الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«الإِشَارَة» إِلى عدم طلب أبي ذرٍّ للإِمارة!

«الإِشَارَة» إِلى عدم طلب أبي ذرٍّ للإِمارة!

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، أما بعد:

فقد حذر النبيّ صلى الله عليه وسلم من طلب الإمارة والحرص عليها.

روى البخاري في «صحيحه» من حديث أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ على الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يوم الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ».

وكان يوصي أصحابه بعدم سؤالها لعظم مسؤوليتها، فقد روى البخاري أيضاً في «صحيحه» من حديث عبدالرحمن بن سَمُرَةَ قال: قال لي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يا عَبْدَالرحمن بن سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عن مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عن غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عليها».

والصحابة عموماً لم يكونوا يسألون الإمارة وخاصة الذين كانوا يلازمونه صلى الله عليه وسلم، وكان يطلبها بعض الناس.

روى البخاري في «صحيحه» من حديث أبي مُوسَى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: دَخَلْتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أنا وَرَجُلَانِ من قَوْمِي، فقال أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يا رَسُولَ اللَّهِ، وقال الْآخَرُ مثله، فقال: «إِنَّا لَا نُوَلِّي هذا من سَأَلَهُ، ولا من حَرَصَ عليه».

هذا كان منهجه صلى الله عليه وسلم شفقة على من يريد الإمارة وعظم تبعاتها التي تجعل كثيراً ممن يحرصون عليها أن لا يعدلوا فيها.

وقد جاء في بعض الأحاديث أن أبا ذرّ – رضي الله عنه – قد طلب الإمارة مع أنه عرف بالزهد والبعد عن الدنيا!

فقد روى الإمام مسلم في «صحيحه» (3/1457) قال: حدثنا عبدالمَلِكِ بن شُعَيْبِ بن اللَّيْثِ، قال: حدثني أبي شُعَيْبُ بن اللَّيْثِ، قال: حدثني اللَّيْثُ بن سَعْدٍ، قال: حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ، عن بَكْرِ بن عَمْرٍو، عن الحَارِثِ بن يَزِيدَ الحَضْرَمِيِّ، عن ابن حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ، عن أبي ذَرٍّ قال: «قلت يا رَسُولَ اللَّهِ، ألا تَسْتَعْمِلُنِي! قال: فَضَرَبَ بيده على مَنْكِبِي، ثُمَّ قال: يا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يوم الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إلا من أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الذي عليه فيها».

قال: حدثنا زُهَيْرُ بن حَرْبٍ وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن المُقْرِئِ - قال زُهَيْرٌ: حدثنا عبداللَّهِ بن يَزِيدَ، قال: حدثنا سَعِيدُ بن أبي أَيُّوبَ، عن عُبَيْدِاللَّهِ بن أبي جَعْفَرٍ القُرَشِيِّ، عن سَالِمِ بن أبي سَالِمٍ الجَيْشَانِيِّ، عن أبيه، عن أبي ذَرٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «يا أَبَا ذَرٍّ، إني أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لك ما أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ على اثْنَيْنِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ».

قلت: أما الحديث الثاني فلا غبار عليه، وهو يُبيّن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ذر مما عرف عنه من زهده وشده إنفاقه، ولهذا قال له بأنه ضعيف، وأوصاه بأن لا يكونن أميراً على اثنين، ولا يتولين مال يتيم؛ لأنه عرف من خلال شخصيته أنه لن يؤدي حقّ هذه الولاية.

قال الإمام الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (2/75): "وقدْ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي ذَرٍّ، مَعَ قُوَّةِ أَبِي ذَرٍّ فِي بَدَنِهِ وَشَجَاعَتِهِ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيْفاً، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيْمٍ).

فَهَذَا مَحْمُوْلٌ عَلَى ضَعْفِ الرَّأْيِ؛ فإِنَّهُ لو وَلِيَ مَالَ يَتِيْمٍ لأَنْفَقَهُ كُلَّهُ فِي سَبِيْلِ الخَيْرِ، وَلَتَرَكَ اليَتِيْمَ فَقِيْراً. فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ لاَ يَسْتَجِيْزُ ادِّخَارَ النَّقْدَيْنِ.

