منهج إمام الأئمة البخاريّ في إثبات السماع في «التاريخ الكبير»
(1).
بقلم:
أبي صهيب الحايك.
اتبع البخاريّ - رحمه الله -
منهجاً دقيقاً في تراجمه في إثبات السماع ونفيه، واعتنى بذلك عناية شديدة، والناظر
في كتابه العظيم ((التاريخ الكبير)) يلحظ ذلك جلياً.
وقد تنبه بعض أهل العلم إلى مسألة
إثبات السماع في تراجم التاريخ الكبير، فكانوا يشيرون إليها أحياناً، ومنهم من لم
يتنبه لذلك. وقد طُرحت هذه المسألة في أيامنا هذه بين طلبة العلم وانتشرت على
المنتديات على الشبكة العنكبوتية، وأدلى كلّ بدلوه.
وقد لاحظت فيما طرحه الإخوة
مناهجاً شتى في محاولة فهم كلام البخاري؛ لما في ذلك من تناقض في الظاهر. فأحياناً
يثبت البخاري السماع للراوي المترجم له من شيخه، وأحياناً يستخدم العننعنة،
وأحياناً يثبت السماع ويضعف الحديث، وغير ذلك مما قد يشتبه على بعض الطلبة.
وتجلية لهذا الموضوع أحببت أن
أبين المنهج الدقيق للإمام البخاري في إثبات السماع في تراجمه في ((التاريخ
الكبير))، وستكون هذه الدراسة على حلقات، وهذه هي الحلقة الأولى.
1- قد يثبت البخاري السماع ثُم
يضعّف الحديث، هذا يعني أنه ينفي السماع الوارد في الحديث:
إنّ الأئمة عندما يترجمون للراوي
فإن أكثر ما يعتمدون عليه هو روايات ذلك الراوي. وكثير من هؤلاء لا يعرفوا إلا
بروايات قليلة، بل إن كثيراً منهم لا يُعرف إلا برواية واحدة فقط.
وعليه فإنّ أول ما ينبغي عمله هو
جمع التراجم التي فرّقها البخاري فيما يتعلق بهذا الراوي: ترجمته، وترجمة شيخه،
وترجمة تلميذه؛ إذ يكون البخاري - رحمه الله - قد أشار إلى السماع في ترجمة من هذه
التراجم، ولم يُشر في الأخرى، أو يكون أتى بأشياء في إحدى التراجم لم يذكرها في
الأخرى، وهكذا.
ومن أمثلة ذلك:
قال الإمام البخاريّ في ((التاريخ
الكبير)) (6/23): "عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة الأسلمي. يُعدُّ في أهل المدينة.
سمع عبدالملك بن رافع. روى عنه يزيد بن عمرو الأسلمي. حديثه في أهل الحجاز. لا يصح
حديثه، منقطعٌ".
قلت: هكذا جاء في المطبوع
"عبدالملك" وجاء كذلك عند ابن عدي من طريق البخاري، وهو خطأ، والصواب:
"عبدالله".
أثبت البخاري في هذه الترجمة سماع
عبدالعزيز من ابن رافع، مع حكمه على الحديث بالانقطاع!
وقال أيضاً في ((التاريخ الكبير))
(8/350): "يزيد بن عمرو الأسلمي: سمع عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة. روى عنه
حاتم بن إسماعيل".
قلت: وهكذا أيضاً أثبت سماع يزيد
من عبدالعزيز! ولكنه استبعد هذا السماع في ((التاريخ الأوسط)) (2/65) فقال: "حدثني
عبدالرحمن بن يونس، قال: حدثنا حاتم، قال: حدثنا يزيد بن عمرو الأسلمي، عن عبد
العزيز بن عقبة بن سلمة بن الأكوع، قال: صليت مع عبدالله بن رافع بن خديج العصر
بالضرية، وأهل البادية يؤخرون، فأخرها جداً، فقلت له، فقال: ما لي وللبدع، هذه
صلاة آبائي مع النبي صلى الله عليه وسلم".
قال البخاري: "ويزيد هذا غير
معروف سماعه من عبدالعزيز".
وقد أشار محقق التاريخ الأوسط
الدكتور يحيى الثمالي (3/435) إلى إثبات البخاري سماع يزيد من عبدالعزيز، وكأنه
يستغرب هذا؛ لأنه نفى السماع في التاريخ الأوسط! فلم يعلّق المحقق على هذا!
