المتفق والمفترق/ محمد بن عبدالعزيز الجرمي، ومحمد بن عبدالعزيز
الراسبيّ. وزعم الخطيب أن البخاري وهم فيهما! وقراءة في ترجمة البخاري.
بقلم:
أبي صهيب الحايك.
·
سقم النسخة التي اعتمدها الخطيب من تاريخ البخاري الكبير:
اعتمد الخطيب البغدادي - رحمه
الله - على نسخة قديمة من التاريخ الكبير للإمام البخاري، وبنى عليها أهاماً حصلت
للبخاري! وكذلك فعل أبو حاتم الرازي؛ فإنه اعتمد أيضاً نسخة قديمة للبخاري، وبنى
عليها بعض الأوهام ونسبها للبخاريّ!!
نقل الإمام الخطيب في ((موضح
أوهام الجمع والتفريق)) (1/32) عن البخاري، قال: "محمد بن عبدالعزيز الجرمي،
وقال: حدثنا الحسن بن شجاع، عن أبي نعيم قال: حدثنا محمد: سمع سعداً، عن عبيدالله
بن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((اثنتان يعجلهما الله تعالى في
الدنيا: البغي وعقوق الوالدين)). حدثنا ابن أبي الأسود: حدثنا محمد بن عبيد
الطنافسي: حدثنا محمد بن عبدالعزيز، عن أبي بكر بن عبيدالله بن أنس، عن أبيه، عن
جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله، و ((من عال جاريتين)). وقال عمرو الناقد:
حدثنا أبو أحمد الزبيري: حدثنا محمد بن عبدالعزيز، عن عبيدالله بن أبي بكر بن أنس،
عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين)). وقال ابن أبي خلف:
حدثنا محمد بن عبيد: حدثنا محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن أبي بكر بن عبيدالله، عن
أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن أبي الأسود".
"محمد بن عبدالعزيز الكوفي:
سمع مغيرة بن مقسم. سمع منه أحمد بن يونس، هو التيمي أبو سعيد. كناه لي أحمد بن
عبدالجبار".
"محمد بن عبدالعزيز الراسبي
عن جابر بن زيد قوله. سمع منه وكيع، يقال عن وكيع. كنيته أبو روح".
قلت: إنّ الناظر في ما نقله
الخطيب عن البخاري، لا يشك في أن البخاري يفرّق بين هذه التراجم الثلاثة، وهذا
الذي جعل الخطيب يوهّم البخاري في التفريق بينهم.
قال الخطيب: "فتحصّل مما
ذكرناه أنه يقال في نسبه: الجرمي، والتيمي، والراسبي، وأنه يكنى بأبي سعيد، وأبي
روح".
ولكن الموجود في مطبوع التاريخ،
وهي آخر نسخة من التاريخ:
قال الإمام البخاري في ((التاريخ
الكبير)) (1/166): "محمد بن عبدالعزيز الجرمي. قال أبو نعيم: حدثنا محمد: سمع
سعداً، عن عبيدالله بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((اثنتان
يعجلهما الله عزّ وجلّ في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين)). وقال لي ابن أبي الأسود:
حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، حدثنا محمد بن عبدالعزيز، عن أبي بكر بن عبيدالله بن
أنس، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله، ((ومن عال جاريتين)).
وقال عمرو الناقد: حدثنا أبو أحمد الزبيري: حدثنا محمد بن عبدالعزيز، عن عبيدالله
بن أبي بكر بن أنس، عن أنس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين)).
وقال ابن أبي خلف: ثنا محمد بن عبيد: حدثنا محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن أبي بكر
بن عبيدالله، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن أبي الأسود. وقال
لي محمد: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن أبي بكر بن
عبيدالله بن أنس، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عال)) و ((بابان
يعجلان)).
قال أبو عبدالله: وسمع حسن وجابر
بن زيد. ويُقال عن وكيع: كنيته أبو روح".
"محمد بن عبدالعزيز الكوفي
التيمي أبو سعيد. كناه لي أحمد بن عبد الجبار: سمع مغيرة بن مقسم. سمع منه أحمد بن
يونس". انتهى.
قلت: فظاهر هذه الترجمة أن
البخاري يرى أن محمد بن عبدالعزيز الجرمي هو محمد بن عبدالعزيز الراسبي، والتيمي
آخر.
·
رأي أبي حاتم الرازي وابنه:
قال ابن أبي حاتم في ((الجرح
والتعديل)) (8/6): "محمد بن عبدالعزيز التيميّ الكوفيّ. روى عن المغيرة، وأبي
حيان التيمي. روى عنه: آدم، وسليم بن عيسى المقرئ، وخلاد بن خالد المقرئ، وعثمان
بن زفر، وأحمد بن عبدالله بن يونس".
ثُمّ قال: "محمد بن عبد
العزيز الجرمي. روى عن سعد مولى أبى بكر عن عبيدالله بن أبى بكرة. روى عنه وكيع وأبو
نعيم. سمعت أبي يقول ذلك".
ثُمّ قال: "محمد بن عبد
العزيز الراسبي. روى عن جابر بن زيد قوله. روى عنه وكيع وأبو احمد الزبيري. سمعت
أبي يقول ذلك".
قلت: فابن أبي حاتم يفرّق بين
هؤلاء الثلاثة. ولم ينقل عن والده شيئاً في التيمي! وأبو حاتم يفرّق بين الجرمي
والراسبي، وكأنه اعتمد على النسخة القديمة من التاريخ كما فعل الخطيب!
·
رأي الإمام مسلم:
قال مسلم في ((الكنى والأسماء)) (1/312):
"أبو روح محمد بن عبدالعزيز الراسبي عن جابر بن زيد وأبي الوزاع. روى عنه
وكيع".
