في حوار عن كيفية استقبال المسلم لشهر رمضان المبارك.
د.
الحايك: رمضان شهر الطاعة والاجتهاد.. والسعيد من استغله في الإقبال على الله فلا
وقت للنوم والكسل.
حاوره: وائل البتيري.
يهيئ المرء نفسه وبيته، ويبرمج أوقاته ويرتبها، ويستعد أتم
الاستعداد؛ لاستقبال ضيف عزيز جدُّ عزيز.. كضيف حبيب قادم من بعيد؛ يحمل على عاتقه
الهدايا الثمينة التي لا حصر لها ولا حد، يحل علينا «رمضان» ينشر أنواره وتجلياته
في القلوب والعقول والأجواء..
في ليله الساكن يطيب سماع آهات التائبين،
وأنات المذنبين، وتوسلات المستغفرين، وسؤالات المحتاجين.. وفي نهاره يترك العبد
الأكل والشراب والشهوة، لا يتركها إلا الله.. فهو لا يرجو لعمله الصالح شاهداً إلا
الله، ولا مجازياً سواه. وإذا ما حلّت ساعة الإفطار؛ انتعشت نفوس الصائمين
واطمأنت.. وفاضت من أفئدتهم ينابيع الفرح، وتهللت أساريرهم بشراً بطاعة الرحمن.
«رمضان» هذا ضيف ليس كباقي الضيوف..
فأولئك قد يبذل الإنسان لهم من المال والزاد وحسن الضيافة ما يشعرهم بالخجل مما
أغدق عليهم من فيوض كرمه.. أما ضيفنا «رمضان» فإنه الضيف الأكرم.. الذي مهما قدمنا
له من ضيافة وإكرام؛ فإننا لا ولن نفوقه كرماً ومنة وإنعاماً.
هذا الضيف الكريم حقاً.. الناس في
استقباله بين كريم وبخيل.. كريم إنما يكرم نفسه باستغلال كل لحظة يقضيها بالطاعة مع
هذا الضيف العزيز، وبخيل إنما يبخل على نفسه بما يجعلها من الله أقرب.
«كيف نستقبل شهر رمضان؟».. حول هذا
السؤال الكبير كان لـ «السبيل» هذا الحوار مع الدكتور خالد الحايك الباحث الشرعي،
والمشرف على موقع «دار الحديث الضيائية» على شبكة الإنترنت.
وإلى الحوار..
البعض يستقبل شهر رمضان بالعكوف
على المسلسلات والأفلام، ما هي النصيحة التي يمكن توجيهها لهؤلاء خصوصاً مع انتشار الفضائيات الإسلامية وتكاثرها؟
لا شك أن ارتباط الناس بالتلفاز
ارتباط قوي لا يُستغنى عنه؛ لأنه وسيلة الربط بين العالم مع انتشار مئات
الفضائيات، والناس مختلفون في قوة هذه الرابطة لاختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، وجُلّ
الناس في رمضان إنما همهم هو إضاعة الوقت إلى أن يحين موعد الإفطار، فإضاعة الوقت
هو السمة الغالبة على كثير من الناس - مع الأسف الشديد -، فتستغل الفضائيات هذه
الرغبة عند الناس؛ فيمطرونهم بوابل من المسلسلات والأفلام التي تأخذ وقتاً طويلاً
في إعدادها من رمضان إلى رمضان، وطوال هذه الفترة يركزون على دعايات بعض المسلسلات
بحيث يتشوق الناس إليها، فيتمنون قدوم رمضان من أجل متابعتها، لا من أجل رمضان
ذاته، الذي هو بمثابة فرصة عظيمة للتوبة والرجوع إلى الله والإقبال على طاعته،
وترك المعاصي، وجني الحسنات رغبة في تحصيل الجنان. وعليه فإني أنصح كلّ مسلم أن
يتقي الله في نفسه وفي من يعول، وأن يعتزل هذه الفضائيات الهدّامة التي تدعو إلى الرذيلة وخاصة في هذا الشهر
المبارك.
