الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

هل نافع بن محمود بن الرّبيع ابن محمود بن الربيع؟! وتحقيق دعوى ابن عبدالبر ومن تبعه كابن التركماني في اضطراب حديثه! وتعليل الألباني له ومتابعة الحويني له! وما يتعلق بهذا الحديث من أوهام!

هل نافع بن محمود بن الرّبيع ابن محمود بن الربيع؟! وتحقيق دعوى ابن عبدالبر ومن تبعه كابن التركماني في اضطراب حديثه! وتعليل الألباني له ومتابعة الحويني له! وما يتعلق بهذا الحديث من أوهام!

 

بقلم: أبي صهيب الحايك.

    

· رواية نافع بن محمود بن الربيع عن محمود بن الربيع:

أخرج الحاكم في ((المستدرك)) (2/64) من طريق عبدالله بن عمرو بن حسان، قال: حدّثنا سعيد بن عبدالعزيز التنوخي، قال: سمعت مكحولاً يقول: حدثنا نافع بن محمود بن الرّبيع، عن أبيه: أنه سمع عبادة بن الصامت يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأم وولدها. فقيل: يا رسول الله، إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية)).

قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يُخرجاه".

قلت: لم يأت في حديث قط أن لمحمود بن الربيع الأنصاري الذي مجّ صلى الله عليه وسلم في وجهه ابن يقال له: نافع، إلا في هذا الحديث، وحديث آخر سيأتي، وهذا الحديث كذبٌ موضوع! وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه.

رواه الدارقطني في ((سننه)) (3/68) ثُم قال: "عبدالله هذا هو الواقعي، وهو ضعيف الحديث. رماه علي بن المديني بالكذب. ولم يروه عن سعيد غيره".

وقال صاحب التنقيح: "وهذا خطأ! والأشبه أن يكون هذا الحديث موضوعاً، ولم يخرجه أحمد ولا أحد من أصحاب الكتب الستة". وقال شمس الدين الذهبي في ((مختصر المستدرك)): "بل هو حديثٌ موضوعٌ فإن عبدالله بن حسان كذاب". (نصب الراية: 4/30).

· مَنْ هو نافع بن محمود؟

أخرج أبو داود في ((سننه)) (1/217) من طريق الهيثم بن حميد، قال: أخبرني زيد بن واقد، عن مكحول، عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري، قال نافع: أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة، فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن فلما انصرف قلت لعبادة: سمعتك تقرأ بأم القرآن، وأبو نعيم يجهر؟ قال: أجل. صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة. قال: فالتبست عليه القراءة، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه وقال: ((هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟)) فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك. قال: ((فلا، وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرؤا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن)).

ورواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (1/319) عن هشام بن عمار عن صدقة عن زيد بن واقد عن حرام بن حكيم عن نافع بن محمود بن ربيعة عن عبادة بن الصامت قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة قال: ((لا يقرأن أحد منكم إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن)).

ورواه الدارقطني في ((السنن)) (1/320) من طريق محمد بن المبارك الصوري عن صدقة بن خالد عن زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن نافع بن محمود بن الربيع -كذا قال- إنه سمع عبادة بن الصامت.

ورواه الإمام البخاري في ((جزء القراءة خلف الإمام)) (ص18) عن صدقة بن خالد عن زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن ابن ربيعة الأنصاري عن عبادة.

قلت: هكذا اختلف في اسمه في هذا الحديث، والصواب: نافع بن محمود بن ربيعة، ولهذا قال الدارقطني في إسناده لما جاء فيه: "بن الربيع": "كذا قال"! وفي رواية البخاري: "ابن ربيعة الأنصاريّ".

وعليه ترجم له ابن حبان في ((الثقات)) (5/470): "نافع بن محمود بن ربيعة، من أهل إيلياء. يروي عن عبادة بن الصامت. روى عنه حرام بن حكيم ومكحول. متن خبره في القراءة خلف الإمام يخالف متن خبر محمود بن الربيع عن عبادة، كأنهما حديثان: أحدهما أتم من الآخر، وعند مكحول الخبران جميعاً عن محمود بن الربيع ونافع بن محمود ابن ربيعة. وعند الزهرى الخبر عن محمود بن الربيع مختصر غير مستقصى".