·
رأي ابن حبان:
قال ابن حبان في ((الثقات)) (7/429):
"محمد بن عبدالعزيز الراسبي يروي عن عبيدالله بن أبي بكر بن أنس عن أنس. روى
عنه أبو أحمد الزبيري ومحمد بن عبيد".
وقال أيضاً في (9/61): "محمد
بن عبدالعزيز التيمي أبو سعيد الكوفي: يروي عن المغيرة بن مقسم. روى عنه أحمد بن
يونس".
·
رأي الحافظ أبي العباس بن سعيد ابن عُقدة:
روى الخطيب بإسناده إلى أبي
العباس بن سعيد قال: "محمد بن عبدالعزيز الراسبي، ويقال الجرمي. سمع سعداً
مولى أبي بكرة، وجابر بن زيد وأبا بكر بن عبيدالله بن أنس. روى عنه وكيع ومحمد بن
عبيد الطنافسي وأحمد بن يونس كناه وكيع بأبي روح".
·
مناقشة الخطيب في توهيمه للبخاري، وبيان مقصد البخاري من الترجمة:
1- ذكر الخطيب عن البخاري قوله:
"محمد بن عبدالعزيز الجرمي. حدثنا الحسن بن شجاع عن أبي نعيم: حدثنا محمد سمع
سعداً...".
وجاء في المطبوع من التاريخ:
"محمد بن عبدالعزيز الجرمي. قال أبو نعيم: حدثنا محمد: سمع سعداً...".
قال الإمام المعلمي اليماني –رحمه
الله-: "كأن البخاري سمع أولاً هذا الخبر من الحسن ابن شجاع فأثبته في
التاريخ كذلك كما وقع في نسخة الخطيب، وهي رواية ابن فارس، ثم ورد البخاري العراق
فأخذ هذا الحديث من أبي نعيم نفسه، فغيّر في التاريخ بما في المطبوع، والطبع على أصلين
جيدين يرجعان إلى رواية ابن سهل؛ وهذا مما يدل على أن رواية ابن سهل هي المتأخرة،
وقد كانت عند الخطيب نسخة منها سينقل عنها فيما يأتي، فلا أدري لماذا لم يلتزم
مراجعتها في جميع المواضع!". ثُمّ قال: "فكأن البخاري كان أثبت أولاً
ثلاث تراجم كما حكاه الخطيب عن نسخة ابن فارس، وكان كذلك في النسخة التي وقعت لابن
أبي حاتم من التاريخ، وهي مما أخرجه البخاري أولاً، وبقي كذلك في نسخة ابن فارس،
ثم أصلح البخاري في رواية ابن سهل، وعليها الاعتماد".
قلت: هذا كلامٌ نفيس من المحقق
الكبير المعلمي اليماني، ومعرفة اختلاف نسخ التاريخ الكبير تحلّ إشكالات كثيرة،
نُسب فيها بعض أهل العلم الإمام البخاري إلى الوهم، كأبي حاتم وأبي زرعة والخطيب،
وغيرهم.
2- رأى الخطيب أن محمد بن
عبدالعزيز الكوفي الذي سمع من مغيرة بن مقسم هو نفسه الجرمي، ووهّم البخاري في
التفريق بينه وبين الجرمي والراسبي.
قال الخطيب: "وهذا هو الأول
الذي روى عنه أبو نعيم ومحمد بن عبيد وأبو أحمد، وليس بغيره، ونحن نذكر حديث أحمد
بن يونس عنه عن مغيرة في الوهم الحادي والعشرين إن شاء الله تعالى. أخبرنا أبو
نعيم الحافظ: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكّي: أخبرنا أبو العباس محمد بن
إسحاق الثقفي: حدثنا عبدالله بن عمر بن أبان بن صالح: حدثنا أبو نعيم، عن محمد بن
عبدالعزيز التيّمي، قال: حدثني سعد مولى لأبي بكرة، عن عبيدالله بن أبي بكرة، عن
أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثنتان يعجلهما الله تعالى في
الدنيا: البغي وعقوق الوالدين.
فقد قال أبو نعيم في هذا الحديث:
محمد بن عبدالعزيز التيميّ". انتهى كلامه.
قلت: تعقبه الإمام المعلمي، فقال:
"في صحة هذه الكلمة –أي التيمي- نظر!، وعبدالله بن عمر هو مشكدانة: موثّق على
ما فيه من الغلو والغفلة، وفي الميزان أنه كان مرة يقرأ التفسير فمر بقوله تعالى {ويغوث
ويعوق ونسرا}، فقرأ الكلمة الأخيرة: {ونشرا} فروجع، فقال: هي منقوطة بثلاث، يعني
أنها في كتابه الذي يقرأ منه {ونشرا}، فقد صحّفها عند كتابته، ثم قرأها على
التصحيف. والتيمي كوفي، والجرمي بصري، وقد فرقهما أبو حاتم وغيره، ويأتي عن ابن
عقدة - وكان عارفاً بتاريخ البخاري - أن الجرمي والراسبي واحد، ولم يتعرض للتيمي،
فدلّ ذلك على أنه عنده آخر. وقد قال الخطيب في ابن عقدة: كان أعرف الناس بأخبار
الكوفة ومن قدمها من العلماء ومن حدّث بها من الغرباء. ومع هذا فترجمة التيمي في
التاريخ مقرونة بترجمة الجرمي الراسبي، وقد عرف من عادته أنه عند الاحتمال يقرن
ترجمتين".
قلت: نعم، تصحف على مشكدانة
"الجرمي" إلى "التيمي". وما أشار إليه من أنه سيذكر حديث أحمد
بن يونس عنه عن مغيرة في الوهم الحادي والعشرون لا يفيده شيئاً! فذكر هناك هذا
الحديث، وليس فيه ما يدل على أن محمد بن عبدالعزيز الذي روى عن مغيرة هو الجرمي
الراسبي! بل إن ذاك الحديث الذي ذكره هناك يدل على أنه آخر غير الجرمي الراسبي.
