{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ}..
علاقة الأبناء بالوالدين بين الحقوق والعقوق.
السبيل:
وائل قطوش.
رسالة تتنقل بين
"الإيميلات" تحمل في طياتها
قصة مؤثرة عن بر الوالدين، هذا نصها: "ضع نفسك في نفس الموقف.. أيهما كنت ستختار؟
عمارة كان أسفلها مستودعات وفي أعلاها شقق سكنية، وفي إحدى الشقق ترقد في جوف الليل امرأة غاب عنها زوجها
في تلك الليلة، وهي تحضن بين يديها طفلها الرضيع، وقد نام بجوارها طفلتاها الصغيرتان
وأمها الطاعنة في السن.
في جوف الليل تستيقظ تلك المرأة
على صياح
وضوضاء.. فتحت عينيها فإذا بحريق يشب في أسفل تلك العمارة، وإذا برجال الإطفاء يطلبون من الجميع إخلاء العمارة
إلى السطح..
قامت تلك المرأة وأيقظت صغيرتيها،
وصعدت الصغيرتان إلى أعلى العمارة، ثم بقيت تلك الأم في موقف لا تحسد عليه.. لقد بقيت تنظر إلى صغيرها الرضيع الذي
لا يستطيع حراكاً، والى أمها الطاعنة في السن العاجزة عن الحركة، والنيران تضطرب
في العمارة..
وقفت متحيرة..
وبسرعة؛ قررت بأن تبدأ بأمها قبل
كل شيء
وتترك صغيرها.. حملت أمها وصعدت بها إلى سطح العمارة، وما إن سارت في درج تلك العمارة،
إلا والنيران تداهم شقتها وتدخل على صغيرها وتلتهم تلك الشقة وما فيها..
تفطر قلبها وسالت مدامعها وصعدت
إلى سطح العمارة لتضع أمها، وتتجرع غصص ذلك الابن الذي داهمته النيران على صغره.
أخمد الحريق، وفرح الجميع إلا تلك
الأم المكلومة،
لكن مع بزوغ الفجر إذ برجال الإنقاذ يعلنون عن طفل حي تحت الأنقاض بفضل الله.
إنه البر وإنه عاقبة البارين.. فيا
عباد الله! أين نحن من بر الآباء والأمهات؟ أين نحن من ذلك الباب من أبواب الجنة؟!"
انتهت الرسالة.
إن بر الوالدين من أعظم القربات
التي يتقرب
بها العبد إلى ربه سبحانه، وهو ليس من نوافل الأفعال والأقوال، وإنما هو من الواجبات
العظيمة المناطة بالمسلم الذي يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً
ورسولاً، فليس عبثاً أن يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان للوالدين في قوله تعالى: {وقضى ربك إلا تعبدوا
إلا إياه وبالوالدين إحساناً}.
مكانة بر الوالدين:
حول مكانة بر الوالدين في الشريعة
الإسلامية، يقول الدكتور خالد الحايك (دكتوراه في الحديث الشريف وباحث شرعي) في تصريحه
لـ"السبيل": "فضل بر الوالدين عظيم، وفيه أحاديث صحيحة كثيرة
مشهورة، وقد قرن
النبي صلى الله عليه وسلم برهما بالصلاة في أحد هذه الأحاديث، مما يدل على عظم ذلك، كما قرن الله شكرهما بشكره،
فقال: {أن أشكر لي ولوالديك}. وقال عليه الصلاة والسلام للذي جاءه مجاهداً: ((فارجع
إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
ويضيف: "ولعظم وأهمية بر
الوالدين بدأ الإمام البخاري كتابه العظيم (الأدب المفرد) - وهو الكتاب الذي بيّن
فيه معالم شخصية
المسلم - ببيان فضل بر الوالدين؛ لأن برهما هو استمرار للحياة واستقرارها"، مؤكداً أن "ثواب
بر الوالدين عظيم، حيث يُزاد للمسلم في عمره، ويبارك له في رزقه، ويدخل الجنة
ببرهما".
ويبين الدكتور عمر الشريف أن بر الوالدين
"كما هو واجب علينا فقد كان واجباً على الأمم السابقة، شأنه في ذلك شأن التوحيد
والصلاة والصيام"، مستدلاً بقول الله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا
تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً}.
ويضيف في حديثه
لـ"السبيل": "مهما بلغ وبالغ الولد في طاعة وبر والديه فلن يؤديهما
حقهما؛ اقرأ قوله عليه السلام: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه
فيعتقه)، ويؤكد هذا المعنى ما روي عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه رأى
رجلاً يحمل أمّه على ظهره وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر؛ أتراني
وفيتها حقّها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن قد أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيراً".
عقوق الوالدين في الشريعة:
العقوق هو ما يتأذى به الوالدان
أو أحدهما
تأذياً ليس بالْهَيِّن في العُرف، هذا تعريف العقوق كما أورده بعض الفقهاء، حتى أن
بعضهم أورد أنه "إذا أمر أحدُ الوالدين الولد أن يأكل طعاماً فيه شبهة، أي ليس حراماً مؤكّدًا، فيجب أن يأكل
لأجل خاطرهما ثم من غير علمهما يتقيّؤه"، وقالوا: "إذا أمر أحد الوالدين
ولده بفعل مباح أو تركه وكان يغتمّ قلب الوالد أو الوالدة إن خالفهما، فإنه يجب عليه أن يطيعهما في ذلك"، بحسب
الدكتور الشريف.
