الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«تَكحيلُ العُيُون» فِي بيانِ حالِ «عُمرَ بنِ هَارون»!

«تَكحيلُ العُيُون» فِي بيانِ حالِ «عُمرَ بنِ هَارون»!

كَان عَطاء بن أبي رَباحٍ يَكره أن تُعطى الدَّراهم فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ! = يعني هناك من كان يُفتي بها في زمانه!

فقد أورد ابن أبي شيبة في الباب الذي ذكره "فِي إِعْطَاءِ الدِّرْهَمِ فِي زَكَاةِ الفِطْرِ" أثر عطاءٍ، فقالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: «أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعْطِيَ فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ وَرِقًا».

فطالما أن عطاءً كان يكره إعطاء الدراهم في صدقة الفطر، فلماذا أورد ابن أبي شيبة هذا الأثر فيمن كان يُعطي الدراهم في زكاة الفطر؟!

قلت:

فِي الصِّحَاحِ: "الوَرِقُ: الدَّرَاهِمُ المَضْرُوبَةُ".

وبحسب هذا الأثر فقد كان عطاء بن أبي رباح الإمام الفقيه مفتي مكة في زمانه كان يكره إعطاء الدراهم في زكاة الفطر = وهذا يعني أن مسألة إعطاء الدراهم في زكاة الفطر مسألة قديمة، وكان هناك من يُفتي بها، وهذا هو وجه إيراد ابن أبي شيبة هذا الأثر في هذا الباب = فكأنه يقول: طالما أن عطاءً كره هذا فهناك من لم يكن يكرهه، وكانوا يجيزونها.

فهذه المسألة قديمة، فعطاء ولد في خلافة عثمان سنة (27هـ) أو (30هـ)، وسمع من بعض الصحابة كابن عباس، وجابر بن عبدالله، وأَبِي هُرَيْرَةَ، وابن الزبير، وعائشة - رضي الله عنهم -، وكبار التابعين كعروة بن الزبير، ومُجاهد، وعُبيد بن عُمير، وغيرهم، وانتهت إليه الفتوى في الحَرَم.

فالمسألة طُرقت في زمن عطاء، وكانت وفاته على الأرجح سنة (114هـ).

وقد روى ابنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ في صدقة الفطر قَالَ: "مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ".

فهو يرى إخراجها من الطعام، وقد كره إخراجها من الدراهم في مقابل مَنْ لمْ يَرَ بذلك بأساً.

والكراهة لا تعني الحُرمة أو المنع.

وانظر إلى هذا الخلاف: "أنه كان يكره"... فلم يُشنِّع على من لم يكن يكره ذلك، ولم يُبدّعه أو يُفسّقه! أو يقول: "هذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم" ونحو ذلك!

وكم من مسألة قال فيها بعض التابعين بأنه لا بأس بها، وخالفهم آخرون وقالوا بكراهتها!

ورأي عطاء لا شك أنه في مقابل من يُعتد بهم في الفتوى، وإلا لم يلتفت إلى هذه المسألة، ولولا أن بعض الأئمة قالوا بها في زمانه لم يُقل رأيه.

وَقَدْ كَانَ بِمَكَّةَ مَعَ عَطَاءٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِيْنَ من أئمة الفتوى: مُجَاهِدٌ، وَطَاوُوْسٌ، وَعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَابنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ المَكِّيُّ، وَآخَرُوْنَ.

فقد يكون من أجاز ذلك بعض فقهاء مكة، وقد يكون غيرهم كما ثبت عن الحسن في البصرة، وكما أخبر أبو إسحاق السبيعي أنه أدرك من يفعل ذلك في الكوفة.

وقد روى ابن زنجويه في «الأموال» في باب «الرُّخْصَةُ فِي إِخْرَاجِ الدَّرَاهِمِ بِالقِيمَةِ» عن مُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ الرُّومِيُّ، عن زُهَيْرٍ أَبي خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الهَمْدَانِيِّ قَالَ: «كَانُوا يُعْطُونَ فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ بِحِسَابِ مَا يُقَوَّمُ مِنَ الوَرِقِ».

