاً
لولوج الحرام بجميع أشكاله، ثم لا يصبح للحكم الشرعي عند البشر أية قيمة.. وكل
امرأة تود السفر للتمتع بالنظر إلى مخلوقات الله ولم تجد محرماً - من زوج أو أخ أو
أب... إلخ - متفرغاً للسفر والتفكر بمخلوقات الله معها؛ تقول بينها وبين نفسها:
إيه! أخذ أو أشغل عني ما أوهب، فأسقط ما أوجب.. أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه..
وتحمل حقائبها وتسافر!!
وإذا طبّقنا القاعدة بطريقة سليمة
فإننا نقول: أخذ الله ما أوهب (المَحْرَم) فأسقط ما أوجب (الفعل الذي يشترط له
المحرم، كالحج الواجب، والسفر للتفكر من باب أولى لأنه ليس بواجب).. وبهذا يستقيم
المعنى على الجادة، ولذلك قال الفقهاء: إن المرأة التي ليس لديها محرم يسافر معها
إلى الحج يسقط الحج عنها، وبعد وفاتها لا يحج عنها أحد، لأنها صاحبة عذر.. فهي
تنال أجر الحج بنيتها مع توفّر العذر.
أما حديث الكاتبة عن (الضيعة
والمنقصة والتقييد) فأما الضيعة والمنقصة فلا يوجدان مع الدين، لأن الدين حفظ
للناس لا مضيعة لهم، وإتمامٌ لحقوقهم لا تنقيصٌ لها، ومن تنظر إلى الأمور بمنظار الآخرة
الباقية؛ فإنها تقول: ألتزم بالحكم الشرعي، وأقيّد نفسي به لأُرضي ربي سبحانه حتى
إن ظنّه البعض منقصة، ومن يلتزم حكم الله فلن يضيعه أبداً.
وأما خلق الله فلا اعتراض عليه..
يخلق ما يشاء.. زلازل وبراكين، ونساء بلا محارم!
المحور الثاني: النصيحة بعدم
الذهاب إلى السينما لمشاهدة الأفلام الثلاثية الأبعاد.
الذي فهمته من كلام الكاتبة هنا
أنها لا ترى مانعاً من ذهاب (الشباب، وربما الشابات - بلا تقييد -) إلى السينما
لمشاهدة هذه الأفلام بشرط أن تنتفي من المشاهد البذيئة، فمن الخير أن يكون المسلم
مطَّلعاً على كل ما جد واستجد من التطورات، ومن هذه التطورات عرض الأفلام بتقنية
حديثة (ثلاثية الأبعاد).
ولا ندري كم مرة يجوز للمسلم أن
يذهب إلى السينما ليطلع على هذه التقنية؟ وهل سيكتفي بمرة واحدة أو اثنتين، أم أنه
سيعتاد على حث الخطا إليها.. ثم ماذا بعد؟ ألا يمكن أن يطلع عليها - إن كان ولا بد
- بطريقة أخرى غير الذهاب لحضور فلم في السينما يحضره كل من دبّ على رجلين؟ ثم ماذا
سيقدم لأمته بعد اطلاعه عليها؟
ثم تقول الكاتبة المحترمة:
«الشباب مقبلون على هذه الأمور، فهل نعاملهم بسياسة الحرمان فيصبح كل ممنوع
مرغوباً؟»، ولست أعلم هل ستردد الكاتبة هذه العبارة في كل أمر يُقبل عليه الشباب
وما أكثر الأمور التي يقبلون عليها؟ الشباب مثلاً مقبلون على الحشيش والمخدرات
والسكر، فهل سنعاملهم بسياسة الحرمان؟ مقبلون على النوادي الليلية والنظر الحرام
والزنى، فهل سنعاملهم بسياسة الحرمان؟ مقبلون على سماع الأغاني الماجنة، وحضور
الحفلات الساقطة، فهل سنعاملهم بسياسة الحرمان؟ فلتسمح لي الكاتبة أن أقول لها -
وهي من الداعيات الملتزمات - إن هذا المنطق غريب عن الدعوة والالتزام.
لقد كان الأولى بالكاتبة المحترمة
أن توجّه دعوة إلى الحركات الإسلامية أن يواكبوا (التكنولوجيا الحديثة) بالسعي إلى
إيجاد بدائل شرعية مستقيمة تنتشل الشباب من أوحال الفساد وأماكن الانحراف.
