الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

تكذيب الرّبيع بن سليمان صاحب الشافعي لمحمّد بن عبدالله بن عبدالحكم!

تكذيب الرّبيع بن سليمان صاحب الشافعي لمحمد بن عبدالله بن عبدالحكم!

 

بقلم: خالد الحايك.

 

محمّد بن عبدالله بن عبدالحكم المصريّ الفقيه (182-268هـ)، من كبار أهل العلم من أصحاب الإمام الشافعيّ.

كان عالم الديار المصرية في عصره مع المُزني. وثّقه النسائي، وقال مرة: "لا بأس به". وقال إمام الأئمة ابن خُزيمة: "ما رأيتُ في فقهاء الإسلام أعرفَ بأقاويل الصحابة والتابعين من محمّد بن عبدالله بن عبدالحكم". وقال: "كان أعلم من رأيت على أديم الأرض بمذهب مالك، وأحفظهم له. سمعته يقول: كنتُ أتعجَّب ممن يقول في المسائل: لا أدري". ثُم قال ابن خزيمة: "وأما الإسناد فلم يكن يحفظه".

وكان ابن عبدالحكم من أصحاب الشافعي، فوقعت بينه وبين البُويْطيّ وحشة في مرض الشافعي.

قال أبو جعفر السكَّري صديق الرّبيع: لما مرض الشافعي جاء ابن عبدالحكم يُنازع البويطي في مجلس الشافعي. فقال البويطي: أنا أحقّ به منك. وجاء الحميدي –وكان بمصر-، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحقّ بمجلسي من البويطي، وليس أحدٌ من أصحابي أعلم منه. فقال له ابن عبدالحكم: كذبت! فقال له الحميدي: كذبت أنت وأبوك وأمك. وغضب ابن عبدالحكم، فترك مذهب الشافعيّ. (طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 2/68).

قلت: كذّبه الرّبيع بسبب استغرابه بعض ما نقله عن الإمام الشافعيّ. ومن أجل ذلك ذكره ابن الجوزي في الضعفاء. قال ابن الجوزي في ((الضعفاء والمتروكين)): "روى عن مالك. كذّبه الربيع بن سليمان".

فردّ عليه الذهبي في ((الميزان الاعتدال)): (6/219): "وهذا خطأ ظاهر من أبي الفرج! ما أدرك مالكاً. ثم قال ابن الجوزي: كذبه الربيع بن سليمان. قلت: بل هو صدوق. قال النسائي: هو أظرف من أن يكذب. وقد احتج به النسائي وقال: ثقة. وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: صدوق ثقة".

قلت: كيف لم يدرك مالكاً، والذهبي نفسه يقول في ((السير)) (12/499): "قد تفقه بمالك، ولزمه مدة، وهو أيضاً في عِداد أصحابه الكبار"؟!

· تكذيب الرّبيع له!

1- قال السّاجي: كان محمّد يحدّث عن الشافعي بكتاب الوصايا. قال: فسألت الرّبيع عن ذلك؟ فقال: وجدناه بخط ّالشافعي بعد موته، ولم يحدّث به، ولم يُقرأ عليه! وقال ابن عبدالحكم: "سمعته من الشافعي". (تهذيب التهذيب: 9/232).

قلت: لم أجد من دفع هذا عن ابن عبدالحكم! فالله أعلم.

2- قال أبو العبّاس الأصم: أنبأنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، قال: سمعت الشافعي يقول: ((ليس فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم - يعني في الزجر عن إتيان النساء في أدبارهنّ - حديثٌ ثابتٌ. والقياس أنه حلالٌ)).

وقال زكريا الساجي: سمعت ابن عبدالحكم، يقول: سمعت الشافعي يقول في إتيان النساء في محاشهنّ، فذكر مثله.

قال السّاجي: فذكرت ذلك للرّبيع فقال: "كذب! في كتاب الشافعي مسطورٌ خلاف ما قال. وكان الشافعي يحرِّم إتيان النساء في أدبارهنّ". (تاريخ الإسلام للذهبي: 1/1567).

وقال أبو نصر الصّباغ: "كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب -يعني ابن عبدالحكم على الشافعي في ذلك؛ لأن الشافعي نصّ على تحريمه في ستة كتب من كتبه". (تفسير ابن كثير: 1/266).

· دفاع أهل العلم عن ابن عبدالحكم:

قال الإمام الذهبي في ((الميزان)) (6/219) بعد ساق رواية الأصم: "قلت: هذا منكرٌ من القول! بل القياس التحريم، يعني الوطئ في دبر المرأة. وقد صحّ الحديث فيه. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط. قال ابن الصباغ في ((الشامل)) عقيب هذه الحكاية: قال الربيع: والله لقد كذب على الشافعي؛ فإن الشافعي ذكر تحريم هذا في ستة كتب من كتبه. وقد حكى الطحاوي هذه الحكاية عن ابن عبدالحكم عن الشافعي. فقد أخطأ في نقله ذلك عن الشافعي، وحاشاه من تعمد الكذب".

