الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«الإِحكام» لِعلل حديث «طُوبَى لِلشَّام».

«الإِحكام» لِعلل حديث «طُوبَى لِلشَّام».

روى الترمذي في «الجامع» (5/734) برقم (3954) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ أَيُّوبَ، يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شِمَاسَةَ، عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ القُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِلشَّامِ»، فَقُلْنَا: لِأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا».

قال الترمذي: "هذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بنِ أَيُّوبَ".

هكذا الأصل في «تحفة الأشراف» رقم (3728)، وقد زاد المحقق فيها "حسن" بين قوسين! وقال المزي في «تهذيب الكمال» (17/174): "رواه الترمذي عن محمد بن بشار عن وهب بن جرير... وقال: غريب إنما نعرفه من حديث يحيى بن أيوب". وهو الصواب.

وفي مطبوع الجامع: "حسنٌ غريب"، وقد نقل بعض أهل العلم أن في بعض النسخ: "صحيح"! وهذا الأخير لا يصح.

وقد رواه الحاكم في «المستدرك» (2/249) عن أَبي عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّد بن يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، قال: حدثنا إِبْرَاهِيمُ بنُ عَبْدِاللَّهِ السَّعْدِيُّ، قال: حدثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ، قال: حدثنا أَبِي، قال: سَمِعْتُ يَحْيَىَ بنَ أَيُّوبَ، به.

قال الحاكم: "َهذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَفِيهِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ: أَنَّ جَمْعَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ جُمِعَ بَعْضُهُ بِحَضْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جُمِعَ بَعْضُهُ بِحَضْرَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَالْجَمْعُ الثَّالِثُ هُوَ فِي تَرْتِيبِ السُّورَةِ كَانَ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ".

ورواه أيضاً (2/668) عن أبي سهل أحمد بن محمد بن زياد النحوي، قال: حدثنا ابن أبي طالب، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، بهن مختصراً.

وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".

قلت: لم يخرِّج البخاري لعبدالرحمن بن شماسة، ولم يخرج مسلم له عن زيد بن ثابت شيئاً!

ورواه ابن حبان في «صحيحه» (1/320) عن أبي يعلى الموصلي، عن عبدالأعلى بن حماد، عن وهب بن جرير، به، مختصراً.

وأخرجه أيضًا: أبو يعلى في «المسند الكبير» ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه» [1/ 125]، والبيهقي في «الشعب» [2/رقم/ 2311]، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه» [1/ 126]، وكذا ابن العديم في «بغية الطلب» [1/ 340]، من طريق وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ: حدثنا أَبِي: سَمِعْتُ يَحْيَىَ بنَ أَيُّوبَ، يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ شِمَاسَةَ، عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، به.

·       أصل هذا الحديث هو حديث ابن لهيعة:

قلت: أصل حديث جرير بن وهب عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب هو حديث ابن لهيعة عن يزيد بن ابي حبيب اختلطت النسخة على وهب كما مر معنا مراراً.

وحديث ابن لهيعة رواه أحمد في «مسنده» (5/184) برقم (21646) عن حَسَن بن موسى الأشيب، قال: حدثنا ابن لَهِيعَةَ، قال: حدثنا يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ، عَنِ ابن شِمَاسَةَ، عن زَيْدِ بن ثَابِتٍ قال: "بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً حين قال: طُوبَى لِلشَّامِ، طُوبَى لِلشَّامِ، قلت: ما بَالُ الشَّامِ؟ قَال: الْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَجْنِحَتِهَا على الشَّامِ".

ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (5/158) قال: حدثنا أبو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بن الْفَرَجِ، قال: حدثنا عَمْرُو بن خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، قال: حدثنا ابن لَهِيعَةَ، عن يَزِيدَ بن أبي حَبِيبٍ: أَنَّهُ سمع ابن شِمَاسَةَ يُخْبِرُ عن زَيْدِ بن ثَابِتٍ قال: "كنا عِنْدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَكْتُبُ الْوَحْيَ، فقال: طُوبَى لِلشَّامِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَقُلْنَا: وما ذَاكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فقال: إِنَّ الْمَلائِكَةَ نَاشِرَةٌ أَجْنِحَتَهَا على الشَّامِ".

ورواه ابن عساكر في «تاريخه» (1/127-128) من طريق داود بن رشيد وهشام بن عمّار، كلاهما عن الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، به.

قلت: فالحديث حديث ابن لهيعة انقلب في نسخة جرير عن يحيى، ولكن قد يحتج محتج بأن هناك من رواه عن يحيى بن أيوب فتابع جريراً عليه؟

وقد أيد ابن عساكر رواية جرير هذه بقوله: " ورواه أبو زكريا يحيى بن إسحاق السالحيني عن يحيى بن أيوب كما رواه جرير بن حازم، ورواه عمرو بن الحارث وعبدالله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب". وقد قال المزي في «تهذيب الكمال» (17/174) - بعد أن خرجه من طريق يحيى بن إسحاق وإشارته إلى حديث جرير -: "وقد رواه عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أيضاً".

