الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«بُستان المَعرفة» في حديث «العِتق والمباهاة والدُنُوّ عَشِيَّةَ عَرَفَة». ومعه: «التَّنبيه» على كيفية تخريج مُسلمٍ لأحاديث «مَخرمة بن بُكير عن أبيه»!

«بُستان المَعرفة» في حديث «العِتق والمباهاة والدُنُوّ عَشِيَّةَ عَرَفَة».

ومعه: «التَّنبيه» على كيفية تخريج مُسلمٍ لأحاديث «مَخرمة بن بُكير عن أبيه»!

 

·       قاعدة في العلل:

من أهم قواعد التعليل عند أهل النّقد: التعليل بالنظر إلى أصحاب الراوي، وقد أصّلوا هذه المسألة في كتبهم، ولهذا اعتنى بها الحافظ ابن رجب في شرحه لكتاب "علل الترمذي"، فذكر طبقات الأصحاب وكلام أهل العلم في تقديمهم مطلقاً وعند الاختلاف.

ولهذا تجدهم يرجحون بين اختلافات هؤلاء الرواة على شيخهم، فإذا زاد بعضهم - وإن كان ثقة - على غيره فإنهم لا يقبلون زيادته مطلقاً، وإنما ينظرون إلى القرائن لقبولها، وإلا ردّوها.

وكذلك تفرد بعض الأصحاب بحديث عن الشيخ! فينظرون أيضاً إلى حال هذا المتفرد بين الأصحاب، ثم بعد ذلك ينظرون إلى القرائن التي تجعلهم يقبلون تفرده.

وقد أشار أهل النقد أيضاً إلى مسألة مهمة تتعلق بهؤلاء الأصحاب، وهي: تفرد راو ما عن شيخ معروف له من الأصحاب حملوا عنه حديثه كله، فيأتي راو لم يصحبه، أو قد سمع منه شيئاً فينفرد بحديث عن أؤلئك الأصحاب!! فأين كان هؤلاء الأصحاب الذين لا يفارقون الشيخ عن ذلك الحديث؟!!

فكيف إذا تفرد راو ليس من أهل بلد الشيخ بحديث لا يعرفه أصحاب الشيخ ولا أهل بلده؟!

فهذه القاعدة المهمة لها اعتبارها عند أهل النقد وخاصة فيمن يتفرد بحديث عن محدّث ليس من بلده، ولهذا كان يركّز الإمام البخاري على مسألة السماع بين الرواة وخاصة فيمن اختلفت بلدانهم.

وهذا لا يعني أن نردّ كل حديث يتفرد به راو عن شيخ ما كما قد يتوهمه من يقرأ هذا الكلام! وإنما لا بدّ من النظر في شهرة الشيخ وشهرة أصحابه، وكذلك النظر إلى الطبقة التي يتفرد فيها الراوي بالحديث، وكذلك النظر في بلده وبلد من تفرد عنه، ثم النظر في كلام أهل العلم في حاله.

ولتوضيح هذا نسوق بعض الأمثلة لتجلية هذه القاعدة:

قال ابن أبي حاتم في "علل الحديث" (3/302) (886) وسمعتُ أَبِي وذكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ قُرَّانُ ابن تَمَّام، عَنْ أيمَنَ بنِ نَابِل، عَنْ قُدامَةَ الْعَامِرِيِّ؛ قَالَ: «رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يطوفُ بِالبَيْتِ، يَسْتَلِمُ الحَجَر بِمِحْجَنِه».

فسمعتُ أَبِي يَقُولُ: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الحديثَ عَنْ أَيْمَنَ إِلا قُرَّانٌ، وَلا أَرَاهُ مَحْفُوظًا، أَيْنَ كَانَ أصحابُ أيمَنَ بنِ نَابِل عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟!".

قلت: قران ثقة، لكن تفرده بهذا الحديث عن أيمن لم يقبله أبو حاتم؛ لأن الحديث لا يُعرف عند أصحاب أيمن، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عُيَيْنَة، وأبو خَالِد سُلَيْمان بْن حيان الأحمر، وأبو دَاوُد سُلَيْمان بْن داود الطيالسي، وأبو عاصم الضحاك بْن مخلد النبيل، وغيرهم.

فتفرّد قران به، وهو لا يعرف في أصحاب أيمن، ولا يعرف أصحاب أيمن هذا الحديث جعل أبا حاتم يردّه ويعلله!!

وقال ابن أبي حاتم أيضاً في "العلل" (5/406) (2078) وسألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رواه ابن جُرَيج، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبة، عَنْ سُهَيْل بْن أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ... ، الحديثَ؟».

فَقَالا: "هَذَا خطأٌ؛ رَوَاهُ وُهَيْب، عَنْ سُهَيْل، عَنْ عَوْن بن عبد الله، مَوْقُوفٌ. وَهَذَا أصحُّ.

قلتُ لأَبِي: الوَهَمُ ممَّن هو؟

قَالَ: يَحتملُ أَنْ يكونَ الوَهَمُ مِنِ ابْنِ جُرَيج، ويَحتملُ أَنْ يكونَ مِنْ سُهَيْل، وَأَخْشَى أَنْ يكونَ ابْنُ جُرَيج دَلَّس هَذَا الحديثَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَة، وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ مُوسَى؛ أخذَه مِنْ بعضِ الضِّعَفَاءِ.

وسمعتُ أَبِي مَرَّةً أُخْرَى يَقُولُ: لا أَعْلَمُ رَوى هَذَا الحديثَ عَنْ سُهَيْلٍ أَحَدً إِلا مَا يَرْوِيهِ ابْنُ جُرَيج، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَة، وَلَمْ يذكرِ ابْنُ جُرَيج فِيهِ الخبرَ، فَأَخْشَى أَنْ يكونَ أَخَذَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى؛ إِذْ لَمْ يَرْوِهِ أَصْحَابُ سُهَيل، لا أعلم رُوي هذا الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ أَبِي هريرة.

ورواه إِسْمَاعِيلُ بْنُ عيَّاش - هَذَا الحديثَ - فَقَالَ: حَدَّثَنِي سُهَيْل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ يذكرُ فيه الخبرَ.

قَالَ أَبِي: فما أدري ما هَذَا؟! نفسُ إِسْمَاعِيل ليس براويةٍ عَنْ سُهَيْل؛ إنما روى عنه أحاديثَ يسيرة".

قلت: فانظر كيف ردّ أبو حاتم رواية من رواه عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة؛ لأن هذا الحديث لا يعرف عند أصحاب سهيل بن أبي صالح! ورد كذلك رواية إسماعيل بن عيّاش التي يُصرح فيها بالسماع أيضاً؛ لأنه لم يكن راوية لحديث سهيل، أي لم يكن من أصحابه المكثرين عنه، فهذه قرينة لرد تفرده.

وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (6/49) (2307) وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ ابنُ أَبِي عُمَرَ العَدَني، عَنِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَينة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي خِداش، عَنِ ابْنِ عبَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي المَمْلوكين: أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ...، الحديثَ؟"

قَالَ أَبِي: "لم يكَن هَذَا الحديثُ عند الحُمَيدي، ولا عند عليٍّ المَديني، ولم نجِدهُ عند أحدٍ من أصحاب ابْن عُيَينة".

قَالَ أَبِي: "ولم أزل أُفَتِّشُ عَنْ هَذَا الحَدِيث، وهَمَّني جداً، حتى رأيتُ فِي موضع: عَنِ ابْن عُيَينة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بنِ أَبِي خِداش، عن ابن عباس، موقوفً؛ فقلتُ: إنَّ رفعَهُ ليس له معنًى؛ والصَّحيحُ موقوفٌ.

وقد رَوَاهُ ابنُ جُرَيج، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي خِداش، عَنِ ابْنِ عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ المَقْبَرَةُ هَذِهِ، يَعْنِي: مَقْبَرَةَ مَكَّةَ.

قَالَ أَبِي: فلم يُعْرَفْ بذي الإسناد إلا هَذَا وحدَهُ حتى كتبتُ عَنِ ابْن أَبِي عُمَر ذاك الحديثَ".

قلت: ردّ أبو حاتم تفرد ابن أبي عمر العدني بهذا الحديث عن سفيان بن عيينة؛ لأنه لا يوجد عند أشهر أصحابه مثل الحميدي!! فلو كان هذا الحديث عند ابن عيينة لوجدناه عند أخص أصحابه.

ثم لما وجد طريقاً لهذا الحديث عن ابن عيينة، لكنه ليس مرفوعاً، حكم بأن الصواب فيه الوقف، وقد أخطأ ابن أبي عمر برفعه.

فهذه أمثلة تأصيلية لهذه القاعدة التي تكلمنا عليها في "علم العلل"، وسنمشي عليها في مثال لحديث أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".

قال الإمام مسلمٌ - رحمه الله- في "صحيحه" (2/982) (1348) حَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ يُوسُفَ، يَقُولُ: عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟».

·       تخريج الحديث:

رواه النسائي في "السنن الكبرى" (4/152) (3982) عن عِيسَى بن إِبْرَاهِيمَ بنِ مَثْرُودٍ المِصْرِيّ.

ورواه ابن ماجه في "سننه" (2/1003) (3014) عن هَارُونُ بن سَعِيدٍ المِصْرِيّ أَبي جَعْفَرٍ.

 ورواه أبو عوانة في "مستخرجه" (2/373) (3478) عن إِبْرَاهِيم بن مُنْقِذِ بنِ عَبْدِاللَّهِ الخَوْلَانِيّ أَبي إِسْحَاقَ.

ورواه الدارقطني في "سننه" (3/376) (2792) عن أَبي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيّ، عن عِيسَى بن إِبْرَاهِيمَ، وإِبْرَاهِيم بن المُنْذِرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ، وَوَفَاء بن سُهَيْلٍ.

ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (4/259) (2827) عن عِيسَى بن إِبْرَاهِيمَ الغَافِقِيُّ، وإِبْرَاهِيم بن مُنْقِدٍ.

ورواه الحاكم في "المستدرك" (1/636) (1705) عن أَبي العَبَّاسِ مُحَمَّد بن يَعْقُوبَ، عن إِبْرَاهِيم بن مُنْقِذٍ الخَوْلَانِيّ.

ومن طريق الحاكم رواه ابن عساكر في "معجمه" (645).

ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (9/64) (9134) عن مَسْعَدَة بن سَعْدٍ، عن إِبْرَاهِيم بن المُنْذِرِ.

ورواه ابن عبدالبر في "التمهيد" (1/119) من طريق إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ بنِ يُونُس عن أَحْمَد بن عِيسَى.

ومن طريق أَحْمَد بن سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيّ، عن عِيسَى بن إِبْرَاهِيمَ.

ورواه الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (2/238) من طريق أحمد بن صالح.

كلّهم عن عَبْداللَّهِ بن وَهْبٍ القُرَشِيّ، به.

قال الحاكم: "هذا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".

قلت: وقد وهم الحاكم في استدراكه! لأن الحديث رواه مسلمٌ في "صحيحه".

قال ابن عساكر: "أخرجه مسلم عن هارون بن سعيد وأحمد بن عيسى عن ابن وهب، واستدراك الحاكم له عجب".

وقال الطبراني: "لا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ".

وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (12/504): "إِسْنَادُه حَسَنٌ".

وذكره الألباني في "سلسلته الصحيحة" (2551).

قلت: هذا الحديث كما قال الطبراني تفرد به مَخِرْمَةُ بنُ بُكَيْرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عن أبيه! ولا يوجد إلا عند عبدالله بن وهب عن مخرمة! ولا يوجد هذا الحديث عند أهل المدينة! ولا عند أصحاب سعيد بن المسيب! ولا عند من روى عن عائشة!!

وتفرد مخرمة به مما لا يُحتمل في طبقته هذه؛ لأن الحديث الأصل أن يكون معروفاً في المدينة؛ لأن حديث عائشة هناك، ومن روى عنها بالعشرات، ووالد مخرمة أصلاً من المدينة! فمخرمة أصله مدنيّ لكنه ولد في مصر وعاش فيها، فوالده مدني خَرَجَ إِلَى مِصْرَ قَدِيْماً فَنَزَلَ بِهَا، فهو مدني ثم مصري، ولهذا أكثر حديثهما عند أهل مصر، وكان مخرمة نزل المدينة ومات بها.

وهذا الحديث لم يروه الثقات من أهل مصر عن بُكير والد مخرمة كيزيد بن أبي حبيب والليث بن سعد، وغيرهما.

ثمّ إنّ هذا الحديث يرويه مَخرمة عن أبيه!! وقد تكلّم العلماء في روايته عن أبيه؛ لأنه لم يسمع منه، وإنما روى من كتب أبيه بعد موته!

وكذلك ضعّفه بعض أهل العلم!

قال ابن محرز في "روايته لتاريخ ابن معين" (ص56): وسمعت يحيى بن معين - وسئل عن مخرمة بن بكير سمع من أبيه؟ فقال: "كتاب"، وقال يحيى: "مخرمة لا يُكتب حديثه".

وقال الدوري في "روايته لتاريخ ابن معين" (3/82): سَمِعت يحيى يَقُول: "مخرمَة بن بكير ضَعِيف".

وقال في موضع آخر (3/239): سَمِعت يحيى يَقُول: "مخرمَة بن بكير لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء".

وقال في موضع ثالث (3/254) سَمِعت يحيى يَقُول: "مخرمَة بن بكير يَقُولُونَ إِن حَدِيثه عَن أَبِيه كتاب، وَلم يسمع من أَبِيه".

وذكره ابن أبي حاتم في كتابه "المراسيل" (ص: 220) لأنه لم يسمع من أبيه.

وساق عن الإمام أحمد قال: حدثنا حَمَّادُ بنُ خَالِدٍ عَنْ مَخِرْمَةَ بنِ بُكَيْرٍ قالَ: "لَمْ أَسْمَعْ مِنْ أَبِي شَيْئًا".

وقال أَبو طَالِبٍ: سَأَلْتُهُ - يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ؟ قَالَ: "هُوَ ثِقَةٌ، لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا، إِنَّمَا رَوَى مِنْ كِتَابِ أَبِيهِ".

وقال سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخبرنا مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ خَالِي قَالَ: أَتَيْتُ مَخِرْمَةَ بْنَ بُكَيْرٍ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدَّثَكَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: "لَمْ أُدْرِكْ أَبِي، وَلَكِنْ هَذِهِ كُتُبُهُ".

وفي "العلل ومعرفة الرجال" (1/316) قال عبدالله: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا يحيى بن آدم، قَالَ: حَدثنِي ابن الْمُبَارك قَالَ: حَدثنِي مخرمَة بن بكير، قَالَ: "قَرَأت فِي كتاب أبي بكير".

وقال عبدالله: قَالَ أبي: سَمِعت حَمَّاد الخياط يذكر عَن مخرمَة قَالَ: "لم أسمع من أبي شَيْئاً".

وقال في موضع آخر (2/173): قَالَ أَبِي سمعته من حَمَّاد الْخياط، قَالَ: أخرج مخرمَة بْن بكير كتباً، فَقَالَ: "هَذِهِ كتب أَبِي لم أسمع من أَبِي شَيْئا".

وقال في موضع ثالث (2/489) عن أبيه: "مخرمَة بن بكير ثِقَة إِلَّا أَنه لم يسمع من أَبِيه شَيْئا".

وقد أشار إلى هذا الإمام البخاري في ترجمته في "التاريخ الكبير" (8/16) فقال: "مخرمة بْنُ بَكِيرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ بنِ الأَشَجِّ عَنْ أَبِيه. روى عنهُ: عَبْداللَّه بْن وهب وابْن المبارك. يُعدّ فِي أهل المدينة. قَالَ ابْن هلال: سَمِعت حماد بْن خالد الخياط قال: أخرج مخرمة بن بكير كتباً، فقَالَ: هذه كتب أَبِي لم أسْمَعْ منها شيئا".

قلت: ولهذا لم يخرّج له البخاري مطلقاً في صحيحه لا من روايته عن أبيه ولا عن غيره، وأكثر روايته عن أبيه، وقوله: "عن أبيه" يعني لم يثبت سماعه منه مع ما رواه عن خالد الخياط.

وقد يعترض معترض ويقول: ساق الترمذي في "العلل" حديثاً رواه مَعْمَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَائِشَةَ...؟ قال: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقُلْتُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ مِنَ عَائِشَةَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ رَوَى مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ".

فهذا البخاري اعتمد ما رواه مخرمة عن أبيه في إثبات سماع ابن المنكدر من عائشة؛ لأنه جاء في روايته: "سمعت عائشة"!!

وهذا ما هو موجود في "تهذيب الكمال" (26/508): "وَقَال التِّرْمِذِيّ: سألت محمداً، فقلت: مُحَمَّد بن المنكدر سمع من عائشة؟ فقال: نعم، يقول في حديثه سمعت عائشة".

أقول: نعم، هذا يدلّ على اعتداد البخاري بما يرويه مخرمة عن أبيه! لكن هذا رأي للبخاري قديم، ويُقدّم عليه ما في "التاريخ الكبير"، فما رواه الترمذي عن البخاري في "العلل" كان قديماً جداً قد تغيّر رأي البخاري في كثير منها بعد أن حرر تاريخه الكبير، وأخرج الصحيح، وخاصة في أحوال الرواة!! لأنه قد خالف كثيراً منها في كتبه، ولا شك أن التحرير في التصنيف يختلف عن الإجابة عن السؤالات، ولي - بحمد الله - بحث حررت فيه هذه المسألة بالأدلة.

ونقل الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (5/354) في ترجمة "ابن المنكدر": وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّداً - يَعْنِي: البُخَارِيَّ- سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، يَقُوْلُ فِي حَدِيْثِهِ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ.

قُلْتُ: إِنَّ ثَبتَ الإِسْنَادُ إِلَى ابْنِ المُنْكَدِرِ بِهَذَا، فَجَيِّدٌ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ؛ لأَنَّهُ قَرَابَتُهَا، وَخَصِيصٌ بِهَا، وَلَحِقَهَا وَهُوَ ابْنُ نَيِّفٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً".

ولكنه قال في ترجمة "عائشة" في "سير أعلام النبلاء" (3/427): "حدّث عنها... وَمُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ وَكَأَنَّهُ مُرْسَلٌ..".

وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/553) قال: "قال البَيْهَقِيّ: وَمُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلٌ. كَذَا قَالَ! وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ البُخَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْهَا أَمْكَنَ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ مَاتَ بَعْدَهَا".

وقال في "تهذيب التهذيب" (9/474) في ترجمة "محمد بن المنكدر": "وقال ابن المديني عن أبيه بلغ ستاً وسبعين سنة. قلت: فيكون روايته عن عائشة وأبي هريرة وعن أبي أيوب الأنصاري وأبي قتادة وسفينة ونحوهم مرسلة. وقد قال ابن معين وأبو بكر البزار: لم يسمع من أبي هريرة، وقال أبو زرعة: لم يلقه، وإذا كان كذلك فلم يلق عائشة؛ لأنها ماتت قبله".

قلت: الراجح أن محمد بن المنكدر لم يسمع من عائشة، ولولا ما ذكره الترمذي عن البخاري لاتفق الأئمة على ذلك، لكن بسبب قول البخاري احتاروا في المسألة وترددوا، وإنما ذلك لجلالة البخاري - رحمه الله-.

ونعود لمسألة سماع مخرمة من أبيه:

قَال أَبُو داود: "لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا، وهو حديث الوتر".

وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/363): حدثنا أبي قال: سألت إسماعيل بن أبي أويس قلت: هذا الذي يقول مالك بن أنس: حدثني الثقة من هو؟ قال: "مخرمه بن بكير بن الأشج".

قال: سئل أبي عن مخرمة بن بكير فقال: "صالح الحديث".

وقال: قال: ابن أبي أويس: "وجدت في ظهر كتاب مالك: سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه؟ فحلف لي وقال: "ورب هذه البنية - يعني المسجد - سمعت من أبي".

قال: "قال ابن ان كان سمعها من أبيه فكل حديثه عن أبيه إلا حديثاً يحدث عن عامر بن عبدالله بن الزبير".

كذا في المطبوع!! وفي "تاريخ الإسلام" (9/609) للذهبي: "وقال أَبُو حاتم: كل حديثه فهو عَن أَبِيهِ سوى حديث واحد حدّث بِهِ عَن عامر بْن عَبْداللَّه".

وهذه الحكاية رواها ابن حبان في كتابه "الثقات" (7/510) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ: حدثَنَا أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمد بْن صَالح، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن أبي أويس قَالَ: "رَأَيْت فِي كتاب مَالك بِخَطِّهِ: قلت لمخرمة بْن بكير: مَا حَدَّثتنِي سمعته من أَبِيك، فَحلف لسمعه من أَبِيه".

قلت: إن صحّ ذلك فمالك سأله عن الأحاديث التي سمعها منه، لا يعني أنه سمع كلّ الأحاديث التي يرويها عن أبيه! فهذه حكايات أخرى صحيحة سئل فيها: هل سمع من أبيه، فقال: لا، كما تقدّم.

وإن صحت هذه الحكاية فلا ندري ما هي الأحاديث التي سمعها مالك منه! ولا ندري لماذا كان مالك إذا حدّث عنه قال: "حدثني الثقة"؟!!

قال أَبُو الحَسَنِ الميموني: سمعت أبا عَبدالله - يعني أحمد- يقول: "أخذ مالك كتاب مخرمة بْن بكير، فنظر فيه، فكلّ شيء يقول: بلغني عَنْ سُلَيْمان بْن يسار، فهو من كتاب مخرمة".

وقال ابن حبان لما ذكره في "الثقات": "يحْتَج بروايته من غير رِوَايَته عَنْ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ لم يسمع من أَبِيهِ مَا يروي عَنْهُ".

وذكره العفيلي في "الضعفاء" (4/222) وذكر فيه قول حَمَّاد بن خَالِدٍ الخَيَّاط المتقدّم.

ثم روى من طريق مُوسَى بن سَلَمَةَ المصريّ، قال: "أَتَيْتُ مَخْرَمَةَ بْنَ بُكَيْرٍ، قُلْتُ: أَخْرِجْ إِلَيَّ بَعْضَ كُتُبِ أَبِيكَ، فَأَخْرَجَهُ، فَقُلْتُ: سَمِعْتَ مِنَ أَبِيكَ؟ قَالَ: لَا، فَلَمْ أُكْثِرْ عَنْهُ".

ثم ساق عن عَبَّاس الدوري قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى، يَقُولُ: "مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ ضَعِيفٌ، حَدِيثُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ".

قلت: فقول موسى بن سلمة المصريّ: "فلم أكثر عنه"؛ لأنه لم يسمع من أبيه، والرواية من الكتب لا تكون متقنة ويتخللها الغلط الكثير، وهذا لا يعني ردها مطلقاً، لكن تحتاج لضبط إذ التحديث من الكتب لا يتقنه كلّ أحد، والكتب قديماً ليست مثل الكتب عندنا! وليست بالترتيب الذي نتصوره! ولهذا امتنع بعض أهل العلم من الأخذ ممن يروي من كتب الوجادة، وقد وقفت على علل في الأحاديث التي تُروى بهذه الطريقة.

وقال ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" (ص: 222): "مخرمة بن بكير بن عبدالله بن الأشج من متقني أهل المدينة، مات سنة تسع وخمسين ومائة. في سماعه عن أبيه بعض النظر".

وقال الساجي: "صدوق، وكان يدلِّس" [تهذيب التهذيب (10/71)].

قلت: لم يصفه أحد بالتدليس بالمعنى المشهور = السماع من الضعيف ثم إسقاطه عند الرواية! وكأنه عنى أنه روى ما لم يسمعه من أبيه، فهو إرسال، وكان بعض أهل العلم يسميه تدليساً، والله أعلم.