فالمذكور هناك هو محمد بن عبدالعزيز الكوفي التيمي المقرئ، وحديثه الذي ذكره في
القراءة. ولم يذكر أحد من أهل العلم أن الجرمي الراسبي كان مقرئاً.
قال ابن أبي حاتم في ترجمة ((محمد
بن عبدالعزيز التيمي الكوفي)) (8/6): أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني فيما كتب
إليّ قال: حدثني عثمان بن زفر، قال: حدثنا محمد بن عبدالعزيز التيمي، ثقة، كان
شَريك يقول: "هو قريع القرّاء" –يعني سيد القرّاء. وقال عثمان بن سعيد:
"كان محمد بن عبدالعزيز ثقة، كان أحمد بن يونس يذكر عنه خيراً وفضلاً، وخرج
من الكوفة، وقال: لا أقيم ببلدٍ يُشتم فيها أصحاب رسول الله ثلى الله عليه
وسلم".
وبهذا يتبيّن صحة ما قاله البخاري
من التفريق بين الجرمي الراسبي وبين التيمي، وأن الخطيب وهم في الجمع بينهم.
3- كأن الخطيب –رحمه الله- لم
يركّز في مغزى ترجمة البخاري لمحمد بن عبدالعزيز الجرمي! وكلام الإمام البخاري
بحاجة إلى عمق في التفكير والتركيز لحلّ مقاصده.
ولم يقدِّم الخطيب أيّ دليل على
أن الجرمي هو غير الراسبي، وإنما قال عن الراسبي هذا: "وهذا أيضاً هو الأول –يعني
الجرمي-. وقد روى عنه وكيع حديث أبي نعيم الذي ذكرناه أيضاً، واختلف على وكيع فيه
فرواه أحمد بن حنبل عنه عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي عن مولى لأبي بكرة عن أبي
بكرة. وهكذا رواه الحجاج بن أرطاة عن محمد بن عبدالعزيز، ورواه هناد بن السري عن
وكيع عن محمد عن أبي سعيد مولى أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه محمد
بن عبيد بن عتبة عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن محمد عن سعد مولى أبي بكرة عن أبي
بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم". وخالف الجماعة محمد بن عبيد الطنافسي،
فرواه عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي عن أبي بكر بن عبيدالله بن أنس عن أبيه عن جده
عن النبي صلى الله عليه وسلم". ثُمّ ساق هذه الروايات بأسانيده.
قلت: أراد الإمام البخاري –رحمه
الله- أن يبيّن في ترجمة ((محمد بن عبدالعزيز الجرمي)) أنه هو الراسبي. وأراد أن
يبيّن أن محمد بن عبدالعزيز روى عن سعد مولى أبي بكرة حديث تعجيل العقوبة، وروى
كذلك حديثاً آخر عن عبيدالله بن أبي بكر عن أنس في إعالة البنات! وأن هناك من خلط
بين هذين الإسنادين بزيادة "عن أبيه" في حديث إعالة البنات، لأن
"عن أبيه" موجودة في رواية عبيدالله بن أبي بكرة! ولتشابه الأسماء في
كلا الحديثين، ففيهما "عبيدالله"، وقع خلط من بعض الرواة فروى المتنَين
في حديثٍ واحد، وهما حديثان مختلفان، بإسنادين مختلفين.
فإذا فُهِمَ هذا، فلا يوجد مخالفة
للجماعة كما زعم الخطيب أن محمد بن عبيد الطنافسي خالف الجماعة! لأنهما حديثان
مختلفان! وبسبب عدم فهم مقصد البخاري من هذه الترجمة وقع الخلل في نسبة الوهم إلى
البخاري وإلى بعض الرواة. وإليك التفصيل:
·
حديث: ((اثنتان يعجلهما الله...)):
ذكر البخاري رواية أبي نعيم لهذا
الحديث، وأعرض عن الروايات الأخرى التي تخالفها؛ فهو يرى أن رواية أبي نعيم هي
المحفوظة؛ ولهذا ترجم لرواة إسنادها في كتابه كما سيأتي.
·
رواية أبي نُعيم عن محمد بن عبدالعزيز:
رواه البخاري في ((التاريخ
الكبير)) (1/166)، وإسحاق بن راهوية في ((مسنده)) [كما في تخريج الأحاديث والآثار:
2/122]، والطبراني في ((المعجم الكبير)) [كما في تاريخ دمشق: 38/131] عن فضيل ابن
محمد الملطي، كلّهم عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن
سعد مولى أبي بكرة، عن عبيدالله بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم، قال: ((اثنتان يعجلهما الله عزّ وجل في الدنيا: البغي وعقوق
الوالدين)).
وفي رواية إسحاق بن راهوية وفضيل:
عن عبيدالله بن أبي بكرة، عن أبيه.
ورواه الخطيب من طريق عبدالله بن
عمر مشكدانة عن أبي نعيم عن محمد بن العزيز التيمي، به. فأخطأ في نسبته بقوله:
"التيمي"، كما سبق بيانه.
ورواه الخطيب من طريق محمد بن
عبيد بن عتبة الكندي، عن أبي نعيم، عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن سعد مولى أبي
بكرة، عن أبي بكرة، مثله.
قلت: لم يذكر محمد بن عتبة
"عبيدالله بن أبي بكرة"، فخالف الجماعة! وهو صدوق أخرج له ابن ماجة فقط،
ورواية الجماعة أرجح من روايته.