فأقول: نعرض للرواية أولاً ثم نتكلم عليها إن شاء الله.

·       رواية يحيى بن إسحاق السَّالَحِينِيّ:

رواه الإمام أحمد في «مسنده» (5/184)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/218)، كلاهما عن يحيى بن إِسْحَاقَ، قال: أخبرنا يحيى بن أَيُّوبَ، قال: حدثنا يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ: أَنَّ عَبْدَالرحمن بن شِمَاسَةَ أخبره أَنَّ زَيْدَ بن ثَابِتٍ قال: "بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ إِذْ قال: طُوبَى لِلشَّامِ، قِيلَ: وَلِمَ ذلك يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: إِنَّ مَلاَئِكَةَ الرحمن بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عليها".

ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (5/158) عن بِشْر بن مُوسَى، قال: حدثنا يحيى بن إِسْحَاقَ السالحيني، به.

وأخرجه أيضًا: أحمد في «فضائل الصحابة» [2/رقم/ 1728]، وابن أبي شيبة في «مسنده» [رقم/ 139]، والضياء المقدسي في «المنتقى من مسموعاته بمرو» [رقم/ 425/مخطوط]، وأبو يعلى في «المسند الكبير» ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه» [1/ 125]، من طرق عن يحْيَى بن إِسْحَاقَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بنَ شِمَاسَةَ الْمُهْرِيَّ، أَخْبَرَهُ، عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، به.

ورواه الحاكم في «المستدرك» (2/249) قال: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الْفَقِيهُ، قال: حدثنا عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، وَبِشْرُ بنُ مُوسَى الْأَسَدِيُّ، وَالْحَارِثُ بنُ أَبِي أُسَامَةَ التَّمِيمِيُّ، قَالُوا: حدثنا يَحْيَى بنُ إِسْحَاقَ السَّيْلَحِينِيُّ، قال: حدثنا يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ، به.

قال الحاكم: "رَوَاهُ جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عَنْ يَحْيَى بنِ أَيُّوبَ".

ورواه ابن عساكر في «تاريخه» (1/126) من طريق أبي خيثمة عن يحيى بن إسحاق، به.

قلت: الظاهر أن هذه الرواية مستقيمة، ولكن تفرد بها يحيى بن إسحاق فيه نظر؛ لأن الحديث لا يوجد عند أهل مصر عن يحيى بن أيوب!

قال أبو سعيد ابن يونس عالم أهل مصر في ترجمة (يحيى بن أيوب الغافقي المصري): "كان أحد الطلاَّبين للعلم، حدّث عن أهل مكة والمدينة والشام وأهل مصر والعراق، وحدّث عنه الغرباء بأحاديث ليست عند أهل مصر عنه، فحدّث عنه يحيى بن إسحاق السالحيني عن يزيد بن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط عن ابن حوالة: (من نجا من ثلاث) ليس هذا بمصر من حديث يحيى بن أيوب، وروى عنه أيضاً عن يزيد عن ابن شماسة عن زيد بن ثابت: (طوبى للشام) مرفوعاً وليس هو بمصر من حديث يحيى، وأحاديث جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب ليس عند المصريين منها حديث، وهي تشبه عندي أن تكون من حديث ابن لهيعة، والله أعلم" (تهذيب الكمال: 31/236).

قلت: فهذا نصّ من ابن يونس على أن هذا الحديث لا يعرفه أهل مصر عن يحيى بن أيوب، وقد بيّن أن هؤلاء الغرباء كيحيى بن إسحاق وجرير بن حازم يتفردون بأحاديث عن يحيى بن أيوب بأحاديث لا يعرفها أهل مصر، ولا تُروى عن يحيى بن أيوب إلا من طريقهم. وقد استنكر هذا الحديث أن يكون من رواية يحيى بن أيوب.

أما حديث جرير عن يحيى بن أيوب فهو حديث ابن لهيعة كما قال ابن يونس وقد انقلبت نسخة جرير عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب على وهب بن جرير فرواها عن أبيه عن يحيى بن أيوب عن يزيد.

وأما حديث يحيى بن إسحاق فلعله أيضاً يرجع إلى حديث ابن لهيعة؛ لأنه سمع من ابن لهيعة قديماً - وهو من قدماء أصحابه -، وأصله من قرية سيلحين من قرى بغداد، والرواة عنه بغداديون، وهو صدوق وله رواية كثيرة، وله كذلك مفاريد وغرائب!!.

قال عثمان الدارمي (كما في تاريخ ابن معين: ص125): قلت - أي ليحيى -: والسالحيني أي شيء حاله؟ فقال: "صدوق المسكين".

وقال أحمد: "شيخ صالح ثقة".

وقال ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (7/340): "كان ثقة، روى عن يحيى بن أيوب وابن لهيعة وغيرهما، وقد كتب الناس عنه، وكان حافظاً لحديثه، وكان ينزل بغداد في دار الرقيق، ومات بها في سنة عشر ومائتين في خلافة المأمون".

وقال الذهبي في «التذكرة» (1/376): "قلت: له مفاريد لكثرة ما روى".

