الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«إِعلامُ البَرية بضعف حديث النصيحة السّرية».

«إِعلامُ البَرية» بضعف حديث «النصيحة السّرية»!

 

مناقشة الألباني في تصحيحه حديث النصيحة السرية للولاة: «مَنْ أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْدِه علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه».

بقلم: خالد الحايك. 

· نصّ الحديث وكلام الشيخ الألباني فيه:

روى ابن أبي عاصم في كتاب السّنّة، (باب: كيف نصيحة الرعية للولاة)، (2/522)، قال: حدّثنا عمرو بن عثمان، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا صفوان بن عمرو، عن شُريح بن عبيد، قال: قال عِياض بن غَنم لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْدِه علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه)).

قال الألباني محقق الكتاب: "إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وبقية مدلس وقد صرّح بالتحديث، وقد توبِع كما يأتي، وفي سماع شريح من عياض وهشام نظر كما يأتي عن الهيثمي.

والحديث أخرجه أحمد (3/403-404): حدثنا أبو المغيرة، قال: حدثنا صفوان، قال: حدثني شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: فذكره وفيه قصة جرت بين عياض بن غنم وهشام بن حكيم وكلاهما صحابي. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (5/229): (رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أني لم أجد لشريح من عياض وهشام سماعاً وإن كان تابعياً).

قلت - أي الألباني -: وإنما أبدى الهيثمي هذا التحفظ مع أن شريحاً قد سمع من معاوية بن أبي سفيان كما قال البخاري، ومن فضالة بن عبيد كما قال ابن ماكولا - لأنه قد روي عن جمع آخر من الصحابة ولم يسمع منهم كما بينه الحافظ في التهذيب، والله أعلم.

لكنه قد تُوبِع، فأخرجه الحاكم (3/290) من طريق عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عمرو بن الحارث، عن عبدالله بن سالم، عن الزبيدي، قال: حدثنا الفضل بن فضالة يرده إلى عائذ، يرده إلى جبير بن نفير: أن عياض بن غنم الأشعري... الحديث نحوه بالقصة. وقال الحاكم: (صحيح الإسناد). وردّه الذهبي بقوله: (قلت: ابن زبريق واهٍ).

قلت: يعني إسحاق أبا عمرو، قال الحافظ: (صدوق يهم كثيراً، وأطلق محمد بن عوف أنه يكذب).

قلت: لكنه قد توبع، فسيأتي عند المصنف بعد حديث من طريق عبدالحميد بن إبراهيم عن عبدالله بن سالم به، ويأتي الكلام عليه هناك". انتهى كلام الألباني.

ثم روى ابن أبي عاصم، قال: حدثنا محمد بن عوف، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبي، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، قال: قال جبير بن نفير قال: قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم: أو لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يُبده علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه)).

قال الألباني: "حديثٌ صحيحٌ، ورجاله ثقات غير محمد بن إسماعيل وهو ابن عياش وهو ضعيف، لكنه يتقوى بالطريق التي قبله، والأخرى الآتية". انتهى كلامه.

ثم روى ابن أبي عاصم، قال: حدثنا محمد بن عوف، قال: حدثنا عبدالحميد بن إبراهيم، عن عبدالله بن سالم، عن الزبيدي، عن الفضيل بن فضالة يرده إلى ابن عائذ، يرده ابن عائذ إلى جبير بن نفير، عن عياض بن غنم قال لهشام بن حكيم: ألم تسمع يا هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فليأخذ بيده فليخلوا به، فإن قبلها قبلها، وإن ردها كان قد أدى الذي عليه)).

قال الألباني: "حديثٌ صحيحٌ، ورجاله كلهم ثقات، غير أن عبدالحميد بن إبراهيم وهو أبو تقي الحمصي فيه ضعف من قبل حفظه، قال الحافظ: (صدوق إلا أنه ذهبت كتبه فساءَ حفظه). قلت: فالحديث صحيح بمجموع طرقه. والله أعلم. وللحديث شاهد موقوف على عبدالله بن أبي أوفى. أخرجه أحمد (4/382-383) بسندٍ حسنٍ عنه". انتهى كلام الألباني.

·  مناقشة الألباني:

قلت: وقد تابع الألباني على كلامه كله بحروفه الدكتور باسم الجوابرة أثناء تعليقه على كتاب السنة أيضاً (2/737-739).

وقد عَرض الألباني لأربعة أسانيد وذكر أن في كلّ واحد منها مشكلة، ولكنه - كعادته - صححها بمجموعها!! وسأناقشه في كلّ واحد منها:

· لم يسمع شُريح بن عبيد من عِياض بن غنم:

1- أما رواية صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد عن عياض بن غنم، ففيها انقطاع، فشريح لم يسمع من عياض، وهذا الذي جعل الهيثمي يقول: (لم أجد لشريح من عياض وهشام سماعاً وإن كان تابعياً).

قال البخاري في ((التاريخ الكبير)) (4/230): "شريح بن عبيد الحضرمي أبو الصلت، المقرئي الشامي: سمع معاوية بن أبي سفيان، وعن فضالة بن عبيد، كنّاه إسحاق أبو المغيرة، روى عنه صفوان بن عمرو وأبو دوس عثمان".

قلت: أثبت البخاري سماعه من معاوية، ومعاوية توفي سنة (60هـ). وأما عياض بن غنم فمات سنة (20هـ)، فبينهما (40) سنة. ولم يثبت البخاري سماعه من فضالة بن عبيد الصحابي مع أنه توفي سنة (53هـ) وقيل (59هـ)، فكيف يسمع من أبي عياض؟!

وفي ((تاريخ دمشق)) (23/64): وسُئِل محمد بن عوف، فقيل له: هل سمع شريح ابن عبيد من أبي الدرداء؟ فقال: لا. فقيل له: فسمع من أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما أظن ذلك، وذلك أنه لا يقول في شيء: (سمعت) وهو ثقة".

وقال ابن أبي حاتم في ((المراسيل)) (ص90): سمعت أبي يقول: "شريح بن عبيد الحضرمي لم يدرك أبا أمامة ولا الحارث بن الحارث ولا المقدام". وسمعته يقول: "شريح ابن عبيد عن أبي مالك الأشعري مرسل".

قال أبو زرعة: "شريح بن عبيد الحضرمي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرسل".