·
رواية وكيع عن محمد بن عبدالعزيز:
روى وكيع الحديث عن محمد بن
عبدالعزيز، فخالف أبا نعيم في إسناده، وفي متنه! وقد اختلف عليه فيه:
رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (5/36)
عن وكيع، عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن مولى لأبي بكرة، عن أبي بكرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذنبان معجلان لا يؤخران: البغي وقطيعة الرحم)).
ورواه هنّاد بن السري في
((الزهد)) (2/643) عن وكيع، عن محمد، عن أبي سعيد مولى أبي بكرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.
قلت: كأن وكيعاً كان يضطرب فيه،
وهذا يعني أنه لم يحفظه، ولهذا لم يذكر فيه عبيدالله بن أبي بكرة، ورواية أبي نعيم
أثبت من روايته.
·
رواية حجاج بن أرطأة عن محمد بن عبدالعزيز:
روى البيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/223)
من طريق الحسن بن عرفة، عن حفص ابن غياث. والرافعي في ((التدوين)) (4/87) والخطيب
في ((الموضح)) (1/463) من طريق آدم بن ناهية –وهو آدم بن أبي إياس العسقلاني- عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر، كلاهما
(حفص وسليمان) عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن مولى لأبي
بكرة، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه.
قلت: وافق حجاج بن أرطأة رواية من
روايات وكيع، ولكن لا تقويها؛ لأن حجاج ليس بالقوي؛ ولأن في رواية وكيع اضطراب،
ومن زاد في الرواية: "عبيدالله بن أبي بكرة" حفظ الحديث وضبطه. ومن لم
يذكرها اضطرب في إسناده ولم يحفظها، وهذه قاعدة جليلة في التعامل مع حديث الثقات
وكيفية اختيار الرواية المضبوطة.
ومن هنا يتبيّن لنا مدى دقة
الإمام البخاري –رحمه الله- في اختيار رواية أبي نعيم، وإعراضه عن الروايات الأخرى
لما فيها من العلل، فللّه درّه.
وقد رجّح النقاد أبا نعيم على
وكيع عند الاختلاف. قال صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أبو نُعيم أثبت أو وكيع؟
قال: "أبو نعيم أقل خطأ". وقال حنبل بن إسحاق: سئل أبو عبدالله، فقيل
له: فوكيع وأبو نعيم؟ قال: "أبو نعيم أعلم بالشيوخ وأنسابهم وبالرجال. ووكيع
أفقه". وقال يعقوب بن شيبة: أبو نعيم ثقة، ثبت، صدوق. سمعت أحمد بن محمد بن
حنبل، وذكره، فقال: "أبو نعيم يُزاحَمُ به ابن عُيينة". فناظره إنسانٌ
فيه وفي وكيع، فجعلَ يميلُ إلى أن يزعم أنه أثبت من وكيع، فقال له الرجل: وأي شيء
عند أبي نعيم من الحديث، ووكيع أكبر رواية وحديثاً؟ فقال: "هو على قلّة
روايته أثبت من وكيع".
وقال زياد بن أيوب الطّوسي: سمعت
أحمد بن حنبل يقول: "أبو نعيم أقل خطأ من وكيع". وقال عبدالله بن أحمد
بن حنبل عن أبيه: "أخطأ وكيع في خمس مئة حديث". (تهذيب الكمال:
23/206-207).
·
تعليق ((هواة التخريج)) على مسند الإمام أحمد بإشراف الشيخ شعيب
على هذه الروايات!
قالوا في تعليقهم على حديث رقم
(20380): "وقد اختلف فيه على محمد بن عبدالعزيز الراسبي، ومحمد بن عبدالعزيز
الراسبي هو محمد بن عبدالعزيز الجرمي، ويقال الراسبي غير الجرمي، وقد فرقهما
البخاري، ورد ذلك الخطيب في الموضح... وأما الراسبي فقد وثقه ابن معين والذهبي
وابن حجر، لكنه قال: لا أحسبه حافظاً. وقال الحاكم: أراه يضطرب في الرواية. فلا
يبعد أن يكون الاضطراب منه".
قلت: هذا كلام متهافت!
1- لم يكلّف هؤلاء الهواة أن
يرجعوا إلى تاريخ البخاري ليعلموا أن البخاري لم يفرّق بين الراسبي وبين الجرمي،
فهم عنده واحد، وإنما اعتمدوا على كلام الخطيب في ذلك، وقد أخطأ في ذلك كما سبق
بيانه.
2- قولهم: "لكنه قال - أي
ابن حجر -: لا أحسبه حافظاً"! ليس من كلام ابن حجر، وإنما نسب ابن حجر هذا
الكلام إلى ابن حبان، فإنه نقل كلام المزي في ((تهذيب التهذيب)) (9/279): "وذكره
ابن حبان في الثقات"، ثم قال ابن حجر: "قلت: وقال –أي ابن حبان- الجرمي،
لا أحسبه كان حافظاً".
قلت: ونسبة هذا الكلام إلى ابن
حبان لم أجده في ثقاته، ولم يذكر الجرمي! قال في ((الثقات)) (7/429): "محمد
بن عبدالعزيز الراسبي يروي عن عبيدالله بن أبي بكر بن أنس عن أنس. روى عنه أبو
أحمد الزبيري ومحمد بن عبيد".
3- قولهم بأنه لا يبعد أن يكون
الاضطراب من محمد بن عبدالعزيز ناتج عن عدم الفهم واتباعهم لكلام الحاكم! فكأن
الحاكم لما اطلع على هذه الروايات والاختلاف فيها نسب الاضطراب فيها للراسبي!
والحقيقة أن الاضطراب ليس منه، وإنما من الرواة عنه كما بينته، ولله الحمد.
·
ترجمة البخاري لرواة إسناد أبي نُعيم:
ذهب البخاري إلى أن الرواية
الصحيحة لهذا الحديث هي رواية أبي نعيم، ولهذا اعتمدها في الترجمة للرواة في
كتابه.