وقال في «السير» (9/507): "وقال علي بن المديني: كان عبدالرحمن ينكر حديث مبارك عن الحسن في حل العقد في القبر، يعني عن السيلحيني. قلت: هو حجة صدوق إن شاء الله، ولا تنزل رواية حديثه عن درجة الحسن، وكان من أوعية العلم".

قلت: لكن تفرده عن بعض الرواة من بعض البلدان بأحاديث لا توجد في تلك البلدان مما لا يُقبل منه، ولعل سعة روايته هذه لها أثر في هذه التفردات، فلا تقبل منه.

وبهذا يتبيّن لنا أن يحيى بن أيوب لم يرو هذا الحديث.

وهذا الحديث حدّث به يحيى بن إسحاق السيلحيني (ت210هـ) في أواخر عمره تقريباً!!

قال الضياء المقدسي في «المنتقى من مسموعات مرو» برقم (425): حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر المنكدري، قال: حدثنا أبو سعيد - هو الحسن بن علي-، قالك حدثنا أبو زكريا يحيى بن إسحاق - سنة ثلاثة ومائتين -، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه، عن زيد بن ثابت قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: طوبى للشام، قيل: يا رسول الله، ولم ذلك؟ قال: إن ملائكة الفجر باسطة أجنحتها عليه).

قلت: فالظاهر أن الشيخ - رحمه الله - كان يهم فيه، والله أعلم.

·       رواية عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب:

إذن الحديث حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، وقد توبع عليه، فهل هذه المتابعة مقبولة؟

رواه يعقوب الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/173) قال: حدثني أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بنُ عَمْرٍو وَمُحَمَّدُ بنُ أَبِي زُكَيِّرٍ، عَنِ ابنِ وَهْبٍ، عَنِ ابنِ لَهِيعَةَ وَعَمْرُو بنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبَ، عَنِ ابنِ شِمَاسَةَ: حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَنَحْنُ عِنْدَهُ قَالَ: طُوبَى لِلشَّامِ. فَقُلْنَا: ما باله يا رسول الله؟ قَالَ: إِنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ لَبَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهِ». إِلَّا أَنَّ ابنَ لَهِيعَةَ قَالَ: "سَمِعَ زَيْدًا أَوْ حَدَّثَهُ مَنْ سَمِعَهُ".

ورواه ابن حبان في «صحيحه» (16/293) برقم (7304) عن عبدالله بن محمد بن سلم، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث - وذكر ابن سلم آخر معه -، عن يزيد بن أبي حبيب، به، نحوه.

ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (5/158) عن أَحْمَد بن رِشْدِين الْمِصْرِيّ، عن حَرْمَلَة بن يحيى، عن ابن وَهْبٍ، قال: أخبرني عَمْرُو بن الْحَارِثِ، عن يَزِيدَ بن أبي حَبِيبٍ، عَنِ ابن شِمَاسَةَ أَنَّهُ سمع زَيْدَ بن ثَابِتٍ يقول: قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَنَحْنُ عَنْدَهُ طُوبَى لِلشَّامِ، فَقُلْنَا ما بَالُهُ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «إِنَّ الرَّحْمَنَ لَبَاسِطٌ رَحْمَتَهُ عليه».

قلت: بحسب هذه الرواية الأخيرة فكأن ابن وهب كان يرويه أحياناً عن عمرو بن الحارث عن يزيد، وأحياناً يجمع بينه وبين ابن لهيعة، مع الميل إلى أنه رواه بالجمع، ولكن بعض الرواة أحياناً يذكر راوياً واحداً ويسقط الآخر لسبب من الأسباب، وابن رشدين ضعيف وقد اتهمه بعضهم، وقد رواه عن حرملة دون ذكر "ابن لهيعة"، ولكن رواية ابن حبان عن ابن سلم ذكر فيها، فدلّ ذلك على أن الذي أسقطه ليس ابن وهب وإنما من بعده.

ولا يُعرف هذا الحديث عن عمرو بن الحارث إلا من طريق ابن وهب، تفرد به!!

وابن وهب ثقة كبير، وحديثه كثير، وقد تفرد بأحاديث يذكرها كثيراً الطبراني في معجميه: الأوسط والصغير، وينبه على هذه التفردات! وكان - رحمه الله - راوية عمرو بن الحارث؛ ولكن استغرب روايته هذا الحديث عن عمرو وعن ابن لهيعة!! فالحديث لا يُعرف إلا من حديث ابن لهيعة، فإما أن يكون ابن وهب وهم فيه لما حدث به، وكان له نسخة عن عمرو بن الحارث، ويحتمل أن عمرو بن الحارث المصري سمع هذا الحديث من ابن لهيعة، وعمرو قد حدّث عن ابن لهيعة ومات قبله، فعندها يرجع الحديث إلى ابن لهيعة، وقد تقدّم كلام ابن يونس أن هذا الحديث إنما يعرف لابن لهيعة، فكلّ من رواه ترجع روايته إلى ابن لهيعة.