وروى عن مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الفِريابي، عن سفيان، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الحَسَنِ، قَالَ: «إِذَا أَعْطَى الدِّرْهَمَ مِنْ زَكَاةِ الفِطْرِ أَجْزَأَ عَنْهُ».

قَالَ سُفْيَانُ: "إِذَا أَعْطَى قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَجْزَأَ عَنْهُ".

ثم قال ابن زنجويه: "القِيمَةُ تُجْزِي فِي الطَّعَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالطَّعَامُ أَفْضَلُ".

·       حالُ الأثر!

ولما رأيناه في هذا الزمان من الهجموم على الآثار وتضعيفها بأدنى شيء! فسيخرج علينا بعضهم ويقول: هذا الأثر لا يصح! فهو من رواية عمر وهو: ابن هارون البلخي، وهو متروك الحديث، بل ومُتّهم!

فأقول:

قال يَحْيَى بن مَعِيْنٍ: "لَيْسَ هو ثِقَةٌ".

وقال مرة: "لَيْسَ بِشَيْءٍ".

وقال مرة: "عُمَر بن هارون، كَذَّابٌ، قَدِمَ مَكَّة، وقد مات جَعفَر بن محمد، فَحَدَّثَ عنه".

وَقَالَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ بنِ حِبَّانَ: وَجَدتُ بِخَطِّ جَدِّي، قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا: "عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ البَلْخِيُّ: كَذَّابٌ، خَبِيثٌ، لَيْسَ حَدِيْثُهُ بِشَيْءٍ، قَدْ كَتَبتُ عَنْهُ، وَبِتُّ عَلَى بَابِهِ بِبَابِ الكُوْفَةِ، وَذَهَبْنَا مَعَهُ إِلَى النَّهْرَوَانِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا أَمرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَرَّقْتُ حَدِيْثَهُ كُلَّهُ، مَا عِنْدِي عَنْهُ كَلِمَةٌ، إِلاَّ أَحَادِيْثُ عَلَى ظَهْرِ دَفْتَرٍ خَرَّقْتُهَا كُلَّهَا".

قُلْتُ لأَبِي زَكَرِيَّا: مَا تَبَيَّنَ لَكُم مِنْ أَمرِهِ؟

قَالَ: "قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ - وَلَمْ أَسْمَعْه مِنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَشْهُوْرٌ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ - قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا، فَحَدَّثَنَا عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، فَنَظَرْنَا إِلَى مَوْلِدِهِ، وَإِلَى خُرُوْجِه إِلَى مَكَّةَ، فَإِذَا جَعْفَرٌ قَدْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوْجِهِ".

وقال يَحْيَى بنِ المُغِيْرَةِ الرَّازِيِّ: "سَمِعْتُ ابنَ المُبَارَكِ يَغْمِزُ عُمَرَ بنَ هَارُوْنَ فِي سَمَاعِه مِنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ عُمَرُ يَرْوِي عَنْهُ نَحْوَ سِتِّيْنَ حَدِيْثاً".

وقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُلْتُ لأَبِي: إِنَّ أَبَا سَعِيْدٍ الأَشَجَّ حَدَّثَنَا عَنْ عُمَرَ بنِ هَارُوْنَ، فَقَالَ: "هُوَ ضَعِيْفُ الحَدِيْثِ، بَخَسَهُ ابنُ المُبَارَكِ بَخْسَةً"، فَقَالَ: "يَرْوِي عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ قَدِمْتُ قَبْلَ قُدُوْمِهِ، فَكَانَ جَعْفَرٌ قَدْ تُوُفِّيَ".

قال الذهبي معلقاً على هذا في «السير»: "قُلْتُ: هَذَا مُنْقَطِعٌ عَنِ ابنِ المُبَارَكِ، ولا يَصِحُّ، فَقَدْ قَدِمَ ابنُ المُبَارَكِ وَحَجَّ قَبْلَ مَوْتِ جَعْفَرٍ بِسَنَوَاتٍ".