وذكره ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (8/175) وساق من طريق إِبْرَاهِيم بن أَبِي دَاوُدَ، قال: حَدَّثَنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: سَمِعْتُ خالي -يعني مُوسَى بْن سَلَمَة – قَالَ: أتيت مخرمة بْن بُكَير بكتاب أعرضه عَلَيْهِ، قَال: فَقال لي: "ما سَمِعت من أَبِي حرفاً".

ثم قال: حَدَّثَنَا عَبدالمَلِكِ بْنُ مُحَمد، وَمُحمد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَزِيدَ، قالا: حَدَّثَنا أبو الأحوص، قال: حَدَّثَنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: سَمِعْتُ خالي مُوسَى بْن سَلَمَة قَالَ: أتيت مخرمة فسألته فحدثني عن أَبِيهِ، وَقَالَ: "ما سَمِعت عَن أَبِي شيئا! إنما هَذِهِ كتب وجدناها عندنا عنه". زاد ابن جَعْفَر: "ما أدركت أَبِي إلاَّ وأنا غلام".

ثم قال: حَدَّثَنَا عَلانٌ، حَدَّثَنا ابْنُ أَبِي مريم، حَدَّثَنا عمي سَعِيد بن أبي مريم، أَخْبَرنا خالي مُوسَى بْن سَلَمَة بْن أَبِي مريم قَالَ: "أتيت مخرمة بْن بُكَير، فقلت لَهُ: أخرج إليّ بعض كتب أبيك، قَالَ: فأخرج إليّ كتاباً، فقلت: سَمِعت هذا من أبيك؟ فَقَالَ: لم أسمع من أَبِي شيئاً، وهذه كتبه".

ثم قال: حَدَّثَنَا ابن حماد - وهو الدولابي-، قال: حَدَّثَنا أحمد بن يعقوب، قال: حَدَّثَنا عَلِيُّ بنُ المَدْيَنِيِّ: سَمِعْتُ معن بن عِيسَى يَقُول: مخرمة سمع من أَبِيهِ، وعرض عَلَيْهِ رَبِيعَة أشياء من رأي سُلَيْمَان بن يَسَار.

قَالَ علي: ولاَ أظن مخرمة سمع من أَبِيهِ كتاب سُلَيْمَان، لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد بالمدينة من يخبرني عن مخرمة بْن بُكَير أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي شيء من حديثه: سَمِعت أَبِي! وقِيلَ لَهُ: أيما أحب إليك يَحْيى بْن سَعِيد أو مخرمة؟ قَالَ: يَحْيى فِي معنى ومخرمة فِي معنى، وجميعاً ثقتان، ويحيى أشد، ومخرمة أكثر حديثاً، ومخرمة ثقة".

ثم ساق له بعض الأحاديث وقال: "وعند ابن وَهْب ومعن بْن عِيسَى وغيرهما أحاديث عن مخرمة حسان مستقيمة، وَأَرْجُو أَنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ".

قَال أَبُو الحَسَنِ الميموني: سمعت أبا عَبدالله يقول: "أخذ مالك كتاب مخرمة بن بكير، فنظر فيه فكل شيء يقول بلغني عَنْ سُلَيْمان بْن يسار، فهو من كتاب مخرمة". [تهذيب الكمال (27/326)].

قلت: فهذا شبه إجماع من أهل العلم على أنه لم يسمع من أبيه، وإنما يروي من كتب أبيه وجادة!

وعليه فلا يُحتج بما يرويه عن أبيه، فكيف إذا تفرد ولم يُتابعه عليه أحد!! فلعله وجد الحديث في كتب أبيه بإسناد آخر فدخل له إسناد في إسناد! وهذا ما يحدث غالباً عند التحديث من النسخ التي يجدها بعضهم! أو يكون فيها تحريفات فلا يستطيع من يجدها معرفة صاحب الرواية! أو تكون الأسانيد متداخلة، وغير ذلك.

وأحاديث مخرمة عن أبيه ضيقة المخرج؛ لأنه يتفرد بها.

ساق عبدالغني المقدسي في كتابه "أخبار الدجال" (102) حديثاً من طريق أحمد بن عيسى المصري: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عروة قال: قالت أم سلمة: ذكرت المسيخ الدجال ليلة فلم يأتني النوم فلما أصبحت دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال لي: "لا تفعلي فإنه إن يخرج وأنا فيكم يكفيكم الله، وإن يخرج بعد أن أموت يكفيكم الله بالصالحين، ثم قام فذكر الدجال، فقال: ما من نبي إلا قد حذر أمته - يعني منه - وإني أحذركموه: إنه أعور، والله ليس بأعور".

قال عبدالغني: "هذا حديث جيد الإسناد ضيق المخرج لا يعرف إلا من هذا الوجه".

فكثير من الأحاديث يتفرد مخرمة بها عن أبيه، ولا تعرف من الطرق التي يسوقها، وقد تكون متونها معروفة لكن بأسانيد أخرى، ولهذا خرّج له مسلم بعضها متابعة كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وعليه فإن الحديث إذا توبع عليه مخرمة أو رُوي من طرق أخرى فيمكن اعتبار حديثه في المتابعات، وأما إذا تفرد بحديث عن أبيه فلا يُقبل ويُرد!!

وهذا الحديث الذي أخرجه له مسلم في أنّ يَوْم عَرَفَة أكثر الأيام التي يُعتق اللهُ فِيها عباداً مِنَ النَّارِ، وَإِنَّهُ سبحانه يَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِالحجيج المَلَائِكَةَ! لا يوجد له أصلٌ صحيحٌ مسندٌ! وهو حديث ضعيف، وإسناده منكر!

وأكبر ظنّي أنه دخل لمخرمة حديث في حديث بسبب الوجادة.

وقد وجدت رواية عن عائشة في هذا الباب من طريق أهل المدينة، فقد تكون أصل الرواية التي رواها مخرمة عن أبيه!

روى الفاكهي في "أخبار مكة" (4/312) (2738) قال: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ – هو: المَرْوَزِيُّ السُّلَمِيُّ-، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ الْمُبَاهَاةِ. قِيلَ لَهَا: وَمَا يَوْمُ الْمُبَاهَاةِ؟ قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَدْعُو مَلَائِكَتَهُ وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، بَعَثْتُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَآمَنُوا بِهِ، وَبَعَثْتُ إِلَيْهِمْ كِتَابًا فَآمَنُوا بِهِ، يَأْتُونَنِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَسْأَلُونِي أَنْ أُعْتِقَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَقَدْ أَعْتَقْتَهُمْ. فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتَقَ فِيهِ مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ».

وأَبُو بكر بن عثمان بْن سهل بْن حنيف الْأَنْصَارِيّ المدنيّ، ثقة، روى عن عمّه أبي أمامة في الصحيحين، روى عَنْهُ مالك وابن المبارك. وهو من طبقة بُكير والد مخرمة.

وأبو عقيل هذا مجهول!

قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/416): "أبو عقيل مولى لبني زريق، سمع عائشة. روى عنه أبو بكر بن عثمان، سمعت أبي يقول ذلك".

قلت: لا يوجد له عن عائشة إلا هذا الحديث، وهو مجهول، ولم يذكر أنه سمع من عائشة! وهو موقوف عليها.

وكأنّ هذا هو أصل الحديث الذي يرويه مخرمة عن أبيه، والله أعلم.

·       كيف تكون أحاديث الوجادة فيها علّة؟

وهنا أسوق مثالاً من علل أحاديث الوجادة:

أخرج الطبراني في "المعجم الكبير" (2/220) (1906) عن عبدالله بن أحمد بن حنبل، وفي "المعجم الصغير" (1/180) (285) عن إسحاق بن الخليل البغدادي، كلاهما عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله عليه وسلم: «اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان».

قال الطبراني في "المعجم الصغير": "لم يروه عن شعبة إلا محمد بن أبي شيبة".

قلت: هذا الحديث عن شعبة غريب! تفرد به محمد بن أبي شيبة! وكلام الطبراني يدل على تعليله له؛ فإن محمد بن أبي شيبة والد أبي بكر - وإن كان صدوقاً- إلا أنه لايقبل منه؛ لأن أصحاب شعبة المكثرين لم يرووه عنه!!

لكن للحديث علة أخرى، وهي الوجادة! - والوجادة وإن كانت معتبرة عند العلماء لكنها لا تقبل هكذا بإطلاق؛ فنحن لا نعلم هل سمع محمداً هذا الحديث من شعبة أم وقع له خطأ فيه! فلو كان عند شعبة لرواه عنه أصحابه الملازمين له. ورواية الطيالسي للحديث عن شريك - كما سيأتي- ترجح ذلك؛ لأن أبا داود الطيالسي صاحب شعبة، فلو كان الحديث عند شعبة لسمعه منه.

والظاهر أن محمد بن أبي شيبة لم يسمعه من شعبة، ولم يحدث شعبة به! وتفرد محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة عن شعبة لا يقبل، وهو صدوق ولم يخرج له سوى النسائي، فأخرج له حديثاً واحداً فقط! ومولده سنة (105هـ) ووفاته سنة (182هـ) وحديثه الذي خرج عنه قليل جداً! ولم يسمع منه ابنه أبو بكر صاحب المصنف، وهو يروي عنه وجادة.

وهذا الحديث مشهور عن سماك عن جابر بن سمرة.

أخرجه الطيالسي في "مسنده" (1/106) (778) عن شريك عن سماك عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر».

وأخرجه أحمد في "المسند" (34/405) (20809) عن الطيالسي.

وأخرجه عبدالله بن أحمد في "زياداته على المسند" (34/473) (20930) عن محمد بن أبي غالب، عن عبدالرحمن بن شريك، قال: حدثني أبي، عن سماك عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في وتر، فإني قد رأيتها فنسيتها وهي ليلة مطر وريح أو قال قطر وريح».

قلت: فالحديث مشهور عن شريك، فيحتمل أن محمد بن أبي شيبة رواه عن شريك فَكَتبه في كتابه «عن شريك» فقرأه ابنه أبو بكر «عن شعبة» فتصحف عليه، فأخطأ في القراءة، وهذا ليس ببعيد؛ لأن طرق الكتابة آنذاك كانت صعبة جداً! فإن صح ظني هذا فتكون العهدة على أبي بكر لا على أبيه، والله أعلم.

ولم يذكر أحد ممن ترجم لمحمد بن أبي شيبة (105-182هـ) أنه سمع من شريك، وكذلك لم يذكروا في ترجمة شريك أن محمداً سمع منه، واحتمال سماعه منه متحقق، فإن شريكاً قد ولد سنة (95هـ)، وتوفي سنة (177هـ)، وكلاهما كوفي، وكلاهما قاض، وقد سمع ابنه أبو بكر (159-235هـ) من شريك، فإذا كان الابن سمع من شريك فسماع الأب من شريك متحقق دون أدنى شك. وأبو بكر بن أبي شيبة من آخر من روى عن شريك فسمع منه وسِنُّه (14) عاماً (تهذيب الكمال: 16/39-40)، وهذا يدل على أن شريكا كان يحدث إلى آواخر عمره، وكان عبدالله بن أحمد قد رحل إلى أبي بكر بن أبي شيبة وسمع منه أحاديث عن شريك، فلما رجع عبدالله إلى أبيه الإمام أحمد أراه هذه الأحاديث عن شريك فأعجبته، وقال: "لو كان أبو بكر هنا لسمعناها منه".

وقد تابع شريكاً في روايته عن سماك: أسباط بن نصر. رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/250) (8672) و(2/326) (9538) عن عمرو بن حماد بن طلحة عن أسباط به.

وقد ذكر الهيثمي هذا الحديث في "مجمع الزوائد" (3/177)، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط عن أبي بكر بن أبي شيبة وجادة عن خط أبيه، ورجاله ثقات".

قلت: لم يروه الطبراني في الأوسط بل رواه في الكبير والصغير كما تقدم. ورجاله ثقات كما قال، ولكن الهيثمي لا يحسن التعليل فتغيب عنه العلل، ونظرته إلى الأحاديث سطحية جداً!

وقد أشار الدكتور محمد بن عبدالمحسن التركي محقق "مسند الطيالسي" إلى أن رواية شعبة هي متابعة لرواية شريك عن سماك، وعزاها لابن أبي شيبة والطبراني (2/133).

قلت: هذه الرواية عن شعبة لم تصح! فشعبة لم يروها عن سماك، وهي خطأ عليه؛ فكيف عدها الدكتور متابعة؟!! وكذلك فإن عزوه هذه الرواية لابن أبي شيبة يوهم أنه خرجها في "مصنفه" وليس كذلك؛ فإنه لم يخرجها فيه. وإنما رواها الطبراني من طريقه؛ وكأن ابن أبي شيبة أملاها على تلامذته، والله أعلم.

·       شواهد حديث مخرمة في عرفة:

·       حديث أبي هريرة:

روى أحمد في "مسنده" (13/415) (8047) قال: حَدَّثَنَا أَبُو قَطَنٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بنُ عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي المَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا».

ورواه ابن حبان في "صحيحه" (9/163) (3852) من طريق النَّضْر بن شُمَيْلٍ.

ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2/1338) (2839)، والحاكم في "المستدرك" (1/636) (1708) من طريق أَبي نُعَيْمٍ الفَضْل بن دُكَيْنٍ.

ومن طريق الحاكم رواه البيهقي في " السنن الكبرى" (5/93) (9109).

ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (9/16) (8993) من طريق عَبْداللَّهِ بن مُحَمَّدِ بْنِ المُغِيرَةِ.

ومن طريق الطبراني رواه أبو نُعيم في "حلية الأولياء" (3/305).

ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/93) (9109) من طريق عَبْدالرَّحْمَنِ بن غَزْوَانَ أَبي نُوحٍ.

ورواه ابن عساكر في "فضل يوم عرفة" (7) من طريق شبابة بن سوّار الفزاريّ.

كلهم عن يُونُس بن أَبِي إِسْحَاقَ، به.

قال الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ مُجَاهِدٍ إِلَّا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ".

وقال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".

وقال أبو نُعيم: "هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ، غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ رَاوِيًا إِلَّا يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ".

قلت: يقصد بالصحيح حديث مخرمة لأنه في صحيح مسلم.

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/252): "رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ".

وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1867).

وقال شعيب الأرنؤوط ورفاقه في تعليقهم على "المسند": "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل يونس بن أبي إسحاق، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح".

وقال في تعليقه على "صحيح ابن حبان": "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير يونس بن أبي إسحاق السبيعي فمن رجال مسلم".

قلت: حديث أبي هريرة هذا تفرد به يونس بن أبي إسحاق! ولم يروه أحد من أصحاب مجاهد عنه! ويونس كوفي، ومجاهد مكي!

ويونس كان من علماء الكوفة، وهو من بيت علم وحديث.

وثقه ابن معين.

وقَالَ ابْن مهدي والنسائي: "لم يكن بِهِ بأس".

وقال يحيى القطَّان: "كَانَتْ فِيهِ غفلة".

وقال أَبُو حَاتِمٍ: "صَدُوقٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ".

وقال ابن خراش: "في حديثه لين".

وقال ابن حزم في المحلى: "ضعفه يحيى القطان وأحمد بن حنبل جداً".

قال الذهبي في "الميزان" (4/483) متعقباً ابن حزم: "قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة، روى على عن يحيى بن سعيد، قال: كانت فيه غفلة.

وقال أحمد: حديثه مضطرب، وقال عبدالله ابن أحمد: سألت أبي عن يونس بن أبي إسحاق قال: كذا وكذا.

قلت: هذه العبارة يستعملها عبد الله بن أحمد كثيرا فيما يجيبه به والده، وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين".

قلت: هو صدوق ويتفرد بأحاديث عن غير أهل بلده ولا يقبل منه كهذا الحديث! فأين أصحاب مجاهد من المكيين عنه كعمرو بن دينار؟ وأين أصحاب مجاهد من الكوفيين عنه كالأعمش وغيره؟!!

وكذلك فإن هذا الحديث لا يُعرف عند أصحاب أبي هريرة الكبار كعبدالرحمن الأعرج؟!!

فتفرده هذا مردود.

·       حديث عبدالله بن عمرو بن العاص:

روى أحمد في "مسنده" (11/660) (7089) قال: حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بنُ القَاسِمِ، حَدَّثَنَا المُثَنَّى - يَعْنِي ابنَ سَعِيدٍ-، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ بَابَا - بَابَيْهِ-، عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِي، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا».

ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (8/142) (8218) من طريق إِسْحَاق بن رَاهَوَيْهِ.

ورواه في "المعجم الصغير" (1/345) (575) من طريق نُوح بن حَبِيبٍ القُومَسِيّ.

كلاهما عن أَزْهَر بن القَاسِمِ، به.

قال الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا المُثَنَّى بنُ سَعِيدٍ، تَفَرَّدَ بِهِ: أَزْهَرُ".

وقال شعيب الأرنؤوط ورفاقه في تعليقهم على "المسند": "إسناده لا بأس به. أزهر بن القاسم وثقه أحمد والنسائي، وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به، وذكره ابنُ حبان في "الثقات"، وقال: كان يخطىء. وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبدالله بن باباه، فمن رجال مسلم، وباباه يقال: بابي، وبابيه، وبابا. قتادة: هو ابن دعامة السدوسي. وأخرجه الطبراني في "الصغير" (575) من طريق أزهر بن القاسم، بهذا الإسناد. وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/204، وقال: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الصغير"، وإسنادُ أحمد لا بأس به. وذكره الهيثمي في "المجمع" 3/250، وقال: رواه أحمدُ والطبراني في "الصغير" و"الكبير"، ورجال أحمد موثقون".

قلت: كيف يكون إسناده لا بأس به، ويتفرد به هذا الرواية المتكلّم فيه!! وفي طبقة متأخرة!! ومن طريق راو مشهور كقتادة؟!! وكذلك أين أصحاب عبدالله بن عمرو عنه؟!!

وهل أورده الطبراني في "معجميه: الأوسط والصغير" إلا لنكارته؟!!

وأزهر بن القاسم وإن وثقه أحمد والنسائي إلا أنه ضعفه أبو حاتم، وبيّن ابن حبان أنه كان يخطئ! فهو صدوق يخطئ، فهو ليس بحجة فيما انفرد به.

·       حديث جابر:

روى ابن حبان في "صحيحه" (9/164) (3853) قال: أَخْبَرَنَا الحَسَنُ بنُ سُفْيَانَ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ العُقَيْلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا هِشَامٌ -هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ-، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ" قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُنَّ أَفْضَلُ أَمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: هُنَّ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا مِنْ يوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقًا من النار من يوم عرفة».

ورواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (4/69) (2090) عن مُحَمَّد بن عَمْرِو بنِ جَبَلَةَ، عن مُحَمَّد بن مَرْوَانَ، عَنْ هِشَامٍ، به.

ولم يعيّن أبو يعلى أنه "الدستوائي" كما فعل ابن حبان! فيحتمل أنه هو، ويُحتمل أنه "هشام بن حسان"!!

وهذا الحديث لم يروه عن أبي الزبير المكيّ إلا هشام! تفرد به: محمد بن مروان! ولم يروه عن محمد إلا محمد بن عمرو بن جبلة!!

وابن جبلة هذا ثقة إلا أنه له بعض الغرائب. وقد ذكره ابنُ حِبَّان فِي كتاب "الثقات"، وَقَال: "يُغرب ويخالف".

ومحمد بن مروان العقيلي صدوق، يُكتب حديثه، ولا يُحتج به!

قال عَبداللَّهِ بن أَحْمَد بْن حنبل، عَن أبيه: "رأيت محمد ابن مروان العقيلي، وحدث بأحاديث وأنا شاهد لم أكتبها تركتها على عمد وكتب بعض أصحابنا عَنْهُ كأنه ضعفه".

وَقَال إسحاق بن مَنْصُور عَنْ يحيى بن مَعِين: "صالح".

وَقَال أَبُو زُرْعَة: "ليس عندي بذاك".

وَقَال أَبُو عُبَيد الآجري عَن أبي داود: "صدوق". وَقَال في موضع آخر: "ثقة".

وذكره العقيلي في "الضعفاء" (4/133) وساق عن عَبَّاس الدوري قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ: "مُحَمَّدُ بنُ مَرْوَانَ العُقَيْلِيُّ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. قُلْتُ لِيَحْيَى: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ يَرْوِي عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الحَسَنِ: يَجْزِي مِنَ الصَّوْمِ السَّلَامُ! فَكَأَنَّهُ يَسْتَضْعِفُهُ".

وقال ابن حجر في "التقريب" (ص: 506): "صدوق له أوهام. من الثامنة (خد ق)".

 وعليه فلا يقبل تفرد محمد بن مروان بهذا الحديث عن هشام عن أبي الزبير!! ولا يعرف هذا الحديث عن أبي الزبير إلا من طريق آخر ضعيف مثل هذا الطريق! وربما أنّ أصل حديث محمد بن مروان الطريق الآخر!

وهو ما رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2/1338) (2840)، وابن بطّة في "الإبانة الكبرى" (7/226) (177)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/497) (3774)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (1/120)، كلهم من طريق أَبي نُعَيْمٍ الفَضْل بن دُكَيْنٍ، قالَ: حدثنا مَرْزُوقٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، به، نحوه.

قال ابن خزيمة: "أَنَا أَبْرَأُ مِنْ عُهْدَةِ مَرْزُوقٍ".

تفرد به مرزوق، أَبُو بكر الباهلي البَصْرِيّ، مولى طلحة بْن عَبْدالرَّحْمَنِ الباهلي.

قال أَبُو زُرْعَة: "ثقة".

وذكره ابنُ حِبَّان في كتاب "الثقات" وقال: "يُخطئ".

وقال ابن حجر في "التقريب" (ص: 525): "صدوق".

روى له التِّرْمِذِيّ فقط!

قلت: لا يُحتج بما انفرد به! وقد برئ من عهدته ابن خزيمة كما تقدّم؛ لأنه ينفرد بأشياء عن المشاهير!

وللحديث طريق ثالث رواه ابن عدي في "الكامل" (9/125) من حديث يَحْيى بن سَلامٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْريّ، عَن أَبِي الزُّبَيْرِ، به، نحوه.

ثم قال: "وَهَذَا الْحَدِيثُ لا أَعْلَمُ رَوَاهُ عَن الثَّوْريّ بهذا الإسناد غير يَحْيى بن سَلامٍ".

ثم قال: "وَلِيَحْيَى بنِ سَلامٍ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الحَدِيثِ وَأَنْكَرُ ما رأيت له هذه الأحاديث الَّتِي ذَكَرْتُهَا، وَهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ مَعَ ضَعْفِهِ".

قلت: فهذه طرق الحديث الثلاثة عن أبي الزبير عن جابر! ولا يصح منها شيء!

وله طريق آخر رواه الفاكهي في "أخبار مكة" (4/310) (2734) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ سَالِمٍ أَوْ سُلَيْمِ بنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المَغْفِرَةُ تَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ عَرَفَةَ مَعَ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، فَإِذَا كَانَتِ الدَّفْعَةُ الْأُولَى فَعِنْدَ ذَلِكَ يَضَعُ الشَّيْطَانُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. قَالَ: فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ شَيَاطِينُهُ فَيَقُولُونَ: مَا لَكَ؟ فَيَقُولُ: قَوْمٌ قَدْ قَتَلْتُهُمْ مُنْذُ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ سَنَةً غُفِرَ لَهُمْ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ». يَعْنِي مَنْ يَحْضُرُ مِنَ الْحَاجِّ بِعَرَفَةَ".

وذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (1/120) جازماً بنسبته لابن جريج! فقال: "وَرَوَى ابنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِر..".

قلت: كذا قال! ولم يسق إسناده! وفيه إيهام أنه ثبت من رواية ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر!!

إن كان الحديث عن سليم بن مُسلم الخشاب المكي فهو إسناد منكر! لأنه ليس بثقة وهو مَتْرُوك الحَدِيث.