·
ترجمة عُبيدالله بن أبي بكرة:
قال البخاري في ((التاريخ الكبير))
(5/375): "عبيدالله بن أبي بكرة الثقفي عن أبيه. وكان والي زياد. روى عنه سعد
مولى أبي بكرة. أصله بصري".
وقال الإمام مسلم في ((الكنى
والأسماء)) (1/248): "أبو حاتم عبيدالله بن أبي بكرة الثقفي عن أبيه وعلي.
روى عنه ابن سيرين".
وقال ابن سعد في ((الطبقات الكبرى))
(7/190): "عبيدالله بن أبي بكرة، وأمه هالة بنت غليظ من بني عجل. قليل الحديث".
وقال ابن حبان في ((الثقات)) (5/64):
"عبيدالله بن أبي بكرة الثقفي: يروي عن أبيه، وكان والي زياد. عِداده في أهل
البصرة. روى عنه أهلها".
·
ترجمة لم يعرفها الألباني!
قلت: ذكر الشيخ الألباني في
((الصحيحة)) رقم (1120) رواية عبيدالله بن أبي بكرة عن أبيه، ثم قال الشيخ:
"وعبيدالله هذا لم أجد من ترجمه، وقد ذكروه في الرواة عن أبيه".
قلت: ترجمته مشهورة وموجودة في
كتب أهل العلم. وله ذكرٌ في ((صحيح مسلم)) (3/1342) أن أباه كتب له وهو قاض بسجستان.
وقال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق))
(38/129): "عبيدالله بن أبي بكرة، واسمه نفيع، ويقال: مسروح، أبو حاتم الثقفي.
أحد الكرام المذكورين والسمحاء المشهورين. حدّث عن علي بن أبي طالب وأبيه أبي بكرة.
روى عنه ابنه ثابت بن عبيدالله، وسعد مولى أبي بكرة، وسعيد بن جمهان، ومحمد بن
سيرين. وولي عبيدالله قضاء البصرة وإمرة سجستان وقضاءها، ووفد على عبدالملك بن
مروان".
وله ترجمة في ((سير أعلام النبلاء))
(4/138)، قال: "عبيدالله بن أبي بكرة الثقفي، الأمير من أبناء الصحابة، ولي
سجستان. مولده في سنة أربع عشرة، وكان جواداً ممدحاً شجاعاً كبير القدر".
·
ترجمة سعد مولى أبي بكرة:
قال البخاري في ((التاريخ الكبير))
(4/54): "سعد مولى أبي بكرة الثقفي عن عبيدالله بن أبي بكرة. روى عنه محمد بن
عبدالعزيز الجرمي".
وقال ابن أبي حاتم في ((الجرح
والتعديل)) (4/99): "سعد مولى أبي بكرة: روى عن أبي بكرة. روى عنه محمد بن
عبدالعزيز الجرمي. سمعت أبي يقول ذلك".
وقال ابن حبان في ((الثقات)) (6/377):
"سعد مولى أبي بكرة الثقفي: يروي عن عبيدالله بن أبى بكرة. عِداده في أهل
البصرة. روى عنه محمد بن عبدالعزيز الجرمي".
·
تعقب الشيخ الألباني!
قال الشيخ الألباني في
((الصحيحة)) رقم (1120) (ص114): "وسعد مولى أبي بكرة، أورده ابن أبي حاتم
(2/1/99) وقال: روى عن أبي بكرة! وكذا قال ابن حبان في ((الثقات)) (1/107)! وأما
البخاري فأورده في التاريخ (2/2/55) على الصواب: روى عن عبيدالله بن أبي
بكرة".
قلت: لم يقل ابن حبان مثل ما جاء
عند ابن أبي حاتم كما زعم الشيخ! فكلام ابن حبان مثل كلام البخاري كما سبق نقله.
ولا أدري من أين أتى الشيخ بنسبة هذا الكلام لابن حبان! وكذلك مكان وجوده (1/107)!
فهذا المكان الذي أشار إليه إنما فيه أحداث للسيرة قبل أن يبدأ ابن حبان بالتراجم!
نعم، ذكر ابن أبي حاتم أنه روى عن
أبي بكرة! فإما أنه اعتمد وكيع السابقة التي ليس فيها ذكر لعبيدالله بن أبي بكرة،
ويقويه أنه لم يترجم في كتابه لعبيدالله بن أبي بكرة. ويُحتمل أنه سقط من النسخة التي
اعتمدها ابن أبي حاتم من تاريخ البخاري؛ لأنه اعتمد على نسخة سقيمة من التاريخ،
ويحتمل أنه سقط من النسخ التي اعتمدت في التحقيق، ويؤيد هذا أنه لما ترجم لمحمد بن
عبدالعزيز في ((الجرح والتعديل)) (8/7) قال: "محمد بن عبدالعزيز الجرمي: روى
عن سعد مولى أبي بكر عن عبيدالله بن أبي بكرة. روى عنه وكيع وأبو نعيم سمعت أبي
يقول ذلك". فذكر ابن أبي حاتم هنا أن سعداً يروي عن عبيدالله بن أبي بكرة،
فالله أعلم.
·
تجهيل "المعلقون على مسند أحمد" لسعد مولى أبي بكرة!
قالوا: "حديثٌ صحيح. وهذا
إسنادٌ ضعيف"، ثم قالوا عن سعد مولى أبي بكرة: "ذكره ابن حبان في الثقات
في طبقة أتباع التابعين، ولم يذكروا عنه راوياً غير محمد بن عبدالعزيز الراسبي،
فهو مجهول".