فيما يبين الدكتور الحايك أن
"النبي صلى الله عليه وسلم جعل العقوق من أكبر الكبائر وقرنه بالإشراك بالله".
ويؤكد الدكتور الشريف أن
"آثار عقوق الوالدين تنعكس على حياة الولد العاق في جوانب حياته كلها، فتراه
غير موفق، متعثراً، حياته ضنك ومشاكل، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كل الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين فإنه
يعجّل لصاحبه)".
ويشير الدكتور الحايك إلى صور من
العقوق منتشرة في مجتمعاتنا "كسبّهما، وضربهما، ورميهما خارج المنزل، وعدم
طاعة أوامرهما،
والتنقص من مكانتيهما، وملاقاتهما بالعبوس والغضب".
كيف أبر والداي في حياتهما؟
لبر الوالدين صور عديدة، يذكر
الدكتور الحايك منها "طاعتهما في غير معصية الله، والقيام على شؤونهما
وخدمتهما، والإنفاق عليهما، وتقديمهما في كل شيء، والإحسان لهما، والرفق بهما،
وغير ذلك".
وحول كيفية بر الوالدين، يتحدث
الدكتور الشريف لـ"السبيل" بالقول: "إذا علم الأولاد عظم حق
الوالدين عليهم؛ فإننا نتوقع منهم أن يتنافسوا ويتفننوا في ابتكار أساليب وآليات
لكسب رضاهما وحوز رضى الله تعالى من طريقهما"، وعليه "فلا أقل من اختيار
أرق الألفاظ وأحسن العبارات الرقيقة والتي تكون برداً وسلاماً على نفس الوالدين،
بل والتذلل بين أيديهما إشعاراً لهما بأنهما
ما زالا صاحبي الفضل".
وينقل لنا الدكتور الشريف صوراً
من بر السابقين لوالديهم فيقول: "هذا علي بن الحسين رضي الله عنهما عندما قيل
له: إنك من أبر الناس، ولا تأكل مع أمك في صحفة! قال: أخاف أن تسبق يدي يدها إلى
ما تسبق إليه عيناها؛
فأكون قد عققتها. وقال ابن عباس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار. وقال عُروة: لا
تمتنع عن شيء أحبّاه. وهذا أبو هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال:
أبي، فقال: لا تُسمِّه باسمه، ولا تمش أمامه، ولا تجلس قبله".
كيف أبرهما بعد موتهما؟
سؤال يطرحه كثير من الناس خصوصاً
في الأيام الأولى من فقد أحد الوالدين، وأكثرهم للأسف ينسون الإجابة على هذا
السؤال مع مرور
الوقت، ولا يلتفتون إلى الإحسان لآبائهم وأمهاتهم بعد مضي الزمن على تغييب الموت
لهم.
يقول الدكتور الحايك
لـ"السبيل": "يبر المرء والديه بعد موتهما بالتوصل إلى براءة ما في
ذمتهما، والدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم
التي هي رحم لك من قبلهما، وعدم سبهما بسب الآخرين فسيبونهما".
يضيف الدكتور الشريف وسيلة أخرى
لبر الوالدين بعد وفاتهما، وهي "أداء الواجبات الشرعية التي لم يؤديانها
كالحج؛ حيث أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام
أفأحج عنه؟ قال: (أرأيت لو أن أباك ترك ديناً أقضيته عنه؟)، قال: نعم، قال: (فحجَّ
عن أبيك)".
والداي يظلماني فماذا أصنع؟
يتبرم كثير من الشباب والبنات حول
ظلم الآباء أو الأمهات لهم، بأخذ أموالهم مثلاً، أو عدم العدل بينهم وبين أشقائهم،
أو التشديد عليهم في الخروج والسهر.. يقول الدكتور الشريف إن على من يشعر بظلم أحد
والديه له "الدعاء لهما، ومحاورتها، وإرسال رسالة لهما من طرف غير معروف،
وتوسيط الأقارب أو الأصدقاء"، داعياً إلى "البقاء معهما على تواصل وعدم
مقاطعتما حتى لو فعلوا الأفاعيل".
فيما يضيف الدكتور الحايك على ذلك
"الصبر والاحتساب"، مؤكداً أن "برهما واجب وإن ظلماً".
والداي فاسقان أو كافران!
يوجّه الدكتور الحايك حول هذا الأمر
بالقول: "بر الوالدين الفاسقين أو الكافرين مطلوب شرعاً، ولا طاعة لهما فيما فيه
معصية لله، فأتعامل معهما بالحسنى، وألين لهما الكلام، وأصاحبهما في الدنيا معروفاً.
وأدعو لهما بالهداية لعل الله يكتبها لهما قبل مماتهما".
أما الدكتور الشريف فيقسم التعامل
بين الوالدين وأبنائهما في إلى تعامل في أمور الدين، وآخر في أمور الدنيا، أما "أمور الدين فالقاعدة
المستقاة من الآية واضحة تماماً في هذا الشأن؛ قال تعالى في حق الوالدين الكافرين:
{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}".
أما في أمور الدنيا فـ "لتعامل
بينهما يكون على أحسن ما يكون التعامل بين الولد ووالديه، من الإحسان والرعاية
والبر".
تاريخ النشر: 2/10/2009م.
شاركنا تعليقك