وقال في ((مشاهير علماء الأمصار)) (ص117): "نافع بن محمود بن ربيعة: سمع من عبادة بن الصامت حديث القراءة خلف الامام موقوفاً كما سمعه محمود بن الربيع الأنصاري عن عبادة مرفوعاً، ومتناهما متباينان".

وقال الذهبي في ((الميزان)) (7/7): "نافع بن محمود المقدسي عن عبادة في القراءة خلف الإمام. وعنه حرام بن حكيم. لا يُعرف بغير هذا الحديث، ولا هو في كتاب البخاري وابن أبي حاتم. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: حديثه معلل. وروى عنه مكحول أيضاً".

قلت: فظاهر كلام الأئمة أن نافع بن محمود ليس بابن محمود بن الربيع، فهو آخر كان صاحباً لعبادة وسمع منه هذا الحديث كما سمعه منه محمود بن الربيع؛ ولعل الاختلاف في اسم جده هو أن محمود بن الربيع رواه عن عبادة، وكلا الحديثين عند مكحول. وعبادة توفي سنة (34هـ)، وكان محمود بن الربيع شاباً حينما توفي عبادة، فمن البعيد أن يكون ولداً لمحمود بن الربيع يصحب عبادة ويصلي معه خلف الإمام؛ لأن أولاد محمود بن الربيع يكونون صغاراً حينها، والله أعلم.

والحديث حسنٌ كما قال الترمذي في ((الجامع))، والدارقطني في ((السنن))، وصححه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/166). بل احتج به البخاري في ((جزء القراءة خلف الإمام)).

وقول الذهبي أن ابن حبان قال: حديثه معلل، فيه نظر!! فإن ابن حبان قال بأنهما حديثان: عن نافع بن محمود بن ربيعة، والآخر عن محمود بن الربيع، وكلاهما عن عبادة، والأول أتم من الأول، وهذا ليس بتعليل للحديث.

· مَنْ قال بأن نافع بن محمود هو ابن لمحمود بن الرّبيع! ووهمه في ذلك!

أخرج البيهقي في ((القراءة خلف الإمام)) (ص65) قال: أخبرنا محمد بن عبدالله الحافظ، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، قال: حدثنا أحمد بن عمر بن يوسف الدمشقي، قال: حدثنا عبيدالله بن سعيد بن كثير بن عفير، قال: حدثني أبي، قال: حدثني إبراهيم بن أبي يحيى، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن نافع بن محمود، عن عبادة بن الصامت: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يقرأن أحدكم مع الإمام إلا بأم القرآن)).

قال البيهقي: قال لنا أبو عبدالله - هو الحاكم -: قال أبو علي الحافظ: "مكحول سمع هذا الحديث من محمود بن الربيع ومن ابنه نافع بن محمود بن الربيع، ونافع بن محمود وأبوه محمود بن الربيع سمعاه من عبادة بن الصامت".

قال البيهقي: أخبرنا أبو عبدالله، قال: أخبرنا أبو علي، قال: سمعت أحمد بن عمير، يقول: سمعت موسى بن سهل الرملي -وهو أخو علي بن سهل- يقول: "سمع مكحول من محمود بن الربيع ومن نافع بن محمود بن الربيع".

وقال البيهقي في ((القراءة خلف الإمام)) (ص216): "فالحديث محفوظ عن الأب والابن جميعاً".

قلت: لا دليل على أن نافع بن محمود هو ابن محمود بن الربيع! وقد وهم من قال بأنه ابنه!

نعم، نافع بن محمود وهو ابن ربيعة سمع من عبادة، وكذلك محمود بن الربيع سمع من عبادة، وكونهما سمعا من عبادة وأن في اسميهما تشابهاً لا يعني أنهما أقرباء، والله أعلم.

وقد روى الطبراني في ((مسند الشاميين)) (4/387) من طريق محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا أسامة بن زيد الليثي، عن مكحول، عن نافع بن محمود بن الربيع الخزرجي، عن أبيه، عن عبادة بن الصامت قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقول ما لي أنازع القرآن)).

قلت: وهذا لا يصح! تفرد به الواقدي، وهو متّهم.