قلت: إن المشرف على هؤلاء الهواة
هو الشيخ شعيب الأرنؤوط، ومذهبه في أن الذي يروي عنه واحد مجهول! وتبع في هذا ابن
حجر في التقريب –مع خلاف معه في غير ذلك-! وهذا مذهبٌ باطلٌ؛ لأنه قد يروي عن
الشخص راو واحد ويكون صدوقاً أو ثقة، ويُرجع في ذلك إلى القرائن التي تحتف
بالرواية وبراويها. فالراوي عنه ثقة، وهو معروف في أهل البصرة، والمولى قريب من
سيده، وروايته مشهورة، فهو إلى الصدق أقرب، وإن كان ليس بالمشهور في الرواية،
فروايته لا بأس بها، وإسنادها صحيح.
·
حديث: ((مَنْ عالَ جاريتين...)).
بعد أن أشار الإمام البخاري إلى
حديث محمّد بن عبدالعزيز عن سعد مولى أبي بكرة، واختار رواية أبي نعيم، وأعرض عن
الاختلافات الأخرى، أشار إلى حديث آخر لمحمد بن عبدالعزيز، وبيّن الاختلافات فيه:
فرواه في ((التاريخ الكبير)) وفي
((الأدب المفرد)) (308) عن عبدالله بن أبي الأسود، عن محمد بن عبيد الطنافسي، قال:
حدّثنا محمد بن عبدالعزيز، عن أبي بكر بن عبيدالله بن أنس، عن أبيه، عن جدّه، عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من عال جاريتين حتى تدركا دخلت أنا وهو في الجنة
كهاتين)) -وأشار محمد بن عبدالعزيز بالسبابة والوسطى -. ((وبابان يعجلان في الدنيا:
البغي وقطيعة الرحم)).
ورواه أيضاً في ((التاريخ)) عن
محمد، عن محمد بن عبيد، عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن أبي بكر بن عبيدالله بن
أنس، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من عال، وبابان يعجلان.
ورواه أيضاً عن ابن أبي خلف، عن
محمد بن عبيد، عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن أبي بكر بن عبيدالله، عن أنس، عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثله.
قلت: ذكر البخاري بعد رواية ابن
أبي الأسود رواية: عمرو الناقد عن أبي أحمد الزبيري، عن محمد بن عبدالعزيز، عن
عبيدالله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((من
عال جاريتين)).
فأراد البخاري أن يبين أن محمد بن
عبيد الطنافسي روى هذا الحديث عن محمد بن عبدالعزيز، وخلط في إسناده وفي متنه!
فأتى برواية أبي أحمد الزبيري عن محمد على الصواب، واقتصر على متن: ((من عال
جاريتين))، والمتن الآخر: ((بابان يعجلان)) حديث آخر أدخله محمد بن عبيد في روايته
لحديث عبيدالله بن أبي بكر بن أنس.
ومن دقة الإمام البخاري أنه عندما
ذكر رواية ابن أبي الأسود عن الطنافسي، قال: "بمثله، ومن عال جاريتين".
أي روى الطنافسي بهذا الإسناد متن الحديث السابق "اثنتان يعجلهما الله،
وأيضاً: ((من عال جاريتين))، فنبّه البخاري على خطأ الطنافسي في هذا الخلط بين
المتنين؛ لأن كلّ متن له إسناد، ورواهما الطنافسي بإسناد واحد! ولم يتنبه الخطيب
البغدادي في ((الموصح)) لهذه النكتة التي نبه عليها البخاري، فقال بأن الطنافسي
خالف الجماعة في روايته لهذا الحديث وأتى بإسناد آخر! وهذا منه عجيب! لأن ذاك
الحديث لم يروه الطنافسي - مع أنه كان عنده -! ولكن لما كان كلا الحديثين عن محمد
بن عبدالعزيز دخل الخلط على الطنافسي.
·
أوهام للطنافسي!
فبيّن البخاري أن أبا أحمد
الزبيري خالف الطنافسي في روايته عن محمد بن عبدالعزيز، وقد وقع الطنافسي في ثلاثة
أوهام:
1- أنه دمج حديثين في بعضهما
البعض.
2- أنه قلب اسم عبيدالله بن أبي
بكر بن أنس إلى أبي بكر بن عبيدالله بن أنس، والصواب ما قاله الزبيري، وهو:
عبيدالله بن أبي بكر بن أنس، مشهور ثقة.
3- أنه اضطرب في إسناد الحديث،
فزاد فيه: "عن أبيه"! فبيّن البخاري أنه رواه مرة: "عن أبيه عن
جده"، ومرة: "عن أنس" أي عن جدّه. وكأن الخطأ دخل عليه من الحديث
الأول فإن فيه عبيدالله وفيه: عن أبيه، فاشتبه عليه، فوهم.
·
دليل الخطيب على أن الطنافسي خالف الجماعة الذين رووا حديث:
((بابان معجلان)):
قال الخطيب: وأما حديث محمد بن
عبيد الطنافسي بخلاف الجماعة فأخبرناه أبو نُعيم الحافظ، قال: حدثنا إبراهيم بن
محمد المزكي، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق السّراج، قال: حدثني العباس بن محمد، قال:
حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن أبي بكر بن
عبيدالله بن أنس، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((بابان معجلان في الدنيا: البغي وقطيعة الرحم)).
وقال السّراج أيضاً: حدثنا عبّاس
بن محمد الدّوري، قال: حدثنا محمد بن عبيد، عن محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن أبي
بكر بن عبيدالله بن أنس، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((من عال جاريتين حتى تدركا، دخلت أنا وهو في الجنة كهاتين –وأشار بالمسبحة
والتي تليها)). انتهى استدلال الخطيب.
قلت: الذي جعل الخطيب يقول بأن
محمد بن عبيد الطنافسي خالف الجماعة (وكيع وأبو نعيم وحجاج بن أرطأة) هو أنه وقع
له الحديث الذي رووه بإسناد آخر، وهو هذا الذي رواه السراج عن عباس الدوري.