قلت: فحاصل اتهامه بأنه روى عن جعفر بن محمد، وجعفر كان قد توفي قبل دخول عمر مكة!

وابن المبارك من أقران عمر بن هارون، وكان مولد ابن المبارك سنة (118هـ)، ورحل سنة (141هـ) لطلب العلم والجهاد والحج، وكان موت جعفر الصادق سنة (148هـ).

والظاهر أنه دخل مكة قبل وفاة جعفر الصادق، ومما يدلّ على ذلك أنه سمع من ابن جُريج في مكة، وقد صاهره، وابن جُريج توفي سنة (150هـ)، وقيل إنه لزمه اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً ولهذا أكثر عَنْهُ.

لكن قال الذهبي في مدة إقامته في مكة: "مَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ، هَذَا إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ نَحْوَ سَنَةٍ".

وقَالَ الخَطِيْبُ: وَذَكَرَ مُسْلِمُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ البَلْخِيُّ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ تَزَوَّجَ أُمَّ عُمَرَ بنَ هَارُوْنَ، فَمِنْ هُنَالِكَ أَكْثَرَ السَّمَاعَ مِنْهُ.

وَقَالَ ابنُ عَدِيٍّ: يُقَالُ: إِنَّهُ لَقِيَ ابنَ جُرَيْجٍ، وَكَانَ حَسَنَ الوَجْهِ، فَسَأَلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَلَكَ أُخْتٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهِ، فَقَالَ: لَعَلَّ هَذَا الحُسْنَ يَكُوْنُ فِي أُخْتِهِ كَمَا هُوَ فِي أَخِيْهَا. فَتَفَرَّدَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ لَمْ يَرْوِهَا غَيْرُه.

قلت: وعلى فرض إنه قد أقام بمكة سنة واحدة يُستبعد أن يكون ذلك قبل وفاة ابن جريج بسنتين وكان جعفر الصادق قد توفي؛ لأنه إما أن ابن جريج تزوج أم هارون أو أخته - وإن كنت أميل إلى أنه تزوج أمه -.

وابن جريج وُلد بعد سنة سبعين، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاوَزَ المِائَةَ، واستبعد الذهبي ذلك، فقال: "وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ بَلْ وَلا جَاوَزَ الثَّمَانِينَ".

وعلى فرض أنه لم يكن قد جاوز الثمانين فكان قد جاوز السبعين بلا شك، ويستبعد أن يكون تزوج أم عمر أو أخته في أواخر عمره وهو قد جاوز السبعين!

والذي أراه أنه دخل مكة قبل سنة (140هـ) = أي قبل وفاة جعفر الصادق بسنوات، وحينها يكون قد سمع منه، والله أعلم.

قال عَبْدُاللَّه بنُ سُلَيْمَان بن الأشعث ابن أبي داود: حَدَّثَنَا سَعِيْدُ بنُ زَنْجَلَ البلخيّ، قَالَ: سَمِعْ صَاحِباً لَنَا - يُقَالُ لَهُ: بُور بن الفَضْلِ -، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ، وَذَكَرَ عُمَرَ بنَ هَارُوْن، فقال: "كان عُمَر عندنا أحسن أخذاً للحديث من ابن المبارك".

وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ: "عمر بن هارون البلخي أبو حفص الثقفي كَانَ كَثِيْرَ السَّمَاعِ. رَوَى عَنْهُ: عَفَّانُ، وَقُتَيْبَةُ بن سعيدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ من أهل الحديث. وَيُقَالُ: إِنَّ مُرْجِئَةَ بَلْخَ كَانُوا يَقَعُوْنَ فِيْهِ، وَكَانَ أَبُو رَجَاءٍ - يَعْنِي: قُتَيْبَة - يُطْرِيهِ، وَيُوَثِّقُهُ"

وقال أَبو رَجَاءٍ قُتيبة بن سعيد البلخي: "كتبت عَنْ عمر بن هارون وحده أكثر من ثلاثين ألفاً".