وأشكرك على إشارتك في السؤال إلى
الفضائيات الإسلامية، فبعد ظهور هذه الفضائيات لم يعد لأحد من عذر، فبإمكان من أراد أن ينوع في برنامجه العبادي
حتى لا يشعر بالملل أو الكسل أن ينتقي من برامج هذه الفضائيات ما يفيد ويقرب إلى الله تبارك وتعالى.
أين موضع التوبة عند المسلم العاصي الذي يستقبل شهر الصيام؟
موضع التوبة كل وقت وحين، وليست
مختصة برمضان، ولكن لأن رمضان له مزية خاصة يقبل فيه الناس على الطاعات؛ فإن توبة
العاصي في هذا الشهر المبارك قد تجعله يبعد عن المعاصي التي كان يفعلها خارج هذا
الشهر، فرمضان بمثابة صمام الأمان للمسلم؛ ففضله عظيم، ورمضان إلى رمضان يكفّر ما
بينهما من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر، فينبغي على المسلم أن يبادر بالتوبة إلى الله
وهو يستقبل هذا الشهر العظيم، ويعزم على أن لا يعود إلى المعاصي؛ لأن المصرّ على
المعصية على خطر كبير، فلعله يتوب في رمضان ثم يرجع إلى ما كان يفعله في غير رمضان،
فيأتيه الأجل قبل رمضان الآخر فيحرم من التوبة إلى الله ويلقى الله بالمعصية، فإذا
أيقن المسلم بهذا فإنه يحفظ نفسه فيكون مستعداً للقاء الله متى يشاء الله وهو راض
عن طاعته إن شاء الله.
هناك من يعد شهر رمضان شهراً للكسل والنوم، ماذا تقول له؟
هو لا يعدّه شهراً للكسل والنوم؛
لأنك إذا سألته عن ذلك، قال: أنا أُضيع وقتي! ولكن كون رمضان شهر الرحمة والمغفرة
وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفقه الصيام أن يسعى المسلم لتحصيل ذلك
يدعوه إلى التخلي عن الكسل والنوم، وأن يكون نشيطاً في العبادة؛ لأن رمضان فرصة
لكل ذلك، فإذا فاتته هذه الفرصة، فلعله لا يحظى بفرصة مماثلة، وخاصة إذا كان شاباً
في قوته وصحته، فإذا أطعن في السن، فأنى له هذه الفرصة العظيمة التي ينتظرها كثير
من عباد الله طلباً للرحمة والمغفرة وما أعد الله لهم لتركهم شهوة الطعام وغيرها
ابتغاء وجهه الكريم، قال الله عزّ وجلّ في الحديث القدسي الصحيح: «كل عمل ابن آدم
له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به».
وهذا وقت الطاعة والاجتهاد فيها،
والسعيد من استغل هذا الشهر في الإقبال على الله، فلا وقت للكسل والنوم، فأجهد
نفسك أخي المسلم في العبادة في هذه الأيام، فالشياطين مصفدة ومسلسلة، وهذه منة من
الله أن أضعف عملها في رمضان كي يتمكن العبد المسلم الصادق من العبادة على وجهها
الصحيح، فالحذر الحذر من الكسل، وتعوَّذْ منه كما كان يتعوذ منه صلى الله عليه
وسلم بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل». والله عز وجل قد أعطاك القوة والقدرة
فلا تكن كسولاً؛ فتخسر.
ما الذي يمكن أن يحفز العزائم والهمم لاستغلال الطاعات منذ البداية؟
أولا: النية الصادقة؛ لأنك إذا
دخلت على الصيام بنية صادقة فإن الله عز وجلّ يثبتك ويعينك على صيامه. والعزيمة الصادقة
هي نبع للنية الصادقة.
وثانيا: أن يعلم الصائم ما هو جزاء
الصيام إذا كان على أصوله التي ترضي الله عز وجل، فكم من صائم ليس له من صيامه إلا
الجوع والعطش بسبب الرفث والجهل والصخب الذي يحدثه الصائم. نعم يسقط فرض الصيام عن
فاعله بامتناعه عن الشراب والطعام، ولكنه بفعله ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم يحرم
من الأجر.
وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم
في أحاديثه ما يحفز الصائم ويدفعه على الصيام والحفاظ عليه وأن لا تشوبه شائبة،
فرويت أحاديث كثيرة في ذلك.