وإن كان سعيد بن سالم القداح، فقال الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: "سعيد بن سالم القداح: ليس به بأس".

وقال أبو حاتم: "محله الصدق".

وقال أبو زرعة الرازي: "هو عندي إلى الصدق ما هو".

وقال ابن عدي بعد أن ذكر له بعض المناكير: "وهُوَ عندي صدوق، لا بأس بِهِ، مقبول الحديث".

وقَالَ عُثْمَان الدَّارمِيّ: "ليْسَ بِذَاكَ".

وقال العجلي في "الثقات" (1/399): "سعيد بن سَالم القداح كَانَ يرى الإرجاء لَيْسَ بِحجَّة".

وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/320): "كَانَ يرى الإرجاء، وَكَانَ يهم فِي الْأَخْبَار حَتَّى يجِئ بِهَا مَقْلُوبَة حَتَّى خرج بِهَا عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ. روى عَن ابن جريج عَن ابن أبي مليكَة عَن ابن الزُّبَيْرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ظَاهِرًا أَوْ نَظَرًا أُعْطِيَ شَجَرَةً فِي الْجَنَّةِ لَوْ أَنَّ غُرَابًا أَفْرَخَ تَحْتَ وَرَقَةٍ مِنْهَا لأَدْرَكَهُ الْهَرَمُ قَبْلَ أَنْ تُقْطِعَ تِلْكَ الشَّجَرَةُ)".

ثم روى من طريق جَعْفَر بن أَبَانٍ قَالَ: قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ القَدَّاحُ قَالَ: "لَيْسَ بِشَيْء".

قلت: فالظاهر أنه ضعيف لا يحتج به! فكيف إذا انفرد بحديث عن راوٍ مثل ابن جُريج؟!

قلت: فكيفما دارت هذه الرواية فهي منكرة!

·       حديث ابن عبّاس:

روى الفاكهي في "أخبار مكة" (4/313) (2742) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالسَّلَامِ بنُ عَاصِمٍ قَالَ: حدثنا إِسْحَاقُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ بُخْتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «يَوْمُ الْمُبَاهَاةِ يَوْمُ عَرَفَةَ، يُبَاهِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَتَهُ فِي السَّمَاءِ بِأَهْلِ الْأَرْضِ يَقُولُ: عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا، صَدَّقُوا بِكِتَابِي وَلَمْ يَرَوْنِي؛ لَأُعْتِقَنَّهُمْ مِنَ النَّارِ. قَالَ: وَهُوَ يَوْمُ الحَجِّ الْأَكْبَرِ».

قلت: إسناد ضعيف! ولا يُعرف عن ابن عباس!! تفرد به عبدالسلام بن عاصم الجعفي الهِسنْجَاني الرازي، وقد ليّنه أبو حاتم الرازي فقال عنه: "شيخ".

لكن وجدت له متابعة: تابعه أَبُو جَعْفَرِ ابنُ وَهْبٍ المسَعِّرِيّ، رواه عن إِسْحَاق بن سُلَيْمَانَ الرَّازِيّ، به.

رواه ابن عبدالبر في "التمهيد" (1/124).

وأبو جعفر المسعري إن كان هو اللغوي صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام فهو لا يعرف برواية الحديث!! ولم يرو شيئاً!! وهو مجهول الحال في الحديث إن كانت له رواية، وإن لم يكن هو فهو مجهول أيضاً.

والحديث تفرد به سلمة بن بُخْت مولى قريش من أهل المدينة، يروي عنه الكوفيون، ويروي عنه الواقدي.

وثقه ابن معين، وقال أحمد وأبو حاتم: "لا بأس به".

قلت: ذكروا أنه يروي عن عكرمة! ولم يرو له أصحاب الكتب الستة! وتفرده عن عكرمة لا يُحتمل إن صحت روايته عنه!

وذكر ابن عبدالبر في "التمهيد" (1/124) قال: وَرَوَى مُسْلِمُ بنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا كَعْبُ بْنُ فَرُّوخٍ الرَّقَاشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَيْسَ يَوْمٌ أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ".

قال: "هَكَذَا ذَكَرَهُ مَوْقُوفًا".

قلت: كعب بن فروخ هذا لا يوجد له رواية في الكتب، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، وابن حبان في "ثقاته"، لكن لم يذكروا أن نسبه "الرقاشي"! وإنما ذكر ابن أبي حاتم أنه يروي عن "يزيد الرقاشي"! فيحتمل أنه روى هذا الحديث عن الرقاشي، فسقطت "عن" من الإسناد فصار اسمه "الرقاشي"!! والرقاشي منكر الحديث!

ولو ثبت أن هذا الحديث عن كعب عن قتادة - وقد ذكروا أنه يروي عن قتادة - فلا يُحتج به لتفرده به عن قتادة!! ولا يعرف بتوثيق إلا ما قاله عبيدالله بن عبدالمجيد عندما روى عنه قال: "حدثنا كعب أبو عبدالله البصري وكان ثقة".

وهذا التوثيق لا يُعتمد لأنه لم يصدر من أئمة النقد! وإنما صدر من تلميذ للراوي! وقد يقصد بالثقة هنا في دينه لا في روايته! ومثل هذا التوثيق لا يُعتد به!

وأين أصحاب قتادة كشعبة وهمام عنه؟! ثم لو ثبت الحديث عن قتادة فلا يسلم من تدليسه!

فالحديث ضعيف كيفما دار.

·       حديث أم سلمة:

روى الفاكهي في "أخبار مكة" (4/315) (2746) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: حدثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَيْثَمَةُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «يَنْزِلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَوْمَ عَرَفَةَ فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا يَبْتَغُونَ فَضْلَ رِضْوَانِي، يَا أَهْلَ عَرَفَةَ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».

قلت: هذا إسناد رجاله ثقات في الظاهر، لكن لا يُعرف لمحمد بن أبي إسماعيل سماع من خيثمة، ولا لخيثمة سماع من أم سلمة! ولم يذكر السماع هنا! ثم هو موقوف على أم سلمة لو صح الخبر!

وكذلك تفرد به محمد بن أبي عمر المكي وهو صدوق لكن له انفردات غريبة!!

قَال أبو حاتم الرازي: "كان رجلا صالحاً، وكان بِهِ غفلة، ورأيت عنده حديثاً موضوعاً حدث بِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَة، وكان صدوقاً".

·       حديث أنس بن مالك:

روى ابن عساكر في "فضل يوم عرفة" (8) من طريق عبدالله بن محمد البغويُّ: حدثنا عُبَيْدالله بن محمد بن حفص العَيْشيُّ: حدثنا صالح بن بشير المُرِّيُّ: حدثنا يزيد الرَّقاشيُّ، عن أنس بن مالك قَالَ: قَاَلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله عز وجل تَطَوَّل على أَهْلِ عرفات فيُبَاهي بهم الملائكة فقال: انظروا إلى عبَادي شُعْثاً غُبْراً، أقْبلوا إليَّ من كُلِّ فَجِّ عميقِ، فاشهدوا إنِّي قد غفرتُ لهم إلا التَّبَعَاتِ التي بينهم».

قال: «ثم إنَّ القومَ أفاضوا من عرفات إلى جَمْعٍ قال: فقال الله: يا ملائكتي عبَادي وَقَفوا فَعادوا في الطَّلَبِ والرَّغْبَةِ، والمَسْأَلة اشهدوا إنِّي قد وهبتُ مسيئهَم لمُحْسِنهم وتَحملتُ عنهم التّبَعَاتِ التي بينهم».

قلت: هذا إسناد منكر!!

صالح بن بشير منكر الحديث متروك! ويزيد الرقاشي ضعيف جداً، تركه بعض أهل العلم.

·       حَدِيثُ العَبَّاسِ بنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ:

روى عبدالله بن أحمد في "زوائده على المسند" (26/136) (16207) عن إِبْرَاهِيم بن الحَجَّاجِ السَّامِيُّ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالْقَاهِرِ بنُ السَّرِيِّ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ لَكْنَانَةَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، عَن أَبِيهِ: أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ حَدَّثَهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، دَعَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لأُمَّتِهِ بِالْمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ، فَأَكْثَرَ الدعاء، فأجابه الله عزوجل أَنْ: قَدْ فَعَلْتُ وغَفَرْتُ لأُمَّتِكِ إِلا مَنْ ظَلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تَغْفِرَ لِلظَّالِمِ وتُثِيبَ الْمَظْلُومَ خَيْرًا مِنْ مَظْلَمَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ إِلا ذَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، دَعَا غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةَ، وعَادَ يَدْعُو لأُمَّتِهِ، فَلَمْ يلبت النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَبَسَّمَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وأُمِي، ضَحِكْتَ فِي سَاعَةٍ، لَمْ تكن تضحك فيها، فما أضحك؟ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ، قال: تَبَسَّمْتُ مِنْ عَدِوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، حِينَ علم أن الله عزوجل قَدِ اسْتَجَابَ لِي فِي أُمَّتِي، وغفر للضالم، أَهْوَى يَدْعُو بِالْوَيْلِ والثُّبُورِ، ويَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَتَبَسَّمْتُ مِمَّا يَصْنَعُ لِجَزَعِهِ».

رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/2)، وأبو داود (5234) قصة الضحك منه، وابن ماجه (3013)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1391)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/10)، وابن عدي في "الكامل" (7/214)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/118) وفي "الشعب" (346)، وابن عساكر في "فضل يوم عرفة" (9)، وفي "تاريخ دمشق" (26/403) من طرق عن عبدالقاهر بن السري، به.

قلت: هذا حديث منكر!

قال الْبُخَارِي عن كنانة هذا: "لَمْ يصح حَدِيثه".

وقال العجلي في "الثقات" (2/330) في ترجمة "هِشَام بن عبدالْملك أَبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ": "وَكَانَ كثيراً مَا يسْأَل عَن حَدِيث عَبَّاس بن مرداس: أن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا عَشِيَّة عَرَفَة لأمته بالمغفرة! وَهُوَ غَرِيب!! وَلَيْسَ يروي عَبَّاس بن مرداس سوى هَذَا الحَدِيث، وَكَانُوا إِذا سَأَلُوهُ عَنهُ قَالَ: أَي شَيْء لَيْسَ عِنْدِي سوى هَذَا الحَدِيث".

وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 229): "كنَانَة بن الْعباد بن مرداس السّلمِيّ يروي عَن أَبِيه، روى عَنهُ ابْنه، مُنكر الحَدِيث جداً، فَلَا أَدْرِي التَّخْلِيط فِي حَدِيثه مِنْهُ أَوْ من ابْنه وَمن أَيهمَا كَانَ فَهُوَ سَاقِط الِاحْتِجَاج بِمَا روى لعَظيم مَا أَتَى من الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير".

·       حديث ابن عمر:

روى عبد بن حُميد في "مسنده" (كما في المنتخب) (842) قال: حَدَّثَنِي الوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْهَمْدَانِيُّ: حدثَنَا الصَّبَّاحُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي دَاوُدَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى أَحَدٌ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَلِأَهْلِ مُعَرَّفٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ فَقَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً».

ورواه ابن عساكر في "فضل يوم عرفة" (10) من طريق إسحاق بن بهلول التَّنَوخيّ، عن الوليد بن القاسم بن الوليد، به.

قلت: وهذا إسناد ضعيف جداً!

الصباح بن موسى: "ضعيف ليس بالقوي".

وأبو داود السبيعي وهو أبو داود الأعمى نفيع بن الحارث: "متروك الحديث".

·       حديث يَحْيَى بنِ جَعْدَةَ:

روى الفاكهي في "أخبار مكة" (4/311) (2736) قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: حدثنا عَبْدُالمَجِيدِ بنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، يَرْفَعُ الحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ الْعَمَلُ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْر. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا إِلَّا عَفِيرًا عَفَّرَ لِي التُّرَابَ، فَإِذَا كَانَتْ عَشِيَّةُ عَرَفَةَ هَبَطَ اللهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاجِّينَ».

زَادَ القَاسِمُ فِي هَذَا الحَدِيثِ: «لا يَنْظُرُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَيْ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى مُخْتَالٍ». قَالَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ: عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَلَمْ يُرَ عَشِيَّةٌ أَكْثَرَ عَتِيقًا وَلَا عَتِيقَةً مِنَ النَّارِ إِلَّا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ».

قلت: هذا إسناد ضعيف جداً! وهو مرسل! يحيى بن جعدة لم يدرك أبا بكر، ولم يلق ابن مسعود، وحديثه عن كبار الصحابة مرسل، فكيف عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وابن جريج مدلّس!

وعبدالمجيد ابن أبي روّاد وثّقه يحيى بن معين وغيره.

وقال أبو داود: "ثقة داعية إلى الإرجاء".

وقال أبو حاتم: "ليس بالقوي، يكتب حديثه".

وقال ابن حبان: "يستحق الترك، منكر الحديث جداً، يقلب الأخبار، ويروي المناكير عن المشاهير".

وقال الدارقطني: "لا يُحتج به، ويُعتبر به".

·       حديث المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ حَنْطَبٍ، والوَلِيدِ بنِ رَبَاحٍ، ودَاوُدَ بنِ صَالِحٍ:

روى الفاكهي في "أخبار مكة" (4/315) (2747) قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حدثنا سُفْيَانُ بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِاللهِ بْنِ حَنْطَبٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَدَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَدْنُو يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ رَغْبَتَكُمْ وَأَجَبْتُ دَعْوَتَكُمْ. قَالَ: فَيَضَعُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَدَهُ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ إِذَا فَرَغُوا مِنْ حَجِّهِمْ فَيَقُولُ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ: ارْجِعْ مَغْفُورًا لَكَ، قَدْ أَجَبْتُ دَعَوْتَكَ وَأَعْطَيْتُكَ رَغْبَتَكَ، فَأْتَنِفِ الْعَمَلَ».

قلت: هذا إسناد مدنيّ مرسل! الثلاثة الذي يروي عنهم كثير يرسلون عن كبار الصحابة، ويرسلون عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكثير بن زيد المدني فيه لين.

قال ابن معين: "ليس بذاك القوي".

وقال أبو حاتم: "صالح، ليس بالقوي، يكتب حديثه".

وقال أبو زرعة: "هو صدوق فيه لين".

قلت: أخشى أن يكون هذا الحديث المرسل هو أصل حديث مخرمة بن بكير عن أبيه! لأنه يبدو أنه كان منتشراً في المدينة! والله أعلم.

·       حديث القَاسِمِ بنِ أَبِي بَزَّةَ:

روى عبدالرزاق الصنعاني في "مصنفه" (5/8) (8813) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ القَاسِمِ بنِ أَبِي بَزَّةَ، ذَكَرَهُ - قَالَ: لَا أَدْرِي أَرَفَعَهُ أَمْ لَا - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِ عَرَفَةَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا، غُبْرًا، ضَاحِينَ، فَلَا يُرَى أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَلَا يُغْفَرُ فِيهِ لِمُخْتَالٍ».

قلت: هذا حديث معضل!

القاسم بن أَبي بزة، واسمه نافع، ويُقال: يسار، ويُقال: نافع بْن يسار المكي، أَبُو عَبْداللَّهِ، ثقة، توفي سنة (124هـ).

وبعد: فهذه هي الشواهد لحديث مخرمة بن بكير عن أبيه، وهي ضعيفة جداً ولا تصلح لتقوية الحديث؛ لأنها إما من رواية الضعفاء والهلكى، أو ممن لا يعرف لهم سماع عمّن رووا عنهم، أو مراسيل!!

·       الأحاديث التي أعلّها أهل النّقد لمخرمة عن أبيه!

قد قررنا أن الأحاديث التي يتفرد بها مخرمة عن أبيه لا تصلح للاحتجاج؛ لأننا لا نعرف ماهيتها في كتب أبيه، وللدلالة على عدم الاعتبار بحديثه أنه أخطأ في بعض الروايات التي رواها عن أبيه من كتبه! فإذا كان يخطئ في هذه الروايات فأحرى أن لا يُحتج بما ينفرد به!

ومن هذه الأحاديث التي نبّه أهل العلم على أنه أخطأ فيها:

الحديث الأول: قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/260) (360) وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ مَخْرَمةُ بْنُ بُكَير، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ؛ قَالَ: سمعتُ سَعْدًا وَنَاسًا مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: سَمِعْنَا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الصَّلاةِ كَمَثَلِ نَهْرٍ...».

وَرَوَاهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْري، عَنْ عَمِّه، عن صالح بن عبدالله بن أَبِي فَرْوةَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبانَ بْنِ عُثْمَانَ، عن عثمان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟

قالَ: "هَذَا أدخلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ «أبانَ»؛ وَهُوَ عِنْدِي أشبَهُ".

قلت: رجّح أبو حاتم حديث ابن أخي الزهري؛ لأنه زاد رجلاً في الإسناد وهذا يدلّ على ضبطه.

وسئل عنه الدارقطني في "العلل" (4/343) (615)؟ فقالَ: "حَدَّثَ بِهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ.

وَرَوَاهُ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ.

وَيُقَالُ: إِنَّ مَالِكًا أَخَذَهُ مِنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَاهُ ابنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ [الزهري، عن] صالح بن عبدالله بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَن أبان بْن عُثْمَانَ، عَنْ عثمان، تفرد به ابْنِ أخي الزُّهْرِيّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فإن كان ضبطه فالحديث حديثه، والله أعلم".

وقال الطبراني في "المعجم الأوسط" (6/303): "لَمْ يَرْوِ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ إِلَّا بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَلَا رَوَاهُ عَنْ بُكَيْرٍ إِلَّا مَخْرَمَةُ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ".

وقال الحاكم في "المستدرك" (1/316): "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يُخَرِّجَا مَخْرَمَةَ بْنَ بُكَيْرٍ وَالْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ مِصْرَ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ لِصِغَرِ سِنِّهِ، وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ سَمَاعَهُ مِنْهُ".

قلت: بل هو نفسه قال بأنه لم يسمع من أبيه، والصواب رواية ابن أخي الزهري.

قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (24/220): "وَقَدْ رَوَاهُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عن عامر بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَ حَدِيثِ مَالِكٍ سَوَاءً وَأَظُنُّ مَالِكًا أَخَذَهُ مِنْ كُتُبِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَأَخْبَرَهُ بِهِ عَنْهُ مَخْرَمَةُ ابْنُهُ أَوِ ابْنُ وَهْبٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ فِيمَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ".

الحديث الثاني: قال ابن أبي حاتم في "العلل" (3/458) (1007): وسمعتُ أَبِي وذكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ ابنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمة بْنِ بُكَير، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُهَيل بْنِ أبي صالح، عن أبيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَفْدُ اللهِ ثَلاثةٌ: الغازِي، والحاجُّ، والمُعتَمِرُ».

قَالَ أَبِي: "وَرَوَاهُ سُلَيمان بْنُ بِلالٍ، عَنْ سُهَيل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِرْداس الجُنْدَعي، عَنْ كَعْبٍ، قولَهُ.

وَرَوَاهُ عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ كَعْبٍ، قولَه".

قلت: خالف مخرمة في روايته عن أبيه ما هو معروف من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، فسلك مخرمة في روايته الجادة ورواه عن أبيه عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة!

والصواب عن سهيل ما رواه سليمان بن بلال عن سهيل عن أبيه عن مرداس عن كعب الأحبار، قوله.

ثم بيّن أبو حاتم الاختلاف بين سهيل بن أبي صالح وبين عاصم بن بهدلة، وسهيل أوثق من عاصم وزاد رجلاً في الإسناد مما يدلّ على أنه ضبطه، وعاصم كان سيء الحفظ.

قال الدارقطني في "الأفراد": "غريب من حديثه عن أبيه، تفرد به بكير بن عبدالله بن الأشج، وعنه ابنه، ولا نعلم حدث به غيرُ عبدالله بن وَهْب.

وقال أبو نعيم الأصبهاني: "غريب، تفرَّد به مخرمة، عن أبيه، عن سهيل".

وقال الدارقطني في "العلل" (10/125) (1913): "يرويه سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:

فَرَوَاهُ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ ابْنُهُ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ.

وَخَالَفَهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ أبي حازم، وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ رَوَوْهُ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِرْدَاسٍ الْجُنْدَعِيِّ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قوله، وهو الصحيح".

الحديث الثالث: سُئِلَ الدارقطني في "العلل" (7/212) (1297) عَنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَأَنَّهَا مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ؟

فقالَ: "يَرْوِيهِ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ.

وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:

فَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَخَالَفَهُ النُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، فَرَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْقُوفًا.

وَخَالَفَهُمَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، فَرَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَوْلِهِ. وَتَابَعَهُ عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَوْلِهِ.

وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وَمُجَالِدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ من قوله.

وحديث مخرمة بن بكير، أخرجه مسلم في الصحيح، والمحفوظ من رواية الآخرين، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ".

قلت: هنا يُبيّن الدارقطني أن هذا الحديث المحفوظ فيه عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الوقف كما في بعض الروايات من حديث أبي إسحاق السبيعي، وإن كان هناك اختلاف على أبي إسحاق فيه.

والظاهر أن مخرمة عندما حدّث به عن أبيه أخطأ في رفعه، والصواب عن أبي موسى الوقف.

الحديث الرابع: سئل الدارقطني في "العلل" (15/195) (3940) عن حديث ابن عمر، عن حفصة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على كل محتلم رواح إلى الجمعة، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل»؟.

فَقَالَ: "يَرْوِيهِ بُكَيْرُ بنُ الْأَشَجِّ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:

فرواه عياش بن عباس القتباني، عن بكير، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة.

وخالفه مخرمة بن بكير، فرواه عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ المحفوظ".

قلت: رجّح الدارقطني رواية مخرمة عن أبيه بدون ذكر "حفصة" في الإسناد! لكن الظاهر أن مخرمة أخطأ فيه؛ لأن المشهور من حديث نافع عن ابن عمر دون ذكر حفصة الشق الثاني من الحديث.

فقد روى عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «مَنْ رَاحَ إِلَى الجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ».

ولم أقف على الشق الأول منه من حديث نافع عن ابن عمر.

وحديث عيّاش استغربه أهل العلم!

قال الطبراني في "المعجم الأوسط" (5/109): "لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ إِلَّا بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، وَلَا عَنْ بُكَيْرٍ إِلَّا عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ، تَفَرَّدَ بِهِ: مُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ".

وقال أبو نُعيم في "حلية الأولياء" (8/322): "غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ بُكَيْرٍ لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إِلَّا الْمُفَضَّلُ عَنْ عَيَّاشٍ".

الحديث الخامس: قال الدارقطني في "الغرائب والأفراد" [كما في الأطراف: (4/251) (4200): "مُسْند عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي"، ثم ذكر: "حَدِيث: رَأَيْت رَسُول الله يمسح على الْخُفَّيْنِ مرَارًا".

قال: "تفرد بِهِ مخرمَة بن بكير عَن أَبِيه عَن جَعْفَر بن عَمْرو.

وَخَالفهُ عَمْرو بن الحَارِث وَابْن لَهِيعَة وَقَالا: عَن جَعْفَر بن ربيعَة وَبُكَيْر بن الْأَشَج عَن الزبير قَالَ عَن عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي عَن أبي سَلمَة عَن جَعْفَر. وَتفرد بِهِ عبدالله بن وهب عَنْهُمَا".

وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: "تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم بن سعد عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن جَعْفَر بن عَمْرو بن (عَمْرو بن عَمْرو بن) أُميَّة الضمرِي عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن جَعْفَر بن عَمْرو عَن أَبِيه".

وقال في "مُسْند الْمُغيرَة بن شُعْبَة" (4/301) (4310): "حَدِيث: أَنه رأى رَسُول الله يمسح على الْخُفَّيْنِ مرَارًا".