قلت: ولم يتعرض الذهبي في ترجمته من ((السير)) إلى هذه الحكاية!!

وقال ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (9/232) بعد أن نقل كلام ابن الجوزي المتقدم ورد الذهبي عليه: "وابن الجوزي نقل ذلك من كلام الحاكم حيث نقل في ((علوم الحديث)) من طريق ابن عبدالحكم قصة مناظرة الشافعي مع محمد بن الحسن في ما يُناسب إلى أهل المدينة من تجويز إتيان المرأة في الدبر، وهي قصة مشهورة فيها احتجاج الشافعي لمن يقول بالجواز. قال: فقال الربيع لما بلغه ذلك: كذب محمد، والله الذي لا إله إلا هو لقد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب. وقد أوضحت في مواضع أخر أنه لا تنافي بين القولين، فالأول كان الشافعي حاكياً عن غيره حكماً واستدلالاً، ولو كان بعض ذلك من تصرفه! فالباحث قد يرتكب غير الراجح بخلاف ما نقله الربيع؛ فإنه في تلك المواضع يذكر معتقده. نعم في آخر الحكاية قال: والقياس أنه حلال، وقد حكى الذهبي ذلك أيضاً وتعقبه بقوله: هذا منكرٌ من القول بل القياس التحريم. كذا قال! ولم يفهم المراد؛ فإن في الحكاية عمّن قال بالتحريم: أن الحجة قول الله تعالى {فمن ابتغى وراء ذلك} الآية، فدل على الحصر في الإتيان في الفرج، فأورد عليه لو أخذته أو جعله تحت إبطها أو بين فخذيها حتى انزل لكان حلالاً بالاتفاق، فلم يصح الحصر. ووجه القياس أنه عضو مباح من امرأة حلال فأشبه الوطئ بين الفخذين. وأما قياسه على دبر الغلام فيعكر عليه أنه حرام بالاتفاق، فكيف يصح؟ ثُم قال الذهبي: وقد حكى الطحاوي هذه الحكاية عن ابن الحكم عن الشافعي فأخطأ في نقله ذلك عنه وحاشاه من تعمد الكذب. وقد تقدم الجواب عن هذا أيضاً".

وقال الحافظ أيضاً في ((التلخيص الحبير)) (3/182): "قلت: هذا سمعه ابن أبي حاتم من محمد وكذلك الطحاوي وأخرجه عنه ابن أبي حاتم في ((مناقب الشافعي)) له وأخرجه الحاكم في ((مناقب الشافعي)) عن الأصم عنه. وأخرجه الخطيب عن أبي سعيد بن موسى عن الأصم. وروى الحاكم عن نصر بن محمد المعدل، عن محمد بن القاسم بن شعبان الفقيه، قال: حدثنا الحسن بن عياض ومحمد بن أحمد بن حماد، قالا: حدثنا محمد بن عبدالله -يعنيان ابن عبد الحكم- قال: "قال الشافعي كلاماً كلّم به محمد بن الحسن في مسألة إتيان المرأة في دبرها. قال: سألني محمد بن الحسن؟ فقلت له: إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات، وإن لم تصح، فأنت أعلم! وإن تكلمت بالمناصفة كلمتك. قال: على المناصفة. قلت: فبأي شيء حرمته؟ قال: بقول الله عز وجل {فأتوهن من حيث أمركم الله}، وقال: {فأتوا حرثكم أنى شئتم}، والحرث لا يكون إلا في الفرج. قلت: أفيكون ذلك محرماً لما سواه؟ قال: نعم. قلت: فما تقول: لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها أو تحت إبطها أو أخذت ذكره بيدها، أفي ذلك حرث؟! قال: لا. قلت: أفيحرم ذلك؟ قال: لا. قلت: فلم تحتج بما لا حجة فيه؟ قال: فإنّ الله قال: {والذين هم لفروجهم حافظون} الآية. قال: فقلت له: إن هذا مما يحتجون به للجواز، إن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته، وما ملكت يمينه. فقلت: أنت تتحفظ من زوجته ومما ملكت يمينه".

قال الحاكم: "لعل الشافعي كان يقول بذلك في القديم، فأما في الجديد فالمشهور أنه حرمه".