لقد كان الأولى بها أن تخاطب
الشباب بلسان المشفق المحب الودود، وتحذرهم من الذهاب إلى هذه الأماكن التي لن
تزيدهم من الله إلا بعداً، وتحضهم على الذهاب إلى المساجد والمراكز الإسلامية التي
تنوع في نشاطاتها الدعوية والرياضية والفنية من أجل الترويح عن الشباب في بيئة
بعيدة عن أخلاط المعصية.
ثم طرحت الكاتبة المحترمة تساؤلات
أخرى على نفس المنوال نضرب عنها صفحاً للاختصار، وفيما سيأتي مزيد بيان.
ثم عادت كاتبتنا - وفقها الله لمرضاته
- إلى التساؤل بالقول: «كيف ننقل للنساء والشباب رحابة الإسلام ومتانته التي تحتاج
إلى رفق لإيصالها؟ كيف يرجع الناس إلى حضن الإسلام وهم يعيشون جاهلية أشد من
الجاهلية الأولى ونقنعهم بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأن الطيّب حلال واسع،
بينما الخبيث محصور محدود؟».
ولكن محور البحث ليس الدعوة إلى
الإسلام برحابته برفق ولين، فالإسلام هو الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن
المشكلة في بعض حملته ممن يريد أن يميّع الإسلام ويوصله إلى العامة بطريقة منحرفة،
وفهمنا للإسلام بأن يوسع دائرة الحلال والطيّب، لا يعني أن يفقد الإسلام وضوحه
و(متانته) وحسمه للأحكام الشرعية، وفرق كبير بين الترفق بالناس والتدرج معهم في
التربية الإيمانية التي ستردعهم يوماً عن الوقوع في الحرام، وبين تزيين الحرام
للناس وتحليله بحجة الترفق.
ينبغي على الدعاة أن يكونوا
واضحين مع من يدعونهم، ويقدموا لهم الإسلام على حقيقته دون خجل ولا مواربة..
فليقولوا لهم كما قالت الكاتبة: أنتم في جاهلية أشد من الجاهلية الأولى، وهذا هو
الإسلام الذي تصلح به أحوالكم، وهذه أحكامه خيرٌ لكم وإن ظننتموها كُرهاً لكم، من
تمسّك بها نجا وسعد وفاز وأفلح، ومن تنكب عنها خاب وخسر، والدنيا وما عليها
بتقنياتها وتكنولوجياتها لن تغنيكم عن رضا الله تبارك وتعالى شيئاً.
نعم، هناك مسائل كثيرة اختلف فيها
العلماء، والأمر حينئذ فيه سعة، بمعنى أنه يجب التماس الأعذار لهم فيما أخطأوا
فيه، واجتناب ما تبيَّن لنا خطؤه، ولست أحسم في مسألة الاستفادة من سعة هذا
الخلاف، فالأمر بحاجة إلى دراسة وبحث أوسع. ولكن أولاً وآخراً ليس كل خلاف له حظ
من النظر.
وما أجمل ما ختمت به الكاتبة
مقالتها حيث قالت: «وإننا من قبل ومن بعد لنقول لربنا سبحانه وتعالى: {سمعنا وأطعنا
غفرانك ربنا وإليك المصير}.. وحريٌّ بنا أن نقولها ونعمل بها.
25/4/2010.
مقال الكاتبة الثاني: "سياط
الواعظين ورحمة سيد العالمين".
"ائذن لي بالزنى".
وقالها لنا أحد لاحتقرناه،
ولأوسعناه شتما، وربما ضربا وازدراء، ولَسُمْناه أشد العذاب لمجرد نازع شيطاني
خالج نفسه دون أن يقدم عليه، ولكن النبي الهادي، نبي الرحمة، النبي الذي مدحه
الشاعر فقال فيه صدقا:
فإذا رحمـت فأنـت أم أو أب // هذان
في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة // في
الحق لا ضغن ولا بغضاء
فإذا رضيت فذاك في مرضاته // ورضى
الكثير تحلم ورياء
ذلك النبي المعلم احتضن ذلك الشاب
الذي جاء يطلب السماح باقتراف كبيرة من الموبقات احتضان المشفق، الذي يعلم أنه لولا
الخير في نفس هذا الشاب وخوفه من الله لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله،
ولكان فعل من غير سؤال، فأبواب الحرام سهلة الولوج، والليل أخفى للويل، وقد كان
الأمر ليتم دون دراية أحد، فلم يعنفه ولم يغلظ له في القول، ويسارع بتجريم سؤاله،
واتهام إيمانه ونواياه، بل أيقظ مكامن الإيمان والشرف في نفسه، ودعا له بطهارة
القلب، وإحصان الفرج، حتى خرج من عنده بغير الوجه الذي دخل به، وغير النية وغير
القلب، والزنى أبغض ما يكون إلى نفسه.