قال ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (4/288): "وإذا لم يدرك أبا أمامة الذي تأخرت وفاته فبالأولى أن لا يكون أدرك أبا الدرداء، وأني لكثير التعجب من المؤلف – أي المزي - كيف جزم بأنه لم يدرك من سمى هنا، ولم يذكر ذلك في المقداد وقد توفي قبل سعد بن أبي وقاص وكذا أبو الدرداء وأبو مالك الأشعري وغير واحد ممن أطلق روايته عنهم، والله الموفق".

وقال الذهبي في ((الكاشف)) (1/483): "صدوق، قد أرسل عن خلق".

وقال ابن حجر في ((التقريب)) (ص265): "ثقة من الثالثة، وكان يرسل كثيراً، مات بعد المئة".

قلت: فرواية شريح بن عبيد عن الصحابة مرسلة - باستثناء سماعه من معاوية كما ذهب إليه البخاري - على عادة الشاميين في الإرسال عن الكبار، عدا عن الخلط في رواياتهم بين الأحاديث المرسلة كما سأبينه إن شاء الله تعالى.

ومما يدلّ على أن هذا الحديث منتشر عند الشاميين بالإرسال ما جاء في رواية الإمام أحمد في ((المسند)) (3/403) قال صفوان: (حدثني شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: جلد عياض بن غنم).

فالذي حدّث صفوان به شريح بن عبيد وغيره، ولم يسند شيئاً من ذلك، وهذا هو الإرسال.

· منهج الألباني في تقوية الضعيف بالضعيف!!

2- وأما حديث: عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي، عن أبيه، عن عمرو بن الحارث، عن عبدالله بن سالم، عن محمد بن الوليد الزُّبيدي، عن الفضل بن فضالة، عن عائذ، عن جبير بن نفير: أن عياض بن غنم.

فقد نقل أن الذهبي ردّه بأن ابن زبريق واهٍ، ولكنه قوّاه بإسناد عبدالحميد بن إبراهيم، عن عبدالله بن سالم، عن الزبيدي، عن الفضيل بن فضالة عن ابن عائذ، عن جبير بن نفير، عن عياض بن غنم!! مع أن الشيخ ضعّف عبدالحميد هذا؟!

ومنهج الألباني معروف في تقوية الضعيف بمثله!!!

أقول: إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي بن زبريق الحمصي، قال النسائي: "ليس بثقة"، وقال أبو داود: "ليس بشيء"، وليّنه أبو حاتم الرازي، وأثنى عليه ابن معين، وروى الآجري عن أبي داود: أنّ محمد بن عوف قال: "ما أشك أن إسحاق بن زبريق يكذب"، وذكره ابن حبان في الثقات.

· رواية البخاري عن "ابن زبريق" في الأدب المفرد:

وقد حدّث عنه الإمام البخاري في ((الأدب المفرد)) فروى له أربعة أحاديث (248، 491، 1093، 1155)، وعلّق له في قيام الليل حديثاً للزبيدي هو من رواية إسحاق هذا عن عمرو بن الحارث الحمصي، وقد وصله الطبراني وغيره. (تهذيب التهذيب: 1/189).

وهذه الأحاديث التي أخرجها له البخاري في الأدب إنما هي في الآداب ومثلها يخرج في كتاب مثله، والرجل صدوق في نفسه، ولكن حديثه فيه مناكير كثيرة، وكأن هذا هو السبب الذي جعل محدّث حمص ابن عوف يطلق فيه الكذب، ولا أظن أنه كان يتعمد الكذب، ولكنه ضعيف في الحديث، فيحتاج إلى المتابعة، ولكن بشرط أن تكون المتابعة ممن هو أعلى منه، لا ممن هو دونه.

وأما عمرو بن الحارث فقال الذهبي في ((الميزان)) (5/305): "عمرو بن الحارث الزُّبيدي الحمصي عن عبدالله بن سالم الأشعري فقط، وله عنه نسخة، تفرد بالرواية عنه إسحاق بن إبراهيم زبريق ومولاة له اسمها علوة، فهو غير معروف العدالة، وابن زبريق ضعيف".

قلت ذكره ابن حبان في الثقات (8/480)، وقال: "عمرو بن الحارث بن الضحاك الحمصي، يروي عن عبدالله بن سالم الأشعري عن الزبيدي، روى عنه إسحاق بن إبراهيم ابن العلاء بن زبريق وأهل بلده، مستقيم الحديث".

· إشارة البخاري إلى ضعف الحديث:

وقد أشار البخاري إلى ضعف هذه الرواية، فإنه قال في ((التاريخ الكبير)) (7/18): "عياض بن غنم الفهري القرشي، له صحبة. قال إسحاق بن إبراهيم بن العلاء: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن عبدالله بن سالم، عن الزبيدي قال: حدثني فضيل بن فضالة يردّه إلى ابن عائذ يردّه إلى جبير بن نفير: أنّ عياضاً قال لهشام بن حكيم: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه علانية وليخلو به فإن قبلها وإلا أدى ما عليه وله)".

قلت: هذه عادة الإمام البخاري في الإشارة إلى تضعيف الأحاديث من خلال التراجم، فإنه أورده في ترجمته ليشير إلى ضعفه بعد أن أثبت صحبته؛ لأن صحبته ثابتة بل متواترة، فإنه ذكر في ((صحيحه)) (5/2024) في رواية: "وكانت أم الحكم بنت أبي سفيان تحت عياض بن غنم الفهري فطلقها، فتزوجها عبدالله بن عثمان الثقفي".

وعياض لا يحفظ عنه إلا هذا الحديث، ولا يصح عنه!

· متابعة عبدالحميد بن إبراهيم لروايات إسحاق بن زبريق:

3- وأما رواية عبدالحميد بن إبراهيم عن عبدالله بن سالم فهي لا شيء!

قال عبدالرحمن ابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (6/8): سألت محمد بن عوف الحمصي عن عبدالحميد؟ فقال: "كان شيخاً ضريراً، لا يحفظ، وكنا نكتب من نسخة كانت عند إسحاق بن زبريق لابن سالم فنحمله إليه ونلقنه، فكان لا يحفظ الإسناد، ويحفظ بعض المتن، فيحدثنا، وإنما حملنا الكتابة عنه شهوة الحديث".

قال عبدالرحمن: وكان إذا حدّث عنه محمد بن عوف قال: وجدت في كتاب ابن سالم حدثنا به أبو تَقِي.