ومثل هذا الجمع الذي جمعه ابن وهب بين (ابن لهيعة وعمرو بن الحارث) مما يريب النقاد الحذّاق إذا عُلِم أن أحدهما هو من عُرف بهذا الحديث؟! بل لا يقبل أهل النقد التفرد من ابن وهب عن عمرو بن الحارث إلا باعتبارات معينة تدل على أنه رواه عنه.

وهناك أحاديث قد جمع فيها ابن وهب بين (عمرو بن الحارث وابن لهيعة) وهذا لا يعني أننا ننكر كلّ هذه الروايات فربما يكون هذا الجمع صحيحا، ولكن إذا جاءت قرائن تجعل أحد هذه الروايات فيها مشكلة فإننا لا نقبلها، بل قد يكون هذا دليل على حصول وهم في بعض الروايات كما في هذا الحديث؛ فإنه لا يعرف إلا من حديث ابن لهيعة.

ولو صحت رواية ابن وهب عن عمرو، فهناك علّة أخرى في الحديث، وهي عدم ثبوت سماع ابن شماسة من زيد بن ثابت!!

·       هل سمع عبدالرحمن بن شماسة من زيد بن ثابت؟!

قال البخاري في «التاريخ الكبير» (5/295): "عبدالرحمن بن شماسة المصري المهري: سمع عقبة بن عامر وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - ، سمع منه يزيد بن أبي حبيب".

وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/243): "عبدالرحمن بن شماسة المهري، روى عن زيد بن ثابت وعقبة بن عامر وعمرو بن العاص وعبدالله بن عمرو، وروى عن عائشة مرسل، روى عنه يزيد بن أبي حبيب وكعب بن علقمة المصري وإبراهيم بن نشيط وحرملة بن عمران، سمعت أبي يقول ذلك".

وقال ابن حبان في «الثقات» (5/96): "عبدالرحمن بن شماسة المهري: يروي عن زيد بن ثابت وعقبة بن عامر، عداده في أهل مصر، روى عنه يزيد بن أبي حبيب وحرملة بن عمران".

وقال في «مشاهير علماء الأمصار» (ص119): "عبدالرحمن بن شماسة المهري من ثقات المصريين، كان قد صحب زيد بن ثابت زماناً".

وقال أبو سعيد بن يونس في «تاريخ أهل مصر»: "عبدالرحمن بن شماسة بن ذئب بن آخور المهري، يكنى أبو عمر، يروي عن أبي ذر، وقيل: عن أبي بصرة عن أبي ذر، وروى عن عمرو بن العاص وعبدالله بن عمرو وزيد بن ثابت وأبي بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني وغرفة بن الحارث الكندي وعوف بن مالك الأشجعي ومعاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد وعائشة، آخر من حدث عنه بمصر حرملة بن عمران، توفي أول خلافة يزيد بن عبدالملك" (تاريخ مدينة دمشق:34/434).

وقال الذهبي في «الكاشف» (1/631): "عبدالرحمن بن شماسة المهري: عن أبي ذر وزيد وعمرو بن العاص، وعنه يزيد بن أبي حبيب وكعب بن علقمة. ثقة، مات بعد المائة".

وقال ابن حجر في «التقريب» (ص342): "عبدالرحمن بن شماسة، بكسر المعجمة وتخفيف الميم بعدها مهملة، المهري بفتح الميم وسكون الهاء، المصري، ثقة من الثالثة، مات سنة إحدى ومائة أو بعدها".

قلت: أثبت البخاري سماعه من زيد بن ثابت وادّعى ابن حبان أنه صحبه زماناً! ولكن لا يوجد أي دليل على أنه سمع من زيد بن ثابت أو صحبه.

ولو كان كذلك لذكره ابن يونس وهو عمدة أهل مصر. والبخاري كأنه أثبت سماعه من خلال هذا الحديث! وهذا يحصل للبخاري في بعض التراجم؛ لأنه عادة يعتمد على الأحاديث في إثبات السماع.

والذي أراه أنه لم يسمع منه، بل لم يلقه. فابن شماسة سمع من الصحابة الذين توفوا بعد (55 هـ) مثل عائشة. ولم يسمع من أبي ذر ولا حتى من عمرو بن العاص كما حققته في غير هذا المكان. ومما يؤيد هذا أن الإمام أبا حاتم الرازي نفى سماعه من عائشة، وهذا يعني أن طبقة سماعه من الصحابة الذين توفوا بعد عائشة، وزيد توفي قبلها، على أننا نخالف أبا حاتم في هذا لورود الحديث الصحيح في أنه سأل عائشة كما ثبت عند الإمام مسلم. فقول أبي حاتم قرينة قول مقابل قول، ولا حرج باستخدامها في نفي هذا السماع الذي يدل على النفي الكلي لتلك الطبقة إلا أننا نستثني منها ما ثبت، ولم يثبت أنه سمع من زيد بن ثابت حتى نستثنيه، فيبقى الأصل الذي أشار إليه أبو حاتم، والله أعلم.