· هلْ غَلِط الوليد بن مسلم في إسناد هذا الحديث؟

روى الدارقطني في ((سننه)) (1/319) عن أبي محمد ابن صاعد قال: حدثنا أبو زرعة عبدالرحمن بن عمرو بدمشق، قال: حدثنا الوليد بن عتبة، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني غير واحد منهم سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، عن محمود، عن أبي نعيم: أنه سمع عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هل تقرءون في الصلاة معي؟)) قلنا: نعم. قال: ((فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)).

وقال ابن صاعد: قوله: "عن أبي نعيم" إنما كان أبو نعيم المؤذن، وليس هو كما قال الوليد عن أبي نعيم عن عبادة".

ورواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/165) ثُمّ قال: "وهذا خطأ! إنما المؤذن والإمام كان أبو نعيم. والحديث عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة، وعن مكحول عن نافع بن محمود عن عبادة، فكأنه سمعه منهما جميعاً".

وقال في ((القراءة خلف الإمام)) (ص66): "وقد غلط الوليد بن مسلم في إسناده... أبو نعيم كان المؤذن والراوي عن عبادة محمود بن الربيع، فغلط فيه الوليد".

قلت: قد يكون الوليد وهم فيه، وربما يكون أصاب فيه؛ فإن هذا الحديث رواه مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة، ومحمود بن الربيع كنيته ((أبو نعيم)).

نعم جاء في رواية نافع بن محمود أن المؤذن والإمام ((أبو نعيم)) فلعله هو نفسه محمود بن الربيع ختن عبادة، فيكون الذي حَدَث هو أن أبا نعيم أمّ بالصلاة، وكان وراءه عبادة ونافع بن محمود بن ربيعة، فلما قُضيت الصلاة سأل نافعاً عبادة عن قراءته بفاتحة الكتاب وأبو نعيم يجهر بالصلاة، بحضور أبي نعيم محمود بن الربيع، فأجاب عبادة بما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، فسمع الحديث منه نافع بن محمود ومحمود بن الربيع، والله تعالى أعلم.

· دعوى ابن عبدالبر باضطراب الحديث!

قال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (11/46): "أما حديث محمد بن إسحاق فرواه الأوزاعي عن مكحول عن رجاء بن حيوة عن عبدالله بن عمرو قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال لنا: هل تقرأون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ قلنا: نعم. قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن. ورواه زيد بن خالد عن مكحول عن نافع بن محمود عن عبادة. ونافع هذا مجهول، ومثل هذا الاضطراب لا يثبت فيه عند أهل العلم بالحديث شيء".

وتابعه على ذلك ابن التركماني في ((الجوهر النقي)) فقال: "وفي التمهيد خولف ابن إسحاق فرواه الأوزاعي عن مكحول عن رجاء بن حيوة عن عبدالله بن عمرو، فذكره".

قلت: أين الاضطراب المزعوم! ثُم إن ابن عبدالبر قد بنى كلامه على رواية باطلة! أخرجها الطبراني في ((مسند الشاميين)) (3/207) من طريق مسلمة بن عليّ الخشني الدمشقي عن الأوزاعي عن مكحول عن رجاء بن حيوة عن عبدالله بن عمرو قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال: ((هل تقرؤون القرآن معي إذا كنتم معي في الصلاة؟)) قلنا: نعم. قال: ((فلا تفعلوا إلا بأم القرآن)).

قلت: ومسلمة هذا ليس بشيء، متروك الحديث. وقد ذكره ابن حبان في ((المجروحين)) (3/33)، وقال: "كان ممن يقلب الأسانيد، ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم توهماً فلما فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به". ثُم ذكر له هذا الحديث.

فابن إسحاق لم يُخالَف فيه.

· تصحيح ابن حبان لخطئين في الإسناد، والصواب أنه هو المخطئ!

قال ابن حبان في ((المجروحين)) (3/34): "ورُوي عن الأوزاعي عن مكحول عن رجاء بن حيوة عن عبدالله بن عمرو قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال لنا: هل تقرؤون القرآن معي؟ قلنا: نعم. قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن. وهذا خطأ من جهتين: إنما هو عند الأوزاعي عن الزهري عن أبي هريرة هذا اللفظ بعينه. وهو عند مكحول عن رجاء بن حيوة عن أبي نعيم عن عبادة موقوف، ليس بهذا اللفظ".

