استدراك الألباني على بعض الأئمة في علّة حديث وبيان وهمه ووهم بعضهم!
وإلزامه بعلة أخرى لهذا الحديث على منهجه أعلَّ بها حديثاً آخر!
بقلم:
أبي صهيب الحايك.
ذكر الألباني في كتابه ((خطبة
الحاجة)) (ص15) الحديث الذي أخرجه أبو داود في ((سننه)) عن عمران القطان، عن قتادة،
عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
تشهد قال: ((الحمد لله، نستعينه ونستغفره.. الحديث إلى قوله: ((عبده ورسوله))
وزاد: ((أرسله بالحقّ بشيراً ونذيراً، بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد،
ومن يعصهما؛ فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً)).
قال: "وهذا سندٌ ضعيفٌ،
وعلته أبو عياض هذا، وهو المدني. قال الحافظ في ((التقريب)): ((هو مجهول)).
هذه هي علة الحديث، وقد ذهل عنها
جماعة، أولهم فيما وقفت عليه: المنذري في ((مختصر السنن)) حيث أعلّه بعمران هذا،
فقال: ((في إسناده عمران بن داور القطان، وفيه مقال)). وتبعه على ذلك ابن القيم
وسيأتي كلامه، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/224) فقال: ((في إسناده عمران بن
داور -في الأصل: دارون وهو خطأ- أبو العوام البصري. قال عفان: كان ثقة. واستشهد به
البخاري. وقال يحي بن معين والنسائي: ((ضعيف الحديث)).
وكان أبعدهم عن الصواب الإمام
النووي -رحمه الله- حيث قال في ((شرح صحيح مسلم)) (6/160): ((إسناده صحيح))! وأعتقد
أنه انصرف ذهنه عن العلة الحقيقية التي ذكرت، وإلا فلولاها لكان الإسناد حسناً
عندي.
ثم إن في متن هذه الرواية نكارة
وهي قوله: ((ومن يعصهما)) فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن هذه اللفظة كما
في حديث عدي بن حاتم: ((أن رجلاً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع
الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس
الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله)). أخرجه مسلم (3/ 12،13) وأبو داود (1/172)
والنسائي (2/79) والبيهقي (3/216) وأحمد (4/256، 379).
فأنت ترى أنه صلى الله عليه وسلم
أنكر على الخطيب قوله: ((ومن يعصهما)) ولذلك قال ابن القيم في ((تهذيب السنن))
(3/55): ((فإن صحّ حديث عمران بن داور، فلعله رواه بعضهم بالمعنى فظنّ أن اللفظين
سواء، ولم يبلغه حديث: ((بئس الخطيب أنت))، وليس عمران بذلك الحافظ)).
قلت:
قد بينت آنفاً علة الحديث، وقد تبين لي الآن أنه لو صح إسناده لم يكن منكراً
بالنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه له أن يفعل ما ليس لنا، لا سيما وقد
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم مثل ما في هذا الحديث، فهو من خصوصياته صلى الله عليه
وسلم)). انتهى كلامه.
·
أبو عياض ليس بمجهول، بل روى له البخاري:
قلت: اعتمد الشيخ الألباني على قول
الحافظ ابن حجر في تجهيل أبي عياض هذا، وكلاهما أخطأ في ذلك! وقد ذكر ابن حجر في
((التقريب)) أن أبا عياض من الطبقة السادسة، وهذا وهم! إذ كيف يكون من السادسة
والراوي عنه ((عبد ربه)) من الرابعة؟!
وابن حجر لم يحقق حال أبي عياض
هذا، وهو أبو عياض قيس بن ثعلبة الكوفي صاحب مجاهد، وقد روى حديثه البخاري في
((صحيحه))، ولم يتنبه لهذا بعض أهل العلم فظنوا أن صاحب مجاهد هو أبو عياض عمرو بن
الأسود العنسي الشامي، وليس كذلك، وقد أكلت النَفس في تحقيق ذلك في موضع من مواضع
المتفق والمفترق.
قال يعقوب بن سفيان الفسوي في
((المعرفة والتاريخ)) (3/20): حدّثنا محمد بن عبدالرحيم قال: سألت علياً عن أبي
عياض الذي يروي عنه مجاهد والهجري وعبد ربه عن أبي عياض؟ قال: "هو واحد".
فقلت: ما اسمه؟ قال: "لا أدري".