ولا يوجد لابن شماسة عن زيد إلا هذا الحديث الواحد فقط! فهل يُعقل أنه لو صحبه زماناً – كما قال ابن حبان – أنه لم يرو عنه غير هذا الحديث؟! وأين صحبه؟ فزيد مدني، وابن شماسة مصري؟

قال الذهبي: "وقد اختلفوا في وفاة زيد - رضي الله عنه - على أقوال:

فقال الواقدي وهو إمام المؤرخين: "مات سنة خمس وأربعين عن ست وخمسين سنة". وتبعه على وفاته يحيى بن بكير وشباب ومحمد بن عبدالله بن نمير.

وقال أبو الزناد: "سنة خمس وأربعين".

وقال أبو عبيد: "مات سنة خمس وأربعين"، ثم قال: "وسنّة ست وخمسين أثبت".

وقال أحمد بن حنبل وعمرو بن علي: "سنة إحدى وخمسين".

وقال المدائني والهيثم ويحيى بن معين: "سنة خمس وخمسين". فالله أعلم".

وذكر البخاري وفاته فيمن كان بعد الخمسين سنة إلى الستين سنة في «تاريخه الأوسط» (1/99)، ثم قال: حدثنا علي بن عبدالله قال: "مات زيد بن ثابت سنة أربع وخمسين". وقد نقل الباجي في «التعديل والتجريح» (2/579) عن البخاري أنه أخرج في التاريخ قال: "حدثنا علي بن عبدالله قال: مات زيد بن ثابت سنة أربع أو خمس وخمسين".

وقال ابن حجر في «التقريب» (ص222): "مات سنة خمس أو ثمان وأربعين، وقيل: بعد الخمسين".

قلت: الذي أميل إليه أنه توفي سنة (45هـ) أو (48هـ) وهذا قول أكثر أهل العلم ومال إليه ابن حجر.

وعبدالرحمن بن شماسة مات بعد سنة (100هـ)، فلو فرضنا أنه صحب زيد بن ثابت زماناً فهذا يعني أنه من الكبار! وهذا ينقضه ما رواه الإمام مسلم في «صحيحه» (3/1458) من طريق ابن وَهْبٍ، قال: حدثني حَرْمَلَةُ، عن عبدالرحمن بن شِمَاسَةَ، قال: "أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عن شَيْءٍ، فقالت: مِمَّنْ أنت؟ فقلت: رَجُلٌ من أَهْلِ مِصْرَ، فقالت: كَيْفَ كان صَاحِبُكُمْ لَكُمْ في غَزَاتِكُمْ هذه؟ فقال: ما نَقَمْنَا منه شيئاً إن كان لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ وَيَحْتَاجُ إلى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فقالت: أَمَا إنه لَا يَمْنَعُنِي الذي فَعَلَ في مُحَمَّدِ بن أبي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ ما سمعت من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يقول في بَيْتِي هذا: «اللهم من وَلِيَ من أَمْرِ أُمَّتِي شيئا فَشَقَّ عليهم فَاشْقُقْ عليه وَمَنْ وَلِيَ من أَمْرِ أُمَّتِي شيئا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ»".

قلت: فهنا يقول ابن شماسة أنه جاء إلى عائشة بعد أن رجع من غزاة مع معاوية بن حُديج - وهو الذي قتل محمد بن أبي بكر أخي عائشة -  وكان منصرف الجيش الذي كان مع معاوية سنة (50هـ)، وهذا يعني أنه كان شاباً – في الأغلب – فأين صاحب زيد بن ثابت المدني، وهو لما جاء المدينة سألته عائشة من أين هو؟ فقال: "رجل من مصر".

فلو سمع ابن شماسة من زيد الذي توفي في الراجح قبل الخمسين، فهذا يعني أنه كان كبيراً!! وقد تتبعت كل من روى عن زيد بن ثابت، فوجدت أن بعض صغار الصحابة قد رووا عنه كأبي سعيد الخدري (ت 63 أو 64 أو 65هـ)، وسهل بن أبي حثمة، صحابي صغير (مات في خلافة معاوية)، وسهل بن حنيف (مات في خلافة علي)، وجلّ من روى عنه من المدنيين من كبار التابعين ممن توفوا بين سنة 80-90هـ، وبعضهم توفي قبل (100هـ) كسليمان بن يسار، وهؤلاء قد عمّروا.

فالذي أراه أن ابن شماسة لم يدرك زيد بن ثابت، وقد جاء في الرواية السابقة التي رواها يعقوب بن سفيان: "إِلَّا أَنَّ ابنَ لَهِيعَةَ قَالَ: سَمِعَ زَيْدًا أَوْ حَدَّثَهُ مَنْ سَمِعَهُ".

وعليه فإن هذا الحديث لو صح أن عبدالرحمن بن شماسة رواه فيكون منقطعاً؛ لأنه لم يسمع من زيد بن ثابت، والله أعلم وأحكم.

·       كلام الشيخ شعيب على هذا الحديث!

قال الشيخ شعيب ورفاقه أثناء كلامهم على حديث ابن لهيعة من «مسند أحمد» (35/483): "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، فقد روى هذا الحديث عن ابن لهيعة عبدُالله بن وهب كما سيأتي في التخريج، وروايته عنه صالحة، ثم إن ابن لهيعة قد توبع، وانظر الحديث التالي. ابن شماسة: اسمه عبدالرحمن.