قلت: بل كلامك هو الخطأ من جهتين: فإنه لا يوجد هذا اللفظ بعينه عند الأوزاعي عن الزهري عن أبي هريرة! بل جاء عنده بلفظ آخر لم يثبت. أشار إليه الإمام البخاري في ((الكنى)) (ص38): "... هل قرا منكم أحد معي؟ قلنا: نعم. قال: إني أقول ما لي أنازع القرآن. قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر الإمام. وقال ليث: حدثني ابن شهاب ولم يقل: فانتهى الناس. وقال بعضهم هذا قول الزهري. وقال بعضهم عن سعيد هذا قول ابن أكيمة، والصحيح قول الزهري. وقال الأوزاعي عن الزهري عن أبي هريرة، ولم يثبت".

وأما الجهة الثانية: فهو ليس عند مكحول عن رجاء عن أبي نعيم عن عبادة موقوف! إلا إذا اعتبرنا أن أبا نعيم هو محمود بن الربيع؛ فإنه جاء في رواية عن مكحول عن رجاء عن محمود بن الربيع عن عبادة موقوفاً، وقد روي عن رجاء مرسلاً أيضاً!

· تعليل الألباني لهذا الحديث بثلاث علل! وقول الحويني أنه حقق هذه العلل في بعض كتبه التي لم تُطبع بعد! وهذه العلل التي قالها هي نفسها التي قالها الألباني!

ضعّف الشيخ الألباني الحديث في ((ضعيف أبي داود)) رقم (146).

قال الألبانيّ: "إسناده ضعيف؛ مكحول صاحب تدليس، وقد عنعنه. واضطرب عليه في إسناده، فمرة قال: عن محمود بن الربيع، ومرة قال: عن نافع بن محمود بن الربيع عن عبادة، وأخرى قال: عن عبادة".

ثُم ذكر الشيخ إسناد ابن إسحاق عن مكحول، ثُم قال: "وهذا إسنادٌ رجاله كلّهم ثقات؛ لكن فيه ثلاث علل:

الأولى: عنعنة ابن إسحاق؛ فإنه كان يدلس، لكن صرح بالتحديث في بعض الطرق عنه.

الثانية: عنعنة مكحول؛ فإنه مُدلّس أيضاً –على اختلاف في توثيقه- قال الذهبي في ((الميزان)): ((مفتي أهل دمشق وعالمهم، وثقه غير واحد، وقال ابن سعد: ضعفه جماعة. قلت: هو صاحب تدليس)). وتدليسه ظاهرٌ في رواياته لمن تأمل، ومنها الرواية الثالثة الآتية لهذا الحديث، فقد رواه عن عبادة بن الصامت مباشرة، لم يذكر بينه وبينه محمود بن الربيع".

ثُم أتى الشيخ بكلام الترمذي، ثم قال: "قلت: والحديث الذي أشار إليه الترمذي متفقٌ عليه، فلا شك أنه أصح من الذي نحن فيه، بل لا تصح المفاضلة بينهما؛ فذاك صحيح، وهذا ضعيف معلول بثلاث علل".

ثُمّ قال الشيخ: "والثالثة: اضطراب مكحول في إسناده". ثُم أتى الشيخ برواية نافع بن محمود ثُم قال: "نافع بن محمود لا يُعرف. وقال ابن حبان: ((حديثه معلل))، كما قال الذهبي. ثُم هو مضطرب". ثُم قال: "وهو مجهول، كما قال ابن عبدالبر. وقال الحافظ في التقريب ((مستور)). وأما ابن حبان فذكره في الثقات على قاعدته في توثيق المجهولين! ولذلك لم يعتد به الحافظ كما أشار إليه بقوله: ((مستور))".

ثُم قال الألباني: "وأما هذا فعلّته الجهالة والاضطراب. أما الجهالة فقد عرفتها. وأما الاضطراب، فقد سبقت الإشارة إليه في الرواية الأولى، ففيها قال مكحول: عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت...، وفي هذه قال: عن نافع بن محمود بن الربيع عن عبادة... فجعل نافعاً مكان محمود! وفي الرواية الآتية قال: عن عبادة... فأسقطهما كليهما من البَيْنِ!".