وقال قتيبة: "كَانَ عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ شَدِيْداً عَلَى المُرْجِئَةِ، وَيَذكُرُ مَسَاوِئَهُم وَبَلاَيَاهُم، فَكَانَتْ بَيْنَهُم عَدَاوَةٌ لِذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالقِرَاءاتِ، وَكَانَ القُرَّاءُ يَقْرَؤُونَ عَلَيْهِ، وَيَخْتَلِفُوْنَ إِلَيْهِ فِي حُرُوْفِ القُرْآنِ".

وقال قتيبة: سَأَلْتُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بنَ مَهْدِيٍّ، فَقُلْتُ: إِنَّ عُمَرَ بنَ هَارُوْنَ قَدْ أَكْثَرْنَا عَنْهُ، وَبَلَغَنَا أَنَّكَ تَذْكُرُهُ!

قَالَ: "أَعُوذُ بِاللهِ، مَا قُلْتُ فِيْهِ إِلاَّ خَيْراً".

قُلْتُ: "بَلَغَنَا أَنَّكَ قُلْتَ: رَوَى عَنْ فُلاَنٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ"!

قَالَ: "يَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا قُلْتُ أَنَا ذَا قَطُّ، وَلَوْ رَوَى مَا كَانَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ".

وقَالَ أبو بكرٍ المَرُّوْذِيُّ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِاللهِ أحمد بن حنبل عَنْ عُمَرَ بنِ هَارُوْنَ البلخي، فَقَالَ: "مَا أَقدِرُ أَنْ أَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، كَتَبْتُ عَنْهُ حَدِيْثاً كَثِيْراً".

فَقِيْلَ لَهُ: قَدْ كَانَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَعَ ابنِ مَهْدِيٍّ؟

قَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهِ"!

فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ مَنْ يَحكِي عَنِ ابنِ مَهْدِيٍّ: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِم عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ البَصْرَةَ وَهُوَ شَابٌّ، فَذَاكَرَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَكَتَبَ عَنْهُ ثَلاَثَةَ أَحَادِيْثَ:

مِنْهَا: حَدِيْثٌ عَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بنِ عَبْدِاللهِ الحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عَمْرٍو فِي شُرْبِ العَصِيْرِ.

وَمِنْهَا: عَنْ عَبْدِالمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي الحَفَّارِ يَنْسَى الفَأْسَ فِي القَبْرِ، وَحَدِيْثٌ آخَرُ.

فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ زَمَانٍ، قَدِمَ، فَأَتَى رَجُلٌ عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّكَ كَتَبْتَ عَنْ هَذَا أَشْيَاءَ! فَأَعْطَاهُ الرُّقعَةَ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيْثِ يَحْيَى بنِ أَبِي عَمْرٍو، فَقَالَ: "لَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئاً، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الحَدَاثَةِ".

وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيْثِ عَبْدِالمَلِكِ، فَقَالَ: "لَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ، إِنَّمَا حَدَّثَنِيْهِ فُلاَنٌ، عَنْهُ"، فَأَتَى الرَّجُلُ ابنَ مَهْدِيٍّ، فَأَخْبَرَهُ، فَنَالَ مِنْهُ، وَتَكَلَّمَ.

فَقَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ: "كَانَ أَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ. وَرَوَى عَنِ: الأَوْزَاعِيِّ".

قِيْلَ لَهُ: فَتَرْوِي عَنْهُ؟

فَقَالَ: "قَدْ كُنْتُ رَوَيتُ عَنْهُ شَيْئاً".

وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُوْلُ: "عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ لاَ أَرْوِي عَنْهُ، وَقَدْ أَكْثَرتُ عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ ابنُ مَهْدِيٍّ يَقُوْلُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيْمَةٌ عِنْدِي، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي بِأَحَادِيْثَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَرَّةً أُخْرَى، حَدَّثَنِي بِهَا عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أُوْلِئَكَ، فَتَرَكْتُ حَدِيْثَهُ".