ما هي الرسالة التي يمكن توجيهها للآباء في بداية هذا الشهر؟
الآباء هم أعمدة البيوت، وعليهم
تقع المسؤولية الكبرى، فليتقوا الله فيمن مسؤوليتهم بأيديهم، وليكونوا قدوة حسنة لهم، ويبتعدوا عن المعاصي
والمنكرات في رمضان، وليمنعوا حصول ذلك في بيوتهم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته، فالأب راع وهو مسؤول عن رعيته، فإذا كان قدوة حسنة لأبنائه فإن ما يفعلونه
من خير يرجع له، وما يفعله من شرّ يرجع عليه.
وكذلك أقول للآباء بأن يرحموا نساءهم
من إرهاقهن في إعداد شتى أنواع الطعام والمأكولات مما يحول بين المرأة وبين العبادة
في هذا الشهر العظيم، فهي أيضاً تحتاج إلى الطاعة، وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه،
والإسراف في الأكل والشراب في رمضان محرّم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كثير من الناس يصومون في رمضان ولا يصلون.. ما هو السبب في ذلك يا ترى؟ وكيف يمكن أن نعالج هذا الانفصام؟
لا شك أن هذا تناقض عجيب من هؤلاء!
فالإسلام قائم على أركان خمسة لا يقوم إلا بها، فإذا فُقد واحد منها؛ اختل إسلامه، وسبب ذلك يرجع إلى ضعف
الإيمان، فالإسلام يؤخذ كلّه، والصلاة هي عمود الدين وهي أهم أعمال المسلم، ولا حظ
في الإسلام لمن ضيعها. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم - وحسّنه بعض أهل
العلم - أنه قال: «إن أول ما يحاسب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة المكتوبة».
ولسنا بصدد ذكر أقوال أهل العلم
في تارك الصلاة، ولكن رمضان فرصة للعبد أن يتوب إلى الله ويُقبل على الصلاة ولا
يتركها؛ فكيف لهذا الصائم الذي لا يصلي أن يلقى الله وهو مضيع لأساس الدّين؟ وكيف
يريد أن يدخل باب الريان الذي لا يدخله إلا الصائمون وهو مضيع للصلاة؟! وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات
ما بينهن إذا اجتنب الكبائر»، فأي كبيرة أعظم بعد ترك الصلاة؟!
فيا عبدالله؛ اعلم أن الصلاة هي
صلة العبد بربه، وأن الإيمان متعلق بها، فإذا لم تصل فماذا ينفعك الصيام؟! فبادر بالتوبة
والرجوع إلى الله والمحافظة على الصلاة.
ما هي النصيحة التي توجهونها للمدخنين في بداية هذا الشهر المبارك؟
النصيحة للمدخنين و(المدخنات)؛
لأن كثيراً من النساء أصبحن ينافسن الرجل في ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أنصح هؤلاء أن ينتهزوا فرصة الصيام
للتخلص من هذا الوباء العظيم؛ وتوجيه الإرادة وعزمها إلى ذلك، وعدم التذرع بعدم
الاستطاعة، لأن تركه لا يتعلق بالاستطاعة وعدمها، وإنما يتعلق بالعزم على ذلك، فإذا
عزمت على تركه فتوكل على الله، فإذا ترك المسلم شيئاً لله فإن الله يعوضه خيراً منه،
فما بالك إذا ترك شيئاً محرماً لله، فكيف يكون قدره عند الله عز وجل. وتفكر في قول
الشاعر:
والنفـس كالطفـل شبّ عـلى حبّ
الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فالطفل قد تعود على الرضاع فإذا
حان موعد فطامه انفطم، وكذلك النفس اعزم على مخالفتها فيما يكون فيه معصية لله؛
فإنك إن فعلت ذلك وفقك الله.
بستقبل الناس رمضان بالذهاب إلى المساجد والصلاة فيها.. ثم يبدأ العدد بالتناقص شيئاً فشيئاً
حتى يعود عدد المصلين إلى ما كان عليه قبل رمضان. ما هو السبب في ذلك؟ وكيف يمكن
المحافظة على هذا الإقبال الطيب على بيوت الله؟
هذه واللهِ قاصمة الظهر. كيف للمسلم
الذي يبدأ صيامه بالإقبال على طاعة الله وملازمة المسجد ثم التدرج والعودة إلى
الوراء! مع أن الأصل في الصيام أنه يدفع المسلم للأمام!