والَّذِي يَتَأَمَّرُ عَلَى النَّاسِ، يُرِيْدُ أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ حِلْمٌ وَمُدَارَاةٌ، وَأَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَتْ فِيْهِ حِدَّةٌ، فَنَصَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

ولكن بحسب الحديث الأول فإن أبا ذرّ قد طلب من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعمله! فهل صحّ ذلك عنه؟!

الحديث رواه مسلم عن عبدالمَلِكِ بن شُعَيْبِ بن اللَّيْثِ، عن أبيه شُعَيْب بن اللَّيْثِ، عن اللَّيْثُ بن سَعْدٍ، عن يَزِيد بن أبي حَبِيبٍ، عن بَكْرِ بن عَمْرٍو، عن الحَارِثِ بن يَزِيدَ الحَضْرَمِيِّ، عن ابن حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ، عن أبي ذَرٍّ، به.

ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» (10/95) عن الحاكم، عن أبي الوليد حسان بن محمد الفقيه، عن أبي بكر محمد بن إسماعيل، عن عبدالملك بن شعيب، به.

ورواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1/45) برقم (57) عن يُوسُفَ بنَ يَزِيدَ بنِ كَامِلٍ الْقُرَشِيّ.

والمزي في «تهذيب الكمال» (17/56) من طريق حميد بن زنجويه.

كلاهما عن أبي صَالِحٍ كاتب الليث، عن اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، به.

كذا رواه عبدالملك عن أبيه عن الليث، وكذا رواه أبو صالح عن الليث بهذا الإسناد.

وله طريق آخر عن الليث:

رواه الحاكم في «المستدرك» (4/103) عن أبي العباس محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، عن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن يحيى بن سعيد، عن الحارث بن يزيد الحضرمي: أن أبا ذر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني، فقال: «إنك ضعيف وأنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة».

وهذا الإسناد معروف عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ عن الحارث عن أبي ذر.

رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (6/419) برقم (32540) عن يزيد بن هارون.

والطيالسي في «مسنده» (ص66) برقم (485) عن سلام بن سليم.

وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (4/231) عن خالد بن مخلد البجلي، عن سليمان بن بلال.

والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/280) من طريق يحيى بن عبدالحميد، عن أبي معاوية الضرير.

كلهم عن يحيى بن سعيد: أن الحارث بن يزيد الحضرمي أخبره: أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمارة، فذكر الحديث.

فهؤلاء كلهم وافقوا الليث بن سعد في روايته عن يحيى بن سعيد كما في رواية محمد بن عبدالله بن عبدالحكم عن عبدالملك عن أبيه.

وإسناد حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكر بن عمرو، عن الحارث بن يزيد، عن ابن حجيرة، عن أبي ذرّ إسناد نازل!

وقد خولف بكر بن عمرو المعافري فيه:

فرواه أحمد في «مسنده» (5/173) برقم (21552) قال: حدثنا حَسَنٌ، قال: حدثنا ابن لَهِيعَةَ، قال: حدثنا الحارث بن يَزِيدَ، قال: سمعت ابن حُجَيْرَةَ الشَّيْخَ يقول: أخبرني من سمع أَبَا ذَرٍّ يقول: «نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً إلى الصُّبْحِ، فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ أمرني! فقال: إِنَّهَا أَمَانَةٌ وَخِزْىٌ وَنَدَامَةٌ يوم الْقِيَامَةِ إِلاَّ من أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الذي عليه فيها».

فابن لهيعة زاد في إسناده: "من سمع" بين ابن حجيرة وبين أبي ذرّ، وهنا ترجح رواية ابن لهيعة وإن كان ضعيفاً؛ لأنه ضبط إسناده فزاد فيه راوياً وبيّن أنه لم يُسمّ في الرواية، وكان – رحمه الله- من المكثرين، وله أحاديث قد ضبطها.

وعادة الضعيف أنه يسقط من الإسناد راوياً بسبب سوء حفظه، وأما أن يزيد راوياً فهذا يدل على ضبطه لذلك الإسناد. ويؤيده أن الروايات المشهورة للحديث فيها انقطاع، فبيّن ابن لهيعة الراوي لهذا الحديث.