ثُم بيّن الشيخ الاضطراب، فقال: "وتلخيص ذلك أن حديث مكحول عن محمود عن عبادة تفرد به ابن إسحاق عنه، وقد خالفه زيد بن واقد –وهو أوثق منه واحتج به البخاري- فزاد بين مكحول ومحمود نافعاً، وزيادة الثقة مقبولة، لا سيما إذا كان أوثق من المزيد عليه –كما هنا- فإذا كان كذلك؛ فرواية ابن واقد تعلّ رواية ابن إسحاق بالانقطاع، ويؤيد ذلك أن مكحولاً لم يصرّح بالسماع من محمود –بل ولا من نافع- في شيء من الروايات التي وقفت عليها، وهو مدلّس كما تقدم، فعدم تصريحه بالسماع –والحالة هذه- يكفي وحده لإعلاله بالانقطاع، فكيف إذا انضم إلى ذلك رواية ابن واقد التي تؤكد الانقطاع؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك كلّه متابعة حرام بن حكيم لمكحول على روايته عن نافع؟ فذلك مرجح آخر لهذه الرواية كما تقدم. فإذا كان كذلك فالوجه الأول- وهو حديث مكحول عن محمود- منكرٌ أو شاذ. وأن الوجه الآخر –عن مكحول عن نافع عن عبادة- هو المحفوظ أو المعروف. وعليه؛ فالحديث ضعيف غير صحيحن والعلة هي جهالة نافع، وعنعنة مكحول، والله أعلم". انتهى كلام الشيخ الألباني.

قلت: العجب من منهج الشيخ الألباني –رحمه الله وغفر له- فإنه يعل الأحاديث الصحيحة بأدنى شيء، ويصحح الضعيف بلا شيء!! وعلى كلامه ملحوظات:

1- أما العلة الأولى وهي عنعنة ابن إسحاق فقد أشار الشيخ نفسه إلى أنه صرّح بالتحديث في إحدى الروايات، وعليه فلا داعي لذكر هذا الكلام! ثُم هب أنه لم تأت رواية مصرحة بالسماع فلا نستطيع أن نعلل كل حديث رواه ابن إسحاق بالعنعنة! فها هو الإمام البخاري قد أورد رواية ابن إسحاق عن مكحول بالعنعنة واحتج بها، ونقل عن بعض الأئمة احتجاجهم بابن إسحاق. (جزء القراءة خلف الإمام: ص40، 61).

قال البيهقي في كتاب ((القراءة خلف الإمام)) (ص58): "أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه: أنبأنا علي بن عمر الحافظ: حدثنا ابن صاعد: حدثنا عبيدالله بن سعد: حدثنا عمي: حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني مكحول بهذا. وهذا إسناد صحيح ذكر فيه سماع محمد بن إسحاق من مكحول. وأخرج محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- هذا الحديث في كتاب ((وجوب القراءة خلف الإمام)) عن أحمد بن خالد الوهبي عن محمد بن إسحاق، واحتج به وقال: رأيت علي بن عبدالله المديني يحتج بحديث ابن اسحاق. قال: وقال علي عن ابن عيينة: ما رأيت أحداً يتهم ابن اسحاق".

وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/164): "رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون وجماعة عن محمد بن إسحاق بن يسار، ورواه إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق، وذكر فيه سماع ابن إسحاق من مكحول"، ثُم ساقه من طريق الدارقطني، ونقل قول الدارقطني: "هذا إسنادٌ حسن".

2- ما فعله مكحول ليس اضطراباً.

فالحديث حدّث به مكحول عن نافع بن محمود عن عبادة، وحدّث به عن محمود بن الربيع عن عبادة، وحدث به عن عبادة دون واسطة، فهل هذا اضطراب منه؟! حاصل الأمر أن الحديث عنده من طريقين: عن نافع عن عبادة، وعن محمود بن الربيع عن عبادة، وكان أحياناً يحدث به عن عبادة مباشرة، وهذا ما يفعله بعض الرواة المكثرين وخاصة إذا كانوا من الفقهاء كمكحول؛ لأن تحديثه به عن عبادة دون ذكر الواسطة يدل على أنه حدث به في الفتوى، وهذا مثل أسلوب الزهري –رحمه الله- فإنك تجد له بعض الأحاديث يحدث بها كما حدث مكحول هنا، فلا يسمي أهل النقد هذا ((اضطراب))، بل يدل ذلك على سعة روايته وعلمه، وأن هذه الطرق كلها عنده.