قال عبدالرحمن: سمعت أبي ذكر لي أبو تقي عبدالحميد بن إبراهيم فقال: "كان في بعض قرى حمص فلم أخرج إليه، وكان ذكر أنه سمع كتب عبدالله بن سالم عن الزبيدي إلا أنها ذهبت كتبه، فقال: لا أحفظها، فأرادوا أن يعرضوا عليه، فقال: لا أحفظ، فلم يزالوا به حتى لانَ، ثم قدمت حمص بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة، فإذا قوم يروون عنه هذا الكتاب، وقالوا: اعرض عليه كتاب ابن زبريق، ولقنوه، فحدّثهم بهذا، وليس هذا عندي بشيء، رجل لا يحفظ، وليس عنده كتب".

وقال البرذعي في ((سؤالاته)) (ص705): ذاكرت أبا زرعة بشيء عن محمد بن عوف عن عبدالحميد بن إبراهيم أبي تقي عن عبدالله بن سالم عن الزبيدي، فنسبه إلى أمر غليظ، ثم قال لي: محمد بن عوف يحدّث عنه! قلت: نعم، فاستعظم ذاك جداً، ثم قال: "هو الذي نهاني عنه ولم يدعني أقربه، ونسبه إلى ما أعلمتك، ثم هو يحدّث عنه! ما هذا بحسن".

قلت: وهذا يعني أن ابن زبريق كان عنده كتاب عن عبدالحميد عن ابن سالم، وقد ادعى عبدالحميد أنه سمع كتب ابن سالم عن الزبيدي ولكنها ذهبت وهو لا يحفظها، وكان يتلقن هذه الأحاديث، فحديثه لا شيء، وابن زبريق ضعيف فلعل روايته لهذا الحديث عن عمرو بن الحارث عن ابن سالم أصلها من كتاب عبدالحميد عن ابن سالم، فأخطأ فيها فرواها عن عمرو؛ لأنه مكثر عن عمرو، فإن صح ذلك فالحديث حديث عبدالحميد ولا يحتج بحديثه، وإن لم يصح وثبت أن ابن زبريق رواها عن عمرو بن الحارث، فإنه يكون قد تفرد بها، وتفرده لا يحتج به، فسقطت المتابعتان اللتين قوى بهما الألباني الرواية.

وهذا الأمر يقودنا إلى مسألة مهمة تتعلق بمتابعات عبدالحميد لروايات إسحاق بن زبريق!

فقد علّق البخاري في ((صحيحه)) في (باب مس الحرير من غير لبس) قال: "ويُروى فيه عن الزبيدي عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم".

وهذا وصله أبو القاسم الطبراني في ((المعجم الكبير)) (6/13) قال: حدثنا عمرو بن إسحاق ابن إبراهيم بن العلاء بن زبريق، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عمرو بن الحارث الحمصي، قال: حدثنا عبدالله بن سالم، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس قال: (أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم حلة من إستبرق، فجعل أناس يلمسونها بأيديهم، ويتعجبون منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعجبكم هذه، فوالله لمناديل سعد في الجنة أحسن منها).

هكذا رواه الطبراني في معجمه بهذا الإسناد.

وخالفه محمد بن عمرو بن إسحاق بن إبراهيم عن أبيه. كما رواه تمام في ((فوائده)) قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي الحمصي يعرف بابن زبريق، قال: أخبرني أبي، قال: حدثتني علوية مولاة عمرو بن الحارث، قال: حدثني مولاي عمرو بن الحارث، قال: حدثنا عبدالله بن سالم، عن الزبيدي، فذكره.

تابعه عبدالحميد بن إبراهيم عن عبدالله بن سالم. رواه تمام في ((الفوائد)) (1/225) قال: أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان، قال: حدثنا سليمان بن عبدالحميد البهراني، قال: حدثنا عبدالحميد بن إبراهيم: أنّ عبدالله بن سالم حدّثه عن الزبيدي، قال: أخبرني الزهري: أن أنساً أخبره أنها أهديت، الحديث.

قال الدراقطني في الأفراد: "لم يروه عن الزبيدي غير عبدالله بن سالم".

قال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/63): "قلت: ذكر الحافظ أبو الحجاج المزي في الأطراف أن مراد البخاري بهذا التعليق الحديث الذي أخرجه أبو داود في السنن من حديث الزبيدي عن الزهري عن أنس أنه رأى على أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم حلة سبراء وليس كما يوهم، إذ لو كان ذلك مراد البخاري لجزم به؛ لأنه صحيح مشهور عن الزبيدي. وقد أخرجه البخاري من حديث شعيب عن الزهري به، والذي صدرنا به هو مراد البخاري بلا ريب، ولذلك علقه بصيغة التمريض لغرابته، وتفرد ابن سالم به، وهو أوضح في المعنى المراد، والله أعلم.

ومما يؤكده أن البخاري لما روى في المناقب حديث البراء بن عازب في المعنى قال عقبة: رواه الزهري عن أنس، ولما علّق حديث الزهري هذا عن أنس هنا أسند حديث البراء بعينه أيضاً، فتبين أن مراده ما أشرنا إليه، والله أعلم".

ومثله في ((فتح الباري)) (10/291).

قلت: فإسحاق بن زبريق رواه عن عمرو بن الحارث، عن عبدالله بن سالم، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس.

ورواه عبدالحميد عن عبدالله بن سالم، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس، مثله.

وقد حكم الدارقطني بتفرد ابن سالم به، وما أظن أن ابن سالم حدّث به! فحديث ابن زبريق فيه مشكلة، وكذلك حديث عبدالحميد!!

· جُبير بن نُفير عن عِياض بن غنم منقطع:

4- وعلى فرض ثبوت رواية ابن زبريق ورواية عبدالحميد، ففي الحديث مشكلة أخرى، وهي المشكلة ذاتها في رواية ضمضم، وهي الانقطاع بين جبير بن نفير وعياض بن غَنم!

ذكر الذهبي في ((السير)) (4/77) رواية بقية عن عليّ بن زُبيد الخولاني، عن مَرْثد بن سُمَيّ، عن جبير بن نُفير، أنّ يزيد بن معاوية كتب إلى أبيه: (أنّ جُبير بن نفير قد نشر في مِصري حديثاً... فجاء أبو الدرداء فأخذ بيد جبير وقال...) القصة.

قال الذهبي: "هذا خبرٌ منكرٌ لم يكن لجبير ذِكرٌ بعد في زمن أبي الدرداء، بل كان شابّاً يتطلب العلم".