قلت: قد تقدّم أن قتيبة بن سعيد سأل ابن مهدي عن كلامه في عمر بن هارون فنفى أن يكون قد تكلّم فيه.

والإمام أحمد لم يسمع هذه من ابن مهدي، وإنما نُقلت له وبلغته! وكأن كلام ابن مهدي في عمر كان منتشراً، وقد سبق ما نقله ابن معين عن ابن مَهْدِيٍّ، وقال: "وَلَمْ أَسْمَعْه مِنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَشْهُوْرٌ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ"!

ولهذا سأل قتيبة عبدالرحمن نفسه عن كلامه فيه، فنفاه، وهذا يدفع كل ما نُقل عن ابن مهدي فيه، فنفي ابن مهدي يُقدَّم على ما نُقل عنه من طرق مجهولة!

فابن معين، وأحمد قد نقلا عن ابن مهدي كلامه في عمر ولم يسمعا ذلك من ابن مهدي، وإنما نُقل ذلك إليهم، وكان ذلك مشهوراً عنه، لكن ابن مهدي قد نفى كلّ ذلك كما نقل عنه قتيبة.

وعليه فتكون مسألة اتهامه وتكذيبه قد سقطت، ولا دليل عليها!

وعمر بن هارون (128 - 194هـ) من أقران ابن مهدي (135 - 198هـ)، وقد التقيا، ولم يتهمه ابن مهدي، لكن يبدو أنه لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيْمَةٌ عِنْده كما نقل عنه الإمام أحمد.

وكأن البخاري لم يعبأ باتهام عمر، واكتفى بقوله: "عُمَرُ بنُ هَارُونَ البَلْخِيُّ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ".

وقال الترمذي: وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يعني: البخاري - عَنْ عُمَرَ بنِ هَارُونَ؟ فَقَالَ: "هُوَ مُقَارِبُ الحَدِيثِ، وَكَانَ عَلِيُّ بنُ عَبْدِاللَّهِ يَحْكِي عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ فِيهِ شَيْئًاً. وَكَانَ قُتَيْبَةُ يَحْكِي عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ".

قلت: ما حكاه ابن المديني عن ابن مهدي هو ما كان مشتهراً بين الناس، وما نقله قتيبة هو ما سمعه من ابن مهدي، وهو الذي يُقدّم.

وقال عَبْدالرَّحْمَن بن يُوسُف بن خراش، قَالَ: "عُمَر بن هارون البلخي، قَالَ ابن المبارك: هو كذاب".

قلت: لم يُصرّح ابن المبارك بهذا، وكأن ابن خراش بناه على ما تقدم من أن ابن المبارك طعن في سماعه من جعفر بن محمد! وقد رددنا ذلك.

والظاهر أن كلّ من تكلّم فيه تبع ابن معين في اتهامه له!

قال صالح جزرة: "كان كذاباً"!

ورَوَى أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ الأَبَّارُ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ زُنَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ: "أَلْقَيْتُ مِنْ حَدِيْثِي سَبْعِيْنَ أَلْفاً: لأَبِي جُزْءٍ عِشْرِيْنَ أَلْفاً، وَلِعُثْمَانَ البُرِّيِّ كَذَا وَكَذَا".

فَقَالَ: يَا أَبَا غَسَّانَ! مَا كَانَ حَالُهُ؟

قَالَ: "قَالَ بَهْزٌ: أَرَى يَحْيَى بنَ سَعِيْدٍ حَسَدَهُ! فَقَالَ: أَكْثَرَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ!" مَنْ لَزِمَ رَجُلاً اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً، لاَ يُرِيْدُ أَنْ يُكْثِرَ عَنْهُ!".

قلت: لا أظن يحيى القطان يحسده! وإنما تكلّم فيه لتفرده عن ابن جريج!

نعم، إكثاره عنه لملازمته لا غُبار عليه، لكنه ينفرد عنه وعن غيره بالمنكرات!