قال الإمام البيهقي في كتاب ((القراءة خلف الإمام)) (ص69): "فهذا حديثٌ سمعه مكحول الشامي، وهو أحد أئمة أهل الشام، من محمود بن الربيع ونافع بن محمود، كلاهما عن عبادة بن الصامت، وسمعه حرام بن حكيم من نافع بن محمود عن عبادة، وسمعه رجاء بن حيوة، وهو أحد أئمة أهل الشام، من محمود بن الربيع عن عبادة إلا أن من شأن أهل العلم في الرواية أن يروى الحديث مرة متوصلة، ويرويه أخرى مترسلة، حتى إذا سئل عن إسنادة فحينئذ يذكره، ويكون الحديث عنده مسنداً وموقوفاً فيذكره مرة مسنداً، ومرة موقوفاً، والحجة قائمة بموصوله وموقوفه، وفي وصل من وصله دلالة على صحة مخرج حديث من أرسله وإرسال من أرسله شاهد لصحة حديث من وصله، وفي كلّ ذلك دلالة على انتشار هذا الحديث عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم مسنداً، ثم من فتواه به موقوفاً. وإنما تعجب من تعجب من قراءته خلف الإمام فيما يجهر الإمام فيه بالقراءة لذهاب من ذهب إلى ترك القراءة خلف الإمام فيما يجهر الإمام فيه بالقراءة حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لي أنازع القرآن. ولم يسمع استثناء النبي صلى الله عليه وسلم قراءة فاتحة الكتاب سراً. وقوله صلى الله عليه وسلم: فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها، وسمعه عبادة بن الصامت وأتقنه وأداه وأظهره فوجب الرجوع إليه في ذلك. قال أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- فيما قرأته من كتابه: والذي زاد مكحول وحرام بن حكيم ورجاء بن حيوة عن ابن الربيع عن عبادة فهو تبع لما روى الزهري قال: حدثني محمود بن الربيع أن عبادة أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم- يعني قوله: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".

قلت: هذا الذي نقله عن البخاري يبيّن رأي البخاري في العلاقة بين حديث الزهري وبين حديث ابن إسحاق وأنه لا منافاة بينهما، وهو الآتي.

3- تحدّث الألباني عن حديث الترمذي وكلامه وأنه لا مفاضلة بين حديث الزهري وبين حديث ابن إسحاق! وفي هذا كلّه نظر!

أخرج الترمذي في ((الجامع)) (2/116) الحديث من طريق عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبحَ، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني أراكم تقرؤن وراء إمامكم؟ قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)).

قال الترمذي: "حديث عبادة حديث حسن. وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)). قال: وهذا أصحّ".

قلت: رجّح الشيخ الألباني حديث الزهري على حديث ابن إسحاق، وعاب على الترمذي أنه فاضل بينهما! وبنى هذا على أن حديث ابن إسحاق معلول بثلاث علل!

قلت: يسلّم للشيخ هذا الكلام إذا كانت هذه العلل المزعومة صحيحة! ولكنها ليست كذلك، فلا علل في حديث مكحول، وإنما هو توهم.

وقد علّق الشيخ أحمد شاكر –رحمه الله- على كلام الترمذي فقال: "يشير الترمذي إلى الحديث الذي مضى برقم (247)، وكأنه بذلك يزعم أنهما حديث واحد، وأن الزهري ومكحولاً اختلفا على محمود بن الربيع، وليس كما زعم، بل هما حديثان متغايران، لا يعلل أحدهما بالآخر، وحديث مكحول حديث صحيح لا علة له".

قلت: نعم، هما حديثان كما قال الشيخ شاكر، فلا اختلاف على محمود بن الربيع؛ وحاصل ما في الأمر أن الزهري روى جزءاً من الحديث، وأتى به مكحول تاماً، فذكر القصة، وزاد الاستثناء، وهذه الزيادة صحيحة كما أشار إليها الإمام البخاري.