قلت: فإذا كان جبير يتطلب العلم في زمن أبي الدرداء الذي توفي سنة (32هـ)، فمتى التقى بعياض بن غَنم المتوفى سنة (20هـ) ومتى سمع منه؟!!

وأقدم صحابي سمع منه جبير بن نُفير هو أبو الدرداء وأبو ذر، وكلاهما مات سنة (32هـ)، وروايته عن أبي بكر مرسلة، وكذلك عن عمر، وكان عياض بن غنم عامل عمر ومات زمن عمر.

وقيل إنه أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وموته سنة (80هـ) يؤكد أنه ما سمع من عياض بن غنم. وقال معاوية بن صالح: أدرك إمارة الوليد بن عبدالملك. انتهى. قال ابن حجر: "فإن صح ذلك فيكون عاش إلى سنة بضع، لأن الوليد ولي سنة 86، والله أعلم".

قال الذهبي في ((تذكرة الحفاظ)) (1/52): "وكان من أجلة العلماء حديثه في الكتب كلها سوى صحيح البخاري، وما ذاك للين فيه، ولكنه ربما دلس عن قدماء الصحابة، والبخاري لا يقنع إلا بأن يصرح الشيخ بلقاء من روى عنه".

قلت: يعني يرسل عن كبار الصحابة كعادة الشاميين في ذلك.

· محمد بن إسماعيل بن عيّاش لم يسمع من أبيه!

5-  ثُمّ إن إسناد الحديث ضعيف قبل أن يصل إلى جبير بن نفير.

فالحديث تفرد به محمد بن إسماعيل بن عيّاش عن أبيه، ولم يسمع منه.

قال ابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (7/189): سألت أبي عنه؟ فقال: "لم يسمع من أبيه شيئاً، حملوه على أن يحدّث عنه فحدّث".

قلت: فالمسألة ليست فقط في أنه ضعيف كما أوهم الشيخ الألباني، بل إنه لم يسمع من أبيه شيئاً، وهو لم يكن بذاك فكيف يضبط الحديث؟!

وقال الآجري: "سُئل أبو داود عنه، فقال: لم يكن بذاك، قد رأيته ودخلت حمص غير مرة وهو حيّ، وسألت عمرو بن عثمان عنه فذمّه" (تهذيب التهذيب: 9/51).

وضمضم بن زرعة مختلفٌ فيه: وثقه ابن معين، وضعفه أبو حاتم (الجرح والتعديل: 4/468). وجمع ابن حجر بينهما فقال في ((التقريب)) (ص280): "صدوق يهم".

وبعد فلا يصح قول ابن عساكر في ((تاريخه)) (47/266): "وهو محفوظ من حديث جبير، وقد رواه عبدالرحمن بن عائذ عن جبير"!!

ولا يصح كذلك قول الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/230): "ورجاله ثقات وإسناده متصل".

قلت: قد تبيّن أنهم ليسوا كلهم ثقات، وليس بمتصل، بل مرسل.

· نكارة وخلط!!

6- هذا الحديث فيه نكارة وخلط أيضاً في صاحب القصة!

والحديث رواه أحمد في ((المسند)) (3/403) عن أبي المغيرة، قال: حدثنا صفوان، قال: حدثني شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: (جَلَد عياض بن غنم صاحب داريا حين فُتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي، فأتاه هشام ابن حكيم فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس)). فقال عياض بن غنم: يا هشام ابن حكيم قد سمعنا ما سمعت، ورأينا ما رأيت، أولم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه له))، وإنك يا هشام لأنت الجريء، إذ تجتريء على سلطان الله فهلا خشيت أن يقتلك السلطان، فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى).

قلت:

- ما جاء في الرواية: (تجترئ على سلطان الله... قتيل سلطان الله) منكرٌ جداً!! فالصحابة لم يكونوا يتلفظون بهذه الألفاظ، ومتى في خلافة عمر! ومتى كان الصحابة إذا اختلفوا في شيء ذكروا القتل وكأنه تهديد؟! إن هذا منكرٌ جداً.

- أن الجزء الأول من القصة رُوي من طرق أخرى وبألفاظ أخرى، وليس فيه مسألة النصيحة السرية.

رواه الإمام مسلم في ((صحيحه)) (4/2017) عن أبي بكر ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن هشام بن حكيم بن حزام، قال: مرّ بالشام على أناس وقد أقيموا في الشمس، وصبّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج. فقال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا)).

ثم رواه عن أبي كريب عن وكيع وأبي معاوية، وعن إسحاق بن إبراهيم عن جرير، كلهم عن هشام بهذا الإسناد، وزاد في حديث جرير قال: ((وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه فحدّثه فأمر بهم فخلوا)).

وكذا رواه أحمد في ((مسنده)) (3/403) عن عبدالأعلى عن معمر عن الزهري وهشام بن عروة أنهما حدثاه عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيم.

ورواه أحمد أيضاً عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن عروة بن الزبير: أن هشام بن حكيم بن حزام وجد عياض بن غنم، وهو على حمص يشمس ناساً من النبط في أداء الجزية، فقال له هشام: ما هذا يا عياض، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تبارك وتعالى يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)).

ورواه أحمد أيضاً عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن عروة أنه بلغه: أن عياض بن غنم رأى نبطاً يشمسون في الجزية فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تبارك وتعالى يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)).

ورواه عبدالله بن صالح عن الليث بن سعد عن يونس الأيلي عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير: أن عياض بن غنم رأى نبطاً يعذبون في الجزية، فقال لصاحبهم: إني سمعت رسول الله يقول: ((إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا)).

ورواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن أخي الزهري عن عمّه قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عياض بن غنم وهشام بن حكيم بن حزام مرا بعامل حمص وقد شمس أنباطاً في الشمس، فقال أحدهما للعامل: ما هذا يا فلان، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)).

ورواه ابن حبان في ((صحيحه)) (12/426) من طريق محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عروة: أن هشام بن حكيم بن حزام وجد عياض بن غنم وهو على حمص شمس ناساً من النبط في أخذ الجزية، فقال هشام بن حكيم: ما هذا يا عياض، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)).