قال: "تفرد بِهِ مخرمَة بن بكير عَن أَبِيه عَن بشر بن سعيد عَنهُ - أي المغيرة بن شعبة-".

قلت: فهذه بعض تفردات مخرمة بن بُكير عن أبيه، وقد أخطأ فيها! فأحياناً يسلك الجادة في الإسناد ولا يضبطه، وأحياناً ينقص رجلاً من الإسناد، وأحياناً يرفع الحديث الموقوف، وأحياناً يخالف في الإسناد كاملاً، وأحياناً يتفرد بالحديث عن أبيه ولا يتابعه عليه أحد!

فحديثنا عن عرفة تفرد به ولم يتابعه عليه أحد ممن روى عن أبيه بُكير!! ولم نجده عند المدنيين ولا المصريين عن بُكير! وهذا يجعلنا نقول بأن بُكيراً لم يروه قط! أو أنه وجده في كتاب أبيه لكن ليس بإسناد متصل! فقد يكون عنده بإسناد مرسل أو أنه عنده كفائدة؛ لأن الرواة الذين كان عندهم الكتب كانوا يكتبون فيها الفوائد أيضاً من مراسيل ومقطوعات ونحوها، ومن هنا احتاط العلماء في مسألة الرواية من الكتب! والحديث قد وجدناه بنحو لفظ حديث مخرمة عند أهل المدينة مرسلاً، فقد يكون في كتاب بُكير هكذا، لكن لما رواه ابنه أخطأ فيه فذكر له ذاك الإسناد الذي رواه به، والله أعلم.

وعليه فلا يُقبل أيّ حديث يتفرد به مخرمة عن أبيه؛ لأنه لم يسمع من أبيه، وهو يروي من كتبه التي وجدها، وقد ثبت عليه الوهم والخطأ في روايته من هذه الكتب، فمن باب أولى عدم قبول حديث يتفرد به.

 

«التَّنبيه» على كيفية تخريج مُسلمٍ لأحاديث «مَخرمة بن بُكير عن أبيه».

·       انتقاد الإمام مسلم لتخريجه حديث مَخرمة بن بُكير عن أبيه!

انتقد بعض أهل العلم مسلماً في تخريجه لحديث مخرمة بن بكير عن أبيه؛ لأنه يعلم أقوال أهل العلم في أنه لم يسمع من أبيه!

قال الرشيد العطّار في "غرر الفوائد المجموعة" (ص: 324): "وقد انتقد الدارقطني على مسلم إخراجه هذه الترجمة والله أعلم".

وقد أعلّ ابن القطان الفاسي أحاديث مخرمة عن أبيه في كتابه "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" (2/369) فأوردها تحت: "بَاب ذكر أَحَادِيث أوردهَا على أَنَّهَا مُتَّصِلَة وَهِي مُنْقَطِعَة، أَو مَشْكُوك فِي اتصالها".

وقال العلائي في "جامع التحصيل" (ص: 275): "أخرج له مسلم عن أبيه عدة أحاديث، وكأنه رأى الوجادة سبباً للإتصال، وقد انتقد ذلك عليه".

·       الوِجادة.. وهل كان مخرمة يقرأ من كتب أبيه عندما يُحدّث؟ أم أنه حفظ الأحاديث وكان يحدّث من حفظه فَيَهِم ويُخطئ؟!!

قلت: المشكلة ليست في الوجادة، وهي معتبرة عند أهل العلم، وليست المسألة في الرواية بها، ولكن المشكلة في ضبط أحاديث هذه الكتب التي يجدها الراوي!! مع أن الأصل أنه كان ينبغي أن ينص على روايته بالوجادة لما يروي، فيقول: "وجدت في كتاب أبي"، أو: "قرأت في كتاب أبي"!

وهنا الذي يظهر لي أن سبب عدم نص مخرمة على ذكر "الوجادة" في التحديث عن أبيه أنه ربما حفظ ما في هذه الكتب، وقد تكون كتبا صغيرة وقليلة، ولما حدّث بها من حفظه وقعت له هذه الأخطاء التي بيناها ووهم في أسانيدها، والله أعلم.

ويؤيد ذلك أنه عندما روى بعض الأحاديث رواها بذكر السماع مع وهمه في إسنادها!! فهل إذا كان يقرأ من كتاب أبيه يخطئ هذه الأخطاء؟!!

روى الدارقطني في "العلل" (10/126) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قال: حدثنا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْغَافِقِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْذِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ الْخَوْلَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِالرحمن، قالوا: حدثنا عَبْدُاللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ سُهَيْلًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفْدُ الله ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر».

قال: حدثنا علي بن محمد المصري: حدثنا مطلب بن شعيب: حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا ميمون بن يحيى، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه قال: سمعت سهيل بن ذكوان يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «وَفْدُ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: الْغَازِي وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ».

قلت: فعبدالله بن وهب وميمون بن يحيى رويا عنه هذا الحديث مع تصريحه لسماع أبي صالح له من أبي هريرة، ولسماع أبي هريرة من النبي صلى الله عليه وسلم! والحديث كما تقدّم عن أبي صالح عن مرداس عن كعب الأحبار قوله! فلا أظنه أنه في كتاب بكير بهذا الخطأ!!

وعليه فإما أن يكون كما ذكرت حفظ بعض الأحاديث من كتب أبيه فلما حدث بها وهم فيها ودخل له بعض الأسانيد بعضها في بعض، أو أنه لما كان يحدّث من كتب أبيه لم يضبطها فدخلت عليه الأوهام، أو حدث له كلا الأمرين، فمن حدّث عنه وأكثر كعبدالله بن وهب لم يذكر في حديثه أنه سمع منه من كتاب أبيه أو أنه كان يقرأ من كتاب أبيه! وقد مرّ نقل الإمام أحمد عنه مرة أنه قال: "قرأت في كتاب أبي بُكير.." فكأنه لما كان يحدث من كتاب أبيه ينص على ذلك، وإذا لم يحدث منه ويحدث من حفظه لا يقول ذلك، والظاهر أن أكثر ما سمعه منه ابن وهب كان من حفظه، ولهذا حصلت له الأوهام والتفردات، والله أعلم.

وقد روى ميمون بن يحيى الأشج، عن مخرمة بْن بكير، عن أبيه، قال: سمعت سليمان بْن يسار، أَنَّهُ سمع ابن الحكم الزرقي، وهو مسعود يقول: حدثني أَبِي: "أنهم كانوا مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنى، فسمعوا راكبًا وهو يصرخ: لا يصومن أحد فإنها أيام أكل وشرب".

قال أَبُو نعيم الأصبهاني في "معرفة الصحابة" (2/724) بعد أن ذكر هذه الرواية: "هَذَا وَهْمٌ مُنْكَرٌ، وَالصَّوَابُ مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ".

ثم ساقها من طريق أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ، قال: حدثنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَكَمَ الزُّرَقِيَّ، يَقُولُ: حَدَّثَتْنَا أُمِّي أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.

ثم قال: "وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا مِثْلَهُ، عَنْ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ، عن بُكَيْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ...".

وقال المزي في "تهذيب الكمال" (7/160): "الحكم الزرقي عَن أمه: أنهم كانوا مع النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فسمعوا راكباً... الحديث في النهي عن صيام أيام التشريق.

وعَنه: سُلَيْمان بن يسار. قاله مخرمة بن بكير، عَن أبيه، عن سُلَيْمان.

وَقَال عَمْرو بن الحارث، عن بكير، عن سُلَيْمان، عن مسعود بن الحكم، عن أُمِّه وهو المحفوظ، وكذلك رَوَاهُ غير واحد عن مسعود بن الحكم".

قلت: ما قاله أبو نُعيم فيه نظر!! فالاختلاف من مخرمة نفسه وهو من ذكر "الحكم الزرقي" في رواية ابن وهب عنه وكذا رواية ميمون التي استنكرها!! ولهذا قال النسائي لما ذكر رواية مخرمة: "مَا عُلِّمْتُ أَنَّ أَحَدًا تَابَعَ مَخْرَمَةَ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ عَلَى الْحَكَمِ الزُّرَقِيِّ، وَالصَّوَابُ مَسْعُودُ بْنُ الْحَكَمِ"، ثم ساق رواية عمرو بن الحارث: أنّ بُكَيْرًا، حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ، حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ: مَرَّ بِنَا رَاكِبٌ وَنَحْنُ بِمِنًى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي فِي النَّاسِ: «لَا تَصُومُنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» فَقَالَتْ أُخْتِي هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقُلْتُ أَنَا: لَا، بَلْ هُوَ فُلَانٌ.

وهذا كلّه يقوي ما ذكرته أنّ مخرمة كان قد حفظ الأحاديث التي كانت في كتب أبيه، ثم لما حدّث بها كان يُخطئ فيها، والله أعلم.

·       كلام ابن القيّم حول الكتب التي وجدها مخرمة وسماعه من أبيه!

وهنا مسألة وهي ما قاله ابن القيّم عن نسخة مخرمة عن أبيه!

ذكر ابن القيم في "زاد المعاد" (5/220) حَدِيث مَحْمُودِ بنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ مُغْضَبًا، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!».

ثم قال: "وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مسلم، فَإِنَّ ابن وهب قَدْ رَوَاهُ عَنْ مخرمة بن بكير بن الأشج، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ فَذَكَرَهُ، ومخرمة ثِقَةٌ بِلَا شَكٍّ، وَقَدِ احْتَجَّ مسلم فِي " صَحِيحِهِ " بِحَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ.

وَالَّذِينَ أَعَلُّوهُ قَالُوا: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابٌ. قَالَ أبو طالب: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ مخرمة بن بكير؟ فَقَالَ: هُوَ ثِقَةٌ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، إِنَّمَا هُوَ كِتَابُ مخرمة، فَنَظَرَ فِيهِ، كُلُّ شَيْءٍ يَقُولُ: بَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، فَهُوَ مِنْ كِتَابِ مخرمة.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: مخرمة بن بكير وَقَعَ إِلَيْهِ كِتَابُ أَبِيهِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ: هُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُهُ عَنْ أَبِيهِ كِتَابٌ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَقَالَ أبو داود: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، حَدِيثَ الْوِتْرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ خَالِهِ موسى بن سلمة: أَتَيْتُ مخرمة فَقُلْتُ: حَدَّثَكَ أَبُوكَ؟ قَالَ: لَمْ أُدْرِكْ أَبِي، وَلَكِنْ هَذِهِ كُتُبُهُ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ كِتَابَ أَبِيهِ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا مَضْبُوطًا، فَلَا فَرْقَ فِي قِيَامِ الحُجَّةِ بِالْحَدِيثِ بَيْنَ مَا حَدَّثَهُ بِهِ، أَوْ رَآهُ فِي كِتَابِهِ، بَلِ الْأَخْذُ عَنِ النُّسْخَةِ أَحْوَطُ إِذَا تَيَقَّنَ الرَّاوِي أَنَّهَا نُسْخَةُ الشَّيْخِ بِعَيْنِهَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ كُتُبَهُ إِلَى الْمُلُوكِ، وَتَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةُ، وَكَتَبَ كُتُبَهُ إِلَى عُمَّالِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَعَمِلُوا بِهَا وَاحْتَجُّوا بِهَا، وَدَفَعَ الصِّدِّيقُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الزَّكَاةِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَحَمَلَهُ وَعَمِلَتْ بِهِ الْأُمَّةُ، وَكَذَلِكَ كِتَابُهُ إِلَى عمرو بن حزم فِي الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ آلِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ يَحْتَجُّونَ بِكِتَابِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُولُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا أَخْبَرَهُ، وَلَوْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْكُتُبِ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِي الْأُمَّةِ إِلَّا أَيْسَرُ الْيَسِيرِ، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى النُّسَخِ لَا عَلَى الْحِفْظِ، وَالْحِفْظُ خَوَّانٌ، وَالنُّسْخَةُ لَا تَخُونُ، وَلَا يُحْفَظُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَدَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْكِتَابِ، وَقَالَ: لَمْ يُشَافِهْنِي بِهِ الْكَاتِبُ، فَلَا أَقَبْلُهُ، بَلْ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى قَبُولِ الْكِتَابِ وَالْعَمَلِ بِهِ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كِتَابُهُ.

الجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ سَمِعَ مِنْهُ، وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ وَإِثْبَاتٌ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سُئِلَ أَبِي عَنْ مخرمة بن بكير؟ فَقَالَ: صَالِحُ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: وَجَدْتُ فِي ظَهْرِ كِتَابِ مالك: سَأَلْتُ مخرمة عَمَّا يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ أَبِيهِ سَمِعَهَا مِنْ أَبِيهِ؟ فَحَلَفَ لِي: وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ - يَعْنِي الْمَسْجِدَ - سَمِعْتُ مِنْ أَبِي. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْتُ مَعْنَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ: مخرمة سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ ربيعة أَشْيَاءَ مِنْ رَأْيِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَقَالَ علي: وَلَا أَظُنُّ مخرمة سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ كِتَابَ سليمان، لَعَلَّهُ سَمِعَ مِنْهُ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا بِالْمَدِينَةِ يُخْبِرُنِي عَنْ مخرمة بن بكير أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ: سَمِعْتُ أَبِي، ومخرمة ثِقَةٌ. انْتَهَى.

وَيَكْفِي أَنَّ مالكا أَخَذَ كِتَابَهُ، فَنَظَرَ فِيهِ وَاحْتَجَّ بِهِ فِي "مُوَطَّئِهِ"، وَكَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مخرمة، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا. وَقَالَ أبو حاتم: سَأَلْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ، قُلْتُ: هَذَا الَّذِي يَقُولُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، مَنْ هُوَ؟ قَالَ: مخرمة بن بكير. وَقِيلَ لأحمد بن صالح المصري: كَانَ مخرمة مِنْ ثِقَاتِ الرِّجَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابن وهب وَمَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْ مخرمة: أَحَادِيثُ حِسَانٌ مُسْتَقِيمَةٌ، وَأَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ" انتهى.

قلت:

أولاً: مسألة تخريج الشيخين لحديث بعض الرواة ثم الإتيان بأحاديث أخرى لهؤلاء الرواة والحكم عليها بأنها على شرط فلان أو فلان مسألة ليست صحيحة!! وأول من استخدمها الحاكم في "مستدركه" فصحح أحاديث ضعيفة ومنكرة بهذه المقولة!!

وليس كل حديث لهؤلاء الرواة الذين أخرج لهم البخاري مسلم وانتقيا من حديثه يكون ما تركاه من حديثه على شرطهم! فهذا جعل كثير من طلبة العلم يصححون أحاديث ليست كذلك بهذه المقولة!

ثانياً: الحديث أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (5/252) ثم قال: "لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الحَدِيثَ غَيْرَ مَخْرَمَةَ".

وهذا فيه إشارة لردّه بتفرده وغرابته! ففي آخره ولم ينقله ابن القيّم: "حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا أَقْتُلُهُ؟".

ثمّ إن محمود بن الربيع من صغار الصحابة، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما عقل مجّة مجها صلى الله عليه وسلم في وجهه وهو ابن خمس سنين، وغالب روايته عن كبار الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعرف أن بكيراً روى عنه.

ثالثاً: قوله: "أَنَّ كِتَابَ أَبِيهِ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا مَضْبُوطًا"! هذا يحتاج لدليل! فمن الذي وقف عليه وقال بأنه كان مضبوطاً!! والنزاع ليس في الرواية من النسخة، بل كما ذكر ابن القيم إذا كانت النسخة مضبوطة فالتحديث منها أولى، لكن هذا إذا كانت كذلك، وبحضور الشيخ أيضاً، وأما مسألة الوجادة فلها اعتبارات وضوابط.

رابعاً: قياس التحديث من الكتاب على ما كان يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم من كتب إلى الملوك والعمّال، وكذلك صحابته فهذا قياس مع الفارق! إذ ما في الرسالة كلام منه مباشرة يقرأ على من أرسله له بخلاف الأحاديث التي فيها أسانيد وروايات، ولا نعرف كيف كتبت في تلك الكتب.

والنزاع مع ابن القيّم هو في ما يوجد في أصل كتاب بكير لا في أصل الرواية منها! ولهذا احتجاجه بالكتابة بين العلماء لا وجه له هنا لاختلاف محل النزاع! وواضح أنه أتى بهذه الأدلة لأنه قرر في بداية كلامه أن كتاب بكير بن الأشج كان مضبوطاً! وهذا ما ننازعه فيه! "فاثبت العرش ثم انقش"!

خامساً: قوله: "أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ سَمِعَ مِنْهُ، وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ وَإِثْبَاتٌ"! هذا فيه نظر!! فمن نفى أنه لم يسمع من أبيه سأله هو نفسه كا تقدّم!! ثم كيف نعارض ما نقل إلينا بأسانيد صحيحة بما روي أنه وجد بخط مالك على ظهر كتاب أنه سمع من أبيه؟!! مع ما بينته من قبل أن مالكاً سأله عن الأحاديث التي حدثه هو بها لا عن كل الأحاديث.

وما نقله معن بن عيسى أنه سمع من أبيه قد رده ابن المديني، ومال إلى أنه إن كان سمع من أبيه فسمع شيئاً يسيراً توفيقاً بين من نفى أنه سمع من أبيه ومن أثبت ذلك، وجعل ذلك على سبيل الاحتمال أيضاً فقال: "لَعَلَّهُ سَمِعَ مِنْهُ الشَّيْءَ اليَسِيرَ"، ثم أتى بالدليل على أنه لم يسمع من أبيه ببحثه عن ذلك وسؤاله، فقال: "وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا بِالْمَدِينَةِ يُخْبِرُنِي عَنْ مخرمة بن بكير أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ: سَمِعْتُ أَبِي".

فهل تقاوم هذه الأدلة القوية التي فيها أنه لم يسمع من أبيه بقول معن بن عيسى أو ما وُجد بخط مالك على ظهر كتاب؟!!!

سادساً: وأما قوله: "وَيَكْفِي أَنَّ مالكا أَخَذَ كِتَابَهُ، فَنَظَرَ فِيهِ وَاحْتَجَّ بِهِ فِي مُوَطَّئِهِ"! فهذا لا يكفي! فإن كان كذلك فلم كان يبهمه ويقول: "حدثني الثقة"؟!! وكم حديث احتج به مالك من حديثه في موطئه؟! نعم قال عنه بأنه حدث عنه وقال عنه: "كان رجلاً صالحاً"، ووثقه بعض أهل العلم، ولا ننازع في ثقته، وإنما ننازع في سماعه من أبيه، وهل أتقن الأحاديث التي وجدها في كتب أبيه؟!!

ثم إن قوله: "أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في موطئه"! نقول له: أيّ كتاب؟!! هو كتاب واحد، يعني نظر مالك في كتاب واحد لا في كل كتب بكير كم يوهم كلام ابن القيّم! وهو حديث "سليمان بن يسار".

قَال أَبُو الحَسَنِ الميموني: سمعت أبا عَبدالله يقول: "أخذ مالك كتاب مخرمة بْن بكير، فنظر فيه فكل شيء يقول بلغني عَنْ سُلَيْمان بْن يسار، فهو من كتاب مخرمة".

فهذا أحمد ينصّ على أنه نظر في كتابه عن سليمان بن يسار.

وعلى هذا يُحمل أيضاً ما رواه أبو الوليد الباجي في "التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح" (1/440) عن ابن المديني أنه قصد ذلك الكتاب.

قال: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن البَراء قَالَ: قَالَ عَليّ بن المَدِينِيّ: "لم يكن بِالْمَدِينَةِ بعد كبار التَّابِعين أعلم من ابن شهَاب وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَأبي الزِّنَاد وَبُكَيْر بن عبدالله بن الْأَشَج، أدْرك مَالك بكيراً وَمَا سمع مِنْهُ، وَكَانَ بكير سيء الرَّأْي فِي ربيعَة، وَأَظنهُ تَركه من أجل ربيعَة، وَإِنَّمَا عرف مَالك بكيراً بنظره فِي كتاب مخرمَة بن بكير".

قلت: فمالك نظر في كتاب واحد لمخرمة عن أبيه، وروى منه بعض الأحاديث، فما رواه مالك في كتابه من ذلك الكتاب فهو ما نحمل عليه ما وُجد من خطّ مالك أن مخرمة قال له بأنه سمع تلك الأحاديث من أبيه، وإلا فالأصل أنه لم يسمع منه كما ثبت بالأدلة الصحيحة عن جماعة.

ومن أحاديث سليمان بن يسار التي أشار لها أهل العلم أن مالكاً أخذها من كتاب مخرمة:

ما رواه ابنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مَالِكِ بنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، ولاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ».

قال العقيلي في "الضعفاء" (3/338): وَمَالِكٌ يَرْوِيهِ فِي المُوَطَّأِ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ عُثْمَانَ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ عَنْ مَخْرَمَةَ، وَمَخْرَمَةُ يُقَالُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا".

وقال ابن عدي في "الكامل" (8/177): "وهذا يذكره مَالِك فِي الموطأ فيقول: بلغني عن بُكَير بْنِ عَبداللَّهِ بْنِ الأَشَج، وفي الموطأ غير هذا يَقُول: بلغني عن بُكَير بن عَبداللَّه بْن الأَشَج، وفي بعض تلك الأحاديث لمالك من رواية معن عَنْهُ، فَقَالَ: حَدَّثني مخرمة بن بُكَير، عن أبيه، وعند بن وَهْب ومعن بْن عِيسَى وغيرهما أحاديث عن مخرمة حسان مستقيمة وَأَرْجُو أَنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ".

قلت: فكأن مالكاً كان يصرّح باسمه في رواية معن بن عيسى عنه، وكأنه بسبب هذا جزم معن بن عيسى بأن مخرمة سمع من أبيه! فإن كان قالها اجتهاداً فقد أخطأ! وإلا فلم يذكر دليله على أنه سمع منه مع نفي من نفاه ممن سأله: هل سمعت من أبيك؟ فقال: "لا".

وقد قال ابن طاهر المقدسي في "ذخيرة الحفاظ" (5/2599): "وَهَذَا الحَدِيث يذكرهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ فَيَقُول: بَلغنِي عَن بكير بن عبدالله بن الْأَشَج، وَيَقُول فِي غير مَوضِع: بَلغنِي عَن بعض، سمى مَالك فِي رِوَايَة معن عَنهُ فَقَالَ: حَدثنِي مخرمَة بن بكير عَن أَبِيه".

قلت: فهذا تصريح بأنه في رواية معن عنه كان يصرّح بروايته عن مخرمة.

وقول ابن عدي بأن له "أحاديث حسان مستقيمة" فهذا لأن مسلماً خرّج له في "صحيحه"، والظاهر أنه لم يسبر حديثه كاملاً.

وفي "الموطأ" (1/270) قال يَحْيَى - راوي الموطأ-، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، وَالْبَعْلُ، الْعُشْرُ. وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ».

وقال الحاكم كما في "سؤالاته للدارقطني" (ص: 287): سمعت أَبَا الحسن - يعني الدارقطني- يَقُول: حَدثنِي الْوَزير أَبُو الْفضل عَن مُحَمَّد بن مُوسَى بن الْمَأْمُون، عَن أبي عبدالرَّحْمَن النَّسَائِيّ قَالَ: "الَّذِي فِي موطأ مَالك أَنه عَن القَاسِم وَسَالم وَابن شهَاب يشبه أَحَادِيث مخرمَة بن بكير، وَالَّذِي يَقُول فِي كِتَابه الثِّقَة عَن بكير يُشبه أَن يكون عَمْرو بن الحَارِث، وَالله أعلم. وَلَو كَانَ مخرمَة ضَعِيفاً لم يرضه مَالك أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئاً لِأَن مَالِكًا لَا نعلمهُ روى عَن إِنْسَان ضَعِيف مَشْهُور يُضعّف".