وأبو عياض هذا من كبار التابعين
وفقهائهم أدرك عمر بن الخطاب فكان يروي عن أبي هريرة وابن عباس ويفتي في حياتهما
ويستفتى في خلافة معاوية، وكان هو ومجاهد متواريين زمن الحجاج.
وقد روى ابن أبي شيبة في ((مصنفه))
(2/4) عن وكيع، عن شعبة، عن الحكم، قال: ((كان أبو عياض مستخفياً فجاءه مجاهد يوم
عيد، فصلى بهم ركعتين ودعا)).
ورواه عبدالرزاق في ((مصنفه)) (3/301)
عن ابن التيمي وغيره، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، قال: ((كان أبو عياض ومجاهد
متواريين زمن الحجاج، وكان يوم فطر، فتكلّم أبو عياض ودعا لهم وأمّهم بركعتين)). قال:
وأخبرنا شعبة عن قتادة عن عكرمة مولى ابن عباس أنه كان يقول مثل ذلك.
قلت: فهذه الحكاية الصحيحة تثبت أن
مجاهداً كان صاحباً لأبي عياض الكوفي لا الشامي؛ لأن عمرو بن الأسود الشامي توفي
زمن معاوية، ومعاوية توفي سنة (60هـ)، وهذه القصة وقعت لمجاهد مع أبي عياض زمن
الحجاج، أي بعد سنة (70هـ)، وإمامة أبي عياض تدل على مكانته وأنه شيخ مجاهد.
والحديث الذي رواه مجاهد عن أبي
عياض عن عبدالله بن عمرو في الأسقية رواه البخاري في ((صحيحه)) (5/2124)، ورواه
أبو داود في ((السنن)) (3/817) من طريق شريك عن زياد بن فياض عن أبي عياض.
ورواه الترمذي في ((العلل)) (1/310)
من طريق ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد عن أبي عياض عن عبدالله بن عمرو.
قال الترمذي: "فقال –أي
البخاري-: هو حديث صحيح". قال محمد -يعني البخاري-: "ورواه زياد بن فياض
عن أبي عياض عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث".
وروى مسلم في ((صحيحه)) (2/817) من
طريق زياد بن فياض قال: سمعت أبا عياض، عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((صم يوماً ولك أجر ما بقي)). قال: إني أطيق
أكثر من ذلك. قال: ((صم يومين ولك أجر ما بقي)). قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: ((صم
ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي)). قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: ((صم أربعة أيام
ولك أجر ما بقي)). قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: ((صم أفضل الصيام عند الله:
صوم داود: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)).
وعليه فإن كلّ من ذكر مجاهداً
وزياد بن فياض في الرواة عن أبي عياض عمرو بن الأسود فقد أخطأ! كما فعل أبو حاتم
وابنه والمزي وابن حجر وغيرهم!
وقد روى أهل العلم في كتبهم بعض
الفتاوى عن أبي عياض من طريق عبد ربه، وهذا يؤكد أنه هو. ومن ذلك:
- ما رواه سعيد بن أبي عَروبة عن
قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن أبي هريرة قال: ((إذا سلم عليك وأنت في الصلاة
فرد)) (مصنف ابن أبي شيبة: 1/419).
- وما رواه سعيد عن قتادة عن فضالة
بن عبيد. وعن عبد ربه عن أبي عياض أنه قال: ((عدتها إذا توفي عنها زوجها عدة الحرة)).
(مصنف ابن أبي شيبة: 4/144).
- وما رواه سعيد عن قتادة عن فضالة
بن عبيد. وعن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض: ((القضاء ما قضت)). (مصنف ابن أبي
شيبة: 4/86).
- وما رواه سعيد عن قتادة عن عبد
ربه عن أبي عياض: ((أن عثمان قضى في أعور أصيبت عينه الصحيحة الدية كاملة)). (مصنف
ابن أبي شيبة: 5/369).
والخلاصة أن أبا عياض شيخ عبد
ربه هو التابعي الثقة المعروف قيس بن ثعلبة، وعبد ربه بن يزيد صدوق معروف، وحديثه
حسنٌ مستقيم.
وقد تراجع الشيخ الألباني عن
النكارة في متنه فصح الإسناد، وقد قال الألباني بأنه لو صح الإسناد لكان عنده حسن،
فها هي العلة التي أعل بها الحديث قد انتفت، فهو حديث حسنٌ إن شاء الله. وبهذا
يكون تعقب الشيخ الألباني على الإمام النووي بأنه أبعد عن الصواب غير صواب، فكلامه
هو أبعد عن الصواب. وكذلك فقد وهم من ضعفه بعمران بن داوَر، وهو صدوق لا بأس به.