ثم قال ابن حبان: "ذكر خبر أوهم عالماً من الناس أن عروة لم يسمع هذا الخبر من هشام بن حكيم بن حزام"، ثم ساقه من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة: أن حكيم بن حزام مرّ بعمير بن سعد وهو يعذب الناس في الجزية في الشمس، فقال: يا عمير إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا))، قال: اذهب فخلّ سبيلهم.

قال أبو حاتم ابن حبان: "سمع هذا الخبر عروة عن هشام بن حكيم بن حزام وهو يعاتب عياض بن غنم على هذا الفعل، وسمعه أيضاً من حكيم بن حزام حيث عاتب عمير ابن سعد على هذا الفعل سواء، فالطريقان جميعاً محفوظان".

وروى الطبراني في ((مسند الشاميين)) (1/44) من طريق يحيى بن أبي الخصيب عن عبدالله بن هاني عن عمّه إبراهيم بن أبي عبلة عن عبدالله بن محيريز قال: كان عياض بن غنم على بعث من أهل الشام، ومعه مولى له فغضب عليه فضربه، فحجزه هشام بن حكيم القرشي، وكلاهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عياض إلى فسطاطه غضباناً، فأمهله هشام حتى ذهب عنه الغضب، أتاه فاستأذن فقال: لله أبوك ما حملك على الذي فعلت؟ فقال هشام: لم والله ما سمعت شيئاً لم تسمعه؟ قال: فما سمعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة أشدهم عذاباً للناس في الدنيا)).

قلت: هكذا اختلفت الروايات فيمن الذي عاتبه هشام بن حكيم: هل هو عياض بن غنم أم عمير بن سعد؟ أم أن عياض بن غنم هو الذي عاتب صاحب هؤلاء؟! أم أن عياض وهشام مرا بعامل حمص وهو يفعل ذلك فأنكر ذلك أحدهما؟!

فرجّح ابن حبان أن القصة حدثت مع عياض ومع عمير فعاتبهما هشام بن حكيم وحملها على التعدد وهذا بعيد!

والذي أميل إليه أن القصة حدثت مع عمير بن سعد فعاتبه على ذلك هشام بن حكيم كما في صحيح مسلم، ولا مدخل لعياض بن غنم فيها، ويحتمل أن الخلط في هذا لأنه كان على الشام أميران: أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان، فلما استُخلف عمر توفي أبو عبيدة فاستخلف خاله أو ابن عمه عياض بن غنم أحد بني الحارث بن فهر، فأقره عمر، وتوفي يزيد بن أبي سفيان فأمر مكانه معاوية، ثم توفي عياض فأمر مكانه سعيد بن عامر، ثم توفي سعيد بن عامر فأمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري، ثم توفي عمر، واستخلف عثمان فجمع الناس لمعاوية ونزع عميراً، وهشام بن حكيم كان في الشام مع عياض ومع عمير، فكأنه من هنا دخل الخلط على الرواة في هذه القصة، والله أعلم.

وعلى فرض حدوثها مع عياض بن غنم فإن مسألة النصيحة لم تُروى إلا في حديث واحد ولا يصح كما بينته، ومما يدل على أنه لا يصح أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الواحد منهم عوتب على شيء فعله وقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، توقف وفعل ما سمع ولا يزيد ولا يتكلم.

· خلط بين عياض الفهري وعياض الأشعري!

7- الخلط بين عِياض بن غنم الفِهري وبين عِياض بن غنم الأشعري!

قال ابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (2/153): "عياض بن غنم الفهري، ويقال: الأشعري، وهو ابن عم أبي عبيدة بن الجراح، ويقال: إنه كان ابن امرأته وإلى أبي عبيدة رضي الله عنهما يُنسب. مات سنة عشرين".

ثم ساق له حديث محمد بن عوف، عن عبدالحميد بن إبراهيم، عن عبدالله بن سالم، عن الزبيدي، عن الفضيل بن فضالة، عن ابن عائذ، عن جبير بن نفير: أن عياض بن غنم وقع على صاحب داريا حين فتحت، فأتاه هشام بن حكيم فأغلظ له القول، الحديث.

ثم ذكر (5/249): (عياض بن غنم، أدخل في قريش وهو من الأشعريين).

وقال ابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (6/407): "عياض بن غنم القرشي الفهري (مصري!)، له صحبة، عامل عمر، مات في زمن عمر رضي الله عنه، روى عنه: عروة بن الزبير وجبير بن نفير وشهر بن حوشب وشريح بن عبيد، سمعت أبي يقول ذلك".

قلت: قوله (مصري) كأنه مقحم من بعض النساخ! وهو سبق نظر من الناسخ من الترجمة السابقة، وهي: (عياض بن حمار المجاشعي دارمي، بصري له صحبة)، فأخطأ الناسخ فذكر بصري في ترجمة عياض فتصحفت إلى (مصري) في المطبوع!

ثم وجدت عند ابن عساكر في ((تاريخه)) (47/271) من كتاب ابن أبي حاتم قال: "عياض بن غنم القرشي الفهري، (بصري)، له صحبة مات في زمن عمر...".

وقد بينت أن رواية عروة عنه بواسطة هشام بن حكيم إن صح أن القصة حدثت مع عياض، ورواية جبير بن نفير عنه مرسلة، وكذلك رواية شريح بن عبيد، وأما رواية شهر عنه فقيل إن شهراً روى عن عياض بن غنم الأشعري؛ لأن شهراً أشعري مثله، فالله أعلم.

وأكثر أهل العلم على أن عياض بن غنم الفهري هو الأشعري!

قال ابن قانع في ((معجم الصحابة)) (2/277): (عياض بن غنم الأشعري)، ثم ساق له من طريق معاوية بن يحيى عن يزيد بن جابر، عن جبير بن نفير، عن عياض بن غنم الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عياض بن غنم، لا تزوجن عجوزاً ولا عاقراً، فاني مكاثر)).

ثم ساق من طريق الحكم بن موسى، عن هقل، عن المثنى، عن أبي الزبير، عن شهر بن حوشب، عن عياض بن غنم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن مات فإلى النار)).

ثم ساق من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن شريك، عن مغيرة، عن الشعبي قال: (شهد عياض الأشعري عيداً بالأنبار، فقال: ما لي لا أراهم يقلسون كما كانوا يقلسون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).

قلت: وحديث شرب الخمر ذكره ابن عساكر وغيره في ترجمة عياض الفهري، وقال ابن عساكر (47/267): "هذا حديثٌ غريبٌ! وفيه انقطاع، شهر لم يسمع من عياض".