قلت: قوله: "أنه عن" أي ما يرويه بلاغاً! هذا هو الظاهر من العبارة! لكن قوله "ابن شهاب"! مشكل! لأن ابن شهاب من شيوخ مالك ولا يرسل عنه! وأما القاسم وسالم فهناك بعض الأحاديث أرسلها عنهما، فكأن قصد النسائي أن تلك البلاغات تشبه حديث مخرمة عن أبيه، أيّ كأنه أخذها عن مخرمة عن أبيه.

وأما قوله: "الثقة عن بكير" فهو: عمرو بن الحارث! ولا أدري لم أبهمه هنا!!

ومن ذلك ما في "الموطأ" (37) قال يحيى راوي الموطأ: وَحَدَّثَنِي مَالِكٍ، عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْخَوْلَانِيِّ وَكَانَ فِي حَجْرِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ مَيْمُونَةَ كَانَتْ «تُصَلِّي فِي الدِّرْعِ وَالخِمَارِ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ».

لكن خالف النسائي في هذا ابن عبدالبر، فإنه لما ذكر حديثاً رواه مالك عن الثقة عن بكير، قال في "التمهيد" (24/202): "يُقَالُ إِنَّ الثِّقَةَ هَهُنَا عَنْ بُكَيْرٍ هُوَ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، وَيُقَالُ بَلْ وَجَدَهُ مَالِكٌ فِي كُتُبِ بُكَيْرٍ أَخَذَهَا مِنْ مَخْرَمَةَ. وَقَالَ عَبَّاسٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ ثِقَةٌ وَبُكَيْرٌ ثِقَةٌ ثَبْتٌ.

وَقَالَ ابْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ مَخْرَمَةُ ثَبْتًا، وَلَكِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ أَبِيهِ مِنْ كِتَابٍ وَجَدَهُ لِأَبِيهِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَسْتَعِيرُ كُتُبَ بُكَيْرٍ فَيَنْظُرُ فِيهَا وَيُحَدِّثُ عَنْهَا".

قلت: هذا يقوله يحيى بلاغاً بأنه كان يستعير كتب بكير، والراجح أنه أخذ من مخرمة كتاب سليمان بن يسار كما بينا فروى منه، ولا يوجد دليل على أنه نظر في كل كتب بكير، والله أعلم.

وكأن النسائي ذهب إلى أن "الثقة" الذي يروي عنه مالك هو: "عمرو بن الحارث" لما روى في "السنن الكبرى" (3/244) حديث سُفْيَان، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، وَعَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمْرَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ».

قال النسائي: "أَرْسَلَهُ مَالِكٌ".

ثم ساق روايتهه عن أَبِي النَّضْرِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ مِنًى».

قال: "أَسْنَدَهُ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ ابْنِهِ وَعَمْرٍو عَلَيْهِ فِيهِ".

ثم ساق رواية مخرمة فقال: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ الْحَكَمَ الزُّرَقِيَّ، يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي، أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَسَمِعُوا رَاكِبًا يَصْرُخُ يَقُولُ: «أَلَا لَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ».

ثم قال: "مَا عُلِّمْتُ أَنَّ أَحَدًا تَابَعَ مَخْرَمَةَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْحَكَمِ الزُّرَقِيِّ، وَالصَّوَابُ مَسْعُودُ بْنُ الْحَكَمِ".

ثم ذكر رواية عمرو بن الحارث، من طريق ابن وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ بُكَيْرًا، حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ، حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ: مَرَّ بِنَا رَاكِبٌ وَنَحْنُ بِمِنًى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي فِي النَّاسِ: «لَا تَصُومُنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» فَقَالَتْ أُخْتِي هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقُلْتُ أَنَا: لَا، بَلْ هُوَ فُلَانٌ.

ولعل قائل يقول: مسلم أخرج ما تبيّن له أنّ مخرمة أصاب فيه!

أقول: بعد ما بيّناه من وهمه في حديث أبيه وتفرداته عنه، فكيف استطاع الإمام مسلم أن يثبت لديه أنه أصاب في هذه الأحاديث التي أخرجها له؟!!

فإن كان أخرجها من باب المتابعات والشواهد فالأمر هيّن! لكن ما باله أخرج له ما يتفرد به! وهناك بعض الأحاديث التي خولف فيها؟!

والمعاصرون إنما يتبعون مسلماً في تخريجه لهذه الأحاديث ويجزمون بصحتها!!

فهذا الشيخ الحويني في "نثل النبال بمعجم الرجال" (3/302) لما ذكر "مخرمة بن بكير" يقول: "قُلْتُ: تكلم العلماءُ في سماعه من أبيه. فجزم أحمد أنه لم يسمع منه. وقال معنٌ: (إنه سمع من أبيه). فقال ابن المديني: (لعله سمع الشيء اليسير). وقد نقلوا عن مخرمة أنه قال: (لم أسمع من أبي، إنما هذه كتبٌ وجدناها عندنا عنه). فهي إذَنْ وجادةٌ صحيحة، بل هي من أقوى الوجادات لا سيما مع قرب موت صاحب الكتاب، فقد قال مخرمة: (ما أدركت أبي إلا وأنا غلامٌ). وقد احتج مسلم برواية مخرمة عن أبيه، والله أعلم" انتهى.

قلت: هذا كلام غير مُحرر!! بل هو اقتصاص لأجزاء من النصوص ووضعها في غير أماكنها!! ونقل الأقوال المتعارضة دون حلّها! والاكتفاء بأنها وجادة بل وجادة قوية وقد احتج مسلمٌ بها!

فالنزاع كما قلت مراراً ليس في الوجادة، وإنما في السماع وكيفية الرواية من تلك الوجادة.

وسنعرض للأحاديث التي أخرجها مسلم لمخرمة عن أبيه في "صحيحه":

الحديث الأول: قال الإمام مسلم في "صحيحه" (1/208) (232) حَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: تَوَضَّأَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، يَوْمًا وُضُوءًا حَسَنًا ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، غُفِرَ لَهُ مَا خَلَا مِنْ ذَنْبِهِ».

رواه أبو عوانة في "مستخرجه" (1/345) (1237) عن أَبي عُبَيْدِاللَّهِ.

ورواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (1/295) (49) من طريق حَرْمَلَة بن يَحْيَى، وهَارُون بن سَعِيدٍ الأَيْلِيّ.

كلّهم عن عبدالله بن وهب، به.

قلت: هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به ابن وهب عن مخرمة عن أبيه! وقد أخرجه مسلم في المتابعات.

بدأ مسلم بتخريج حديث هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمْرَانَ، مَوْلَى عُثْمَانَ، عن عُثْمَان بن عَفَّانَ، بلفظ: «لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَيُحْسِنُ الوُضُوءَ فَيُصَلِّي صَلَاةً إِلَّا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَلِيهَا».

ثم ساق حديث الزهري، عن عروة، به، بمثله.

ثم ساق حديث إِسْحَاق بن سَعِيدِ بنِ عَمْرِو بنِ سَعِيدِ بنِ العَاصِ، عن أَبِيه، عَنْ جدّه، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ فَدَعَا بِطَهُورٍ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ».

ثم ساق حديث عَبْدالعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ حُمْرَانَ، عن عُثْمَان، بلفظ: «مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً».

ثم ساق حديث جَامِعِ بنِ شَدَّادٍ أَبِي صَخْرَةَ، عن حُمْرَانَ بنَ أَبَانَ، عن عثمان، بلفظ: «إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهَا».

ثم ساق رواية مخرمة عن بكير.

ثم ختم الباب بحديث عَبْداللهِ بن وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ، عن الحُكَيْمَ بن عَبْدِاللهِ القُرَشِيَّ، عن نَافِع بن جُبَيْرٍ، وعَبْداللهِ بن أَبِي سَلَمَةَ، عن مُعَاذ بن عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، بلفظ: «مَنْ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، فَصَلَّاهَا مَعَ النَّاسِ أَوْ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ».

·       الفرق بين الروايات في تكفير الذنب مطلقاً وتكفيرها ما بين الصلوات! وتخريج البخاري للأحاديث التي فيها الإطلاق!

قلت: الحديث صحيح، لكن في بعض الروايات التي ساقها الإمام مسلم أن الكفارة للذنوب التي بين الصلوات، وفي بعضها: غفران الذنوب التي قبلها مطلقاً!! وهذا اختلاف واضح!! وطالما أن مخرج الرواية واحد فلا بدّ أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال واحدة منها فقط! والأقرب كفارة الذنوب ما بين الصلوات، وأما غفران الذنوب التي قبلها مطلقاً فهذا فيه نظر!

فرواية عروة المدني وجامع الكوفي عن حمران بخلاف الروايات الأخرى.

ورواية عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص الأمويّ عن عثمان فيها نظر!! فهذا الحديث بهذه القصة معروف بحمران بن أبان مولى عثمان! وقد تفرد براويته أبو الوليد الطيالسي، فيحتمل أنه سقط منه "حمران"، ولهذا أورده البخاري في ترجمة "إسحاق بن سعيد" من "التاريخ الكبير"(1/391)، والله أعلم.

والدراوري تفرد به عن زيد بن أسلم، وفيه ضعف، ومعاذ بن عبدالرحمن وثقوه لتخريج البخاري ومسلم له هذا الحديث.

لكن البخاري - رحمه الله - خرّج الأحاديث التي فيها أن هذا الوضوء يغفر كل ما تقدم من الذنوب، فأخرج رواية معاذ بن عبدالرحمن (8/92) (6433).

وأخرج أيضاً في "صحيحه" (1/43) (159) رواية إِبرَاهِيم بن سَعْدٍ، وفي (3/31) (1934) رواية مَعْمَر، وفي (1/44) (164) رواية شُعَيْب، ثلاثتهم عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن عَطَاءَ بنَ يَزِيدَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ، رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاءِ، فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وعلّق رواية الزهري عن عروة التي أخرجها الإمام مسلم التي فيها «إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى».

قلت: الأكثر في حديث حمران: «غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا»، وما جاء في الروايات الأخرى ففي القلب منها شيء! ولهذا اضطر ابن حجر لتأويل الرواية التي فيها غفران الذنب الذي تقدّم، فقال في "فتح الباري" (11/251): "وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ حُمْرَانَ عِنْدَهُ: (فَيُصَلِّي صَلَاةً) وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْهُ: (فَيُصَلِّي الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ) وَزَادَ: (إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَلِيهَا) أَيِ الَّتِي سَبَقَتْهَا، وَفِيهِ تَقْيِيدٌ لِمَا أَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) وَإِنَّ التَّقَدُّمَ خَاصٌّ بِالزَّمَانِ الذِي بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَخْرَةَ عَنْ حُمْرَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ فَيُتِمُّ الطَّهُورَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُنَّ)، وَتَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ حُمْرَانَ: (إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَ)".

والخلاصة أن الإمام مسلم قد أخرج رواية مخرمة بن بكير عن أبيه في المتابعات، ومتنها مخالف لحديث عروة وجامع عن حمران في لفظ تكفير الذنوب، والله أعلم.

 

الحديث الثاني: قال مسلم في "صحيحه" (1/213) (240): حَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَبُو الطَّاهِرِ، وَأَحْمَدُ بنُ عِيسَى، قَالُوا: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى شَدَّادٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَدَخَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَتَوَضَّأَ عِنْدَهَا فَقَالَتْ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».

رواه أبو عوانة في "مستخرجه" (1/195) (620) عن أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ الوَهْبِيّ، وأَحْمَد بن عِيسَى، كلاهما عن ابن وَهْبٍ، به.

ورواه مالك في "الموطأ" (1/19) (5) أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ قَدْ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ.. الحديث.

فيحتمل أنه أخذه من مخرمة بن بُكير، والله أعلم.

بدأ مسلم بتخريج حديث مخرمة عن أبيه عن سالم مولى شداد.

ثم أتى بحديث مُحَمَّد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ، وأَبي سَلَمَةَ بن عَبْدِالرَّحْمَنِ، ونُعَيْم بن عَبْدِاللهِ، عن سالم أَبي عَبْدِاللهِ مَوْلَى شَدَّادِ بنِ الهَادِ.

فهؤلاء كلهم رووه عن سالم بن عبدالله النَّصْري أبي عبدالله المدني، مولى شداد بن الهاد، وهو سالم مولى مالك بن أوس بن الحَدَثان النَّصْري، وهو سالم مولى النصْريِّين، وهو سالم سَبَلان، وهو سالم مولى المَهْري، وهو سالم أبو عبدالله الدَّوْسي.

ثم خرّج مسلم شواهد الحديث، فأتى بحديث هِلَالِ بنِ يِسَافٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الأعرج، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ».

ثم حديث يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».

ثم خرّج حديث مُحَمَّدِ بنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمَطْهَرَةِ فَقَالَ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ».

وختم برواية سُهَيْل بن أبي صالح، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».

قلت: بدأ مسلم برواية مخرمة عن أبيه، ثم ذكر المتابعات لها، وذكر الشواهد لها، وحديث يوسف بن ماهك عن عبدالله بن عمرو، وحديث محمد بن زياد عن أبي هريرة كلاهما عند البخاري في الصحيح، وهما أصح مما بدأ به مسلم في أصل الباب. ونبّه على أن لفظة "أسبغوا الوضوء" في رواية أبي يحيى لا توجد في بعض الروايات، والصواب أنها مدرجة في الحديث. [وهذا يرد على محمد عوّامة في رأيه أن مسلماً يخرج الحديث الذي فيه علّة متنية في أصل الباب كما سيأتي].

·       حديث تفرد به سهيل بن أبي صالح عن أبيه!!

وختم بحديث سهيل بن أبي صالح؛ لأنه تفرد به عن أبيه عن أبي هريرة، والمحفوظ عن أبي هريرة من طريق محمد بن زياد القرشي المدني صاحب أبي هريرة.

 

الحديث الثالث: قال مسلم في "صحيحه" (1/243) (295) حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ [ح].

وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابنِ عبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ مَعِي وَأَنَا حَائِضٌ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ».

رواه أبو عوانة في "مستخرجه" (1/259) (896) من طريق أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ الوَهْبِيُّ.

ورواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (1/353) (679) من طريق أَحْمَد بنُ عِيسَى، وهَارُون بن سَعِيدٍ الْأَيْلِي، وأَحْمَد بن صَالِحٍ.

ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/24) (60) عن أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، عن أَحْمَد بن صَالِحٍ.

ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/464) (1491) من طريق حُسَيْن بن حَسَن بن مُهَاجِرٍ، عن هَارُون بن سَعِيدٍ الْأَيْلِيّ.

كلهم عن ابن وهب، به.

بدأ مسلم بتخريج حديث عَبْدِاللهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِرُ نِسَاءَهُ فَوْقَ الْإِزَارِ وَهُنَّ حُيَّضٌ».

ثم ساق حديث مخرمة بن بُكير، عن أبيه، عن كُريب، عن ميمونة، بمعناه.

وقد روى مسلم بهذا الإسناد حديثاً آخر من غير رواية مخرمة، وإنما من رواية عَمْرو بن الحارث، عن بُكَيْر بن الْأَشَجِّ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ عِنْدَهَا كَتِفًا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ». وتابعه عليه: يَعْقُوب بن الْأَشَجِّ، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.

فرواية بكير عن كريب عن ميمونة غير مستنكرة وهي صحيحة، لكن لا ندري هل روى بكير عن كريب عن ميمونة حديث مباشرة الحائض كما رواه مخرمة عنه؟!!

ومسلم أخرج هذه الرواية متابعة.

 

الحديث الرابع: قال مسلم في "صحيحه" (1/247) (303): وحَدَّثَنِي هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَرْسَلْنَا المِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ المَذْيِ يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ كَيْفَ يَفْعَلُ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ».

رواه عبدالله بن أحمد في "زوائده على المسند" (2/193) (823)، والنسائي في "السنن الكبرى" (1/214) (438) كلاهما عن أَحْمَد بن عِيسَى.

ورواه أبو عوانة في "مستخرجه" (1/229) (763)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/15) (22) كلاهما عن أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ وَهْبِ بنِ مُسْلِمٍ.

ورواه البزار في "مسنده" (2/101) (452) من طريق أَصْبَغ بن الفَرَجِ.

ورواه ابن عدي في "الكامل" (8/176) من طريق إِبْرَاهِيم بن المُنْذِرِ الحَرَمِيّ.

كلهم عن عَبْداللهِ بن وَهْبٍ، به.

قال النسائي بعد أن أخرجه: "مخرمة لم يسمع من أبيه شيئاً".

وقال البزار: "ولا نَعْلَمُ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ. وَلَا لَهُ إِسْنَادٌ إِلَّا هَذَا الْإِسْنَادُ".

وذكره ابن عدي في منكرات "مخرمة بن بكير" في ترجمته!

وهذا من الأحاديث التي استدركها الدارقطني على الإمام مسلم في "الإلزامات والتتبع" (ص: 283) (136) وقال: "وقال حماد بن خالد: سألت مخرمة سمعت من أبيك شيئاً؟ قال: لا. وقد خالفه الليث عن بكير عن سليمان، فلم يذكر ابن عباس، وتابعه مالك عن أبي النضر أيضاً".

وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/330): "وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ".

قلت: وهو كما قال الدارقطني، فإن هذا الحديث محفوظ عن بُكير مرسلاً. وقد بيّن ذلك النسائي في كتابه، فإنه بعد أن ساق رواية مخرمة عن أبيه، ساق رواية اللَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَرْسَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ المِقْدَادَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْمَذْيَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ثُمَّ لِيَتَوَضَّأْ»، مرسلاً.

ثم ساق رواية مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عَنِ المِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ، فكذر نحوه.

قلت: فالمحفوظ عن بكير عن سليمان بن يسار عن عليّ، مرسلاً، وقد وهم مخرمة بزيادة "ابن عباس فيه".

وكان مسلم - رحمه الله - خرّج أولاً رواية محمد ابنِ الحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَأَمَرْتُ المِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ». وهذه رواية صحيحة.

ثم ساق رواية مخرمة بن بُكير، عن أبيه، وفيها وهم!

·       وهم لابن حبان!

لما ساق ابن حبان في "صحيحه" (3/384) (1101) رواية مالك عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عَنِ المِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.. الحديث.

قال ابن حبّان: "مَاتَ المِقْدَادُ بنُ الْأَسْوَدِ بِالجُرُفِ، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ. وَمَاتَ سليمان بن يسار أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ سَمِعَ سُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ المقداد وهو ابن دون عشر سنين".

قلت: هذا وهم من ابن حبان! اعتمد فيها على أن سليمان بن يسار توفي سنة أربع وتسعين!

وهذا رواه البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/235) قال: حَدثنَا هَارُون بن مُحَمَّد قَالَ: سَمِعت بعض أَصْحَابنَا قَالَ: "مَاتَ سُلَيْمَان بن يسَار وَسَعِيد بن الْمسيب وَعلي بن الحُسَيْن وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن يُقَال سنة الْفُقَهَاء سنة أَربع وَتِسْعين".

قلت: شيخ هارون مجهول!

وقال ابن أبي خيثمة في "التاريخ الكبير" (2/150): سَمِعْتُ يَحْيَى بْن مَعِيْن يَقُولُ" سُلَيْمَان بن يَسَار مات سنة سبع ومئة، ويُقال: سنة أربع وتسعين".

قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (3/59): "وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَنَةَ أربعٍ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ غَلَطٌ، تُوُفِّيَ فِي عُشْرِ الثَّمَانِينَ".

وقال في "سير أعلام النبلاء" (4/447): "وَقَالَ يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَهَذَا وَهْمٌ، لَعَلَّهُ تَصَحَّفَ. وَقَالَ خَلِيْفَةُ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ.

وقَالَ الهَيْثَمُ بنُ عَدِيٍّ: سَنَةَ مائَةٍ. وَهَذَا شَاذٌّ، وَأَشَذُّ مِنْهُ: رِوَايَةُ البُخَارِيِّ، عَنْ هَارُوْنَ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَجُلٍ".

قلت: وأكثر العلماء أرخ وفاته سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.

قال ذلك: مصعب بْن عَبداللَّهِ الزبيري، ومحمد بْن سعد، وعَمْرو بْن علي الفلاّس، ويحيى بْن مَعِين، وعلي بْن عَبداللَّهِ التميمي، وابن زَبْر، وغيرهم.

قال الذهبي بعد أن رجّح أنه توفي سنة سبع ومائة: "قُلْتُ: فَيَكُوْنُ مَوْلِدُهُ فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِ عُثْمَانَ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلاَثِيْنَ".

قلت: وهذا ما نصّ عليه ابن حبان، فإنه قال في "الثقات" (4/301): "مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَةٍ وَكَانَ لَهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ سِتٌّ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقَدْ قِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ وَهَذَا أَصَحُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ".

وقال في "مشاهير علماء الأمصار" (ص: 106): "كان مولده سنة أربع وثلاثين ومات سنة تسع ومائة".

قلت: فها هو ابن حبان ينصّ على أن مولده كان سنة أربع وثلاثين أي بعد وفاة المقداد بسنة! فكيف يقول في "الصحيح" أنه سمع من المقداد؟!! وهذا لا شك وهم منه؛ لأنه اعتمد الرواية التي فيها أنه توفي سنة أربع وتسعين!

·       وهم للشيخ شعيب الأرنؤوط:

وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط أثناء تحقيقه "لصحيح ابن حبان" عن حديث مالك: "رجاله ثقات إلا أن في السند انقطاعاً سقط منه ابن عباس؛ لأن سليمان بن يسار لم يسمع من المقداد ولا من علي، وقد أخرجه مسلم "303" "19"، وابن خزيمة "22"، والنسائي 1/214، والبيهقي في "معرفة السنن" 1/292، من طريق ابن وهب، عن مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن علي بن أبي طالب أرسل المقداد إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم".

قلت: اعتمد الشيخ شعيب رواية مخرمة في دفع الانقطاع في الرواية فوهم!! لأن رواية مخرمة لا تصح! وزيادة "ابن عباس" فيها وهم! فكيف ندفع الانقطاع بزيادة شاذة في الإسناد؟! والمحفوظ في هذه الروايات عن سليمان بن يسار عن المقداد أو عليّ، مرسلاً.

 

الحديث الخامس: قال مسلم في "صحيحه" (1/256) (321) حَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ بَدَأَ بِيَمِينِهِ، فَصَبَّ عَلَيْهَا مِنَ المَاءِ، فَغَسَلَهَا، ثُمَّ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الْأَذَى الَّذِي بِهِ بِيَمِينِهِ، وَغَسَلَ عَنْهُ بِشِمَالِهِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ جُنُبَانِ».

رواه أبو عوانة في "مستخرجه (1/249) (858) عن يُونُس بن عَبْدِالْأَعْلَى.

ورواه أبو نعيم في "المسند المستخرج" (1/370) (721) من طريق مُحَمَّد بن الحَسَنِ بنِ قُتَيْبَةَ، عن هَارُون بن سَعِيدٍ الأَيْلِيّ.

ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/266) (814) من طريق مُحَمَّد بن عَبْدِاللهِ بنِ عَبْدِالحَكَمِ، وَبَحْر بن نَصْرٍ.

كلهم عن ابنِ وَهْبٍ، به.

قلت: هذا الحديث رواه مسلم في الأصل في مسألة اغتسال التبي صلى الله عليه وسلم وعائشة في إناء واحد، وهو مشهور من حديث عائشة، لكن دون صفة الغسل الذي جاءت في رواية مخرمة هذه!

والمحفوظ في هذه الصفة من حديث أبي سلمة ما رواه مسلم في "صحيحه" (1/256) (320) من حديث أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَا وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ «فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرِ الصَّاعِ فَاغْتَسَلَتْ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ وَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثلَاثًا» قَالَ: «وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ».