·
إلزام الألباني بعلة أخرى في إسناد الحديث أعلّ بها حديثاً آخر،
وغفل في ذلك الإسناد عن العلة التي أعلّ بها هذا الحديث!!
لم يتطرق الشيخ الألباني في هذا
الحديث إلى الراوي عن أبي عياض وهو: ((عبد ربه ابن يزيد))، وجعل العلة فقط في أبي
عياض!
ولكنه ذكر حديثاً في ((الصحيحة))
رقم (471) (ص842) بالإسناد نفسه، فأعلّه بعبد ربه ولم يتكلم على أبي عياض، وهذا
منه غريبٌ!
ذكر الشيخ شاهداً لحديث الباب
أخرجه الإمام أحمد في ((مسنده)) (1/402) من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن عبد
ربه، عن أبي عياض، عن عبدالله بن مسعود: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم
ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه. وإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق
فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً، فأججوا ناراً، وأنضجوا ما
قذفوا فيها)).
قال الشيخ الألباني: "فيه
مجهول هو عبد ربه بن أبي يزيد، وإن وثقه ابن حبان. وقول الهيثمي في ((المجمع))
(10/189): "رواه أحمد والطبراني في ((الأوسط))، ورجالهما رجال الصحيح؛ غير
عمران داوَر القطان، وقد وُثق"؛ فهو خطأ؛ لأن عبد ربه هذا لم يخرج له البخاري
ومسلم شيئاً. وكذلك قول المنذري في ((الترغيب)): (3/145): "... بإسناد
حسن"؛ فغير حسن؛ لجهالة المذكور". انتهى كلامه.
قلت: حديث التشهد وهذا الحديث
بالإسناد نفسه، فضعف الشيخ الألباني الأول بأبي عياض، ولم يتكلم على عبد ربه! وضعف
الثاني بعبد ربه، ولم يتكلم على أبي عياض!!
وقد بينت أن أبا عياض هو تابعي ثقة
روى له البخاري ومسلم، وكذلك عبد ربه هذا قال فيه الحافظ ابن حجر
"مستور"، وقد تفرد بالرواية عنه قتادة، وقد عرفه ابن عيينة. قال
البخاريّ في ((التاريخ الكبير)) (6/77): "عبد ربّه بن أبي يزيد أو ابن يزيد
عن أبي عياض. روى عنه قتادة. قال علي: عَرَفَهُ ابن عُيينة، قال: كان يبيع الثياب.
نسبه همّام".
وقال الآجُرّي في ((السؤالات))
(2/72): سُئِلَ أبو داود عن عبد ربه الذي حدّث عنه قتادة؟ فقال: "حدّثونا عن
عليّ، قال: قلت لسفيان –يعني ابن عيينة-: تعرف عبد ربه الذي روى عنه قتادة، هو
الذي روى عن أبي عياض؟ قال: نعم، كان جارنا".
قلت: حديثه عن أبي عياض مستقيم،
وهو صدوق إن شاء الله.
وقد ترجم البخاري في ((صحيحه))
(5/2381) بهذا الحديث، فقال: ((باب ما يتقى من محقرات الذنوب)).
وتعقب الشيخ الألباني على الهيثمي
والمنذري مُتَعقبٌ، فالحديث حسن. قال الحافظ في ((فتح الباري)) (11/329): "أخرجه
أحمد بسندٍ حسنٍ".
قلت: وهذا يرد على ابن حجر نفسه في
تجهيله لأبي عياض! فكيف حسّن إسناده وهو يجهله؟!
وقد روي من طريق آخر، رواه
عبدالرزاق في ((مصنفه)) (11/184) عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن
ابن مسعود قال: ((مثل محقرات الذنوب كمثل قوم سفر نزلوا بأرض قفر معهم طعام لا
يصلحهم إلا النار، فتفرقوا فجعل هذا يجيء بالروثة ويجيء هذا بالعظم ويجيء هذا
بالعود حتى جمعوا من ذلك ما أصلحوا به طعامهم، فكذلك صاحب المحقرات يكذب الكذبة
ويذنب الذنب ويجمع من ذلك ما لعله أن يكبه الله به على وجهه في نار جهنم)).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ
العالمين.
شاركنا تعليقك