قال الخليلي: "عُمَرُ بنُ هَارُونَ البَلْخِيُّ سَمِعَ مَالِكًا، وَالثَّوْرِيَّ، وَكُبَرَاءَ العِرَاقِ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ، وَيَتَفَرَّدُ بِأَحَادِيثَ عَنْ سُفْيَانَ، وَغَيْرِهِ، لَكِنَّ الْأَجِلَّاءَ رَوَوْا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَغَيْرِهِمَا، قَدِيمُ المَوْتِ، وَرَوَى عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ حَدِيثًا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، مُسْنَدًا وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ".

وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ ابنُ حِبَّانَ: "كَانَ مِمَّنْ يَرْوِي عَنِ الثِّقَاتِ المُعْضِلاَتِ، وَيَدَّعِي شُيُوْخاً لَمْ يَرَهُم. وَكَانَ ابنُ مَهْدِيٍّ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيْهِ".

قلت: لم يثبت أنه ادّعى شيوخاً لم يرهم! وهَذِهِ رِوَايَةُ قُتَيْبَةَ عَنِ ابنِ مَهْدِيٍّ.

قَالَ ابنُ حِبَّانَ: "قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو السَّوِيْقِيُّ: شَهِدتُ عُمَرَ بنَ هَارُوْنَ بِبَغْدَادَ وَهُوَ يُحَدِّثُهُم، فَسُئِلَ عَنْ حَدِيْثٍ لابْنِ جُرَيْجٍ، رَوَاهُ عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، لَمْ يُشَارَكْ فِيْهِ، فَحَدَّثَهُم بِهِ، فَرَأَيتُهُم مَزَّقُوا عَلَيْهِ الكُتُبَ".

قلت: هو غير متقن للحديث، وكان يَهم كثيراً.

ثُمَّ قَالَ ابنُ حِبَّانَ: "كَانَ صَاحِبَ سُنَّةٍ، وَفَضْلٍ، وَسَخَاءٍ، وَكَانَ أَهْلُ بَلَدِهِ يُبْغِضُونَهُ لِتَعَصُّبِهِ فِي السُّنَّةِ، وَذَبِّهِ عَنْهَا، وَلَكِنْ كَانَ شَأْنُهُ فِي الحَدِيْثِ مَا وَصَفْتُ، وَالمَنَاكِيْرُ فِي حَدِيْثِهِ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ فِيْهِ.

وَقَدْ حَسَّنَ القَوْلَ فِيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوْخِنَا، كَانَ يَصِلُهُم فِي كُلِّ سَنَةٍ بِصِلاَتٍ كَبِيْرَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالثِّيَابِ، وغيرها، وَيَبْعَثُهَا إِلَيْهِم مِنْ بَلْخَ إِلَى بَغْدَادَ فِي كُلِّ سَنَةٍ".

قلت: نعم، في حديثه مناكير ينفرد بها، ولهذا تركوا حديثه.

قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُوْسَى الرازي - وقِيْلَ لَهُ: لِمَ لاَ تُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بنِ هَارُوْنَ؟ فَقَالَ: "النَّاسُ تَرَكُوا حَدِيْثَهُ".

وقال شعيب بن رجاء المكتب الرازي: سمعتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُوْسَى يقول: "كَتَبتُ عَنْ عمر بن هارون مثل ذي - يعني: حُزْمَةً -، فلا أُحَدِّثُ عَنْهُ بِشَيْءٍ".

وقال ابن سعد في "تسمية الفقهاء والمحدّثين من أهل خراسان": "عمر بن هارون البلخي".

وقال: "عمر بن هارون البلخي: روى عن ابن جريج وغيره، قد كتب الناس عنه كتاباً كثيراً، وتركوا حديثه".

وَقَالَ صَالِحٌ جَزَرَةُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الحَافِظُ: "مَتْرُوْكُ الحَدِيْثِ".

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الجَوْزَجَانِيُّ: "لَمْ يَقنَعِ النَّاسُ بِحَدِيْثِهِ".