وقد أشار المزي إلى الاختلاف على الحارث فيه، فذكر رواية مسلم في «تهذيب الكمال» (17/56) ثم قال: "وقد اختلف فيه على الحارث بن يزيد فقيل عنه هكذا – يعني رواية مسلم عن عبدالملك-  وقيل عنه عن ابن حجيرة: أخبرني من سمع أبا ذر يقول فذكره، قاله الحسن بن موسى الأشيب عن ابن لهيعة عنه". ثم ساقه بإسناده من مسند أحمد.

قلت: يتبيّن من هذا أن الحديث رواه بَكْر بن عَمْرٍو، عن الحَارِثِ بن يَزِيدَ الحَضْرَمِيِّ، عن ابن حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ، عن أبي ذَرٍّ.

وخالفه ابن لهيعة، فرواه عن الحارث، عن ابن حجيرة، عمّن سمع أبا ذر.

وخالفهما يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو أوثق منهما، فرواه عن الحارث، عن أبي ذر.

والحارث عن أبي ذر منقطع.

قال ابن معين في «تاريخه» (رواية الدوري) (4/477): "الحارث بن يزيد عن أبي ذر: لم يسمع من أبي ذر".

·       ترجيح حديث الضعيف أحياناً لقرينة!

ورواية ابن لهيعة أصوب حيث زاد راوياً فضبط إسناد الحديث، وقد أعلّ أبو حاتم الرازي حديثاً برواية ابن لهيعة له وزيادته لرجل في إسناده، وأنه ضبطه مع ضعّفه.

قال ابن أبي حاتم في «علل الأحاديث» (2/425): سألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ النُّعمان بنُ المُنذِر، عَنْ مَكْحول، عَنْ عَنبَسَة، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الجَنَّةِ»؟

فَقَالَ أَبِي: "لِهَذَا الْحَدِيثِ عِلَّة؛ رَوَاهُ ابنُ لَهِيعَة، عَنْ سُلَيمان بنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحول، عَنْ مَوْلًى لِعَنبَسَة بنِ أَبِي سُفْيان، عَنْ عَنبَسَة، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم".

قَالَ أَبِي: "هذَا دليلٌ أنَّ مَكْحُولً لَمْ يَلْقَ عَنبَسَةَ، وَقَدْ أفسَدَهُ روايةُ ابنِ لَهِيعَة".

قلتُ لأَبِي: لِمَ حَكَمْتَ بِرِوَايَةِ ابنِ لَهِيعَة، وقد عرفتَ ابنَ لَهِيعَة وكثرةَ أوهامِه؟

قال أبي: "فِي رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَة زيادةُ رجل، ولو كان نُقصانَ رجلٍ، كَانَ أسهلَ عَلَى ابنِ لَهِيعَة حِفْظُهُ".

قلت: وحديثنا من هذه البابة، فزيادة ابن لهيعة لرجلِ في إسناده مع سوء حفظه يدلّ على ضبطه له فقال فيه: "عمّن سمع"، وفي الحديث الذي أعلّه أبو حاتم ضبطه فزاد: "عن مولى لعنبسة"، وهذا يدلّ على ضبطه لهذين الحديثين منه.

ولا زال أهل النّقد يعللون بعض الروايات بزيادة رجل في الإسناد لما يترجّح لهم بأن راويه قد ضبط الإسناد، وفي «علل ابن أبي حاتم» و«علل الدارقطني» أمثلة لذلك.

فالضعيف قد يضبط الحديث إذا زاد رجلاً في إسناده؛ لأن سوء الحفظ يؤثر عليه في إسقاط الرجل لا زيادته!

قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (5/234):  سألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ ابنُ وَهْب، عَنِ ابنِ لَهِيعة، عَنِ ابنِ أَنْعُمٍ، عَنْ عُتْبة بنِ حُمَيد الضَّبِّيِّ، عَنْ عُبَادة بْنِ نُسَيٍّ؛ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مريَمَ الكِنْدِيُّ، عن أبي هريرة: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الإِيمَانُ فِي قَلْبِ الرَّجُلِ أَنْ يُحِبَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»؟

قَالَ أَبِي: "بين عُتْبَةَ بن حُمَيدٍ وبين عُبَادة: محمَّدُ بنُ سَعِيد الشَّامِيُّ".

قلت: يعني أن ابن لهيعة لم يضبط الإسناد فأسقط منه راوياً بسبب سوء حفظه. فإذا زاد رجلاً في إسناد منقطع دلّ على ضبطه له.

وكذا إذا ضبط الضعيف الحديث فوقفه أو نحو ذلك.