قال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/757): "عياض بن غنم، بفتح المعجمة وسكون النون، بن زهير بن أبي شداد الفهري، تقدم نسبه في عياض بن زهير. قال ابن سعد في الطبقة الأولى: عياض بن زهير، وساق نسبه، هاجر الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة في رواية بن إسحاق، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد، مات بالمدينة سنة عشرين، وليس له عقب، وقال في الطبقة الثانية: عياض بن غنم بن زهير، وساق نسبه، ثم قال: أسلم قبل الحديبية، ومات بالشام سنة عشرين، وهو ابن ستين سنة، وذكره في من نزل الشام من الصحابة، وزاد: أنه كان صالحاً سمحاً، وكان مع ابن عمه أبي عبيدة فاستخلفه على حمص لما مات، وقيل: إن أبا عبيدة كان خاله فأقره عمر قائلاً: لا أبدل أميراً أمره أبو عبيدة، وذكر أبو زرعة الدمشقي بسنده إلى حفص بن عمر عن يونس عن الزهري بعض هذا، وقال ابن إسحاق: كتب عمر إلى سعد سنة تسع عشرة: ابعث جنداً وأمِّر عليهم خالد بن عرفطة أو هاشم بن عتبة أو عياض بن غنم، فبعث عياضاً. قال الزبير: هو الذي فتح بلاد الجزيرة وصالحه أهلها، وهو أول من أجاز الدرب، وقال ابن أبي عاصم عن الحوطي عن إسماعيل بن عياش: كان يقال لعياض زاد الراكب؛ لأنه كان يطعم رفقته ما كان عنده، وإذا كان مسافراً آثرهم بزاده، فإن نفد نحر لهم جمله".

ثم قال ابن حجر (4/758): "عياض بن غنم الأشعري، أخرج ابن قانع من طريق القواريري عن عمرو بن الوليد الأغضف عن معاوية بن يحيى عن زيد بن جابر عن جبير ابن نفير عن عياض بن غنم الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عياض، لا تزوجن عجوزاً ولا عاقراً، فإني مكاثر بكم)، وسنده ضعيف من أجل عمرو، وأورده أبو نعيم في ترجمة الفهري، رواه من طريق القواريري أيضاً، لكن لم يقع في روايته قوله: الأشعري، وكذا أخرجه الحاكم من طريق داهر بن نوح عن عمرو بن الوليد، وأخرج ابن منده من طريق الزهري عن عروة عن عياض بن غنم: أنه رأى نبطاً يشمسون في الجزية، فقال لعاملهم: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)، وقد قيل في هذا: عن عروة عن هشام بن حكيم، أورده ابن منده في ترجمة عياض بن غنم الفهري أو الأشعري، وعروة لم يدرك الفهري، لكن قد أخرج ابن منده من طريق ابن عائذ عن جبير بن نفير: أن عياض بن غنم وقع على صاحب داريا حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم فذكر قصة، وفيها: فقال عياض لهشام: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يقل له علانية)، وأخرجه الحاكم في المستدرك من هذا الوجه، ووقع عنده: (عياض بن غنم الأشعري)، وأظن الأشعري وهماً، والله أعلم، فإن الذي ولي الإمرة حيث كان هشام بالشام هو الفهري لا الأشعري، لكن للأشعري حديث آخر أخرجه أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن شهر بن حوشب عن عياض بن غنم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً الحديث)، وهذا هو الأشعري فإن شهراً أشعري، وهو لم يدرك الفهري، والله أعلم". انتهى.

قلت: وحديث الخمر يُروى عن شهر عن ابن عباس. رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (12/249) من طريق بقية بن الوليد، قال: حدثني عتبة بن أبي حكيم، قال: حدثني شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والظاهر أن عياض بن غنم الفهري غير عياض بن غنم الأشعري، وأخشى أن يكون عياض بن غنم الأشعري هذا هو عبدالرحمن بن غنم الأشعري الشامي الذي يروي عنه شهر، لأن معظم الأئمة لم يذكروا عياض بن غنم الأشعري وإنما ذكروا الفهري، فأخطأ في اسمه بعض الرواة، وخلطوا بينه وبين عياض بن غنم، والله أعلم وأحكم.

· حديث عبدالله بن أبي أوفى:

8- وأما حديث عبدالله بن أبي أوفى الذي احتج به الشيخ الألباني في تقوية هذا الحديث، ففيه أمور:

رواه الإمام أحمد في ((مسنده)) (4/382) عن أبي النضر هاشم بن القاسم، قال: حدثنا الحشرج بن نباته العبسي، كوفي، قال: حدثني سعيد بن جمهان، قال: أتيت عبدالله ابن أبي أوفى، وهو محجوب البصر، فسلّمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان. قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت، قتلته الأزارقة. قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنهم كلاب النار)). قال: قلت، الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بلى الخوارج كلها. قال: قلت، فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم؟ قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: (ويحك يا ابن جمهان، عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك، وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه).

قلت: ورواه الطيالسي في ((مسنده)) (ص110) عن الحشرج. وابن عدي في ((الكامل)) (2/441) من طريق عاصم عن حشرج. وابن أبي عاصم في ((السنة)) (2/438) من طريق أبي الوليد الطيالسي عن الحشرج. والحاكم في ((المستدرك)) (3/660) من طريق عبدالله بن المبارك، عن حشرج، قال: حدثنا سعيد بن جمهان قال: أتيت عبدالله بن أبي أوفى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: من أنت؟ وكان يومئذ محجوب البصر، فقلت: أنا سعيد بن جمهان. فقال: ما فعل أبوك؟ قلت: قتلته الأزارقة. قال: قتل الله الأزارقة كلها، ثم قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إنهم كلاب أهل النار)). قال: قلت الأزارقة كلها أو الخوارج؟ قال: (الخوارج كلها).

ولم يذكروا في آخره (قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم؟ قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: (ويحك يا ابن جمهان، عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك، وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه)، كما ذكر هاشم بن القاسم!

قلت: تفرد بالحديث حشرج بن نباتة، وهو مختلف فيه، فقال بعضهم صالح، أو لا بأس به، وقال أبو حاتم: "صالح، يُكتب حديثه ولا يحتج به"، وقال النسائي: "ليس بالقوي".