وأخرجه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" 2/301 من طريق عبدالله بن وهب، والطبراني (4934) من طريق عمرو بن خالد الحراني، كلاهما عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد. وقرن يعقوب بن سفيان بابن لهيعة عمرَو بن الحارث.

ومن طريق عمرو بن الحارث أخرجه ابن حبان (7304)، والطبراني (4935). قال ابن حبان: وذكر ابن سَلْم - وهو شيخ ابن حبان - آخرَ مع عمرو ابن الحارث؛ يعني ابن لهيعة، وإنما لم يذكره لأنه ليس من شرطه.

وإسناد ابن حبان صحيح على شرط مسلم" انتهى.

قلت: الحديث كله يرجع إلى ابن لهيعة، وليس كلّ ما رواه عبدالله بن وهب عنه يحتج به! ولو صح، فيعلّ بعدم سماع ابن شماسة من زيد بن ثابت كما أثبتناه بحمد الله.

·       تصحيح الشيخ الألباني لهذا الحديث!!

قال الشيخ الألباني في تخريجه لأحاديث كتاب «فضائل الشام ودمشق» لأبي الحسن الربعي (ص9): "هو حديث صحيح، أخرجه الترمذي "2/331، طبع بولاق"، وقال: "حديث حسن"، وزاد في بعض النسخ: "صحيح". والفسوي في "التاريخ" "2/ 301"، وابن حبان في "صحيحه" "2311، موارد الظمآن"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 229"، وأحمد في "المسند" "5/ 184"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "1/ 112-115"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبيّ، وهو كما قالَا، وقال المنذري في "الترغيب" "4/ 63": رواه ابن حبان في "صحيحه"، والطبراني بإسناد صحيح".

وقال في «صحيحته» في مقدمة الكتاب منتقداً بعض من رد عليه تصحيحه له: "سيرى القراء تحت الحديث الآتي: 503- (طُوبى للشامِ، إن ملائكةَ الرحمن باسطةٌ أجنحتَها عليه). رداً رصيناً هادئاً في تسع صفحات على تعقيب لأحد الفضلاء من المشايخ المكيين - وقد توفي رحمه الله منذ بضع سنين - ذهب فيه إلى تضعيف الحديث المذكور في خطاب كان أرسله إلي، وقد نشطت للرد عليه لفضله وسلوكه طريق النقد النزيه، الذي لا يظهر منه أنه يَردُّ حباً في الظهور خلافاً لكثير من الناشئين، والصبيان المغرورين، الذين همهم المسارعة إلى الرد على الألباني، لا بياناً للحق، لأنهم يعلمون في قرارة نفوسهم، أنهم ليسوا أهلاً لذلك، لا لأن الألباني لا يخطىء، حاشا لله، فلا معصومَ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنا بفضل الله أرجع إلى الحق إذا بدا لي من غيري، مهما كان شأنه، وكتبي، وتراجعي عما تبين لي من خطئي أكبرُ شاهد على ما أقول، حتى اتخذ ذلك بعض الصبيان الشانئين الجاهلين غرضاً لينسبني إلى ما لا يليق إلا به وبأمثاله من الزائغين الضالين.

من أجل هذا الفرق بين هؤلاء والشيخ الفاضل، كنت نشطت في الرد عليه، وبيان وجهة نظري فيما ذهب إليه، ولعله كان اقتنع بصواب ما كتبت، لأنه لم يرسل إليّ بعد ذلك تعقيباً آخر.

ويمكن تلخيص كلامه في أمرين اثنين:

الأول: تضعيفه للراوي يحيى بن أيوب الغافقي، وزعمه أن الأئمة على تضعيف أحاديثه.

والآخر: تضعيفه لابن لهيعة تضعيفاً مطلقاً، وكذا تضعيفه للحارث بن أبي أسامة.

وقد بينت خطأه في ذلك بياناً شافياً هناك اعتماداً على أقوال الأئمة النقاد، ويرجع ذلك إلى ما يأتي ملخصاً:

أولاً: قدم الجرح على التعديل مطلقاً، والصواب: أنه يقدَّم إذا كان سبب الجرح مبيَّناً، وكان في نفسه جرحاً مؤثراً، والواقع هنا على خلاف ذلك.

أما الغافقي، فلأنه ثقة في نفسه، لكن في حفظه ضعف يسير لا ينزل به حديثه عن مرتبة الاحتجاج به، وعلى هذا جرى الأئمة المخرجين لأحاديثه، فقد احتج به مسلم، وصحح حديثه هذا الأئمة من قبلي، كالترمذي وابن حبان والحاكم والمنذري والذهبي، وذلك مقتضى قول الحافظ فيه: "صدوق ربما وهم".

فكيف يصح مع هذا قول الشيخ: "إن الأئمة ما زالوا يضعفون أحاديث الغافقي"؟!