قال ابن أبي حاتم في «علل الأحاديث» (4/472): سُئِلَ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ حُسَيْن بنُ حَفْص، عَنْ أبي مسلم ٍ قائدِ الأَعْمَش، عن عُبَيدالله بنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عمر: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسْقَى البهائمُ الخمرَ»؟

قال: "هذا باطِلٌ رَفْعُهُ".

قلتُ له: فإنَّ أَبَا زُرْعَةَ قال: "إنما هو موقوفٌ"؟

قال أَبِي: "موقوفٌ أيضاً لا يصحُّ؛ لأنَّ ابنَ لَهِيعة روى عن عُبَيْدالله بنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ: أنه كره أن يُسْقَى البهائمُ الخمرَ".

قلت: فابن لهيعة ضبط الحديث لأنه لم يرفعه وجعله من فتوى ابن عمر، والضعيف سيء الحفظ عادة يخطئ في الإسناد فيرفع الحديث، فرجّح أبو حاتم رواية ابن لهيعة لأنه ضبطها.

ومما يؤكد انقطاع الرواية التي عند الإمام مسلم أن عبدالرحمن بن حجيرة الأكبر قاضي مصر (ت83هـ) لا يُعرف أنه سمع من أبي ذر (ت32هـ)، وإنما سمع ابن حجيرة من طبقة الصحابة الذين توفوا بعد سنة (50هـ)، فالحديث منقطع على كلّ الأحوال.

وحديث الإمارة عن أبي ذر أشار إليه الدارقطني بلفظ آخر وذكر فيه إسناد يحيى بن سعيد، عن الحارث، عن أبي ذر، ولم يذكر الاختلاف على الحارث بن يزيد!

ففي «علل الدارقطني» (6/237) أنه سئل عن حديث: الحارث بن يزيد، عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإمارة، فقال: «من ولي عشرة جيء به يوم القيامة مغلولاً لا يطلقه إلا الحق»؟

فقال: "يرويه يحيى بن سعيد الأنصاري، واختلف عنه: فرواه يحيى القطان وفرج بن فضالة ويزيد بن هارون وغيرهم عن يحيى عن الحارث بن يزيد عن أبي ذر، والحارث لم يسمع من أبي ذر.

ورواه الوليد بن عباد عن يحيى عن سعيد بن المسيب عن أبي ذر، ووهم، وتابعه صدقة بن موسى، عن يحيى الأنصاري، والصواب قول من قال: عن الحارث بن يزيد عن أبي ذر: مرسل".

قلت: هذا هو أصل الحديث السابق! فقد أخرج الحاكم في «المستدرك» (4/103) برقم (7019) حديث محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، عن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن يحيى بن سعيد، عن الحارث بن يزيد الحضرمي: «أن أبا ذر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني فقال إنك ضعيف وأنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة».

قال الحاكم: "وقد قيل: عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي ذر".

ثم ساقه من طريق عثمان بن سعيد الدارمي، عن مسلم بن إبراهيم، عن صدقة بن موسى، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله، أمرني. قال: الإمارة أمانة وهي يوم القيامة خزي وندامة إلا من أمر بحق وأدى بالحق عليه فيها».

وهذا هو الحديث الذي أشار إليه الدارقطني في كلامه السابق. ولم يُشر إلى رواية المصريين!

والخلاصة أن حديث طلب أبي ذرّ للإمارة لا يصحّ! وهو منقطع على كلّ الأحوال. والذي صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بأنه ضعيف في تولي أمور الناس حتى في أن يتأمر على اثنين، أو في توليه مال يتيم.

فأبو ذر لم يطلب الإمارة، بل كان - رضي الله عنه – لا يُكلّم من رضي بها كما جاء في بعض الأخبار.

روى ابن سعد في «الطبقات» من طريق الحسين المعلّم عن عبدالله بن بريدة قَالَ: «لمَّا قَدِمَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ لَقِيَ أَبَا ذَرٍّ فَجَعَلَ أَبُو مُوسَى يَلْزَمُهُ. وَكَانَ الأَشْعَرِيُّ رَجُلا خَفِيفَ اللَّحْمِ قَصِيرًا. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ رَجُلا أَسْوَدَ كَثَّ الشَّعْرِ. فَجَعَلَ الأَشْعَرِيُّ يَلْزَمُهُ وَيَقُولُ أَبُو ذَرٍّ: إِلَيْكَ عَنِّي. وَيَقُولُ الأَشْعَرِيُّ: مَرْحَبًا بِأَخِي. وَيَدْفَعُهُ أَبُو ذَرٍّ وَيَقُولُ: لَسْتُ بِأَخِيكِ إِنَّمَا كُنْتُ أَخَاكَ قَبْلَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ.