أهم أسباب هذه الظاهرة هو ضعف الإيمان
وعدم تقويته بالطاعات، مع العلم أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولكن
عدم الإتيان بالطاعة على وجهها المطلوب لا يجعل هنالك تأثيراً على إيمان العبد فتراه
يتراجع شيئاً فشيئاً، لكن إذا أقبل على الطاعة بصدق وخشوع وإخبات، واجتنب ما يعكر
عليها، فإن الصيام يدفعه إلى الأمام إن شاء الله تعالى.
إذا دخل شهر رمضان.. هل هناك دعاء معين ثبت في السنة يمكن للمسلم أن يدعو به؟
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم شيء مرفوع في ذلك، وقد رُويت بعض الأدعية عن بعض التابعين، مثل ما روي عن مكحول
الشامي أنه كان يقول إذا دخل رمضان: «اللهم سلمني لرمضان وسلّم رمضان لي وتسلّمه مني متقبَّلاً»، وغيره،
فإن دعا المسلم ببعضها فلا بأس لأنها من عموم الدعاء الوارد عن بعض السلف.
وأما ما رُوي في رؤية الهلال عموماً
من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نظر إلى الهلال؛ قال: اللهم أهله علينا
باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله. فهو ضعيف ولم يصح في هذا الباب
شيء مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
تعرفون أعباء الحياة هذه الأيام والأوقات التي يقضيها الإنسان في العمل وجمع قوت يومه.. كيف
يمكن أن يوفق الإنسان بين انشغاله في هذه الأعمال، وبين قيامه بالطاعات والعبادات؟
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها،
والعمل والسعي في الأرض مطلوب شرعاً، ولا شك أن تحصيل ذلك عبادة يؤجر عليها المسلم؛
إذ بها تقوم الحياة. وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الكسب، وذم الذين
يتثاقلون عن ذلك ويتكففون الناس، فالإنسان إذا قام بعمله وأتى ببعض الطاعات بحسب
وقته وقدرته فإن الله عز وجل يجازيه على ذلك كما يجازي المتفرغ بالعبادة الذي لا
يحتاج إلى العمل.
وعموماً؛ فالذي يعمل من أجل توفير
لقمة عيشه وأهل بيته ينبغي أن يجتهد في إيجاد بعض الوقت للعبادة، وهذا ليس بصعب إن
شاء الله على من عزم على ذلك.
هل تحب أن توجه نصيحة أخيرة لمعاشر المؤمنين المقبلين على هذا الشهر العظيم؟
أنصح بما يلي:
1- اجتناب أماكن السوء ورفاق السوء
الذين يصدون عن العبادة، وينفقون أوقاتهم في اللهو.
2- تجنب الأحاديث الضعيفة المروية
في فضل رمضان مثل حديث: (رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار)،
فرمضان كله رحمة ومغفرة، وما في الصحيحين من أحاديث في فضل رمضان يغني عن الضعيف.
3- الإكثار من قراءة القرآن وتدبر معانيه.
4- اجتناب الخوض في الفتاوى التي
اختلف فيها أهل العلم والبحث عن المفتي الثقة من أجل الفتوى في خضم الفوضى التي
نعاني منها في الفتاوى مع انتشار الفضائيات.
5- عدم الإسراف في الأكل والشرب والسهر
على المنكرات فيما يسمى بالخيم الرمضانية التي تنتهك حرمة هذا الشهر العظيم. ومن
أعظم الانحراف هنا أنهم ينسبون هذه الخيم بما فيها من معصية الله عز وجل إلى رمضان،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
6- تجنب الغيبة والنميمة وغير ذلك
مما يذهب بأجر الصائم.
وأسأل الله عز وجل أن يؤلّف بين
المسلمين، وأن يوحد كلمتهم، وأن ينصرنا على أعدائنا، وأن يرحم المجاهدين ويثبتهم.
تاريخ النشر: 21/8/2009م.
شاركنا تعليقك