وقال ابن حبان في ((المجروحين)) (1/273): "حشرج بن نباته يروي سعيد بن جمهان، روى عنه حماد بن سلمة ومروان بن معاوية، كان قليل الحديث، منكر الرواية فيما يرويه، لا يجوز الإحتجاج بخبره إذا انفرد".

وهذا الحديث الذي اعتمده الشيخ الألباني في تقوية حديث الباب، فقال: "إسناده حسن، رجاله ثقات، وفي حشرج بن نباتة كلام من قبل حفظه، وفي التقريب: (صدوق يهم). ونحوه سعيد بن جمهان. والحديث أخرجه الطيالسي وأحمد والحاكم من طرق أخرى عن حشرج به".

قلت: وهذا مما انفرد به حشرج عن ابن جمهان بهذه القصة! فلا يُحتج به.

وروى الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (13/100) من طريق الطبراني، قال: حدثنا محمد بن علي بن شعيب البغدادي، قال: حدثنا خالد بن خداش، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا سعيد بن جمهان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلاب النار شر قتلى تحت ظل السماء طوبى لمن قتلوه»، طوبى لأبيك.

قلت: لم يروه عن حماد بن زيد إلا خالد بن خداش البصري! وقد اختلف أهل العلم فيه: فقال يحيى بن معين وأبو حاتم وصالح بن محمد البغدادي: "صدوق"، وقال ابن سعد: "ثقة"، وقال يعقوب بن شيبة: "كان ثقة صدوقاً".

وقال ابن المديني: "ضعيف"، وقال زكريا الساجي: "فيه ضعف". وقال يحيى بن معين: "قد كتبت عنه، ينفرد عن حماد بن زيد بأحاديث".

وقال أبو داود: روى عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر حديث الغار، ورأيت سليمان بن حرب ينكره عليه.

وقال أبو حاتم الرازي: سألت سليمان بن حرب عنه، فقال: "صدوق لا بأس به كان يختلف معنا إلى حماد بن زيد وأثنى عليه خيراً".

قلت: هو صدوق له مناكير، فما تفرد به لا يُقبل منه، وخاصة فيما ينفرد به عن حماد بن زيد، فمن أين ينفرد عنه بهذه الأحاديث؟!!

وقد أخرج له مسلم في «صحيحه» حديثاً واحداً فقط، قال: حدثنا أبو الْهَيْثَمِ خَالِدُ بن خِدَاشِ بن عَجْلَانَ، قال: حدثنا حَمَّادُ بن زَيْدٍ، عن أَيُّوبَ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن عبداللَّهِ بن أبي قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا له فَتَوَارَى عنه، ثُمَّ وَجَدَهُ، فقال: إني مُعْسِرٌ، فقال: آللَّهِ، قال: آللَّهِ، قال: فَإِنِّي سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «من سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ الله من كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عن مُعْسِرٍ أو يَضَعْ عنه».

قال: وحدثنيه أبو الطَّاهِرِ: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبرني جَرِيرُ بن حَازِمٍ، عن أَيُّوبَ بهذا الإسناد نَحْوَهُ.

قلت: خرّج مسلم هذا الحديث له لأنه رُوي من طريق آخر عن أيوب. والذي أراه أن حديثه الذي ينفرد به عن حماد بن زيد لا يُقبل منه حتى لو كان للحديث طريق آخر، فإن صحت الطريق الأخرى فالعمدة عليها لا على حديثه، وحديثه هنا لا يصلح كشاهد لغيره لأن تفرده عن حماد بن زيد منكر.

وقد روى اللالكائي في «اعتقاد أهل السنة والجماعة» برقم (2313) عن مُحَمَّد بن عَبْدالرَّحْمَنِ بنِ العَبَّاسِ، قَالَ: أخبرنا عَبْدُاللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللَّهِ الْبَغَوِيُّ، قالَ: حدثنا قَطَنُ بنُ نُسَيْرٍ، قالَ: حدثنا عَبْدُالْوَارِثِ، قالَ: حدثنا سَعِيدُ بنُ جُمْهَانَ، قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُاللَّهِ بنُ أَبِي أَوْفَى: مَا فَعَلَ أَبُوكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَتَلَتْهُ الْأَزَارِقَةُ، فَقَالَ: عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ كِلَابُ النَّارِ، ثَلَاثًا، قَالَ: فَقُلْتُ: الْأَزَارِقَةُ خَاصَّةً، أَوِ الْخَوَارِجُ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: «الْخَوَارِجُ كُلُّهُمْ كِلَابُ النَّارِ».

قلت: تفرد به عن عبدالوارث: قطن بن نُسير البصري، وهو منكر الحديث، اتهمه ابن عدي بالسرقة، فقال: "يسرق الحديث ويوصله". وكان أبو حاتم يحمل عليه، وقال الدارقطني: "ليس بذاك".

وقد رُويت هذه القصة عن ابن جهمان بدون ذكر «الخوارج كلاب النار» رواها أحمد في «مسنده» (4/382) عن بَهْز وعَفَّان، قالا: حدثنا حَمَّاد بن سَلَمَة، عن سَعِيد بن جُمْهَانَ، قال: «كنا مع عبداللَّهِ بن أبي أَوْفَى يقاتل الْخَوَارِجَ وقد لَحِقَ غُلاَمٌ لاِبنِ أبي أَوْفَى بِالْخَوَارِجِ فَنَادَيْنَاهُ يا فَيْرُوزُ، هذا ابن أبي أَوْفَى، قال: نِعْمَ الرَّجُلُ لو هاجَرَ، قال: ما يقول عَدُوُّ اللَّهِ! يقول: نِعْمَ الرَّجُلُ لو هاجَرَ! فقال: هِجْرَةٌ بَعْدَ هجرتي مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرَدِّدُهَا ثَلاَثاً، سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «طُوبَى لِمَنْ قَتْلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ» قال عَفَّانُ في حَدِيثِهِ: «وَقَتَلُوهُ ثَلاَثاً».

قلت: حماد بن سلمة أوثق من الحشرج، والطرق الأخرى عن سعيد بن جمهان منكرة لا تصح، وهذه القصة أقرب للصواب عن ابن جهمان، ولا يوجد فيها أن ابن أبي أوفى نعتهم بكلاب النار أو رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن قوله: «طُوبَى لِمَنْ قَتْلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ» يخالف ما في الصحيحين: «فإذا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فإن في قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يوم الْقِيَامَةِ»، وقد ورد من طرق أخرى لكن أسانيدها ضعيفة.