ورُوي عن أبي سلمة بصفة أخرى، رواه أحمد "مسنده" (41/192) (24648) من طريق عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ جَنَابَةٍ يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَأْخُذُ بِيَمِينِهِ لِيَصُبَّ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ حَتَّى يُنَقِّيَهُ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَهُ غَسْلًا حَسَنًا، ثُمَّ يُمَضْمِضُ ثَلَاثًا، وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا، وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَغْتَسِلُ، فَإِذَا خَرَجَ غَسَلَ قَدَمَيْهِ".

وعطاء بن السائب صدوق إلا أنه تغيّر وساء حفظه، فلا يُحتج بحديثه.

وصفة الغسل مشهورة في الصحيح من حديث كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: «وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا، فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ، وَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الأَرْضَ، فَمَسَحَهَا، ثُمَّ غَسَلَهَا، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وَأَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ».

فلفظ حديث مخرمة عن أبيه يخالف حديث غيره!

 

الحديث السادس: قال مسلم في "صحيحه" (1/328) (443): حَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ، كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ العِشَاءَ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ».

رواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (2/64) (987) من طريق عن مُحَمَّد بن الحَسَنِ بنِ قُتَيْبَةَ، عن هَارُون بن سَعِيدٍ الأَيْلِيّ، عن ابن وهب، به.

ورواه الدارقطني في "العلل" (9/85) من طريق يَحْيَى بن عَبْدِاللَّهِ بنِ بُكَيْرٍ المِصْرِيُّ، عن مَيْمُون بن عَبْدِاللَّهِ بنِ مُسْلِمِ بنِ الْأَشَجِّ، عن مخرمة، به.

وقد توبع مخرمة عليه، تابعه مُحَمَّد بن عَجْلَانَ، عن بكير.

رواه مسلم بعده مباشرة من حديث يَحْيَى بن سَعِيدٍ القَطَّان، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ: حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بنُ عَبْدِاللهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ، امْرَأَةِ عَبْدِاللهِ، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ المَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا».

وتابعهما عليه أيضاً: مُحَمَّد بن عَبْدِاللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ هِشَامٍ (عند ابن سعد في الطبقات: 8/226، وأحمد في المسند: 44/597، 27047)، وعُبَيْداللهِ بن أَبِي جَعْفَرٍ (عند أبي عوانة في المستخرج: 1/396، 1449، والطبراني في المعجم الكبير: 24/284، 723)، وعَبْداللهِ بن مُسْلِمٍ أَخو الزُّهْرِيّ (عند الطبراني في الكبير: 24/284، 721)، وابْنُ جُرَيْجٍ (عند الطبراني في الكبير: 24/283، 717)، وابن لهيعة (عند الدارقطني في العلل: 9/85)، كلهم عن بُكَيْرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ بنِ الأَشَجِّ، به، نحوه.

فالحديث محفوظ عن بُكير بن عبدالله، وقد أصاب مخرمة في روايته.

·       هل خرّج مسلمٌ حديث الفَرْوِيَّ لتعليله؟!

وختم مسلمٌ الباب بحديث يَحْيَى بن يَحْيَى، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ، عن عَبْداللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ».

ورواه أحمد في "مسنده" (13/405) (8035) عن أَبي عَامِرٍ.

ورواه أبو داود في "سننه" (6/249) (4175) عن النُّفيليّ، وسعيد بن منصور.

ورواه النسائي في "السنن الكبرى" (8/349) (9363) عن مُحَمَّد بن هِشَامِ بنِ عِيسَى البَغْدَادِيّ.

ورواه البزار في "مسنده" (15/24) (8209) عن أحمد بن أَبَان القرشي.

كلّهم عن عبدالله بن محمد أَبي عَلْقَمَةَ الفَرْوِيَّ، به.

قال النسائي: "لا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا تَابَعَ يَزِيدَ بنَ خُصَيْفَةَ عَلَى قَوْلِهِ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) وَقَدْ خَالَفَهُ يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِاللهِ بنِ الْأَشَجِّ، رَوَاهُ عَنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ".

قلت: الذي خالفه هو: بُكير بن عبدالله الأشج كما في الأحاديث أعلاه، والذي ذكر أنه "يعقوب بن عبدالله الأشج" هو وُهَيْبٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَجْلَانَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِاللهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ!

قال النسائي: "خَالَفَهُ يَحْيَى رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِاللهِ"، ثم ساقه من طريق يحيى بن سعيد وجرير بن عبدالحميد، ثم قال: "وحَدِيثُ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ وَجَرِيرٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ".

قلت: لكن هناك رواية لابن عيينة عن ابن عجلان عن يعقوب، وستأتي، فكأنه ابن عجلان كان يضطرب فيه، والله أعلم.

وذكر "أبي هريرة" في حديث يزيد بن خصيفة وهم! والصواب: "عن زينب"، وأكبر ظنّي أن الوهم من الفروي لا من يزيد.

قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/242) (347): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ سُفْيان بن عُيَينة، عن ابنِ عَجْلان، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عبدالله بْنِ الأَشَجّ، عَنْ بُسْر بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال لزينبَ امرأةِ عبدالله: "إِذَا خَرَجْتِ إِلَى صَلاةِ المَغْرِبِ، فَلا تَطَيَّبِينَ"؟

قال أَبِي: "هَذَا خطأٌ؛ إِنَّمَا هُوَ: بُسْر بنُ سَعِيدٍ، عَنْ زينبَ الثَّقَفية- امرأةِ عبدالله ابن مسعود - عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم".

وانظر: "علل الدارقطني" (9/75) (1653).

وكأن من رواه عن بسر بن سعيد عن أبي هريرة دخل له إسناد في إسناد! فإن بكير بن عبدالله روى عن بسر عن أبي هريرة بعض الأحاديث.

روى مسلم في "صحيحه" (4/2169) (2816) قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، قال: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالَ رَجُلٌ: وَلَا إِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «وَلَا إِيَّايَ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا».

قال: وحَدَّثَنِيهِ يُونُسُ بنُ عَبْدِالْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بنِ الْأَشَجِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: «بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ «وَلَكِنْ سَدِّدُوا».

 

الحديث السابع: قال مسلم في "صحيحه" (1/386) (543): حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ. [ح].

وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ، يَقُولُ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِلنَّاسِ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي العَاصِ عَلَى عُنُقِهِ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا».

رواه أبو داود في "سننه" (2/184) (919) عن محمد بن سلمةَ المُرادي.

ورواه أبو عوانة في "مستخرجه" (1/469) (1740) عن أَبي دَاوُدَ السِّجْزِيّ، عن مُحَمَّد بن وَهْبٍ.

ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1/50) (140) عن أَحْمَد بن يَحْيَى بنِ خَالِدِ بنِ حَيَّانَ، عن هَارُون بن سَعِيدٍ الْأَيْلِيّ.

ورواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (2/142) (1195) من طريق مُحَمَّد بن الحَسَنِ، عن هَارُون بن سَعِيدٍ الأَيْلِيّ.

كلهم عن ابن وَهْبٍ، به.

قال أبو داود بعد أن خرّجه: "ولم يسمع مَخْرَمةُ من أبيه إلا حديثًا واحدًا".

قلت: لم يروه عن بُكير إلا مخرمة! ولهذا أورده الطبراني في كتابه "الأوسط" لغرابته!

وقد بدأ مسلم في الباب بتخريج حديث مَالِكٍ، عن عَامِر بن عَبْدِاللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، نحوه.

ثم ساق حديث عُثْمَانَ بنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَابْنِ عَجْلَانَ، عن عَامِر بن عَبْدِاللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، بنحوه.

ثم ساق رواية مخرمة عن أبيه في المتابعات.

 

الحديث الثامن: قال مسلم في "صحيحه" (2/584) (853) وحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ. [ح].

وحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُاللهِ بنُ عُمَرَ: أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ سَاعَةِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ».

رواه أبو داود في "سننه" (2/281) (1049) عن أحمد بن صالح.

ورواه الرّوياني في "مسنده" (1/326) (494)، وابن خزيمة في "صحيحه" (3/120) (1739) كلاهما عن أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ وَهْبٍ.

ورواه أبو عوانة في "مستخرجه" (2/130) (2551) عن أَبي حَاتِمٍ الرَّازِيّ، عن حَجَّاج بن إبْرَاهِيْمٍ الْأَزْرَق.

ورواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (2/443) (1921) من طريق أَبي الطَّاهِرِ أَحْمَد بن عَمْرِو بنِ السَّرْحِ، ودَاوُد بن مِحْزَاقٍ، وهَارُون بن سَعِيدٍ.

ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/354) (5999) من طريق أَحْمَد بن عِيسَى، وأَحْمَد بن صَالِحٍ.

كلهم عن عَبْداللَّهِ بن وَهْبٍ، عن مخرمة، به.

ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (3/120) (1739)، وأبو عوانة في "مستحرجه" (2/131) (2552)، والروياني في "مسنده" (1/328) (498)، عن أَبي عُبَيْدِاللَّهِ أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ، قال: حَدَّثَنَا عَمِّي، أَخْبَرَنِي مَيْمُونُ بنُ يَحْيَى - وَهُوَ ابْنُ أَخِي مَخْرَمَةَ-، عَنْ مَخْرَمَةَ، فَذَكَرَ الحَدِيثَ بِمِثْلِهِ.

قال أبو عبيدالله: قالَ عَمِّي: ثُمَّ حَدَّثَنِيهِ مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ.

قلت: فهذا يدلّ على أنّ مخرمة كان يُحدثهم من حفظه، والله أعلم.

·       تصحيح مسلم لهذا الحديث نصّاً!

وهذا الحديث أخرجه مسلم لبيان وقت الساعة التي تُرجى فيها الإجابة يوم الجمعة، وكان يصححه، ولهذا أخرجه في كتابه في الأصل، ولم يخرّج غيره في تعيينها!

روى البيهقي في "السنن الكبرى" (3/355) من طريق يَحْيَى بن مَنْصُورٍ القَاضِي، قال: حدثنا أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ يَقُولُ، وَذَاكَرْتُهُ بِحَدِيثِ مَخْرَمَةَ هَذَا، فَقَالَ: "هَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ وَأَصَحُّهُ فِي بَيَانِ سَاعَةِ الجُمُعَةِ".

وقد انتقده الدارقطني بتخريجه له في "صحيحه"! فقال في "الإلزامات والتتبع" (ص: 166) (40): "وهذا الحديث لم يسنده غير مخرمة بن بكير عن أبية عن أبي بردة. وقد رواه جماعة عن أبي بردة من قوله.

ومنهم من بلغ به أبا موسى ولم يسنده، والصواب من قول أبي بردة منقطع. كذلك رواه يحيى بن سعيد القطان عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة، وتابعه واصل الأحدب. رواه عن أبي بردة قوله. قاله جرير عن مغيرة عن واصل.

وتابعهم مجالد بن سعيد: رواه عن أبي بردة كذلك. وقال النعمان بن عبدالسلام عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه موقوف، ولا يثبت قوله (عن أبيه)، ولم يرفعه غير مخرمة عن أبيه. وقال أحمد بن حنبل عن حماد بن خالد قلت لمخرمة: سمعت من أبيك شيئاً؟ قال: لا".

وقال في "العلل" (7/212) (1297): "يَرْوِيهِ مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُاللَّهِ بنُ وَهْبٍ عَنْهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ.

وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:

فَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بنُ عَمْرٍو، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَخَالَفَهُ النُّعْمَانُ بنُ عَبْدِالسَّلَامِ، فَرَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْقُوفًا.

وَخَالَفَهُمَا يَحْيَى القَطَّانُ، فَرَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَوْلِهِ.

وَتَابَعَهُ عَمَّارُ بنُ رُزَيْقٍ، فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَوْلِهِ.

وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بنُ قُرَّةَ، وَمُجَالِدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ من قوله.

وحديث مخرمة بن بكير، أخرجه مسلم في الصحيح، والمحفوظ من رواية الآخرين، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ".

قلت: وقول الدارقطني: "تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُاللَّهِ بنُ وَهْبٍ عَنْهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ"! فيه نظر! فقد رواه عبدالله بن وهب أولاً عن مَيْمُون بن يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ أَخِي مَخْرَمَةَ، عَنْ مَخْرَمَةَ، ثم سمعه من مخرمة دون واسطة كما جاء مصرحاً من كلامه، وهذا يعني أنّ ابن وهب لم يتفرد به، بل تابعه ميمون عليه، وهو تفرد بروايته عنهما.

ومعنى قوله: "وهو صحيح عنه" يعني أنه صحّ من روايته، لا أنه يصحح الحديث، فتنبّه.

والدارقطني أعلّ الحديث بوقفه على أبي بردة ابن أبي موسى وأنه من كلامه.

وقد أعلّه الحافظ ابن حجر أيضاً، فقال في "فتح الباري" (2/422): "أُعِلَّ بِالِانْقِطَاعِ وَالِاضْطِرَابِ.

أَمَّا الِانْقِطَاعُ: فَلِأَنَّ مَخْرَمَةَ بنَ بُكَيْرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، قَالَهُ أَحْمَدُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ مَخْرَمَةَ نَفْسِهِ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مَخْرَمَةَ، وَزَادَ: (إِنَّمَا هِيَ كُتُبٌ كَانَتْ عِنْدَنَا). وَقَالَ عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ: (لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَقُولُ عَنْ مَخْرَمَةَ إِنَّهُ قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ: سَمِعْتُ أَبِي).

ولا يُقَالُ مُسْلِمٌ يَكْتَفِي فِي المُعَنْعَنِ بِإِمْكَانِ اللِّقَاءِ مَعَ المُعَاصَرَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ وُجُودُ التَّصْرِيحِ عَنْ مَخْرَمَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ كَافٍ فِي دَعْوَى الِانْقِطَاعِ.

وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ: فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَوَاصِلٌ الْأَحْدَبُ وَمُعَاوِيَةُ بنُ قُرَّةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَبُو بُرْدَةَ كُوفِيٌّ فَهُمْ أَعْلَمُ بِحَدِيثِهِ مِنْ بُكَيْرٍ الْمَدَنِيِّ، وَهُمْ عَدَدٌ وَهُوَ وَاحِدٌ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَبِي بُرْدَةَ مَرْفُوعًا لَمْ يُفْتِ فِيهِ بِرَأْيهِ بِخِلَافِ المَرْفُوعِ، وَلِهَذَا جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ المَوْقُوفَ هُوَ الصَّوَابُ".

ولعل قائل يقول: ما ذكره مخرمة عن أبيه من قصة سؤال ابن عمر لأبي بردة يدلّ على أنه ضبط الرواية؟!

والجواب أنّ هذا القول من أبي بردة كان موجهاً لابن عمر فيما رواه الكوفيون، وهذا يدلّ على أنّ مخرمة أخطأ على أبيه! فرفع الحديث، وهو من قول أبي بردة.

روى ابن عبدالبر في "التمهيد" (19/22) من طريق رَوْح بن عُبَادَةَ، قال: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بنِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ: "هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ". فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: "أَصَابَ اللَّهُ بِكَ".

ثم روى من طريق مُغِيرَة بن مِقسم الضبيّ، عَنْ وَاصِلِ بنِ حَيّان، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قال: قلت لأبي: إني لأعلم أَيَّ سَاعَةٍ هِيَ! فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟! فَقُلْتُ: "هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا الْإِمَامُ وَهِيَ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ". فَقَالَ: "بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ".

قلت: كذا عند ابن عبدالبر: "قلت لأبي"! وهو خطأ، والصواب: "فقلت لابن عمر"، سقط اسم "عمر" وتحرفت "لابن" إلى "أبي".

ونقله ابن رجب في "فتح الباري" (8/300) على الصواب، فقال: "وكذلك رواه واصل بن حيانٍ، عن أبي بردة، قال: ذكر عند ابن عمر الساعة التي في الجمعة، فقلت: إني أعلم أي الساعة هي. قال: وما يدريك؟ قلت: هي الساعة التي يخرج فيها الإمام، وهي أفضل الساعات. قال: بارك الله عليك".

وهذا هو الصواب لموافقته لرواية معاوية بن قرة، ولا دخل لأبي موسى والد أبي بردة في هذا الحديث.

 

الحديث التاسع: قال مسلم في "صحيحه" (2/676) (982): وحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ عِيسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِرَاكِ بنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيْسَ فِي العَبْدِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الفِطْرِ».

رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (4/30) (2289)، وأبو عوانة في "مستخرجه" (2/152) (2636) عن أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ وَهْبٍ.

ورواه أبو عوانة أيضاً عن مُضَر بن مُحَمَّدٍ القُمِّيُّ، عن حَرْمَلَة.

ورواه الدارقطني في "سننه" (3/38) (2024) عن أَبي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيّ، عن أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ وَهْبٍ.

ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/269) (7673) من طريق عَلِيّ بن الحُسَيْنِ بنِ الجُنَيْدِ، عن أَحْمَد بن صَالِحٍ.

كلهم عن ابن وَهْبٍ، به.

وقد خرّج مسلم في أصل الباب حديث سُلَيْمَان بن يَسَارٍ، ومكحول، وخُثَيْمِ بنِ عِرَاكِ، ثلاثتهم عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ».

ثم أخرج رواية مخرمة عن أبيه عن عراك، بنحوه إلا أنه ذكر في حديثه الاستثناء «إِلَّا صَدَقَةُ الفِطْرِ».

وهذا الحديث بهذا اللفظ تفرد به مخرمة عن أبيه عن عراك! والظاهر أن مسلماً أخرجه في المتابعات.

وأخشى أن يكون مخرمة وهم فيه! فقد يكون حديث بكير عن سليمان بن يسار عن عراك! فسقط من إسناده "سليمان"؛ لأن بكيراً له رواية عن سليمان بن يسار! والله أعلم.

ثم لو صحّت رواية مخرمة عن أبيه عن عراك، ففي روايته مخالفة لغيره ممن رواه عن عراك في لفظه!! فلم يذكر "الفرس"، وزاد فيه الاستثناء!! وهذا يدلّ على أوهامه في ألفاظ الأحاديث!

 

الحديث العاشر: قال مسلم في "صحيحه" (2/856) (1198): حَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ عِيسَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَاللهِ بنَ مِقْسَمٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ القَاسِمَ بنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "أرْبَعٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الحِدَأَةُ، وَالغُرَابُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ الْعَقُورُ"، قَالَ: فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ: أَفَرَأَيْتَ الحَيَّةَ؟ قَالَ: «تُقْتَلُ بِصُغْرٍ لَهَا».

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" (3/377) (2287) عن يَعْقُوب بن حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ.

ورواه أبو عوانة في "مستخرجه" (2/410) (3631) من طريق إبراهيم بن المنذر الحِزَامِيّ، وأَحْمَد بن عِيسَى، وابن أَخِي ابْنِ وَهْبٍ.

ورواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (3/286) (2750) من طريق أَحْمَد بن عِيسَى، وأَحْمَد بن صَالِحٍ.

ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/342) (10031) من طريق حَرْمَلَة.

كلّهم عن عَبْداللهِ بن وَهْبٍ، به.

وهذا الحديث بهذا الإسناد تفرّد به مخرمة عن أبيه عن عُبيدالله بن مقسم.

وقد بدأ الإمام مسلم بتخريج حديث مخرمة في الأصل!

ثمّ خرّج حديث مُحَمَّد بن جَعْفَرٍ غُنْدَر، عن شُعْبَة، عن سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الحَيَّةُ، وَالغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالحُدَيَّا».

نلاحظ الفرق بين الروايتين، ففي رواية مخرمة ذكر: «أربع فواسق»، وفي رواية غندر من طريق آخر: «خمسٌ»، وكأن مسلماً أراد تأييد ذكر القاسم للحيّة وهي تضاف للأربع التي ذكرها، وأتى بعدها برواية الخمس وفيها ذكر "الحية"!

لكن ما ذُكر في رواية غندر مسندٌ في الرواية ومرفوع، وأما ما في رواية القاسم فموقوف.

·       شك شعبة في لفظ حديث!

ثمّ إنّ ذكر «الحية» في رواية قتادة فيها اختلاف على شعبة!

فغندر ذكرها في روايته، وتابعه على ذلك النضر بن شميل كما عند إسحاق بن راهويه في "مسنده" (2/515) (1102)، وخالفهما: أبو داود الطيالسي كما في "مسنده" (3/ 115) (1625)، وعَمْرُو بنُ مَرْزُوقٍ كما في "معجم ابن الأعرابي" (2/823) (1687) فإنهما ذكرا عن شعبة: «العَقْرَب» بَدَلَ «الحَيَّة»!

ولهذا لما ذكر البيهقي رواية الطيالسي عن شعبة في "السنن الكبرى" (5/342) قال: "أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ: الحَيَّةُ بَدَلَ العَقْرَبِ، وَكَأَنَّ شُعْبَةَ كَانَ شَكَّ فِي ذَلِكَ".

ثم خرّج مسلم بعد ذلك حديث هِشَام بن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: «الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ».

وهذا الحديث لا اختلاف فيه من حديث عائشة.

ثم خرّج مسلم شواهد الحديث، فساق حديث سَالِم بن عبدالله بن عمر، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ: الفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ».

ثم ساق حديث سَالِم بن عَبْدِاللهِ، عن عَبْداللهِ بن عُمَرَ، عن حَفْصَةُ، مثله.

ثم ساق حديث زُهَيْر، عن زَيْد بن جُبَيْرٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ، مَا يَقْتُلُ المُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ أَوْ «أُمِرَ أَنْ يَقْتُلَ الْفَأْرَةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْحِدَأَةَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْغُرَابَ».

ثم ساق حديث أَبي عَوَانَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، بمثله، وزاد فيه: «الحَيَّةِ» قَالَ: «وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا».

قلت: وذكر «الحَيَّةِ» شاذٌ في حديث ابن عمر وحفصة!

ثم خرّج حديث نَافِعٍ، وَعُبَيْدِاللهِ بنِ عَبْدِاللهِ، وعَبْدِاللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابنِ عُمَر، عن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ».

والخلاصة أنّ مسلماً خرّج في الأصل الرواية التي فيها ذكر «الحَيَّةِ» في حديث عائشة! وهذا لفظ شاذ في المحفوظ عنها، والمحفوظ في حديث ابن عمر وحفصة أيضاً.

والرواية التي جاء بها مسلم لتأييد هذا اللفظ من حديث شعبة جاء برواية غُندر فقط! وأعرض عن الروايات الأخرى التي تدلّ على شك شعبة فيها، فيرجّح عنه ما هو محفوظ في الروايات الأخرى وكذا في شواهد الحديث، وهو شذوذ ذكر «الحَيَّةِ»! وجاء قتلها في حديث ابن مسعود عند البخاري وغيره، لكن لا يحفظ هذا في حديث عائشة، ولا ابن عمر وحفصة.

 والخلاصة أن رواية مخرمة التي بدأ بها الإمام مسلم طريقها غريب! ولفظها مخالف للمحفوظ من حديث عائشة.

وقد أشار الدارقطني إلى رواية عبيدالله بن مقسم عن القاسم عن عائشة، لكنه لم يذكر من رواه عن عبيدالله، ولم يبيّن متنها أو وقفها ورفعها، لكن الظاهر أنه قصد المتن المعروف لأنه سئل عنه في الأصل.

قال في "العلل" (15/28) (3807) لما سئل عن حديث عروة، عن عائشة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب يقتلن في الحل والحرم ... فذكرهن؟: "وروى هذا الحديث القاسم، عن عائشة، حدّث به عبيدالله بن مقسم، عن القاسم، عن عائشة وأما عبد الرحمن بن القاسم، فاختلف عنه؛ فرواه شعبة عنه موقوفاً؛ ورفعه المسعودي عنه".

قلت: فربما أن هذه الرواية التي أشار إليها هي رواية مخرمة، ويُستفاد مما ذكره الدارقطني أن عبدالرحمن بن القاسم رواه أيضاً عن أبيه عن عائشة، واختلف في روايته بين الوقف كما روى شعبة، والرفع كما روى المسعودي.