نعم، إذا أخذت متن هذا الحديث
منفصلاً عن متن الحديث الآخر لا شك أن أي عاقل يقول بأن الطنافسي خالف الجماعة في
إسناده. ولكن المشكلة في فصل المتنين عن بعضهما في رواية الطنافسي! فالطنافسي روى
المتنين بإسناد واحد، ولم يروي كلّ متن وحده بالإسناد نفسه؛ فإنه –رحمه الله- حدّث
بهذا الإسناد بمتن: ((من عال جاريتين...)) وإضاف إليه متن: ((بابان معجلان...))،
لا أنه فصل كلّ متن وحده!
وكأن عباس الدوري رواه عن
الطنافسي بذكر المتنين في الإسناد نفسه، ولكن السراج فصل كلّ متن وحده، وهذا لا
ينبغي؛ لأنه يترتب على ذلك دخول إسناد في إسناد على الطنافسي! فكأنه حدث بمتن ((من
عال جاريتين))، ثم مرة أخرى بحديث ((بابان معجلان)) فذكر له إسناد الحديث الأول؛
وهذا بعيد! لأن كل من رواه عن الطنافسي ذكر المتنين في الحديث نفسه.
·
قلب في اسم فات الحاكم وتبعه الألباني!
أخرج الحاكم في ((المستدرك)) (4/196)
من طريق إبراهيم بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، قال: حدثني
محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن أبي بكر بن عبيدالله بن أنس، عن أنس -رضي الله عنه-
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين حتى تدركا دخلت الجنة
أنا وهو كهاتين. وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى))، وبابان معجلان عقوبتهما في
الدنيا: البغي والعقوق)).
قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيحُ
الإسناد، ولم يخرجاه".
قلت: الصواب فيه: محمد بن
عبدالعزيز عن عبيدالله بن أبي بكر عن أنس كما خرّجه مسلم على الصواب في ((الصحيح))
(4/2027)، ونبّه إلى هذا القلب في الاسم الترمذي في ((جامعه)) (4/319)، ولم يتنبه
الحاكم إلى هذا! وتبعه على ذلك الألباني فمشى معه في ((الصحيحة)) رقم (1120)!
وليعلم أن حديث: ((من عال
جاريتين)) مشهور من طرق أخرى عن أنس. وحديث: ((بابان –أو ذنبان- معجلان)) مشهور من
طرق أخرى عن أبي بكرة، فلا يجعل كلا الحديثين عن أنس؛ لأن أنساً لم يحدّث بالحديث
الثاني.
·
توهيم الألباني للمناوي! والحقيقة أنه هو الواهم:
ذكر الألباني في ((الصحيحة)) رقم
(1120) حديث: ((بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق)). ثم ذكر تخريج
الحاكم له بلفظ: ((من عال جاريتين...، وبابان...)). ثُمّ قال: "تنبيه: عزى
المناوي الزيادة المذكورة –أي: من عال- إلى البخاري، ولم أرها عنده، وما أراه إلا
واهماً، فلم يعزها إليه أحد غيره فيما علمت كالمنذري في الترغيب والصغاني في
المشارق".
قلت: قال المناوي في ((فيض القدير))
(6/177): "ورواه البخاري بلفظ: من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا
وهو كهاتين".
وقد فهم الألباني أن المناوي يقصد
بأن البخاري رواه أي في ((الصحيح))! وليس كذلك، فإن المناوي يقصد بأنه رواه في
((الأدب المفرد))، وهو فيه في (ص308) وسبقت الإشارة إليه من حديث عبدالله بن أبي
الأسود عن الطنافسي.
فلم يهم المناوي كما زعم الشيخ
الألباني، وهو الواهم.
وكان الأولى بالشيخ الاستدراك على
المناوي في قوله: "مسلم والترمذي، عن أنس بن مالك، واستدركه الحاكم فوهم"!
فمسلم لم يروه كما رواه الحاكم، بل في إسناده قلب وزيادة في المتن، فهو حديث مختلف
عند الحاكم! وقد خرّج الطريق الخطأ!
·
وهم للعجلوني في العزو!
قال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/349):
"بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق. رواه الحاكم في ((تاريخه))
عن أنس، والمشهور على الألسنة: ذنبان تعجل عقوبتهما في الدنيا قبل الآخرة: البغي
وعقوق الوالدين".
قلت: أخرجه الحاكم في
((المستدرك))، وتاريخه مفقود، ولم يطّلع عليه العجلوني!
·
رواية محمد بن عبدالعزيز عن أبي الشعثاء جابر بن زيد:
ختم الإمام البخاري ترجمة محمد بن
عبدالعزيز بقوله: "وسمع الحسن وجابر بن زيد. ويقال عن وكيع: كنيته أبو
روح".
قلت: لما كان الخلاف شديداً في
حديث محمد بن عبدالعزيز السابق اعتنى به البخاري وبيّنه، ثم رجع ليثبت سماع محمد
بن عبدالعزيز من كبار علماء البصرة كالحسن وجابر بن زيد، وهذا يؤكد أنه غير التيمي
الكوفي كما زعم الخطيب. ومما وجدته من روايته عن جابر بن زيد:
1- روى وكيع عن محمد بن عبدالعزيز
عن جابر بن زيد قال: ((النحر في الأمصار يوم، وبمنى ثلاثة أيام)). (المحلى:
7/377).
2- وروى ابن أبي شيبة في
((مصنفه)) (3/353) عن محمد بن عبيد، عن محمد بن عبدالعزيز، عن جابر بن زيد، قال: ((تلبس
المحرمة ما شاءت من الثياب من شريفها وغريبها، ولا تكتحل بالإثمد)).