قلت: إثبات البخاري سماع
عبدالعزيز من ابن رافع إنما هو من خلال الحديث الذي رواه له، فأثبته كما هو، ثُم
ضعّف الحديث بالإنقطاع، وهذا التضعيف بالإنقطاع كأنه نفي للسماع المثبت في إسناد
الحديث. فلو لم يضعفه البخاري بالإنقطاع لكان هناك خللٌ في كلام البخاري.
وأما إثباته سماع يزيد بن عمرو من
عبدالعزيز فتبعاً لما جاء في الإسناد أيضاً، وطالما أنه ضعف الحديث فلا يضر هذا،
ويؤيده أنه نفى هذا السماع في ((التاريخ الأوسط)).
وينبغي تتبع ما نقله أهل العلم من
تاريخ البخاري من خلال الروايات الأخرى، كما يفعل ابن عدي والعقيلي، فإنهما
يعتمدان روايات أخرى لتاريخ البخاري فيها بعض الزيادات التي تفيد أحياناً، وفيها
زيادات عن الرواية الأخيرة للتاريخ، وهي رواية ابن سهل، وكثيراً ما يرجح ما عند
ابن سهل إذا كان هناك تعارض بين الروايات. وأما الزيادات التي لا تخالف عما عند
ابن سهل في روايته، فلا يضر الأخذ بها والاعتماد عليها.
نقل ابن عدي في ((الكامل)) (5/289)
في ترجمة ((عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة الأسلمي)) قال: سمعت ابن حماد يقول: قال
البخاري: "عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة الأسلمي. مدني. يعدّ في أهل المدينة.
سمع عبدالملك بن رافع. روى عنه يزيد بن عمرو الأسلمي. لا يصح حديثه. وعبدالعزيز
هذا غير معروف، ولا أعرف له إلا شيئاً يسيراً".
قلت: فهذه الزيادة الأخيرة من
رواية ابن حماد الدولابي في جهالة عبدالعزيز مهمة جداً.
ونقل العقيلي في ((الضعفاء)) (3/13)
في ترجمة ((عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة بن الأكوع)) قال: حدثنا آدم بن موسى، قال:
سمعت البخاري قال: "عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة بن الأكوع. يعد في أهل المدينة.
عن عبدالله بن رافع. روى عنه يزيد بن عمرو، ولا يصح حديثه".
قلت: في رواية آدم عن البخاري ذكر
البخاري العنعنة ولم يذكر السماع، وهذا يدل على عدم ثبوت السماع في الأصل.
·
اعتماد الأئمة على كلام البخاري دون التدقيق في منهجه!
قال ابن أبي حاتم في ((الجرح
والتعديل)) (5/390): "عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة الأسلمي. يعد في أهل المدينة:
سمع عبدالله بن رافع. روى عنه يزيد بن عمرو الأسلمي. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: لا
يصح حديثه".
وذكره ابن حبان في ((الثقات)) (7/115)
فقال: "عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة الأسلمي. يروي عن عبدالله بن نافع. عداده
في أهل المدينة. روى عنه يزيد بن عمرو الأسلمي".
وقال ابن أبي حاتم في ((الجرح
والتعديل)) (9/281): "يزيد بن عمرو الأسلمي. روى عن عبدالعزيز بن عقبة بن
سلمة. روى عنه حاتم بن إسماعيل. سمعت أبي يقول ذلك".
وذكره ابن حبان في ((الثقات)) (7/625)
فقال: "يزيد بن عمرو الأسلمي يروي عن عبدالعزيز بن عقبة بن سلمة. روى عنه
حاتم بن إسماعيل".
قلت: من ينظر في كلام أبي حاتم
الرازي وابن حبان لا يتوقع أن حديث يزيد عن عبدالعزيز منقطع كما قال البخاري، وأن
عبدالعزيز هذا غير معروف، وغير ذلك من دُرر الإمام البخاريّ، وكلّ هذا بسبب اختصار
كلام البخاري وانتحاله مما يوقع في الوهم، فليتنبه.