روى أحمد في "مسنده" (42/490) (25753) عن وَكِيع، عَنِ المَسْعُودِيِّ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحَيَّةُ فَاسِقَةٌ، وَالْعَقْرَبُ فَاسِقَةٌ، وَالْغُرَابُ فَاسِقٌ، وَالْفَأْرَةُ فَاسِقَةٌ".

وشعبة أوثق وأحفظ من المسعودي، والمسعودي كان قد اختلط، فرفعه هنا وهم!

لكن رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/351) (14837) عن عَبْداللَّهِ بن نُمَيْرٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بن أبي سفيان، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُهُ - أي النبي صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ فَاقْتُلُوهُنَّ فِي الْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ".

قلت: فيحتمل أن القاسم كان أحياناً يقفه، وأحياناً يرفعه، وهو محفوظ من الوجهين، وليس فيه ذكر "الحية".

وروى الفاكهي في "أخبار مكة" (3/378) من طريق ابن جُرَيْجٍ، قال: أَخْبَرَنِي أَبَانُ بنُ صَالِحِ بنِ عُمَيْرٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: "أُحِلَّ خَمْسٌ لِلْحَرَامِ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ".

قَالَ أَبَانُ: فَقُلْتُ لَهُ: أَلِخَبَرٍ؟ فَقَالَ: "ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ: هِيَ أَفْسَقُ الْفَسَقَةِ".

والخلاصة أنّ رواية مخرمة عن أبيه عن عبيدالله بن مقسم عن القاسم عن عائشة التي أوردها مسلم فيها وهم في متنها! فذكر أربعاً فقط، ثم زاد الخامسة "الحية" من كلام القاسم! ولا يحفظ هذا في رواية القاسم عن عائشة!

·       وهم آخر لمخرمة في حديثه عن أبيه!

وبُكير بن عبدالله والد مخرمة يروي عن عبيدالله بن مقسم، لكن إن حصل وهم في روايته، فإن ذلك يكون من مخرمة!

فقد روى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/124) في ترجمة "عبدالرحمن بن عُسيلة أبي عبدالله الصُّنابحي" حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي عبدالله الصنابحي: "نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ثلاث ساعات".

ثم أتبعه بحديث ابن وهب، عن مخرمة، عن أبيه، عن عبيدالله بن مقسم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: "نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاتين".

قلت: وقصد ابن عساكر أن يُبيّن الوهم في رواية مخرمة عن أبيه! لأن هذه الرواية محفوظة عن عطاء بن يسار عن أبي عبدالله الصنابحي!

وقد وهم مخرمة في هذا الحديث أيضاً.

·       رأي محمد عوّامة في كيفية تعليل الإمام مسلم للأحاديث!!

فهل قصد الإمام مسلم بتخريجه لحديث مخرمة عن أبيه تصحيحه أم بيان ما فيه من شذوذ لفظة "الحيّة" فيه؟!

أقول: الظاهر أنه - رحمه الله - يصححه سيما وأنه خرّجه في الأصول، لكن ذهب الشيخ محمد عوامة في "مقدمة تحقيقه لكتاب المصنف" لابن أبي شيبة (1/106) أن الإمام مسلم إذا أراد بيان ما في المتن من علّة فإنه يقدّم الطريق المعلول، ثم يتبعه بالصحيح، بعكس ما إذا أراد بيان العلّة في الإسناد، فإنه يُقدّم الصحيح، ثم يؤخر المُعلل!

وهذا الذي قاله عوّامه فيه نظر! والأمثلة التي أتى بها لا تسعفه في ذلك، وسأبيّن ذلك في بحثٍ مستقل إن شاء الله. وارجع للحديث الثاني ففيه لفظ مدرج لم يخرّجه مسلم في الأصل!

ثمّ إن الإمام مسلماً لما تكلم في مقدمة كتابه عن بيان العلل لم يُشر إلى التفرقة بين العلل في المتن أو الإسناد، وكذلك فنسبة منهج معيّن له بإطلاق فيه نظر! لأن من ذهب أيّ مذهب في ذلك ونسبه له سيواجه ما يخالفه كمن يقول بأنه يؤخر الحديث الذي فيه علّة إلى آخر أحاديث الباب! وإن كان لهذا الرأي وجه، لكن ليس على إطلاقه.

قال - رحمه الله- في "مقدمة صحيحه": "فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّا نَتَوَخَّى أَنْ نُقَدِّمَ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ أَسْلَمُ مِنَ الْعُيُوبِ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَنْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاقِلُوهَا أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ فِي الْحَدِيثِ، وَإِتْقَانٍ لِمَا نَقَلُوا، لَمْ يُوجَدْ فِي رِوَايَتِهِمْ اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ، وَلَا تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ، كَمَا قَدْ عُثِرَ فِيهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَبَانَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِهِمْ، فَإِذَا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ، أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، كَالصِّنْفِ الْمُقَدَّمِ قَبْلَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِيمَا وَصَفْنَا دُونَهُمْ، فَإِنَّ اسْمَ السَّتْرِ، وَالصِّدْقِ، وَتَعَاطِي الْعِلْمِ يَشْمَلُهُمْ...

وَسَنَزِيدُ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى شَرْحًا وَإِيضَاحًا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَخْبَارِ الْمُعَلَّلَةِ، إِذَا أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَلِيقُ بِهَا الشَّرْحُ وَالْإِيضَاحُ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى...".

قلت: فكلامه واضح في تقديمه للحديث الذي هو أسلم من العيوب، وما نبّه عليه من اختلاف الألفاظ فهذا أمرٌ آخر.

 

الحديث الحادي عشر: قال مسلم في "صحيحه" (2/969) (1333) حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ. [ح].

وحَدَّثَنِي هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا مَوْلَى ابنِ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَاللهِ بْنَ أَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي قُحَافَةَ، يُحَدِّثُ عَبْدَاللهِ بنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - أَوْ قَالَ: بِكُفْرٍ - لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الحِجْرِ».

رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (5/186) في ترجمة "عبدالله بن محمد بن أبي بكر" عن يَحْيَى بن سُلَيْمَان.

ورواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (4/7) (3097) من طريق أَبي الطَّاهِر أَحْمد بن السرح، وهَارُون بن سَعِيدٍ.

كلهم عن ابن وَهْبٍ، به.

بدأ مسلمٌ بتخريج حديث هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا».

ثم ساق حديث مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِاللهِ: أَنَّ عَبْدَاللهِ بنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَخْبَرَ عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ». فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ: «لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أُرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ».

ثم ساق حديث مخرمة.

ثم ساق حديث سَعِيد بن مِينَاءَ، عن عَبْداللهِ بن الزُّبَيْرِ، عن عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتِ الْكَعْبَةَ».

قلت: أخرج مسلم رواية مخرمة في المتابعات! لكن الرواية معروفة عن سالم بن عبدالله بن عمر عن عبدالله بن محمد بن أبي بكر، ويبدو أن مخرمة لم يضبطه فرواه "عن نافع عن عبدالله بن أبي بكر"!

وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (5/186) فقال: "عَبْدُاللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي بَكْرٍ القُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الكَعْبَةِ، قَاله مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ.

قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ هِشَامُ بنُ يُوسَفَ، عَنْ مَعْمَر،ٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن محمد بن أبي بكر.

وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: سَالِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا.

وَحَدِيثُ مَالِكٍ أَصَحُّ.

يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ: حدثنا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ نَافِعًا: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

قلت: ذكر البخاري اختلاف الرواة عن الزهري ثم رجّح رواية مالك، ثم أورد رواية مخرمة ليبيّن أنها مخالفة لما رواه الزهري عن سالم، ولا يصح أنها عن نافع! وكذلك عدم ضبط مخرمة لاسمه فقال: "عبدالله بن أبي بكر"، وإنما هو: عبدالله بن محمد بن أبي بكر".

ثم إن في رواية مخرمة: "لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ"!! وهذه اللفظة لا توجد إلا عنده! وهي غريبة!!

وقيل إن هذا الكنز - لو صحت الرواية - ما حكاه الفَاكِهِيُّ فِي "كِتَابِ مَكَّةَ": "أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِيهَا يَوْمَ الْفَتْحِ سِتِّينَ أُوقِيَّةً فَقِيلَ لَهُ لَوِ اسْتَعَنْتَ بِهَا عَلَى حَرْبِكَ فَلَمْ يُحَرِّكْهُ"!

وكذلك هذه اللفظة تنافر الرواية التي أوردها مسلم بعدها، وفيها: "وقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّي عَلَى بِنَائِهِ، لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ». قَالَ: «فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ»".

والخلاصة أن رواية مخرمة في هذا الباب فيها غرابة في السند والمتن!

 

الحديث الثاني عشر: قال مسلم في "صحيحه" (2/1072) (1448) وحَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللهِ بنَ مُسْلِمٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ مُسْلِمٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِ ابْنَةِ حَمْزَةَ - أَوْ قِيلَ: أَلَا تَخْطُبُ بِنْتَ حَمْزَةَ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ - قَالَ: «إِنَّ حَمْزَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ».

رواه المروزي في كتاب "السنة" (297)، وأبو عوانة في "مستخرجه" (3/111) (4398) عن بَحْر بن نَصْر بن سابق الخولاني.

ورواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (4/121) (3390) من طريق هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ، وبَحر بن نَصْرٍ.

ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (3/139) (2924)، و"الأوسط" (6/303) (6475)، و"الصغير" (2/188) (1005) من طريق أَحْمَد بن صَالِحٍ المصريّ.

كلّهم عن عَبْداللَّهِ بن وَهْبٍ، به.

قال الطبراني: "لمْ يَرْوِ هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا أَخُوهُ، وَلَا رَوَى عَنْ أَخِيهِ إِلَّا بُكَيْرُ بنُ عَبْدِاللَّهِ، وَلَا رَوَاهُ عَنْ بُكَيْرٍ إِلَّا مَخْرَمَةُ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ".

قلت: بدأ مسلمٌ بتخريج حديث الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ تَنَوَّقُ فِي قُرَيْشٍ وَتَدَعُنَا؟ فَقَالَ: «وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، بِنْتُ حَمْزَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ».

ثم ساق حديث قَتَادَةُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّحِمِ».

ثم ختم برواية مخرمة عن أبيه.

فمسلم أورده في الشواهد، والحديث صحيح ومشهور من طرق أخرى، لكن غريب من حديث أم سلمة، وهذا ما نصّ عليه الطبراني في كلامه، ولا يُعرف من حديث الزهري! فإذا قلنا لا بأس هنا لأن مسلماً أخرجه في الشواهد! فكيف نقبل ذلك وهو بنفس الإسناد يروي أحاديث أخرى في الأصول ولا مُتابع لها؟!!

إذا قيل: هو انتقى من هذه السلسلة "عبدالله بن وهب عن مخرمة عن أبيه" أحاديث تبيّن له أنها صحيحة!

فنقول: هذه أحاديث السلسلة كثير منها تفردات ولا يوجد لها متابعات تدلّ على صحتها؟! فكيف نقبل ما اختاره ونترك بقية أحاديث السلسلة؟!!

هذا فيه نوعٌ من التحكّم بلا دليل! وأصل السلسلة فيها مشكلة من ناحيتين: الأولى ضعف مخرمة في حديث أبيه، والثانية: وجادته وعدم سماعه هذه الأحاديث من أبيه فلم يتقنها فخلّط فيها كثيراً، ولهذا لم يُعرِّج عليها البخاري أبداً.

 

الحديث الثالث عشر: قال مسلم في "صحيحه" (2/1077) (1453) وحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، - وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ -، قَالَا: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بنَ نَافِعٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، تَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقُولُ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ يَرَانِي الغُلَامُ قَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ: لِمَ، قَدْ جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِيهِ»، فَقَالَتْ: إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ فَقَالَ: «أَرْضِعِيهِ يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ»، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ.

رواه النسائي في "السنن الكبرى" (5/206) (5455) عن يُونس بن عَبْدِالْأَعْلَى. مختصراً.

ورواه أبو عوانة في "مستخرجه" (3/122) (4432) عن بَحْر بن نَصْرٍ.

ورواه أيضاً (4433) من طريق أَحْمَد بن صَالِحٍ، وأَصْبَغ بن الفرج.

ورواه أبو نُعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (4/127) (3406) من طريق مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيمَ، عن هَارُون بن سَعِيدٍ. ومن طريق عَبْداللَّهِ بن أَحْمَدَ بْنِ أسيف، عن بَحْر بن نَصْرٍ.

ورواه أبو طاهرٍ المُخَلِّصُ في "المخلصيات" (2/195) (8) عن يحيى بن محمدِ بنِ صاعدٍ، عن بحر بن نصرٍ.

ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6/339) (6569) عن مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بنِ جَعْفَرٍ، عن أَبي الطَّاهِرِ بن السَّرْحِ.

كلّهم عن ابن وَهْبٍ، به.

قال الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ حُمَيْدِ بنِ نَافِعٍ إِلَّا بُكَيْرُ بنُ عَبْدِاللَّهِ، وَلَا عَنْ بُكَيْرٍ إِلَّا ابْنُهُ مَخْرَمَةُ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ".

قلت: كذا قال الطبراني! فهل أنه لم يقف على رواية شعبة عن حميد، أم أنه لم يعتد بها؟!!

بدأ مسلمٌ بتخريج حديث القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ...".

ثم ذكر حديث محمد بن جعفر غُندر، عن شُعْبَة، عَنْ حُمَيْدِ بنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، لِعَائِشَةَ، إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ، الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ، قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ؟ قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ، وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ».

ثم ساق حديث مخرمة عن أبيه.

والظاهر أن مسلماً ساق حديث مخرمة عن أبيه عن حميد ليكون متابعة لحديث شعبة عن حميد.

·       تفردات غُندر عن شعبة!

فشعبة هنا تابع بكير بن عبدالله عن حميد بن نافع، وعليه فيكون كلام الطبراني بأنه لم يروه عن حميد بن نافع إلا بُكير بن عبدالله! فيه نظر!

لكن لا أظنّ أن الطبراني لم يقف على رواية شعبة وهي عند مسلم! والذي أراه أنه لم يعتد بها؛ لتفرد غُندر بها عن شعبة! ولم يروها عن شعبة إلا هو!

قال عليّ بن الجعد في "مسنده" (ص: 236): "وَرَوَى شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بنِ نَافِعٍ، حَدِيثًا، لَا أَعْلَمُ رَوَاهُ إِلَّا غُنْدَرٌ رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ أَبِي عَبْدِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَحَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُاللَّهِ بنُ أَحْمَدَ، قال: حدثنَا أَبِي..." وساق الحديث.

قلت: غندر محمد بن جعفر من أثبت الناس في حديث شعبة، وإليه يرجع العلماء عند الاختلاف حول حديث شعبة.

قال ابن المبارك: "إذا اختلف النَّاس في حديث شعبة، فكتاب غُنْدَر حكم بينهم".

وذكر ابن خِراش عن الفلاّس أنه قال: "كان يحيى وعبدالرحمن ومعاذ بن خالد وأصحابنا إذا اختلفوا في حديث شعبة، رجعوا إلى كتاب غُنْدَر، فحكم بينهم".

ومع هذا فله بعض الأخطاء في حديث شعبة.

قال مُهَنَّا للإمام أحمد: كان غُنْدَرٌ يغلطُ؟ قال: "أليس هو من الناس؟!".

قلت: وهذا كلّه في الاختلاف على شعبة، لكن كيف نتعامل معه إذا تفرد محمد بن جعفر غُندر بحديث عن شعبة لم يروه غيره؟!! وحديثنا هذا منها!

إذا كان الحديث معروفاً عن شعبة بإسناد آخر ثم تفرد غُندر عنه بهذا الحديث بإسناد آخر، فحينها يكون محمد بن جعفر قد وهم في ذلك الإسناد.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم عندما خرّج أحاديث الصلاة على القبر، فإنه ختم الباب (2/659) (955) بحديث غُنْدَر: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بنِ الشَّهِيدِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ».

قال أبو نُعيم في "حلية الأولياء" (9/223): "تَفَرَّدَ بِهِ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ".

والحديث يرويه جماعة ومنهم غُندر عن شُعْبَة، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. ولا يُعرف هذا الحديث من حديث حبيب بن الشهيد البصري!

وأما إذا تفرّد بحديث برأسه عن شعبة وكان شيخ شعبة ليس من أهل البصرة أو أهل واسط ممن استوعب شعبة حديثهم فهذا مما يُرد، ولا يقبل، كما في حديثنا هذا، فإن حميد بن نافع مدني، ولا يعرف هذا الحديث عنه إلا من رواية مخرمة عن أبيه، ومخرمة لا يُعتمد في حديثه عن أبيه، وكأنه بسبب هذا لم يعتد الطبراني برواية غندر عن شعبة لهذا الحديث، ونصّ على أنه لا يُعرف عن حميد بن نافع إلا من حديث بُكير بن عبدالله الأشج، تفرد به عنه ابنه مَخرمة.

 

الحديث الرابع عشر: قال مسلم في "صحيحه" (3/1209) (1585) حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ عِيسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ مَالِكَ بنَ أَبِي عَامِرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ».

رواه البزار في "مسنده" (2/37) (382) عن عَمْرو بن مَالِكٍ.

ورواه أبو عوانة في "مستخرجه" (3/390) (5434) عن أَبي عُبَيْدِاللَّهِ ابن أخي ابن وهب.

ورواه أيضاً عن حَنْبَل بن إِسْحَاقَ، عن يُونُس بن عَبْدِالرَّحِيمِ العَسْقَلَانِيّ.

وعن الصَّاغَانِيّ، عن أَبي سَعِيدٍ الجُعْفِيّ.

وعن أَحْمَد بن طَاهِرِ بنِ حَرْمَلَةَ، عن جَدّه.

ورواه أبو طاهر المخلّص في "المخلصيات" (2/83) (56) عن عبداللهِ بن محمدٍ، عن محمد بن يوسفَ الغَضيضيّ وأحمد بن عيسى المصريّ.

ورواه البهقي في "السنن الكبرى" (5/457) (10485) من طريق مُحَمَّد بن أَيُّوبَ، عن أَحْمَد بن عِيسَى.

ومن طريق جَعْفَر بن مُحَمَّدٍ القَاضِي، عن يَزِيد بن خَالِدِ بنِ مَوْهَبٍ الرَّمْلِيّ.

 كلّهم عن عَبْداللَّهِ بن وَهْبٍ، به.

قال البزار بعد أن خرّجه: "وهذا الحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَبُو سُهَيْلِ بنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ، رَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ عَبْدِالعَزِيزِ، وَعَاصِمٌ فَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَا نَعْلَمُ يُرْوَى عَنْ عُثْمَانَ، إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْهُ".

ورواه الإمام مالك في "الموطأ مالك" (2/633) (32) أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ جَدِّهِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فذكره.

قال العقيلي في "الضعفاء" (3/338): "وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ». وَمَالِكٌ يَرْوِيهِ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ عُثْمَانَ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ عَنْ مَخْرَمَةَ، وَمَخْرَمَةُ يُقَالُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا".

وقال البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (8/37) (11034): "هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكُ مُرْسَلًا، وَيُقَالُ إِنَّهُ فِيمَا أَخَذَهُ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ. فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ".

قلت: فالحديث لا يُعرف إلا من حديث مخرمة عن أبيه! والظاهر أنه أخرجه في الشواهد بعد أن ذكر أحاديث الذهب والفضة!!

 

الحديث الخامس عشر: قال مسلم في "صحيحه" (3/1312) (1684) وحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ عِيسَى، وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ، وَأَحْمَدَ، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، تُحَدِّثُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ اليَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ».

رواه النسائي في "السنن الكبرى" (7/28) (7383) عن أَحْمَد بن عَمْرِو بنِ السَّرْحِ.

ورواه المروزي في "السنة" (323) عن أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ وَهْبٍ.

ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/164) (4957) عن يُونُس بن يزيد.

ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1/106) (330) عن أَحْمَد بن رِشْدِينَ، عن أَحْمَد بن صَالِحٍ، ويَحْيَى بن سُلَيْمَان الجُعْفِيّ.

ورواه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (12/366) (17034) من طريق عَبْداللَّهِ بن مُحَمَّدِ بنِ يُونُسَ، عن أَبي الطَّاهِرِ أحمد بن عمرو، وأَبي الرَّبِيعِ سليمان بن داود المهري.

ورواه ابن حبان في "صحيحه" (10/315) (4464) عن عُمَر بن مُحَمَّدٍ الهَمْدَانِيّ، عن أَبي الرَّبِيعِ.

كلهم عن عبدالله بن وهب، به.

وتابعه عليه قُدَامَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ المَدَنِيُّ، واختلف عليه فيه:

فرواه أبو عوانة في "مستخرجه" (4/113) (6218) عن محمد بن إسحاق الصَّاغَانيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي قُدَامَةُ بنُ مُحَمَّدٍ المَدَنِيُّ، قال: حدثنا مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَةَ، تَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».

فوافق في روايته هذه ابن وهب.

ورواه ابن الأعرابي في "معجمه" (1/287) (540) عن مُحَمَّد بن سَعْدٍ، عن قُدَامَةُ بن مُحَمَّدٍ، بنحوه، إلا أنه قال: "عَمْرَةَ بِنْتَ زُرَارَةَ"، نسبها لجدها، وهي: "عُمَرة بنت عَبْدالرحمن بن سعد بن زرارة".

ورواه النسائي في "السنن الكبرى" (7/28) (7384) عن هَارُون بن عَبْدِاللهِ، و(7385) عن أَبي بَكْرِ بن إِسْحَاقَ، كلاهما عن قُدَامَة بن مُحَمَّدٍ، عن مَخْرَمَة بن بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن عُثْمَانَ بنَ أَبِي الْوَلِيدِ مولى الأخنسيين، عن عُرْوَة بن الزُّبَيْرِ، عن عَائِشَةُ، بنحوه.

وفي رواية أبي بكر: "وَزَعَمَ أَنَّ عُرْوَةَ قَالَ: المِجَنُّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ".

وزاد: قَالَ: وَسَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بنَ يَسَارٍ، يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَةَ، تَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ».

قلت: لا يحفظ في هذا الإسناد "عثمان بن أبي الوليد"!! فكأن بعضهم اضطرب فيه، وكأنه من قدامة بن محمد! ونأخذ بروايته التي وافق فيها ابن وهب عن مخرمة. ويُحتمل أن الاضطراب فيه من مخرمة نفسه، ولم يضبط إسناده.

وقد روى النسائي أيضاً (7/29) (7386) من طريق قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ الدَّانَاجِ البصري، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: «لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إِلَّا فِي خَمْسٍ».

قَالَ هَمَّامٌ: "فَلَقِيتُ عَبْدَاللهِ الدَّانَاجَ، فَحَدَّثَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَا تُقْطَعُ الخَمْسُ إِلَّا فِي خَمْسٍ".

قلت: فيُحتمل أن المحفوظ من رواية سليمان بن يسار من قوله كما رواه قتادة وهمام؛ لأن الرفع لا يُعرف إلا من حديث مخرمة عن أبيه!

ولهذا قال الطبراني بعد أن ذكره في "أوسطه": "لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ إِلَّا بُكَيْرٌ، وَلَا عَنْ بُكَيْرِ إِلَّا مَخْرَمَةُ".

لكن روى النسائي في "السنن الكبرى" (7/27) (7382) قال: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي – هو: يعقوب بن إبراهيم بن سعد-، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِاللهِ بنِ الْأَشَجِّ، حَدَّثَهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ المِجَنِّ» قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟ قَالَتْ: رُبْعُ دِينَارٍ.

قلت: فهذه متابعة لمخرمة، تابعه يزيد بن أبي حبيب.