4- أما إعلال الشيخ الحديث بتدليس مكحول فهذا مما لا ينقضي منه العجب! فأين التدليس هنا؟! فهل إذا روى مكحول الحديث عن عبادة مباشرة، ثم رواه مرة أخرى فبين الواسطة تبيّن أنه دلسه؟!

وأما قوله بأن مكحولاً لم يصرح بالسماع من نافع ولا من محمود يكفي لإعلال الحديث بالإنقطاع فكلام غير صحيح؛ لأننا إذا مشينا على هذا المنهج أسقطنا كل روايات المدلسين في الصحيحين وخارجهما! فمكحول بيّن الواسطة بينه وبين عبادة، وهو تابعي كبير مكثر، وسمعه من اثنين عن عبادة، فأين التدليس، وإن لم يصرح بالسماع؟! والأئمة قبلوه ولم يعلّه أحد منهم بالتدليس.

ثُم إن مسألة العنعنة كثيراً ما تكون من تصرف الرواة دون الراوي الذي حدث به، ولا نشك أن مكحولاً سمعه من نافع ومن محمود، ولكن الرواة عنه لم يذكروا صيغة التحديث وإنما عنعنوه على عادتهم في الإختصار تخففاً.

5- أما زعمه جهالة نافع بن محمود فلا يصح! نعم هو اعتمد على كلام ابن عبدالبر، والذهبي! والجهالة عند المتأخرين تختلف عن مفهوم الجهالة عند المتقدمين؛ فكم من راو حاله حال نافع هذا وقد وثقه الأئمة وصححوا حديثه. فحديثه مستقيم وهو من أصحاب الصحابة فكيف يجهّل؟! وقد حسّن حديثه الترمذي والدارقطني، واحتج به البخاري.

وزعمه أن ابن حبان يوثق المجهولين فهو مما انتشر بين طلبة الحديث أن ابن حبان متساهل في توثيق المجهولين وليس كذلك؛ فإن ابن حبان وضع شروطاً في كتابه الثقات لقبول حديث من لا يوجد فيهم جرح ولا تعديل، وقلّ من يتنبه إلى هذا.

6- أما قوله بأن ابن حجر لم يعتد بتوثيق ابن حبان له لأنه قال فيه "مستور" فهذا لأن الشيخ يظن أن المستور عند ابن حجر مجهول! وليس كذلك؛ فإن مرتبة مستور عند ابن حجر أعلى من مرتبة مجهول الحال، لا المجهول المطلق كما هو ظاهر كلام الألباني؛ وابن حجر يحسّن حديث المستور.

7- زعم الشيخ أن ابن حبان قال: "حديثه معلل" تبعاً للذهبي! والشيخ الألباني –رحمه الله- تلقف كلام بعض الأئمة وأجراه كما هو دون الرجوع إلى الأصول! فابن حبان لم يعلله –كما سبق بيان ذلك- وإنما أقر بأنهما حديثان أحدهما مختصر وهو حديث الزهري، والآخر أتم. فأين التعليل المزعوم.

نعم، قال بأنهما متباينان، وهذا صحيح في صورتهما هذه، ولكن حديث مكحول فيه زيادة، وهي مقبولة عند أهل النقد كالبخاري والدارقطني والبيهقي وغيرهم.

7- بنى الشيخ الألباني نكارة رواية ابن إسحاق التي فيها محمود بن الربيع على الاختلاف بين ابن إسحاق وزيد بن واقد، وفي هذا نظر شديد؛ لأنهما روايتان مختلفتان. نعم يمكن القول بصحة قوله إذا كان الحديث غير معروف من طريق محمود بن الربيع، والحديث عنه في الصحيحين دون الاستثناء، فطالما أن الحديث عند محمود عن عبادة، فما المانع أن يسمعه من مكحول، ويسمعه أيضاً من نافع بن محمود بن ربيعة؟ وبناءً على هذا لا نستطيع أن أن نقول بأن ابن إسحاق خالف زيد بن واقد، ونقول بأن رواية ابن إسحاق شاذة؛ لأن الحديث رواه محمود بن الربيع عن عبادة مختصراً.

8- نسب الألباني إلى زيد بن واقد زيادة، وقال بأنها "زيادة ثقة مقبولة"، وهي أنه زاد بين مكحول ومحمود نافعاً، وأعلّ بهذا رواية ابن إسحاق!