2- قد يثبت البخاري السماع للراوي
من شيخه ويضعف حديثه، ولكنه لا ينفي سماعه منه؛ وإنما يضعف ما رواه فقط لقرائن
يذكرها رحمه الله:
ومن أمثلة ذلك:
قال الإمام البخاري في ((التاريخ
الكبير)) (5/88): "عبدالله بن رافع بن خديج الحارثي الأنصاري. قال عبدالرحمن
بن يونس: حدثنا حاتم بن إسماعيل: سمع يزيد بن عمرو الأسلمي، عن عبدالعزيز بن عقبة
بن سلمة، قال: صليت مع عبدالله بن رافع بن خديج العصر بالضُرْبَة، وأهل البادية
يؤخرون فأخرها جداً. فقلت له؟ فقال: ما لي وللبدع هذه صلاة آبائي مع النبي صلى
الله عليه وسلم. وقال أبو عاصم: عن عبد الحميد -أو عبدالواحد- قال: مررت فإذا مؤذن
يؤذن بالعصر بالمدينة، فقال رجلٌ: حدثني أبي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بتأخير هذه. فقلت: من هذا؟ قالوا: عبدالله بن رافع بن خديج. وأذن مؤذنه للعصر،
فكأنه قدم الأذان، فقال: أخبرني أبي: أنه كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يأمر
بتأخير العصر. وقال موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو الدجّاج عبدالواحد بن نافع، قال:
شهدت عبدالرحمن بن رافع بن خديج، فقال: أخبرني أبي: أنه كان يسمع النبي صلى الله
عليه وسلم يأمر بتأخير العصر. ولا يتابع عليه. قال الحميدي: حدثنا الوليد:
حدثنا الأوزاعي: حدثني أبو النجاشي: حدثني رافع بن خديج: كنا نصلي مع النبي صلى
الله عليه وسلم العصر، ثم ننحر الجزور،
فنقسم عشر قسم، ثم نطبخ فنأكل لحماً نضيجاً قبل أن تغرب الشمس. وهذا أصح".
وقال الإمام البخاري في ((التاريخ
الكبير)) (6/61): "عبدالواحد بن نافع، أبو الرماح. سمع [ابن] رافع بن خديج.
سمع منه موسى بن إسماعيل. قال حرمي بن عمارة: حدثنا عبدالواحد بن نفيع بن علي
الكلابي: خرجت إلى المدينة فسمعت عبدالله ابن رافع بن خديج يقول: حدثني أبي: أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بتأخير العصر. وقال أبو عاصم: عن عبدالواحد بن نافع
الكلابي. وقال الحسن بن صباح: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن عبدالواحد بن نافع:
حدثني عبدالله بن رافع، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال فضل: حدثنا
أبو عاصم، عن عبدالواحد بن نافع الرماح من أهل اليمامة".
قلت: إثبات البخاري سماع
عبدالواحد من ابن رافع بن خديج لا يعني صحة حديثه؛ لأن البخاري لا ينفي سماعه،
وإنما يضعف حديثه؛ ولهذا لم يضعف الشخص نفسه، فقال: "لم يتبين أمره"! فلعله
سمع شيئاً فأخطأ فيه أو حصل له أمر في هذا الحديث الذي رواه عن ابن رافع! وقد علله
البخاري لأنه لا ينهض مع ما صح عن رافع بن خديج في ما رواه في تعجيل صلاة العصر،
والله أعلم.
والقرائن التي يُستشف منها عدم
نفي البخاري لسماع عبدالواحد قوله: "لم يتبين أمره"، وكذلك رواية جماعة
عنه. فعبدالواحد يروي قصة حصلت معه، فالحمل على أنه أخطأ أسلم من حمله قصته على
الكذب! فهو قد سمع منه، ولكنه أخطأ في حديثه ولم يتابعه عليه أحد!
ومسألة إثبات السماع عند البخاري
تحتاج إلى فهم دقيق، وقلما تنبه لها أهل العلم، فهم ينقلون ما عند البخاري
ويختصرون كلامه، فمن يقرأ كلامهم يعتمد عليه دون التدقيق في كلام البخاري!
قال مسلم في ((الكنى والأسماء)) (1/329):
"أبو الدَّجّاج، ويقال: أبو الرَّمّاح عبدالواحد بن نافع: سمع عبدالله بن
رافع بن خديج. روى عنه يعقوب بن إسحاق وأبو عاصم وحرمي بن عمارة وأبو أسامة".
قلت: فمن نظر في كلام مسلم هذا
دون أن ينظر في كلام البخاري وتعليله للحديث يصحح الحديث لأنه أثبت سماع عبدالواحد
من عبدالله بن رافع، والأمر ليس كذلك. فعبدالواحد لم يتابع في حديثه، ويمكن أنه
سمع من عبدالله بن رافع، لكن حديثه عنه لا يصح.
والحمد لله ربّ العالمين.
شاركنا تعليقك