وسعيد بن جهمان وثقه ابن معين وأبو داود، ومشّاه النسائي، وضعفه أبو حاتم الرازي.

قال أبو حاتم: "يُكتب حديثه ولا يحتج به".

وقال البخاري: "في حديثه عجائب".

وقال الساجي: "لا يُتابع على حديثه".

قلت: هو صدوق له أحاديث يتفرد بها، وفيها مناكير، فلا يُقبل حديثه إذا تفرد به.

فالحديث عن ابن أبي أوفى لا يصح.

· النصيحة: سرية أم علنية؟

9- مسألة النصحية: هل يجب أن تكون سرية أم علنية؟

وهذا الحديث المرسل المنتشر في الشام ما هو إلا انعكاس عن الحياة السياسية فيها، فبعد أن انتهت خلافة الأربعة التي كانت على هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، بدأت الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة تأخذ طريقها لحماية السياسة وتشريع ما قد يقوم به فلان أو فلان! لأن العهد ما زال قريب، والناس يسمعون ويظعنون لما يُروى عنه صلى الله عليه وسلم.

وأكثر البلاد الإسلامية التي انتشرت فيها هذه الأحاديث هي الشام، ومع كونهم لا يسندون الأحاديث كانت تنتشر انتشار النار في الهشيم حتى اشتهرت عندهم، فلما صاروا يسندون خلطوا كثيراً في الأسانيد والمتون.

وهذا الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول للمسلم: (لا يجوز لك أن تنصح ولي الأمر أو السلطان أو من له ولاية على المسلمين علانية، وإنما النصيحة تكون بالسرّ، فإن فعلت فقد أديت ما عليك)، وبمعنى آخر: (تحريم النصيحة العلنية، وجواز النصيحة السرية)!!

ومن يجرؤ على النصيحة السرية؟!!! ومن يستطيع أن يصل إلى هؤلاء حتى ينصحهم سراً؟!

وقد نبتت نابتة في هذا الزمان الغريب من أشباه طلبة العلم يقولون بهذا بل لا يرون إلا هو، ويدعون أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، حاشاه من ذلك، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

وهذا لا يعني أن النصيحة ينبغي أن تكون علانية كما يفهمه هؤلاء، وإنما تكون النصيحة سراً إن استطاع الشخص، وإلا فلا بد من النصيحة العلنية إبراءً للذمة والدّين.

· شبهة!!

وقد احتج بعض الجهّال بحديث رواه البخاري ومسلم بأن النصيحة يجب أن تكون سرية، فلم يفقهوا معناه والله المستعان.

روى البخاري في ((صحيحه)) (3/1191) ومسلم في ((صحيحه)) (4/2290) من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق، قال: قيل لأسامة: لو أتيت فلاناً - أي عثمان - فكلمته. قال: إنكم لترون أني لا أكلمه، إلا أسمعكم إني أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه، ولا أقول لرجل أن كان عليّ أميراً إنه خير الناس بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك، أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر، قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)).

قالوا: هذا أسامة كان ينصح السلطان سراً، وقال بأنه لا ينصحه علناً لكي لا يكون أول من يفتح باب ذلك!

قلت: هذا الحديث ليس فيه دلالة على منع النصيحة علناً، بل غاية ما فيه أن أسامة يرى أن النصيحة تكون سراً، وهو لا ينفي النصيحة العلنية، ثم إنه ينصح عثمان، وما أدراك من عثمان، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم. أيعامل عثمان مثل غيره؟ لا، والله.

فأسامة لم يرد أن يفتح باب الإنكار على مصراعيه على صاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبّ الناس إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يتخذ الناس ذلك ذريعة لينكروا عليه علناً في أي تصرف يتصرفه، سواء أكان ذلك صواباً - فيما يراه - أو لا.

بل إن الحديث يدلّ على عدم حرمة المناصحة العلنية لقوله إنه لا يريد أن يكون أول من يفتح ذلك الباب، ولو كان ذلك محرماً لأخبر عن ذلك، وهو في موضع بيان الحاجة.

والذي عليه بعض أهل العلم أنه ينبغي مناصحة السلطان سراً، فإن لم ينفع ذلك، وجب مناصحته علناً لئلا يضيع الحقّ.

قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث (18/118): "وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفوا عنه، وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق".

وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/51): (قوله: قد كلمته ما دون أن افتح باباً، أي كلمته فيما أشرتم إليه لكن على سبيل المصلحة والأدب في السر بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها". ثم قال: "لا أحب أن أكون أول من فتحه، يعني لا أكلمه إلا مع مراعاة المصلحة بكلام لا يهيج به فتنة... وقال عياض: مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به وينصحه سراً فذلك أجدر بالقبول".

وقال العيني في ((عمدة القاري)) (15/166): "فيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً، وتبليغهم قول الناس فيهم ليكفوا عنه هذا كله إذا أمكن فإن لم يمكن الوعظ سراً فليجعله علانية لئلا يضيع الحقّ لما روى طارق بن شهاب قال: قال رسول الله: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وأخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد بإسنادٍ حسنٍ. قال الطبري: معناه: إذا أمن على نفسه أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، رُوي ذلك عن ابن مسعود وحذيفة، وهو مذهب أسامة. وقال آخرون: الواجب على من رأى منكراً من ذي سلطان أن ينكره علانية كيف أمكنه، رُوي ذلك عن عمر وأبي ابن كعب رضي الله تعالى عنهما، وقال آخرون: الواجب أن ينكر بقلبه وينبغي لمن أمر بمعروف أن يكون كامل الخير لا وصم فيه".

قلت: فالمسألة خلافية اجتهادية بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصّ في وجوب هذه أو ذاك.

فرأى ابن مسعود وحذيفة وأسامة أن ينصح السلطان سراً منعاً للفتنة ولما قد يلحق الناصح من أذى إذا أعلن بذلك؛ لأن السلاطين جبلوا على حبّ عدم الطعن فيهم.

ورأى عمر بن الخطاب وأُبيّ بن كعب أن تكون النصيحة علنية حتى لا يتمادى هذا السلطان في ظلمه، وليعلم أن هناك من يستطيع الوقوف في وجه هذا الظلم.

والميل إلى الرأي الثاني هو الأقوى، والله أعلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب، خالد الحايك.

1 رمضان 1429هـ.

1 أيلول 2008م.

 

شاركنا تعليقك