ولقد جادلت خولة بنت ثعلبة سيد المرسلين،
يقول لها وترد عليه، ويعيد عليها وتعيد عليه، والرسول لا يوقفها ولا ينذرها بالويل والثبور، ولا
يتهمها بنقص الدين والعقل؛ لأنها ناقشت في حكمه، وخرجت من عنده تشكو إلى الله همها
وحزنها، حتى جاء النصر المبين من لدن رب العالمين ليخلد الحادثة، وصاحبة الحادثة،
وتعامل الرسول معها لتكون درسا للمتعظين بكافة أبعادها.
وتأتي سفيرة النساء إلى الرسول،
فتطلب منه أن يتفرغ لهن ويعلمهن، وكن يسألنه ويعرضن عليه الخاص والعام من أمور
حياتهن، وهو الذي قد صاغ للمسلمين بسيرته أبجديات التعامل مع النساء، فَرَقَّ وبكى
لشكواهُنَّ، وأخذ بحقهن، وأعظم لهن الأجر بالعمل والجهاد والعلم، وصبر على الغيرة
والدلال والهجر في داخل بيته، حتى يعلِّمَ رجال أمته الصبر في بيوتهم.
إن العلماء والدعاة بحاجة إلى
النظر في دلالات السيرة النبوية، وعدم الاكتفاء بمعرفة الأحداث وروايتها في موضع
الاستدلال، بل بإحيائها في واقع الأمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ
بسياسة الرفق في كل شيء، حتى في أمور العقيدة، وقال "ما كان الرفق في شيء إلا
زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا
يعطي على العنف".
ولما تطاول عليه أهل الطائف بكل
أنواع الإساءات، وجاءه جبريل يريد أن يطبق عليهم الجبال رفض ذلك؛ لعل الله يخرج من
أصلاب هؤلاء الكفار من يوحده سبحانه، أما حزن نفسه، وحظ قلبه وأودعه في أرق دعاء،
وألطف قربى بين يدي ربه، فقال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني
على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد
يتجهمني أم إلى عدو ملَّكْتَه أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن
عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا
والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة
إلا بك".
بينما الدعاة في عصرنا يتسرعون
ويتساهلون في إطلاق أحكام الضلال والخسران والشيطنة والاستبعاد حتى على المسلمين؛
لانحراف في سلوكاتهم، يريدون أن يصلوا بالناس إلى أعلى الجنان والقيام بسنام
الإسلام، وكثير من المسلمين لا يعرفون وجهة القبلة أو حتى رب القبلة، فقد ورثوا
الدين عن آبائهم كما ورثوا أسماء عائلاتهم وأموالهم، ومن انصاع فهو من الطائعين،
ومن تخلى فعليه لعنة رب العالمين!!!
قد غرس الرسول العقيدة في نفوس المسلمين
ثلاث عشرة سنة يعلمهم معاني الربوبية والألوهية وأسماء الله وصفاته، والبعث
والنشور والجزاء والقدر، وقلة قليلة من الأحكام، ثلاث عشرة سنة، أرسى فيها جبالا
تحملت البلاء والخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، جبالا مشت على النار،
وصلبت على جذوع الشجر، ومُثل بها حتى ما بقي منها إلا أثر الإبهام تُعرف به، دون
أن يزعزع ذلك إيمانها قيد أنملة.
ذلك الإيمان الذي بناه الرسول على
علم وهدى، فدخل عقول المسلمين قبل قلوبهم، وكانت استجابتهم استجابة فهم، وليس مجرد خلجات نفس أو راحة
قلب.
ذلك الإيمان الواعي الذي يسأل
ويعلم ويؤمن ثم يتحرك ويعمل هو الذي جعل سمية تحتمل الطعنات في مكان عفتها، وتأخذ
بعزائم الأمور في الوقت الذي أخذ فيه ابنها بالرخصة إيمانا راسخا منها بتحقق وعد
رسول الله "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة".