وأما ابن لهيعة، فقد أجمل الكلام فيه ولم يفصِّل، فأوهم القراء أنه لا يحتج بحديثه مطلقاً، وليس كذلك، فقد صرحوا بصحه حديثه إذا روى عنه أحد العبادلة، فكان على الشيخ أن يُقيد ولا يطلِق، وأن يتتبع طرق الحديث في مكتبته العامرة لعله يجد له طريقاً من رواية أحدهم، وقد وفقني الله تعالى فأوقفني على رواية ابن وهب عنه. أخرجه الفَسَوي في "التاريخ والمعرفة" (2/301) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/114 طبع دمشق). فصح الحديث والحمد لله من هذه الطريق وحدها، فكيف وقد تابعه الغافقي، وهو ثقة حسن الحديث كما تقدم، فكيف وقد تابعهما عمرو بن الحارث الحافظ الثقة الفقيه كما سيأتي بيانه هناك.

ثانياً: تغافل الشيخ رحمه الله أو غفل عن قاعدة تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد، وهذا مما يقع فيه كثير من الناشئين الناقدين مع الأسف، فإن ابن لهيعة ممن يستشهد به عند العلماء، ومن الغرائب أن الشيخ نفسه ذكر أن مسلماً أخرج له مقروناً، فلم يشعر رحمه الله أنه ينقل ما هو حجة عليه!

ثالثاً وأخيراً: ومن عجائبه أنه أعل الحديث أيضاً بأن في سند الحاكم الحارث بن أبي أسامة، ومع أنه وهم في تضعيفه كما أثبت هناك، فقد غفل أيضاً عن كون الحاكم قرنه مع ثقتين آخرين، فلو أنه كان ضعيفاً - كما زعم- لم يضر في صحة الحديث، فإنه متابع منهما ومن غيرهما كما بينت هناك.

وهناك أمور أخرى من الأخطاء والأوهام ستمر بالقارىء إن شاء الله تعالى، وإنما اقتصرت على ذكر ما يتعلق بتضعيفه للحديث، دفاعاً عن حَمَلة الحديث وتصحيحاً له، وتذكيراً بأن الكتابة في هذا العلم الشريف تصحيحاً وتضعيفاً لا يُحسنه مَنْ تعلّق به في تأخرٍ من السنِّ، أو حداثةٍ فيه، وإنما يُحسِنه أهل الاختصاص فيه الذين أفنوا حياتهم وشاخوا فيه، حتى جرى الحديث النبوي الصحيح في عروقهم، وصار جزءاً لا يتجزأ من حياتهم، أما من لم يكن كذلك فلا شك أنه سيقع في شؤم رد الأحاديث الصحيحة وتضعيفها، أو العكس، كما هو شان أهل الأهواء والبدع. نسأل الله السلامة.

وتقريباً للموضوع إلى أذهان القراء لا بد من إخراج الحديث من الطرق الثلاث التي ضعفها الشيخ الفاضل، لتتمثل لهم الحقيقة بأجلى صورة؛ ذلك لأني كنت أخرجته يومئذ مختصراً ومعزواً لبعض كتبي، دون أن أسوق طرقه، فأقول:

الأولى: عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن شماسة عن زيد بن ثابت.

أخرجه الترمذي (3949) وأحمد (5/185) وابن أبي شيبة (5/325) ، والحاكم (2/229) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (5/175-176) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/112-113 طبع دمشق) من طريق يحيى بن إسحاق السيلحيني وجرير بن حازم كلاهما عن يحيى بن أيوب به.

الثانية: عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب به.

أخرجه أحمد (5/324) والفَسَوي في "المعرفة" (2/301) والطبراني (5/176/4934) وابن عساكر أيضاً (1/114 و115) من طرق منها عبد الله بن وهب عنه. وقرن الفَسَوي وابن عساكر مع ابن لهيعة عمرَو بن الحارث، وأشار إلى ذلك ابن حبان في روايته الآتية.

الثالثة: عمرو بن الحارث - وذكر ابن سلم آخر معه - عن يزيد بن أبي حبيب به.

أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (1/574/2311- موارد) من طريق ابن وهب أيضاً: أخبرني عمرو بن الحارث..

وابن سلم هو عبدالله بن محمد المقدسي، شيخ ابن حبان في هذا الحديث، وهو ثقة، والآخر الذي يشير إليه هو ابن لهيعة كما صرحت بذلك رواية الفسوي وابن عساكر المذكورة قبله. وقد أخرجه الطبراني (رقم 4925) وابن عساكر عن عمرو بن الحارث وحده.

فأنت ترى - أيها القارىء الكريم - أنه لقد اتفق هؤلاء الثلاثة: يحيى بن أيوب، وعبدالله بن لهيعة وعمرو بن الحارث على رواية الحديث عن يزيد بن أبي حبيب بسنده الصحيح الذي لا خلاف فيه، فلو فرض أنهم جميعًا ضعفاء في الحفظ لما تردد من شم رائحة هذا العلم الشريف في تصحيح حديثهم إعمالاً لقاعدة تقوية الحديث بالمتابعات والطرق، فكيف وثلاثتهم ثقات على التفصيل المتقدم؟! فكيف وقد صححه من تقدم ذكرهم من الأئمة؟!