قَالَ: ثُمَّ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَالْتَزَمَهُ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَخِي. فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: إِلَيْكَ عَنِّي. هَلْ كُنْتَ عَمِلْتَ لِهَؤُلاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَطَاوَلْتَ فِي الْبِنَاءِ أَوِ اتَّخَذْتَ زَرْعًا أَوْ مَاشِيَةً؟

قَالَ: لا. قَالَ: أَنْتَ أخي أنت أخي».

قلت: وهذا وإن كان مرسلاً إلا أنه يُستأنس به في الأخبار، وهو من رواية عبدالله بن بريدة من ثقات التابعين.

تنبيهات:

أولاً: روى الحاكم في «المستدرك» (4/103) برقم (7019) قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوبَ، قال: حدثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَبْدِالحَكَمِ، قال: حدثَنَا شُعَيْبُ بنُ اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ، عَنِ الحَارِثِ بنِ يَزِيدَ الحَضْرَمِيِّ، أَنَّ أَبَا ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمِّرْنِي. فَقَالَ: «إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ».

قال الحاكم: "هذا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".

قلت: هو منقطع، فالحارث لم يسمع من أبي ذر كما سبق بيانه.

ثانياً: فرّق بعض أهل العلم بين «الحارث بن يزيد» راوي هذا الحديث وجهّلوه، وبين «الحارث بن يزيد الحضرمي المصري» المشهور، وهما واحد.

قال ابن عدي في «الكامل» (2/195): "الحارث بن يزيد:

أخبرنا ابن أبي بكر، عن عباس، عن يحيى قال: الحارث بن يزيد عن أبي ذر لم يسمع من أبي ذر شيئاً.

والحارث بن يزيد هذا لا يعرف إلا بروايته عن أبي ذر، وليس هو بمعروف".

قلت: قول ابن معين لا يدل على أنه مجهول! وإنما أراد فقط أن يبين أنه لم يسمع من أبي ذر. فظنّ ابن عدي أنه لا يعرف إلا بروايته عن أبي ذر فجهّله! وتبعه على ذلك: ابن الجوزي، والذهبي، وابن حجر!

قال ابن الجوزي في «الضعفاء والمتروكين» (1/184): "الحارث بن يزيد عن أبي ذر. قال ابن عدي: ليس بمعروف".

وقال الذهبي في «المغني في الضعفاء» (1/144): "الحارث بن يزيد عن أبي ذر. قال ابن عدي: ليس بمعروف. وقال ابن معين: لم يسمع من أبي ذر".

وكذا قال في «الميزان» (2/182).

وقال ابن حجر في «لسان الميزان» (2/160): "وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري".

قلت: فرّق ابن حبان بينه وبين الآخر المشهور، فقال في «الثقات» في التابعين (4/135): "الحارث بن يزيد الصنعاني: يروي عن أبي ذر الغفاري. روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري".

ثم قال في أتباع التابعين (6/171): "الحارث بن يزيد الحضرمي من أهل مصر: يروي عن علي بن رباح اللخمي. روى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري".

قلت: هما واحد، وهو: الحارث بن يزيد الحضرمي المشهور.

قال البخاري في «التاريخ الكبير» (2/286): "الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح. روى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري".

وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (3/93): "الحارث بن يزيد الحضرمي: روى عن علي بن رباح. روى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري وعبدالله بن لهيعة. سمعت أبي يقول".

ثم روى عن عبدالله بن أحمد بن محمد بن حنبل قال: سألت أبي عن الحارث بن يزيد الذي روى عنه ابن لهيعة؟ فقال: "روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو شيخ ثقة من الثقات".

ثم قال: سئل أبي عن الحارث بن يزيد؟ فقال: "ثقة".

قلت: فتبيّن أن الذي يروي عنه يحيى بن سعيد هو هذا الثقة المعروف.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب: د. خالد الحايك.

 

شاركنا تعليقك