حتى قضية الإيمان نفسه لم يجعلها
الرسول من المسلمات، فعلمنا أن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، وأن
الإيمان بحاجة إلى تجديد ورعاية، فقال: "إن الإيمان لَيَخْلُقُ في جوف أحدكم
كما يَخْلُقُ الثوب".
وجاء جبريل يعلم المسلمين كما ورد
في الحديث القدسي أمر الإسلام والإيمان والإحسان حتى يكون اتباعهم اتباعا عن بينة،
وأثنى الرسول على العلم والتعلم والسؤال، ولم يغلق بابه في وجه أحد مهما كانت
ضالته أو خطيئته، هذا في أمور الإيمان، فما بالنا لو كان الأمر في أمور المعاملات
المتغيرة التي أمر المسلمين بالتيسير والتبشير فيها، وتبليغ الرسالة، ولو كان ما
يحمله المرء لا يزيد عن آية، وأعلى شأن الأعرابي الذي كان يدعو بما يعرف بحسب علمه
وفصاحته، وإن كان لا يشبه مأثور دعاء الرسول وأصحابه.
وما أقام الرسول مفاصلة وانقطاعا
وخندقا بينه وبين الناس إلا في أحوال مخصوصة، وأقر الحسن من مكارم الأخلاق من خارج
دائرة الإسلام، وشارك قومه حلف الفضول، وأعطى ذمته للنصارى واليهود، وأخَّرَ بعض
أمر الدين طلبا لمصلحة عليا عندما أبقى بناء الكعبة كما هو دون أن ينقضها ويبنيها
على قواعد
سيدنا إبراهيم؛ مخافة أن يحدث ذلك فتنة في قريش، وهم ما زالوا على أبواب الإسلام.
إن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم
يجب أن يسيروا على سيرته إذا أرادوا تحصيل
نفس النتائج برفق ولين، فيأخذوا بيد كل من يريد التقدم ولو خطوة في طريق الله، ولو
كانت خطوة متعثرة، فهم دعاة لا قضاة، والتلطف والتوسعة على الخلق وكسب القلوب أولى من كسب المواقف.
إن إقامة الحجة في الحلال
والحرام، والصح والخطأ، وأن تقول كلمتك وتمشي وتكتفي، طريق سهل لا يحتاج إلى كثير
صبر ودأب، إن التحدي هو تحويل الأقوال إلى أفعال في حياة الناس لا يغيرونها ولو
كان ثمنها حياتهم، وألا نقنطهم من رحمة الله ولو أسرفوا على أنفسهم، ولا نُوَزِّعَ
عليهم صكوك الغفران والخسران حسب أهوائنا، فقد يأتي الجاهل والمذنب وقد بلغ منازل
الأبرار، فالذنب مع الخوف طريق للمغفرة والقبول، فقد جاء في الحديث: "يا آدم
ذنب تذل به إلينا أحب إلينا من طاعة تراءى بها علينا، يا آدم أنين المذنبين أحب
إلينا من تسبيح المرائين".
إن سل السيف وشحذ القلم أمر هين،
فقد وصف الله المنافقين بأن ألسنتهم حداد، ولكنهم شحيحون في أمر الخير.
فارفقوا بنا أيها العلماء والدعاة،
فإن النفوس مجبولة على حب الله، ولكنها نفوس ضعيفة، تحسن الظن وتسيء العمل، تريد أن
تبلغ ولا تتعب، تريد الخير كله في الدنيا والآخرة دون ابتلاء أو تمحيص، وأفهمونا أمر
ديننا حتى نصبح رواحل تنهض به وتحمله، لا مجرد إبل تُساق كما يراد لها يمنة ويسرة،
واجعلوا كلامكم معنا طيبا، فلسنا فراعنة ولا طغاة ولا فسقة، وحتى لو كنا، فالرفق
واجب بالعباد في أعلى منازلهم وأدناها، فقد روي أن رجلا جاء إلى الرشيد فقال له:
"أريد أن أعظك وأغلظ عليك، فقال له الرشيد: على رسلك يا هذا، فإن الله قد بعث
من هو أعلم منك، لمن هو أطغى مني، وقال له: "فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو
يخشى".
27/4/2010.
شاركنا تعليقك