فأرجو مخلصًا أن يعتبر بهذا البحث والتحقيق أولئك الناشئون المتهافتون على الرد عليّ لخطأ يبدو لهم، ويسودون في ذلك الصفحات، ويؤلفون الرسائل، ويطلعون على الناس بردود فجة لا علم فيها، والمثال قريب بين يديك.

وإذا كان هذا حال هذا الشيخ الفاضل، فكيف يكون حال سبطه المسمى بـ "خالد المؤذن" في مؤلفه الذي أسماه بـ "إقامة البرهان على ضعف حديث (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان)، وفيه الرد على العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني"؟! وقد ذكر في مقدمته (ص 17) أنه عرضه على جمع سماهم، أشهرهم أحسن ما يقال فيه أنه لم يُعرف، ولم يشتهر بهذا العلم، ومنهم الشيخ الفاضل، وذكر أنه جده من جهة أمه، وقال عنه: "فلما نظر فيه استحسنه، وشجعني على نشره"!

فما قيمة استحسانه رحمه الله، وقد عرفتَ مبلغه من العلم؟! بل إن العاقل اللبيب ليستشعر معي مبلغ قيمة هذا المستحسَن من هذا المستحسِن!!

وليس غرضي الآن الرد على هذا السِّبط في "إقامته" وبيان ما فيه من الجهل بهذا العلم، وتناقضه في الحكم، واتباعه للهوى، فذلك له مكان آخر إن شاء الله تعالى. وإنما أريد أن ألفت النظر إلى الفرق بين الجد والسبط من الناحية الأخلاقية، فالجد -رحمه الله- قنع بالرد علي كتابةً مع الثناء البالغِ كما سترى فيما يأتي تحت الحديث: (طوبى..)، لم يُرِدْ بذلك تظاهرًا وشهرة بالرد على الألباني، وأما السبط فسلك غير سبيل جده، حبًا في الظهور، وقديمًا قالوا: حب الظهور يقصم الظهور، فلم يراسلني ويطلعني على وجهة نظره، بل سألني هاتفيًا عدة أسئلة أجبته عليها بكل صراحة، كما حكى ذلك هو نفسه في "الإِقامة" (ص 11-13)، ثم نشره على الناس بذلك العنوان الضخم: ".. وفيه الرد على العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني"!

ويصفه (ص 11) بأنه "محدث العصر"! فإذا كان صادقًا مع نفسه في هذا القول كما هو الظاهر، فمن الظاهر أيضًا أنه يوحي بذلك العنوان أن الراد على الألباني لا بد أن يكون "محدث العصور"! وكتابه يطفح بالأنانية والعجب والغرور، نسأل الله تعالى لنا وله السلامة من كل الآفات في الدنيا والآخرة" انتهى كلامه.

ثم ذكر الشيخ هذا الحديث برقم (503) وأعاد ما قاله في "تخريج فضائل الشام"، ثم قال: "هذا ما قلته في تخريج فضائل الشام (ص91)، فتعقبني بعض الفضلاء المكيين من كتاب العدل في رسالة كتبها إلى بتاريخ 29/4/90 دلت على علم وفضل فرأيت العناية بها وكتابة هذا الجواب، قال حفظه الله..." فذكر الشيخ اعتراضاته ورد عليه.

قلت: أصاب الشيخ الألباني في بعضها وأخطأ في بعض، ومعظمها خارج محل النقاش في هذا الحديث. ولم يتنبه الشيخ إلى شيء مما حررناه بفضل الله حول هذا الحديث.

وأما رواية الطبراني السابقة عن أحمد بن رشدين المصري فقد أوردها الشيخ الألباني في «سلسلة الأحاديث الضعيفة» برقم (6777): (طوبى للشام ... إن الرحمن لباسطٌ رحمته عليه).

قال الشيخ: "باطل بهذا اللفظ"، ثم خرّجه من عند الطبراني ثم قال: قلت: "وهذا إسناد ضعيف؛ رجاله كلهم ثقات غير أحمد بن رشدين هذا، فهو ضعيف متهم، وقد كنت بينت هذا وحكمت على هذا اللفظ بالبطلان تحت الحديث (503/ الصحيحة) لمخالفته لما رواه غير ما واحد عن يزيد بن أبي حبيب بلفظ:"... إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه".

ثم تنبهت لشيء آخر يؤكد الحكم السابق، وهو مخالفة (ابن رشدين) لمن رواه عن (حرملة) من الثقات، فأحببت تقييده هنا، فأقول: قال ابن حبان في "صحيحه" (2311 - الموارد): أخبرنا عبدالله بن محمد بن سلمة: حدثنا حرملة بن يحيى... فذكره باللفظ المحفوظ الصحيح.

وقال يعقوب بن سفيان في "المعرفة" (2/301): حدثني أبو الطاهر أحمد ابن عمرو، ومحمد بن أبي زكير عن ابن وهب عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث به" انتهى كلام الشيخ.

قلت: نعم، تفرد ابن رِشدين بهذا اللفظ، وهو بخلاف ما هو محفوظ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب: خالد الحايك - عفا الله عنه -.

 

شاركنا تعليقك