وقال عبدالله بن علي بن عبدالله المديني: سألت أبي عن عمر بن هارون البلخي، فَضَعَّفَهُ جِدّاً.

وَقَالَ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ: "فِيْهِ ضَعْفٌ".

وَقَالَ العِجلي، والدَّارَقُطْنِيُّ: "ضَعِيْفٌ".

وقال البيهقي: "ليس بالقوي".

وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: "لاَ شَيْءَ، حَدَّثَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَشُعْبَةَ بِالمَنَاكِيْرِ".

وذكره أبو العرب، والبخاري، والعقيلي، وابن شاهين، والبلخي، والدولابي، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة وأبو إسحاق الحربي، وأبو علي الطوسي في جملة الضعفاء.

وَقَالَ الترمذي فِي «جَامِعِهِ» - وروى له حديثاً -: سَمِعْتُ مُحَمَّداً يَقُوْلُ: "مُقَارَبُ الحَدِيْثِ، لاَ أَعْرِفُ لَهُ حَدِيْثاً لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، إِلاَّ هَذَا... وَرَأَيْتُ مُحَمَّداً حَسَنَ الرَّأْيِ فِيْهِ".

قال الذهبي في «السير»: "قُلْتُ: مِمَّنْ قَوَّى أَمرَهُ: ابنُ خُزَيْمَةَ، فَرَوَى لَهُ فِي «المُخْتَصَرِ» حَدِيْثاً فِي البَسْمَلَةِ".

وقال أيضاً: "إِلاَّ أَنَّهُ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ سَيِّئُ الحِفْظِ، فَما يَرْويه ليس حُجَّةً وَلا عُمدَةً".

وقال في «الميزان»: "وكان من أوعية العلم على ضعّفه وكثرة مناكيره، وما أظنه ممن يتعمد الباطل".

قلت: وخلاصة أمره أنه ضعيف، وينفرد بالمناكير عن الثقات، ولم يثبت أنه كان يكذب!

وكأن سبب ضعّفه أنه كان معتنياً بالقراءات فلم يبذل نفسه للحديث فصار سيء الحفظ، ووقع في حديثه المنكرات.

فلا يُحتج به فيما انفرد به في الأحاديث المسندة، وأما الآثار والموقوفات فتُقبل منه إن لم تكن منكرة، وخاصة فيما يرويه عن ابن جريج، فهو قد لازمه؛ لأن ابن جريج تزوج أمّه، وكانت أُمَّهُ تُعِيْنُهُ عَلَى الكِتَابِ.

وقيل إنه تَزَوَّجَ بِأُخْتِهِ، فَتَفَرَّدَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ لَمْ يَرْوِهَا غَيْرُه.

فما يرويه عن ابن جريج من آثار وفتاوى فيُحتمل منه ويُقبل ولا يُرد مثل الأحاديث المرفوعة.

وقد روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» روايات كثيرة من فتاوى عطاء وغيره عن عُمَرَ بنِ هَارُونَ.

فروى عنه عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وروى كذلك عنه عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، وعُبَيْدِاللهِ بنِ يَزِيدَ وغيرهم.

روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» في باب «بِأَي صَاعٍ يُعْطَى فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ؟» عن عُمَرَ بنِ هارونَ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «إِنْ أَعْطَيْتَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْزَأَ عَنْك، وَإِنْ أَعْطَيْتَ بِالمُدِّ الَّذِي تَقُوتُ بِهِ أَهْلَك أَجْزَأَ عَنْك».

ورواه عن مُحَمَّدِ بنِ بَكْرٍ البُرْساني، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: «أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تُعْطِيَ بِمِكْيَالِكَ اليَوْمَ بِمِكْيَالٍ تَأْخُذُ بِهِ وَتَقْتَاتُ بِهِ».

قلت: فهذه الآثار والفتاوى التي يرويها عُمر بن هارون لا شذوذ فيها ولا نكارة، وهي مقبولة، ويحتج بها أهل العلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب: د. خالد الحايك.

29 رمضان 1444هـ.

شاركنا تعليقك