قال ابن حجر: قول الربيع: "كذب والله الذي لا إله إلا هو، قد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب". هذا سمعه أبو العباس الأصم من الربيع، وحكاه عنه جماعة منهم الماوردي في ((الحاوي))، وأبو نصر بن الصباغ في ((الشامل))، وغيرهما. وتكذيب الربيع لمحمد لا معنى له؛ لأنه لم ينفرد بذلك، فقد تابعه عبدالرحمن بن عبدالله أخوه عن الشافعي. أخرجه أحمد بن أسامة بن أحمد بن أبي السمح المصري عن أبيه، قال: سمعت عبدالرحمن، فذكر نحوه عن الشافعي. وأخرج الحاكم عن الأصم عن الربيع قال: قال الشافعي: قال الله: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} احتملت الآية معنيين، أحدهما: أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها؛ لأن أنى شئتم يأتي بمعنى أين شئتم. ثانيهما: أن الحرث إنما يراد به النبات في موضعه دون ما سواه، فاختلف أصحابنا في ذلك، وأحسب كلاً من الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية. قال: فطلبنا الدلالة من السنة فوجدنا حديثين مختلفين، أحدهما ثابت، وهو حديث خزيمة في التحريم. قال: فأخذنا به.

ثُم عقّب ابن حجر على ما جاء في ((مختصر الجويني)): أن بعضهم أقام ما رواه، أي ابن عبدالحكم قولاً.

فقال ابن حجر: "وإن كان كذلك فهو قول قديم، وقد رجع عنه الشافعي كما قال الربيع، وهذا أولى من إطلاق الربيع تكذيب محمد بن عبدالله بن عبدالحكم؛ فإنه لا خلاف في ثقته وأمانته، وإنما اغتر محمد بكون الشافعي قص له القصة التي وقعت له بطريق المناظرة بينه وبين محمد بن الحسن، ولا شك أن العالم في المناظرة يتقذر القول، وهو لا يختاره، فيذكر أدلته إلى أن ينقطع خصمه، وذلك غير مستنكر في المناظرة، والله أعلم".

وقد نقل ابن القيم جواباً للبيهقي يُنـزه فيه الشافعي أن يناظر في مسألة يعتقد بطلانها. قال ابن القيم في ((حاشيته)) (6/143): "قيل: هذه الحكاية مختصرة من مناظرة حكاها الشافعي جرت بينه وبين محمد بن الحسن يكون منه تحريم إتيان غيره، فالإتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القبل محرم بدلالة الكتاب، ثم السنة، فذكر حديث عمّه، ثم قال: ولست أرخص به أنهي عنه.

فلعل الشافعي -رحمه الله- توقف فيه أولاً، ثم لما تبيّن له التحريم وثبوت الحديث فيه رجع إليه، وهو أولى بجلالته ومنصبه وإمامته من أن يناظر على مسألة يعتقد بطلانها يذب بها عن أهل المدينة جدلاً، ثم يقول: والقياس حلّه، ويقول: ليس فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل حديث ثابتٌ على طريق الجدل، بل إن كان ابن عبدالحكم حفظ ذلك عن الشافعي فهو مما قد رجع عنه لما تبين له صريح التحريم، والله أعلم. وفي سياقها دلالة على أنه إنما قصد الذب عن أهل المدينة على طريق الجدل، فأما هو فقد نص في كتاب عشرة النساء على تحريمه. هذا جواب البيهقي.

والشافعي -رحمه الله- قد صرّح في كتبه المصرية بالتحريم، واحتج بحديث خزيمة وَوَثق رواته. وقال في الجديد: قال الله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، وبيّن أن موضع الحرث هو موضع الولد، وأن الله تعالى أباح الإتيان فيه إلا في وقت الحيض، وأنى شئتم بمعنى من أين شئتم. قال: وإباحة الإتيان في موضع الحرث يشبه أن غرساً للزرع".

وحاصل الأمر في حال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم فيما نقله عن الشافعيّ:

1- أنه كذب على الشافعي، وهذا قول الرّبيع بن سليمان.

ِ2- أنه أخطأ في النقل عن الشافعيّ! وأصل هذا الكلام هو مناظرة حصلت بين الشافعي وبين محمد بن الحسن، وما قاله على سبيل الافتراض في المناظرة. ورُدّ هذا بأن الشافعي ينـزه عن مثل ذلك.

3- أن رأيه القديم كان لا بأس بإتيان النساء في أدبارهن، ثم غيّر رأيه في الجديد فنهى عن ذلك!

قلت: مسألة أنه أخطأ في نقل ذلك عن الشافعي فيه نظر!! وكذلك أنه كان في مذهبه القديم يجيز ذلك ثم انتقل عنه إلى النهي عن ذلك، فيه نظر أيضاً!!

ولم يتبين لي ما هو الراجح، وأنا متوقفٌ في هذه المسألة.

والله أعلم.

شاركنا تعليقك