وختم البخاري الترجمة بأن وكيعاً
كنى محمد بن عبدالعزيز بأبي روح. وقد استفاد الإمام مسلم من ذلك، فقال في ((الكنى
والأسماء)) (1/312): "أبو روح محمد بن عبدالعزيز الراسبي عن جابر بن زيد وأبي
الوازع. روى عنه وكيع".
·
فائدة عزيزة نفيسة:
قال البخاري في ((التاريخ الكبير))
(3/310): روح. قال بشر: أخبرنا عبدالله، قال: أخبرنا روح شيخ من أهل البصرة،
قال: أخبرني عبيدالله بن أبي بكر، عن جدّه أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من
عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة)). وقال محمد بن عبدالرحيم: أخبرنا أحمد بن جميل
قال: أخبرنا عبدالله قال: أخبرنا روح أراه بصرياً لقيته بالكوفة،
مثله".
قلت: والحديث في كتاب ((البر
والصلة)) (ص80) للحسين المروزي عن ابن المبارك، قال: أخبرنا روح شيخٌ لنا.
وهذا الحديث لا يُعرف إلا من طريق
محمد بن عبدالعزيز الراسبي عن عبيدالله. ومحمد بصريّ، وكنيته ((أبو روح))، والرواة
عنه كوفيون. والذي أذهب إليه أنه هو صاحب ابن المبارك في هذا الحديث. فالذي حصل أن
ابن المبارك سمع منه هذا الحديث في الكوفة عندما قدمها، وعندما حدّث به نسي اسم
شيخه وتذكر من اسمه ((روح)) فقط، ومما يدل على ذلك أنه عرّف به بأنه شيخ من
البصرة، فقال: أراه بصرياً لقيته بالكوفة، وهذا يدل على أن كنية محمد بن عبدالعزيز
((أبو روح))، والله أعلم.
ولم يتنبّه البخاري لهذا فترجمه
كما هو في من اسمه روح! وتبعه على هذا ابن أبي حاتم. (الجرح والتعديل: 3/496).
وقد ذكر المزي في ترجمة محمد بن
عبدالعزيز –كما سيأتي- من الرواة عنه: عبدالله بن المبارك، وهذا يؤكد ما ذهبت
إليه، ولا أدري أين وقف المزي على روايته عن محمد بن عبدالعزيز.
وقد تعلق بترجمة روح هذه أوهاماً
أخرى ذكرتها في مكان آخر، ولله الحمد والمنّة.
·
ترجمة المتأخرين لمحمد بن عبدالعزيز:
قال المزي في ((تهذيب الكمال)) (26/13):
"(بخ. م. ت) محمد بن عبدالعزيز الجرمي، ويقال: الراسبي. أبو روح البصري.
ويقال: إنهما اثنان. روى عن أبي الشعثاء جابر بن زيد، وأبي الوازع جابر بن عمرو
الراسبي، وسعد مولى أبي بكرة الثقفي. وعن عبيدالله بن أبي بكر بن أنس بن مالك (م)،
وقيل: عن أبي بكر بن عبيدالله بن أنس بن مالك (بخ ت). وعن خالته عن أبي الشعثاء.
روى عنه حجاج بن أرطاة ومات قبله، وعبدالله بن المبارك، وأبو نعيم الفضل بن دكين،
ومحمد بن عبيد الطنافسي (بخ ت)، ووكيع بن الجراح، وأبو أحمد الزبيري (م).
قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن
معين: "محمد بن عبدالعزيز الجرمي: ثقة". وذكره ابن حبان في كتاب ((الثقات)).
روى له البخاري في الأدب ومسلم والترمذي".
وتبعه ابن حجر في ((تهذيب التهذيب))
(9/279) وزاد: "وقال (يعني ابن حبان): الجرمي لا أحسبه حافظاً. وذكر الخطيب
في ((الموضح)) أن البخاري فرّق بين الجرمي والراسبي، ثم ذكر محمد بن عبدالعزيز
الكوفي سمع من مغيرة بن مقسم، سمع منه شبابة. قال الخطيب: الثلاثة واحد، يقال له:
الراسبي والجرمي والتيمي، ويكنى أبا سعيد وأبا روح، والله تعالى أعلم".
·
أوهام لابن حجر!
قلت: لم يحرر ابن حجر ترجمته، ولم
يبين هل الخطيب مصيب في ما نسبه للبخاري أم لا؟! وظاهر تصرفه أنه يوافق الخطيب في
رأيه!! ووقع ابن حجر في أوهام:
1- نسبة القول لابن حبان بأنه قال
عنه: لا أحسبه حافظاً! وابن حبان لم يقل هذا. ولا أدري من أين جاء به؟! وقد تبع
ابن حجر على هذا الدكتور بشار معروف في تحقيقه لكتاب المزي!
2- قوله: "سمع منه
شبابة"! وتبعه على هذا بشار معروف أيضاً! والصواب: "سمع منه أحمد بن
يونس".
وقال الذهبي في ((المغني في
الضعفاء)) (2/609): "محمد بن عبدالعزيز الراسبي، ويعرف بالجرمي الكوفي. عن
عبيدالله بن أبي بكر عن أنس. استشهد به مسلم. قال الحاكم: أراه يضطرب في الرواية".
قلت: تبع الذهبي الخطيب في أن
الراسبي الجرمي هو الكوفي، وليس كذلك! فالكوفي آخر. وقد ذكره الذهبي في الضعفاء
لكلام الحاكم فيه! والحاكم واهم في قوله، والاضطراب في حديثه ليس منه كما بينته
سابقاً، وهو ثقة.
وقال ابن حجر في ((التقريب)) (ص493):
"محمد بن عبدالعزيز الجرمي أبو روح البصري: ثقة. من السابعة".
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ
العالمين.
شاركنا تعليقك