لكن تفرد بهذا الحديث عن يزيد: محمد بن إسحاق! وتفرده في مثل هذه الطبقة وعن راو مكثر كيزيد بن أبي حبيب لا يُحتمل! وأين الليث بن سعد وعمرو بن الحارث وغيرهما من أصحاب يزيد عنه؟!!

ومحمد بن إسحاق إمام في المغازي، وهو صدوق، لكن في حديثه كلام وهو ليس بالقوي يُدلّس، ولا يُحتج بما انفرد به.

وكأن الطبراني لم يعتد بروايته هذه ونصّ على أن هذا الحديث لم يروه عن بكير إلا ابنه مخرمة، والله أعلم.

والحديث محفوظ من رواية غير بُكير بن عبدالله، وهو محفوظ عن عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والحديث أخرجه مسلم في المتابعات.

 

الحديث السادس عشر: قال مسلم في "صحيحه" (4/1766) (2254) حَدَّثَنِي هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَبُو طَاهِرٍ، وَأَحْمَدُ بنُ عِيسَى، - قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ - أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابنُ عُمَرَ «إِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ بِالْأَلُوَّةِ، غَيْرَ مُطَرَّاةٍ وَبِكَافُورٍ، يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ» ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».

رواه النسائي في "السنن الكبرى" (8/353) (9373) عن أَحْمَد بن عَمْرِو بنِ السَّرْحِ.

ورواه ابن حبان في "صحيحه" (12/277) (5463) عن عُمَر بن مُحَمَّدٍ الهَمْدَانِيّ، عن أَحْمَد بن سَعِيدٍ الهَمْدَانِيّ.

ورواه البيهقي في كتاب "الآداب" (605) من طريق مُحَمَّد بن الفَضْلِ بْنِ خَالِدٍ، عن أَحْمَد بن عِيسَى المِصْرِيّ.

ورواه في "السنن الكبرى" (3/347) (5966) من طريق الحَسَن بن سُفْيَانَ، عن أَحْمَد بن عِيسَى، وَأَبي طَاهِرٍ، وَحَرْمَلَة.

كلّهم عن عَبْداللَّهِ بن وَهْبٍ، به.

قال البيهقي في "السنن الكبرى" (3/347): "وَرَوَاهُ ابنُ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بنِ الْأَشَجِّ مُقَيَّدًا بِيَوْمِ الجُمُعَةِ".

ثم ساقه (5967) من طريق أَحْمَد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيّ، قال: حدثنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابنِ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ إِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ لِلْجُمُعَةِ بِعُودٍ غَيْرِ مُطَرٍّ، وَعَلَا عَلَيْهِ بِالْكَافُورِ، وَيَقُولُ: "هَذَا بَخُورُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

قلت: أحمد بن عبدالرحمن الدمشقي هذا! وهو أبو الوليد البسري الدمشقي اتهموه! ولم يسمع من الوليد بن مسلم.

قال الباغندي: سمعت أَبَا عَبداللَّهِ - يعني إِسْمَاعِيل بْن عَبداللَّهِ السكري - يَقُول: "لم يسمع أَبُو الوليد القرشي من الوليد بن مسلم شيئاً قط، ولم أره عند الوليد قط، وقد أقمت تسع سنين والوليد حي ما رأيته قط، وكنت أعرفه شبه قاص، وإنما كَانَ محللا يحلل الرجال للنساء، ويُعطى الشيء فيُطلِّق، وكان سيء الحال بدمشق، ولو شهد عندي وأنا قاض على تمرتين يعني لم أجز شهادته، فاتقوا الله وإياكم والسماع عَنِ الكاذبين. وبكّار لم أجز شهادته قط وهو الذي بعث إليه الكتب، وهما جميعا كذأَبَان".

وردّ قوله الخَطِيب، فقال: "وأَبُو الوليد ليس حاله عندنا ما ذكر الباغندي عَنْ

هذا الشيخ، بل كَانَ من أهل الصدق، وقد حدث عَنْهُ من الأئمة أَبُو عَبْدالرَّحْمَنِ النَّسَائي وحسبك به، وذكره أيضاً فِي جملة شيوخه الذين بين أحوالهم، فَقَالَ ما أخبرنا الرقاني، أَخْبَرَنَا علي بْن عُمَر الْحَافِظ، حَدَّثَنَا الحسن بن رشقيق، حَدَّثَنَا عبدالكريم بْن أَبي عَبْدالرَّحْمَنِ، عَن أَبِيهِ، قال: أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن بكار: دمشقي صَالِح".

قلت: ما أخبر به السكري يُقدّم على التعديل لأنه ذكر حجته! ورواية النسائي عنه وقوله فيه: "صالح" لا يعني أنه ثقة! فهو كما قال السكري "قاص" وهؤلاء يحدّثون بأيّ شيء، ولا يُعتمد عليهم.

ولو قلنا بأنه صالح = يعني يُعتبر بحديثه، ويحتاج لمتابع، ولم يتابعه أحد عن الوليد بن مسلم.

ثم لو صحّت روايته عن الوليد، فالوليد مدلس وقد عنعنه، وابن لهيعة ضعيف لا يحتج بحديثه.

والحديث لا يُعرف عن بكير إلا من طريق ابنه مخرمة! ولا يُعرف عند أصحاب نافع، ولا يُعرف عن ابن عمر.

وهو بهذا الإسناد والمتن لا يُعرف إلا من حديث مخرمة! وساقه مسلم بعد ذكره لأحاديث أخذ الريحان إذا عُرض كهدية، فكأنه ذكره كشاهد لها!

 

الحديث السابع عشر: قال الإمام مسلمٌ في "صحيحه" (2/982) (1348) حَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ يُوسُفَ، يَقُولُ: عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟».

وهذا الحديث قد تكلمت عليه بإسهاب في مقدمة البحث، وبيّنت تفرد مخرمة به عن أبيه! ولم يروه عنه إلا ابن وهب! ولا يصح بحال.

·       الخلاصة:

وبهذا يتبيّن لنا أنّ الأحاديث التي أخرجها مسلم لمخرمة بن بُكير عن أبيه في "صحيحه" سبعة عشر حديثاً وتقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الأحاديث التي توبع عليها، فرواها غيره عن أبيه: وهذا حديث واحد فقط! وهو الحديث السادس.

القسم الثاني: الأحاديث الأخرى تفرد بها عن أبيه ولم يتابعه عليها أحد، ومنها ما أخرجه في الأصول، ومنها ما أخرجه في الشواهد، ومنها ما أخرجه في المتابعات.

أما ما أخرجه في الأصول: الحديث الثاني، والخامس، والثامن، والعاشر، والسابع عشر.

وما أخرجه في الشواهد: الحديث الثاني عشر، والرابع عشر، والسادس عشر.

وما أخرجه في المتابعات: الحديث الأول، والثالث، والرابع، والسابع، والتاسع، والحادي عشر، والثالث عشر، والخامس عشر.

وهي كالآتي:

1- حديث عثمان: «مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، غُفِرَ لَهُ مَا خَلَا مِنْ ذَنْبِهِ».

أخرجه في المتابعات، وفي بعض ألفاظه مخالفة لغيره من الصحيح.

2- حديث عائشة: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».

أخرجه في الأصل، وذكر له بعض من تابع والد مخرمة عليه.

3- حديث ميمونة: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ مَعِي وَأَنَا حَائِضٌ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ».

أخرجه في المتابعات.

4- حديث ابنِ عَبَّاسٍ: عن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ: أَرْسَلْنَا المِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ المَذْيِ يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ كَيْفَ يَفْعَلُ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ».

أخرجه في المتابعات، وهو معلول بالإرسال.

5- حديث عَائِشَة: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ جُنُبَانِ».

أخرجه في الأصل، وهو مخالف لحديث غيره.

6- حديث زَيْنَب الثَّقَفِيَّة: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ العِشَاءَ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ».

أخرجه في المتابعات وقد توبع والده عليه.

7- حديث أبي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِلنَّاسِ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي العَاصِ عَلَى عُنُقِهِ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا».

أخرجه في المتابعات.

8- حديث أبي موسى الأشعريّ في سَاعَةِ الجُمُعَةِ: «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ».

أخرجه في الأصل، وهو معلول. أعلّه الدارقطني وغيره بالوقف على التابعي.

9- حديث أبي هريرة: «لَيْسَ فِي العَبْدِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الفِطْرِ».

أخرجه في المتابعات، وفيه مخالفة في ألفاظه!

10- حديث عائشة: «أرْبَعٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الحِدَأَةُ، وَالغُرَابُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ الْعَقُورُ».

أخرجه في الأصل، وفيه لفظة شاذة.

11- حديث عائشة: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - أَوْ قَالَ: بِكُفْرٍ - لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الحِجْرِ».

أخرجه في المتابعات، وهو غريب السند والمتن!

12- حديث أُمَّ سَلَمَةَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِ ابْنَةِ حَمْزَةَ - أَوْ قِيلَ: أَلَا تَخْطُبُ بِنْتَ حَمْزَةَ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ - قَالَ: «إِنَّ حَمْزَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ».

أخرجه في الشواهد، وهو غريب السند!

13- حديث أُمَّ سَلَمَةَ: «أنها قالت لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ يَرَانِي الغُلَامُ قَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الرَّضَاعَةِ...».

أخرجه في المتابعات، وسنده غريب!

14- حديث عثمان بن عفّان: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ».

أخرجه في الشواهد لأحاديث الذهب والفضة!

15- حديث عائشة: «لَا تُقْطَعُ اليَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ».

أخرجه في المتابعات.

16- حديث ابن عُمَر: «إِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ بِالْأَلُوَّةِ، غَيْرَ مُطَرَّاةٍ وَبِكَافُورٍ، يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ» ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».

أخرجه في الشواهد وهو غريب سندا ومتناً!

17- حديث عَائِشَة: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟».

أخرجه في الأصل! وهو غريب سنداً ومتناً!

·       فوائد البحث:

1- مسألة النظر إلى أصحاب الراوي مسألة مهمة في تعليل الأحاديث، وانفراد راو بحديث ليس من أهل بلد الشيخ ولا يعرفه أصحابه يردّه أهل النقد.

 2- يُنظر في التفرد إلى شهرة الشيخ وشهرة أصحابه، وكذلك إلى الطبقة التي يتفرد فيها الراوي بالحديث، وبلده وبلد من تفرد عنه، ثم النظر في كلام أهل العلم في حاله.

3- حديث «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» حديث ضعيف! تفرد به مخرمة بن بُكير عن أبيه! ولم يتابعه أحد عليه.

وقول الطبراني فيه: "لا يروى هذا الحديث عن عائشة إلا بهذا الإسناد. تفرد به مخرمة بن بكير"! يقصد: كيف يتفرد به مخرمة بهذا الإسناد من حديث عائشة ولا يعرف عمن أكثر الحديث عنها من أهلها وأهل المدينة!!!

4- هناك شبه إجماع من أهل النقد على أن مخرمة لم يسمع من أبيه، وإنما هي كتب وجدها وحدث منها. وقد قال مخرمة نفسه أنه لم يسمع من أبيه شيئاً، وما عارض ذلك لا يؤخذ به.

5- أغلظ ابن معين القول فيه جداً. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. = يعني يكتب حديثه للاعتبار فإن توبع قبل حديثه.

6- الوجادة من طرق الأداء الصحيحة لكن ليس كل من وجد كتابا فروى منه يقبل حديثه، فعلل أحاديث الوجادة كثيرة سيما إذا كان في مثل هذا التفرد في إسناد عن عائشة! التفرد فيه في أربع طبقات ولا يحتمل هذا التفرد!!!

فمخرمة متكلم فيه، ولم يسمع من أبيه، وتفرده لا يحتمل في طبقته، والحديث لا يعرف عن عائشة عمن أكثر عنها، فالحديث ضعيف لا يُحتج به.

7- ما ينقله الترمذي عن الإمام البخاري في كتاب "العلل" كان قديماً قبل تحرير الإمام البخاري لكتابه "التاريخ الكبير" و"الصحيح" ولهذا نجده يخالف في كتابه ما ينقله عنه الترمذي، وهذا يدلّ على تغيّر رأيه، وبينت ذلك بالتفصيل في بحث خاص.

8- ما قاله ابن أبي أويس: "وجدت في ظهر كتاب مالك: سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه؟ فحلف لي وقال: "ورب هذه البنية - يعني المسجد - سمعت من أبي".

ورواه ابن حبان بلفظ: "مَا حَدَّثتنِي سمعته من أَبِيك، فَحلف لسمعه من أَبِيه".

يعني الأحاديث التي حدث بها مخرمة مالكاً لا كلّ الأحاديث التي يرويها مخرمة عن أبيه.

9- إن صحّ ذلك عن مالك، فهو سأله عن الأحاديث التي سمعها منه، لا يعني أنه سمع كلّ الأحاديث التي يرويها عن أبيه! فهناك حكايات أخرى صحيحة سئل فيها: هل سمع من أبيه، فقال: لا.

وإن صحت هذه الحكاية فلا ندري ما هي الأحاديث التي سمعها مالك منه! ولا ندري لماذا كان مالك إذا حدّث عنه قال: "حدثني الثقة"؟! وبعض الأحاديث التي قال فيها: "بلغني" قيل أخذها من مخرمة.

10- الرواية من الكتب لا تكون متقنة ويتخللها الغلط الكثير، وهذا لا يعني ردها مطلقاً، لكن تحتاج لضبط إذ التحديث من الكتب لا يتقنه كلّ أحد، والكتب قديماً ليست مثل الكتب عندنا! وليست بالترتيب الذي نتصوره! ولهذا امتنع بعض أهل العلم من الأخذ ممن يروي من كتب الوجادة، وقد وقفت على علل في الأحاديث التي تُروى بهذه الطريقة.

11- وصف الساجي لمخرمة بالتدليس عنى به الإرسال = رواية ما لم يسمعه؛ لأنه روى كتب أبيه ولم يسمع منه.

12- أحاديث مخرمة عن أبيه ضيقة المخرج؛ لأنه يتفرد بها، وكثير من الأحاديث التي يتفرد مخرمة بها عن أبيه لا تعرف من الطرق التي يسوقها، وقد تكون متونها معروفة لكن بأسانيد أخرى.

13- كأن أصل الحديث الذي يرويه مخرمة عن أبيه في عرفة أصله من رواية أحد المجاهيل في المدينة واسمه "أبو عقيل"! أو الحديث المرسل الذي يرويه المُطَّلِب بن عَبْداللهِ بن حَنْطَب، والوَلِيد بن رَبَاحٍ، وَدَاوُد بن صَالِحٍ!

14- كل شواهد حديث "العتق والمباهاة والدنو عشية عرفة" ضعيفة جداً، ولا يصح منها شيء، ولا تصلح للاحتجاج، لأنها إما من رواية الضعفاء والهلكى، أو ممن لا يعرف لهم سماع عمّن رووا عنهم، أو مراسيل!!

15- هناك أحاديث يرويها مخرمة عن أبيه أعلّها أهل النقد! لمخالفته المحفوظ عمن عُرف عنهم تلك الأحاديث، فأحياناً يسلك الجادة في الإسناد ولا يضبطه، وأحياناً ينقص رجلاً من الإسناد، وأحياناً يرفع الحديث الموقوف، وأحياناً يخالف في الإسناد كاملاً، وأحياناً يتفرد بالحديث عن أبيه ولا يتابعه عليه أحد!

16- حديث "العتق والمباهاة والدنو عشية عرفة" تفرد به مخرمة عن أبيه! ولم يتابعه عليه أحد ممن روى عن أبيه بُكير!! ولم نجده عند المدنيين ولا المصريين عن بُكير! وهذا يجعلنا نقول بأن بُكيراً لم يروه قط! أو أنه وجده في كتاب أبيه لكن ليس بإسناد متصل! فقد يكون عنده بإسناد مرسل أو أنه عنده كفائدة؛ لأن الرواة الذين كان عندهم الكتب كانوا يكتبون فيها الفوائد أيضاً من مراسيل ومقطوعات ونحوها، ومن هنا احتاط العلماء في مسألة الرواية من الكتب! والحديث قد وجدناه بنحو لفظ حديث مخرمة عند أهل المدينة مرسلاً، فقد يكون في كتاب بُكير هكذا، لكن لما رواه ابنه أخطأ فيه فذكر له ذاك الإسناد الذي رواه به، والله أعلم.

وعليه فلا يُقبل أيّ حديث يتفرد به مخرمة عن أبيه؛ لأنه لم يسمع من أبيه، وهو يروي من كتبه التي وجدها، وقد ثبت عليه الوهم والخطأ في روايته من هذه الكتب، فمن باب أولى عدم قبول حديث يتفرد به.

17- انتقد بعض أهل العلم كالدارقطني الإمام مسلم لتخريجه حديث مخرمة عن أبيه بسبب عدم سماعه من أبيه!

18- مخرمة عندما كان يُحدث عن أبيه في الغالب لم يكن يذكر أنه: "وجد في كتاب أبيه" ونحو ذلك، والذي يظهر أن سبب عدم نص مخرمة على ذكر "الوجادة" في التحديث عن أبيه أنه ربما حفظ ما في هذه الكتب، وقد تكون كتبا صغيرة وقليلة، ولما حدّث بها من حفظه وقعت له هذه الأخطاء والأوهام في أسانيدها، ويؤيد ذلك أنه عندما روى بعض الأحاديث رواها بذكر السماع مع وهمه في إسنادها!! فهل إذا كان يقرأ من كتاب أبيه يخطئ هذه الأخطاء؟!

أو أنه لما كان يحدّث من كتب أبيه لم يضبطها فدخلت عليه الأوهام، أو حدث له كلا الأمرين، فمن حدّث عنه وأكثر كعبدالله بن وهب لم يذكر في حديثه أنه سمع منه من كتاب أبيه أو أنه كان يقرأ من كتاب أبيه! وقد نقل الإمام أحمد عنه مرة أنه قال: "قرأت في كتاب أبي بُكير.." فكأنه لما كان يحدث من كتاب أبيه ينص على ذلك، وإذا لم يحدث منه ويحدث من حفظه لا يقول ذلك، والظاهر أن أكثر ما سمعه منه ابن وهب كان من حفظه، ولهذا حصلت له الأوهام والتفردات، والله أعلم.

19- مسألة تخريج الشيخين لحديث بعض الرواة ثم الإتيان بأحاديث أخرى لهؤلاء الرواة والحكم عليها بأنها على شرط فلان أو فلان مسألة ليست صحيحة!! وأول من استخدمها الحاكم في "مستدركه" فصحح أحاديث ضعيفة ومنكرة بهذه المقولة! وليس كل حديث لهؤلاء الرواة الذين أخرج لهم البخاري مسلم وانتقيا من حديثه يكون ما تركاه من حديثه على شرطهم! فهذا جعل كثير من طلبة العلم يصححون أحاديث ليست كذلك بهذه المقولة!

20- دعوى ابن القيّم أن كتاب بكير والد مخرمة كان مضبوطاً! فيها نظر، وتحتاج لدليل!! وقياسه ذلك الكتاب على ما كان يرسله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من كتب قياس مع الفارق! إذ الكتاب الذي فيه أحاديث فيه الكثير من الأسماء وألفاظ تأدية الحديث، وهذا يحتاج لضبط من كاتبه لا من قارئه، ولهذا لما كان القارئ يقرأ على الشيخ كان يصحح له! وأما الرسائل المنفردة فهذه ليس فيها ما في كتب الأحاديث.

وكذلك تقديمه كلام من أثبت سماعه من أبيه بحجة المثبت مقدم على النافي لا يستقيم هنا! لأن النافي هو مخرمة نفسه!

21- دعوى أن مالكاً أخذ كتب بكير ونظر فيها تحتاج لدليل! هو أخذ كتاباً واحداً وأخذ منه، ولهذا يقول في روايته: "بلغني"، ولا يذكر إسناده!

22- ذهب النسائي إلى أن "الثقة" الذي يقصده مالك في "الموطأ" عندما يقول: "عن الثقة" هو: "عمرو بن الحارث"، لا "مخرمة" كما ذهب غيره.

23- كثير من المعاصرين ينقلون الأقوال عن العلماء دون تحرير وإدراك مغزاها! فالنزاع في حديث مخرمة عن أبيه ليس في الوجادة، وإنما في السماع وكيفية الرواية من تلك الوجادة.

24- أصل حديث "مخرمة عن أبيه" فيه مشكلة من ناحيتين: الأولى ضعف مخرمة في حديث أبيه، والثانية: وجادته وعدم سماعه هذه الأحاديث من أبيه فلم يتقنها فخلّط فيها كثيراً، ولهذا لم يُعرِّج عليها البخاري أبداً.

25- إذا اختلف أصحاب شعبة عليه، فيرجّح قول محمد بن جعفر غُندر.

وإذا كان الحديث معروفاً عن شعبة بإسناد، ثم تفرد غُندر عنه به بإسناد آخر، فحينها يكون محمد بن جعفر قد وهم في ذلك الإسناد.

وأما إذا تفرّد بحديث برأسه عن شعبة وكان شيخ شعبة ليس من أهل البصرة أو أهل واسط ممن استوعب شعبة حديثهم فهذا مما يُرد، ولا يقبل.

26- مخالفة ابن حبان لكلامه في بعض كتبه! فقد أثبت سماع سليمان بن يسار من المقداد! ثم بيّن أنه ولد بعد وفاة المقداد بسنة!

قال في "صحيحه": "مَاتَ المِقْدَادُ بنُ الْأَسْوَدِ بِالجُرُفِ، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ. وَمَاتَ سليمان بن يسار أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ سَمِعَ سُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ المقداد وهو ابن دون عشر سنين".

وقال في "ثقاته": "سليمان بن يسار مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَةٍ وَكَانَ لَهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ سِتٌّ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقَدْ قِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ وَهَذَا أَصَحُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ".

وقال في "مشاهير علماء الأمصار": "كان مولده سنة أربع وثلاثين، ومات سنة تسع ومائة".

27- إيراد الطبراني لبعض الأحاديث التي أخرجها مسلم لمخرمة عن أبيه في كتابه "المعجم الأوسط" يدلّ على ردّه لها بالتفرد والغرابة؛ لأن كتابه هذا مخصص للأحاديث الغريبة المنكرة.

28- أخرج مسلم لمخرمة بن بُكير عن أبيه سبعة عشر حديثاً، توبع على حديث واحد منها فقط عن أبيه! وبقيتها تفرد بها، ولم يتابعه عليها أحد! وهي معلولة بتفرده بها عن أبيه لعدم سماعه منه؛ وغرابتها، وهو يُخطئ في حديثه عنه وغير ضابط لحديثه، فلا يُحتج بما انفرد به عنه!

29- علل الدارقطني وابن حجر حديث مخرمة عن أبيه في تعيين ساعة الجمعة بالوقف على أبي بُردة بن أبي موسى، وأصابوا في ذلك.

30- الظاهر أنّ مسلماً صحح كلّ الأحاديث التي أخرجها لمخرمة عن أبيه في كتابه! والصواب عدم صحتها وإن كان معظمها في المتابعات والشواهد! والمعوّل على ما صحّ من متون غيره من الرواة.

فمخرمة لم يسمع من أبيه، وإنما روى من كتب أبيه فلم يضبطها، ووقع في كثير من الأوهام والأخطاء! ولا يُعتمد فيما يرويه من كتب أبيه، ولا يُقبل تفرده مُطلقاً، وأحاديثه غرائب وفيها بعض المناكير!!

وعليه: فأحاديث «مَخرمة عن أبيه مَخرومة»!

فهذه (ثلاثون) كاملة.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وكتب: خالد الحايك أبو صهيب

يوم عرفة التاسع من ذي الحجّة لسنة ألف وأربعمائة وثمان وثلاثين من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

9 ذو الحجة 1438هـ.

 

شاركنا تعليقك