قلت: أحياناً تحسّ أن الشيخ الألباني –رحمه الله- يكون متحمساً في الدفاع عن مسألة معينة في ذهنه، فيحاول أن يثبت رأيه بأي طريقة، ويظن نفسه أنه أصاب في ذلك! وعند تتبع ما قال تجده قد حاد عن الصواب. فأين الزيادة المزعومة في الحديث؟!

انظر - رحمك الله - إلى أسانيد الحديث:

- محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع الأنصاري عن عبادة بن الصامت.

- زيد بن واقد وحرام بن حكيم عن مكحول عن نافع بن محمود بن ربيعة عن عبادة.

فأين زيادة زيد بن واقد "نافع" بين مكحول وبين محمود؟!

هما طريقان لا علاقة لأحدهما بالآخر. وكان يتجه كلامه بالزيادة لو كان الإسناد: زيد بن واقد عن مكحول عن نافع بن محمود عن محمود عن عبادة! ولكن هذا الإسناد هكذا غير موجود! فكيف إذن تعل رواية ابن إسحاق برواية زيد بن واقد.

وغاية ما في الأمر –إن سلمنا- أن ابن إسحاق أخطأ فيه؛ فإنه جعله عن مكحول عن محمود بن الربيع، والصواب أنه عن مكحول عن نافع بن محمود.

وكأن الشيخ الألباني بنى فكرته على أن نافعاً هو نافع بن محمود بن الربيع، فأسقط ابن إسحاق اسم "نافع" فقال: "عن محمود بن الربيع"! وقد حققت فيما سبق أن نافعاً هو ابن محمود بن ربيعة صاحب عبادة.

9- رجّح الشيخ الألباني رواية نافع بن محمود عن عبادة ثم أعلها بجهالة نافع وعنعنة مكحول! وهذا مردود؛ لأن نافعاً ليس بمجهول، وقد جاء سماعه من عبادة عند الدارقطني في ((السنن)) (1/320) وقد أخبر بقصة حصلت معه، وهذا يدل على صدقه. وعنعنة مكحول لا تضر. فالحديث ليس بضعيف، بل صحيح. صححه البخاري والدارقطني والبيهقي وغيرهم، ولله الحمد والمنة.

· اتباع الحويني للألباني:

تكلّم الشيخ الحويني على حديث ابن إسحاق في كتابه ((غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود)) (1/272) ونقل تصحيح الأئمة له، ثم قال: "قلت: كذا قالوا!! ولكن الحديث ضعيف، وفيه علل ثلاثة: 1-2- تدليس محمد بن إسحاق، ومكحول. 3- الاضطراب على مكحول في إسناده. كما حققته في ((إسحاق [كذا! وهو تحريف، والصواب: إتحاف] الناقم بوهم الذهبي مع الحاكم)) يسر الله إتمامه". انتهى كلامه.

قلت: هذا التحقيق لن يخرج عن كلام الشيخ الألباني، وهذه العلل الثلاثة هي التي نفسها التي قالها الشيخ الألباني، وقد بينا ما فيها. وكان ينبغي على الشيخ الحويني أن ينسب هذه العلل للشيخ الألباني.

وأما كتابه المُشار إليه فإنه قائم على فكرة باطلة انتشرت عند المتأخرين، وهي أن الذهبي يوافق الحاكم في أحكامه على الأحاديث، وهذا ليس بصحيح! فالذهبي ناقلٌ وملخصٌ فقط لكلام الحاكم، فهو لا يقرّه على خطأه، وكان أثناء التلخيص إذا مرّ بشي استنكره وحضره الكلام في الراوي أو في الحديث فإنه يتكلم، وإلا فهو ملخص لكلام الحاكم لا أكثر ولا أقل.

وهناك ملاحظة منهجية، وهي أنه لا يجوز الإحالة على معدوم! فالشيخ يقول بأنه حقق ذلك في كتاب لم يتم، فما هي فائدة الإحالة إذن؟! وكان الأولى الكلام عليه في هذا الكتاب لأنه هو الذي طُبع، أما الإحالة على معدوم ففيه ما فيه. غفر الله لنا وله.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

وكتب: خالد بن محمود الحايك.

شاركنا تعليقك